أحلام اليقظة
القى الكتاب جانبا متمتما «مستحيل.. ان تنجح في هذه المادة» زفر بضيق ثم
اشعل سيجارة وراح يمتص دخانها بنهم «اربعة ايام ومازلت في الصفحة العشرين»
سحب نفسا جديدا واطلق حلقات الدخان في الهواء وراح يتأملها ناسيا كل شيء.
ما لبثت ان ردت اليه ذاكرته دفعة واحدة عندما تلاشت حلقات الدخان« لقد بدأت
ادمن التدخين» نطقها بغضب ثم اردف «كيف لا وهم يضعون هذه الكتب اللعينة في
مناهجنا الدراسية».. نظر الى ساعته انها الرابعة صباحا ثم نظر الى
الميقاتية فانتزع ورقة منها «اليوم هو الثاني والعشرين من ايار بقي خمسة
ايام على الامتحان وعلى عيد ميلادها..
ثم تذكرها بضحكتها البريئة وابتسم وراح يحلم..
سنذهب معا الى المقصف وادعوها الى فنجان شاي وقطعة حلوى فتصر هي على ان
تدفع لانه عيد ميلادها لكنك ستكون اكثر اصرار لان ميلادك هو ميلادها فلا
فرق بينكما.. سحب نفسا جديدا من سيجارته المشتعلة وتابع حلمه:«آه ،الشاي
حلو هل وضعت اصبعك فيه» تضحك بمرح ثم تحدق فيه قائلة:«ألم ادعك الى تجديد
عبارات الغزل».
وتتابع بخبث:«اعطنا شيئا من جديدك يا اسطورة الغزل، قلي مثلا«الشاي مر لمَ
لم تضعي اصبعك فيه» ثم ينفجران ضاحكين كالعادة.
آه كم هو مشتاق لها
أطفأ سيجارته ثم امسك بالكتاب وراح يحاول الدراسة مجددا!
فالامتحان على الابواب.. ولا بد ان ينجح في هذه المادة..
تلميذة نجيبة
سلم ذات اليمين وذات الشمال ثم تمتم بدعائه وقام منشرح الصدر
نظر خلال النافذة كانت السماء ذات لون لازوردي زادها بهاء
آه مضت فترة طويلة مذ رأى الفجر أخر مرة ، لولا أنه بقي ساهرا
اليوم ما رآه ، حاول النوم أكثر من مرة لكنه لم يستطع.
أعدٌ القهوة بتكاسل ، سكب فنجانا ثم أخذ مكانه المفضل قرب النافذة
بينما راحت فيروز تتسلل إلى روحه بهدوء ، تسري مع شرايينه لتمنحه شعورا
غريبا بالنشوة.
أشعل سيجارة أخذ منها نفسا عميقا أودعه صدره قبل أن يخرجه بزفرة متكاسلة لم
تنم بتاتا الدوامة التي راحت تعصف بفكره
(( ثلاثة أشهر عاش فيها كل لحظة فيها على أنها عمر بأكمله ))
رآها وتعرف بها ثم بدأت روابط الصداقة تحكم عراها كانت تكلمه كما تحدث جميع
الزملاء ، ثم أصبحا يتحاوران محاورة الأصدقاء والآن...
آه من الأن .
كانت السماء قد أخذت لونها الرائع وقد انقشع الظلام تماما والشوارع خالية
إلا من أخرجته الضرورة في هذا الصباح الكانوني البارد .
أخذ نفسا عميقا من سيجارته و أطفئها وأشعل أخرى
(( يجب أن أخفف من التدخين إنها لا تحبه ))
هكذا حدث نفسه وهو يأخذ نفسا آخر من سيجارته
(( اليوم يجب أن أضع النقاط على الحروف ))
يجب أن أعرف أقترب الامتحان ويجب أن أرتاح ، أمعقول أنها لا تحبني .. لم لا
.. ربما
تعتبرني مجرد صديق كبقية الأصدقاء , لكنه تعب كثيرا حتى جعلها هكذا
علمها .. نعم علمها كثيرا .. ناقشها ووجهها .. جعلها تتذوق الأدب والطرب..
أدخلها المجتمع الحقيقي فاجتمع الطبع والتطبع ليعطي شيئا مميزا قلٌِِ نظيره
في هذا الزمان .
نظر إلى ساعته كانت قد قاربت السابعة ، مازال الوقت مبكرا أشعل سيجارة
وحاول أن يشغل نفسه بالدراسة لكنه لم يفلح كان يقرأ دون أن يعي شيئا ، رمى
بالكتاب جانبا وراح يبدل ثيابه بهدوء لا يعكس ماتجول به نفسه من انفعالات
متناقضة ، وقف أمام المرآة يصفف شعره
وهو يحدث نفسه مبتسما
(( ماذا تريد أكثر من هذه الوسامة والثقافة والشخصية لن تجد مثيلي لو دارت
الدنيا بأكملها ))
لمع حذاءه وخرج ، كانت الساعة قد شارفت على الثامنة .
راحت الغيوم تتراكض لاهثة لتتآزر حاجبة ضوء الشمس ، ثم بدأت حبات المطر
تتساقط فرادى قبل أن يزداد تواترها لتغسل وجه الأرض الإسفلتي
ضم ياقة معطفه وأسرع في خطاه قاصدا الكلية .
دخل المقصف أخذ فنجانا من القهوة عله يريح أعصابه ، لن تأتي قبل التاسعة هو
يعرف هذا لذا انضم إلى الزملاء يشاركهم حديثهم وإن كثر شروده.
لمحها داخلة إلى المقصف ، اتجهت نحوهم مباشرة ألقت تحية الصباح
وسحبت كرسيا وجلست جانبه تابع الزملاء حديثهم حتى جاء ميعاد الجلسة
العملية، نهض الجميع عداه فنظرت إليه قائلة : ألن تحضر الجلسة.
أجاب : لا .. أريد أن أكلمك قليلا .. على انفراد
ابتسمت : ماذا ... كما تريد !
(( لنمشي قليلا )) قالها وهو ينهض ، خرجا إلى الشارع كان المطر قد توقف
تماما ونفذت أشعة الشمس من فرجات بين الغيوم ، مشى وهي إلى
جانبه مطرقا لا يعرف من أين يبدأ .
قالت : لست على طبيعتك اليوم لاحظت هذا من خلال شرودك أثناء جلوسك في
المقصف ، هناك شيء يشغلك صحيح ل؟
تكلم فنحن أصدقاء......
رفع رأسه ناظرا في عينيها العسليتين محاولا أن يسبر أغوارها ، رجع بنظره
إلى الأرض ثم قال : أحبك .
خرجت مرتعشة على نقيض كل ما قال سابقا في حياته ، خرجت يتيمة فلم يتبعها
سوى الصمت المطبق ، بينما راحت عيناه تصفعان وجه الأرض بنظراتها .
طال الصمت ، رفع رأسه يرنو إلى وجهها عله يستشف من تعابير وجهها
ما يجول بداخلها .
((تلميذة نجيبة .. لكم كره ما علمها إياه الآن في هذه اللحظة بالذات))
رجل
«أراد أن يكون رجلاً، هذا كل مبتغاه من الحياة»
بدأ المدرس بقراءة علامات التلاميذ بعد ملاحظة أن كل علامة بدرجة ضعيف
يخرج صاحبها لينال عقابه.. وبعد أن انتهى من جميع الأسماء نظر خلفه فلم يجد
سواه فقال: إنها رابع مذاكرة ومازالت علامة الصفر تلازمك يا أحمد
بقي أحمد ساكناً وعيناه لا تفارقان عيني المدرس، أمسك الأستاذ بالعصا وقال:
افتح يديك حتى لا تكررها مرة أخرى.
قال أحمد: لن أفتح يدي ولا أريد البقاء في المدرسة ثم فتح الباب وخرج، لم
يعرف لماذا فعل هذا ربما أراد أن يكون رجلاً.
فوجئ والده بتركه المدرسة، سأله السبب فبرره بأنه لا يحب المدرسة ولم يخلق
للعلم.
وبعد بضعة أيام كانت طبقات الشحم أو الزيت المختلفة تعلو ثيابه.. جلس في
استراحة الغداء مع زملائه يتناولون طعامهم وبعد أن انتهوا جلسوا لشرب
الشاي، عرض عليه أحد زملائه لفافة تبغ فرد عليه بتلقائية أنه لا يدخن، فرد
زميله ساخراً: أجل مازلت صغيراً على التدخين.. عقد حاجبيه ثم أخذ السيجارة
وأشعلها، أخذ نفساً عميقاً ثم تتالت سعلاته فضحك الجالسون وقال أحدهم: ألم
نقل لك انك مازلت صغيراً على التدخين.
ثم سحب نفساً جديداً وتحامل على نفسه ليخرجه دون سعال وثالثاً..
وبعد يومين كان أحمد يحمل علبة التبغ في جيبه أثناء العمل ويخفيها عن عيون
أهله في المنزل.
فالدخان أحد مظاهر الرجولة البارزة وهو رجل.. وفي صباح أحد أيام «آب»
الحارة سمع زملاءه يتناقشون على إعدادات سهرتهم اليوم واتفقوا أخيراً على
الذهاب إلى «الجرداق» وهو مطعم يقع على ضفة الفرات تقدم فيه المأكولات
والمشروبات بأنواعها.
طلب إليهم الذهاب معهم فرده أحدهم بقوله: مازلت صغيراً على هذا لكن هذا
الكلام زاده إصرارا على الذهاب، وفي المساء كان يرتدي أبهى حلله وقد مشط
شعره وسكب العطر بسخاء.
مر عليه أحدهم ثم تابعوا طريقهم دخلوا المحل، كان الهواء عليلاً رطباً
مفعماً برائحة المعسل البحريني المنبعث من النراجيل، وقد انبعث صوت ناظم
الغزالي من إحدى الزوايا ليزيد المكان روعة.
وجدوا زملاءهم قد جلسوا على إحدى الطاولات فأخذوا مكانهم، ثم جاء النادل
ليسألهم طلبهم فرد كبيرهم: اجلب لترين من العرق والمقبلات ثم نظر إلى أحمد
وأردف وزجاجة مياه غازية.
انصرف النادل ليحضر الطلبات في حين قال أحمد: لست صغيراً حتى أشرب المياه
الغازية بينما تجترعون انتم العرق.
«صحيح أنه لم يشرب أي مسكر من قبل، لكن ماداموا يستطيعون شربه فلم لا يقدر
هو».
أجابه زميله: العرق هو حليب السباع عندما تصبح سبعاً ستشربه. قال أحمد: بل
سأشرب وأثبت لك أني سبع مذ ولدت. حضرت الطلبات وضعت الأطباق على المائدة
تتوسطها زجاجة العرق وإلى جانبها دلو مُلئ بقطع الثلج.
ووضعت أمام أحمد زجاجة المياه الغازية فأزاحها جانباً ثم قدم قدحه لزميله
الذي راح يملأ الكؤوس من الزجاجة ثم يكسرها بالماء لتأخذ لونها الأبيض
الباهت المعروق ثم يضيف قطع الثلج فملأه وقدمه له.
أمسك بقدحه وهو يقول: أنا رجل نعم ثم غب بعمق، أحس بالنار تشتعل في جوفه ثم
تقيأ واتسخت ثيابه بينما غرق زملاؤه بالضحك وأردف أحدهم: مازلت صغيراً، رد
أحمد: بل سأشرب، وأمسك كأسه من جديد وشرب و شرب.. عاد تلك الليلة إلى البيت
ثملاً مترنحاً لا يعرف يمينه من شماله.
بعدها أصبح المشروب أمراً يومياً فهو حليب السباع والسبع لا يستغني عن
حليبه .
ولا تستغربوا إن رأيتم أحمد في السجن يوماً فالسجن للرجال وهو رجل.
عدي
العلوش دير الزور 2001
|