جُرحٌ في قبّة السماء
مهداة إلى الأديب أسامة آغي
وفجأة، وهو الذي أقلقته المفاجأة الأولى، تبين له أن صوت المرأة الذي ودّ
أن يحس به بعيداً لا يعنيه بشيء، يبلغه، في الحقيقة، من قرب الحفرة التي
تمدد فيها مستسلماً يستحضر وهماً بإغماض عينيه. وبذات الفجائية التي حلّت
به في البداية، وكما أراد أن يحس بها، تبين له أن الردم الذي ينهال عليه قد
توقف أيضاً. لم يرغب في فتح عينيه يستطلع فيما لو كان شعوره بما يحدث من
فوقه صحيحاً، وأن مفاجأة أخرى تفرض عليه واقعاً يعزف عنه، بل أصر جاهداً،
وهو مغمض العينين، أن يستعيد إحساسه الأول الذي دفعه إلى أن يجهد في حفر
حفرة في أرض الدار يفترشها ليحس بـ "رطوبة التراب (التي) بدأت تنفذ إلى
جسده".
ولما لم يسمع أو يحس، كما لم يستطع استعادة ما بدأ في إحساسه الأوليّ،
اضطره صوت، بلغه من خارج ذاته، بتر مجرى تنفيذ خطة لا وعيه من أجل موته.
فتح عينيه ففجأت وعيه صورةُ جده يقف على حافة الحفرة يطلُّ عليه بنظرة
يشوبها غضب أكثر عتمة من سواد ليلته. ومقابل جده، في الطرف الآخر، تقف
نديمة لا تقل تجهماً عن جدّ صابر، زاغ بصره وهو يُنقّله بين الجد ونديمه.
لم يتغير قلقه الذي أحكم قبضته على خناقه. وكيلا يذعن لتَحكُّم، أنزَف
حاصلَ ذكريات حياته داخل رأسه وفردَ كلّ خلية أمام مخيلته. وربما أراد صابر
أن يستوقف بعضها أو يعيد ترتيبها، لكنه استسلم تحت وطأة خدر غير لذيذ قد
عشّق داخل حاله مذ عزم على بيع "سيف ودرع" جدّه، جدُّ صابر.
اعتقد أنه يفَكّر سراً، وهو ممدد، وحسب ظنه بعيداً عن روحه الأرقة.
تكشّفت عن قلقه أسئلةٌ محيّرة:
-كيف اتفق وقوف جدي مع غزالتي، نديمة، فوق ذات الحفرة التي عتب عليّ التأخر
في حفرها؟
-أليس هو القائل عندما عاد بعد خمسين سنة ليراني أحفر أرض الدار:
-"حسناً ما تفعله يا صابر وإن تأخرت عليه بعض الوقت؟
خاطبه جدّه بصوت (قيئي) متهكم:
-أرى وكأن سعيك ما تجاوز أن تحفر لنفسك حفرة تواريك عن شخص أولادك وعتب
مَنْ تدعوها غزالتك؟
ولم يسمع الجد جواباً على ما افترضه سؤالاً، فأردف وقد هدأت بعض سريرته مما
بعث بعض استغراب في نفسه، استبعد تحليل ذلك بسبب الحال أمامه:
-هل عقلت لسانك كما ضيّقت أفقك!؟
نظرت نديمة إلى صابر من عل دون أن تنبث بكلمة وكأنها لا تطمع بأكثر من أن
يستجيب لما يقوله الجد. بعثت عيناها (الغزلانية) بريقاً اجترح في عتمة صابر
ومضة كاد قلبه يهفو إليها فخشي ألا يدركه بعض أمل وهو المتمدد داخل ما
احتفرت يداه يحس ببرودة ترابه تسري إلى جسده
خطر في باله لمّا كان في ميعَة الصبا لا يفقه للحب طعماً بل قرأ عنه القصص
والحكايات فراح، هو ورفاقه، يطارد حدوده المباحة والممنوعة ينسج منها
أقاصيص حب يحكيها لأمثال نديمة في كل لقاء عشق مسائي. وتذكّر كيف، قبل أن
يدرك معنى الحب ولذّاته، أحب نديمة. وكيف قبل أن يعي حبها زرع في رحمها همة
شبابه أكاليل ربع تغويهم، الآن، هموم يومية، وخطر في باله، وهو ممدد الآن
مستسلماً لبرودة تراب حُفْرته، كيف كانت نديمة تضمه إلى صدرها يستأصلُ
ضرعُها قرّ نوباته الليلية في معمل غزل. يخطر في باله كلّ ذاك ويحس أن
ليالي عشق قديم ورثها مع دار جده التي ورثها عن أبيه تخرّ من فكره المنهك
مثل رمل كوته نار تحضير ذبائح ولائم فسق تستقر على جلده دون أن يقوى على
القيام بشيء. ويدرك باله أخيراً صدى عتب كانت نديمة توجهه إليه كل يوم منذ
أعوام تطلب منه التفتيش عن عمل ما، حتى وإن كان غير معمل الغزل، يرد عنها
غيلة الحاجة وهوان كسر الخاطر. وعاوده خجل أنه صدّق صاحب معمل الغزل. وزاد
ألمه عندما خطر في باله، أيضاً كان يحس بالتفتت دون أن يعمل شيئاً لأنه
صدّق صاحب المعمل ووعده بفتح معمل حديث ليترك الأصيل دون صيانة. وجعلته
الندامة يرتجف ذلاً وقد تصدّعت نفسه تنزّ من شروخها صورة أرتال العمال التي
ضاعت قراها بعد نزوحها إلى المدينة تشقى في غزل النسيج. وزادت مذلته وهو
يسترجع كيف اقتنعوا بكلام تاجر يدعي أن قيمة المنتوجات المصدرة ورأسماله قد
ضاع لأن المُشتري من بلد الأباطرة لم يدفع سلفة ولم يوقع عقداً ملزماً.
وكثر توافد خواطر ماض غير بعيد وكادت تستحكم به وهو الذي يتمسكن أمام ذاته
ملتحفاً وشاح الشفقة على نفسه متعللاً بأن الربع والأولاد "لاذوا بهمومهم
اليومية" ونديمة بَعُدت عنه لا يراها إلا ليلاً منهكة لا تقوى على ضمه إلى
صدرها مثل أيام الصبا.
واستقر إلى قراره الذي تسرب إليه مصحوباً بحذرٍ غير لذيذ يُمرّغُه بدفء
عذاب ذاته متعللاً بضغوط وخوف مستبعداً عن إدراكه واقع أن ليس لنديمة شأن
بما يحدث بل شاءت نفسه أن يخلص إلى قراره:
-"فكّر يا صابر لا شيء يستحق كل هذا العناء والتمزق، ليس ثمة حل إلا..
فكّرْ يا رجل: ماذا تريد من دنيا كهذه؟ ما الذي حصلت عليه منها؟
أغمض عينيه ثانية ليعود إلى خواطر ترده تباعاً. وبينما هو في لجّة الخواطر
والتداعيات بلغه صوتها رقيقاً على عكس صوت جده:
-انهض يا صابر، انهض!
ولم يستجب ناهضاً، بل فتح عينيه يستطلع إن كان واقعاً ما يسمعه ويراه. وقع
بصره على الفأس التي حفر بها أرض الدار. كانت تماماً على حافة القبر تكاد
لدى أي حركة تسقط عليه. أراد أن يحذر جدّه من الحركة كيلا تسقط الفأس، إلا
أنه رأى ما أنزل هلعاً وذعراً في نفسه.
انحنى جده والتقط الفأس من قبضتها، وبالرغم من العتمة تمكن صابر من رؤية
تقاسيم وجه جده صارمة وعروق ظاهر راحته اليمنى تكاد تتفجر بدم (فوسفوري).
قطع الجد الحفرة بفشخة واحدة متقدماً إلى نديمة. أمسك بكتفها اليمنى بقبضته
اليسرى ومال عليها يقبلها من رأسها، بعد ذلك مدّ يده إليها بالفأس وقال:
-لن أردم التراب عليه، سأتركه للعراء، للعواصف تهب عليه وتطمره في كل يوم
قليلاً. من تغرمه الشفقة والتمسكن فليكن له ما يريد. ما كنتُ يوماً من هذه
الطبيعة ولن أرضاها له طوعاً، إن هجع إلى رؤاها فله ما يشاء دوني!
انفقأت صرخة من صميم صابر:
-ولكنك يا جدي كنت قد شرعت في ردم التراب عليّ؟
أكمل معروفك، يا جدي!
لا أريد دارك بعد، يا جدي.
اردم تراب حفرة دارك فوقي وقني كدّ النهار وعناء شمسه!
-أما أني قد بدأتُ في ردم تراب حفرة حفرتها، أنت، في داري، ليس إلا لأتحقق
من أمر يخصني وحدي، أنا جدك. ظهرتُ عليك أبعث في حُسبانك خوفاً وقلقاً تحسب
ألاّ عهد لك بهما بالرغم من تحذير جدي وجدك. أمّا أنك تدعي اكتشاف وجودي
وحسبت أنني عدت لتوي، فحسرة على راهنك!!
وجلجلت في هزع ليل صابر ضحكة سخرية تبعها سرّ الجد:
-لقد كنتُ هنا، في الدار خلال الخمسين سنة، كنت أرى ما حولكم دون أن تروني.
باع بعض أحفادي ما تركتُ لهم فلم أر سبباً للظهرو. طمأنتُ نفسي، آنذاك، أن
العدة هي لدى صابر ونديمة وأولادهم، وهؤلاء لا خوف عليهم، وبالرغم مما
أصابك يا صابر، كنت أعلم أنك ناهض من كبوتك حتماً. لا بد أنك مُوجد عملاً
آخر تعيل به أسرتك وتحفظ ماء وجه نديمة، أم أولادك، تابعتُك وأنت تتمسكن،
تغضّ البصر، وتصمْخ أذنيك فلم أقلق كثيراً. طمأنتُ نفسي ألاّ بد أنك شاعر
لمهمة رد الغائلة عن أسرتك وستنهض (ولكل إنسان كبوة)!
ونادى الجدُ، دون سابق علم، ملوحاً بقبضة فوسفورية وكأنما صبره قد نفذ،
فارتعد جسد صابر الممدد في الحفرة واستجاب لردة فعل جعلته ينتصب في حفرته
المغطاة بقبة السماء القاتمة:
-أما أن تبيع عدّتي وعتادي..
بعد أن انتفض جسده وانتصب مرتطماً بقبة السماء وكأنها طبقة قبر، اضطر صابر
أن ينظر من حوله رأى في الأفق ضوء صبح يجرع قبة السماء مفجراً نوراً
برتقالياً يمرغ الأرض يرسم أفقاً آخر. عاد ليجدد النظر من حوله متأكداً مما
يرى، فرأى جده وقد ظاهره يضم إليه نديمة مبتعداً عن الحفرة وأولاد صابر
يقبلون من بعيد حيث ارتسم الأفق الآخر.
اختلطت المناظرُ والجراحُ والرسومُ والمشاهدُ والراهناتُ قسراً على صابر
فاستدار يتحقق: أسوار الدار التي أورثها جده قد زالت تفرج عن سهل واسع يحط
النظر على أفقه، وغرف الدار ما تزال تدفع بأطفال يستهويها عبث أشعة الصباح
ببصرها فتندفع نحوها تعلم القبض بأيديها عليها لاهية.
أحس صابر لرؤيتهم بفرح كاد ينسى طعمه فبان له إحساسه غريباً استحضر عليه
صور أولاده يوم كان يعيلهم من كده في نوبات عمله الليلي. جعله الفرح
المُفتقد يكاد ينسى أنه بدون عمل وأنه، حقاً، قد حفر لنفسه حفرة يستلقي
فيها بقية دهره.
وبينما اللاهون يتقدمون إليه وهم يعبثون ورد فكره يوم عاتب نديمه قائلاً:
-و"لكنك تغادرين البيت في الصباح ولا ترجعين حتى المساء"؟!
وتردّد جوابها داخل نفسه:
-كان على أحدنا أن يسعى بعد أن أدخلت في روعك أن ما عادت لديك همة وقد "لاذ
الأولاد بهمومهم اليومية"!
فأراد أن يعتب عليها كما فعل يومذاك المساء:
-ولكن أسئلتك، يا نديمة وأنت ترددين:
"هل استطعت الوصول إلى حل؟ لا تنس كيف غدت حالتنا.." كانت تغرز في كياني
(أسافين) صدئة؟
واسترجع جواباً آخر من داخله:
-"كان عليّ، وأنا في غمرة السعي، أن أذكّرك بأنك مهم في حياتنا كما أجعلك
تحس أنك مسؤول عن إيجاد طريقة لتدبير وضعنا ودفع الديوان المتراكمة،
ولكنك..
وقبل أن يجد بقية جوابها، جرفه الأطفال بأجساد فتية كموج بحر هائج ينقض
بعضها على تراب الحفرة يذرّه في الهواء ليحطّ على عيني صابر فتكحلا وبعضها
الآخر تردم الحفرة بكفوف طرية قوية. عفر التراب المتناثر وجه صابر إلا أنه
تمكن من فتح جفنيه المغبرين فوقع بصره على صورة جده ونديمة وأولاده يمتطون
نور الصبح المتوهج نحو الأفق الآخر. تحفّز وخبط بقدميه على قاع الحفرة،
والأطفال من حوله منهمكون بردمها، فطار جسده تلفه أشعة الصبح توثبه وثبات
واسعة طويلة ليحط في وسطهم.
نظرت نديمة إليه وافتر ثغرها عن بسمة شبابهما فغضا الطرف حياء. ربما أرادت
أن تقول شيئاً وأراد هو أن يرد عليها، لكن جدّه مدّ يده بالفأس. استعاد
صابر الفأس وقد شخص ببصره نحو جده. مدّ الجد يده المتحررة ينفض عن رأس صابر
غبار تراب حفرة ليلة معتمة.
عودة غائب
قال وقد بدا وكأنما مطرقةُ (تور
Tor)(1)
هوت على رأسه بغتةً:
-لِماذا لم تذكر يوم هتفتَ إنك على هذه الحال؟
ترنَّحَ على وسادةٍ من ريش الإوزِّ وأحسَّ برأسه يغوص ويغوص وكأنما في
طريقه ليستقر في هاوية عتمة لا قرار لها. بدت له الصور من حوله قاتمة،
ظلالية، وكأنها جمهرةُ عيون تُحدِّق فيه بلا معنى وأفواهٌ فاغرة ذات أنياب
مدببة تتقدم إليه لتمتص آخر نقطةٍ من دمه المُشبعِ بعقاقير تشحن جسداً
مهزولاً فقده الزمان. جهد أن يسترجع بعض سؤال أخيه قبل أن تلفّهُ العَتَمة.
ولمّا لم تسعفه العقاقير حاول أن يُجَمِّع نتف حياته بفكرةٍ فلم يُفلحْ في
صياغتها.
وبرقت في ذهنه كل المناسبات الفاشلة في البوح بمكنون صدره ما بين تناول
العقاقير وبداية تأثيرها. ولما تملَّكَه الإعياء تماماً ونضبت قوة خياله
قرر أن يستسلم للعَتَمة التي تدبُّ بعناد لتلفَّ كلَّه وقرارة نفسه.
وأرعَشَه أمرٌ دفعه إلى انتشال وعيه من العَتَمة لهنيهة عسى أن يوفق في
البوح لصديقه، وهو منكب عليه يحتوي رأسه براحة كفه اليسرى ويمسح باليمنى
على زغبٍ أَبَت حُقن العلاج إلاّ أن يبقى رمزاً لوجودها. افترَّت العَتَمة
العنيدة عن بضع دقائق فتوقفت ترقبُ محاولةً عاقراً وهي تطمئن برودةً تتربص
به أن لا جدوى من عناده.
نظر عبر غبشة بصره فهُيِّء له ارتداد صورة من مرآة تقشَّرت فِضَّتها فبدت
جَرِبَةً تُفتِّت ماضيه إلى واحات مهجورة تومض إحداها بذكرى أولاده يوم
كانوا أطفالاً يكبون على أحجية يتدربون على حلِّ أسرارها، لكنه لم يكن
ليفلح مهما زمَّ عينيه مُستحضراً تلك الذكرى. ويئس من المحاولة وتلاشى
الوميض واستسلم للا شيء. وتابع رأسُه رحلتَه إلى قرار يكاد يعرف نهايته.
استجمع أنفاسه في عَتَمة سحيقة غيَّبت الرؤى وقال:
-آسف لقد خدعتك. لم أحسب أنَّ صحتي على هذا السوء إلا بعد أن هتفتُ
أستحضرك.
-لا عليك، لا تجهد نفسك، ومن يطلب منك تعليلاً، ولمَ تتأسف؟
اختنق صوته وترجرج مثل قيظ تموز حلب حيث قضيا طفولتهما ومعظم مقتبل العمر
سوية قبل أن يرحل كلٌّ منهما قاصداً لا وجهة ويتوقف أينما تسنى له الوقوف
بعد جري بلا هدف وسعي إلى لقمةٍ تعسَّرت.
أحس وهو مستقر، هناك بلا رؤية أو تبصُّر، أنه هالكٌ لا محالة وقد أقلعت من
سُلاَمَيَات قدميه برودةٌ حرّاقة تتكسَّر تحت وطأة أشرعتها رُكْبَتَاهُ
مُخلِّفَةً رجفة متواترة وهي تمخر كلَّه لترسو في رأسه مُفرِّغةً خَدَراً.
شعر أن نَفْسَه تُفكِّر فيما يعتمل داخلها فأراد أن يتحسَسَ رأسَه فلم يعثر
إلاّ على جماد يغذّيه سلك بارد يتسربل في ذراته موت يتقدم بِتُؤَدَة مثل
قبطان أحكم خطة يُباغت بها عدواً.
حسب رأسه عدواً يقبع بين حجيرات قلبه الذي يهطر خوفاً قبالة صور سريعة:
زوجة في مقتبل كهولة كلَّلها الله بقسط من جمال لا يتأبى غلّيل نيله إن هو
أحكم عقد صِنَّارَة إشفاق؛ وابن برح العاشرة لتوه يتلمس الغَدَ مطمئناً أن
والده درع يردُّ عنه العثرات؛ وابنة عهدها مشرعة يديها تعانقُ المستقبل بلا
وجل. تكاد البرودة أن تطمس هذه الطمأنينة لكن صورة ابنته تعاند وتنضو عنها
السواد لتقتحم عَتمَته تُعيد إليه شُعيرات شُعاع يخبو كلما تكثَّفت
البرودة.
ولما ثَقُلَ الخوف وبلغ من ذاته الذروة استجمع خائر قُوَّة فتراءىله أنه قد
رفع رأسه وقال:
-استحضرتُك لتَجلّي الظلال وتتعرف عليك أسرتي التي رسمتك من أحاديثي خيالاً
وشخًّصتك من صور شبابنا.
مسح صديقه على خدِّه بيد بلَّلها عرق بارد ليمتزج مع عرق يتصبب من جبينه.
أراد أن يحسَّ كيف تتمازج البرودتان إلا أن برودته التي تمخر كلّه وتأتي
على كلِّ محطٍّ فيه تطغى على برودتيهما لتُخلِّف نوراً ضبابياً يومض عبر
فوهة مُقَتَّمَة. حاول أن ينعم النظر في صورة الطرف الآخر فلم يتبيَّن
خطوطها. ظنَّ أنها صورة والده لكنها انقلبت على الفور لتكون صورة والدته
وتبعتها صور وصور تتقلَّبُ حتى استقرت إحداها على صورة صديق عُمْر بارحه
منذ أمد بعيد كان جِسْر وصالهما رسائلٌ موسمية في بدء الرحلة ومن ثم تداعى
الجسر وغاب كما تغيب عنه الصور الآن وهو مستقر في عَتَمته.
-أدميت قلبي يا علاء! ارحمني وارحم نفسك!
أراد أن يُردفَ لكن عَبَرَات كلامه في البداية فتنحنح وكأنما يتحشرج
ليتابع:
-أما أنك وأنت في محنتك تستحضرني لأكون قربك فهذا فضل كبير.
وبعد أن صمت صديقه أراد أن يخاتل خَدَرَ البرودة التي تتملّك جسده بقول
انبعث في خياله. أراد أن يقول:
-لم يخطر في بالي وقد بُلِّغْتُ التقرير. إن تقدير المولى قد سهَّلَ عليَّ
استحضارك ولحكمة تدبيره أُسْلِم أمري. أن تحضر ليس بعبث مصادفات. لا بد
القدر أرسلك لتحمل حملاً غير مألوف.
أراد أن يقول هذا لكن البرودة التي بلغت حالبيه أطلقت في عَتَمته إنذاراً
ذكَّرَه بأن يُصارع البرودة وهو الذي يُدرك أنه متى استسلم المرء وفرغت
مثانته فقد فتح الطريق للبرودة لتجتاح جسده وتخلِّفُه في مهد موت أكيد.
ولتباين الظرف والموقف وسخرية من أمر ما تذكَّر عندما كان يلعب مع أقرانه
مشغولاً عمَّا يعتمل في حالبيه فيشد على إليتيه ويضمَّ ساقيه موارياً إحساس
حاجة التبويل. أراد أن يبتسم وهو يتذكَّر. ونفحت الذكرى في نفسه شعور ظفر
لاكتشاف حيلة يخاتل بها الخَدَر البارد. شدَّ بكل ما تبقى لديه من قوة على
إليتيه فاستجابت لها عضلات ظهره ونفرت البرودة بتمرُّد. أحس كيف تحاول
البرودة المناورة بتغيير مسارها إلى فخذيه تُغَيِّب ما تبقى لها من قوة،
لكنه استعصى بهذه القوة يدفع بها البرودة عن جسده.
ووشَّحَت وجهه طفرة نصر رسمت على وجهه رمز ابتسامة. وتخيَّل نفسه ينظر إلى
البرودة من علٍ متهكماً بينما البرودة تشخص إليه متوسلة أن يفسَح الطريق
لها لأن إبحارها طال والبحر عنيد والزمن يُفْرغ ذرات رمل قليلة. غضَّ الطرف
عن توسل البرودة واستجمع العناد الذي جعله مذ حطَّ السويد يسعى ليل نهار في
جمع ثروة يعود بها إلى بلده لولا أن سرطان الزمن فجأه. وها هو الآن يتعالى
بغرس ذِكْره في خَلَف وزوجة. ونفحت خاطرة في نفسه سعادة مودة لِمَا فكَّر
فيه: "القدر يستحضر شقَّ طفولة وقرين شباب ليلقاه وقت كهولة تنفد. وكأن ما
حطَّ خياله جدّد عزماً قد خار وبرحَ جسده. نظر إلى عيني صاحبه ملياً وكأنما
يود أن تُغَيِّباه داخل مقلتيهما وقال:
-ارفع رأسي إليك يا أبا الحُسْنِ!
وكأنما نسي صديقُه حاليهما فسأل ونغمة مزاح في صوته:
-ومن أين أتيت بهذه التسمية؟ لقد نسيتها والله!
-ألا تذكر، كيف كنتُ أترنَّم بتسميتك أبا الحُسْنْ.
ونسيا في أي وضع هما أو هيء لهما ذلك.
-طبعاً أذكر، كيف لا وأنا الذي كنت أستمتع بها. كيف أنسى وأنا الذي كنت
أتصنَّع الغيظ لهذه التسمية.
-أحقاً كنت تستمتع بها؟
-بلى، أجاب، وقد علت وجهه مسحة خجل أضفَتْ على خدَّيه حمرة عفوية.
-سامحك الله يا أبا الحُسْنِ. كنت أعتبر أنني أناني أستمتع بتسميتك دون
إرادتك!
وتوقف عن استرساله في الحديث ومتابعة قوله ليبوح:
-هل تعرف يا أبا الحُسْن أنني كنت أعني بالضبط ما أقوله.
أنت أكثر حسناً من أي آخر في الشلَّة: قوامك فارغ وشارباك يعلوان شفتين
أرادهما الخالق برهان رجولة وحسن.
وأحس بخجل وهو يصف صديقه، لكنه أصرَّ أن يغتنم فرصة ظفره على البرودة ليبوح
بشعور كتمه طيلة عمره.
قال:
-هل تعرف إنني كنت أغار منك لحسنك؟!
-كفاك، يا علاء. إنك لا تخلو من حسن أيضاً!
-لا، لكن ليس بقدرك.
وتوقف لحظة وكأنما نسي شيئاً ثم استدرك:
-ولغيرتي كانت وسيلتي لغيظك تسميتك بأبي الحُسْنِ.
-لم أكن أغتاظ، حقاً.
-أفسدتَ عليَّ في سويعاتي الأخيرة متعة أعوام كثيرة.
ونظر في عيني أبي الحسن مليَّاً وقال:
-ليتني حفظتُ سري زاداً لسفر لا عَوْد منه.
وقُبَيل الفراغ من قوله هتف في داخله هاتف أنها الفرصة التي تمناها مذ
أُدْخِل مستشفى الطوارئ.
قال لأبي الحُسْن:
-ارفعني إليك أكثر.
ولما استقر وجهه أمام صدر أبي الحُسْن حتى كاد يلامسه قال:
-وسِّدْني!
مال أبو الحُسْن بجذعه يلتقط وسادة فوهنت يده التي يودِعَها خلف ظهر صديقه
وكاد يهوي فوقه. ركَّز عِكْسَه على حافة السرير وخطف الوسادة وجعلها خلفه
وبعد ذلك نهزه حتى جلس.
حرَّر علاء زفيراً احتبسه وسحب نَفَساً واهناً.
-الحمد لك يا ربي لما استحضرت لي.
-ما تقول، يا علاء؟
-أقول يا أبا الحُسْن، واسمع ما أقوله جيداً.
علت وجه علاء مسحة جد غير عليلة:
-أريد أن تقسم بالله على أن تحفظ السر ولا تبوح به حتى لقاء ربك.
-ما بك يا رجل، وما نزل بك؟
وتلعثم أبو الحُسْن وتدرَّج كلامه:
-ما الذي تهذي به وأي عهد؟ إنني لا أحب المعاهدات، إنني لا أجرؤ على
المعاهدات، ولا أريد أن أدخل في تيه العهد.
-هوِّن عليك يا أبا الحُسْن. عهدك هو ألا تبوح بما أترك لك من ثروة وقد
أيقنتُ أنني لا أستطيع الحفاظ عليها.
سكت أبو الحسن وكأنما حلَّت به صاعقة (تور). فكَّر في أن يقول: "وأي ثروة
تهذي بها"، لكنه تباطأ.
-متى قضى الله أمراً معلوماً، أريدك أن تُسفِّر نعشي بصحبة زوجتي وطفليَّ
وتدفنني قرب قبر أمي... و
هدر أبو الحسن بصوت مألوف لعلاء. ذات الصوت عندما كان علاء يقول شيئاً لا
يروق له:
-هل خرفت يا رجل، هل خَرِفْتَ؟
وكشف صوته عن سريرة لم يعهدها فيه علاء. لا يعرف كنهها ولا تفسيرها كما لا
يتسنى له الوقت في أن يبحث أو يفكر في ماهيتها. كلٌّ ما تناهي إليه هو صوت
أبي الحُسْن:
-غداً ستنهض مثل الحصان!
-لقد كبا الحصان كبوة أخيرة يا أبا الحُسْن وما علينا، إلا أن نقبل بواقع
ينفطر له فؤادي دون نفع.
بالرغم من أن صوت أبي الحُسْن بدا وهو يتدرَّجُ في خواء كتيم مثل زلاّجةٍ
تنساب على صفحة جليدٍ قاسٍ تبعثُ شفراتُها أزيزاً نشازاً تقشعر له الأبدان
لم يسمعه علاء:
-أية كبوة تهذي بها يا رجل، وأي واقع تصر على إدخاله في روعي؟
-الحقيقة، يا أبا الحُسْن، إنني فكَّرت في الأمر واستبعدته وأنا ما أزال
بين أسرتي، لكن نهاية الرحلة قريبة حتى لتكاد تكون أقرب من حبل الوريد.
أريد أن تُنفِّذ ما أقوله دون أن تحفل بما سيقال.
وبَيَّن:
-إنك تعلم أنَّ زوجتي سويدية الأصل، لكنها استطاعت خلال عشرتنا الطويلة،
كما سمعتَ أيضاً، أن تُلِمَّ بجُلِّ لغتي.
-بلى، نِعْم النساء وخير ما قابلتُ من أجنبيات، رحم الله والديها.
أضاف علاء:
-إن جازت الرحمة!
-ربما أسمى من تفريق الأجناس، أجاب أبو الحُسْن!
أجاب علاء مُقتضِباً:
-وطفلاي في مقتبل العمر وبحاجة لمن يُعنى بهما في غربة اخترتها لنفسي دون
استشارتهما.
-صحيح، وافق أبو الحُسْن!
-هذه غُصَّةٌ أزدَرِدُها بصمت، فلا تضُنَّ عليَّ بعهدٍ!
وصمَتَ يراقبُ طَرْفَ أزرار المُعدّات المربوطة إلى صدره ويسمع تصويتها
نشازاً متواتراً حتى أودَعَته البرودة والعيُّ إلى كنَف عَتَمتَه وعيناه
تُحدِّقان بدموع أبي الحُسْن.
1) ) إله الخصب في أساطير اسكاندنافيا إلا أنه يظهر كإله البرق متسلحاً
بمطرقة تُدعى ميولنر
Mjolner
ويركب عربة تُدعى أوكتور
Ak- Tur
يجرها تَيْسان. (مرجع نورشتدت).
|