إيقاعات أنثوية محرّمة
استيقظت مبكراً على سخونة جسده الملاصق جسدي، تناهى لسمعي صوت المطر
المنهمر بالخارج، لم يتوقف عن التساقط منذ ليلة البارحة، ابتسمت، شعرت
بسعادة تغمرني من أحداث الأمس، لم أتوقع الإقدام على مثل هذا الفعل. أزحت
ذراعه المطوقة خصري برفق، نظرت لقسماته النائمة، حاولت إيقاظه بالعبث في
شعر رأسه، الداكنة اللون. نظر صوبي من تحت جفني عينيه المثقلتين، ثم أدار
وجهه عني، مد ذراعه تجاه حقيبة صغيرة موضوعة على المنضدة بجواره، فتحها،
غاص بيده فيها، أخرج حفنة من الدولارات، وضعها بجانبي، عاد للنوم مرة أخرى،
شعرت بسخونة تسري في شراييني، إحساس بالخزي والعار يتملكني، كأنني أتعرّى
من ملابسي لأول مرة في حياتي. لكزته في خاصرته قائلة بنبرة مضطربة " ما
هذا!!" أجابني بصوت ناعس " حقك.خذيه.ودعيني أكمل نومي.." دقات قلبي تلاحقت،
أحسست برغبة في التقيؤ، البكاء، الصراخ، الهروب من هذا المكان الذي غدا
مقززا. تمنيت لو واتتني الشجاعة لصفعه على وجهه، رميه بأقذع الشتائم،
تحاملتُ على نفسي، قذفت بملء يدي رزمة النقود، تبعثرت في أرضية الغرفة،
ارتديت ملابسي على عجل، متحاشية النظر صوب الرجل الذي عاد يغطُّ في النوم.
صفّقت الباب خلفي بعنف، مرددة بوجع " لست مومساً.لست مومساً".
خرجت مهرولة تجاه المصعد، بهو الفندق يعمه الهدوء، مازال نزلاؤه
نياماً، لجمودها، وقفت هنيهة عند بوابة الفندق، لفحتني نسمات الصباح
الباردة، لاحظت أن المطر قد توقف عن التساقط، آثرتُ السير على قدميَّ،
لأتحرر من كابوس الكآبة الجاثم على صدري، أعشق باريس في هذا الوقت من
العام، أشبهها بالمرأة اللعوب التي ترتدي أجمل حليها لتغري القادم إليها،
بدا نهر السين منسابا، زاد من تألقه انعكاس ضوء الشمس الذي ما زال يرتدي
حلة النوم. من بعيد كانت تتراقص السفن السياحية على جانبي النهر، محدثا
التحام قعرها بالماء، نغماً خافتاً كهمس العشاق. تذكرت ليلة الأمس، التقيت
به على ظهر أحد هذه السفن، لفتت نظري أناقته، وسامته، فحولته التي كانت تشع
في بؤبؤي عينيه، سيطر عليَّ إحساس لحظتها بأني أعرفه من زمن بعيد، نظرات
إعجابي شجعته على الجلوس بقربي، لم أحاول الابتعاد، ازددت التصاقاً به،
سألني:" قادمة للتنزه، أليس كذلك؟" أومأت برأسي إيجاباً قائلة: " أعشق
باريس في فصل الخريف، أراها تحرر من جمودها، وكبريائها العتيق، تصبح امرأة
تلقائية في تصرفاتها، تنساق خلف رغباتها بلا تصنّع". قاطعني قائلا بحبال
صوتية رخيمة : " ما رأيك في تكملة الليلة معي؟" لم أجبه، تأملته بملء
عينيَّ، ابتسمت له ابتسامة ذات مغزى، كانت في أعماقي رغبة لعصيان كل قواعد
المحظورات في أعماقي.
لسعة برودة اقتحمت مساحات جسدي، أيقظتني من غيبوبة تأملاتي، أعادتني
لحاضري، دمعة حاولت التملّص عبر مقلتيَّ، داريت انفعالات وجهي خلف نظارتي
الشمسية، انتابتني حالة من جلد الذات، تذكرت ليلة الأمس.. كيف واتتني
الجرأة على إزاحة الستار عن هذا الجسد، لشخص لا يربطني به عقد زواج!!
هراء..أعرف كثيرات يخنّ أزواجهنّ، لهنّ علاقات خاصة، يبحثن عن متعهنّ خارج
أسوار الزوجية، يرفضن الاعتراف والخضوع لعقد الملكية. تبّاً للرجل، إن
أعطته المرأة ازدراها بعد أن تُصيبه التخمة منها، وإن ضنّت عليه اتهمها
بالرجعية والتخلف، تُراني امرأة مبتذلة لتفكيري هذا!! منظر النقود يلوح في
ذهني، يتملكني الغيظ والحنق، صوت أمي يخترق مسامعي، يحضرني عبر مسافات
الزمن " فاطمة أدخلي للبيت. لا تدعي أحداً يرى ساقيك.أصبحت شابة.دلفت لعالم
الأنوثة" عندما كنت أسألها: " ماذا تعني كلمة أنوثة!!" كانت تنهرني "مازلت
صغيرة. غدا تكبرين وتفهمين". لمحتني يوماً أقف في شرفة المنزل برداء يظهر
جيدي وزندي يديَّ، ضربتني ضرباً برحاً، هددتني إن كررت هذا الفعل ستطفأ
أعواد الكبريت المشتعلة في جلدي " جسدك هذا لا يجب أن يراه سوى الرجل الذي
سترتبطين به في المستقبل"." ما معني الزواج يا أمي؟" تصرخ في وجهي " أنتِ
لست مثل أخواتك اللاتي يتقبلن تعليماتي بلا مناقشة" لم تحاول إشباع منهم
فضولي، بل أنها دون أن تقصد أثارت بدواخلي زوابع من الرهبة تجاه جسدي،
ورسمت في فكري علامات استفهام كبرى.
أول مرة أتلقيت بزوجي كان في حفل مختلط، ذهبت إليه دون علم أهلي،
تحفّظت في الحديث معه، توجسي منه طغى على إعجابي به، نجح بيسر في إيقاعي
بأساليبه المحترفة، أحببته بعنف، من أول خلوة لنا سلمته نفسي، اخترقت
العالم المجهول الذي حذرتني دوماً أمي من الاقتراب منه، تذوقت المحظور بشغف
بالغ، استمرت علاقتنا ثلاث سنوات، تقدّم بعدها لخطبتي بعد إلحاح شديد مني،
طلقني بعد شهرين من زواجنا، في البداية لم أصدق أن تنتهي قصة حبنا بهذه
النهاية المفجعة، شكّه كاد يدمرني، في إحدى مرات شجارنا سألته معاتبة "
لماذا تُحيطني بهذا الكم من الشك والريبة؟" أجابني باستخفاف "كيف أثق
بامرأة وهبتني جسدها قبل أن أتزوجها!!". هربت من جحيم شكه، قررت نسيان
تجربتي الأليمة، وضعت قضبانا قاسية على مشاعري، كنتُ بحاجة إلى هدنة مع
ذاتي، حتىَّ كانت هذه الرحلة التي أيقظت حواسي النائمة، أتيت باريس للترويح
عن نفسي، عندما التقيتُ بهذا الرجل، لم تردعني وصايا أمي، وتهكمات مطلقي في
معاودة تذوّق طعم التجربة من جديد.
الطقس ازداد برودة، قطرات المطر عادت للتساقط كالسيل العارم، التصق
ردائي المبلل بجسدي، أخذتُ ارتجف، أسناني تصطك، تذكرت أنني تركت مظلتي
بالفندق، لعنت تهوري الذي أوصلني إلى هذا الوضع، تلفّت يمنة ويسرة آملة
العثور على سيارة أجرة، توقفت سيارة عابرة بجواري، لاح لي شاب وسيم
بداخلها، مد رأسه من النافذة، عرض باسما إيصالي، تجسّدت أمامي أحداث ليلة
الأمس الحمراء، مرّت تفاصيلها في فكري، السهرة الماجنة التي امتدت للفجر،
صدى فحيح نشوتي التي رويتها بوحشية، عينا الرجل النهمتان اللتان نهشتا
مفاتن جسدي طوال ساعات الليل، حفنة الدولارات التي ألقاها بجواري، ألفيتُ
نفسي أصيح في صاحب السيارة: " لا أريد الركوب. أغرب عن وجهي أيها الوغد."
وتحركت من مكاني لاهثة، وسط ملامحه المشوبة بالدهشة والاستغراب.
من المجموعة القصصية ( نساء عند خط الإستواء)
صدرت الطبعة الأولى 1996م
صدرت الطبعة الثانية 2006م
امرأة على فوهة بركان
وقفت المرأة أمام المرآة، نظرت بحسرة إلى معالم جسدها، وقع بصرها
على حلمتي ثدييها، لاحظت إنتصابتهما، لوت شفتيها، أدارت رأسها ناحية زوجها،
كان يغطُّ في النوم، رشقته بقرف، صوت شخيره ضاعف نفورها، أشاحت بوجهها عنه،
حشرت ثدييها في حمالة صدرها، أكملت ارتداء ملابسها، سحبت عباءتها من
المشجب، دلفت لغرفة الجلوس، رمت عجيزتها على الأريكة، ألقت بصرها على
التلفاز، أخذت تُقلّب قنواته بالريموت كنترول وهي شاردة بذهنها بعيدا عن
مشاهده، رن جرس الهاتف، أعادها لأرض واقعها، هرعت بلهفة نحوه، تحدثت بصوت
منخفض، ارتسمت الفرحة على معالم وجهها، شيء من الارتياح تسرّب لدواخلها
المضطربة بعض الشيء، ارتدت عباءتها على عجل، صوت زوجها القادم من مخدع
النوم اخترق سياج غبطتها، اتجهت صوب الغرفة، سألته بجفاء "ماذا تريد؟!".
سألها بنبرة ناعسة "أين ذاهبة؟!".
"لشراء بعض
الأغراض قبل حلول المساء، وسأمر في رجوعي على مروه صديقتي".
رمقها بطرف عينه، قائلا بنبرة معاتبة "لم تعودي تحبينني".
أجابته بتأفف "عندنا لنفس الموشح. لندع العتاب جانبا". أولته ظهرها
متابعة القول بنبرة هازئة "إذا رغبت في شيء ستجد الخادمة. هي دوما رهن
إشارتك".
شعرت بالاختناق من أجواء البيت الكئيبة، هرولت إلى الخارج، دلفت إلى
داخل السيارة، طلبت من السائق أن يذهب بها إلى الكورنيش، جلست على واحدة من
الصخور الكبيرة، المستلقية بوداعة على شاطئ البحر، لفحت النسمات وجهها،
انحسر الوشاح عن رأسها، تطاير شعرها الأسود الفاحم، لامس بحنو صدغيها، هدير
أمواج البحر حرّك مجرى ذكرياتها، دفعها ناحية شط ماضيها، انخرطت في البكاء،
لاحت لها صورة زوجها، وأحداث تلك الليلة القاتمة، لم تكن قد أكملت عاماً
على زواجها، أخبرته أنها مضطرة للمبيت عند أهلها بمكة، عدلت عن رأيها بعدما
تشاجرت مع أختها الصغرى، أصرّت ليلتها على العودة لجدة، ما إن أدارت
المفتاح في باب الشقة ودلفت إلى الصالة حتى سمعت فحيحاً، يصدر من غرفة
نومها، انقبض صدرها، مشت على أطراف أصابعها، شعرت بالأرض تدور بها وعيناها
تقعان على زوجها وفي أحضانه ترقد خادمتها الآسيوية على سريرها. أصابها
الوجوم، قام يجري كالفأر المذعور، قدّم بعدها اعتذارات وتبريرات واهية،
طالبا الصفح والغفران، وعدها أنه لن يعود لمثل هذا التصرف مرة أخرى، لمحته
في مرات لاحقة وهو يداعب خادمتها الجديدة، يضربها على مؤخرتها بشهوة
مفضوحة، وهي تتمايل أمامه بأنوثة مفضوحة. توالت الحوادث، تكرر الأسف،،
أصابها تبلّد حسي تجاهه، برود غريب تسرب لأعماقها كلما حاول لمسها أو
ممارسة الجنس معها، تكوّن بداخلها شعور مفرط لم تستطع كبحه، إنه بؤرة نتنة،
ماء ملوث يصب في أي مجرى مهما كان منبعه.
أفاقت من شرودها على أبواق السيارات المتزاحمة في الطريق، إحدى
السيارات لمح أصحابها الجسد المكوّم على الصخرة، تعالت أصواتهم بكلمات غزل
جريئة، اضطربت، أعادت الوشاح على رأسها، تجاهلتهم، عندما يئسوا من المحاولة
ابتعدوا، الأغاني المنبعثة من أجهزة التسجيل اختلطت مع بعضها، صوت محمد
عبده وأغنيته " ارفض المسافة" تداخل مع صوت عمرو دياب وأغنيته "ويلوموني"
مع صوت أم كلثوم وأغنيتها "هجرتك" تعبت أعصابها من هذا الضجيج، الذي لم
يحترم خلوتها. دفنت رأسها بين ركبتيها، غاصت في بحر أحزانها، نجحت أمواج
البحر المتلاطمة في إعادة السكينة لنفسها التائهة، التي كلّت من البحث عن
مأوى آمن.
أقفلت عائدة، تذكرت المغامرة التي تنتظرها في الغد. منذ أيام رمى
وهي خارجة من السوبر ماركت، رمى لها رجل ورقة بها رقم هاتفه، راقت لها
هيئته، جسارة نظراته، تجرأت ودست الورقة في حقيبة يدها، لم تعرف عنه سوى
القليل، مجرد مكالمات خاطفة عبر الهاتف: " يقولون في العلاقات العابرة لا
تهم الظروف المحيطة بالشخص، المطلوب فقط أن يكون قادراً على تأدية الاحتياج
المطلوب". ابتسمت لنفسها، مرددة عبارة خدّرت أعصابها "غداً سأدخل جنتي
الموعودة التي رسمتها في خيالي، وليذهب الجميع إلى الجحيم".
قامت صباح اليوم التالي مضطربة بعض الشيء، أعادت تصفيف شعرها عدة
مرات، الساعة دقت العاشرة، لم تزل هناك ساعة على الموعد المضروب، اختارت
هذا التوقيت لتضمن وجود زوجها في العمل، رن جرس الهاتف، ردت بلهفة "سأنزل
بعد نصف ساعة.نعم أعرف العنوان.لا سأفهم السائق أنه مسكن صديقتي الجديد.مع
السلامة". أقفلت الخط، عادت مسرعة لغرفتها لتكمل هندامها.
توقفت السيارة عند باب العمارة، تلفتت يمنة ويسرة، طلبت من السائق
الانتظار، فتحت باب المصعد، ضغطت على زر الطابق الذي تريده بعصبية، توقف
بها عند الطابق الثالث، قالت نفسها "لا.الشقة في الدور الرابع.سأكمل على
قدميَّ". صوت حذائها كان كالسوط يلهب فؤادها، أحست كأن سكتة قلبية أطاحت
بشجاعتها، أدت إلى مقتلها، وقفت أمام الشقة، رقم عشرة تراقص أمام عينيها،
توهمت أن شللاً أصاب ذراعها، قواها خذلتها، لم تستطع الضغط على زر الجرس،
سمعت جلبة وضوضاء بالدور العلوي، ارتبكت، أسدلت الوشاح على وجهها، ضغطت على
الزر بشدة، لاح لها الرجل مبتسماً من خلف الباب الموارب، سحبها من ذراعها،
العرق بدأ يتصبب من مسامات جلدها، طافت بعينيها في هيئته، وطاف هو بعينيه
في مفاتنها، كان مرتدياً "روباً" مفتوحاً عند أعلى صدره، نظراتها تسمّرت في
شعيرات صدره النافر، رائحة عطره الرجولي غطّى على عبق عطرها، كل شيء يشير
إلى عمق فحولته الفتية، اقترب برفق منها، حاول إزاحة عباءتها عنها، تمسّكت
بها، سألها بنبرة رخيمة "هل أنت خائفة؟؟". لم تجبه، كل آلام الماضي التحمت
مناظرها في مشهد واحد في ذهنها، صوت مجلجل اخترق ذبذبات عقلها قائلاً لها
"مازلت عند بر الأمان. السفينة لم تقلع بعد". اقترب منها أكثر، أنفاسه لمست
صفحة وجهها، استجمعت قوتها، دفعته عنها، اتجهت صوب الباب، خرجت متعثرة في
عباءتها، قفزت فوق درجات السلم، نيران من الاحتجاج اندلعت فيها، طلقات من
الندم اخترقت ضميرها، ركبت سيارتها، أمرت السائق بالتحرّك مرددة في عناد "
لا، لن يكون الثمن عمري".
من المجموعة القصصية (نساء عند خط الإستواء)
صدرت الطبعة الأولى 1996م
صدرت الطبعة الثانية 2006م
بيت خالـــي
استيقظتُ من نومي على لكزات خفيفة في خاصرتي، فتحتُ عينيَّ بتثاقل،
لمحتُ من خلف غشاوة النوم هيئة أمي واقفة أمامي، الدموع تملأ صفحة وجهها.
لملمتُ شتات ذهني الخامل، سألتها بجزع.. ماذا هنالك؟! قالت وهي تواصل
بكاءها.. خالك توفي في ساعة متأخرة ليلة الأمس. حاولت في تكاسل الانسحاب من
طراوة الفراش، مخدّر النوم ما زال يسري في أوصالي، لاح أمامي طيف خالي،
ترحمّتُ عليه، تحولقت، تعالى فجأة رنين الهاتف مخترقا جدار الصمت الحزين،
تجاهلتُ نداءه، تواصل الرنين بإلحاح، استسلمتُ في النهاية له، اخترق سمعي
صوت أختي الكبرى.. حياة. خالنا توفي
-أعلم
-هل أمرُّ عليك؟!
-أجل، أفضّلُ الذهاب معك عوضا عن السائق. أف! كم أكره حضور مراسم
العزاء
-يرتفع صوتها، قائلة بحدة.. لكنه خالك!!
-لا داعي لموشحات النصائح في هذا الصباح. أنتِ تعلمين مقدار حبي
لخالي. أنا أكره روائح الأحزان
أحسستُ برعشة كآبة تسري في مفاصلي وأنا أدهس بقدميَّ عتبة البيت
العتيق. الزاخرة أرجائه برائحة الموت. تصعقني رهبته، صوت المقرئ ينبعث من
جهاز التسجيل " .. يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية..".
تجول عيناي في أرجاء المكان، الأثاث القديم، الحجرات الواسعة، العالية
الأسقف، الجدران المتصدعة، السلالم المتآكلة، "شيش الرواشين" المتساقط من
لطمات الرطوبة، كل شيء يئن من سياط الزمن، التي تركت بصماتها على جميع
الأشياء. نفثتُ زفرة طويلة، لاحت مني التفاتة صوب زوجة خالي المتشحة
بالسواد، تعجّبت، سبحان الله، كم تُعجّل أوجاع السنين بشيخوخة الإنسان!
كأنها امرأة تجاوزت السبعين وهي ما زالت في الستين! كانت أمي قد سبقتنا إلى
مجلس العزاء، أخذت مكانها بجانب زوجة خالي، يتشاركان مصابهما، يتقاسمان
آلامهما. خالي كان شقيق أمي الوحيد، أعرف مقدار حبهما لبعضهما، لم أرهما
يوما متخاصمين، كان يأتي كثيرا لزيارتنا، يبثُّ همومه لأمي، رغم أنها كانت
تصغره بسنوات ليست بالقليلة. أسدلتُ جفنيَّ، تخيلتُ هيئته، ابتسامته التي
تنم عن صفاء سريرته، حكاياته الشيقة، كان وميض الرضا يطلُّ دوما من مساحتي
عينيه، يسكن في أحد الأحياء الشعبية في مدينة جدة، عند مدخل سوق العلوي، في
منزل قديم تعكس واجهته فقر صاحبه، ورثه عن جدي، تنازلت أمي له عن نصيبها
فيه، أنجب ابنة واحدة، حاولت زوجته أن تنجب غيرها، لم يرد الله، رضخ لعطيّة
الرحمن برضاء كامل.
كانت "صفية" ابنة خالي، في عمري تقريبا، فائقة الجمال، أخذته عن
والدتها اليمنية الأصل، كانت لها عينان واسعتان، عسليتا اللون، ووجه
مستدير، دقيق الملامح، ببشرة ورديّة، ناعمة الملمس، وجسد عاجي، متناسق
قالبه. كانت تنتابني أحيانا لسعات غيرة منها، لكنها كانت قريبة لنفسي، أحرص
على قضاء نهاية الأسبوع في بيتهم. زوجة خالي سيدة صارمة، ذات أنوثة أخّاذة،
عقليتها مدبرة، استطاعت التأقلم مع أوضاع خالي المادية الضيقة، أتذكّر كيف
كانت تدخل علينا بعد أن نغطّ َ في النوم، تقوم بإغلاق جهاز "التكييف"،
تُدير المروحة العمودية، تُقظني حرارة الغرفة، أهرب إلى السطح، تصفعني
نسمات الليل النديّة، أُشخّصُ بصري نحو النجوم، أتأملها بإعجاب، أحسُّ بوقع
أقدام مجهولة، أهرع من المكان. أعود إلى الغرفة المثقلة بالرطوبة والحرارة
العالية، أنفاس صفية تُداعب أرنبة لأنفي، أدير رأسي صوب الجهة الأخرى، أغوص
من جديد في بحيرة النوم. كانت زوجة خالي تحب تربية الطيور، أفرح أنا وصفية
برؤية طقوس الذبح، كنّا نقف من بعيد، نراقبها وهي تُمسك برأس الطير بيدها،
وباليد الأخرى تنحر ببلادة رقبة الطير بالسكين، اندفاع الدم يُقززني، أخفي
وجهي براحتي يديَّ، يتملكني الفضول، أعاود الفرجة بعينين واجفتين.
عندما تفتّقت معالم أنوثتنا، قرر أهلنا وجوب ارتداء العباءة، بكيتُ
لشعوري بأنها ستُعيق حركتي، لاحظتُ أيامها أن الفرحة تعلو وجه صفية، سألتها
بدهشة عن سببها!! أجابتني بنشوة.. بلهاء.. لبس العباءة، اعتراف صريح
بقبولنا في عالم الكبار. بعد عيد ميلادنا الخامس عشر، أخذت أحاديثنا منحى
آخر، وصارت تحوي أسرارا من نوع مغاير، كنّا نُغافل زوجة خالي، نهرع إلى سطح
البيت، نتسلّق صوره العالي لنرى "صدّيق" ابن الجيران، الذي كان بيت أهله
مواجها لبيت خالي، كانت صفية مغرمة به، وكان هو الآخر متيّما بها، لم يكن
صغيرا بل شابا في الثالثة والعشرين، مهووسا بكتابة الرسائل الغراميّة،
بارعا في رص معاني الحب، يكتبها بلغة جميلة، يبثُّ فيها أشواقه، كان يربطها
بحجر صغير، يقذفها ناحيتنا. ذات مرة قابلته صفية خلسة، بعد تخطيط مُحكم
أعدّه ثلاثتنا، رجعت وضربات قلبها تتسارع دقاته، وجهها يشعُّ بالسعادة،
سألتها يوما بلهفة.. قُصّي عليَّ ما جرى بينكما. أسدلت أهدابها إلى الأرض،
أجابتني بمكر طفولي وبشفتين مرتعشتين.. لم يحدث شيء!!
عندما كنّا نصغي لكلمات الأغاني العاطفيّة، أو نتابع مشاهد ساخنة
بأحد الأفلام على جهاز الفيديو، تدهمنا بغتة فلول رغباتنا، تعلو وجهينا
حمرة من الخجل، نندس في الفراش، نولي ظهرينا لبعضنا، تصمُّ كل منّا أذنيها
في عمد عن سماع فحيح الأخرى، المنبعث من تحت الغطاء، إلى أن نطفئ سعير
غريزتنا في صمت لذيذ. سألتني مرة على استحياء.. ألا تحلمين برجل؟! أجبتها
بصوت خفيض.. نعم. في بعض الأحيان، كنّا نُمارس لعبة الوقوف أمام المرآة،
نتخايل بأجسادنا أمام المرآة، تُظهر كل منّا مفاتنها الأنثوية، تستفزُّ
غيرتي.. أنظري. لقد حباني الله بأروع جسد، تملكه فتاة على وجه الأرض. في
إحدى المرات، أرادت "صفية" إلقاء رسالة إلى "صدّيق"، قالت لي.. أمسكي السلم
جيدا. غرقنا لحظتها في هستيريا متواصلة من الضحك. لا أدري كيف أختلَّ
توازنها، قفز جسدها خارج السور، ترنّحت في الفضاء، كانت عيناها عالقتين
ناحية "صدّيق"، ذراعاها يحاولان السباحة في الفراغ، بريقهما الفزعان
يستنجدان به، في لحظة خاطفة هوت أمام ناظريَّ، ارتطم جسدها بقوة على أرض
الشارع. كان البيت مكونا من ثلاث طوابق، لسوء الحظ وقعت "صفية" على رقعة
صلبة، عاشت بعد الحادثة ثلاثة أيام في غيبوبة تامة، ثم قضت نحبها. دخلتُ
سنة كاملة في قوقعة الاكتئاب، طيفها يسبح في صحوي ونومي، صوتها يرنُّ صداها
في أذنيَّ، كنتُ من حين لآخر أزور خالي، نظراته تُحيطني بالحب المغلّف بصهد
الظمأ والشوق.
بعد وفاة "صفية" بسنوات قليلة، تقدّم "صدّيق" لخطبتي، رفضته بلا
أدنى تردد، ظلّت أنفاس صفية تُكبّل ذكرياتي، تُحاصرني هيئتها بين فينة
وأخرى. اذكر ذلك اليوم، الذي رأيتُ فيه أنوارا معلقة تُزيّن مدخل الشارع
المحاذي لبيت خالي، عرفت أن هذه الزينة لحفل زواج "صدّيق". بكيتُ كما لم
أبكِ في حياتي، شعرتُ بروح صفية تأسر أفكاري، تخيلتها تتبختر في ثوبها
الأبيض، صدّيق يحيط خصرها بذراعيه، رنة ضحكتها تُزلزل أحزاني. يوم تخرجي من
الجامعة بكى خالي، احتواني بين ذراعيه قائلا.. لو كانت صفيّة حيّة
لتقاسمتما فرحتكما معا.
اجترار الذكريات يُصدّع رأسي، أمزّق شريط صورها بضراوة، أرسو بفكري
على أرض واقعي، أتوقّف عن الخوض في هلوسة الأمس البعيد، أهمس لأختي.. أريد
القيام. ترشقني بسهام نظراتها المحتجة.. لا بد أن تقومي بواجب العزاء، لا
تنسي أنه خالك. ماذا تريدين أن يقول الناس عنّا!! تدور واحدة من قريباتنا ب
"دلة" القهوة، هيئة الفناجين الصغيرة، المرصوصة فوق بعضها البعض، تُحرّك
رياح تشاؤمي، لاحت لي كالرؤوس المقطوعة، توقفت المرأة أمامي، سألتني بإشارة
من يدها إن كنتُ أرغب في فنجان من القهوة!! رفعت سبابتي بالرفض، تأففت، لم
اعد أحتمل الجلوس في هذا الجو الخانق، المعبأ بالانكسار، وجه الماضي يُكشّر
عن أنيابه، يغرسها في حواسي، أكفه تصفعني، هودج الذكريات يهزَُ أوجاعي، روح
صفية تدنو صوبي، صوتها يُخربش أعماقي، يناديني.. حياة، تعالي نلعب. أنتِ
غشاشة، هذا دوري في اللعب. انظري يا حياة، ما رأيك في ثوبي الجديد؟! أتدرين
يا حياة.. عندما أتزوّج، سأنجب عشرة أبناء. لا أريد أن يُعاني أبنائي من
الوحدة. أريد أسرة كبيرة. هل سيخطبني صدّيق، أم ما زلتُ صغيرة على الزواج؟!
تُعاود الضحك، دوي ضحكاتها يزلزل كياني، يُمزّق دواخلي، يملأني أسى، أنتفض
من مقعدي، أمرق وسط النظرات المحتجة، أمي تناديني، أختي تُكرر نداءها،
أتلفّع بوشاحي، الهواء الساخن يلطم قسمات وجهي، وقفتُ أمام بيت خالي، رفعتُ
عينيَّ، ألقيتُ نظرة سريعة على مبناه المسن، لاح لي طيف خالي واقفا عند أحد
"الرواشين" ملوحا لي بالوداع كعادته دوما حين آتي لزيارته، عيناه تنضحان
بالصفاء، بجانبه تقف صفية، بوجهها الطفولي النضر، وقد أسندت رأسها على
منكبه، دمعت عيناي، أمرتُ السائق بالتحرّك، أيقنتُ بأنني لن أخطو عتبة هذا
البيت مرة أخرى.
من المجموعة القصصية ( هناك أشياء تغيب)
صدرت الطبعة الأولى 2000م
|