صورة وثوب حرير وقارورة
عطر
في إحدى المرات, وبينما كان أصحاب البيت غائبين, استطاع احد
اللصوص الوصول الى فرندة الطابق الثاني بخفة ونشاط ثم قام بقص دائرة في زجاج
الباب تتسع ليده بوساطة أداة خاصة ودخل الى الشقة. انتقل فوراً الى غرفة نوم
الزوجين وراح يعبث في الخزانة والجوارير باحثاً عن المصاغ والمجوهرات, الا انه
أثناء ذلك وجد الخزانة مملوءة بثياب الزوجة الحرير فوقف يتشممها ثوباً ثوباً
فتملكه سحر طغى على قلبه فرَّق حاله. أمضى وقتاً طويلاً وهو يفعل ذلك, إلا انه
تذكر ما جاء من أجله فترك الثياب وعاد للبحث عما خف وزنه وغلا ثمنه, فانتقل الى
الخزائن الأخرى وقبل أن يفتحها وجد بروازاً فيه صورة امرأة مركوناً بجانب
السرير فجلس وقرّب البطارية التي كان يستعين بها لإنارة طريقه وراح يتمعن في
الصورة.
كانت المرأة في الصورة غريبة الجمال, تشع سحراً لا يمكن تفسيره
سوى بسبب جمال عينيها ودقة أنفها وأناقة تسريحتها. كانت المرأة تبتسم بسعادة من
دون أي تصنع أو تظاهر. اكتشف اللص سر سعادتها في جمالها وصحتها. كانت في منتصف
العشرينات من عمرها, شقراء الشعر ويفتر فمها عن أسنان بيض مرصوصة لا شائبة
فيها. ظل الرجل يتمعن في رسم المرأة حتى أنه نسي نفسه. منذ مدة طويلة لم تسحره
امرأة مثل هذه, بل قل انه لم يسبق له أن وجد نفسه مسحوراً في هذا الشكل في
سنينه الأربعين كلها. حياته كلها قضاها في جو من القباحة, فقد نام في السجن ست
سنين لم يشعر خلالها بأية بهجة مصدرها جمال أو رقة أو نعومة. كما أن أمه (رحمها
الله) كانت سليطة اللسان وبشرة يديها خشنة وموجعة حين كانت تصفعه, وكان وجهها
نحيلاً وشفتاها مزمومتين لا تنفرجان إلا عن صراخ وعويل وشكوى. أما نفيسة التي
ورطته بنفسها فتزوجها فقد كانت لئيمة وصاحبة مشكلات حتى انها طلقته وهو في
السجن.
كان ثوب نوم المرأة الحرير مركوناً على السرير فقرَّبه منه وراح
يتلمس نعومته وهو يتابع النظر الى الصورة. وجد نفسه يحلِّق في ملكوت من النعومة
والسكون والجمال, ولكي يعيش اللحظة في شكل كامل أمسك بالثوب وراح يتشممه وهو
يجمع نسيجه بيديه على وجهه بينما كانت امرأة الصورة تبتسم له. شعر بحنان طاغٍ
فنسي بريق الذهب فنهض ودس الثوب والصورة وقارورة عطر نسائي لطيفة التصميم في
حقيبته الصغيرة المعلقة على كتفه ثم خرج بالطريقة نفسها التي دخل بها.
شغلت المرأة ذهنه, بل قل انه أحبها. صار كل ليلة يطفئ النور
المبهر ويترك مصباح الحمام مشعولاً (لم يكن يملك مصباحاً ليلياً) ثم يتمدد على
سريره ويغرق في تلمس أشياء المرأة وشمّها والنظر اليها. في الواقع أصبح ينتظر
الليل بفارغ الصبر لكي يعود الى طقسه. من وقتها أصبح أكثر ليونة وأكثر هدوءاً
وصار يتلاطف مع أطفال العمارة ويمنحهم الفرنكات. ثم اشترى شريطاً لفيروز وأضاف
أغانيها الى طقسه الليلي وأصبح كثير التنهد.
بعد مدة جد نفسه مدفوعاً الى الشارع الذي يقع فيه بيت المرأة
والذي دخله ليسرقه. كان يريد أن يكحّل عينيه برؤية صاحبة الصورة وجهاً لوجه.
تحمم وقص شعره وحلق ذقنه عند المزين "قصر الملوك" ثم ارتدى قميصاً نظيفاً ولمع
حذاءه وانطلق. كان الشارع هادئاً في وضح النهار وليس مثل حارته التي بدأ يزهق
من ضجيجها, أما البناية التي يقع في طابقها الثاني بيت المرأة فقد كانت أنيقة
ونظيفة وذات ألوان محببة. صار يروح ويأتي أمام البناية ولكن الفرندة اياها ظلت
مغلقة. لاحظ, بنظره القوي, انهم قد أصلحوا زجاج بابها. لم يشعر بأسف في داخله
لأن اقتحامه بيت المرأة أتاح له تلك المشاعر التي بدأ يحس بها في نفسه. ثم انه
لم يسرق "حبيبته" ولم يستول على مصاغها وكل ما فعله انه استعار منها ثوب نومها
الحرير وصورتها وقارورة عطرها. وجد مكاناً ظليلاً يستطيع منه رؤية فرندة المرأة,
فوقف فيه وراح ينتظر. كان كل شيء هادئاً ومسالماً يشبه الى حد بعيد السلام الذي
كان يشعر به وهو يحتل كيانه. لو سأله أحد ما في تلك اللحظة عما به لقال انه
عاشق, وان العشق جميل وان المرأة هي أجمل ما في الكون. إلا أن صوت محرك سيارة
مقبلة من الخلف عكر عليه أحلامه, بخاصة حينما توقفت بطريقة رعناء, ونزل منها
ثلاثة رجال يحملون المسدسات. حين ذلك استفاق ليجدهم يمسكون به بطريقة آلمته في
شدة ثم أدخلوه برعونة في السيارة فتمزق قميصه. أجلسوه في الوسط ووضعوا يديه في
الكلبشات وراح أحد الرجال يضغط على عنقه بقوة ثم انطلقت السيارة.
ارادوا اثناء التحقيق معه في قــسم الشرطة ان يشير الى المكان
الذي خبأ فيه المجوهرات التي ادعت المرأة انها فقدتها تلك الليلة.
قصة
بطل
ما إن توقف الباص حتى التقطت حقيبتي الصغيرة بسرعة البرق وقفزت إلى داخله كأنني
أخاف أن ينطلق من جديد دون أن أرحل معه. أو أنني ضقت ذرعاً بالمدينة وأهلها إلى
حدٍّ أنني لم أعد أرغب بالمكوث ثوانٍ أخر.
جلست في المقعد الثالث من الطرف الأيسر للباص إلى جوار النافذة. أخرجت علبة
سجائري وعلبة الثقاب ووضعتهما إلى جانبي. خلعت سترتي وعلقتها إلى خطَّاف مثبت
في جدار الباص لهذا السبب ثمَّ أخذت وضع من سيطول سفره، فتفرست في وجوه
المسافرين الآخرين وجهاً وجهاً ثمَّ.. انطلق الباص يهدر بصوت مشؤوم ينفث روائح
النفط إلى الداخل.
سار الباص في الشوارع ثمَّ توقف على إشارة مرور منسية منذ الليلة الماضية
ومالبث أن عاود سيره في الطرقات الفارغة مزعجاً عصافير الصباح التي كانت قد
شرعت في زقزقتها الأولى.
أطفأ السائق أنوار الداخل فبانت مباني المدينة وأرصفتها بشكل أوضح عبر الزجاج.
كان الناس نياماً. فالفجر يطلق أنفاسه الأولى والمسافرون عادوا إلى النوم بعد
أن انتزعهم موعد انطلاق الباص من فراشهم متجهمي السحنات، والسائق يحترم راحة
المسافرين فيقرر عدم إشعال المذياع أو إطلاق المسجلة، مفضلاً عن ذلك إشعال
سيجارته الأولى لهذا اليوم أما معاونه فكان يسعل ثمَّ يبصق ثمَّ يسعل من جديد
ليبصق من جديد. كان الباص يهدر والمسافر الذي تكوَّمَ في مقعده، خلفي مباشرةً،
يصدر شخيراً عالياً ومديداً دون توقف.
أما أنا فلم أنم، ولم تذبل عيني ولم أشعل السيجارة الأولى بعد، رغم أنني لم أنم
هذه الليلة بل بتُّ سهران، انتظر الساعة الخامسة والربع لأرحل أخيراً عن هذه
المدينة، تاركاً مبانيها ونوافذها ومداخل حاراتها وطرقاتها المسفلتة إلى الأبد.
لن أعود إليها، أقسم أنني لن أعود إليها، قلت ذلك في نفسي حين خرج الباص من
المدينة فاستقبلته أطراف الحقول مسرعة إليه فارتحت أخيراً لأنني تركت المدينة
إلى الأبد.
في تلك الليلة المقمرة وعندما كنا نسير على الطرقات الترابية على مهل ونتحادث،
سألني عن يدي ماذا قال الطبيب ؟ قلت له : شلل تام في أصابع اليد اليسرى. نعم،
لقد انكمشت أصابعي وبقيت منكمشة إلى الأبد. نهاية حزينة ليد مقاتل. أنا أعترف
بذلك. طلق ناري أخترق ظاهر الكف قريباً من الرسغ. أجروا لي عمليتين جراحيتين،
ثمَّ أرسلوني إلى برلين لإنقاذ يدي، عدت من هناك بعد شهرين بأذى أقل. أصبحت
أحركها. أما أصابعي فمستحيل. أصبح وضعها وكأنني أمسك برتقالة ثمَّ نزعت
البرتقالة وبقيت اليد ممسكة فراغاً بحجمها.
قال لي وهو يلتقط عسلوجاً من الأرض ويهم بتقطيعه إلى أجزاء : انظر أيها البطل.
الا يكفيك خمس سنوات من القتال ؟. لماذا لاترحل إلى المدينة فنحن بحاجة إليك
هناك.
غاص قلبي. أطرقت صامتاً ونحن نسير على الدرب الترابي. ليلة تموزية جميلة،
والقمر بدر ينير الوديان والهضاب والسهول إلى ما وراء الخط الساخن. صفير
الجنادب. أصوات تحرك فئران الحقول بين الحشائش وشجيرات العوسج المتيبسة. حفيف
الرياح الهادئة في الاذن. أصوات طلق ناري متفرق من بعيد. كل ذلك اختلط في شعوري
فأحسست بأنني سأنفصل مرة أخرى عن هذا العالم. سأقتلع منه.
قلت له : القول الأخير لكم ولكنني أرجوكم ألا تفكروا في هذا الأمر. إنني أقاتل
منذ خمس سنوات. اصابة بسيطة كهذه لا يجب أن تبعدني عن حياتي التي اعتدتها.
اجعلوني مدرباً على الأقل. عدنا إلى المهاجع الأرضية. تركني لأستلقي. قال :
غداً سنبت في الأمر.
استيقظ المسافر الذي كان تكوم في مقعده وراح يشد جسده ويطقطق عظامه. أطلق شتيمة
نابيةً بحق السفر، ثمَّ راح يعبث في كيسه. أخرج قطعة خبز وجبن وخيارة وشرع
يأكل. سمعت أسنانه تطحن الخيارة بصوت يطغى على هدير الباص ولما انتهى مسح
شاربيه بباطن يده ثمَّ تجشأ مرتين وحمد الله ثمَّ عاد وتكوم وسرعان ما راح يشخر.
كان قرص الشمس قد انبثقَ فجأةً من خلف منخفض أرضي وراح يشع باتجاهي. أحسست
بعداء نحوه كما المدينة. خبأتُ وجهي وأغمضتُ عيني. كأنَّ الشمس كشفت هروبي،
فضحتني. كنت أخجل من نفسي.
جاء في التقرير ما يلي :
<< أننا نقدر عالياً نضال الرفيق ن.ع. المكنى بـ(البطل) وكل ما قام به خلال
السنوات الخمس الماضية سواء في تنظيم المجموعة التي يقودها أم في قيادته لها
أثناء المعارك العنيفة التي خاضها ضد العدو المحتل والبالغ عددها أكثر من سبعين
معركة. لقد منح ن.ع. أكثر من وسام وكان أسمى الأوسمة، وسام البطل الذي نعتز
بأنَّ حامله هو رفيقنا العزيز. إننا على ثقة أنَّ البطل سينجح أيضاً في مهامه
الجديدة التي أوكلناه إياها ألا وهي المشاركة في العمل السياسي والتنظيمي في
المؤخرة...>>
ارتعشت. سمعت معاون السائق يسعل ثمَّ يبصق. مسحت عيني بيدي اليمنى وقد أحسست
بحرارة تنبثق من وجهي. كان السائق يشعل سيجارته الثانية أما أنا فلم أشعل
الأولى بعد، تكفيني رائحة النفط التي تنفذ إلى الداخل باستمرار. لم أكن أحمل
حقيبة بل محفظة صغيرة وضعت فيها فرشاة أسناني وبعض الأوراق ومذكرة العام ذاته.
ماذا كان علي أن أحمل من القاعدة إلى المدينة ؟.
نزلت من الشاحنة العسكرية التابعة للسوريين في وسط مدينة (ب) ثمَّ اتجهت إلى
مقهى <<البير>> في هذا المقهى اعتدت شرب فنجاني الأول من قهوة <<الاكسبريس>>.
أنا أحب احتساء هذه القهوة مرة في اليوم إن كنت في مهمة ما في المدينة . شربت
قهوتي ودخنت بعض السجائر وأنا أستمع إلى أحاديث الناس عن جريمة وقعت ليلة أمس
في الضواحي. وضعت خمس ليرات ثمَّ خرجت أتمشى باتجاه كراج دمشق. كانت الشوارع
ملأى بالمسلحين والسيارات العسكرية، وكان الباعة يجلسون أمام حوانيتهم وهم
يحتضنون الكلاشنكات.
في أحد الشوارع استوقفوني وطلبوا هوِّيتي. تأكدت أنهم من تنظيم صديق فأخبرتهم
من أنا. عرفوني فوراً. أحدهم قبلني. سألوني عما إذا كنت أحتاج إلى مساعدة.
عرضوا علي إيصالي إلى أي جهة أريد. رفضت. سرت من جديد أتفرج على الفترينات.
وجدت الحل. ابتعت بنطالاً وقميصاً وحذاء، فخرجت من الحانوت مدنياً بحتاً.
لم أمر على مكتبنا في مدينة (ب) بل اتجهت فوراً إلى الكراج واستقليت أول سيارة
إلى دمشق. ارتفع قرص الشمس إلى الأعلى فغمرت أشعتها الباص وراحت تُسمع حركة
المسافرين وهم يستيقظون ويتثاءبون ويتمطؤون. استيقظ أيضاً الرجل الذي تكوَّم في
مقعده خلفي. معظم المسافرين أشعلوا سجائرهم وكأنَّ ذلك إيذانا ببدء الحياة.
مدَّ السائق يده إلى المسجلة يدس في شقها شريط كاسيت لأم كلثوم (اذكريني). كنت
قد نسيت منذ سنوات طويلة أنَّ لأم كلثوم أغنية تحمل هذا الاسم. جاء الصوت
مرتجفاً وباكياً. اختلط حزن الأغنية بفرح الصباح النضر : اذكريني كلما الفجر
بدا...
رحت أستمع إلى الأغنية وكأنها تخصني وحدي. كيف لا وقد كان المسافرون جميعهم
يثرثرون دون توقف. أحدهم قال إنه خائف من بيروت. فسأله الآخر : ولماذا ترحل إلى
هناك إذاً ؟ فأجاب أنا ذاهب للبحث عن ولدي، إنه يدرس في جامعة بيروت. انقطعت
عنا أخباره منذ مدة. تنهدت امرأة في الخمسين وقالت : يا لطيف !.
اذكريني كلما الطير شدا...
أحسست بغصة في صدري. كيف ستذكرينني يا ترى ؟. متى ؟ وهل ستذكرينني فعلاً ؟
ولكني الآن أذكرها وأذكر ملامحها الرقيقة. هنا في الباص بين هديره وصوت أم
كلثوم وثرثرات الركاب وسعال المعاون. ولكن أين عهدي على نفسي أن أنساها ؟ لماذا
عادت الآن، أبسبب الأغنية ؟ محوتها من ذهني ورحت أشغل نفسي بشيء آخر. أشعلت
سيجارة. تسليت بإطفاء عود الثقاب في آخر لحظة. راقبت السائق وهو يتمايل مع
أنغام الأغنية. المعاون وهو يغفو ثمَّ يستيقظ ليسعل. راقبت الحقول الخضراء
والجواميس التي تقضم العشب بلذة. أحصيت ما بقي من نقودي. فعلت كل ذلك لكن الغصة
بقيت ساكنة في صدري.
كان قد مضى على وجودي في دمشق شهراً كاملاً. استأجرتُ غرفة. اشتريتُ شراشف
جديدة وغطاء للطاولة. واشتريت أيضاً جهاز تلفزيون أبيض وأسود مستعملاً. كنت
أتناول طعام الغداء في المطعم ( الصحي) والعشاء في البيت، أما القهوة فكنت
أشربها في المكتب صباحاً وفي مقهى (النجمة) في المساء. كل شيء ممل. المكتب
والمطعم والمقهى والبيت. في بعض الأحيان كنت أشعر بالاختناق، خصوصاً عندما تبدأ
الشمس بالغروب. حينها أشعر كأنني برئة واحدة وأنني ألهث. أفتح ياقة القميص
ويصيبني صداع. أعتذر من أصدقاء المقهى وأغادر أمشي بوجه أحمر ضرَّجه الدم
الصاعد بنزق إلى الرأس. أخرج نصف ليرة وأبحث عن هاتف للعموم. أضيِّع ساعة
وعندما أجد الهاتف أفقد الرغبة في الاتصال بأحد. أعود إلى غرفتي. أصعد المئة
وعشر درجات. أستلقي على سريري وأدخن السجائر المهربة وعندما يطرق بابي أحد
تجتاحني سعادة ما ثمَّ ما تلبث أن تغادرني لتحتلني الكآبة والنزق والصمت. كان
علي أن أسرد ولكنني لم أكن أسرد. يضجرون من بطولاتي ويرحلون. أي بطل أنا في هذه
المدينة. بطل العمل السياسي والتنظيمي !!. هذا الشيء مدعاة للسخرية خصوصاً
أنَّك تفقد القدرة على الكلام حين يطلبون ذلك منك. أجلس في أحد المهرجانات
الخطابية ويدي اليسرى تقبض على برتقالة وهمية. أشعر ببعض الأشخاص ينظرون إلي
بحسد وإعجاب. ما قمت به عظيم، ما أقوم به تافه. بعد الخطب والكلمات يضربون حولي
طوقاً أثناء الخروج. كل الناس يريدون تحيتي وأنا أريد الهرب مصاباً بداء
الكآبة، أدخن بشراهة، تنتظرني ساعات أرق طويلة في البيت وفي بعض الأحيان أحطم
كأساً على الجدار.
كل ذلك كان يحصل عندما التقيت بنبيل.
احتضنني وجعل يقبلني. قبلته أنا أيضاً وأنا أشد على يده مصافحاً. أين أنت يا
رجل ؟ قرأت عنك الكثير. أنت الآن بطل حقيقي. يقولون أنك قهرت جيش لحد، ماذا :
ألم تقهرك امرأة ما؟ ثمَّ ضحكنا وانطلقنا إلى مكان ما لنأخذ كأساً أو إثنين من
الخمر.
قعدنا وشربنا الكثير. تحدث نبيل الكثير أيضاً. إنه مرح في طبعه، والدنيا لا
تستطيع تبديل شخص مثل نبيل. إنه كاتب وثوري وتاجر في آن معاً. يقول النكات كما
يتنفس. يضحك لأتفه تعليق. يقول نظريات مهمة ويناقش النساء حتى الصباح، وبعد أن
يغادرهنَّ يشعر بالأسف لأنهناقشهنَّ فقط. تذاكرنا معاً أيام زمان وتداولنا
مواضيع هذا الزمان. لا ينسى شيئاً. يتذكر كل شيء والأهم من ذلك أنَّه لا ينسى
أن يرفه عن أصدقائه.
المهم. شرب وضحك وأطلق النكات وحدثني عن نظريته وعن تجارته. خطر في باله أن
يسألني عما أفعل الآن.
بماذا أجيبه ؟. أحمر وجهي وزفرت وأصابني الغم فجأة. وبما أنَّ نبيل هو نبيل فقد
قلت له كل شيء. أخبرته عن إصابة يدي والشلل والعمليات الجراحية والرحلة إلى
برلين. ثمَّ أخبرته عن قرار التنظيم في إبعادي عن العمل العسكري حمايةً لي،
ولأنني أصبحت عاجزاً. حدثته عن حياتي في مكتب المدينة وعن الكآبة التي تصيبني
كل مساء عند الغروب لأنني أبتعد عن الناس وهم يبتعدون عني. أخبرته أنني أسوأ
رجل سياسة في هذه المدينة. لم أبقِ شيئاً لم أقله ولم أخفِ عنه شيئاً. قلت له
حتى أنني أحطم الكؤوس على الجدران وأمارس أسوأ العادات. فوجئ نبيل بكل هذا. كان
يستمع وهو صامت، وصمت بدوري وقد عاودني القلق. أطفأ السائق المسجلة عندما كانت
أم كلثوم تعيد مقطع اذكريني كلما الليل سجى… ثمَّ خرج الباص عن الاسفلت وأوقفه.
صمت المسافرون قبل أن تنتهي الحكاية وراحوا يستفسرون عن سبب التوقف. خرج السائق
من خلف المقود بصعوبة ثمَّ ترجل مع المعاون بينما نهض المسافرون ليراقبوهما عبر
زجاج النوافذ. أعلنوا جميعاً وبشكل متتابع أنَّ دولاب الباص قد (برشم). هرع بعض
المسافرين لتقديم المساعدة إلى السائق والمعاون بينما سار آخرون بعيداً كي
يتبولوا. سمعت السائق يشتم أم الدولاب. نهض المسافر الذي كان متكوماً خلفي.
استفسر عن الموضوع من امرأة صبية متحجبة فلم تجبه شيئاً. سألني فرفعت له كتفي
وأنا أقول له : الدولاب. هدأ إذ كان يحسب أنَّ حاجزاً قد أوقفنا. أخرج خيارة
وراح يقضمها بصوت عالٍ وشهي. أصدر أحد المتبولين صوتاً بشعاً فاحمر وجه المرأة
المتحجبة. تكومت في مقعدي وأغمضت عيني طلباً للنوم.
في اليوم التالي هتف إلي بالمكتب. قال إنني لم أعجبه في الأمس. قلت له إنني لم
أعد أعجب أحداً، فقال بأنه سيمر علي مساءً في البيت لنتحدث أكثر في الموضوع.
أغلقت الخط وأنا غير متحمس للموضوع.
وفعلاً جاء. كنت نائماً فأيقظني. أشرعنا النافذة طلباً للهواء النقي فقد كان جو
الغرفة كريهاً. سألني منذ متى وأنا نائم ؟ فاستنتج أنني نمت خمس ساعات. اغتسلت
وعملت كوبين من القهوة شربناهما صامتين. أراد أن يخلق جواً من المرح إلا أنني
قمعته بتجهمي. بعد قليل كسر الصمت وقال :
- انهض واحلق ذقنك وارتدِ ثيابك.
- ماذا هناك ؟.
- سوف أعرفك بفتاة.
قلت له لا أريد. عرفت الكثيرات خلال مكوثي في المدينة إنهنَّ تافهات ثمَّ إنني
أخاف أنَّ أخذلك. أصرَّ نبيل، قال إنَّه سيعرفني بنوع جديد ومتميز من النساء.
هذا النوع الذي سيعيد علاقتي بالحياة على أسس جديدة هكذا قال حرفياً ولذلك نهضت
وفعلت ما طلبه وقد زال عني نصف الكآبة. مشينا صامتين باتجاه شارع العابد حيث
اشترينا كيلو غراماً كاملاً من المشاوي ولتر وسكي مشكوك في مصدره ثمَّ استقلينا
سيارة باتجاه ركن الدين. وجدت الأمر مسلياً بالنسبة لي فابتسمت لإحدى نكات
نبيل. منذ زمن بعيد لم أذهب مع أحد لبيت فتاة. ربما خطط الرجل لأمسية جميلة
تجعلني أنسى كآبتي والغصة في الصدر والشعور بالوحدة. ليلة واحدة على الأقل.
ترجلنا ثمَّ صرفنا السيارة أمام بيت من طابقين له حديقة منخفضة. كان الشارع
هادئاً ومعتماً. فتح باباً حديدياً ثمَّ قادني بواسطة درج إلى الأسفل. طرق نبيل
باباًَ من الحديد والزجاج وأنا أتطَّلع إلى أحواض الزرع التي تحوي أي شيء ماعدا
المزروعات. فتحت الباب امرأة في الخامسة والثلاثين. هللت لمجيئنا. أدخلتنا وهي
ترحب بنا وكأنَّ أسعد شيء تتوقعه قد حدث. امرأة لطيفة تجدها في الأماكن
الراقية. مثقفة بدلالة لكنتها ومئات الكتب المصفوفة على الجدران الأربعة.
- السيدة هدى
- السيد ن.ع.
شدت على يدي بطريقة لطيفة جداً. إنها تعرفني وتعلم بمجيئي. اعتذرت بسبب بساطة
بيتها والأساس. جلست أنظر حولي وأنا أخفي يدي المشلولة. لاحظت أنها وبذكاء
تراقب يدي. فتح باب المطبخ ودخلت امرأة ثانية، امرأة في الثلاثين، ناعمة، رأسها
يصل إلى كتفي. ذات شعر مسبل على كتفيها. امرأة عادية نحيلة سمراء تحسب أنها بلا
عظام لليونة التي تتحرك بها. امرأة بجمال غريب لأنه عادي. لطيفة ومثقفة هي
أيضاً. حاولت أن لا تزيح عينيها عني. قدَّمها باسم ليلى وقدمني باسمي. صافحتني
بيدها اللاعظمية. أثناء ذلك أحسست أنَّ لها أعمق عينين صادفتهما في حياتي.
أعلنت المرأتان أنَّ هذه الليلة ستكون أعظم ليلة في حياتهما. تسلقت ليلى
المكتبة والتقطت من رفها العلوي زجاجتي نبيذ فرنسي معتَّق. نظرت إلي أثناء
نزولها. خرجتا وبدأتا بتحضير السفرة. كانت ليلى ترمقني في الرواح و المجيء.
أحسست بالحرج بالبداية ثمَّ اعتدتُ على نظراتها. الليلة هي ليلة البطل فشربنا
النخب الأول.
ليلى تملأ لي كأسي، تملأ لي صحني، تشعل لي سيجارتي، ترمق وجهي، توجه الحديث
نحوي وتحكي لي النكات. إن لم أضحك تحسب أنني لم أفهم النكتة، فتعيدها من أجلي.
أعلنت أنها ستضع في المسجلة أحب شريط إليها.. أيضاً من أجلي. سألتني إن كنت
أتذكر نكتة. سردت لهم نكتة عن رجل حمصي، ضحكت ليلى حتى غشيت من الضحك. كانت
النكتة سخيفة. بدأت تسابق الريح في إطلاق النكات حول <<الحماصنة>>. أخيراً طلبت
مني أن نرقص على أنغام (شيرلي باسّيه). لم أكن محرجاً لأنني كنت قد شربت بما
فيه الكفاية. سألتني وهي تحافظ على مسافة بين جسدينا إن كنت أعرف الانكليزية.
قلت لها نعم ومع ذلك ظلت تشرح لي معاني أغنية شيرلي.
أحبك، أكرهك، أحبك، أكرهك، أغنية جميلة والمرأة التي بين يدي جعلتها أجمل. كانت
تتمايل مع الأغنية وشعرها يتمايل معها والغرفة تتمايل أمام عيني.
انتهت الأغنية فعدنا ونحن نضحك. ضحك نبيل بسعادة لقهقهاتي. لقد نجح، وكعادته
يطرب لنجاحاته. صرخ بأعلى صوته طالباً زجاجة الويسكي. حان دورها. بدَّلت هدى
الكؤوس وأحضرت الثلج وبدأنا بشرب السائل المزيَّف. ثمَّ طلبت ليلى أن أحكي لهم
عن بطولاتي. لم أشعر بشيء إلا وأنا أحكي لهم عن التسلل والكمائن والضرب
والتراجعات وتصفيات الخونة وإنقاذ الجرحى وتفجير مباني القيادات وكشف الجواسيس.
حكيت لهم أشياء كثيرة. كنت أحكي لليلى، وليلى كلها آذان صاغية.كانت تعابير
وجهها تأخذ شكل ما كنت أسرده. وعندما حكيت لها كيف أصبت في المعركة الأخيرة
وكيف انسحبت من المعركة زحفاً، بكت.
في تلك اللحظة أحسست أنَّ علي أن أنهض وأعانقها ولكنها هي التي فعلت.
وقفت بكل هدوء ثمَّ اقتربت مني وعانقتني.
اصلحت جلستي على مقعدي. كان جاري يتابع أكل الخيار. بدأ الركاب في العودة إلى
الباص وهم يضحكون. قال زوج المرأة المتحجبة أنهم أنهوا تبديل الدولاب وسينطلق
الباص فوراً. صرخ أحدهم أنَّ الباص سيسير دون بدل. ردَّ آخر : خذ حسبك الله
وامش. ردد الجميع : لا إله إلا الله. صعد السائق ومعاونه إلى الباص وأخذا
مكانيهما. وضع السائق شريطاً جديداً. كانت أغنية الآهات لأم كلثوم أيضاً. انطلق
الباص وانطلقت الاغنية : آه من لقياك في أول يوم... تذكرت نهاية أول يوم. كنت
في غرفتي وحيداً بعد أن ودَّعت هدى وليلى ثمَّ ودعت نبيل الذي سيسافر صباحاً
إلى أبو ظبي.
كنت جالساً في غرفتي أدخن السجائر وأستعيد وقائع الليلة. ليلى هذه تركت
انطباعاً هائلاً في نفسي. تذكرت نكاتها وحركاتها فابتسمت. تنهدت ثمَّ زفرت ثمَّ
سألت نفسي إن كنت قد وقعتُ في الحب.
كنا قد تواعدنا للذهاب إلى السينما. انتظرت بفارغ الصبر انتهاء عمل المكتب. وفي
الساعة السادسة كنت أنتظر أمام سينما الكندي وفي جيبي ثلاث بطاقات، وما إن
وصلتا حتى دلفنا إلى الداخل وجلسنا نتحدث ونضحك، وما إن أطفِئت الأنوار حتى لم
يعد يسترع انتباهي شيء سوى التي إلى جانبي. حتى أننا وقـَّعنا في العتمة بطريقة
خرقاء على بطاقات الدخول وتبادلناها.
ما إن انتهى الفيلم حتى تنفسنا الصعداء وانطلقنا باتجاه ركن الدين. وهكذا كنا
نفعل كل يوم، كنا نمضي ساعتين أو ثلاث في الخارج ثمَّ نذهب إلى البيت، وهناك
كانتا تحضران السفرة ثمَّ نقعد لنأكل ونشرب، لنستمع إلى الموسيقى ونرقص على
أنغام شيرلي باسِّيه. كنا في بعض الأحيان نغني أغنية معاً بصوت هادئ بعد أن
أكون قد تعلمت بعض كلماتها. وما إن ينتصف الليل حتى تذهب هدى إلى النوم، فأمكث
ساعة أخرى مع ليلى نتحدث خلالها عن لبنان ونبيل. عن الأفلام التي كنا قد
شاهدناها وعن أغاني باري وايت وأوليفيا نويتن التي كنا نستمع إليها في تلك
الساعة. وعندما تدق الساعة الواحدة، كنت أنهض فألمس خدها بخدي ثمَّ أقبل يدها
كجنتلمان وأتمنى لها ليلة سعيدة.
كنت أعود إلى البيت مشياً على الأقدام، وفي بعض الأحيان كنت أركض فرحاً. لا
يهمني شيء ولا حتى أن يتطلع حارس ليلي إلي بدهشة. وما إن ادلف إلى غرفتي حتى
أستلقي على سريري وأنا أحلم أنها جالسة على مقعدي إلى جانب النافذة، فصوتها يرن
في أذني، وصورتها ثابتة في عيني، ورائحة عطرها ساكنة في رأسي.
أما في الصباح فإنني كنت أستيقظ نشطاً. أركض إلى الباص. أصعد الدرجات إلى
المكتب قفزاً. أحيي الزملاء فرداً فرداً. أشرب القهوة بلذة عارمة وأنا أدخن
السيجارة الأولى. حتى أنني كتبت خطاباً حماسياً وألقيته مرة في مناسبة وطنية
فوقف الحضور وهم يصفقون ويهتفون.
ياإلهي.. ياإلهي.. ماذا جرى لي ؟.
كانت أم كلثوم تتابع أغنية الآهات بصوت مجروح :
أشرب بايدي كاس يرويني.. اشرب بإيديك كاس يكويني..
رفعت جزعي ومسحت وجهي بيدي. كانت الغصة إياها تثقل على صدري. أخذت نفساً عميقاً
دون فائدة. كانت يدي القابضة على اللاشيء مركونة على فخذي ترعبني.
كان الوجوم مسيطراً على الركاب، رغم صوت أم كلثوم، فقد تلبدت السماء بالغيوم،
وأصبحت الأراضي اللبنانية مرئية، وكانت الشاحنات العسكرية والحواجز تغطي الأرض
والأفق.
أبقيت عيني مفتوحتين وأسندت رأسي إلى زجاج النافذة.
كنت قد قررت أن أقول لهاشعوري فيها، أن أقول لها ما أشعر نحوها. قررت أن أبثها
عواطفي. أن أقول لها أنَّ ذلك الشيء الذي أشعر به يضغط على كياني كله والذي
أنقذني من كآبتي ونزقي وموتي البطيء.
كنت قد قررت أن أقول لها في تلك الليلة إنني أحبها.
كنا قد أكلنا وشربنا، رقصنا وغنينا، وكانت هدى قد ذهبت لتستلقي. كانت ليلى
جالسة إلى جواري، قريبة مني، كنا نتحدث في أمر نسيته تماماً، لأنَّ ماحدث بعد
ذلك هو الذي لن أنساه في حياتي كلها.
أمسكت يدها في يدي فأبقتها على حضني. قرَّبت وجهي من وجهها فلم تبتعد. عندها،
قبلت شفتيها. وما إن ابتعدت عنها حتى همست بصوتٍ صادر من عمق أعماقي وبكلمات لم
أقل في حياتي كلها أوضح منها : ليلى، أنا أحبك.
رفعت عيني إليها لأرى ردها. كنت أنتظر أن تفتح ذلك الثغر الذي قبلته قبل هنيهة
وأن تقول ما أريد أن تقول فعلاً. ولكنها لم تقل شيئاً. تلألأت عيناها السوداوان
قليلاً ثمَّ نبعت دمعتان ارتجفتا قليلاً ثمَّ تدحرجتا على الخدين، ثمَّ أخفت
وجهها بيديها وراحت تبكي.
ياإلهي.. ماذا فعلت. ماذا حصل.. احتضنتها. استسلمت لي ولكنها لم تتوقف عن
البكاء. كانت تبكي بصوت مكتوم وينتفض جسدها بين يدي. كانت تبكي وتنتفض وتشرق
أنفها دون أن تستجيب لتوسلاتي.
ماذا حصل ؟ سألتها عشر مرات. مسحت لها دموعها بمنديل. قبلت يديها ثمَّ قبلت
عينيها الباكيتين. تذوقت السائل الدافئ المالح. ماذا حصل ؟.. كان علي أن أموت
لا أن أجعل ليلى تبكي.
هدأت قليلاً وابتعدت عن كتفي. حاولت الابتسام ولكن دموعها منعتها. كانت محرجة
وحزينة، تشعر بذنب ما لا أعرف كنهه. قالت لي بكلمات متقطعة دون أن تنظر في عيني
:
- انظر أرجوك. أنت بطل، ولزاماً علي أن أعتني بك. أن أحوطك بالعناية. أنت بطل..
والأبطال لا تقابلهم كلَّ يوم، ولا تستطيع التحدث معهم بسهولة ولمسهم. أنت بطل
عزيز، لكنك فهمتني خطأ.
تأكدت من صحة سماعي ما قالته. لقد فهمتها خطأ. كيف ذلك ؟ قلت لها مرة أخرى إنني
أحبها. استدارت إلى الطرف الآخر ومسحت عينيها من جديد سمعتها تقول وهي تنهض :
- أنت صديق عزيز ولكنني أحب شخصاً آخر. أرجوك افهمني، أنا المخطئة، الذنب ذنبي.
خرجت إلى المطبخ وتركتني أنهار على الكنبة. كان عقلي ساكناً متلبداً. لا يريد
أن يفهم، لا يريد أن يعي، لا يريد أن يقرر ماذا علي أن أفعل الآن، أن أفعل
غداً. ولكن التلبد انحسر فجأة فأحسست بالدم يصعد إلى رأسي وشعرت بحاجة للبكاء.
كم أحسد ليلى لأنها تبكي بسهولة هكذا. نهضت، ذهبت إليها. كانت واقفة أمام الغاز
تصنع القهوة وتبكي. أمسكت بها ماذا حدث ؟ لماذا فعلت بي هذا ؟ إنني أحبك،
أرجوكِ افهميني. لقد بنيتني من جديد فلماذا تحطمينني ؟ قلت لها أشياء كثيرة
أخرى. كانت تبكي وتقول : إنها تحب شخصاً آخر. نبيل هو الذي طلب منها أن تهتم بي
لأنني كنت بحاجة إلى ذلك.
تركتها. دلفت إلى الغرفة. حملت سترتي وعلبة سجائري وخرجت إلى الحديقة. صعدت
الدرجات لا أعرف كيف. خرجت إلى الشارع. سرت في العتمة وأن أسمع صوتها وهي تبحث
عني. أخذت سيارة أجرة أو ربما لا، نسيت كيف وصلت إلى بيتي وكيف بحثت عن فرشاة
أسناني وكيف انتظرت حلول الساعة الخامسة والربع، وكيف وصلت إلى محطة الباصات.
كان الباص يتابع سيره مجتازاً حاجزاً بعد الآخر. كان الجنود والمسلحون يصعدون
إلى الباص يدققون في البطاقات ويتفرسون في الوجوه. عرفني بعضهم فرحب بي. ولما
وصلنا إلى مدينة (ب) نزلت من الباص قرب مقهى <<ألبير>> حيث تناولت فنجاناً من
قهوة <<الإكسبريس>> وبعد ذلك سرت باتجاه دوار طريق الجنوب حيث التقطتني شاحنة
عسكرية تابعة للسوريين فأوصلتني إلى المعسكر
البيت الكبير
توقفت العربة أمام بوابة البيت الكبير. كان على السائق ان ينزل منها ليفتح
البوابة ومن ثم يقودها إلى الداخل. رحت أراقبه يدفع فردتي البوابة بعزم وبكلتا
يديه فقد كانت تتسع لمرور هذه العربة ذات الحصان الواحد. كنت أعرف البيت ولكن
من الخارج فقد كانت أمي تتعمد المرور في نفس الشارع في بعض الأحيان أثناء
خروجنا للنزهة. كان للبيت جدار عالٍ يحجب أجزاءه الداخلية وباحتيه الواسعتين عن
أعين المتطفلين من المارة، كما أن الجدار لم يكن يحتوي على نوافذ أما بوابته
فقد كانت تشبه بوابة السجن أو مدخل ثكنة الدرك عند سفح القلعة. وعندما أصبحت في
التاسعة قالت لي أمي ونحن نمر بحذاء الجدار العالي إنه في هذا البيت يسكن جدي
وجدتي وكل أعمامي وعماتي وأزواجهم وأولادهم. ومنذ ذلك اليوم تحول البيت الكبير
إلى لغز غامض بالنسبة لعقلي الطفلي وأصبحتُ أرجوها أن نمر في الشارع لألقي في
كل مرة نظرات فاحصة إلى حجارته وبوابته التي لم أرها مفتوحة ولا مرة واحدة. كنت
أتعمد البطء في السير لعل أحداً من أقاربي يفتح الباب الصغير ضمن البوابة
والمخصص لمرور الأشخاص ولكن، للأسف ظل ما وراء الجدار يشبه إلى حد كبير ذلك
المكان الذي ذهب اليه أبي بعد أن تلقى طلقة في صدره فقالوا إنه مات.
استطاع السائق فتح البوابة الواسعة ساعده في ذلك اثنان من الخدم ثم عاد وأمسك
بلجام الحصان وقاد العربة إلى الداخل بينما كنت أتأبط حقيبتي أخفي بها وجهي
استرق النظر إلى ذلك العالم المجهول الذي سيصبح بيتي. كنت خائفاً مما ينتظرني،
أنا ابن الثالثة عشرة الذي لم يتبق لي أحد في هذه الدنيا سوى أمه. ولكنهم
انتصروا عليها. كانوا يطالبون بي بعد مقتل أبي ولكن أمي كانت ترفض الانصياع
لهم. كان ساكنو البيت الكبير يرسلون رجلاً مسناً ومحترماً يدعى الحاج صالح
ليفاوض أمي. ظل هذا الرجل الطيب يأتي ويروح عارضاً البدائل عني ولكنها كانت ترى
فيّ أغلى ما في الدنيا. كنت بدوري أخاف أن تقبل ولم أكن أعِ معنى ما كان يردده
الحاج صالح وهو أن العائلة تريد ابنها.كنت ابن أمي فما معنى أن أكون ابناً
لعائلة تسكن بيتاً كبيراً له جدار عالٍ يزيده غموضاً على غموض؟ أخيراً، وافقت
أمي بعد أن سمعت بأذنيها فتوى الشيخ القدير الذي يحتل زاوية في الجامع الكبير
محاطاً باستمرار بالأتباع وطلاب علم الشريعة. ما دفعها أيضاً للموافقة هو أنهم
هددوها بخطفي.
كان جيش من الأولاد والبنات قد تجمع في الباحة الخارجية ليشاهد قدومي وقد لاحظت
أنهم يسترقون النظر أيضاً إلى الخارج قبل أن يفلح الخادمان في إعادة إغلاق
البوابة، فقد كنت الصبي الغامض القادم من الخارج، الذي هو لغز بالنسبة إليهم،
إلى الداخل الذي هو لغز أعظم بالنسبة إلي.
أُمرت بالجلوس في إحدى الغرف القريبة من المدخل وأغلق علي الباب. كانت غرفة
واسعة مليئة بالمفروشات حتى العتبة بينما كانوا قد أحكموا إغلاق النوافذ
فتسربلت في عتمة خفيفة لم يبددها ضوء النهار المتسلل من الطاقات العلوية. جلست
على كنبة ذات فرش نفيس وأبقيت يديّ تطوقان حقيبتي التي كانت تحوي كل متاعي في
هذه الدنيا.
تعرف أبي بأمي في مدرسة الفرنسيسكان. كانت تكبره بعدة سنوات وكانت مسيحية تدرّس
فيها مادة اللغة الفرنسية. أحبها الوالد كما كانت تقول لي وهي تزرف دمعتها. كان
يرتاد المدرسة ممثلاً لمحلات جدي الذي كان متعهدَ تقديم المواد الغذائية
للمدرسة. قالت أمي إنه كان رقيقاً وكانت الأرقام تتأوه عندما كان يقوم بجرد
الحسابات. أحبته هي أيضاً بسبب رقته وتأثرها بجرس صوته وعندما أعلن رغبته في
خطبتها قامت عليه الدنيا. تحول البيت الكبير إلى جهنم فقد كفر أبي حسب رأيهم.
ترك أبي البيت وتزوج مدرسة اللغة الفرنسية. كان يحبها حقاً فقد كان يسرع إلى
البيت البسيط الذي استأجراه ليضمها ويقبلها. لم يكونا يأبها لي وقد اعتدت على
عناقهما وكنت حين أستيقظ ليلاً للذهاب إلى الحمام كنت أراهما جالسين يتحدثان
همساً ورأسها على كتفه. كان البيت الكبير قد تبرأ من ابنه الذي تمرد على السيد
ألا وهو جدي ومنع أي كان من مجرد ذكر اسمه. ولكن أبي قتل أثناء تبادل لإطلاق
النار بين عشيرتين متناحرتين ومتنافستين على السوق. كان يمر مسرعاً عائداً إلى
البيت حين تلقى الطلقة في صدره فمات على الفور، أما أمي فقد ظلت تبكي سنة كاملة
وهي حتى اليوم تلبس الأسود حداداً على روحه الطاهرة ولكنها وجدت عزاءها فيّ.
كانت تقول لي بما أنني أشبهه فهو لم يمت ولكن المسكينة كان عليها أن تفقدني أنا
أيضاً.
دخلت علي امرأتان ترتديان السواد. قالتا إنهما عمتاي، لطفية وفكرية. كانتا
متجهمتين، ظلتا واقفتين طوال الوقت وهما تتحدثان إلي. قالتا إن علي أن أنسى
حياتي الماضية وخاصة أمي وإن علي أن أكون مطواعاً ومهذباً وأن أتأقلم سريعاً مع
قوانين البيت. بعد ذلك نادتا إحدى الخادمات التي قادتني عبر أبواب عديدة وأدراج
وسراديب ضيقة إلى غرفة لا تشرف على شيء، بل كانت أشبه بسجن بدون نوافذ ولكنها
كانت، لحسن الحظ، ببابين فقد قالت لي الخادمة إنني أستطيع تهوية الغرفة بفتح
البابين معاً فيهب تيار هواء بارد ورطب يعبق برائحة التراب.
لم أكن أتصور أنهم أتوا بي إلى هنا كي أسجن، فقد تُركت في غرفتي أسبوعاً كاملاً
دون أن يكلمني أحد أو يقوم بزيارتي. ولم أكن أعرف كيف أسير عبر تلك الممرات
والسراديب ولا إلى أين كانت تقود تلك الأدراج. فقط، كانت تلك الخادمة تأتيني
بالطعام والشراب ثلاث مرات في اليوم، أما حاجتي فقد كنت أقضيها في مرحاض في
استراحة أحد الأدراج. كنت أمضي أيامي وليالي مستلقياً على سريري، مفكراً في
أمي. وفي اليوم الثامن قادتني الخادمة إلى الباحة الداخلية وطلبت مني أن أعرّض
نفسي للشمس وأن ألعب مع أولاد عمومتي إن أردت ولكن، وقالتها بكثير من التحذير،
علي أن أعود إلى غرفتي قبل غياب الشمس فجدي لا يحب رؤية الأطفال ولا سماع
ضجيجهم حين يعود إلى البيت. تركتني الخادمة ورحلت عندها تجمع حولي عشرة أطفال
أصغر مني هم أولاد وبنات أعمامي و عمّاتي وراحوا يمطرونني بالأسئلة حول حياتي
السابقة، حول أمي وأبي وحول العالم الغريب عنهم الذي يقبع خارج الدار. ولكن
سرعان ما ملّ الأطفال مني بسبب صمتي فراحوا يلعبون بعيداً عني، أما أنا فقد
جلست وحيداً متفكراً في حالي وغصة شديدة تقبض على حنجرتي تدفعني للبكاء دون أن
أجرؤ على البكاء. وقبل أن أصعد إلى غرفتي تنبهت إلى أن فتاةً في عمري كانت
تتلصص علي من إحدى النوافذ لغرفة تعلو الفاصل بين الباحتين.
وفي مساء اليوم التالي سمعت خطوات تصعد الدرج. وما هي إلا لحظة حتى دخلت
الخادمة نفسها وأشعلت النور. كنت خائفاً أن تكتشف عدم استغراقي في النوم حتى
هذا الوقت المتأخر حسب قوانين البيت. اقتربت من سريري ولمستني. كانت هذه هي
المرة الأولى التي تزورني في الليل. فتحت عيني فقالت لي همساً كعادتها إن جدي
يريد مقابلتي. انتابني خوف عظيم فهذه هي المرة الأولى التي سأقابل فيها هذا
الرجل الجبار. كنت قد رسمت له في عقلي صورة ترعبني إذا ما شاهدتها في منامي
ولكن الصورة لم تكن تستند إلى تصور واقعي فلم يكن أحد من قبلُ قد وصفه لي فحتى
أمي لم تكن قد قابلته مطلقاً.
قادتني الخادمة عبر الأدراج والممرات حتى الباحة الداخلية ثم عبرناها لنرتقي
عدة درجات حجرية ذات درابزين من الحديد المشغول. أوقفتني أمام باب خشبي مزخرف
لفترة كي نسترد أنفاسنا ثم نقرت عليه نقرات خفيفة وفتحته ثم دفعتني إلى الداخل.
وجدت نفسي في العتبة المنخفضة عن مستوى أرضية الغرفة وفضلت البقاء هناك. كنت
أحسب أنني سأتلقى الأوامر فوراً إلا أن الصمت المطبق ولفترة طويلة دفعني إلى
رفع رأسي. كان هناك صفان من البشر إلى يمين وإلى يسار الغرفة. النساء إلى
اليمين والرجال إلى اليسار بينما كان رجل أبيض اللحية والرأس، يعتمر طاقية
قطنية بيضاء ويلف نفسه بعباءة عسليّة اللون تضفي عليه مهابة فوق مهابته، يحتل
صدر الغرفة. كل النساء كن يرتدين ثياباً سوداء ويغطين شعورهن بحجاب أسود بينما
الرجال يرتدون البدلات وربطات العنق السوداء. كان الجميع ينظر إلي دون أن ينبس
أحد بكلمة. لم أكن أعرف أحداً منهم ولم أفرق بين أعمامي وأزواج عماتي وبينهن
وبين زوجات أعمامي، إلا أنني عرفت أن ذلك الرجل المسن والمهيب هو جدي والمرأة
المسنة التي تجلس قريباً منه في آخر صف النساء هي جدتي.
أشار لي جدي بيده لأقترب فتركت العتبة ووقفت في النقطة المقابلة للنقطة التي
كان يجلس فيها. كنت محتاراً ماذا أفعل بيديّ فشبكتهما على بطني وظللت أنقّل
ناظري بين الرجال والنساء دون أن أجرؤ على النظر في عيني الرجل المهيب. كانوا
يتفحصونني وعلى الأغلب يحاولون اكتشاف ما يدل على قرابة الدم التي تربطني بهم.
سألني جدي عن اسمي وعن مدرستي وإلى أي صف وصلت. ثم سألني عن مادة الحساب وعن
اللغة الفرنسية إن كنت تعلمتهما جيداً. لم يسألني عن أمي أو أبي المرحوم
وكأنهما لم يوجدا قط، بل أنا الذي سألته متى أستطيع رؤية أمي عندها، وبحركة
بيده طلب مني الخروج فخرجت. في الخارج اصطدمت بالخادمة التي كانت تنتظرني
فقادتني إلى بداية شبكة الممرات والأدراج وطلبت مني الوصول إلى غرفتي بنفسي
لأنها كانت متعبة ثم رحلت. انتظرت برهة حتى غاب عني وقع أقدامها فعم الصمت جميع
أرجاء الباحة فبدأتُ رحلة العودة إلى غرفتي.
اللقاء مع جميع أفراد عائلة أبي جعلني ارتاح أكثر، فها أنا ذا أعرف جدي بشكل
مباشر ولم يعد هناك ضرورة لرسم صورته من خيالاتي فحسب. ولكن اللقاء ترك عندي
أيضاً شعوراً بالخوف من هذه العائلة الغريبة والتي يحتل فيها جدي مكانة لم
أعهدها لأبي حين كان بيننا. لم يجرؤ أحد من أعمامي أو أزواج عماتي على التفوه
ولو بكلمة واحدة في وجوده وهذا بالضبط ما ضايقني وجعلني أرسم صورة فظيعة
لمستقبلي إن بقيت هنا. رحت أبكي وأنا أصعد في سلسلة الأدراج والممرات إلى غرفتي
فقد كنت أشعر بوحدة رهيبة وباشتياق مميت لأمي حتى إنني تساءلت بيني وبين نفسي،
هل تخلت أمي عني؟
أثناء عودتي اكتشفت طاقات صغيرة هي عبارة عن فتحات تهوية للغرف السفلية كان
بصيص نور يأتيني من إحداها. إلا أن الاكتشاف الذي أسعدني أكثر كان طاقة تودي
إلى السطح الذي يعلو مجموعة من غرف الباحة الخارجية المخصصة لضيوف الجد
والزريبة والخدم، وفي نهايته تظهر بشكل واضح ستارة الجدار العالي الذي يشرف على
الشارع. استلقيت على سريري ولكنني لم أستطع النوم فقد كانت صورة جدي وباقي
أفراد العائلة تعود لتبعد عن عيني النوم ولذلك فقد بكيت خوفاً وأعتقد أن أمي
كانت ستعذر بكائي فقد كان الجميع يخاف جدي فما بالي أنا ابن الثالثة عشرة.
نهضت وذهبت إلى تلك الطاقة التي اعتبرتها أهم اكتشاف لي الليلة. مررت خلالها
بسهولة بسبب ضعف بنيتي ثم وبقفزة صغيرة أصبحت على السطح. كان علي أن أتحرك
بهدوء لكيلا أصدر أي صوت. حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن الحافّة لئلا يشاهدني
أحد من الخدم، فسرت ملتصقاً بالجدار الجانبي حتى ستارة الجدار العالي التي كانت
أعلى مني بذراع. تشبثت بأعلى الستارة ونظرت إلى الأسفل فشاهدت الشارع الذي كنت
قد مررت فيه أنا وأمي مئات المرات. ظللت معلقاً بالجدار مدة وقد شعرت بتحسن
حالي فقد أصبح لدي أمل بمشاهدة أمي لأنني كنت على يقين من أنها ستمر يومياً من
هنا.
تركت الجدار وعدت عبر الطاقة إلى الداخل. كانت الإثارة قد أطارت النوم من عيني
فلم أعد فوراً إلى غرفتي. سرت في السرداب المعتم محاولاً ألا يصدر عني أي صوت.
توقفت عند فتحة تهوية لإحدى الغرف، فقد كانت تشع بضوء خفيف. أدخلت رأسي فيها
ونظرت، كان أحد أقربائي يتحدث مع زوجته. قال لها شيئاً طريفاً فضحكت ثم مد يده
وقرصها في خدها. كنت أطل عليهما من الأعلى فقد كانت فتحة التهوية هذه قريبة من
سقف الغرفة. كان قريبي يشرب شيئاً بفنجان من الصيني وكانت زوجته تقرب من فمه
تفاحة وحينما يهم بقضمها كانت تبعدها وهي تضحك. طالت لعبتهما وعندما شعرتْ أنه
قد ملّ اللعبة نهضت وعقدت شالاً حول خصرها وراحت ترقص له. صار يصفق لها بإيقاع
راقص وهو منشرح النفس ولكنني سرعان ما مللت فأخرجت رأسي وسحبت نفسي إلى غرفتي.
في النهار نزلت إلى الباحة ومكثت هناك وحيداً فقد كان الأطفال يتلقون الدروس في
الداخل على أيدي مدرسين خصوصيين، إذ أن الجد كان يرفض ذهاب أحفاده إلى المدارس.
لاحظت أنني مراقَب وعندما رفعت رأسي وجدت نفس الفتاة تنظر إلي من نافذتها. لم
تنسحب حين رأتني أنظر إليها بل ظلت في مكانها ثم ابتسمت لي. ابتسمت لها بدوري
ولكن هذه الابتسامات جعلتني أقلق، فقد لاحظت أنها قد تراني أمشي على السطح إذا
ما استدارت بزاوية معينة باتجاه الباحة الخارجية.
انتظرت ريثما تأتي الخادمة وتنزل بأطباق الغداء، حينئذ أسرعت إلى طاقة السطح.
خرجت وأسرعت بالابتعاد عن حرفها وهناك تأكدت أن الفتاة ليست على نافذتها فسرت
حتى الستارة فتعلقت بها ورحت أتطلع إلى الشارع. كان هناك عدد من المارة وعربة
يجرها حصان واحد تأتي من بعيد بينما امرأة فقيرة ترتدي ملحفة سوداء عتيقة جلست
تتسول مسندة ظهرها إلى الجدار المقابل. مر وقت طويل وأنا على هذه الحالة حتى
تعب ساعداي اللذان كنت أضع ثقل جسمي عليهما. كدت أنزل لولا أنني لاحظت المتسولة
وهي ترفع النقاب الأسود عن وجهها وتتطلع نحوي. يا لله، فقد كانت أمي وقد تنكرت
بثياب امرأة متسولة. أشرت لها فأشارت لي واضطررت لأن أرفع نفسي أكثر بناء على
رغبتها لكي تراني جيداً. بقينا هكذا مدة ونحن نتحدث بالإشارات ونبكي. ودعتها
بعد أن اتفقنا على أن نلتقي كل يوم في نفس الموعد ثم نزلت عن الستارة وعدت إلى
غرفتي.
في الحقيقة انقلبت الدموع التي زرفتها أثناء مشاهدتي لأمي إلى شعور بالارتياح
انتابني لأنني تمكنت أخيراً من مخادعة قوانين البيت وإيجاد طريقة للتواصل معها.
في الليل لم يأتني النوم بسبب انشغال ذهني رغم أن النوم كان سيقرب ساعة لقائي
بها من جديد فنهضت ورحت أتفحص فتحات التهوية علّني أجد في إحداها نوراً فأتسلى
بمراقبة أقاربي. ولكن للأسف، فقد كانت جميعها مظلمة وقد خمنت السبب، فيما
أعتقد، بأن جميع الكبار يتناولون العشاء في هذا الوقت على مائدة جدي ثم سيجلسون
معه للتداول في أمورهم إن لم أقل في الاستماع إليه بأفواه مطبقة قبل أن يتفرقوا
إلى غرفهم. صدق حدسي فعندما عدت إلى الفتحات قبيل منتصف الليل وجدت النور يتسرب
من معظمها. انتقيت فتحة لا على التعيين ثم دسست رأسي فيها. كدت لا أصدق عيني
وكادت صرخة تنطلق من فمي دون إرادتي فتكشفني. كانت الزوجة ملقاة على أرض الغرفة
ممزقة الثياب بينما غطت الدماء جزءاً من وجهها. كانت المسكينة تتلوى بينما
الزوج يدخن بشراهة وهو يحوم في أرجاء الغرفة. بعد قليل دخلت ثلاث نساء ورحن
يهتممن بها فقد كانت فقدت الوعي بينما راحت إحداهن توجه اللوم للزوج على فعلة
ما عملها لزوجته في حين كان يخرج زجاجة خمر ويعب منها. كل الأحاديث كانت تجري
همساً لأن على جدي ألا يعرف ما يجري. أخيراً استطاعت النساء الثلاث إخراج
المرأة المضروبة من الغرفة فبقي قريبي وحيداً بصحبة زجاجة الخمر. جلس قبالتي
مباشرة ونظر باتجاهي فسحبت رأسي بسرعة البرق وأنا على يقين من أنه شاهدني. مكثت
فترة قابعاً قرب الفتحة محاولاً التقاط أية حركة تنبئ بأنه قد شاهدني فعلاً
ولكنني لم ألحظ شيئاً غير عادي فعدت للنظر من خلال الفتحة فوجدته يعب الخمر
مغمض العينين.
سارت الحياة في البيت كالمعتاد وقد حاولت أن اكتشف ما الذي جرى للمرأة التي
ضربها زوجها ومن تكون ولكنني لم أفلح. ظل كل شيء هادئاً ومخادعاً حتى أنني شككت
بما رأيت. والشيء الصحيح الذي لا مجال لنفيه أو التشكيك فيه هو أنني صرت ألتقي
بأمي يومياً، هي تجلس على الرصيف مرتدية ثياب امرأة متسولة وأنا معلق على ستارة
السطح. أخبرتها مرة أنني لم أعد أطيق المكوث أكثر فطلبت مني أن أصبر وأن أظهر
لأهل البيت الاستسلام والسكينة وحين يدَعونني أخرج من البيت فلسوف تكون في
انتظاري. نزلت في تلك المرة عن الستارة وأقعيت بجانبها أبكي، فقد كان البكاء
الوسيلة الوحيدة المتبقية لي لنسيان قهري. وعندما كنت متجهاً إلى الطاقة لأنزل
من السطح تسمرت فجأة في مكاني فقد رأيت تلك الفتاة واقفة على نافذتها بزاوية
كنت أخاف أن تقف فيها فتراني. تبسمت لي ولكنني، بسبب رعبي من انكشاف أمري، نسيت
أن ابتسم لها بل أسرعت بالدخول في الطاقة والهرب إلى غرفتي.
أمضيت باقي النهار في انتظار من سيأتي ليعاقبني على ما كنت أفعل ولكن أحداً لم
يأت. وفي المساء استدعاني جدي إلى محفله ذاته ليخبرني بأن مدرساً سيأتي إلى
البيت ابتداءً من الأسبوع القادم ليعلمني أصول مسك الدفاتر التجارية، فقد أصبحت
كبيراً وعلي أن أعمل كما قال، وهو يقصد بالتحديد العمل في مصالحه التجارية.
هززت رأسي دون أن أنبس بكلمة ثم نقّلت ناظري في وجوه أقربائي من الرجال والنساء
فعرفت رجلين وامرأتين، واحدة كان يدللها زوجها والأخرى تلك التي أغمي عليها من
شدة الضرب. كان حول إحدى عينيها كدمة زرقاء حاولت إخفاءها بالمساحيق ولكنني
ميزتها بسهولة. ارتبكت المرأة من نظرتي التي تباطأت عندها وبالتحديد عند طرف
وجهها الأيسر فأطرقت ثم رفعت يدها تحك بظفرها جبينها لتخفي وجهها عني. طردني
جدي بحركة ملولة من يده فخرجت. لم أجد الخادمة في انتظاري فتمهلت قليلاً ثم
اقتربت من المعبر الذي يوصل ما بين الباحتين وألقيت نظرة نحو الباحة الخارجية
فشاهدت أحد الخدم يعتني بالعربة بينما كنت أسمع صوت الحصان في الزريبة وهو يضرب
الأرض بحافره وينخر.
صعدت إلى غرفتي ولم أتوقف عند فتحات التهوية فقد كانت معتمة. كان علي أن أمضي
وقتاً في غرفتي قبل أن يحين موعد عودة أقربائي إلى غرفهم، وبينما كنت أقترب من
باب غرفتي تجمدت من الرعب. وربما أطلقت صرخة قصيرة فقد كان هناك شخص ملتصقاً
بالجدار يحاول الاختباء. كدت أعود من حيث أتيت ولكن صوتاً أنثوياً ناعماً طلب
مني ألا أخاف لأنها "هي". قالتها هكذا.. " لا تخف، أنا ! ". خمنت أنها ربما
كانت نفس الفتاة التي شاهدتها عدة مرات تنظر إلي من نافذتها. خرجتْ من مخبئها
في الوقت الذي اقتربت فيه منها ولكنني لم أميزها في الظلام فسرت باتجاه الغرفة
حيث الإضاءة أفضل فقد كنت قد تركت النور ساطعاً والباب مفتوحاً. تبعتني وعرّضت
وجهها للنور فعرفتها على الفور. كانت هي نفسها كما خمنت. طلبت منها الدخول
فرفضت وفضلت أن نعود إلى الممر المعتم لنتحدث. عدنا إلى حيث كانت مختبئة.
استندتْ إلى الجدار بينما استندتُ إلى الجدار المقابل ورحنا نتحدث. قالت إن
اسمها فيروز وإنها ابنة عمتي لطفية التي ترملت منذ مدة والتي كانت إحدى
المرأتين اللتين قابلتهما أول يوم. قالت إنها تعطف علي فهي نفسها تكره هذا
البيت وتتمنى لو تهرب ذات يوم. اطمأننت لها فحدثتها عما شاهدت من إحدى الفتحات
وكيف أن امرأة قد ضربت حتى فقدت الوعي فأخبرتني أن ذاك الرجل هو خالها (أي عمي)
سليم وهو معتاد على ضرب زوجته إلى أن تفقد وعيها وقالت إنه قد طعن زوجته الأولى
حتى الموت وإن جدي استطاع لفلفة الموضوع مع الحكومة ومع أهلها. أعلمتني أيضاً
أن لي عماً آخر وهو الأكثر بدانة من الجميع واسمه جابر وهو قاسٍ أيضاً ولكنه لم
يصل إلى حد القتل. قالت إنه يحب أيضاً تعذيب امرأته ثم أعلمتني أن باقي النساء
في البيت هن خالاتها أي عماتي وباقي الرجال هم أزواجهن. وأكثر ما أرعبني هو
اعترافها أن خالها سليم هو الذي قتل أباها في السرير بينما كان نائماً إلى جوار
أمها.
اكتشفتُ أنني قد بللت سروالي بسبب رعبي الشديد مما سمعت. اقتربت فيروز وأمسكت
بيدي وطلبت مني أن أتبعها ولكنني تمنعت خوفاً من أن ينكشف البلل على سروالي إلا
أنها أصرت فتبعتها. دخلتْ إلى غرفتي ثم خرجتْ من الباب الآخر فسرنا في سرداب
متعرج ونزلنا عشرين درجة ثم سرنا في ممر آخر ومن ثم صعدنا درجاً ثانياً. توقفت
في نهايته وطلبت مني السير بحذر شديد. في نهاية الممر كانت هناك نافذة مضاءة
بشكل خفيف. اقتربنا منها بحذر ودون حتى أن نتنفس. نظرت فيروز أولاً ثم ابتعدت
عن النافذة وطلبت مني أن ألقي نظرة. اقتربتُ ونظرتُ. كدت أطلق صرخة رعب لولا يد
فيروز ويدي اللتين أطبقتا على فمي. كانت هناك امرأة مشوهة الوجه والجسد أقرب
إلى الحيوان منها إلى الانسان متكومة على السرير وهي تسدد إلينا نظرة وحشية.
كانت ضئيلة الجسم، نبت الشعر على يديها وساعديها. لم أستطع إطالة النظر إلى ذاك
المخلوق المخيف فأخفيت عينيّ بيديّ ثم ركضت عائداً من حيث أتينا فلحقت بي فيروز
ولولاها لكنت تعثرت وتدحرجت إلى أسفل الدرج.
لم تستطع فيروز اللحاق بي إلى غرفتي فقد كان عليها العودة قبل أن يتفرق محفل
جدي وتعود أمها وأبوها فيكتشفان غيابها. وفي الصباح، كنت أشعر بوهن في جسمي
وأعصابي بسبب جرعة الرعب الهائلة التي نلتها وعدم تمكني من النوم، فقد كان
الخوف قد احتل كياني وكنت أحسب عند أية حركة أو طقطقة أن عمي سليم قادم ليقتلني
أو تلك المرأة الوحشية قادمة لتأكلني، وقد أسرفت في البكاء حين كنت متعلقاً
بستارة السطح أتكلم مع أمي بالإشارات وقد حاولت المسكينة أن تواسيني دون أن
تفهم إشاراتي وأنا أصف لها ما سمعت ورأيت ليلة البارحة. وفي المساء انتظرت مجيء
فيروز بفارغ الصبر فقد كنت أتحرق شوقاً لمعرفة سبب وجود تلك المرأة الوحشية في
البيت فأخبرتني فور مجيئها بأنها عمّة من عماتي وقد ولدت على هذه الشاكلة وقد
أراد جدي وعمّاي قتلها أكثر من مرة إلا أن جدتي كانت تمنعهم وتقول إن رزقهم
الذي تضاعف عشرات المرات حين ولدتْ سوف يزول ويتحولون جميعاً إلى فقراء إذا ما
حدث لها مكروه.
جلست متعباً وخائفاً وكلي قناعة أنني ميت لا محالة، أو على أقل تقدير طريح سجن
جدي الرهيب. كنت قانطاً من أية رحمة وقد اسودت الدنيا في عينيّ أنا ابن الثالثة
عشرة. إلا أن فيروز همست لي ونحن جالسان في الممر يضيئنا نور غرفتي الذي كان
بابها يسكبه كحزمة لها شكل هندسي مؤلف من سطوحٍ متوازية. فجأة همست لي ابنة
عمتي وهي تمد لي قطعةً معدنيةً لها شكل مفتاح هائل الحجم:
- لم لا تهرب وتأخذني معك؟
كان لكلمة الهرب صدى مدوٍ في رأسي. لماذا لا أهرب؟ هكذا تساءلت وأنا أخطف مفتاح
البوابة الخارجي من يد فيروز. كان ثقيلاً وبارداً لم تستطع يدا تلك الصبية أن
تدفئه. وافقت فوراً على فكرة الهرب ثم شرعت في طرح الأسئلة لكي أنظم في عقلي
الفكرة جيداً. طرحت عليها كل الأسئلة التي خطرت في بالي آنئذ فعرفت أن أفضل وقت
للهروب هو قبيل آذان الفجر بدقائق، ففي هذا الوقت يكون الجميع نياماً بعمق
وآذان الفجر سيوقظ بعض الخدم. يكفي أن نقفل البوابة من الخارج بحرص شديد لأن
نكون في أمان لمدة ساعات لأنهم لن يكتشفوا غيابنا إلا في وقت متأخر من الصباح.
في اليوم التالي ألقيت لأمي بورقة مطويّة كتبت فيها ماذا عليها أن تفعل وعندما
قرأتها ارتبكت وحاولت أن تثنيني عن الهرب، إلا أنها وتحت إصراري أشارت لي أنها
ستنتظرنا الليلة قبيل الفجر في نفس المكان ثم نهضتْ وابتعدتْ، أما أنا فقد عدت
إلى غرفتي وأمضيت باقي النهار والليل مستلقياً في السرير مرتجفاً خوفاً من
افتضاح أمري. وعندما صعدت الخادمة بالطعام ووجدتني على هذه الحال حسبتني مريضاً
فجاءت لي ببعض حبوب الكينا لأبلعها فجاريتها بذلك فشعرت بمرارة فظيعة في فمي
وحلقي. خفت أن تصعد إلي مراراً ولكنها اكتفت بالمجيء بعد العشاء لتنزل بالأطباق
التي لم أكن قد مسستها إلا أنها اطمأنت إلى أنني غير محموم فلم تعد إلي.
كنت خائفاً من أن أنام ويفوتني موعد الهروب ويبدو أن فيروز قد ساورها نفس
الخوف، وأستطيع القول بأنني أمضيت أطول ليلة في حياتي كلها مستلقياً في سريري
في الظلام. وقد شعرت في لحظة ما أن الوقت قد حان فارتديت ثيابي وأقعيت في زاوية
مظلمة انتظر نزول فيروز من غرفتها ولكنني كنت مخطئاً فقد كان الوقت أبكر مما
يجب بساعة ونصف تقريباً وعندما جاءت فيروز أخيراً كانت مفاصلي فقدت مرونتها. لم
نتكلم ولا كلمة واحدة بل أشارت إلي لأتبعها فمشيت خلفها في المسارات المظلمة
دون أن يصدر عنا أي صوت. عبرنا إلى الباحة الخارجية وهناك شعرت أن المسافة التي
تفصلنا عن البوابة لن تنتهي أبداً ولأول مرة أيضاً حسبت أن للسكون ضجيجاً في
الآذان وأن العتمة ليست ظلاماً في المطلق يمكن الاختباء فيها بأمان.
كنت أعرف أن فيروز أكثر شجاعة مني ولكنني لم أكن أعرف أنها أقوى مني إلا حين
فشلتُ في فتح الباب الصغير في البوابة الكبيرة فأبعدتني لتقوم بالعمل على أكمل
وجه. وعندما أصبحنا أنا وفيروز في الخارج بدون أي متاع، كانت الأمور قد جرت حسب
تخطيطنا ودون أية مفاجآت غير مرغوبة. أقفلنا باب البوابة الصغير والخاص
بالأفراد بذلك المفتاح الضخم ومشينا بهدوء لننضم إلى أمي التي أجّلت قبلاتها
إلى بعد حين. ولكنها لم تقدنا إلى البيت بل إلى أحد كراجات السفر حيث استقللنا
البوسطة إلى مدينة أخرى وهناك استأجرنا غرفة ثم بحثت أمي عن عمل كمدرسة للغة
الفرنسية فوجدته بسهولة. أما أنا فقد تابعت دراستي وحصلت على شهادة البكالوريا
ثم على شهادة المحاماة ثم تزوجتُ فيروز.
التفكير بنعيمة
ولما كان الوقت قد تأخر أطفأ النور واستدل بيديه الدرب إلى السرير الذي كان
اشتراه من سوق الجمعة حين فكر بالزواج من جارته نعيمة ابنة الإسكافي التي فهم
أنها تحب النوم على سرير افرنجي، ولكن الزواج لم يتم ولا يعرف لماذا لم يتم
وسأل نفسه نفس السؤال وهو يلمس طرف السرير بيديه في العتمة. وعندما استلقى قرر
ان يستمر في التفكير بنعيمة خاصة أنه لا يستطيع النوم فور استلقائه وعليه
دائماً ان يبحث في ذهنه عن موضوع شيق كي يشعر بشيء من السعادة لربما أثر ذلك في
الأحلام التي ما تنفك تأتيه بكثافة. ونعيمة كانت تسأله باستمرار عن سبب عدم
زواجه وكيف يتدبر أمور طعامه وغسيله حتى جاء اليوم الذي قرر فيه ان يطلب منها
ان تتزوجه ما دامت تشغل بالها في أموره وهو يتذكر الآن كيف درس الأمر من كل
جوانبه ووجد انها ربما ترغب به رغم سنواته الستين وهي عانس في الخامسة
والثلاثين ثم انها ليست عظيمة الجمال والحَوَل الذي في عينيها ليس بالتأكيد
حَوَل الحُسنِ كما يقولون بل زاد في عادية جمالها. وهو يقول إن جمالها عاديٌ
لأنه يرفض التصريح، ولو لنفسه وهو مستلق على السرير الافرنجي، انها قبيحة رغم
ان الشبان يقولون عنها إنها كذلك. وتذكر انه دَرَسَ الأمر جيداً فهو لا يريد ان
يَطلب ويُرفض فيخْجل فقد أصبح في الستين وعاش حياته بعد وفاة أمه وحيداً فما
معنى، وفي هذه السن، ان يخجِّـلوه فيرفضوا طلبه. ونعيمة لا تحب العيش في بيت
أهلها إلى يوم القيامة خاصة وأن أباها قد رحل وورثته أمها في التحكم بها فصار
وضعها أسوأ من قبلُ لأن أمها امرأة سليطة اللسان وتخاف من كلام الناس هذا غير
أخوتها الكبار والأصغر منها الذين يحبون ان ينفخوا عضلاتهم أمامها. وفي كثير من
الأحيان كان يسمع صراخاً من الأعلى، أي من شقتهم التي تقع فوق شقته وقبل أن
يطفئ النور ويذهب إلى السرير متلمساً طريقه في الظلام بيديه الممدودتين أمامه.
وقد فكر أكثر من مرة في شراء مصباح ليلي يضعه إلى جانب السرير ليتخلص من خوفه
من التعثر بكرسي أو بفردة حذاء أثناء رحلته الطويلة من باب الغرفة حيث مفتاح
النور وحتى السرير الذي يبعد طرفه القريب متراً ونصف المتر فقط، أما عن الصراخ
فقد كان يفهم أن أمها وأخوتها يوبخونها ويسبونها ويدعون عليها بالحمى. وحين كان
يفكر في الأمر جمع كل تلك الأسباب في خانة واحدة فوجد أنه إذا طلب أن يزوِّجوها
له فأهلها لن يخجلوه بل سيرحبون بالفكرة على الأقل ليتخلصوا منها وليشيلوا همها
عنهم ويضعوه على أكتافه كما يقولون. وتذكر كيف أنه كان عائداً من عمله حين وجد
نعيمة تشطف الدرج فمسّى عليها فردت له التحية وسألته عما كان يحمل في كيس
النايلون فقال إنهما صندويشتا فلافل سوف يلتهمهما على الغداء عندها قالت له إنه
مسكين وعليه ان يبحث له عن زوجة تشيل كبرته فأجابها إنه بدأ يفكر جدياً في
الزواج وإنه سيكون لها من الشاكرين إن دلته على امرأة عاقلة وابنة ناس ترضى
بعجوز مثله، وقتها ابتسمت نعيمة ومدت يدها ووضعتها على يده التي كان يستند بها
إلى درابزون الدرج فمر تيار كهربائي في جسده كله وشعر بحرارة شديدة تصعد إلى
رأسه وزاد خفقان قلبه وجفاف فمه. وهو الآن يسمع خطوات في الشقة التي فوق وهي
خطوات لانسان يعتمد في سيره على إنزال كعبي قدميه الحافيتين على الأرض بقوة
فيحدثان صوتاً كصوت الطرق وهو منذ ان اكتشف أن هذه هي مشية نعيمة صار يتأثر
بسماعه للخطوات أما مشية أمها فهي غير متميزة ولا تحدث صوتاً مثل هذه بل يخيل
إليه أن أمها تسحب قدميها سحباً وهي قلما تسير حافية. وبقي عليه أن يتذكر وقع
خطوات أخوتها الذكور الذين يزورونهما في أوقات متفرقة ولا يجتمعون كلهم إلا في
العيدين الكبير والصغير وفي نصف شعبان بعد أن يعودوا من المقبرة إثر زيارتهم
لقبر أبيهم المسكين الذي مات قبل أن يطمئن قلبه بتزويج ابنته نعيمة، فخطواتهم
ذكورية وهم، في كل حال، يسيرون في البيت بأحذيتهم مما يجعل لخطواتهم رنيناً
حاداً وخاصة واحد منهم الذي اهترأ كعبا حذائه وبرزت منهما المسامير التي ترنُّ
على البلاط العاري. استدار إلى طرفه الأيمن ليطرد الأفكار عن الخطوات والأحذية
فهو يريد أن يحصر أفكاره في الأمور السارة فقط فهذا ما يبتغيه دائماً قبل النوم
ومنها مثلاً حين دخل إلى بيته يوم شطْفِ الدرج فجلس على كرسي وهو يلهث وأسند
يده التي لمستها نعيمة وراح يستعيد، محاولاً أن يديم ذلك، الشعور الذي تملكه
حين لمستها، فقد مضى زمن طويل منذ أن لمسته امرأة لآخر مرة، حتى أنه نسي تماماً
ملمس يدي أمه حين كانت تدلك له رأسه لتزيل الصداع الذي كان يهاجمه، فكانت تمسّد
له جبينه وعينيه وصدغيه وهي تتمتم بقل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، وهو الآن
ينام على الطرف الأيمن محاولاً استعادة ملمس نعيمة ومن أجل ذلك رفع يده ونظر
إليها ولكن الظلام حجبها عن عينيه فأعاد إغماضهما متلذذاً بعودة الشعور الذي
يؤدي حتماً إلى التذكر كيف أنه أضرب عن غسل يديه مدة ثلاثة أيام لكيلا يمّحي
أثر اللمسة الذي كان عبارة عن شعور يحتل الجسد كله فتنتصب له الشعيرات وتتكزبر
البشرة وتصبح خشنة. أما في الداخل فقد كان أثر اللمسة حلواً وكأن فرحاً انسكب
فيه فجأة فيكاد المرء يشهق من سعادته الفائقة، وفي هذه اللحظة بالذات تذكر كيف
أنه كان يترك العمل ليعود إلى منزله لعلّه يصادف نعيمة على درج البناية فيستند
من جديد على الدرابزون متيحاً لها الفرصة لكي تلمسه من جديد ولكنه كان يعود إلى
عمله خائباً ويبقى حتى نهاية الدوام معكّر المزاج لأنه لم يحظ بها، ولكنه في
طريق العودة، وهو يحمل كيس النايلون الذي يحتفظ فيه بصندويشاته، يروق مزاجه من
جديد لأنه قد يصادفها أو على الأقل سيجلس في غرفته يستمع إلى طرقات كعبيها وهي
تمشي حافية من غرفة إلى غرفة في بيتهم الذي هو فوق رأسه وفي نفس الوقت يستعيد
أثر لمستها الذي لا ينسى، ولكنه اكتشف بعد ملاحظة دقيقة انها تشطف الدرج يوم
الخميس من كل اسبوع، وهو الآن يتذكر بعد أن استدار إلى جنبه الأيسر كيف صادفها
من جديد فوقف مستنداً مثل المرة الأولى على درابزون الدرج وراح يتمعن في وجهها
متلقياً رسائل لا سلكية يبثها جسدها باتجاه جسده أو روحها باتجاه روحه فحدثته
عن صعوبة ايجاد امرأة في هذه الأيام دون طرق الأبواب فلم يجد نفسه إلا وهو يطلب
منها أن تتزوجه هي وأنه لا يريد غيرها فاحمر وجهها وارتبكت ولم تعد تعرف ما
تفعل فقرر أن ينسحب في الوقت المناسب ولكنه وقبل أن يتركها همس لها أنه سوف
يتحدث إلى أمها. ولكن الكلام مع الأم ليس سهلاً فهي، كما هو معروف، سيئة الخلق
وسليطة اللسان تستخدم في هجومها على الآخرين سبّات الرجال، ولكنه وهو مستلقٍ
على طرفه الأيسر قرر ألا يفكر في الأم لأن التفكير فيها يسمم البدن وهو يريد أن
ينام سعيداً لذلك، لم يستعد وقائع مقابلته لها حين صعد إليهم وفتح الموضوع ولكن
الممتع في تلك المقابلة معرفته لطباع نعيمة في النوم ففي تلك الزيارة علم أنها
لا تستطيع النوم إلا على سرير افرنجي رفّاس في حين أنه كان ينام على فراش يمده
على لوح من الخشب بناءً على نصيحة طبيب المصلحة التي يعمل فيها بعد أن اكتشف
أنه يعاني من مرض الديسك فقرر أن يشتري السرير. والتفكير في هذا الأمر يعتبر من
أكثر المواضيع المتعلقة بنعيمة متعةً لأنه اكتشف أن لديه قضية يدور في الأسواق
على قدميه من أجل اتمامها ومن طول بحثه عن السرير الذي سيرضي نعيمة عادت إليه
آلام الديسك حتى نصحه أحد الزملاء في المصلحة أن يبحث عما يريد في سوق الجمعة،
وهكذا وجد لنفسه عملاً يشغله في أيام الجمعة حين تعطل المصلحة ويضطر للمكوث في
البيت وليبحث عن ذرائع للدخول والخروج من منزله لعله يصادف نعيمة التي تأخرت
كثيراً في إبلاغه برد أهلها على موضوع طلب يدها ولكنه اكتشف وقتها أن أصوات
رنين أحذية أخوتها راحت تتكرر باستمرار في بيتهم وكأن تلك الأحذية تسير فوق
رأسه في كل ليلة، ثم راح يسمع أصوات صراخ غاضب ثم سبَّات وتهديدات وربما كانت
هناك سبّة واحدة موجهة إليه وإلى عائلته، وهو لا يريد في هذه اللحظة، التي
يتمنى فيها التفكير في الأمور الممتعة فقط، أن يستعيد كل ما سمعه وخاصة ذلك
الصراخ الغاضب الذي يصفه بأنه عجوز فقير ومريض يسكن بالإيجار ثم أنه لا يريد أن
يتذكر كيف أن أذنيه التقطتا بكاء نعيمة المر وأشياء أخرى ومنها خاصة تلك
الأصوات التي يعتقد أنها أصوات قيام أحد أخوتها بضربها بقوة وبمساعدة أمها وهو
يتذكر حينئذ أنه بكى بصمت حزناً على نعيمة وقد بكى مرة أخرى حين صادفها بعد عدة
أسابيع وهي تشطف الدرج فاقترب منها يريد أن يخبرها أنه اشترى لها أخيراً السرير
الذي تحب أن تنام عليه ولكنها هربت من مواجهته تاركة الماء يسيل على الدرجات
ويتساقط من حافاتها كالشلالات. وهو يتذكر الآن أنه بكى في غرفته رغم أنه لا
يريد التفكير بمثل هذه الأمور التي تورث الغم في نفسه وشعر وقتها بالوحدة وأنه
حتماً سيموت وحيداً دون أن يحظى مرة أخرى بلمسة امرأة على يده ومن أجل ذلك صار
يفكر كل ليلة وقبل أن يغفو بنعيمة وبلمستها وكيف انها تركت في نفسه شعوراً
ممتعاً وجذاباً يجعله ينام سعيداً ويحلم أحلاماً لذيذة.
الشرشف
اقتربت من البيت الذي طالما دخلته أو تلصصت إلى باحته من إحدى طاقات غرفتي
العلوية التي تشرف عليها . كان ذلك قبل أربعين عاماً ، أي كان كل منا في
الخامسة عشرة من عمره . لا يزال البيت على حاله رغم تغير حال الحي ، فقد زحف
التمدن والتحديث إلى كل جوانبه بما فيها الطريق التي كانت مرصوفة بالحجارة أما
الآن فقد استبدلت بالإسفلت ، هنا كانت تسكن من خفق لها قلبي خفقته الأولى
وتصارعت لأجلها مع صديقي الوحيد آنذاك لقد استهوته الفتاة فصرح لي بذلك، فشعرت
حينها بغيرة عظيمة تنهش لي صدري ، فأنا لم أبح بحبي لها إلى أيٍّ كان حتى
لصديقي ذاك الذي جاء يتفاخر أمامي بأنه قد كبر بشكل كافٍ ليحب ابنة حارتنا
الجميلة . حينها تصارعنا فغلبته ، فقد كان ضعيف البنية أما أنا فقد كنت أطول
منه وأجسم .. وحينما نهضت عنه دون أن أواصل ضربه أخبرته أنَّ لاشأن له بها ،
فهي لي وحدي وهي تشاركني نفس الشعور . وقد دام استغرابه وحنقه لعدة أيام ثمَّ
جاء إلي في المقبرة بينما كنت أطير طائرتي الورقية وجلس إلى جانبي فتصالحنا ولم
يأت على ذكرها بعد ذلك إلا باحترام شديد وبشكل يشي بأنَّه قد تخلى لي عنها إلى
الأبد . ولكننا سافرنا إلى المهجر على أمل العودة بعد سنة واحدة أو اثنتين .
وهاأنذا أقف أمام الباب بعد أربعين عاماً دون أن يكون لدي علم بما قد يكون قد
حصل لفتاتي خلال تلك السنوات الطويلة أو لصديقي ذاك الذي كان اسمه رضا وكنت
أناديه بأبي الروض .
طرقت الباب وانتظرت . كان شعوري حينها وكأنِّي قد عدت صبياً في الخامسة عشرة .
كان الوقت بعد صلاة العصر وكانت الحارة هادئة كما تركناها حين سافرنا هرباً من
الجوع . كان قلبي يدق بعنف وعقلي يبحث عن الكلمات المناسبة لتبرير غيابي طول
هذه السنين . فتح الباب وأطلَّ رأس امرأة . أو قل بانت عين لامرأة تريد أن تعرف
من بالباب . سألتني عن غايتي فعرفتها من صوتها الذي بقي له جرس غريب ومحبب إلى
نفسي ، وعندما أخبرتها بصوتي المتهدج أنني فلان صمتت للحظات وجدتها طويلة جداً
ثمَّ اعتذرت وطلبت مني الانتظار ، وغابت قليلاً ثمَّ عادت وقد تحجبت لتسمح لي
بالدخول .
جلسنا متقابلين في باحة الدار ثمَّ خيم علينا الصمت . كانت السنونو تحوم حول
شجرة ذكر التين التي أصبحت تظلل كامل الباحة وتحجب طاقتي التي طالما كنت أمد
فيها رأسي ساهراً الليالي أتلصص على معشوقتي .. أحسست بالراحة واطمأننت إلى
أنَّه لن يكون هناك أحد يتلصص علينا في جلستنا الهادئة تلك .
كانت مثلي قد تجاوزت الخمسين من عمرها ولكنها ظلت على جمالها الأخاذ . كانت
تنظر إلي خفية وعندما كنت أرفع إليها عيني كانت تحول عينيها إلى أي شيء آخر ..
سألتني عن حالي وكأنَّها تشمت بي . فقد بان علي الهرم أكثر منها بكثير بسبب
الورم الخبيث الذي كان أصابني وجعلني قاب قوسين من الموت. أخبرتها وكأننا كنا
نهمس لبعضنا بكلام لا نريد للصغار أن يستمعوا إليه ، قلت لها بأنني قد عدت إلى
البلد ، وإنني أحن إلى تلك الأيام . أخبرتها بأنني أرمل وبأنني وحيد وبأنَّ
استقبالها لي قد أعاد إلي ما كان قد ضاع مني يوماً . ثمَّ، وبصوت خافت، سألتني
عن عدم وفائي بوعدي لها بأنني سأعود .. ماذا أقول لها ؟... احترت بذلك حتى بان
جبني .
كنت قد لاحظت بأنها كثيراً ما كانت ترنو إلى أحد الأبواب ، وتصورت بأنَّ أمها
أو أختها الأصغر ، التي كنت أعرفها طفلة رضيعة في ذلك الحين ، تختبئان في
الغرفة . سألتها إن كانت قد تزوجت فأجابتني بسؤال آخر : ماذا كنت تعتقد ؟ حينئذ
صمت ، فقد كنت أخرق بسؤالي ذاك. ماذا كنت أريد ؟.. هل كنت أرغب في أن تقعد هنا
وتنتظرني أربعين عاماً .. وعندما سألتها عما حدث بصديقي رضا ، ابتسمت برخاوة
ثمَّ نهضت ودعتني لكي أتبعها .
تبعتها إلى الباب ذاته الذي كانت ترنو إليه باستمرار ، وعندما دخلنا صدمتني
رائحة جسد بشري وحرارة عالية ليس لها ضرورة كما اعتقدت حينها . كانت الغرفة
تقبع في عتمة مقيتة يزيد في غرابتها الصمت المطبق الذي كان يلف الغرفة وكأنَّها
قبر كبير وحار . حتى هي كانت تتحرك بخفة فلا تحدث أي صوت مهما كان . وكذلك كنت
أفعل بسبب تقليدي لها بكل ما كانت تقوم به . وعندما تمنيت أن تشعل أي ضوء .
فعلت ذلك من تلقاءِ نفسها وكأنَّها سمعت تمنياتي التي لم أجرؤ على البوح بها .
كان النور الذي أضاءته ضعيفاً جداً وكان مصدره مصباح كهربائي متوضع خلف ستارة
منعاً للضوء المبهر، تتبعتها بنظري فشاهدت سريراً في الزاوية البعيدة .
أصابتني رعدة قوية وجفَّ حلقي، فقد كان هناك جسد نحيل متمدد على السرير مغطى
بلحاف سميك. وبسبب النور الضعيف لم أتبين وجه الجسد فاضطررت للحاق بها والوقوف
إلى جانب السرير ورحت أحدق جاحظ العينين بالوجه . لم أعرف الرجل الذي كان
نائماً ويتنفس بنعومة فقد كان مصفراً وغير حليق الوجه وكانت تفوح من إناء،
متوضع إلى جانب السرير، رائحة البول النفاذة. نظرت إلى وجهها متسائلاً ، فقد
كنت مشوشاً إلى حد لا يمكنني فيه من حل هذا اللغز ، ولكنها لم تجب ، بل ظلت
لوهلة تحدِّق بي بعينيها اللتين قستا ثمَّ انحنت حتى اقترب فمها من وجه الرجل
النائم وهمست له بأنني هنا وأريد أن أراه .
يا لرعبي، فقد فتح الرجل عينيه ونظر إلي مباشرةً . كان هو رضا .. أبا الروض .
كدت أتراجع لكنني تماسكت مؤملاً أن يكون كل ذلك حلماً سرعان ما يتبدى .. ولكن
الرجل، الذي عرفني من فوره، راح يلفظ اسمي عدة مرات بطريقة غريبة وبلسان ثقيل ،
ثمَّ راح يبكي .. لم يقل سوى .. انظر ماذا حدث لي .. اختنقت الكلمات في حلقه
فجعل يبكي فحسب. عندها اقتربت منه وأمسكت بيده من فوق اللحاف السميك ، والذي
أراد أن يقوله بلسانه قاله لي بعينيه . لقد استطاع أن يحصل عليها وأصبحت من
نصيبه ، ولكنه الآن يخاف أن يموت ويتركها وحيدة . ولكي تضع حداً لألمه ، طلبت
مني أن نعود إلى جلستنا تلك تحت شجرة ذكر التين . ألقيت عليه نظرة سريعة ثمَّ
هربت إلى الخارج ، وهناك تنفست بعمق عدة مرات فقد كنت أحس أنني أختنق .
بعينين دامعتين أخبرتني بأنَّ رضا قد شُلّ منذ عشر سنوات إثر عملية تجارية
خاسرة ، ثمَّ راحت تسرد لي عذابه الأليم منذ ذلك اليوم حتى الآن .. وعندما كانت
تتذكر سعادتهما قبل الحادث كانت تنخرط في بكاء مر . حينها ، وربي يسامحني ،
شعرت بالغيرة ، لم يحصل عليها فحسب ، بل حصل على دموعها أيضاً . كانت تبكيه
بحرقة ، بينما أنا الذي كانت تحبه ، أصبحت شاهداً فحسب . أنا ، الذي أموت الآن
بسبب مرضي الخبيث ، لا أجد من يبكي علي بدمعة واحدة .. كم أنت محظوظ يا أبا
الروض .. لكي تبكي عليك أجمل امرأة في الكون !!
لم استطع المكوث أكثر ، فقد كنت أتألم على نفسي وخفت أن أنفضح فودعتها بعد أن
وعدتها بالعودة لأراه في يوم آخر . وعندما خرجت إلى الطريق ، لكمت الحائط من
غيظي فأدميت يدي ، فقد كنت الخاسر في كل هذا رغم عجز رضا .
عدت إليها بعد اسبوع قضيتها في تدريب نفسي على التأقلم مع انهزامي الجديد ..
وعندما اقتربت من الباب وجدت ورقتي نعي لرضا ملصوقتين على جانبيه ولا تزالانِ
طازجتين . شعرت ، وليسامحني ربي مرة أخرى ، بشعور لا أستطيع شرحه . هنا طرقت
الباب ورحت انتظرها لتفتحه لي بينما مشاعر الانفعال والحزن تختلط بعضها ببعض.
ولكن، لم تكن هي من فتحت الباب ، بل امرأة غريبة متلفحة بالسواد . لا يظهر منها
سوى عينين سوداوين متعبتين من طول البكاء . ارتبكت قليلاً بفعل المفاجأة ولم
أعرف ما أقول .. ولكنني في النهاية ذكرت اسمي وطلبت مقابلة سيدة المنزل . حدقت
بي بعدائية وكأنني قلت شيئاً مريباً ، ويبدو أنها قد لاحظت إصراري فأطبقت الباب
من جديد وتراجعت عنه دون أن يبدر عنها أي صوت .
أدخلتني المرأة إلى غرفة أخرى غير التي كان فيها المرحوم وطلبت مني ، بحركة من
يدها، الجلوس بقرب شرشف يقسم الغرفة إلى قسمين ، ثمَّ جلست قبالتي ولكن بعيداً
عني وجعلت تحدق بي من خلف حجابها الذي أصبح يغطي كامل وجهها . كان الوضع يثير
فيَّ الرعشة بسبب غرابته ، وكان علي أن أهرب بناظري بعيداً عن المرأة الجالسة
قبالتي ، ثمَّ إنني لم أكن أعرف سبب وجود الشرشف المعلق إلا بعد أن جاءني صوتها
رخيماً من خلفه. رحبت بي ثمَّ اعتذرت لأنَّها لا تستطيع مقابلتي وجهاً لوجه .
كان صوتها كأنه يأتي من بعيد وكأنَّ الشرشف يفصل عالم الغرفة عن باقي الكون.
قلت لها :
- البقية في حياتك ، فغمغمت تعزيني بالكلمات عينها ثمَّ ساد الصمت من جديد.
تمنيت أن تزيح الشرشف وأن تأتي إلي ، وعندما كان يطول الصمت كنت أخطئ فأنظر إلى
المرأة المتحجبة فأراها تراقب كل حركاتي وكأنها متأهبة للانقضاض علي إذا ما
أتيت بفعل غير مناسب . ومن أجل أن تجعلني أتحدث سمعتها تسألني عن أهلي ، عن أمي
وأبي وأختي . أخبرتها بأنهم جميعاً أموات وبأنَّ أختي قد تزوجت في المغترب من
رجل لا تحبه فماتت وهي لا تزال صبية . تأسفت عليها ثمَّ ترحمت على أرواحهم ثمَّ
سمعتها تردد أن الحياة هي هكذا ، فقلت لها نعم ، إنها كذلك .
أردت أن أرسل المرأة إلى الخارج لأتكلم مع معشوقتي بحرية ، فطلبت منها أن تحضر
لي كأساً من الماء ، ولكنها عوضاً عن أن تخرج رمقتني بقسوة من خلف حجابها ثمَّ
مدت يدها والتقطت إناء من الفخار ووضعته على الأرض في منتصف المسافة بيننا ،
ثمَّ أخذته وبللت شفتيّ فحسب ثمَّ أعدته إلى مكانه بغيظ مقرراً أن أتكلم رغم
وجودها. قلت لحبيبتي الجالسة خلف الشرشف :
- لقد ابتعدت عنك طول هذه المدة ولكنك لم تغيبي عن ذهني وقلبي أبداً . معك شعرت
بأجمل شعور تملكني في حياتي كلها ، ثمَّ إنني سميت هذا الشعور باسمك .. فقد كنت
أقيس شعوري تجاه كل النساء اللواتي عرفتهنَّ بمدى قربه أو بعده عن شعوري نحوكِ.
صمتُّ لأسترد أنفاسي. كانت المرأة الجالسة قبالتي متأهبة في جلستها كنمرة شرسة،
بينما حبيبتي الغائبة خلف الشرشف لا يصدر عنها أي صوت أو نأمة .. تابعت أقول
رغمَ كل ذلك :
- أنا مريض ، ومرضي من النوع الخبيث ، وقد أخبرني الأطباء أنني لن أعيش لأكثر
من شهرين أو ثلاثة ، أرجوكِ .. أريد أن أمضي آخر أيامي معك وبسعادة ..
سمعتها تسأل بارتباك عظيم . ماذا ..؟ فأكدت لها مرة أخرى ما قلته لها .. ثمَّ
سمعتها تتأوه .. حينئذ نهضت المتحجبة وكأنَّها لدغت من حشرة سامة ثمَّ انتقلت
إلى خلف الشرشف . راحتا تتهامسان ، وربما كانت المرأة المتحجبة تجادل و تطلب
منها أن تطردني ، ولكنها عادت في النهاية للجلوس قبالتي بينما زاد احتقارها لي
وأصبحت نظراتها غير محتملة ، ورغمَ ذلك أهملتها وأنا أتطلع إلى الشرشف منتظراً
جواب معشوقتي .
شيئاً فشيئاً جاءني بكاؤها ناعماً ومؤثراً . في داخلي شعرتُ ببهجة. هاأنذا أثير
فيها حزناً وأجعلها تذرف الدموع من أجلي وعلي . سمعتها تسألني وهي تتأوه :
- لماذا تخبرني بذلك ؟ فقلت لها وأنا أزداد شجاعة :
- كان علي ذلك يا .. أرجوكِ أن تصفحي عني ، ولكن ما رأيكِ بما طلبته منكِ ..
فأنا في حاجة إليكِ يا مليكتي ، دعيني أسعد بكِ قبل أن أموت حتى لو كان ذلك
لأسابيع قليلة ..؟
ران الصمت من جديد ما عدا بقايا بكاء كنت أسمعه من الطرف الآخر للشرشف . كانت
المرأة المتحجبة تتأهب لطردي ، قالت معشوقتي وهي تغالب الانخراط في البكاء من
جديد:
- هذا مستحيل . حتى لو أردتُ ذلك لما استطعت ، فأنا قاعدة الآن في العدة .
سيدوم ذلك أكثر مما لديك من زمن .
ثمَّ عادت إلى البكاء. أما أنا فقد وجمت ، فلم أستطع قول شيء آخر فصمت منهزماً
.. لقد احتلها رضا حتى لما بعد مماته ، هل يكفي أنني جعلتها تذرف علي بعض
الدموع كما فعلت من أجله ؟.. نهضت في نفس الوقت الذي كانت تطلب مني الرحيل ..
ودعتها بغمغمة ثمَّ خرجت تلحق بي المرأة المحجبة ، وعندما فتحت الباب لأخرج ،
استدرت وألقيت نظرة أخيرة إلى شجرة ذكر تين، فلمحت المرأة وهي تهزأ بي من تحت
الحجاب ثمَّ صفقتْ الباب خلفي .
يومياتي مع برلنت
22/7/1995
استيقظت على صوت برلنت العالي. كانت تقف
على نافذة الدرج بجانب نافذة غرفتي وهي تثرثر مع جارتها التي تسكن في البناية
المقابلة. هي تتعمد التكلم بصوت عال لكي أسمعها. طلبت منها عدة مرات ان تكف عن
ازعاجي، ولكنها كانت تبتسم وتتمايل وهي ترنو الي بطريقة غريبة وتعتذر. برلنت
تحبني وهي الآن تتحدث مع جارتها عن نساء سوف يأتين مساء لرؤيتها. تقول ان
العريس يعمل في الامارات وسوف تسافر الى هناك اذا ما حصل النصيب. انها تكذب
الملعونة، فقد حدثت ام حسن عن كثير من العرسان، وفي كل مرة كنت أحمد الله انها
ستتزوج أخيرا وتريحني من ثرثراتها. ام حسن لا تفهم ان برلنت تتحرش بي. حاولت
العودة للنوم، فلم تكن الساعة قد بلغت العاشرة بعد ولكن دون فائدة. نهضت أخيرا
بعد ان علمت من برلنت ان في الامارات خادمات آسيويات رخيصات.
عندما كنت أخرج من شقتي، تفرست بي برلنت. صبّحت عليها فردت علي وقد التصق
كتفاها بالجدار بينما دفعت جسدها الى الامام. كانت المسكينة عاشقة. كانت تبحث
في وجهي عن أي أثر لأخبار خطابها الجدد. شاهدت ام حسن على شباك غرفتها فاندفعت
مسرعة الى الداخل كي تبعد شعرها المنفلت عن عيني ثم عادت لتسترق النظر. قالت لي
برلنت انها تعتذر فقد نسيت مرة أخرى ان تتكلم بصوت خافت وسألتني ان كانت قد
أزعجتني. قلت لها لا، ثم هممت بالنزول ولكنها استوقفتني مرة أخرى. احتارت وقد
احمر وجهها بما يمكن ان تقوله لي، فلم أكن أشجعها على الاطلاق بوجهي الجاف، ثم
قالت: " ما في شي" فتركتها ونزلت بينما ظلت واقفة تنظر الي كيف أنزل برشاقة وقد
نسيت ام حسن.
كالعادة، ذهبت أولا الى البريد فلم أجد في الصندوق سوى احدى المجلات الملتزمة
التي اعتادت احدى المنظمات ارسالها الي دون طلب فتصفحتها ثم تركتها على رف بائع
الطوابع، ثم دلفت الى صالون تلميع الاحذية وعندما خرجت ذهبت الى المقهى.
25/7/1995
كنت عائدآ من الخارج حين صعدت الدرج دون اية ضجة كي لا أتفاجأ ببرلنت. أخرجت
مفتاح الشقة بكل حرص وانا أنظر جهة باب شقتها المقابل لبيتي. ابتسمتُ لأنني
استطعت الهرب منها، وربما لأن هذه اللعبة تجلب لي شيئا من التسلية. ولكنني لم
ابتسم طويلا فقد انشق باب شقتها بهدوء في نفس اللحظة التي كنت أدفع فيها باب
شقتي ثم خرجت وكأنها تتلصص، ففي هذا الوقت من بعد الظهر يكون أبوها قد عاد من
عمله وتناول غداءه واستسلم لساعة قيلولة. كانت برلنت متجملة ويبدو انها قد
انتظرت طويلا عودتي قابعةً خلف الباب. نادتني " استاذ!!" فاضطررت لاجابتها ولكن
دون ان أغير سحنتي (فانا ابدو وكأنني مستاء رغم انني لست كذلك) والواضح ان
برلنت لم تكن قد اعتادت على طبيعة سحنتي فاضطرت إلى أخذ الحذر. ولكن أي حذر
هذا..؟ كانت المسكينة تثير الضحك بسبب طريقتها الخرقاء في العشق.. وتبدو الآن
وكأنها قررت القيام بمغامرة.
قالت انها تريد استشارتي في أمر هام بالنسبة اليها خصوصا وانني مثقف ومتعلم
وعندي خبرة في الحياة. هززت رأسي لتتابع دون ان ابتسم لكلماتها، فانا أعرف انها
تجاملني وكل ما كانت تريده هو دقائق لتتكلم معي. قالت: " خطبني مدرس بيشتغل في
الامارات" قلت لها نعم، فسألتني وهي تسدد الي نظرة ذات معنى: " أوافق والا لأ..؟"
حاولت ان أهرب بناظري من عينيها، فقد كانت تلاحق تعابيري بطريقة مكشوفة. انها
وبكل وضوح تريد ان تدفعني الى التقدم لخطبتها وكل هذه القصة عن مدرس الامارات
تبدو لي مختلقة. انها بكل بساطة عاشقة ومسكينة..
أنهيت الأمر بعدة كلمات، فعليها ان تعرف انني لا أفكر بالزواج من امرأة بسيطة
وشعبية مثلها. سايرتها في لعبتها وقلت لها انها لن تندم اذا ما تزوجت المدرس
الذي يعمل في الامارات وانني أتمنى لها التوفيق فهي بسعر اختي فاطمة التي
عرفتها حين جاءت لزيارتي مع زوجها محمد في العام الماضي.
ابتسمت لها برقة بعد ان تأكدت انني قد انهيت أوهامها بطريقة ناعمة كنت أحسب
انها لن تؤذي مشاعرها. أطرقت برلنت صامتة. كنت أنوي الانسحاب ودخول شقتي إلا ان
ارتجاف زاوية فمها أوقفني. ظللت واقفا أراقبها باحثا في ذهني عن كلمات أشجعها
بها لارتياد مغامرة السفر الى الامارات رغم اقتناعي بعدم وجود مثل هذا المشروع
أصلا فشاهدت دمعتين تنسلان من عينيها. رفعت الي عينيها الحمراوين والرطبتين ثم
رسمت بشفتيها كلمة " طيب" واستدارت ثم دفعت الباب وغابت خلفه. سمعت تكة الباب
وهو يغلق بنعومة.
16/8/1995
انشغلت في الايام الماضية بكتابة والقاء محاضرة عن المستشرقة الانكليزية الليدي
" آن بلنت "التي زارت المنطقة عام 1878 وكتبت كتابا عن قبائل بدو الفرات تحضيرا
لاحتلال جيوش بلادها للمنطقة. كنت استغرق في موضوعي طوال الليل وأظل نائما حتى
الثانية عشرة. كنت في بعض الأحيان أترك عملي لأن صورة برلنت وهي تبكي تكون قد
هاجمتني فأشعر بالحزن عليها فهي انسانة بسيطة ولكنها طيبة وليس ذنبها انها عشقت
شخصا مشغولاً بأمور الثقافة. ثم لاحظت انها لم تعد تزعجني صباحا ولم تعد تقف
على نافذة بيت الدرج القريبة من نافذة غرفة نومي لتتحدث بصوت عال مع جارتها ام
حسن. وإذا أردت ان أسجل السبب حسب رأيي فإنني أعتقد انني استطعت أخيرا اقناعها
بعدم جدوى دعوتي الى خطبتها، أي انها فقدت الأمل بي فتوقفت عن اختلاق مواضيع
الخاطبات.
وبسبب انشغالي بالليدي " آن بلنت "لم ألاحظ تلك السيارة الامريكية فضية اللون
ذات اللوحة الاماراتية التي أصبحت تزور الحارة وتقف على الرصيف بشكل عرضاني،
كما انني لم أميز ذلك الرجل الاربعيني الذي راح يزور بنايتنا ويصعد الى نفس
الطابق الذي تقع فيه شقة برلنت وشقتي. وفي هذه الليلة بالذات سمعت وأنا أكتب
هذه الاسطر أصوات زغاريد آتية من مكان قريب، وبسبب من إنني كنت قد أشرعت
النافذة وجلست الى طاولة الكتابة فقد حسبت بان الزغاريد تأتيني من بناية ام حسن
أو من البناية الملاصقة لبنايتنا، فتركت القلم (هنا بالذات تركت القلم وعدت الى
كتابة الاسطر التالية فيما بعد) ليس بسبب انزعاجي من الزغاريد بل لأن برلنت
خطرت في بالي فتصورتها حاضرة في العرس وهي حزينة لأن احدى الجارات تتزوج بينما
هي ستظل قاعدة في البيت بعد ان جربت حظها معي وفشلت لأنني أخشى الارتباط
بانسانة غير متعلمة.
هناك شيء نسيت كتابته في مذكرات اليوم الأول وهو ان وجه برلنت جميل ولديها أنف
دقيق وعينان بنيتان واسعتان كما ان جسمها ممتلئ بعض الشيء، وقد أعجبت بها في
بداية سكني في هذه الشقة ولكن بساطتها وشعبيتها جعلتاني لا أفكر بها أكثر من
ذلك، فمن المستحيل على واحد مثلي، يرتاد الاوساط الثقافية ويكتب ويلقي
المحاضرات عن المستشرقين الاوروبيين الارتباط بواحدة مثل برلنت.
قرع الجرس فنهضت لأفتح الباب وأنا أحسب ان احدى زميلاتي المثقفات قد جاءت
لزيارتي فقد كنت أواعد أكثر من واحدة واعتدن المجيء إلي حين تسنح لهن الفرص. لم
تكن ولا واحدة منهن بالباب بل كانت الجارة ام حسن وقد أتت وقد صبغت وجهها
بالاحمر والازرق لتطلب بعض الكراسي لأن " عقبيل عندك يا استاذ، اليوم عرس جارتك
برلنت".. تساءلت: "عرس؟" فقالت: "نعم، عرس برلنت الله يهنيها" ثم أخبرتني ان
العريس مدرس يعمل في الامارات.
19/8/1995
أمضيت الأيام الثلاثة الماضية في البيت.
حاولت بشتى الوسائل ان أراها ولكن دون نتيجة، لذا فقد حاولت أن أكتب وصفا
لمشاعري بعد ان ظهر غبائي الفظيع. كتبت وأكتب انني أشعر وكأنني خسرت رهانا أو
فرصة غنية أو ما شابه. لا أستطيع ان أصف مقدار شعوري بالخسارة، رغم استغرابي
هذا الشعور. كنت انتقل من النافذة فأنظر الى الشارع حيث تقف السيارة على الرصيف
بشكل عرضاني، ثم الى باب الشقة فانظر في العين السحرية علها تظهر لدقيقة. كنت
أريد مشاهدتها، أو بالأصح كنت أود رؤيتها وهي تراني أراها وهي عروس. كنت أريدها
ان تعرف انني مندهش.
استلقيت في الفراش ورحت أفكر. إنها إذن لم تكن تحبني وكل أحاديثها عن الخاطبات
مع ام حسن كانت صحيحة. هل كنت أتوهم ؟ لقد سألتني رأيي بخصوص زواجها من المدرس.
هل كانت تسعى الى نصيحة أم أنها كانت تحبني فعلا وتعطيني آخر فرصة؟ طيب.. كنت
أسعى للخلاص منها، فلماذا أشعر بفقدانها الآن؟ ولماذا بكيتْ عندما شجعتها على
الزواج من المدرس؟ أسئلة كثيرة أرقتني كثيرا قبل ان أغفو، وعندما استيقظت كانت
قد سافرت مع زوجها المدرس الى الامارات..
صحيفة "القدس العربي" 1998
في انتظار الأرملة
اقتربت الساعة من الثامنة إلا ربع فاحتللت مكاني قرب النافذة بعد ان حملت
إفطاري إلى هناك وقد كان مكوناً من صحن فول ورأس بصل وبراد شاي مخمر على طريقة
جدتي لأمي وقطعة حلاوة بالطحينة فقد اعتدت على تحلية ريقي صباحاً بعد صحن
الفول. في الأسفل كانت الحارة تنبسط أمامي كالكف ومن مكاني خلف أباجورة النافذة
كنت أرى جيداً رصيف المقهى وكراسي القش ذوات المساند وإلى جانب كل منها طاولة
من الحديد المشغول والمدهون باللون الأخضر إذ اعتاد رواد المقهى الجلوس بينما
كؤوس الشاي وفناجين القهوة بجانبهم وليس أمامهم. في هذه اللحظة بالذات احتل كل
من عبد العظيم وابو المصاريع والشاب المهذب كراسيهم على رصيف المقهى انتظاراً
لخروج الأرملة من بيتها لتستقل سيارة الحكومة التي تأتي في تمام الساعة الثامنة
إلا خمس دقائق لتأخذها إلى الوظيفة. أيضاً جلس صاحب مصبغة "الملاك الأبيض" خارج
مصبغته وجاء له الصبي بأركيلته الصباحية بينما توقف عبدو البقال عن البيع وراح
يرتب سحاراته وعينه على مدخل بناية الأرملة. حتى صبحي الحماماتي أنزل عصاه التي
ربط في طرفها خرقة سوداء يطير بها طيوره الملونة واستند إلى ستارة السطح الذي
يحتله معظم النهار منتظراً خروج الأرملة صاحبة الشعر الأشقر والتي بدأت بإخفائه
بمنديل بعد أن كثر الرجال الذين ينتظرون خروجها صباح كل يوم. وقد لاحظتُ منذ
مدة أن بعض الباعة المتجولين راحوا يوقفون عرباتهم ويشرعون بالمناداة على
بضائعهم منتظرين خروجها. أما أنا فقد مرت شهور طويلة منذ ان اكتشفت متعة تناول
طعام الإفطار قرب النافذة ومراقبة هؤلاء الشغوفين بالأرملة ولكنني اكتشفت أنني
انضممت إليهم فزاد عدد عشاقها واحداً. والأرملة حلوة الوجه وذات تقاطيع رقيقة
وكان يحسب كل من تنظر إليه أنها تبتسم له ولكنها راحت تقطّب بعد أن عرفت السبب
الذي يجعل الرجال يبتسمون لها ويزدادون جرأة في مواجهتها. والأرملة موظفة عند
الحكومة وتتقاضى راتباً يقولون إنه أعلى من راتب مدير المدرسة التي في نهاية
شارعنا وهناك من ادعى أنه صادفها في إحدى الدوائر وقال إنها تحتل مكتباً فخماً
بارداً في الصيف ودافئاً في الشتاء وقال أيضاً إن الرجال في تلك الدائرة يقفون
حين تمر أمامهم ويبادرونها بالتحية بكل تقدير واحترام. والأرملة أصبحت أرملة
بعد أن توفي زوجها الأستاذ الذي جاء بها ليسكنا في الحارة في بيت أبيه وأمه بعد
أن توفيا وقد عاشا معاً ست سنين دون أن يرزقا بطفل ولم تكن تلك العادة، أي عادة
انتظار خروج الأرملة قبل أن تصبح أرملة متأصلة في حارتنا حينها، إلا أن الاستاذ
مرض ومات فانتظر الرجال مرور الأربعين قبل أن تتحكم بهم هذه العادة واحداً تلو
الآخر. أما عيشة العرجاء التي تزورها مرتين كل أسبوع لتساعدها في تنظيف منزلها
فقد أصبحت مدللة في الحارة وأصبح الرجال يسألونها عن الأرملة وقد سمعتُ أن صاحب
المصبغة قد سألها وهو يرتجف إن كان من المناسب أن يرسل أمه لخطبتها أم أن
الأرملة ستطردها لأنه صاحب مصبغة ليست على قد المقام. وسمعت أن عبد العظيم لم
يعد ينام ليلاً وهو يطلق التنهدات باستمرار ولكنه لا يجرؤ حتى على الإفصاح عن
أية رغبة أو مشروع فهو متزوج من اثنتين وهذه مصيبة في حد ذاتها. أما الذي أدعوه
بالشاب المهذب فهو ليس من حارتنا ويضع على عينيه نظارات طبية وهو دائم التأنق
لم أره يوماً إلا بالبدلة والكرافات أما حين تظهر الأرملة فإن وجهه يتحول إلى
شوندرة مسلوقة من كثرة الاحمرار.
في الثامنة إلا ست دقائق وصلت سيارة الحكومة فأوقفها السائق أمام مدخل بناية
الأرملة. توقفت الحياة في حارتنا، وأنا لا أقول ذلك مجازاً بل واقعاً لأنني
توقفت بدوري عن تناول الإفطار وأخذت موقعاً مناسباً خلف الأباجورة أستطيع من
خلال شقوقها رؤية الشارع كله في الاتجاهين فقد كانت بنايتنا في وسط الشارع
ولحسن حظي أمام بنايتها تماماً. توقفت الأحاديث وتوقفت رقاب الرجال عن
الاستدارة إلى هنا وهناك ولم يعد عبدو البقال يرتب سحاراته فقد انتهى من
ترتيبها، كما أن صبحي الحماماتي نسي طيوره ومط رقبته ليرى بشكل أفضل، أما عبد
العظيم فقد توقف عن عد حبات مسبحته وابو المصاريع توقف عن لف سيكاراته دون أن
يشعل أية لفافة كما أن الباعة المتجولين خرسوا بينما أخرج الشاب المهذب منديله
الأبيض الناصع ليكون جاهزاً لمسح حبات عرقه التي ستتصبب من كامل وجهه حين
ستلتقي عيناه بعيني الأرملة. توقفت الحياة وساد السكون وانتقل عقرب الدقائق إلى
تمام الثامنة إلى خمس فانفتح باب البناية لتظهر الأرملة بتيورها الكحلي المحتشم
ومنديل شعرها المطبّع بأشكال هندسية رصينة. سارت نحو باب السيارة الخلفي وفتحته
وقبل أن تركب مسحت الشارع سريعاً بعينيها مائة وثمانين درجة. شاهدتْ عبدو
البقال واثنين من الباعة المتجولين ثم شاهدت صاحب المصبغة ورفعت رأسها لترى
صبحي الحماماتي ثم أنزلته لترى عبد العظيم ثم ابو المصاريع. كانت شاحبة ورصينة
ومقطبة ولكنها توقفت أكثر عند الشاب المهذب فزال جزء من تقطيبتها ثم ركبت
السيارة وأغلقت الباب لتنطلق بها دون أن تعيد النظر إلى أحد.
عادت الحياة إلى الشارع فاهتم كل بشؤونه وراح الحمام يحوم فوق بنايات الحارة
وعادت مناداة الباعة المتجولين تصدح وأطلق عبد العظيم تنهداته الحارة وهو يرفع
عينيه إلى السماء وأشعل أبو المصاريع إحدى لفافاته في حين نهض الشاب المهذب
وابتعد قاصداً عمله وهو يمسح عرقه بمنديله. أما أنا فقد فقدت شهيتي فرحت ألم
بقايا إفطاري شارد الذهن.
آنستان وأرملة
عندما اندلعت حرب الثمانية وأربعين ركب الحماس السيد مصباح
بشكل مفاجئ فانضم إلى جيش الإنقاذ وسافر وهو يعلق بندقيته على كتفه إلى فلسطين،
ولكن سرعان ما جاء خبره في رسالة قصيرة من القيادة موجهة إلى زوجة البطل الشهيد
فعرفت مديحة أنها ترملت وهي عروس شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها،
فعادت إلى بيت أهلها لتنضم إلى أختيها العانستين فاطمة وسعدية.
أصبحن ثلاث نساء يسكنّ بيت العائلة الكبير، وكان الناس في الحي
اعتادوا احترام العانستين فيذكرونهما بصفتهما آنستين، أما الآن وبعد أن انضمت
اليهما الأرملة مديحة فقد أصبحن ثلاث "آنسات"، وكانت الآنسة فاطمة هي أكبرهن
بينما كانت مديحة أجملهن إلا أنها قررت أن تنهي قضية الجمال هذه فتوقفت عن
التبرج ولم تعد ترتدي سوى الملابس السوداء حتى بعد أن انقضت أيام العدة وأصبح
بإمكانها مواجهة الرجال، ولا بأس من القول بأن أختيها العانستين كانتا مثلها
غير ميالتين لارتداء الألوان الزاهية أو لصباغ الشفاه والوجنات بالأحمر إلا
أنهما لم يرغما نفسيهما على ارتداء الملابس السوداء باستمرار فهذا تعصب لا معنى
له وقد ارتدى الجميع يوماً الملابس السوداء حزناً على وفاة الأب والأم إلا أن
الجميع خفف من الحزن حتى أن مديحة تزوجت السيد مصباح صديق أخيها مدحت وارتدت في
ليلة زفافها البدلة البيضاء.
ومدحت هذا هو الأخ الأكبر والوحيد للآنسات وهو الذي يدير مصالح
العائلة التي أورثهم إياها الأب وقد تزوج يوماً من ابنة ملاك أراضٍ ويعيش معها
بسعادة في أرقى أحياء المدينة، ونقول "بسعادة" لأن العروس كانت همست في أذنه في
فترة الخطوبة بأنه إذا أراد أن يجعلها "سعيدة" عليه أن يخطط ليسكنها في بيت خاص
بعيداً عن وكر النساء هذا وقد كان لها ما أرادت.
كانت الآنسة فاطمة تمضي وقتها بالتطريز على الطارة وكانت
الأقمشة المطرزة تستخدم فيما بعد كشراشف وأغطية مخدات وطاولات وغيرها من الأمور
المفيدة، وعندما امتلأ البيت بالأغطية بدأت بتطريز المربعات والمستطيلات كما
يحلو لها فاكتشف أخوها مدحت بأن هذه المطرزات تصلح للتعليق على الجدران كلوحات
فنية وقد طلب منها إهداءه لوحة تمثل تاريخ المدينة منذ أن وصل إليها المغول
وحتى اليوم فتنازلت له عنها فوضعها في برواز أنيق وعلقها في صدر غرفة الضيوف في
بيته ليدهش بها ضيوفه من القناصل الأجانب.
أما الآنسة سعدية فقد كانت تهوى الطبخ، وكانت تقدم كل صباح
لشريف، وهو العجوز الذي كلفه مدحت بتموين الآنسات بكل ما يلزمهن، قائمة بالخضار
والحبوب واللحوم وغيرها من المواد الأولية اللازمة للطبخ ثم تحتل المطبخ لساعات
تحضر الأطباق المتنوعة والشهية التي لن تجد من يتناولها، إلا أن الآنسة فاطمة
ومديحة، وإكراما ًلأختهما الآنسة سعدية، يقمن بتذوق الأطباق بلقيمات معدودة ثم
يدعين الشبع بينما كانت الطباخة الماهرة تأكل حتى الامتلاء، ليس لأنها كانت
أكولة بل لأنها لم تكن تحب أن تتحول الى مجرد طباخة تصنع الأطباق لموائد
الجيران فقط.
أما مديحة فقد كانت بلا أي اهتمام أو موهبة تشغل بهما وقتها
الطويل والممل، ولذلك فإنها كانت، أثناء جلوسها وحيدة في غرفتها أو على الشرفة
مع أختيها في الأمسيات أو حين تلجأ إلى السرير وقت النوم، تعود بذهنها إلى
العشرين شهراً التي قضتها بسعادة مع زوجها المرحوم الشهيد، وخاصة تلك اللحظات
الحلوة التي كان يضمها فيها ويقبلها ويداعبها أو يحنو عليها حين تكون مريضة أو
يدغدغها حين تكون بمزاج عكر.
بعد ثلاث سنوات من عودة الأرملة مديحة بدأت آلام المفاصل تهاجم
الآنسة فاطمة، فأصبحت بطيئة الحركة ودائمة الشكوى من مفاصلها التي تضخمت وراحت
تسبب لها الأرق، وأصبحت للعجوز شريف مهمة أخرى وهي أن يستدعي الطبيب حين يشتد
الألم على الآنسة فاطمة ثم أن يحضر الأدوية الموصوفة من الصيدليات. بعد ذلك
بقليل ظهرت أعراض مرض السكر على الآنسة سعدية وهذا الطبيب الشاطر هو الذي شك
بوجود المرض من تشخيص الأعراض الظاهرة فطلب فحصاً للدم، وبما أن الآنسات الثلاث
لا يخرجن من البيت مطلقاً فقد كان على العجوز شريف أن يحضر ممرضاً خاصاً ليأخذ
عينة من دم الآنسة التي بسبب رغبتها في تذوق كل الأطعمة التي كانت تحضرها،
امتلأت بعض الشيء.
بسبب اكتشافها لمرضها ازدادت أعباء الآنسة سعدية فقد أصبحت تمضي
وقتاً أطول في المطبخ لأنها صارت تحضر أطباقاً تناسب مرضى السكر بالإضافة إلى
الأطباق التي تناسب أختيها والجيران والعجوز شريف الذين لا يعانون من هذا المرض
اللئيم. في هذا الوقت بالذات، أصيبت الأخت الثالثة، الأرملة "الآنسة" مديحة
بمرض خاص، ليس من المناسب استدعاء الطبيب حاييم اليهودي، الذي كان يعالج أختيها
من مرضيهما، للقضاء عليه (ثم انه يهودي وهي أصبحت تكره اليهود منذ قتلوا زوجها
في فلسطين وأقسمت يميناً مغلظاً بأنها لن تنكشف عليه إن أصيبت بمرض ألزمها
الفراش).
هذا المرض الخاص الذي لا يصيب سوى الأرامل من النساء هو مرض
الحنين للزوج المتوفى. أصبحت تتطلبه أكثر من أي يوم مضى. أصبح يأتيها في المنام
فيجلس معها ويخاطبها وتخاطبه وفي كثير من الأحيان صارت تناديه في اليقظة لتسأله
عن أمر خطر في بالها وحين تستدير، بعد أن يطول انتظارها له ليجيب، لا تجده
فتعرف أنه غير موجود فتتلبسها حالة اكتئاب مؤلمة فتجهش بالبكاء.
وجدت مديحة أن الأحلام ترضيها وتخفف عنها ألم الفراق أكثر من
اليقظة فراحت تكثر من النوم لعلها تقابل الزوج العزيز. أصبحت تمضي نصف يومها في
النوم وعندما تستيقظ دون أن يكون قد جاءها في الحلم، فإنها تكتئب وتصمت وتمضي
بقية يومها في إطلاق التنهدات والأنين وتصبح رقيقة جداً وتذرف الدموع في أية
لحظة. وقد اعتادت الآنسات التحلق حول المذياع في ساعة معينة من المساء لمتابعة
المسلسل الإذاعي اليومي "بعد الغروب" وكان قصة رومانسية عن الحب والتضحية وفيه
كثير من الدموع. ففي حين كانت فاطمة وسعدية تستمعان وهما تعملان (كانت فاطمة
تطرز وسعدية تقشر الباذنجان أو البطاطا) كانت مديحة تنشغل بكفكفة دموعها التي
تذرفها بغزارة والتمخط في أحد مناديل المرحوم التي قامت بتطريز اسمه عليها
بنفسها وإهدائه إياها أثناء فترة الخطوبة.
أما الأوقات الأخرى التي كانت مديحة تشعر بفقدان زوجها فهي
عندما كن يجلسن في الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي في فترة ما بعد العصر وحتى
ما بعد المغيب، حيث تقل حركة السيارات ويكثر المتنزهون على الأرصفة، وبما أنها
تجلس دون أن تشغل يديها ونظرها خلافا ًلأختيها فإن أي زوج من رجل وامرأة يمر
قرب الشرفة يجعلها تتحسر على أيام المرحوم حين كان يطلب منها أن ترتدي أجمل ما
عندها وتخرج معه للنزهة فتشبك يدها في يده ويسيران بتمهل وهما يتحدثان في
أمورهما الزوجية مثل الاسم الذي ينويان اطلاقه على طفلهما الذي سيأتي، رغم تأخر
ظهور أعراض الحمل عليها وعدم انقطاع عادتها الشهرية، أو التحدث عن مشاكل الزوج
في العمل وغيرها. إن ظهور زوج وزوجة على الرصيف المقابل وهما متشابكي الأذرع
يجعل مديحة في حالة حسرة وتألم على الزوج الراحل وتجد نفسها، دون ارادتها، تذرف
الدموع وتتأوه وتتنهد فترتفع أعين الأختين المشغولتين في التطريز أو التقشير
لتلقيا عليها نظرة حنونة ولكن لفترة قصيرة جداً، ورغم تضامنهما مع أختهما فهما
لا تعرفان مدى الحنان والحسرة اللتين تعانيهما مديحة ، فالآنستان لم تجربا
الزواج ولم يضمهما رجل إلى صدره ولم يكتب لهما خطيب رسائل غرامية ولم يهمس لهما
زوج بكلمات لطيفة ومحببة تدغدغ أعمق أعماقهما.
انتبهت الآنستان إلى أن اختهما الأرملة تمر في أزمة، ولكن ما
العمل، كيف يمكن مساعدتها، فمثل هذه الأزمات النسائية التي تعاني منها لا يمكن
من أجلها استدعاء الطبيب لكي يعالجها منها؟ فالدكتور حاييم، حتى ولو وافقت
مديحة على عرض نفسها عليه، لا يمكن أن يفيدها. كانتا تنتهزان فرصة نومها إلى
ساعة متأخرة من الضحى لتجلسا وتتداولا في الأمر وهما منشغلتان في أمورهما. إن
من أصعب الأمور مساعدة أرملة فقدت زوجها في عز سعادتها الزوجية حين يعن عليها
المرحوم ويحتلها حنين جارف إليه. خطر في بالهما في بداية البحث أن تتحدثا إلى
أخيهما الأكبر مدحت ولكنهما وجدتا أنه من غير اللائق فتح مثل هذا الموضوع، الذي
يخص عواطف اختهما وحنينها إلى زوجها المرحوم، مع الأخ الأكبر. طال أمد
مشاوراتهما عدة أيام، وفي لحظة إحباط، أصيبتا به بسبب عدم وصولهما إلى حل،
قررتا أن تستشيرا طبيب العائلة الذي تعرضان عليه مشاكلهما الصحية ابتداء من
آلام الروماتيزم وانتهاء بمرض السكر مروراً بآلام الدورة وكسل الأمعاء.
وفي أحد الأيام أرسلتا العجوز شريف إلى الطبيب تدعوانه
لزيارتهما لبحث أمر في غاية الأهمية وقد كتبتا على قصاصة من الورق أنه يستحسن
أن يقوم بزيارته صباحاً قبل ذهابه إلى عيادته، آخذتان بعين الاعتبار أن تتحدثا
معه بحرية، ففي هذا الوقت تكون مديحة في سابع نومة تحلم بفقيدها المحبوب. وصل
الطبيب وهو يحمل حقيبته الجلدية المنتفخة بالأدوات اللازمة للمعاينة والتشخيص
السريع من سماعات ومطرقة وجهاز زئبقي لقياس الضغط وعدة علب تحتوي كل منها على
حقنة قام بتعقيمها بالماء المغلي في الليلة السابقة، كما كانت حقيبته المنتفخة
تحتوي على الكثير من نماذج الأدوية الإسعافية مثل مثبطات الألم سريعة المفعول
ومهبطات الضغط وغيرها.
أجلستاه في ركن قصي بعيد عن غرفة مديحة ثم قدمتا له القهوة
بالحليب مع بعض قطع الحلويات التي قامت سعدية بتحضيرها خصيصاً للمناسبة ثم
راحوا يتحدثون همساً. أخذت فاطمة على عاتقها شرح الموضوع للطبيب فليس من
المناسب أن تتبارى الآنستان في الشرح خاصة وأن سعدية تفضل أن تراقب رد فعل
الطبيب حين يتذوق حلوياتها فلاشيء يمكن أن يسعدها أكثر من أن ترى الآخرين
يتلذذون حين يتذوقون شيئاً من ابتكاراتها. أخبرت الآنسة فاطمة المشكلة كلها
للطبيب، وعندما انتهت من الشرح انتظرتا لكي تسمعا رأي الطبيب والعلاج الذي يمكن
أن ينقذ اختهما الأرملة المعذبة، إلا أن الطبيب استمر في التهام الحلويات لأنه
أحبها فعلاً وأدخل السعادة إلى قلب الآنسة سعدية. وعندما استمر الصمت قامت
فاطمة بطرح سؤالها على الطبيب بشكل مباشر. قالت فاطمة:
- نحن نريد رأيك يا دكتور، فأختنا مديحة تتعذب ولم نجد أحداً
غيرك لاستشارته. فقال الطبيب:
- إنني لا أجد مشكلة طبية في ما سمعت فأنا، كما تعلمين يا آنسة
فاطمة، طبيب أبدان ولست بطبيب قلوب ولا أفهم في القضايا العاطفية. بالنسبة لي
الحنين هو كيمياء غير مفهومة وإذا أردتما يمكنني أن أكتب لها وصفة من مهدئات
الأعصاب. فقالت فاطمة بنبرة إقناع قوية:
- ولكننا نريد رأيك ليس كطبيب للعائلة فحسب بل كصديق، فأنت
الشخص الوحيد الذي نثق به ونعرض عليه أعضاءنا المريضة، وكما تعلم فإن بيتنا
ممنوع على الغرباء من الرجال باستثنائك واستثناء ذلك العجوز شريف الذي يخدمنا.
إننا نطلب مساعدتك في أمر لا علاقة له بالطب والأطباء، بل له علاقة بالنفس
البشرية الضعيفة. فكر الطبيب لفترة ثم قال:
- ماذا يمكنني أن أقول، فليس بالإمكان إعادة الصهر المتوفى فهذا
يتعارض مع قوانين الطبيعة، كما لا يمكن نصحها باللحاق به فهذا غير منطقي
ويتعارض مع مهمتي كطبيب. انني أنصح بأن تجدن لها عريساً جديداً.
- عريس جديد؟ رددت الآنستان باستغراب، إن هذا يتعارض مع عاداتنا
وتقاليدنا، ففي كل تاريخ العائلة لم يحدث أن تزوجت امرأة من جديد بعد أن تكون
قد عادت إلى بيت أهلها أرملة.
حولتا الحديث إلى مشاكل الروماتيزم والسكر ثم شكرتاه على تجشمه
عناء المجيء في إشارة إلى أن عليه أن يرحل فنهض يحمل حقيبته وعند الباب لم ينس
أن يمتدح براعة سعدية في صنع الحلويات.
اقتراح الطبيب حاييم جعلهما مستفزتين بل غاضبتين، واعتقدتا بأنه
عاملهما باستهتار. إن مجرد الحديث في بيت العائلة عن البحث عن عريس لإحدى نساء
البيت يعتبر استهتاراً واستخفافاً بالجد الأكبر الذي بنى هذا البيت منذ أكثر من
قرن ووضع قوانينه. وبمناسبة الحديث عن القوانين واحترامها فلا بأس أن نقول
بأنها لم تخرق مرة واحدة طوال كل هذه الفترة ويكفي أن نعلم بأن الجد الأكبر كان
قائداً عسكرياً صارماً مشهوراً بتعلقه الشديد بالنظام وقد خضع إلى دورات عسكرية
عليا في كل من استنبول وبرلين، وكان قائداً لوحدة مدفعية في معركة "جناق قلعة"
وحصل على أوسمة عديدة مكافأة له على انتصاراته المدهشة على العدو، وعندما وضع
قوانين البيت فإنه وضعها ليلتزم بها الرجال والنساء على السواء، وعلى رأس هذه
القوانين أن يصوم الشاب أو الفتاة من العائلة عن الزواج إن لم يأت "النصيب
المناسب"، وبسبب هذا القانون فقد مات العديد من أفراد العائلة عانسين. و
"النصيب المناسب" يعني أن تتم صفقات الزواج مع عوائل متساوية من حيث المكانة
والملاءة، وإن لم تتوفر امكانية لمثل هذه الصفقات فعلى الشبان والشابات أن
يهتموا بخدمة البيت والعائلة والسلام.
لقد قام الأب بتزويج الأخ مدحت بفتاة من عائلة مقربة جداً من
الأب ولها مكانتها في البلد حتى أن أحد أفرادها قد وصل إلى مناصب عالية في
الدولة. ثم إن مديحة قد تزوجت مصباح لأنه من عائلة عريقة ولأنه صديق أخيها مدحت
ويعرفه جيداً وقد ألح مصباح كثيراً على مصاهرة مدحت حتى استطاع أن يجعله يوافق،
ورغم أنه من عائلة لم تعد تملك الكثير (كان آخر الولاة العثمانيين للمدينة قد
صادر معظم أملاك أجداده لأسباب تعود إلى الشك في الولاء) فقد وافق مدحت لأن
الشاب كان ينشط في التجارة بشكل مستقل، إلا أن الحماس القومي الذي ظهر عليه
بشكل مفاجئ أدى إلى مقتله فرمّل مديحة وخلق هذه المشكلة التي تنطعت الآنستان
لحلها.
في إحدى المرات كان العجوز شريف يثرثر مع سعدية في المطبخ بعد
أن جلب ما كانت قد أوصته عليه من مشتريات كانت تحتاج اليها لصنع أطباقها
الشهية. كان في كل مرة يأتي بها بالتواصي يجلس مع الآنسة سعدية في المطبخ لنصف
ساعة يتحدث خلالها عما يجري في المدينة بلسان العارف الثرثار وهو يلتهم ما تكون
الآنسة قد حضرته مسبقاً من أطباق المشهيات والحلويات ثم يأخذ السلة المليئة
بحافظات الأطعمة التي تكون قد ملأتها بما قامت بتحضيره ليوزعها على بيوت معينة.
كانت سعدية، كما أشرنا، تحرص على ارسال الأطعمة إلى بعض الناس رغبة منها في أن
يشاركوها متعة تذوقها، ثم إن الأمر لا يخلو من خدمة إنسانية لبعض فقراء الحي
ونوع من التواصل الإنساني مع البعض الآخر الذي قد لا يكون بحاجة إلى صدقة ولكن
العادات والتقاليد تحبذ تبادل الأطباق (كانت سعدية ترفض تذوق أي من الأطعمة
التي يرسلها الآخرون). إذاً، كان العجوز يثرثر في المطبخ عندما جاء على ذكر
تحضير الأرواح، وكانت المناسبة التي كان يتحدث عنها هي أن بعض أقاربه قد مات
لهم شخص عزيز بشكل مفاجئ، وكان قد أخفى قبل موته كل ثروته ومدخراته وبعض
الأمانات التي كان البعض قد أودعها لديه، فقد كان أميناً وحسن السيرة، في مكان
لم يستطيعوا اكتشافه رغم أنهم لم يتركوا مكاناً أو ثقباً إلا وبحثوا فيه.
وأخيراً قرروا، بعد أن عجزوا، أن يستدعوا اختصاصيةً في تحضير الأرواح لتحضير
روح الميت لسؤاله عن المكان الذي أخفى فيه الأموال.
كانت الآنسة فاطمة جالسة في الصالون تطرز على الطارة حين لفت
انتباهها موضوع تحضير الأرواح فتركت الطارة على المقعد الوثير وجاءت إلى المطبخ
لتنضم إلى سعدية في الاستماع إلى بقية الحكاية، فعرفت بأنه تم تحضير روح الرجل
التي كشفت لهم عن المكان الذي أخفى فيه الرجل الثروة، وكان، بالمناسبة، في حفرة
في حديقة المنزل وبالضبط تحت شجرة "زنزلخت" كانت غرست لتأمين الظل في أيام
القيظ. وبالفعل فقد حفروا في المكان المعين فوجدوا صندوقاً يحتوي على كل
الأموال.
نظرت الآنستان كل في عيني الأخرى دون أن تنبسا بحرف فقد فهمت كل
منهما بأن حل مشكلة الحنين عند أختهما الأرملة متاح لهما وبين أيديهما، فراحتا
تسألان العجوز عن تلك الاختصاصية في تحضير الأرواح وهل يعرفها وهل يمكن
الاستفادة من امكانياتها وكيف تظهر الروح حين تحضر وهل يمكن التحدث معها وعشرات
الأسئلة التي تخطر في بال من عنده مشكلة ولا يمتلك حلاً لها. وعدهما العجوز بأن
يهتم بالأمر ويذهب شخصياً إلى المرأة ليفهم منها كل شيء، ويكفي أن تمهلاه عدة
أيام ليأتي بالأجوبة على كل هذه الأسئلة، ثم حمل السلة ورحل تاركاً الآنستين في
حالٍ من الأمل بأنهما وجدتا الحل المناسب لمشكلة مديحة، وهو استحضار روح الزوج
العزيز لتتمكن من إفراغ حنينها واشتياقها واستفقادها لزوجها في روحه.
سار كل شيء على ما يرام وساد البيت أجواء من الترقب والفضول، ثم
جاء شريف العجوز بالأجوبة الشافية على أسئلة الآنستين فقال:
- لقد قابلتها، وهي امرأة معروفة جداً ومشهورة بضرب المندل
وتحضير الأرواح. اسمها "الشيخة عزيزة" وهي امرأة محسنة تهب كل ما تجني إلى
الفقراء، ولا تقوم بعملها إلا خدمة للخير. إذا ما طلبها أحد لاستحضار روح شخص
ما فيجب أن يكون من أجل فعل الخير وليس الشر.
حدثهما عن أمور كثيرة استطاع أن يحصل عليها من الشيخة عزيزة
بالذات إلا أنه لم يستطع أن يشفي غليلهما لمعرفة أمور أخرى تتعلق بتحضير الروح
فالشيخة رفضت الإفصاح عن سر موهبتها وكيف تتجلى إلا أن الآنستين صرفتاه وطلبتا
منه أن يحضر في الغد كالعادة لأنهما قد تطلبان منه أمراً محدداً. وفي المساء
وبعد أن استمعن إلى حلقة جديدة من مسلسل "بعد الغروب" حين ذرفت مديحة بعض
الدموع بكل صدق، أطفأن المذياع ثم انتقلن إلى الشرفة التي تطل على الشارع وهناك
فاتحتا مديحة بالموضوع. اندهشت الأرملة في بادئ الأمر ورفضت التصديق بأنها
تستطيع التكلم من جديد مع زوجها الحبيب، ولكن بعد شرح مستفيض وبعد أن أعدن إلى
أسماعها ما كان قاله شريف العجوز عن امكانيات الشيخة عزيزة اقتنعت مديحة وطلبت
منهما أن يهملاها بعض الوقت للتفكير قبل أن توافق على استحضار روح مصباح
الحبيب. والحقيقة هي أن مديحة قد ارتعبت من الفكرة، فليس من السهل على أرملة
ناعمة تذرف الدموع بسهولة شديدة مقابلة روح زوجها المتوفى وجهاً لوجه. قال شريف
العجوز بأن الروح لن تظهر ولكن سيظهر أثرها وستدل على حضورها، ثم انها سوف
تتلبس جسد الشيخة عزيزة وستتحدث بصوتها، ولكن قد تمد الروح يدها وتتلمسها
باشتياق وهذا ما لا قدرة لها على تحمله. ان استحضار الروح هو استحضار لعالم
الموت، ومقابلتها هي مقابلة لشخص ميت وهذا ما جعل مديحة ترتعد خوفاً وهي جالسة
في سريرها ليلاً بعد أن بدأ النوم يجافيها. ثم ماذا لو تعلمت الروح طريقها إلى
غرفة نومها وأصبحت تأتي كل ليلة لتدل على وجودها بصوت قرقعة أو بتحريك قطع
الأثاث أو قد تبدأ بالمزاح (كان، رحمه الله، يحب المزاح وصنع المقالب) كأن يطفئ
النور فجأة وهي سهرانة وحيدة في غرفتها ، أو يشعل النور بعد أن تكون هي قد
أطفأته وأوت إلى السرير أو ربما تجرأ ودخل إلى الحمام وهي تستحم أو أن يفاجئها
وهي عارية فهو الآن محرم عليها وهي محرمة عليه.
فجأة سمعت قرقعة من داخل خزانتها فانتفضت وقد اقشعر بدنها
وانتصب الزغب على جسدها فتركت النور مشعولاً خوفاً من الظلام واندست في السرير
وسحبت الغطاء إلى ما فوق رأسها. راحت ترتعد منكمشة تحت غطائها وقد شنفت آذانها
لالتقاط أي صوت أو حركة أو قرقعة أو طقطقة، فسمعت ما يهيأ لها أنه وقع أقدام في
الغرفة ثم صوت اصطدام شيء ما بمقعد حتى أنها شعرت وكأن يداً تتلمس الغطاء فكادت
تبول في سروالها. من خوفها قررت أن تريح نفسها فصرخت، دون أن تخرج رأسها من تحت
الغطاء، بمصباح وطلبت منه أن يتركها وشأنها لأنه يخيفها، وبما أن المرحوم كان
لطيفاً معها باستمرار وكان يخاف على مزاجها أن يتعكر فقد تجرأت على إعطاء
الأوامر له بصيغة صارمة لكي يرحل، وما هي إلا لحظات حتى أحست بأن الأصوات
الغريبة قد توقفت ولم تعد تشعر باليد تملّس على غطاء السرير، فأزاحت طرف الغطاء
قليلاً عن عينيها لتتمكن من النظر دون أن تشعر الروح بأنها تنظر فوجدت أشياء
الغرفة وأثاثها كما تركتها قبل الاستلقاء، حينئذ أزاحت الغطاء عن رأسها بشكل
كامل ثم استندت على مرفقيها ورفعت نفسها وراحت تنظر إلى كل الجهات فلم تجد أي
أثر يدل على وجود روح المرحوم، ثم تجرأت فنزلت عن السرير وذهبت إلى الخزانة
ففتحتها فلم تجد شيئاً مريباً. إلا أن كل هذا لم يطمئنها فقد ظلت سهرانة حتى
الصباح تتلقط أي صوت مهما كان حتى لو كان دبيب نملة فتعود لرفع رأسها للنظر
وتفقد الغرفة.
بقيت نائمة حتى الظهيرة وعندما استيقظت أخيراً شعرت بالراحة لأن
ضوء النهار، كالعادة، يشيع الطمأنينة في النفس، فنهضت وارتدت ثيابها، وعندما
خلعت ثياب نومها وأصبحت شبه عارية تلفتت إلى هنا وهناك خوفا ًوخجلاً إلا أنها
شعرت بسخف ما كانت تشعر به وأحست بطمأنينة مفاجئة، فكم هي الحياة مريحة بدون
هاجس وبدون خوف. وقارنت بلمحة سريعة حياتها الاعتيادية بما يمكن أن تكون عليها
حياتها إذا ما قررت أن تستحضر روح زوجها فوجدت أنها في نعيم.
عندما خرجت إلى الصالون وجدت أختيها جالستان وهما تعملان في
التطريز والتقشير، وفي الحقيقة فقد كانتا في انتظارها لتسمعا منها قرارها حول
استحضار روح مصباح إلا أنها أهملت الأمر وكأن شيئاً لم يكن ولم تتحدث في
الموضوع فتركتاها في شأنها. أما بعد العصر، وبينما كن جالسات في الشرفة فقد
وجدت أن عليها قول شيء عن الموضوع لأنها تعتقد بأن أختيها تنتظران قرارها. قالت
لهما بأن عليها أن تحترم هدوء روح المرحوم وسكينته وإن استحضار روحه سوف يشوش
حياتها بعد أن تعودت على فراقه وسوف يجعله حزيناً على فراق الحياة وسيأسف لموته
بعد أن اعتاد على وضعه الجديد.
هزت الآنستان رأسيهما توافقانها على رأيها، ومنذ ذلك اليوم
أصبحت الأرملة مديحة أفضل حالاً ولم تعد إليها الكآبة ولم تعد تشكو من الحنين
إلى زوجها المرحوم، إلا أنها لم تعدم بعض الدموع التي تذرفها من وقت إلى آخر.
|