قصص قصيرة
قالت له أحبكَ
قالت له : أحبك
أريد أن أحتلَّ قلبك
وأسكن فيه
لأكون الزهرة الوحيدة فيهِ
!!
ولمَّا دخلت قلبه وجدته مليئاً بزهراتٍ كثيرةٍ تفتحت من زمنٍ بعيدٍ
وما زال بعضها يتفتح
!!!
قال له : أحبكِ 2-
أفلتت يده وقالتْ : " غداً سيُكتب كتابي
" .
قال مُهنَّد بحزنٍ شديدٍ : " لو حدث هذا فسأموت حتماً ... سأقتل نفسي
"
في اليوم الثاني تمَّ كتب الكتاب
وفعلاً مات مُهنَّد بعد ستين سنةٍ
!!!!!!!!!!!!!
3 -بحور
قال لها : أحبكِ
فنظرتْ في عينيهِ
فرأت البحور تبحر فيها المراكب الشراعية
وعلى متنها ألف امرأةٍ
..
4 -
شهريار
قال لها : أحبك
كحب شهريار لشهرزاد
فأحبت بعده كل رجلٍ تلقاه
!!
5 -
مراعي
قال لها : حبك في قلبي مثل المراعي الخضراء
فتهافتت على قلبه كل الغزلان
ونسي غزالته الأولى
6 -
هاتفان
قال لها أحبكِ
أنتِ الوحيدةُ في دربي
وبيديه هاتفان
يخاطب فيه المعشوقتينِ معاً
!!
7 -
وهم البطولة
قرأ في الرواية التي اشتراها أنَّ البطل استطاع أن يقهر كل أعدائه دون
سلاحٍ فقط بيديهِ
!!
قرَّر أن يجربَ ذلك بنفسه ، وجد أمامه رجلين يختصمان فحاول أن يفصل بينهما
فضرباه
فصاح بصوتٍ عالٍ
:
-
جنيتما على نفسيكما أيها الأحمقان
!
نظرا له بدهشةٍ ... وتابع
:
-
ستندمان على الساعة التي وُلدتما بها
!!
حملقا فيه ثمَّ نظرا إلى بنطالهِ وانفجرا ضاحكينِ
...
نظر إلى الأسفل فرأى بنطاله مبتلاً بين الفخذين
!!
8 -
شهادة أستاذية
قدَّم له مدير الجامعة درعاً تذكارياً
وقال له
:
تستحق أكثر من ذلك فأنت عبقري جامعتنا
وقد بلغت الأستاذية
!!
خرج من الجامعة وركب سيارته الصفراء
وفكَّر باحتياجات أطفاله السبعة
..
أخرجه من شروده صوت يصيح به
:
-
تاكسي
!!
فتوقف وصعد راكبٌ متفائلٌ نشيطٌ
قال له : - أين ؟
أجاب في ثقةٍ : -الجامعة
.
نظر له وضحك مقهقهاً حتَّى اغرورقت عيناهُ.
9 -انتحار
خرجَ يائساً
توجَّه إلى سكَّة الحديد
فبعد نصف ساعة يمر القطار
وتمدَّد على السكَّة الحديدية
نظر للسماء يترقَّب القطار
ومضت ثلاث ساعات
مرَّ قربه الكنَّاس في المحطة وقد كان يرقبه منذ اللحظة الأولى
قال له
:
حظك طيبٌ تتمدَّدُ مرتاحاً على السكة الحديدية في
يوم إضراب العمَّال
!!
أبو العبد !!!
هو رجلٌ لرأيته حسبته حائطاً من فرط ضخامته وجهامته ... له كرشٌ ضخمٌ
مندلقٌ أمامه ... وكتفانِ عريضتانِ يردهما خلفاً فينتفش صدره ويتراجع بطنه
ويزداد ضخامةً ... وله يدانِ طويلتانِ تـتدليانِ على جنبه ... ورجلان
قصيرتان سمينتانِ كأنَّهما عمودانِ !!
ولكنَّ أكثر ما يميزه هو شاربه الكث الذي تحسبه شعر امرأةٍ منكوشاً عندما
تستيقظ من نومها وهو فخورٌ به يظلُّ يفتله ويبرمه بسببٍ أو بدون سببٍ ...
ويعتبره نموذجاً لرجولته التي لا مثيل لها في الحي برأيه .. ومنذ الصباح
الباكر يقوم بتمشيط شاربه بمشطٍ خاصٍّ يظلُّ في جيبهِ ويلبس ثيابه التي لا
يغيِّرها أبداً .. وتتألف من جاكتة طويلة متهدلة الجيوب .. كمد لونها
الأكحلي بسبب طول الغسيل والاستخدام حتَّى بدت تمزقات خفيفية على أطرافها
... وبنطاله البني الذي بهت لونه بمرور الزمن ... كان أبو العبد رجلاً
حِمِشاً ... شديد المراس ... كثير العبوس ... جهير الصوت ... سريع الغضب
... وكثيراً ما يرتفع صوته في مقهى الطابوشة حيث يدخِّن الأركيلة - تنبك
عجمي ولا يرضى له بديلاً -
ويصيح قائلاً :
- لأ (( شيش بيش )) ... ما (( شيش جهار )) أنت غشاش يا أبا منير !!!
وكان السامعون له يخشون بأسه وسطوته من أن يكلموه في ارتفاع صوته الذي يزعج
آذانهم ...
فمنظره وهو جالسٌ على الكرسي يثير النفور والحذر من ردة فعله !!
قُدِّرَ لي ذات يومٍ أن أزور عمة أم أبي !! وهي عجوزٌ طاعنٌ في السن ...
لم أرها في حياتي إلا مراتٍ بعدد أصابع يدي ، ولمَّا بلغْتُ منزلها بعد
جهدٍ جهيدٍ في الأحياء الشعبية في اللاذقية حاملاً الأغراض التي أعطاني
إياها أبي لأقدمها لها ... وجلسْتُ عند العمة أحادثها وهي بالكاد تسمعني
... إذ صكَّ سمعي صوتٌ عالٍ لم يكن غريباً عليَّ أبداً ... سعالٌ كأنَّه
الخشخيشة التي يلهو بها الولد !! وبعد صراخٍ بيني وبين عمتي علمت أنَّ
جارها هو أبو العبد أبو شنب ... والأدهى من ذلك ما قالته عمتي :
"هذه زوجته أم العبد تهزِّأه كعادتها ....مسكين أبو العبد ابتلاه الله
بزوجته التي تملك لساناً كالمنشار ...
وهو صابرٌ عليها منذ ثلاثين عاماً ..... "
حانتْ منِّي التفاتةٌ إلى النافذة لأرى أبا العبد بهيئته المميزة الصارمة
نازلاً في الحارة نحو السوق وهو ينهر بعض الأولاد بغلاظةٍ ....
لقد صحَّ قول أمِّي رحمها الله : " من كثُر زئيره في الخارج ... كثر هريره
في الداخل ".
يوميات زوج مسكين
1 - هرعْتُ إلى المنزلِ بعد عكٍّ في الباص الذي ينقلني من مركز عملي في
الهيئة التي أعمل فيها في المشروع السابع، فإذا علمتم أنَّني أسكن آخر
مشروع الصليبة، فستدركون بُعد المسافة،
وبالطبع تدركون أنَّك ستنتظر الباص نصف ساعة ثُمَّ هو يسير بسرعةٍ تُضاهي
سرعة سلحفاة متعبة تشكو من ألمٍ في ساقيها، أدركتم معاناتي اليومية في
وسائل النقل من وإلى الوظيفة...
المهم وصلْتُ إلى البيت الذي يقع في الطابق التاسع، بعد صعودٍ مضنٍ على
السلم بسبب تعطل المصعد وسكَّان البناية يرفضون أن يدفعوا لتصليحه، ودخلْتُ
وأنا أُمنِّي نفسي بِحمَّامٍ يُنعش خلايا جسدي المكدودة المرهقة إذ تفاجأت
بسلامتها واقفة في الصالة تنظر لي شزراً :
- لماذا تأخرت؟
- ( بدهشة) لِمَ السؤال؟
- ( بنرفزة ) لا تجب عن سؤالي بسؤالٍ.
- ( أتنهد ) تعلمين المواصلات وغتاتها و ......
- ( تقاطعني بضيق ) خلاص مليت من الأسطوانة المشروخة كل يوم ...
توجهت إلى غرفة النوم لأبدل ثيابي فزأرت من خلفي :
- أين تذهب ؟
نظرْتُ لها بغيظٍ مكتومٍ : - لأتحمَّم وأبدِّل ثيابي .
- اذهبْ واشترٍ بعض الخضار والفاكهة ..
- انتظري للمساء ...
- ( بصوتٍ مرعبٍ ) بل الآن ....
- ولكن ....
- أنت تعلم أنَّ أمي ستأتي اليوم لزيارتنا فلا بدَّ من أن تذهب لشراء
الأغراض ...
من العرق الذي ينساب على رأسي ومن قهر المواصلات وعذاب زوجتي ومن تخيلي
لنفسي صاعداً هابطاً للطابق التاسع صحْتُ مزمجراً :
- لا لن أفعل ... ولن أذهب لا الآن ... وليس بعد قليلٍ .... سأرتاح اليوم
في البيت ... حرام عليكِ تعبان جداً ... لن أذهب حتَّى ولو زارنا السيد
بوش !!!
قال لي أبو محمد :
- حسناً يا أستاذ كم كيلو موز تريد !!؟؟
2- أطلَّت بسلامتها عليَّ منذ الصباح الباكر وأنا خارج من الحمَّام بعدما
حلقْتُ ذقني استعداداً للذهاب إلى عملي
وتفاجأْتُ بِها تتثاءبُ وتفتح فمها كفم فرس النهر، فابتعدْتُ من تيار
الهواء الداخل إلى فمها خشيةَ أن تبتلعني ، وما إن رأتنِي حتَّى ابتسمتْ
إحدى ابتساماتها الغامضة التي تباري ابتسامات الثعلب المعسولــة، وقالت لي
بصوتٍ متناعمٍ كنعومةِ الأفعى :" صباح الخير حبيبي " .
فَبُهِتُ وكأنَّني أمام وزيرٍ أو أميرٍ، فحملقْتُ فيها متعجباً لثلاثة
أمورٍ:
الأول: عهدي بِها لا تستيقظ قبل الواحدة ظهراً فكيف فعلتها اليوم؟
الثاني : ابتسامتها هذه وإن كانت خبيثة مخادعة، ولكنَّني منذ أنِ انتهى شهر
العسل
الذي لم أعد أذكره أبداً - لم أرها إلا عابسةً كعبوس أبي الهول، أو عبسي في
مسلسل (عدنان ولينا).
الثالث: قولها لي كلمة (حبيبي) وقدْ نسيتُ كلمات الحب والحنان منها ولم أعد
أذكرْ إلا كلمة (يا تنبل .. لعمى شو حوبة ) ومثل هذا ..
فقالت لي بعد دقيقةٍ: " ما بك تنظر لي كأنَّني قادمةٌ من المرِّيخ" .
هززْتُ رأسي وقلْتُ لها : " لا ... لا شيء ... كنْتُ أفكِّرُ أنَّكِ
غلَّبْتِ نفسكِ لتحضير الفطور " .
فليس من عادتها أن تستيقظ باكراً لتحضير طعامي أو ثيابي من قبل فقط في شهر
العسل فعلت هذا وما أقصره وبنفسي
أن يجيبَني أحدكم : " ما هو شهر العسل؟ " .
قالتْ لِي ببرودٍ وقد بدأ صوتها يخشن : " فطور !! أتريدني أن أستيقظ
لأحضِّر لكَ الفطور !! " .
قلْتُ بتردُّدٍ : " لا ... لا ... يا حياتي ... لم أقصدْ ... قصدْتُ أنَّكِ
غلَّبْتِ نفسكِ بالاستيقاظ ولا أدري لماذا ؟ " .
قالت كلمة واحدةً : " الغسَّالة " ...
قفزت لذهني غسَّالة ( زيروات ) الآلية الجديدة التي اشتريناها من شهرٍ
واحدٍ فقط فقلْتُ لها :
" لا مشكلة ... اليوم أتصل بجماعة الصيانة وهم يصلحونها " ...
قالت ببرودٍ أشدَّ : " أعرف فأنا لست جاهلةً " .
قلْتُ بتوجسٍ : " إذاً ما المطلوب منِّي ؟ " .
قالت : " أنت تعرف أنَّ التصليح سيستغرق أيَّاماً " .لم أردَّ بل نظرْتُ
مستفهماً ..
فتابعَتْ : " وعندنا غسيلٌ كثيرٌ " .
وسكتتْ فقلْتُ : " أنتِ تعرفين أنَّنا دفعنا كل ما معنا لشراء الغسَّالة
وليس معي فلوسٌ لأستأجر لكِ لفَّاية "
(اللفاية : المرأة التي تدور على البيوت لتعمل)
قالت ممتلكئةً : " يداي تؤلماني ... "
قلْتُ بتحدٍ : " نعم .... "
قالتْ : " خذْ إجازةً عارضةً اليوم من عملك واغسل الثياب " ....
تفجَّرتْ فيَّ كل معالم الرجولة وصحْتُ بصوتٍ كهدير الشلاَّل: " إلى هنا
ويكفي ..... لا ..... كفى ذلاً وإهانةً " ...
وهربتْ من وجهي كالفأر المذعور (جيري) يهرب من ( توم ) ... فنفشت صدري
كطرزان في الأدغال وسعدْتُ بمنظر هروبها وصرخت من فرحتي (
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآ ) وخبطْتُ على صدري مثل طرزان !! واسمحوا لي بعد إذن
التشاتيش (يا هيك الرجال يا بلا) !!!
* * *
رنَّ جرس الهاتف فكان صديقي أبو سليم يسأل عني وعن سبب عدم قدومي، هل أنا
مرضٌ كفى الله الشر ... قالتْ حرمنا المصون وهي تدهن يديها بـ ( النيفيا ):
" إنَّه في الشرفة ينشر الغسيل الملوَّن ... عندما يفرغ من الغسيل يكلمك "
.. تعلمون أنَّ جيري في النهاية يغلب توم ... و ..... شباب ليس عندي وقت
.... اعذروني فالماء يغلي بالغسيل الأبيض ...
عن إذنكم !!!
أضيفت
في30/05/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب
خطة جهنمية
اتهمت النيابة العامة السيدة (( شفيقة )) بقتل زوجها (( سليمان ))
وذلك بمساعدة عشيقها (( مروان )) !!
الوقائع :
وجدت الشرطة السيد (( سليمان )) مقتولاً في الحمَّام وهو في البانيو
المليء بالماء وقد سقطت في الماء آلة الحلاقة التي كانت موصولة بالكهرباء
وفي وضع العمل عندما سقطت في الماء وأدت لانتشار الكهرباء وصعقته فوراً
ومات ..
وقادت تحليلات الشرطة إلى ما يلي :
كانت آلة الحلاقة على لوح المرآة القريبة من حوض البانيو ، وقد كانت
تحتها بقعة ماء ، والغريب أنَّ الحمَّام كان موصداً بالرتاج من الداخل ،
وكذلك النافذة موصدة من الداخل ..
وتبينت الشرطة أنَّ زوجة السيد (( سليمان )) السيدة (( شفيقة )) على
علاقة غرامية بالسيد (( مروان )) ، وباعتبار المستفيد الأكبر من وفاة السيد
(( سليمان )) هو زوجته فقد انحصرت الشبهات حولها .. كما تبيَّن أنَّ السيد
(( سليمان )) قد علم في الفترة الأخيرة بالعلاقة غير الشرعية بين زوجته
وصديقه (( مروان )) ..
ورغم الإنكار الشديد للسيدة (( شفيقة )) وعشيقها (( مروان )) ،
فإنَّ النيابة تحفظت عليهما وحولتهما للمحكمة ، فالأدلة واضحة !!
لكنَّ ضابط الشرطة ( عمر ) كان له رأيٌ مغايرٌ ، فهو يعتقد أنَّه
ربَّما كانت الزوجة وعشيقها بريئين من التهمة ، وقدِ استند على ذلك بإغلاق
الباب والنافذة من الداخل بحيثُ لا يُفتحانِ من الخارج أبداً .
وبعد تمحيصٍ طويلٍ استطاع الضابط الذكي كشف ملابسات الجريمة والتوصل
إلى الجاني !!!!
علم سليمان أنَّ زوجته تخونه مع مروان فضاقت به الدنيا وقرر أن
ينتقم منهما بطريقةٍ غريبةٍ، فهو كره الحياة مع الذل والعار الذي جلبته له
شفيقة...
فأخذ معه قطعة ثلج إلى الحمام، ثمَّ أوصد الباب بالمزلاج (الدرباس)
من الداخل، وكذلك فعل بالنافذة، ثمّ شغل ماكينة الحلاقة ووضعها فوق قطعة
الثلج على طرف الرف القريب من البانيو، بحيث عندما تذوب قطعة الثلج تقع
الماكينة في البانيو وتكهربه فيموت، ولضمان خطته سلخ قليلاً من سلك
الكهرباء، ودخل البانيو مسترخياً فلمَّا سقطت ماكينة الحلاقة مات متكهرباً..
وبدا للناس أنَّ هناك من تعمد قتله وبالتأكيد ستتهم زوجته وعشيقها
....
الجوهرة المفقودة
صباح يوم 1 / 5 :
قدَّم السيد زهير إلى مقسم الشرطة بلاغاً بفقدان جوهرةٍ ثمينةٍ،
يبلغ سعرها أكثر من مليون ليرة سورية ، الأمر الذي جعل الضابط يسأله :
" ما دامت الجوهرة بهذا السعر المرتفع فلِمَ تحتفظ بِها في منـزلك ،
ولا تؤمِّن عليها في أحد البنوك ؟ " .
فقال السيد زهير : " فعلاً كانت في البنك ، ولكنِّي سحبتها صبيحة
يوم أمسِ لأنَّنِي في مساء اليوم قد كنْتُ قرَّرْتُ بيعها للسيد رمزي " .
دوَّن الضابط الاسم عنده وأخذ عنوانه أيضاً من السيد زهير ، وسأله :
" ماذا يعمل السيد رمزي ؟ " .
قال السيد زهير : " إنَّه من كبار تجَّار المجوهرات في السوق " .
قال الضابط : " متى رأيْت الجوهرة آخر مرة يا سيد زهير ؟ " .
قال السيد زهير : " أمس في الساعة الثامنة ليلاً وضعتها في الخزنة
وكانت آخر مرةٍ أراها فيها ، واليوم صباحاً قمْتُ بفتح الخزنة في الساعة
السابعة صباحاً فلم أجدها فجئْتُ إليكم . " .
سأل الضابط : " من يعلم بأمر الجوهرة غيرك ؟ " .
قال السيد زهير : " زوجتي وسليم " وسكت برهةً ثمَّ قال : " وربَّما
جاري ربيع " .
نظر له الضابط طويلاً ثمَّ قال : " ولماذا تردَّدْتَ عند ذكر جارك
ربيع ؟ " .
قال السيد زهير : " لأنِّني أعلم أنَّه مسافرٌ ، وخُيِّل لي ليلة
أمس أنَّنِي سمعت صوتاً في شقته التِي تقع أعلى شقتي " .
قال الضابط : " ومن هو سليم ؟ " .
قال السيد زهير : " صديقي المقرَّب وقد كان بصحبتي صباح أمس عندما
سحبْتُ الجوهرة من البنك " .
قال الضابط : " وماذا يعمل ؟ " .
قال السيد زهير : " إنَّه مدير شركة الفجر للإلكترونيات " .
قال الضابط : " هل أمنْتَ على الجوهرة ؟ " .
قال السيد زهير بترددٍ : " نعم .. ولكن هذا ليس بأهميةٍ عندي فأنا
كنْتُ سأبيعها و .... " .
قال الضابط : " ولكن قد تقبض ثمن التأمين و ....... " .
سكت الضابط ووضح أنَّ قصده قد يكون السيد زهير باع الجوهرة سراً ثم
زعم سرقتها ليقبض من جهتين ...
قال زهير محتداً : " هل تتهمني يا سيادة الضابط ؟ " .
قال الضابط وهو يبتسم بغموضٍ :
" لا يا سيد زهير أنا لا أتهم أحداً الآن ، ولكنَّنِي أفترضُ " .
****** ****** ******
ظهر يوم 1 / 5 :
قال الضابط : " أين كنْتَ يا سيد رمزي يوم 30 / 4 ؟ " .
قال السيد رمزي : " في محلي حتى الساعة التاسعة مساءً ثمَّ ذهبْتُ
إلى منزلي وقضيْتُ السهرة مع زوجتِي فترة وقوع السرقة في الساعة العاشرة
والنصف ، وهي ستشهد بذلك " .
قال الضابط : " وكيف علمْتَ بموعد السرقة ؟ "
ارتبك السيد رمزي وقال ببطءٍ شديدٍ :
" لا تنسَ يا سيادة الضابط أنَّ السيد زهير قد اتفق معي على بيع
الجوهرة !!".
قال الضابط : " أمتأكد أنَّه قد أخبرك بالسرقة ؟ ! " .
قال السيد رمزي بارتباكٍ ظاهرٍ : " ربَّما هو من أخبرني ... ربَّما
سمعْتُ منك .. لماذا استدعيتموني إذاً .. !! " ..
نظر له الضابط بعمقٍ وهو يفكر ... بالتأكيد ستشهد زوجته لصالحه فيما
لو كان هو السارق ، والغريب في كلام السيد رمزي أنَّه يعلم بموعد السرقة
والضابط متأكد أنّه لم يخبرهُ ، ربَّما فعل زهير ولكن هذا دليلٌ لا تقبل
به المحكمة!!
****** ****** ******
عصر يوم 1 / 5 :
قال الضابط : " أين كنْتَ يا سيد ربيع يوم 30 / 4 ؟ " .
قال السيد ربيع : " كنْتُ مسافراً إلى حمص من يوم 29 / 4 وأقمْتُ
ثلاثة أيام بلياليها هناك ، وقد عدْت اليوم صباحاً عند الساعة الثامنة
والنصف " .
قال الضابط : " وماذا كنت تفعل في حمص ؟ " .
قال السيد ربيع في ثقةٍ : " أنا أعمل في شركة ( المعصرة ) لتوزيع
زيت الزيتون داخل البلد وخارجها ، وقد كنْتُ هناك للتسويق للبضاعة " .
قال الضابط : " أخبرني كيف قضيت ليلة 30 / 4 ؟ " .
قال السيد ربيع : " تنزهت في حمص وشوارعها القديمة ، في شارع
الدبلان ، وتعشيْتُ في مطعم أبي اللبن ، ثمَّ سهرْتُ في مقهى لا أذكر اسمه
ولكنَّه قرب مبنى البريد حتَّى الواحدة ليلاً ، وعدْتُ إلى فندقي !! "
قال الضابط : " هل يشهد موظف الفندق بعودتك في هذا الوقت ؟ " .
قال السيد ربيع بعد التفكير : " لا أظنه رآني فقد كان البهو فارغاً
، وصعدت غرفتي فوراً " .
قال الضابط : " غريب أتحتفظ بمفتاح الغرفة معك ؟ " .
قال السيد ربيع متردداً : " هذه عادتي كلَّما سافرْت إلى حمص ، وهم
يعرفونني فلذلك يتركون المفتاح معي !! " .
وبعد لحظةٍ من الصمت تابع السيد ربيع قائلاً :
" وخرجْت من الفندق في الساعة السادسة وأتيْتُ رأساً إلى مدينة
اللاذقية" .
فكَّر الضابط المسافة بين حمص وحمص ساعتان ، وهي كافية ليعود ويسرق
الجوهرة ، ثمَّ يرجع إلى حمص من جديد وكأنَّه لم يفعل شيئاً .
****** ****** ******
في وقت متأخرٍ من عصر يوم 1 / 5 :
قال الضابط : " أين كنْتَ يا سيد سليم يوم 30 / 4 ؟ " .
قال السيد سليم : " قضيْتُ الفترة الصباحية مع صديقي زهير فقد طلب
منِّي التوجه معه للبنك لأنه يريد سحب جوهرةٍ غاليةٍ ليبيعها اليوم " .
قال الضابط : " ومساء اليوم " .
قال السيد سليم : " كنَّا في الشركة حتَّى الساعة الثانية عشر ليلاً
" .
قال الضابط : " وهل من العادة التأخر هكذا ؟ " .
قال السيد سليم : " بالتأكيد لا ، ولكنَّن استلمنا بضاعةً مهمةً عصر
أمس ولم نستطع مغادرة الشركة حتَّى نتأكد من رصِّ البضاعة في المخزن " .
قال الضابط : " من يشهد بذلك ؟ " .
قال السيد سليم : "في الحقيقة بقيت السكرتيرة حتَّى التاسعة ،
وبقيْتُ وحدي أتابع العمل " .
قال الضابط : " يعني كنْتَ مع العمَّال " .
قال السيد سليم : " لا ... لا هناك رئيس العمَّال وأنا في مكتبِي ،
ونتواصل أنا وهو عن طريق الجوَّال " .
قال الضابط : " علمنا أنَّك تمرُّ بضائقةٍ ماليةٍ كبيرةٍ " .
قال السيد سليم منزعجاً : " ماذا ؟ كيف علمتم ؟ " .
قال الضابط وهو يبتسم بغموض : " لنا وسائلنا الخاصة " .
قال السيد سليم وهو يزفر : " نعم كنْتُ في ضائقة مالية ، فأعمالنا
تدهورت في الفترة الأخيرة " .
وبعد صمتٍ وجيزٍ تابع السيد سليم : " لكن يا سيادة الضابط صفقة أمس
كانت ستنتشلنا من الضائقة المالية .. " .
****** ****** ******
عن المغرب يوم 1 / 5 :
قال الضابط : " السيدة غادة كيف علاقتك مع زوجك السيد زهير ؟ " .
نظرت له السيدة غادة بدهشةٍ ممزوجةٍ بغلٍّ وقالت : " وما دخل شؤوننا
الخاصة بالسرقة ؟ " .
قال الضابط مبتسماً : " قد يكون لها أكبر الأثر " .
قالت السيدة غادة: " علاقتنا جيدة " .
قال الضابط : " الذي ترامى إلينا وجود مشاكل بينكما " .
تمتمتْ السيدة غادة: " مشاكل !! " .
قال الضابط وهو يميل إلى الأمام : " وربَّما قد طلبْتِ الطلاق منه
مؤخراً " .
قالت السيدة غادة وهي ترمقه بغضبٍ : " حسناً .. هذا صحيح ، فقد
أصبح لا يُطاق ، بخيلاً ، وكرهْتُ العيشَ معه " .
****** ****** ******
مساء يوم 1 / 5 :
قال الضابط لمساعده : " هل عرفْت المجرم ؟ " .
قال المساعد : " كلهم مؤهلون يا سيدي لسرقة الجوهرة . " .
قال الضابط : " كيف ؟ " .
قال المساعد : " السيد زهير من أجل التأمين ، والسيد رمزي لا شاهد
له إلا زوجته ولن تشهد بما يضره لو اتفقا ، والسيد ربيع يستطيع العودة من
حمص ويسرق الجوهرة ثمَّ يعود إلى حمص وكانَّ شيئاً لم يكن ، والسيد سليم
يستطيع الخروج والسرقة وبالتأكيد سيشهد رئيس العمال أنَّه كان على اتصالٍ
دائمٍ به لأنَّه يكلمه عبر الجوال وسيفعل ذلك من أيِّ مكانٍ ، حتّى الزوجة
تملك الدافع فهي على شفير الطلاق معه " .
قال الضابط : " أحسنت لخَّصْتَ الموقف جيداً " .
ثمَّ أردف : " لكنِّي عرفْتُ الجاني !! " .
قال المساعد : " كيف ؟ "
قال الضابط : " تذكر أنَّ شهر نيسان ثلاثون يوماً ، ولو كنْت في
اليوم التاسع والعشرين منه مسافراً وعدْتَ في الأول من أيار فكم يوماً
قضيْتَ خارج المدينة؟".
قال المساعد : " بالتأكيد يومين فقط بما فيه يوم التاسع والعشرون "
.
قال الضابط : " وبالتالي كذَّب علينا ربيع حين زعم أنَّه قضى ثلاثة
أيام خارج المدينة " .
أضيفت
في20/05/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب
النَّبأ الحزينُ
لا تزالُ أُمِّي شجرةً غرست ثمارها في قلبِي وأينعت ثمارها محبَّةً في
روحي، ولئِن طواها الموتُ في عالمِ الغيبِ فإنَّ ذكراها ستبقى منارةً لظلمة
النَّفسِ التِي تفتقدُ الحنانَ الأبديَّ!
ولكن كيفَ تلقَّيْتُ نبأ وفاتها رحمها الله تعالَى ؟!
كنْتُ في مدرستِي ، وقد أدخلوها قبل أيَّامٍ في المشفَى وقد زعم الطبيبُ
أنَّ عِلَّتها هيِّنةٌ، ولكنَّهم أخطؤوا في علاجها، مِمَّا اضطَّرهم لإجراء
عملٍ جراحيٍّ في قلبها، ولكنَّ قلبها الذي وسعنا جميعاً وأغدق محبَّةً على
من حوله لم يستطعِ التحمُّلَ فكان يوم الأربعاء الذي أسلمت فيهِ روحها
للبارئ سبحانه وتعالَى، وكما قُلْتُ لكم كنْتُ في مدرستِي آنذاك ، و.....
دعونِي أسترسلُ لكم في خواطري ...
حينَ أتانِي النبأُ الحزينُ ؛ نبأُ وفاةِ أُمِّي الطَّاهرةِ ، لَمْ
أُكذِّبْ أُذُنِي بِقَدَرِ ما وجدْتُ نفسِي مُتقلِّباً بيْنَ الدَّهشَةِ
واليَقِيْنِ ؛ الدَّهشَة من أنَّ هذا يَحدثُ للآخريْنَ، فكيفَ حدثَ لنا ؟
واليقيْنُ وهو نوعٌ من التَّسليْمِ بقضاءِ اللهِ تعالَى ، فكأَنـَّما كانَ
الْخبَرُ برداً وسلاماً على قلبِي ، إذْ ما نَفْعُ البُكاءِ والعويْلِ ،
فَمَنْ ماتَ لن يعودَ إلى هذهِ الدُّنيْا .
وكأَنـَّما انكشفَتْ أمامِي الـحُجُبُ ، وانْمحتِ الـمسافاتُ ،وشَخُصَ وجهُ
أُمِّي الطيِّب لعينِيَّ ، وهي – كعهدي بِها – تبتسمُ ابتسامتها العذْبُ
الحنون التِي تغسلُ بِها كُلَّ تعبِ الدُّنيا حيْنَ أراها ، وأصغيْتُ
لأسمعَ صوتَها الدَّافِئ ، يقول لِي ألاَّ أحزنَ ، فهيَ قد عادتْ بعدَ
رحلةٍ طويلةٍ فِي دُنيا الشَّقاء ، إلى بارِئِها الذي لَنْ يضيمَها .
وتداعتِ الذِّكرياتُ كالشلاَّلِ الدَّافقِ ، يَهدرُ في السَّمعِ ،
وارتدَّتْ بِي بعيداً إلى الطفولةِ ، حيثُ كنْتُ أحبُو وما إن أكادُ أقعُ
أرضاً حتَّى تُهرع أُمِّي لتتلقفَنِي، وحيْن كبُرْتُ قليلاً حرصتْ على
تعليمِي الصَّلاةَ والدِّيْنَ والعِلْم – بِقدرِ ما تفهمُ – وكم كانتْ
تطيِّبُ خاطري كُلَّما أزعجنِي شيءٌ ، وما أزالُ أعيشُ تفاصيلَ تلكَ
الليلةِ التِي افترسنِي فيها ذلك الألمُ الرَّهيبُ في أسنانِي ، وكانتْ
دموعِي تنهمرُ من شدَّةِ ما أُعانيهِ ، وحينما رأتنِي تلك الطَّاهرةُ
ضمَّتنِي إلى صدرها الدافِئ، ووضعْتُ رأْسِي على صدْرِها الحنون، وبيدِها
الحانيةِ تُربِّتُ على رأسي ، فواللهِ ما شعرْتُ بالألمِ إلاَّ وقدْ زالَ ،
فكانتْ – كما هي دائِماً – بلسماً وشفاءً، وغفوْتُ قريرَ العيْنِ هانئاً
سعيداً ، وأنا على حضنِها .
كنْتُ برّاً بِها عطوفاً عليها ، أحبُّها أصدقَ الحبِّ، لأنَّها القلبُ
الوحيدُ الذي أعطى وأجزلَ العطاءَ دون أن ينتظرَ مقابلاً لعطائهِ، وهي
الرُّوحُ التِي وهبتنِي الحنانَ والصِّدقَ من غيْرِ غايةٍ، وكثيراً ما
كنْتُ في الليالِي أجثو جالساً عند قدميها أشمُّ عند قدميها الطاهرتيْنِ
ريْحَ الجنَّةِ ، وأتأمَّلُ وجهها المليء بتجعُّدات السنين ولكنَّهُ مضيءٌ
بنورِ الرحمن، فأرى الهمومَ على مُحيَّاها فأسألُها فتقولُ:
( إنَّها همومكم يا بُنِيَّ ) ..
عاشتْ في مطبخها لتطبخَ لنا وتطعمنا، وعاشت في كلِّ ليلةٍ تفكِّر في
مشاكلنا وهمومنا وآلامنا، وماتتْ وهي على ديدنِها تفكِّر ماذا ستطبخُ لنا
في غدٍ ؟
كم قُلْتُ لها عن وصاتِها لنا فكان قولُها :
( أحِبُّوا بعضكم بعضاً ، بقدرِ ما تحبُّونَنِي أخلِصوا لبعضكم ) .
رحمكِ الله تعالى أيَّتها الأم الغالية ، نِعْمَ الأمُّ كنْتِ ، قدَّمْتِ
لنا عصارةَ عمرِكِ، وضحَّيْتِ بزهرةِ شبابِكِ وأنْتِ تُربِّيننا وتحنيـنَ
علينا، لتريننا ناجحيْنَ في دنيانا، سأَظلُّ ولداً صالحاً لكِ ، وأدعو في
كلِّ وقتٍ ليدخلكِ الله تعالَى في فسيحِ جنَّاتهِ، موقناً أنَّهُ مهما
نقدِّمُ للأمِّ نبقى مقصِّريْنَ في حقِّها.
كفكفْتُ دمعةً كبيرةً سالت على خدِّي وقلْتُ لنفسي:
( سأبقى على عهدكِ يا أُمِّي ، لن أنساكِ ، وسأدعو الرَّحيمَ يتغمَّدُكِ
برحمته الواسعة في كلِّ صلاةٍ، وسأسيرٌ على خطاكِ في فعلِ الخيْرِ وحبِّ
الآخرين )..
السِّندباد المهزوم
تقتربُ سفينةٌ من ساحل البحر في الخليج العربي لتحطَّ بالقرب من العراق،
وعلى ظهرها يقترب رجلٌ يبدو على وجهه علامات الشجاعة وإن بدت مسحةٌ من
الحزن على وجهه، ويدنو من رجلٍ آخر واقفٍ على حاجز السفينة يضع عمامةً
ملونةً ويملأ اليأس وجهه حتَّى إنَّ كتفيه تَهدَّلا ، فيربِّت على كتفيهِ
قائلاً :
" هوِّنْ عليك يا سندباد ، تكاد تتلف حزناً " .
قال السندباد وهو يزفر بحسرةٍ : " لا أستطيع يا علاء الدين ، إنَّ تعاستِي
لا تُوصف " .
قال علاء الدين : " لكنَّك بفعلك هذا ويأسك ستمرض وتموت !! " .
قال السندباد : " ليتها كانت هذه الرحلة القاضية " .
قال علاء الدين مهوِّناً عليهِ : " إنَّك رجلٌ مؤمنٌ بالله تعالى ، ولا
يرضى الله ما تصنعه بنفسك " .
قال السندباد : " تعلم يا علاء الدين أنَّني كنت أؤمِّــل أن أعود من
رحلتي الأخيرة ظافراً غانـماً، لكنَّني بدلاً من ذلك رجعت خائباً صفر
اليدين " .
قال علاء الدين : " احمدِ الله أنَّك عدت سالماً ، فقد رأينا في رحلتنا ما
تشيب له الولدان ، وكاد الموتُ يفترسنا أكثر من مرَّةٍ " .
قال السندباد : " الحمد لله على نجاتنا ، فلولا رحمته لهلكنا ، ما يحزنني
الديون الكثيرة التي أثقلت كاهلي ، ماذا سأقول لأصحابها الآن ؟ " .
قال علاء الدين : " قل لهم الحقَّ ولا تخش في الله لومة لائمٍ " .
قال السندباد : " أتراهم يصدِّقونني ؟ "
نظر علاء الدين إلى السندباد وهو يبتسم قائلاً :
" سيفعلون ذلك ، فهم لم يعهدوا فيك كذباً " .
قال السندباد : " وماذا بعد أن أخبرهم بخيبتنا ؟ من أين سأسدِّد لهم
النفقات المترتِّبة عليَّ ، حتَّام سيصبرون ؟! إنَّك تعلم يا علاء الدين
كيف كان حالي قبل السفر ؟ قد كان الحضيض لا أكاد أملك قوت يومي ، ثمَّ
استعنت بالله واستدنت من أصحابي التجَّار ، فأعطوني عن طيب خاطرٍ آلافاً
من الدنانير دون أن يسألوني عن مصارفي لها ، واشترينا السفينة والبضاعة
وجهَّزناها للرحيــل،
ثمَّ كانت رحلتنا الخائبة هذه وخسرنا كلَّ شيءٍ ، فكيف أُخيِّب أملهم بي
وهم ينتظرون منِّي سداد نقودهم ؟ " .
قال علاء الدين : " لم يبقَ أمامك إلاَّ أن تبيع السفينة، وسدِّد بثمنها
ديونك" .
نظر السندباد إليهِ مفكِّراً وهو يردِّد وراءه : " أبيع السفينة!! " .
سارع علاء الدين بالقول : " أجل .. أجل ، لم تعد تنفعك في هذه الآونة وأنت
مفلسٌ .. " .
قال السندباد : " هبْنِي بعتها ، فستخسر لأنَّها بضاعةٌ مستعملةٌ " ..
قال علاء الدين : " شيءٌ خيرٌ من لا شيءَ " .
قال السندباد يائساً : " أ هذا مآلي أبيع لأفقد رأس مالي ؟!. وليت ذلك
يكفي، إنَّه بالكاد يخفِّف عنِّي بعضاً من الديون المتراكمة " .
قال علاء الدين : " كما قلت لك سيردُّ شيئاً من أموال التجَّار التي لهم
عليك ".
قال السندباد : " ماذا سأعمل بعدها؟ أشعر أنَّها نهايتي كتاجرٍ يا علاء
الدين!! قدري أن أعود ذليلاً كسيراً ".
قال علاء الدين : " دعْ عنك اليأس .. " .
قال السندباد : " لو أنَّني أجد التفاؤل مثلك لهان عليَّ الأمر ، ولكنْ ...
"
ارتفع صوت قبطان السفينة وهو ينادي بالبحارة أن يطووا الأشرعة ويخففوا سرعة
السفينة، وتسارعت حركة البحارة لتنفيذ الأوامر الصادرة إليهم، ثمَّ يقترب
القبطان من السندباد يهنئه بالسلامة ، فلا يردُّ فتعجب القبطان وسأله عمَّا
دهاه، حينها قال السندباد: " لقد عدنا إلى حيث أغرق في الديون والهم ،
واجترار مرارة الحزن " .
فقال القبطان : " لا تبتئسْ ، فقد خضت غمار رحلاتٍ كثيرةٍ وانتصرت فيها ،
واليوم خسرْتَ لابدَّ من غالبٍ أو مغلوبٍ ، هذا ناموس الكون ولا يستسلم
المؤمن لعجزه ، و إلاَّ انتهتِ الدنيا من أوَّل لحظةٍ نفشل فيها .." .
أمَّن علاء الدين على كلامه قائلاً : " المهم أن ننهض من فشلنا أصلب ممَّا
كنَّا".
* * * *
بعد أيَّامٍ كان علاء الدين يتجوَّلُ في أحــد أسواق بغداد الشعبية ،
وبينما هو يتجوَّلُ يرى السندباد عند أحد المحلات واقفاً وكأنه يبحث عن
شيءٍ ،فيهرع نحوه ، ويسأله عمَّا يفعل ..
قال علاء الدين : " سندباد ! ماذا تفعل في مثل هذا المكان ؟ " .
قال السندباد : " أعمل كما ترى .. " .
قال علاء الدين : " أيَّ عملٍ تقوم به في السوق الشعبي . " .
ينظر السندباد إلى الناس الآخرين الذين يفترشون الأرض يبحثون عم عملٍ من
أيِّ رجلٍ يمرُّ بِهم ثمَّ قال: " حمَّالاً . " .
نظر إليهِ قال علاء الدين متحسِّراً ثُمَّ قال : " أوَّاه يا سندباد !!
من أثرى أثرياء بغداد لمهنة حمَّالٍ . " .
يبتسم السندباد ابتسامةً حزينةً وقال : " الثراء هذا كان حلماً عابراً في
الزمان الغابر ، أمَّا الآن فعليَّ أن أعيش واقعي كما هو من غير تزييفٍ ولا
تنميقٍ ، فحال الدنيا لا يدوم . " .
قال علاء الدين : " لكن ما حملك على أن تحترف مهنةً متعبةً كهذه ، ففيها
تلفٌ للأبدان من كثرة حملها للأثقال ." .
نظر السندباد إليه طويلاً ثمَّ قال : " وهل وجدت عملاً أقوم به غير ه ؟
لقد كلَّتْ قدماي وأنا أتنقل من بابٍ لآخر دون فائدةٍ ، فرضيت بما قسم الله
لي.".
قال علاء الدين : " لكنَّها مهنةٌ غير مُشرِّفةٍ لمن هو في مركزك ؟ " .
قال السندباد : " أيُّ مركزٍ هذا الذي تحدثني عنه ؟ لقد ضاع لغير رجعةٍ ،
كل ما عليَّ الآن هو أن أفيَ التزاماتي ، وأرجع الأموال لأصحابِها ، كفاهم
فضلاً عليَّ أنَّهم أجَّلوني لفترةٍ من الزمن " .
ويُقبل رجلٌ يرتدي ثياباً فاخرةً ، ويبدو من هيئته أنَّه واسع الثراء ،
يُومئُ للسندباد دون الآخرين الذين تَهافتوا حوله وهم يعرضون عليهِ أن
يحملوا متاعه الذي معه ، ويرفض الرجل ويختار السندباد ويقول له بغلظةٍ :
" هيَّا احملْ أشيائي أيَّها الحمَّال .. " .
ويمضي السندباد في صمتٍ علامات القهر على وجهه ويحمل أغراض الرجل، وينوءُ
السندباد بالحمل الثقيل على ظهره ويسير وراء الرجل المتعالي ، وعلاء الدين
يشيعه بنظراتٍ ملؤها الحسرة وهو يقول في نفسه : " مسكين يا سندباد ، ماذا
فعلت بكَ الأيام ؟ كم كنْتَ رحيماً بالحمَّالين لا تعاملهم بفظاظة ٍ
كما يعاملك هذا الرجل ! حقاً كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام :
[ارحموا عزيز قومٍ ذلَّ ] ." .
يمضي السندباد بحمله الثقيل والرجل يسير أمامه حتَّى خرجا من السوق، ثمَّ
التفت الرجل إليهِ وقال : " أسرع يا لك من حمَّالٍ كسولٍ " .
يلهث السندباد وهو يقول : " إنَّ .. الحمل .. ثقيلٌ يا سيدي. " .
قال الرجل : إن كنت لا تجد في بدنك القدرة والقوة على حمل الأثقال على ظهرك
، فلِمَ تعمل في هذه المهنة المضنية ؟ " .
قال السندباد لاهثاً : " إنَّها الحاجة أيُّها .. السيد .. الفاضل .. " .
يقف الرجل قليلاً ويتفرَّس في السندباد ويقول له : " لا أعلم لماذا بدا لي
من أول لحظةٍ رأيتك فيها أنَّنِي أعرفك ، كما أنَّ هيئتك لا تدلُّ على بؤسٍ
قديمٍ ، بل فيها آثار نعمةٍ لم تنمحِ بعد . " .
يتابع السندباد سيره دون أن يتكلَّم مع الرجل الذي يحدِّق فيه وهو يَهزُّ
رأسه كلَّ حينٍ محاولاً أن يتذكَّر أين رأى السندباد ، ولمَّا وصل إلى داره
قال الرجل وهو ينقده نقوده : " أخبرْنِي ما اسمك ؟ " .
قال له السندباد مراوغاً : " أيهمُّك معرفته ؟ " .
يمسك الرجل بكيس نقوده ويقول له : " بالتأكيد " .
يقول السندباد بعد تردُّدٍ : " السندباد .. يا سيدي.".
يشرق وجه الرجل وهو يمسك بيد السندباد : " السندباد يا صاحبِي ، ألم أقل
لك إنَّني أعرفك أيُّها السندباد ، أيُّها البحَّار العظيم الذي
ملأ صيته آفاق الأرض من مشرقها إلى مغربِها ؟ ألم تعرفني أنا عبد الرحيم
!! "
ينظر السندباد إليهِ بإمعانٍ : " نعم أنت أكبر تاجر توابل في بغداد ، ولكن
لقاءاتنا قليلةٌ لذا لم أعرفْك في البداية يا عبد الرحيم ! " .
قال عبد الرحيم : " ولا أنا يا سندباد، لكن قلْ لي لماذا تعمل في هذه
المهنة الشاقة التي لا تليق بأكبر تاجرٍ من تجار ديارنا ؟! " .
يزفر السندباد في لوعةٍ السندباد : " إنَّها قصَّةٌ طويلةٌ يا عبد الرحيم
. " .
يمسك عبد الرحيم بيد السندباد : " واللهِ لن تذهب اليوم دون أن تتغدَّى
عندي.".
يحاول السندباد التملُّص فيواصل عبد الرحيم قائلاً : " الدار لك ونحن ضيوفك
، ثمَّ إنَّني في شوقٍ شديدٍ لسماع قصتك ، ولعلَّني أساعدك في محنتك هذه .
" .
* * * *
جلس السندباد في مجلس عبد الرحيم بعد أن فرغا من تناول الغداء، وتابع
حكايته :
"حملْنا ما جنيناه من أموالٍ في السفينة ، وكان في وداعنا ملك البلاد
وأعوانه وأكابر أهل مملكته من الأعيان والتجَّار ، و أبحرنا في الصباح
الباكر فقد كانت الريح قويةً وتتجه نحو الشرق، وبعد ثلاثة أيَّامٍ هدأتِ
الريح فجأةً ، وكفَّت السفينة عن المسير ، ولم نجزعْ فهو أمرٌ طبيعيٌّ في
البحر وحين بدأ الظلام يلقي عباءته السوداء رأينا ضوءاً متهادياً نحونا،
وتحفَّزنا فليست مثل هذه الأضواء سارَّةً خاصةً وأنَّها كانت خافتةً لا
كما نجدها من السفن الأخرى ،وما إن دنا من سفينتنا حتَّى عرفنا أنَّه قاربٌ
قويٌّ يعمل بالتجديف ويمتلكه جماعةٌ من القراصنة المخيفين ، انقضوا علينا
كلمحٍ بالبصر ثمَّ سلبونا كلَّ أموالنا التي جمعناها ولم يبقوا لنا خردةً
من حديدٍ ننتفع بها " .
اعتدل عبد الرحيم في مجلسه وهو يقول : "يا لَلْهولِ ، ألم تقاتلوهم ؟!".
أجابه السندباد بصوتٍ حزينٍ : " أخذونا على حين غرَّةٍ ، فقد كانوا كما
أسلفْتُ لك متستِّرين بالظلام ، ومع ذلك لم يكن أمر سرقتنا هيِّناً ،
قاتلناهم بضراوةٍ، ولكنَّهم تفوقوا علينا بكثرتهم ، فالكثرة تغلب الشجاعة ،
كما أنَّهم متمرِّسونَ بالقتال على ما يبدو، وهكذا عدنا بسفينةٍ خاليةٍ من
الأموال . ".
قال عبد الرحيم : " لا تبتئسْ يا سندباد ، لا مندوحةَ لنا من قبول ما
قسَّمه الله تعالى علينا . "
قال السندباد مؤمِّناً : " ونِعْمَ بما أتى به أمر اللهِ تعالى.".
قال عبد الرحيم : " اسمع يا سندباد لقد كنْتَ يا سندباد رفيقاً بنا نحن
تجَّارَ بغداد، ومن باب ردِّ الجميل أرى أنـَّه عليَّ أن أمدَّ يد العون لك
. ".
قال السندباد بِحزنٍ : " أشكر لك هذا الشعور الطيِّبَ تجاهي " .
اعتدل عبد الرحيم في مجلسه وقال للسندباد : " كلاَّ.. كلاَّ ، لا أمنُّ
عليك، فإنَّه من لم يشكر النَّاسَ لم يشكرِ اللهَ تعالى،وقد كنْتُ ممَّن
لحقني فضلٌ منك في سالف الأيَّام ، وقد كنْتُ أدعو اللهَ تعالى أن يأتي
يومٌ أردُّ لك فيه الجميلَ فلا يكفي الشكر وحده بل المعونة معه ،
اسمعنِي يا سندباد ، ما رأيك أن تعمل معِي فأنا في حاجةٍ لرجلٍ بارعٍ
أميـنٍ مثلك . ".
فكَّر السندباد قليلاً ثمَّ قال : " ماذا سأعمل معك ؟ ".
قال عبد الرحيم : " تديرُ لِي أعمالِي الـمُتنامية " .
قال السندباد : " لا أكتمك سرَّاً أنَّنِي أجد في نفسي حرجاً من أن أكونَ
ثقيلَ الظلِّ أو عالةً على غيري .".
قال عبد الرحيم : " أدرك تماماً شعورك فأنت تأبى على نفسك أن تعمل عند
الآخرين ، وقد كنْتَ سيِّدَ نفسكَ ، لكنْ ثقْ أنَّك حُرٌّ ، وستكون شريكاً
لي أكثر منك معاوناً لِي ، ثمَّ باللهِ عليكَ أليسَ هذا خيراً من حَمْلِ
أثقالِ النَّاس ، وأنت لم تُخلقْ للأعمال الشَّاقَّة ؟
ابتسم السندباد وهو يشعر براحةٍ كبيْرةٍ وقال : " إذن توكَّلْنا على اللهِ
، وعليه فليتوكَّلِ المتوكِّلونَ " .
قال عبد الرحيم : " قبل كل شيءٍ سأُسدِّد ديونكَ للتُّـجَّار . " يرفع
يده في وجه السندباد الذي يهم بمقاطعته قائلاً : " وهكذا يصبح ديناً
واحداً بدل من تفرُّقه هنا وهناكَ ، وأنا لن أطالبَكَ به" كما يفعل الآخرون
".
قال السندباد متأثراً : " شكراً لك يا عبد الرحيم والحمد للهِ ربِّ
العالمين . " .
عبد الرحيم : حين سأُرسلك في تجارةٍ لي ، ستكونُ شريكاً وستجنِي الأموال
الكثيرة الَّتِي ستُغطِّي الدَّينَ .
السندباد : غمرْتَنِي بفضلك يا عبد الرحيم !
عبد الرحيم : والآن أظنُّ لم يبقَ في نفسكَ شيءٌ .
السندباد : فعلاً .
عبد الرحيم : على بركةِ اللهِ .
* * * *
نزل السندباد وقدِ ارتدى حلَّةً جديدةً إلى السوق الشعبي في بغداد لممارسة
عمله حينما التقى بصديقهِ العزيز علاء الدين الذي بدا مسروراً ومندهشاً
لِما بدا على حال السندباد من تغيُّرٍ نحو الأفضل ويعانقه قائلاً:
" الحمد لله الذي ردَّ لك النعمةَ بعد زوالها " .
قال السندباد بتأثرٍ : " إي واللهِ الحمد لله عساها تكونُ غمامةَ صيفٍ
عابرةٍ ".
قال علاء الدين : " إن شاء الله القدير ، قُصَّ عليَّ يا سندباد خبركَ " .
قال السندباد : " أرأيتَ بالأمسِ حين رحلت عنِّي ورافقْتُ ذلك السيِّد
الغني حاملاً له متاعه " .
قاطعه علاء الدين قائلاً : " أذكرهُ ، وأذكر أنِّي انصرفْتُ أرثي لحالِكَ
أسِفاً على ما جرى لك . " .
تابع السندباد : " دعاني الرجل لمجلسه بعد أن عرفَ أنَّني السندباد ، وقد
كنْتُ قدَّمْتُ لهُ إحساناً في يومٍ بعيدٍ ، وهو يذكره أما أنا فلا ، وآل
عبد الرحيم على نفسه ردَّ الدَّينِ القديم لي ومساعدتِي في محنتِي ،
وعيَّنَنِي وكيلاً لأعمالهِ . " .
قال علاء الدين مبتهجاً : " سبحان مقسِّم الأرزاق ، فما تدري نفسٌ ماذا
تكسب غداً ، ورزقكم في السماء وما توعدونَ . ".
بينما الصديقان يتكلمان في أمورٍ أُخرى إذ يقبل عددٌ من جنود السلطان
قادمين نحوهما بعد أن سألا عدداً من الباعة وقال لهما أحد الجنود : "
أيُّكما السندباد؟".
قال السندباد له مستغرباً : " أنا !! " .
قال الجندي : " يأمر مولانا السلطان أن تحضر إلى قصره . " .
قال السندباد : " لماذا ؟ " .
قال الجندي : " لا أعلم ، هي الأوامر أن يُقبضَ عليكَ لتمثلَ بين يدي
مولانا السلطان ، وعليك الطاعة ." .
ينظر السندباد إلى علاء الدين ويمضي مع الجنود دون كلمةٍ، وأُدخلَ السندباد
بعد أن وصلوا إلى قصر السلطان ليمثل أمام السلطان قائلاً له :
" أوقد رجعْتَ من رحلتك الأخيرة يا سندباد ؟ " .
قال السندباد : " كما ترى يا مولانا العادل " .
قال السلطان : " هل عدْتَ كعادتكَ بالكنوز والأموال ؟ " .
قال السندباد بِحزنٍ شديدٍ : " لا .. يا مولاي .. " .
نظر السلطان إليهِ نظرةً جامدةً وقال له : " إذاً أنت تعترف بذنبك . " .
قال السندباد بدهشةٍ : " أيُّ ذنبٍ يا مولايَ ؟! " .
قال السلطان وهو يديم النظر إليهِ : " بلغتْنا شكاوي عديدة من كل أرجاء
الأرض أرسلها ملاييْن القارئين لحكاياتك والمستمعين لها؛ أنَّك خالفْتَ
النِّظام الـمُتَّبع في قصصك فعدْت تجرجر أذيال الخيبة والهزيمة . " .
قال السندباد : " ليس برغبتِي يا مولاي ، فالقراصنة ليسوا من نمط حكاياتِي
، وأنا واثقٌ أنَّ أحدهم تعمَّد وضعهم ليتسبَّب في فشلِي ".
قال السلطان بغضبٍ : " كيف تجرؤ على إحزان ملايين البشر الذين قرؤوا
وسيقرؤون كلَّ حكاياتك فيما بعد، ماذا تظنُّ التاريخ سيقول عنَّا ؟ دولتنا
ضعيفةٌ يعيثُ فيها الـمُخرِّبونَ فساداً ، وأنَّ السندباد نتيجةً لشيوع
الفوضى في عهنا عاد مهزوماً ." .
قال السندباد : " لكنَّ التاريخ سيذكر أنَّ ذلك حدث بعيداً عن بلدنا . " .
قال السلطان بغضبٍ أشدَّ : " لكنَّه سيقول حدث هذا في عهدنا ، أتريد يا
سندباد أن يأخذ النَّاس فكرةً سيِّئةً عن عهدي ؟.ويحك أيُّها المذنب ..خذوه
يعيداً عنِّي لا أريدُ أن أراه ، وألقوه في السجن حتَّى نفكِّر بأمره . " .
ويسحبه الجنود بعنفٍ دون رأفةٍ ، ثُمَّ يدخل الحاجب على السلطان يخبره أنَّ
عبد الرحيم كبير تجار بغداد يطلب المثول عنده، فيأمر السلطان بدخوله ، وبعد
حوارٍ قصيرٍ بينهما قال له عبد الرحيم : " بلغنِي يا مولانا السلطان
أنَّكم قبضتُم على وكيل أعمالِي . " .
نظر السلطان متعجِّباً وقال له : " ومن يكونُ وكيلُ أعمالك ؟ " .
قال عبد الرحيم : " السندباد يا مولاي . ".
قال السلطان : " السندباد وكيل أعمالك !! منذ متى؟" .
قال عبد الرحيم : " منذ الأمس يا مولايَ . " .
قال السلطان : " لماذا يعمل عندك وهو من تجَّار بغداد؟ " .
قال عبد الرحيم : " لقد عاد من رحلته الأخيرة خائباً ، ولأنَّه قدَّم لِي
معروفاً في أحد الأيَّام عيَّنته عندي ليتجاوز محنته " .
قال السلطان : " أحسنْت يا عبد الرحيم ، فردُّ المعروف من الأخلاق
المحمودة في ديننا " .
قال عبد الرحيم : " لكنَّكم حبستموهُ يا مولايَ ".
قال السلطان : " لقد اقترف السندباد في حقنا إثماً لا يُغْتَفرُ على وجه
التاريخ أبداً.".
قال عبد الرحيم : " السندباد يفعل ذلك ، لا أُصدِّق ما أسمعه ، إنَّه رجلٌ
طيِّبٌ ، وما الذي فعله يا مولايَ؟" .
قال السلطان : " أنت قلْتَ قبلَ قليلٍ من أنَّه عاد مهزوماً من رحلته
الأخيرة ، وهذا الذنب الذي ترونه هيِّناً سيجعل التاريخ يقول عن دولتنا
بأنَّها مُلِئتْ جَوْراً وضاع الأمن فيها ، وبهذا سوف يبرِّرونَ خسارة
السندباد ، ويقع اللوم علينا. ".
قال عبد الرحيم : " أنت تعلم يا مولايَ علم اليقين أنَّ السندباد ما كان
يوماً ليعصِي أمراً لكم ، ولم يكن ليفِّكرَ بتاتاً في الإساءة لحضرتكم . "
قال السلطان : " لا ينفع هذا كلُّه عندنا ، ولئنْ شفعنا للسندباد ، فمن
سيشفع لنا في كتب التاريخ ؟ " .
قال عبد الرحيم : " عندي اقتراحٌ لو يأذن لِي مولانا الذي ما عهدنا به
إلاَّ رحابة الصَّدرِ والعدل . ".
قال السلطان : " هاتِ يا عبد الرحيم . ".
قال عبد الرحيم : " تطلقون سراح السندباد وتمدُّونه بالمال ، ثمَّ ترسلونه
في رحلةٍ جديدةٍ لينتصر فيها ويعود ظافراً وبذلك تمسحون عار التاريخ ،
لأنَّه في النهاية لا يصحُّ إلاَّ الصَّحيح . " .
يفكِّر السلطان قليلاً : " يبدو لي أنَّه حلٌّ معقولٌ . " .
قال عبد الرحيم : " إنَّه حلٌّ يرضي جميع الأطراف.".
يأمر السلطان بإطلاق سراح السندباد وإحضارهِ إلى مجلسه ، ولمَّا حضر بين
يديه قال له السلطان : " يا سندباد ، لا نحبُّ أن يكون في عهدنا مظلومٌ . "
.
قال السندباد : " أنت العدل كلُّه يا مولايَ . " .
قال له السلطان : " كما لا نحبُّ أن يكتب التَّاريخ عنَّا ما نكره ، لذلك
رأينا بمشورة عبد الرحيم أن نزوِّدك بالمال اللازم كي تذهب في رحلةٍ
جديدةٍ ، ولكنْ حذارِ أن تعودَ خائباً . " .
قال السندباد : " بإذن اللهِ تعالى لن أعود إلاَّ بما يرضي مولانا العادل .
".
* * * *
وهكذا عاد السندباد مرَّةً أخرى إلى البحر ورحلاته المتكررة التِي يعود
فيها منتصراً بعونه تعالى ليرضى القرَّاء عن هذا التاريخ القصصي في حكايات
ألف ليلةٍ وليلةٍ .
المستهترون
كانَ فهد ٌوليثٌ وأدهم ومهنَّد مجموعةً من الطلاب الذين ينتظمون في مدرسةٍ
واحدةٍ ، ولكنَّهم كانوا من الشباب الطائش الذي يقلق راحة المدرسين ، وكذلك
لم يعد لأهلهم قدرة على التحكُّم بهم .
فليثٌ مثلاً في البيت دائم الجلوس لمتابعة التلفاز ، ولا يستمع لنصائح أمه
وأبيه في الامتناع عن مشاهدة التلفاز ومتابعة دروسه ، بل إنَّ أمَّه مرَّةً
قالت له وقد ارتفع صوت المؤذن بأذان المغرب :
" قم يا ليث لصلاتك فذلك خيرٌ لك ! " .
فقال لها ليث متذمراً : " فيما بعد ... أنا مشغولٌ الآن" .
قالت له أمه : " هل جلوسك أمام التلفاز هو سبب انشغالك ؟ " .
ولا يجيبها لأنَّه مشغولٌ بمتابعة مباراة بكرة القدم ، فتقول أمه وهي تضرب
كفاً بكف : " أتمنَّى أن أعرف الفائدة من مشاهدة مجموعة من الحمقى يلاحقون
قطعة جلدٍ كالمعتوهين " .
وتغادر الغرفة وهي في غضبٍ من إهمال ابنها ..
وهذا مشهدٌ آخر من مشاهد الصدام بين هذا الشباب الطائش وذويهم، ففهد في
غرفته وقت القيلولة وقد جلس على الحاسوب الذي اشتراه له أبوه جديداً منذ
أيام ، يتابع على شاشته مجموعة من الفتيات الراقصات على أنغام أغنية صاخبةٍ
، والصوت العالي يصم الآذان ويدوِّي في أرجاء المنـزل لدرجة أنَّ أباه لم
يستطع النوم بسبب هذه الضجة ، فدخل الأب ثائراً على ابنه وهو يصيح قائلاً :
" اخفض صوت هذا الجهاز اللعين ، فقد صدَّعت رأسي " .
وبالكاد يسمعه فهد نظراً لارتفاع الصوت فقال لأبيهِ وهو يغلق برنامج
الأغاني قبل أن يشاهد أباه المشاهد الخليعة للراقصات :
" ماذا هناك يا أبي ؟! أتسمِّي الحاسوب بالجهاز اللعين ؟ ألا تعلم أنَّنا
في عصرٍ قـد أصبح فيه الكمبيوتر قِمَّة الحضارة ، فلماذا تنعته باللعين ؟ "
.
قال له أبوه وقدِ اشتدَّ غضباً من وقاحتهِ في الكلام معه:
" إذا كانت هذه قِمَّة الحضارة بتلك الأغاني التافهة قاتلها الله من بين
الحضارات، إنَّهم لم يخترعوا هذا الجهاز لمثل هذه التفاهات التي تُدمن
عليها . " .
نظر فهد إلى أبيه نظرةً مليئةً بالحسرة وقال له :
" أنت هكذا دائماً غاضبٌ من أفعالي وتصرُّفاتي ، فمتـَى سأرى على وجهك
علامات الرِّضا عنِّي ؟".
هدأ أبوه قليلاً ثمَّ قال لهُ : " يا بُنِيَّ أليس من الخير أن تقومَ إلى
دراستكَ كالآخرين مِمَّن هـم في مثل سنِّكَ ؟ " .
يقول فهدٌ بضيقٍ " سأفعل ... سأفعل " .
قال أبوه : " بالتأكيد لن تفعل فأنا أعرفك .. ولكنَّ الصوت المرتفع لأغانيك
قد أزعجنا كما أزعج الجيران الذين يشكون منه باستمرارٍ ".
صاح فهد كأنَّه أسدٌ غاضبٌ : " فليذهبِ الجيرانُ إلى الجحيم . " .
قال له أبوه : " لا يا فهد ما هكذا أوصانا اللهُ تعالـَى والرسول الكريم
بِمعاملة الجار ، أتُحبُّ أنت أن يزعجوك في وقت راحتك ؟ " .
قال له فهد : " فليفعلوا ما يشاؤون فهم أحرارٌ وأنا حرٌّ ، أفعل ما
يروقنِي ولا أُبالِي بِهم سواءٌ تضايقوا أم لا !! "
قال له أبوه : " حسبِيَ الله ونِعمَ الوكيلُ ، متَى ستبدِّل طباعكَ
السِّيئة يا بُنِيَّ ؟! لقد تَعِبْتُ كثيراً ".
يزفر فهدٌ بضيقٍ وهو يقول : " أُفٍّ من هذا الكلام ، ألا تَسأمُ من تكراره
على مسامعي لقد حفظْتُهُ أكثر من اسمي " .
قال أبوه بحسرةٍ : " أتتضايق منِّي يا بُنيَّ ، اعلمْ يا بُنِيَّ أنَّنِي
لن أدومَ لك ، والإنسان إن لم يعملْ ويتعلَّمْ فمآلهُ إلى الهلاك ، واللهِ
ما أُحبُّ أن أترك الدُّنيا وأنتَ ماضٍ على طريق الضياع ، وتصاحب أصدقاءك
إخوانَ السُّوءِ ." .
يصيح فهد بصوتٍ عالٍ : " ما خطبُ أصدقائي ؟ إنَّهم من أفضل العائلات ومن
أحسن الناس " .
صاح أبوه : " تأدَّبْ يا ولد ولا ترفع صوتك في وجهي من جديد كل مرة أصبر
عليك وأنت لا تبالي، إنَّك و أصدقاوك الذين تباهي بِهم تسيرون جميعاً في
طريقٍ خاطئٍ ، مثلاً لا أراكَ تصلِّي ، وما سمعتكم ولو مرَّةً ذهبتم معاً
للمسجد في يوم الجمعة " .
بدا على فهد الحرج وهو يتلكأ قائلاً : " نحن لا نَجتمع في هذا الوقت !! " .
وأمَّا أدهم ففي هذه الأثناء التي كان فهدٌ يتصادم مع أبيهِ، كان بدورهِ
يقول لأبيهِ الذي يشجِّعه على الدراسة : "أوووه لقد ضقْتُ ذرعاً من
محاضراتك .".
فجلس أبوه على الكرسي مقابل ليث وقال له :
" ليتها تؤثِّر فيك ، ألا ترى أقرانكَ من الطلاَّب وقد صاروا عـلى مشارف
الجامعة ، وأنت كلَّ سنةٍ دراسيةٍ تقضيها بعامين أو ثلاثة !! ولا تنجح إلا
بمساعداتٍ كثيرةٍ من المدرسين والإدارة .. ما الفرق بينك وبين زملائك الذين
ينجحون بشكلٍ مشرِّفٍ ؟ ألا يحقُّ لِي أن أفتخر بنجاحك كما يفعل الآباء
الآخرون ؟ " .
ينظر أدهم إلى أبيه باستهتارٍ ثمَّ يقول له : " ما ذنبِي أنا إذا كان
المعلِّمون سبب رسوبي ؟ " .
قال له أبوه : " بل قلْ تقصيرك وإهمالك هما السبب ، و إلاَّ لماذا ينجح
الآخرون في حين ترسب أنت ؟ " .
يراوغ في كلامه قائلاً : " أحاول مراراً أن أنجح ولكنَّ النجاح يعاندني ".
وفي بيت مهنَّد جلست الأم الحزينة التِي ترقب ابنها وهو متمدِّدٌ نائماً ،
وقد كان من عادته أن ينام أغلب النهار والليل ، فهو كسولٌ بطبعه ولم تدَّخر
طريقةً لجعله يتنشَّط إلا بذلتها دون طائل ، وأيقظته ففتح عينيه بصعوبةٍ ،
وتثاءب بفمه الواسع وقال لها : " ماذا هناك ؟ إنَّني أرتاح " .
قالت له أمه بأسى : " قم إلى درسك يا بُنيَّ فأنت منذ جئت المدرسة وأنت على
راحتكَ المزعومة هذه منذ ثلاث ساعاتٍ " .
صاح غاضباً : " هل تراقبينَنِي ؟ أتعدين عليَّ أنفاسي وحركاتِي ؟ " .
تفاجأت الأم بثورة ابنها الذي عهدت فيه الخمول والهدوء فقالت له :
" ما بك يا بُنيَّ ؟ واللهٍ عندما كنَّا في عمرك كنَّا لا نجرؤ على رفع
أصواتنا على آبائنا وأمهاتنا .. " .
قال مهنَّد وهو يقهقه : " أنتم نمطٌ تقليديٌّ انقرضَ مع الديناصورات . " .
صاحت الأم بغضبٍ : " ويحكَ أيُّها الفتَى أتسخر منِّي؟ " .
قال مهنَّد بحرجٍ : " معاذ اللهِ يا أُمِّي أنا آسفٌ حقاً، إنَّما كنْتُ
أُمازحكَ وحسب".
ظلَّت الأم على غضبها وهي صامتةٌ فتابع قائلاً : " يا أمِّي لقد ضقْتُ
ذرعاً من توبيخك المتواصل لي كلَّ يومٍ ، وكأنَّه لـمْ يعدْ بينَ النَّاسِ
إلاَّ مهنَّدٌ . ".
قالت له الأم : " لن أنقطعَ عن توجيهكَ الوجهة الصحيحة حتَّى أراكَ رجعْتَ
إلـى الصِّراط المستقيم".
قال : " يا أُمِّي قد صدَّعْتِ رأسي ما إن تنتهِي من سيمفونيتكِ حتَّى
يجيءَ دور أبِي الذي لا يكفُّ عن لومِي بأشدَّ ممَّا تفعلين ".
في أحد أيام الدوام المدرسي يجتمع الأصدقاء الأربعة أمام باب المدرسة وقال
فهد: " يا أصدقائي أبِي وأُمِّي قد ازدادَ تعنيفهما لي ".
فقال مهنَّد ساخراً: " يا للمصيبة !! لم تأتِ بشيءٍ جديدٍ ، كلُّنا في
صعيدٍ واحدٍ
نعانِي هذه الأزمة النفسية الـمهُولة !! " .
وأكَّد أدهم على ذلك قائلاً : " فعلاً يا فهد ، كلُّنا نشكو من مضايقة
آبائنا لنا".
وقرَّر الأصدقاء الأربعة ألاَّ يحضروا وأن يذهبوا لتناول طعام الفطور ،
ثُمَّ يتوجَّهوا إلى السينما ..
وفي يومٍ آخر اتصل فهدٌ بأدهم وطلب منه الاجتماع في المقهى فهو يشعر بالضجر
، وفعلاً حضر الأصدقاء الأربعة وقد طلبوا شيشةً وسجائر وقهوةً وبدؤوا
بتوزيع أوراق اللعب بينهم وليثٌ يقول لهم :
" اليوم سأفوز عليكم جميعاً وسأحصل على النقود كلِّها .. " .
شدَّ ليث نَفساً عميقاً من الشيشة وقال : " يبدو لأنَّك تنسى أنَّنِي هنا "
..
وضحك فهد في صوتٍ مرتفعٍ وقد كان ينفث الدخان من أنفه فكاد يختنق وهو يسعل
بشدةٍ وانتفخ وجهه ثمَّ قال :
" يحقُّ لكما أن تتفاخرا ولكن المهم – وكما في كل مرة – أنا الفائز " .
قال ليث : " قبل أن نبدأ اللعب أريد أن أقول لكم أنَّني سهرت أمس سهرةً
محترمةً حتَّى الصباح ، وصار عمُّكم أبو ليثٍ أشدَّ مِمَّا كانَ عليهِ ،بعد
اتِّصال المدير الأخير صباح أمس بهِ وإبلاغه بِهروبِي الـمُتكرِّر " .
قال مُهنَّد وهو يولع سيجارةً: " لو كنْتُم معي لرأيتمُ العجب ، فلقد
جُنَّ جنون أبِي عليَّ ، ولولا أن حَجَزتْهُ أُمِّي عنِّي لسال الدَّمُ
حتَّى الرُّكَب ، و لـَضَرَبَنِي ضرباً مُبَـرِّحاً " .
قال فهدٌ : " أمَّا أنا فقد اتَّخذْتُ تدابير السَّلامة التِي يوصوننا
بِها في الدِّفاع الـمَدَنيِّ في الواقع آثرْتُ الفرارَ من وجهِ أبِي
الكالِح ، وهذه أوَّل مرَّةٍ أراهُ يغضبُ كلَّ هذا الغضب " .
يضحكون بصوتٍ مرتفعٍ ويسعل فهد وأدهم سُعالاً خشناً ، ثُمَّ قال أدهم :
" يبدو أنَّنِي كنْتُ أسلمُكمْ عقاباً وأوفركم حظَّـاً، فلم ينَلْنِي
شيءٌ إذْ لم يكنِ الأمر بِهذا السُّوء عندي ، فأنا منذ أسبوعينِ أنامُ في
بيتِ جدِّتِي لأؤنسها في وحدتِها ، كما أنَّ أبي مسافرٌ ، ولم تفعلْ أمِّي
حين بلغها الخبر إلاَّ أنِ اتَّصلتْ بِي وعاتبتنِي بقلبٍ حنونٍ فأنا وحيدها
كما تعلمون " .
قال فهد : " لا تضيعوا الوقت في هذه التفاهات التي لا طائل منها ، فبعد
قليلٍ سنخرج في سيارة أبِي ، فقد استطعت أن أحصل على مفاتيحها " ...
ارتفعت أصوات الشباب يعبِّرون عن فرحتهم ...
في اليوم التالي وفي طابور الصباح خرج المدير على الطلاب ثمَّ وقف يخطب
فيهم ونبرة الحزن واضحةٌ في صوته :
" أبنائي الطلاَّب :
يؤسفنِي أن أنقل لكم هذا الخبر الحزين ، فمساء الأمس حدثتْ حادثةٌ مؤلمةٌ
جِدَّاً لأصدقائِـكم في المدرسة فهد وليث وأدهم ومهنَّد ، وهم الآن في
حالةٍ لا تسرُّ أبداً في الـمشفَى . " .
سرت همهمات بين الطلاب لكنَّ المدير رفع يده فسكتوا ، فتابع المدير قائلاً
:
" وقد بلغنِي الخبر من ذويهم في ساعةٍ متأخرة من ليلة أمس ، وهرعت إلى
المشفى لأتابعهم فوجدتهم في حالٍ سيِّئةٍ للغاية ، حيث ألفَيتهمْ وسط
الضماداتِ في وضعٍ يُرثَى لهُ ..
ولعلَّكم ستسألون بعضكم البعض كيف حدث هذا ؟
لقد كان فهدٌ يملك مفاتيح أبيه خلسةً وقد أخذ السيارة آخر الليل ، و اصطحب
زملاءه الذين لا يفترقون عنه، وكان يقودُها في جنونٍ وبتهوُّرٍ ويُفـزعُ
الـمارَّةَ، وكما تعلمون هذا تصرُّفٌ يدلُّ على الرُّعونةِ والطَّيشِ ،
وفجأةً عند منعطفٍ حادِّ الزَّاوية لم يُحسنْ فهد تقدير الـموقف ، ولم
يستطعْ تخفيف السرعة بالقدرِ المطلوبِ ، فمالت السيَّارة معه وفقد زمـامَ
السيطرة عليها فارتطمَ بعمودٍ إسمنتِيٍّ ارتطاماً عنيفاً حطَّم السيَّارة،
واشتعلتْ فيها النَّار وسارع الموجودون بإخراجهم مغمياً عليهم والدِّماءُ
تنـزفُ منهم حتَّى جاءتْ سيَّارة الإسعاف وأخذتْهم للمشفى . " .
قال أحد الطلاب : " كانَ اللهُ في عونِهم وعون آبائهم " .
قال آخر : " هل نستطيع يا أستاذ زيارتهم ؟ " .
قال المدير : " سننظِّم لجنةً من الإدارة والمعلمين والطلاَّب لزيارتهم ،
والآن توجهوا إلى صفوفكم وادعوا الله العليَ القديرَ أن يردَّهم لنا سالمين
" .
وكانت نتيجة الحادث ما يلي : توفِّيَ فهدٌ صبيحة اليوم متأثِّراً بجراحهِ ،
وأدهم سيقضي باقِي حياته على مقعدٍ مشلولاً عاجزاً عن الحركة ، وليـثٌ
ومهنَّدٌ تَجاوزا مرحلة الخطر الجسدي، ويحتاجانِ لوقتٍ طويلٍ لاستعادة
توازنِهما النَّفسي والجسدي .
انتقام ثعلب
يُحكى أنَّ ثعلباً قرصه الجوع فخرج من وكره يبحث عن طعامٍ يقتاتُ بهِ ،
ومضى يتجوَّل في الغابة ، ولسوء حظه كان الجوُّ ينذر بالمطر ، فالسماء
ملبَّدةٌ بالغيوم السوداء المحمَّلة بالماء الذي يتساقط كلَّ حينٍ على شكل
رذاذٍ خفيفٍ استعداداً لهطولٍ عنيفٍ ، لكنَّ ذلك لم يثنِهِ عن متابعة البحث
عن رزقه ، وفكَّر أن يذهب للمزرعة القريبة فلعلَّ الكلب يختبِئ من المطر
فيقتنص دجاجةً ، وفعلاً تسلَّل حتَّى أصبح بالقرب من المزرعة ، ودار حول
السور حتَّى أصبح قريباً من قُنِّ الدجاج ، وانسلَّ من تحت السور بصعوبةٍ ،
وصار يزحف على الأرض الباردة المبللة بالمطر ، وحينما استدار نحو باب القن
بدأت الدجاجات بالصياح لمَّا شعرت بهِ ، وتراجع بسرعةٍ لأنَّه سمع صوت عواء
الكلب حارس المزرعة ، وبالكاد خرج عندما نهشه الكلب في ذنبه فقفز للخارج
وهو يصيح متألماً ، وقال للكلب من وراء السور :
" عجباً لك أيُّها الكلب !! نحن أبناء جِلْدَةٍ واحدةٍ ، وأنت لا تألُ
جهداً في إيذائِي " .
قال الكلب مزمجراً : " أنت عدوي ! " .
قال الثعلب مراوغاً : " بالعكس نحن إخوة وأبناء عم، فلك نفس أنيابي ،
وأذناك كأُذنيَّ ، و..... " .
قاطعه الكلب : " لكنَّنِي لا أُهاجم الحيوانات البريئة وأُؤذيها مثلما تفعل
أنت .".
قال الثعلب : " واللحم والعظم .. أنت تحبُّهما مثلي تماماً ... "
قال الكلب : " أحبُّهما .. ولكنَّنِي لا آخذهما بإيذاء الآخرين ... " .
قال الثعلب : " لِمَ لا نتفق و .... " .
قاطعه الكلب من جديد : " سنتفق عندما تعقد النار صداقةً مع الماء .. " .
يئِسَ الثعلب من الكلب ومضى نحو الغابة من جديد ، وظنَّ أنَّ الحظَّ ابتسم
له من جديد ، فقد وجد أرنباً يتقافز هنا وهناك ، وببطءٍ شديدٍ توارى خلف
شجرةٍ كيلا يشعر بهِ الأرنب ، ثمَّ زحف بين الأعشاب ويبدو أنَّ الأرنب شعر
بهِ فقد توقَّف فجأةً وبدأ يحرِّك أُذنيهِ في مختلف الاتجاهات ، كما بدأت
عيناه تدورانِ في حركةٍ محمومةٍ ، وفجأةً قفز الثعلب نحوه ، فأطلق الأرنب
ساقيهِ للريح ، وبسرعةٍ شديدةٍ جرى نحو جُحرهِ ، والثعلب يجري بأقصى قوته
خلفه ، وقلَّتِ المسافة بينهما ، وما إن كاد يدنو من الأرنب كثيراً حتَّى
دخل الأرنب جحره أسفل شجرةٍ ، ولشدَّة اندفاعه لم يستطع أن يوقفَ اندفاعه ،
فارتطم رأسه بالشجرة وارتمى أرضاً ، والدنيا تدور من حوله ، وكان يرى من
موقعه وهو على الأرض السماء من بين رؤوس الأشجار ، وكل شيءٍ يدور فوقه ،
وعندما بدأت آثار الصدمة تزول عن رأسه ، سمع صوت ضحكٍ بشعٍ يأتي من الأعلى
، رفع رأسه ونظر فوقه فرأى غراباً على شجرة دِلْبٍ باسقةٍ ، فغضب الثعلب من
استهزاء الغراب بهِ وقال له :
" اضحكْ وأنت بعيدٌ ... لو كنْتَ أمامي لِما ضحكْتَ أبداً .. "
قال الغراب : " ها أنت تثبت غباءك من جديدٍ ، هل ترانِي أحمقاً حتَّى أدنوَ
من حتفِي .. أنا أضحك لأنَّ المنظر كان مثيراً للسخرية والشفقة .. فأنت لن
تقدر على اصطياد الأرنب بِهذه الطريقة .. " .
قال الثعلب ساخراً : " وما هي الطريقة الْمُثلَى أيُّها المتحذلق ؟ " .
قال الغراب : " أنا لن أستطيعَ أن أدلَّك على طريقةٍ لاصطياده ، بل أدلُّك
على طريقةٍ أفضل وأريح لتناول الطعام دون بذلِ جهدٍ " .
قال الثعلب بلهفةٍ وقد نسيَ غيظه من الغراب وتذكَّرَ جوعه : " وما هي ؟ " .
قال الغراب : " اذهبْ إلى الأسد وقدِّمْ له فروض الطاعة والولاء ، وستأكل
عنده. " .
قال الثعلب : " كيف سآكل عنده ؟ "
قال الغراب : " عندما يفترس الأسد فريسةً فإنَّه غالباً ما يترك نصفها ،
ويبقى يومين أو ثلاثة دونَ طعامٍ ، ومعروف أنَّ الأسد لا يأكل طعاماً صار
جيفةً فلن يزاحمكَ على بقايا فرائسه .. وأنت تعلم أنَّ الحيوانات المفترسة
لا تجرؤ على الدنو من الأسد لأخذ ما بقي من طعامه ، فلو تقرَّبْتَ من الأسد
كان هذا خيراً من أن يذهب بقايا طعامه هباءً منثوراً .. " .
قال الثعلب وقد راقت له الفكرة : " فكرةٌ جميلةٌ " .
قال له الغراب : " ابدأ بتنفيذها فوراً .. ذلكَ خيْرٌ من أن تبيتَ جائعاً
.. " .
مضى الثعلب إلى عرين الأسد ، وتقدَّمَ من الأسد الذي كانَ جالساً ينظر حوله
وبالفعل كانت أمامه يقايا فريسةٍ سال لها لعاب الثعلب الجائع ، وتمالك
الثعلب نفسه ثُمَّ مضى ببطءٍ وهو ينحنِي نحو الأسد ويقول له :
" صباح الخير يا ملكَ الوحوش ! " .
نظر له الأسد نظرةً فارغةً ، لكنَّها كانت كافيةً لجعل الثعلب يتردَّدُ وهو
يتراجع للخلف خطوةً ، ثُمَّ قال الأسد بصوته المزمجر :
" ماذا تريد منِّي أيُّها الثعلب ؟ ! " .
قال الثعلب وقد شجعه السؤال : " لا أُريد سوى أن أنعم بقربكَ أيُّها الأسد
المحترم ! " .
من جديدٍ عاود الأسد النظر للثعلب وقال له : " وما هي المناسبة التِي
جعلتك تخطب ودِّي " .
قال الثعلب وعلى فمه ابتسامةٌ مداهنةٌ :
" يكفينِي أن أكونَ قربكَ أنعم بالحماية والأمان " .
قام الأسد من مكانه ثُمَّ دار حول الثعلب دورتيْنِ جعلتا قلب الثعلب يكاد
ينخلع من مكانه ، ثُمَّ قال :
" أيُّها الثعلب أعلم علم اليقين إنَّك مخادعٌ ، وأنت قادرٌ على الدفاع عن
نفسك، ولا ريب أنَّ هناك سببٌ آخر جعلك تأتينِي " .
قال الثعلب بعد برهة صمتٍ : " حسناً يا ملك الغابة لن أخدعكَ ، عَنَّ لِي
أن أكونَ لك عوناً في البحث عن الطرائد ، ويكون نصيبِي منها ما يبقى منك
أقتاتُ بِهِ فقد تعبْتُ من الجري وراء الطرائد دون فائدةٍ تذكر غالب
الأحيانِ " .
نظر له الأسد ثُمَّ قهقهَ مزمجراً : " ولكنْ إيَّاكَ من أن تفكِّرَ في
خداعي ، فإنَّ انتقامي رهيبٌ " .
قال الثعلب متردِّداً : " بالتأكيد .. يا سيدي .. بالتأكيد " .
وهكذا أصبح الثعلب يعيش على ما يقدِّمه له الأسد من بقايا طعامه ، وغالباً
لم يكن الأسد يحتاج مساعدة الثعلب ، غيْرَ أنَّ الثعلب قدَّم له أكثر من
مرَّةٍ مساعدةً نافعةً في اصطياد الحيوانات ..
قديماً قالوا دوام الحال من المحال ، ولذلك لم تمضِ أيَّام الصفو والهناء
بين الأسد والثعلب كثيراً ، فذات مرَّةٍ كان الثعلب يتمشَّى في الغابة إذ
وجد نفسه بالقرب من نهر ماءٍ جارٍ ، ووجد عنده قطيعاً من الغزلان يشرب ،
وظنَّ الثعلب أنَّه قادرٌ على اصطياد غزالٍ منهم ، وفعلاً هجم عليهم ولكنَّ
الغزلان فرَّتْ من وجههِ ، وجرى خلفها حتَّى تعب ، وعاد يلهث غيرَ أنَّه
لاحظ وجود غزالٍ يعرج عرجاً خفيفاً مِمَّا جعله أبطأ من بقية الغزلان ،
وهكذا مضى إلى الأسد وأخبره بمكان الغزلان ، ولمَّا كان الأسد جائعاً جوعاً
شديداً فإنَّه هرع إلى المكان ، ثُمَّ كمن بالقرب من القطيع ، وتسلَّل
بخفتهِ وما إن دنا منها حتَّى قفز نحوها فهرعت الغزلان خائفةً ، ولكنَّ
الأسد ركَّز جهده على الغزال الأعرج ، وبالفعل في أقل من دقيقةٍ كان قد
افترسه وجلس يتناول لحمه ، والثعلب يحوم حوله منتظراً دوره، ولشدة جوع
الأسد التهم كلَّ لحم الغزال وترك للثعلب المغتاظ عظاماً لا تسمن ولا تغني
من جوعٍ ، ومضى الأسد لعرينه وألقى نظرة شبَعٍ على الثعلب الذي أغضى بصره
وهو لا يجرؤ أن يعترض وإن كان في داخله يشعر بمرارةٍ فظيعةٍ .
جلس الثعلب بعيداً عن الأسد النائم يفكِّر بطريقةٍ ينتقم فيها من الأسد ،
غير عابئٍ بأنَّه بانتقامه هذا سيقطع عنه الرزق ، لكنَّ الجوع أعمى عينيهِ
، وكان بالفعل قد وصلَ إلى خطةٍ مُحكمةٍ للخلاص من الأسد .
بعد يومين من تلك الحادثة ، جاء الثعلب للأسد يخبره بوجود مكانٍ للصيد حيث
مجموعة من الظباء ، وكان الأسد يحب لحم الظباء فسال ريقه وهو يُمنِّي نفسه
بوجبةٍ لذيذةٍ ، ونظراً لِما يشعر به من جوعٍ فقد كان ذلك سبباً لتعمى
عيناه ، واقتاده الثعلب إلى فخٍّ محكمٍ لأحد صيادي الأسود من البشر ،
ولمَّا اقترب من الفخ ابتعد الأسد الذي وقع في حفرةٍ أمسكت بهِ بسبب فخٍّ
أطبق على كاهله ، وارتفع صوته يستنجد بالثعلب الذي وقف بعيداً وهو يقول :
" هذا جزاء من اغترَّ بقوته ، ونسي ذكاء الضعفاء " .
ولم يكتفِ الثعلب بذلك بل عمد إلى قطيعٍ من حُمُرِ الوحش المعروفة بجريها
كجماعاتٍ ، وحوافرها تهلك من يقع تحتها وبالفعل جاء الثعلب من ورائِها بحيث
يكون وجهها تجاه الأسد وقلَّد زمجرة الأسد ، فارتاعت وجرت جرياً سريعاً
باتجاه الأسد الذي لم يستطع أن يفرَّ من أمامها ، وهلك شرَّ مهلكٍ ، وهكذا
كان انتقام الثعلب مريعاً .
أضيفت
في15/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب
اعذروني يا أحبائـي
الدَّين يثقله كمُذنبٍ يُسأَلُ عن خطاياه يوم الدَّينونة ، حاول مراراً
الخلاص منه لكنْ لم يستطع فكاكاً ؛ كان كابوساً يجثم على روحه ، في الواقع
لقد فشل في أكثر من عملٍ اكتراه ، دائماً النتيجة واحدةٌ وهي الطرد
والتهديد !!
كان في قرارة نفسه لا يأبه بفقره وجوعه اللاذع ، فقد اعتاده منذ زمنٍ لا
يذكر متى عهده به لكنَّه بعيدٌ ، وإنَّما إشفاقه وسعيه الدائب ليسدَّ رمق
عياله الذين التصقت بطونهم بظهورهم ، واقتاتوا التراب ، ومن أجل أن يستر
أجسادهم التي سئمت من الأسمال الـمُمزَّقة ، ولم تعد أمُّهم بقادرةٍ على أن
ترقأَ لهم ثقوبـها لاهترائها ..
كثيرون يظنُّونه لا يحبُّ العمل ، أبداً لقد عركته الحياة منذ نعومة أظفاره
، فحين أبصر النور أدرك الحقيقة الـمُرَّة : أبوه رجلٌ فقيرٌ جداً ، لذلك
خرج للعمل باكراً ، وكم كان صلداً لا يشكو ولا يتذمَّر ، والمشكلة ليست فيه
بل في أرباب العمل الذين عمل عندهم ، فكانوا لا يكتفون باستغلاله في ساعاتٍ
طويلةٍ مضنيةٍ مقابل أجرٍ زهيدٍ ، بل سعوا لاستعباده إلى أقصى حدٍّ ممكنٍ ،
ونفسه دوماً أبيَّةٌ ترفض الذلَّ والهوان ، فأبوه رحمه الله كان يكرِّر على
مسامعه :
" لا تركن إلى ذلٍّ ولو جاءك منه قناطيرُ مقنطرةٍ من الذَّهب " .
وقد ظلَّ خيط الكرامة والإباء هذا يشحذ همَّته ، ويأبى عليه الرضوخ
والانصياع لهؤلاء الأوغاد ، وآخر مرَّةٍ عمل فيها قام بضرب ربِّ العمل
لأنَّه قال له في احتقارٍ : " انتبه يا حمار إلى شغلك جيداًٍ " ...
فاستشاط غضباً غصباً عنه ، ولم ينبس بكلمةٍ ، وإنَّما كال لأنفه المفلطح
القبيح لكمةً أسالتِ الدِّماء منه ، ولقوَّة قبضته أطاحه أرضاً ، ورمى
بجسده عليه ، ولولا أولاد الحلال لارتكب جريمة قتلٍ ، وزأر ربُّ العمل في
وجهه يطرده ، وحين طالبه بأجرة الأيام العشرة السابقة هدَّده بالسِّجن على
فعلته تلك ، فخرج صفر اليدين !!
سار على غير هدىً ، لا يريد العودة إلى داره كيلا يرى الأفواه الجائعة ،
وكان يجترُّ في أسىً وحش السَّغب ينهش أعماقه ، وحملته قدماه إلى واجهة
محلٍّ يزدان بأصناف الطعام والحلويات الشهية ، تلك الحلوى التي نسي طعمها
من أيام كان وليداً ، هذا لو كان قد ذاقها آنذاك ..
سال لعابه ، وخطر على باله أولاده المساكين ، فأزمع أمراً ذي حدَّين ، وبان
الإصرار على وجهه البائس ، وغالب تردُّده ؛ وخطا إلى داخل المحلَِّ ، وقصد
الرُّجل السَّمين كخروف العيد ، وكانت أناقته المبتذلة تذكِّره بكلِّ أرباب
العمل السَّابقين ، وقد كان كالعادة جالساً وراء صندوق الحساب ذي الرنين
المعدني ، ويدخِّن النارجيلة في صلفٍ ، يبدو وكأنه يرسم حوله أرستقراطيةً
كاذبةً ، وهو ينظر للموجودات في تَعَالٍ وعنجهيَّةٍ ، فسأله بهدوءٍ صارمٍ :
" ألا تحتاجون عاملاً ؟ "
نظر له شَزَراً ، ثمَّ قال : " عندي خدمٌ كفايةٌ " ..
ابتلع الإهانة الخفية بقوله ( خدمٌ ) ، ودسَّ يده في جيب معطفه البالي
كأطلال الديار المتهدمة والتي كان مدرِّس اللغة العربية يخبرهم عنها ، ورفع
يده داخل الجيب بما يُوحي أنَّه يحمل سلاحاً من طراز المسدَّس ، وقال بغلٍّ
جارفٍ :
" كلُّكم أنذالٌ سفلةٌ "
نظر إليه السمين مبهوتاً لجرأته ؛ فواصل :
" ثق تماماً أنَّ في جيبي مسدَّسٌ جاهزٌ ، وأيَّة حركةٍ مريبةٍ يكون نصيبك
الموت أو عاهةً مستديمةً " .
حدَّجه السمين بنظرةٍ خاويةٍ من كل معنىً ، وكأنَّه لم يدرك بعد ماذا هناك
؟ فقال له :
" ضع ما في صندوقك من نقودٍ في كيسٍ وناولني إياه دون جلبةٍ ، إن كنت
تفضِّل أن ترى شمس الصباح غداً " ..
عندها أدرك السمين جدية التهديد ، وبانت في عينيه ملامح الذعر والخوف ،
وقال بصوتٍ مرتعدٍ كشف زيف أرستقراطيته المزعومة : " ولكن ْ " ..
قاطعه بشراسةٍ وضراوةٍ : " لسوء حظك وحسن حظي ، أنَّ مكتبك بعيدٌ عن الأعين
قليلاً ، ولن يراك أحدٌ فيغيثك ، واعلم أنَّني لا أملك ما أخسره .." .
حينها انصاع السمين وجلاً ، وبسرعة الـمَوْتُورِ جمع المال من الصندوق في
كيسٍ وأعطاه له بيدٍ مرتعشةٍ ، فقال له :
" كلُّكم كلابٌ تستحقُّون ألف قتلةٍ " .
تفصَّد العرق على وجه السمين وهو يراه يـحمل المال باليد الطليقة ، ثمَّ
انفتل عائداً ، فبادر السمين لإخراج مسدَّسٍ من درج مكتبه وصاح بغلظةٍ لم
تكن فيه وهو في موقع الـمُهدَّد :
" قفْ مكانك و إلاَّ أطلقت عليك النَّار " .
لم يستدر بل استمرَّ في مشيه الوئيد ، وهو غارقٌ في فرحةٍ عارمةٍ لأنَّه
سيطعم أولاده بعد طول أمدٍ ، لقد جلب لهم المركب الذي سينتشلهم من بحر
الجوع . وكرَّر النِّداء متوَّعداً . ورغم أنَّه هذه المرَّة سمعه لكنَّه
لم يأبه به ، فقد اعتقده يجدِّف ليخيفه ، فأصحاب المحال التجارية في بلده
لا يملكون أسلحةً ، وسارع خطواته ، وفجأةً لعلع صوتٌ مُدوٍّ أصمَّ أُذنيه ،
وأحسَّ بشيءٍ ما يمزِّق ظهره ، وهوى مذهولاً منكفئاً على وجهه ، والغريب
أنَّه لم يشعر بألمٍ كما كانوا يصوِّرون المصابين بطلقٍ ناريٍّ .
حانت منه نظرةٌ إلى مشهد دمائه المتدفقة في غزارة المطر في الشتاء العاصف ،
وهاله الثقب في صدره وقد عجزت يده عن إغلاقه ، ولاسيَّما أنَّه كان مخترقاً
ظهره ، وتعالتٍ الصيحات الحانقة والخائفة ، وتذكَّر والظلام يغزو مقلتيه
المتعبتين أولاده الذين ينتظرون عودته بفارغ الصبر ، فانطلقت من عينهِ
دمعةٌ حبيسةٌ من دهرٍ ، وتمتم :
" اعذروني يا أحبَّائي ، فهذا كلُّ ما كان عندي !!! " .
الفراغُ
كان يشعر بفراغٍ قاتلٍ بعدما رحلت زوجته مصطحبةً ولدهما الوحيد ، ذهبت في
إجازةٍ طويلةٍ لمدة شهرين لزيارة الأهل والأقارب ، فالبقاء هنا في هذا
البلد الخليجي صيفاً لا تُطاق ، فالحرارة عاليةٌ ، والنَّاس كلُّهم رحلوا ،
فارتأيا أن ترحل ويبقى ليعمل في الصيف سعياً وراء لقمة العيش ..
حسب لأوَّل وهلةٍ أنَّ ذهابهما سيوفِّر له جوّ فراغٍ تاق له كثيراً ،
ليمارس هوايته في الكتابة والتأليف والقراءة ، فالضجَّة التي كان يخلِّفها
خالد - ابنهما – لا تتيح له الفرصة لعمل شيءٍ إلاَّ إذا نام ، وكان لا ينام
إلاَّ إذا ناما ، ولكن منذ اللحظة الأولى لمغادرتهما شعر بالوحشة ترمي
أحضانها عليه وتجذبه إلى قاع الوحدة السوداوي الكئيب ، فلقد اعتاد القراءة
والكتابة على وتر وجودهما معه ..
حاول أن يشغل وقته بالمطالعة ، وفي البيت يجلس إلى طاولته ويدوِّن على
أوراقه خواطره وأفكاره ، وأحياناً يتسلَّى بمشاهدة التلفاز ، ويتجاذب الوقت
مع الحاسوب ، ولكن ما كان ذلك ليصرفه عن الذكريات .
إنَّ الخلق حين يفرُّون إلى ميدان الذكريات ، تخطر لهم لحظات السعادة مع من
يحبون ، لتكون لهم زاداً في مواجهة مشاقِّ الحياة ، أمَّا هو فلم يعد يذكر
إلاَّ مفردات الخصومات التي كانت تنشب بينهما لأتفه الأسباب ، وشعر بالحزن
والندم على ما فرَّط في حقِّها ، فكم آذى روحها المرهفة كالفراشة في ربيعٍ
زاهٍ ، وكم آلمها برعونته وطيشه ، وصرخ يناديها ، لكنَّ الصرخة اختنقت بين
شفتيه ، أهكذا يفعل المحبُّون ؟!! .
لم يكن يعلم أنَّه يكنُّ لها كلَّ هذا الحبِّ ، صحيحٌ أنَّهما اقترنا
ببعضهما بعد قصَّة حبٍّ راسخةٍ ، غير أنَّ حبهما خفَّت حدِّته بعد
اقترانهما ، وأيقن أنَّ سفرها قد أعاد شعلة الغرام إلى اتِّقادها بينهما ،
وزاد من تعلُّقه بها .
خرج من باب الدار إلى غير هدفٍ ، ومشى على قدميه بعد أنَّ ملَّ من ركوب
السيَّارة ، وألفى نفسه عند السوق ، وراقب الخلق رجالاً ونساءً مشغولين
بشراء الطعام أو الثياب ، وحين همَّ بالشراء وجد نفسه تعاف كل شيءٍ دون
زوجته .
وانعطف إلى كورنيش البحر ، ما أكثر الخلق الذين يسيرون عليه ، بين مازحٍ
وضاحكٍ ، وبين ممارسٍ للرياضة ، وبين جالسٍ مع زوجته وأطفاله يتناولون
العشاء أو يشربون الشاي والمشروبات الباردة ، وتمنَّى في هذه اللحظة لو كان
معه ولده وزوجته ينعم بدفء العلاقة الأسريَّة معهما .
وقف يتأمَّل أمواج البحر الرقراقة ، وبدت له ناطقةً تعاتبه ، فشكا إليها
وحدته القاتلة فطلبت منه أن يتحمَّل ، فهمس : " الملل والضجر يا بحر ملأا
روحي " ..
فأجابه البحر بموجةٍ تلطم الشاطئ ثمَّ ترتدُّ مخلِّفةً زبداً أبيض .
وواصل مسيرته الحائرة في شطآن الذاكرة التائهة .
أزاهير الحياة
تمر على خاطري كل حينٍ هذه الحادثة الطيبة الذكر والمرتبطة بنبات السمر (
نباتٌ يزرع في قطر ودول الخليج العربي )، وقد كان محور الحادثة النبات
العظيم الشامخ وجدي ذلك الإنسان الرائع – رحمه الله – وبالتأكيد لن أنسى
هذه الحادثة فقد كان لها أثرٌ بالغٌ في حياتي ، فقد أسهمت وبشكلٍ كبيرٍ في
جعلي من أصدقاء البيئة قولاً وعملاً .
كان جدي من أشد الناس حرصاً على الانضباط والترتيب والنظافة ، فما كنت أشم
إلا رائحة الطيب تفوح منه ، وحتَّى حينما ينصرف تظلُّ رائحة المسك تفوح في
المكان لساعات مديدة ، وكلما زرناه في بيته تعبق في أنوفنا رائحة البخور ،
وأمَّا أناقته ففنٌّ في انسجام ألوان ثيابه ونصاعتها وتناسقها الجميل ،
وحتَّى عكَّازه من خشب الأبنوس الثمين كان يتألق بسواده المميز تحت وهج
النور ، وكلُّ هذا كان مؤهِّلاً ليكون جدي من أنصار النبات ومحبيه ، فلم
تقع عيني على أجمل من حديقة منزله المزدانة بالنباتات المتنوعة في شتَّى
صنوفها وأشكالها ، وتختلط روائحها المتباينة مع نسقٍ بديعٍ من صفوف النبات
كأنه لوحةٌ هندسيةٌ أبدعتها ريشة فنانٍ ، ولم يكن هذا الفنان إلا جدي ، وما
كنَّا نزوره مرةً إلاَّ ألفيناه بين الزروع والأشجار يحنو عليها ويرعاها ،
فقد كان يسقيها ويضع لها السماد ويطعِّمها ويقتلع الأعشاب الضارة ، وحين
كانت تعاتبه جدتي على قضائه الساعات الطوال بينها كان يقول لها : " إنَّها
أبنائي و لا أحد يهمل أبناءه " ومراراً كانت أمي تـهمس لنا : " أنا موقنةٌ
أنَّها أعز من أولاده أحياناً " .
كنت ما زلت في المرحلة الابتدائية آنذاك ، حين جاء ذلك اليوم يوم الجمعة
الماثل في ذهني بأدق تفاصيله كشريطٍ سينمائي لا ينمحي من ذاكرتي البتة ،
فما زلت وسأظل أتمثله نسمةً تهبُ من أعمق هدير طوفان ذكرياتي ، فقد أخبرتنا
أمي أنَّ جدي قادمٌ لزيارتنا للغداء عقب صلاة الجمعة مباشرةً ، ونزل الخبر
علينا نزول الصاعقة بل كان كارثةً بكل المقاييس لو جاز لي التعبير ،
لأنَّنا تواعدنا مع زملائنا للعب المباراة النهائية بكرة القدم ضد حي
التضامن في بطولة الأحياء الشعبية ، ولم يكن أمامنا مجال للتراجع خاصةً
أنَّنا هزمنا من فريق التضامن العام الماضي وقد حان اليوم أوان الثأر ،
وكنَّا قد تدربنا أياماً كثيرةً لأجل هذه المباراة ، والمشكلة أن جدي حينما
يحضر فإنَّه يرفض أن يغيب أحدٌ منا لأيِّ عذرٍ ، والكبار لا يعيرون أهميةً
لشؤون الصغار ، ومن هنا تستطيع أن تفهم حجم المشكلة التي نواجهها أنا وأخي
الصغير ، واعترى وجوهنا الوجوم الشديد وسكنت حركتنا كأنَّما ران على رؤوسنا
الطير ، وقد لاحظت أمي ذلك فقالت بحدةٍ : " خيبكم الله ، أتحزنون لأنَّ
جدكم قادمٌ لزيارتكم ؟! "
قال أخي الصغير: " بل على العكس نحن نحب جدي " .
قالت له أمي: " ولماذا أدركتكم الكآبة وتجمدتم إذن ؟ "
قلت بحزنٍ شديدٍ: " اليوم مباراتنا النهائية في بطولة الأحياء الشعبية
وغيابنا سيؤثر على الفريق وخسارتنا تعني مأساة و ... "
فاطعتني بغضبٍ: " تباً للمباريات ألا تسأمون من الجري وراء كرةٍ جلديةٍ
بلهاء ، ثمَّ فلتلعبوا غداً فما المشكلة !! "
هكذا هم الكبار في نظرتهم لقضايا الصغار ، حتّى إنَّني أتساءل أحياناً
لماذا لا يُنشؤون جمعيةً للرفق بالصغار أمام ظلم الكبار لنا، وقلت لأمي:
" أرجوك يا أمي دعينا نذهب للعب المباراة وسوف نعود سريعاً "
قالت بعنفٍ: " ليست المباراة أهم من جدكم "
قال أخي الصغير بلهجةٍ أقرب للبكاء : " أرجوكِ يا أمي . "
قاطعته أمي بحسمٍ : " انتهى الأمر .. ولا نقاش .. اذهبوا واستعدوا للقاء
جدكم "
هذه هي ديموقراطية الكبار كما ألفناها وسنوافق ونحن صاغرون شئنا أم أبينا
.
وحين جمعتنا طاولة الغداء مع الجد العزيز اكتأبنا أكثر ، فرغم حزننا لضياع
المباراة لم نسلم من انتقادات جدي المتكررة لأفعالنا " لا تفعل هذا .. كلْ
بيمينك .. لا تبلع الطعام قبل المضغ .. لا تشرب لئلاَّ تؤذي معدتك .. " وقد
حرصنا على إخفاء ضيقنا كيلا يشعر جدنا فهو حسَّاسٌ وذكيٌّ جداً ولمَّاحٌ
بحيث لا تفوته هذه الأمور مهما تفُهت.
وبعد الغداء جلسنا في حديقة منزلنا الكبيرة المرتبة ولكنها بالتأكيد لا
تبلغ جزءاً يسيراً من جمال حديقة جدي وأناقتها ، وسرت مع أخي نتحادث في
أسىً على المباراة التي ستفوتنا ، ودنونا من الركن القصي للحديقة بعيداً عن
الجالسين وإن كنَّا في مرمى نظرهم ، وكان أخي يزفر في ضيقٍ ويتحدث
باستفاضةٍ عن شماتة أبناء حي التضامن حين سيفوزون علينا ، ومن شدة غيظه مد
يده ليقتلع نبتةً جديدةً نبتت وحدها بحجم الشجرة الصغيرة أو أكثر حين علت
صيحة جدي لتقف يد أخي على النبتة ، كان الجد يقول : " ماذا تفعل يا بُني ؟
"
اعترى الجمود أخي لثانيةٍ ثمَّ أبعد يده وقال في تذمرٍ : " هل هدمت الكرة
الأرضية ؟ إنَّها نبتةٌ ضارةٌ و... "
قام جدي واقترب منا وقال : " هذا يظهر حقيقة جهلكم بالنباتات "
ودنا مع أختي أكثر وأخذ نَفَساً عميقاً ، ونظرت لأخي نظرةً معناها أنَّنا
سنتلقَّى محاضرةً كدروس المدرسة ، والتي كنَّا – للأسف – نعتبرها محاضرةً
مملةً وضياع وقتٍ فيما لا طائل منه ، إذ كان كل همنا محصوراً في اللعب وحسب
، وقال جدي : " لقد قدَّس العلماء العرب النبات وعرفوا أهميته الزراعية
والطبية وحتَّى التجارية ، ونبغ في علم النبات علماء كثيرون كابن البيطار ،
كما ظهر علماء في الطب الذين أفاضوا في الحديث عن فوائد النبات طبياً كابن
سنا " وأشار إلى النبتة الغريبة الشكل والتي ظنها أخي ضارةً وقال : " هذا
النبات يا أبنائي يُدعى (السمَّر ) ولأنَّنا الآن في شهر مايو فهذا وقت
ازدهاره ، لاحظوا أزهاره البيضاء والحمراء "
وفعلاً انتبهنا للون المميز للزهر ، بدا الاهتمام على وجه أختي التي كانت
تعشق الدراسة والعلوم ، وكنَّا نسميها دودة الكتب ، فقالت لجدي :
" ما هذا الزغب الأصفر يا جدي ؟ "
بدا على جدي السرور إذ وجد من يصغي له فقال : " لاحظي أنَّها تنمو على رأس
رويشةٍ ، وما هي إلاَّ نوراتٌ صفراء مبيضةٌ "
قالت أختي : " ما فائدة نبات السمر يا جدي ، فإنَّه يبدو مؤذياً بأشواكه
البارزة ؟ "
قال جدي : " هذا ظاهرياً فأشواكه للدفاع عن نفسه من أعدائه من الحيوانات
التي تحاول اقتلاعه ، وهو يا ابنتي من نباتات بلدنا العزيز قطر ، وهو
معروفٌ بمقاومته الشديدة للجفاف وصبره على ندرة الأمطار ، وخشبه صالحٌ
للوقود وصنع الفحم ، ويصلح بأوراقه مرعىً للإبل والجِمال ، كما ينفع علفاً
للماشية ، ناهيكِ عن فوائده الطبية "
قالت أختي : " من
أضيفت
في29/03/2006/ خاص القصة السورية
هذيان
حقيقةً كـانَ لا يـدري ما بِـهِ !!
هلْ هوَ يائـسٌ ؟ .. أمْ يَحْفِزُهُ أمـلٌ إلـَى شَـيءٍ مـا ؟ ..
حَـقَّاً هوَ حائـِرٌ حـيْرَةً أبديَّةً .
ينظرُ إلى الأفُقِ فيراهُ داكِـناً ، فتلْـتهِمُهُ كآبـَةٌ مريرةٌ ،
فيطرِقُ برأسِهِ الْمُثقَلِ بالْهمومِ ، وبعدَ لَحظاتٍ تَطويهِ كالسـِّنين
الْعِجافِ يدْفنُـهُ الصَّمتُ فيها ، يرفعُ بصرَهُ الْمُدْمَى ، فيرَى
الأفقَ مُتوهِّجاً بنورِ الشَّمْسِ الأصفَرِ ،فيَغْتَصِبُ ابتسامـةً
بَـلْـهاءَ يُوجِّهُها إلَى .. لا شيء !! وحينَ نَـهضَ يَمشِي مُتثاقِلاً
اِنقضَّ علـيهِ الْمجهولُ لِـيفْتَرِسَهُ بأنيابٍ مُتساقِـطةٍ ،فصفَعَهُ
بقوَّةٍ لَـمْ يعهَدْهـا فِـي نفْسِهِ، ثُـمَّ اِنكَـفأَ علَى ذاتِهِ
،وطَفـِقَ يضحَـكُ .. ويضحَكُ مُقَهْقِهاً حَـتَّى دَمعَـتْ عيناهُ .
ثُـمَّ تَشَنَّجَ وَجْهُـهُ فَـجْأَةً، وارْتَسَمَ عليْـهِ ذُعْـرٌ حَادٌّ
مَصْحوبٌ بِأَلَـمٍ مُباغِـتٍ شديـدٍ فَظِيـعٍ انْبَعَـثَ فِي صدْرِهِِ ،
وهَوَى خامِداً بعْدَهَا ..
اِقْتـَربَ منـْهُ قِـطٌّ كانَ يُراقِبُهُ وهوَ يلعَقُ شَفَتيْهِ ، وكـادَ
أَنْ يلْتَهِمُهُ عَشَاءً لَهُ، ولكنْ باغَتـَهُ رجلٌ قادمٌ صُدْفَـةً
فطـَردَهُ ، وانْحَـنـَى يَجـِسُّ نَبـْضَهُ ، ويَتَحسَّسُ أنفاسَهُ ،
ثُـمَّ هزَّ رأسَهُ أسَفَاً يَنْعاهُ ، وذهبَ تارِكاً إيَّاهُ مَرمِـيَّـاً
بيـنَ أكوامِ الْقُمَامَةِ ..
وبعدَ سَاعةٍ رمَشَ جَفْنـَاهُ ، فاستيقظَ مِنْ حلْمِهِ مسْروراً ، وهرعَ
إلَى مَهْـدِهِ .
تناولَ عُودَهُ ليعْزِفَ أجملَ ألْحانِـهِ ، وانتبَهَ - بعدَ عزفهِ للحنٍ
جميلٍ يعشقهُ - إلَى أنَّ أوتارَ العُودِ مقطوعَةٌ .. فرمَـاهُ !
وأسرعَ إلَـى مَرْسَمِه ، ليـرسمَ من دونِ ألوانٍ لوحَـةً خـلاَّبَةً
بِفـرشـاةٍ ليسَ لَهَـا ريشٌ !!
ثمَّ أمسكَ قَلَمَهُ لِيُدَوِّنَ أحْـلَـى قصائدِهِ علَى الإطلاقِ ، غيرَ
أنَّ الكـَلماتِ التِي اعتصمت في حاويةِ ذهنهِ ، رفضَتْ أنْ تُفارِقَ
مُخيِّلَتَهُ لِتتدفَّقَ مِـنْ شفتيهِ إلَـى قَـلَـمِـهِ !!!
حينَ ذاكَ عادَ إلَـى أكوامِ الْقُمامَـةِ ، ورقدَ بينَها يُحدِّق إلى
النسورِ في السماءِ تطير بغير رفرفةٍ لجناحيها .
القتلُ هوَ القتل
حين دخلت الدار ، وهرعت إلى المطبخ لأطفئ لظى عطشي في هذا اليوم الحار من
أيام الصيف القائظ الذي لا يرحم ، ألفيته هناك متصلباً كتمثالٍ في ركن
المطبخ القصي ، متحفِّزاً يهزُّ شاربيه في وجهي كأنه يتحداني ولا يبالي بي
، أو كأنه تفاجأ بوجودي المباغت ، ونسيت عطشي مذهولاً أمام كينونته وكيفية
وجوده هنا ، ورحت أرمقه بقسوةٍ كما يفعل هو بي ، وظلَّ على تأهُّبه في
جموده الذي بدأ يسرِّب القلق إليَّ ، ثمَّ بلغ أوج استخفافه بي ولا مبالاته
حين تقدم نحوي بضع خطواتٍ سريعةٍ ، تباً له أ لـهذه الدرجة يثق بنفسه أمامي
وكأنَّه في بيته هو لا بيتي ؟
وقررت أن أقوم بعمل شيءٍ بدلاً من بقائي محتاراً وهو ينقل أرجله نحوي ،
وهكذا ما إن اقترب أكثر ولم يعد بيني وبينه إلاَّ ذراعٌ ؛ هويت على أمِّ
رأسه بحذائي الجديد الذي كنت قد اشتريته للتوِّ من السوق ، فارتمى على ظهره
دون أن ينبس ببنت شفةٍ ، ثمَّ حرَّك رجليه في الهواء قليلاً وهمد بعدها
صريعاً ..
وحين تناولت المقشَّة لأكنس جثته الهامدة ، تأمَّلتُ رفاته المسحوق ، وخطر
لي أننا نحن البشر كم نرتكب من جرائم بحجة التخلص من الحشرات الضارة ، ألا
يحقُّ لهذه الحشرات أن تتخلص منَّا باعتبارنا مخلوقاتٍ مؤذية لها، أليس من
حقِّ الصرصار الذي قتلته شرَّ قتلةٍ أن يحيا كسائر مخلوقات الله تعالى ؟ أم
أنَّنا نقضي عليها بكل بساطةٍ وسهولةٍ مدَّعين أنَّها حشراتٌ تسبب لنا
الأوبئة والكوارث الصحية والتي يروح ضحيتها آلاف البشر ؟
ولكن ما أكثر الحروب والنـِّزاعات التي يخوضها البشر ضد بعضهم ، ويذهب
الملايين الأبرياء بسببها كما في الحروب العالمية ، ونزعم بعد ذلك بكل
صفاقةٍ أن الحشرات تضرنا ، في حين نستطيع طردها خارج ممتلكاتنا ، وهززت
رأسي فمن ذلك الذي يدَّعي حقاً أنَّ ممتلكاته له ؟ أتراه لو مات يأخذها معه
؟ أم يرميه وراء ظهره عاجزاً عن الاحتفاظ بـها !!
إن منطق البشرية تافهٌ بحقٍّ ، ولو أنَّهم عقلوا ما ينشرونه من دمارٍ
وخرابٍ في اقتـتالهم ، لأدركوا أنَّ الحشرات خيرٌ منهم لأنَّها لا تؤذي
بغرض الإيذاء ، بل بحثاً عن لقمة عيشها .
وأدركت في هذه اللحظة أنَّنا البشر غير مؤهلين لخلافة الأرض ، فخليفة
الخالق لا بدَّ لأن يكون عادلاً لا قاتلاً !! فنحن قضاة الكون نبيح لأنفسنا
خراب البسيطة ، ونحرم الحشرات حقَّها الطبيعي في البحث عن طعامٍ تقتات به ،
ومهما كذَّبنا على أنفسنا من كون قتل الحشرات نفعٌ لنا ؛ فإننا مجرمون قتلة
، وتنهَّدت تنهيدةً عميقةً وأنا أرمي بقاياه في القمامة ، وهمست وكأنَّني
في محكمةٍ :
-القتل يا سادة هو القتل .
مشيئة القدر
ها هي ذي تقف عند محطة القطار تنتظر إيَّابه ، وقد أوشكت شمس النهار
الخافتة الباردة أن تأفل تاركةً للصقيع أن يبسط هيمنته على الأرجاء ..
عواطف متصارعة تتناوبها ، ولم تكن تشعر بالبرد أبداً ، فحرارة حبها لولدها
أقوى من ضراوة لسعة الريح القارصة ، وقد راودها شعورٌ أُموميٌّ جارفٌ ؛
قلَّما يخيب ؛ من أنَّ ولدها المهاجر لا بدَّ سيعود هذا اليوم ..
تربعت القرفصاء بجانب السكة الحديدية في محطة القطار ، ولم يكن سواها إلاَّ
بعض النَّاس يهرولون مسرعين إلى حيث يجدون الدفء داخل فناء المحطة ، وقد
آثرت الأمُّ العجوز المكلومة أن تنتظر القطار القادم بعد قليلٍ وسط البرد ،
لأنَّها تدرك بحدسها أنَّ ولدها الحنون حين سيعود سينسيها البرد والجوع
والشقاء .
توهَّج نور الشمس على استحياءٍ توهُّجه الأخير على وجهها الأليم المتغضِّن
، قبل أن يخمد مخلِّفاً شفقاً أحمر يلقي ظلالها الكئيبة على الغيوم السوداء
التي بدأت تتجمع منذرةً بليلةٍ مهولةٍ ، ولو نطقت الموجودات لقالت : إنَّ
نور الشمس الأخير يبكي دماً على لوعتها
تختطفها الذكريات على درب الانتظار ، لقد مات زوجها منذ كانت صبيةً ، ولم
يبق لها إلاَّ ولدها الذي كان دائماً باراً بها ، منحته كل رعايتها وحبها ،
فلمَّا شبَّ بادلها الحب والعطف والحنان ، وكم سعت لتزوِّجه حتَّى إذا
فارقت دنياها تفارقها سعيدةً برؤيته مع زوجته وأولاده ، وظلَّ يتريَّث .
فاجأها من عامين بمشروع السفر ، فقد ضاقت به الأحوال ذرعاً في بلده ، وكان
بالكاد يجد كفاف عيشهما ، ولكم بكت بين يديه متوسِّلةً له ألاَّ يبارحها
وحيدةً ، غير أنَّه عنيدٌ كأبيه ، لقد اتَّخذ قراره ، وأزمع أمره على
الرحيل ، وجعل يمنِّيها بالخير الوفير ، وهي التي لا تطمع من دنياها إلاَّ
أن تراه بجانبها ..
وحان موعد السفر ، وبكت طويلاً وهو ينهنه دمعته ويلثم يديها الطَّاهرتين ،
ويطلب منها أن تدعو له بالتوفيق ، ووعدها بالمراسلة الدائمة .
ورحل كقطرة النَّدى في صيفٍ قائظٍ ؛ وطير السنونو المهاجر إلى حيثُ الدفءُ
، وبقت وحدها من بعده تجترُّ مرارة الحرمان والهجر ، وكلَّما بزغت شمس يومٍ
جديدٍ تأمل بعودته ، وفي الليل تحلم به ، ووصلتها رسالته الأولى بعد شهرين
من رحيله ، وأسعدها أن قرأت أنَّه نجح في العثور على عملٍ مجزٍ ؛ يدرُّ
ربـحاً طيِّـباً ..وبعد شهرٍ ونصفٍ وصلتها رسالته الثانية والأخيرة ، والتي
فطرت قلبها بالتياعٍ ، وهي تقرأ أنَّ الأمور ليست على ما يرام فقد ساءت
أحواله المادية ، وفقد عمله ، وبإحساس الأمِّ الذي لا يخطئ أدركت أنَّ فلذة
كبدها الوحيد مريضٌ ، فكانت تقوم في جوف الليالي والعيون نائمةٌ تصلِّي
وتناجي مولاها الرحيم أن يحميه ويردَّه إليها سالماً .
ثمَّ انقطعت عنها رسائله ، وبمرور الأيام تنامى خوفها وقلقها عليه ، فصارت
تغدو كلَّ مساءٍ إلى محطة القطار الوحيدة في البلدة لعلَّها تجد مهجة قلبها
ضمن حشود الآيـبـين من سفرهم .
كم أبرقت له بالرسائل ترجوه العودة دون جدوى ، وكفَّت عن تناول الطعام
إلاَّ ما يسدُّ رمقها ، رغم أنَّ المحسنين لم يتركوها أبداً ، ولكنَّها
كانت تشعر بالغصَّة والمرارة في كل لقمة طعامٍ تذوقها وهي تعلم علم اليقين
أنَّه لا يذوق الطعام ..
ومضى عامٌ ولا خبر ، وهي لا تفتأ تسأل المسافرين القادمين عنه ، وهم
يهزُّون رؤوسهم أسفاً ، وأضحت الأم المسكينة تهدس باسم ابنها ، وجافاها
النوم لأنَّ المنام يحمل الكوابيس البشعة التي تريها الحوادث الفظيعة
لابنها ..
واكتمل عامان ولا شيء عنه يشفي لوعتها ، ولكنَّها في هذا اليوم بالذات
راودها شعورٌ قويٌّ أنَّه عائدٌ ، لذا هرعت إلى محطة القطار .
هبَّت الريح التي ازدادت سرعتها وبرودتها ، مع اكتساء الكون بليل الشتاء
الدامس ، وتساقطت ندفٌ من الثلج عليها ، فتكوَّمت على نفسها كالقط الجريح
يلعق جروحه ، وعيناها المتعبتان تكادان تنطبقان ، فثلاث ليالٍ لم يعرف
النوم سبيله إليها وهي تراه في منامها مُسجَّىً فلم تغفُ خوفاً من
كوابيسها ، لكنَّها قاومت النعاس ، فاليوم لا نوم ، إنَّه قادمٌ لأجلها .
وأحيا الأمل في صدرها صوت القطار القادم من الشمال بهديره وعويله ، وأزَّت
صافرته وهو يهمد ، وحاولت النهوض فلم تستطع لضعفها ، وشرعت بعينين ذابلتين
تتابع الحشود القليلة القادمة ، وهم يجرون إلى بيوتهم الآمنة الدافئة ،
ويلقون نظرات الإشفاق عليها وقد غمرها بياض الثلج ، ولفظ القطار كل ركَّابه
ولم يكن منهم !!!
جرت دمعةٌ حارةٌ من مقلتيها المكدودتين ، وتجمدت الدمعتان على خدَّيها
الزرقاوين ، وطافت ملائكة الرحمة حولها تقبض روحها المُعذَّبة وهي تهذي :
" ما أسعدني بلقائك اليوم يا حبيبي وقرَّة عيني "
وبقي الجسد بلا روحٍ .
وخرج من عربة البضاعة في القطار حمَّالان يحملان صندوقاً كبيراً ، مرَّا
قربها وأبصراها على هذه الحال ، وهرع أحدهما إليها بعدما وضع الصندوق أرضاً
، وتمتم في حزنٍ دفينٍ حين وجد جسدها بارداً لا حياة فيه ، وهرول إلى مدير
المحطة ليخبره ، وأمَّا الآخر فقد مسح دمعته أسىً عليها ، ورمق الصندوق
الذي كُتِب عليه : " سامحيني يا أمِّي لأنَّني متُّ بعيداً عنك ، وإليك
جثَّتي لتبقى قربك تنعم بدفء حبك " .
ولو درى الرجل أنَّ العجوز الهالكة أمامه هي أم الذي في الصندوق، وقد ماتت
وهي تنتظره لبكى حسرةً عليهما، ولحار عجباً من مشيئة القدر !!!
|