يكفي أن يحبك قلب واحد
لتعيش
يكفي أن يحبك قلبٌ واحدٌ، هذا ماكانت تردده في غرف روحها العميقة
جداً، لصغيرها الأبله ذي السنوات الأربع، وهي تحتضنه في عيادة طبيب الأسنان،
وتمسح لعابه الذي يسيل من فمه المشتور. كانت لاتستطيع مواجهة نظرات الناس
الوقحة والصريحة المحدقة إلى صغيرها المعتوه، الذي يثير الدهشة والسخرية
والتعليقات الهامسة وأحياناً المسموعة. تتحولُ النظرات لطعنةٍ عميقة في قلبها
المتضخم بحب هذا الصغير المسكين البريء من جنونه وتخلفه.
أفلت صغيرها من ذراعيها المتصالبين أمام صدره، واتجه بخطوات متعثرة،
لكأن مفاصله متخلعة صوب طفل صغير يماثله في العمر، وقف أمامه وهمهم بصوتٍ اجتهد
أن يجعله كلمات لكنه كان أشبه بالجعير، أجفل الطفل السوي والتجأ إلى حضن أمه
صارخاً بجزع: ماما، ماما أبعدي هذا الطفل البشع عني.
طمأنت أم الطفل السوي صغيرها قائلة وهي تربت على كتفه: لاتخف، لاتخف،
لن يؤذيك.
قامت الأم ذات القلب المطعون بحربة منذ أربع سنوات، تعيد صغيرها
المجنون إلى أسر ذراعيها، تبتلع دموعاً تعوّدت طعمها المر وتتساءل في سرها:
لماذا تأخر الطبيب؟ أما كان قد حدد لها موعداً تمام الساعة الخامسة والنصف؟
ركنَ المجنون الصغير بين ذراعي أمه، لكنه أخذ يصدر همهمات وحركات
عشوائية لا إرادية من أطرافه، فيما أمه تدفن وجهها في شعره الأسود الكثيف هاربة
من حصار النظرات.
لم يخطر لها يوماً أن تكون أماً لطفل مشوهٍ، متخلف ومجنون كما شخص
له الأطباء. اللعنة على الأطباء. كم تكرههم، ما ابنها إلا ضحية لأخطائهم
وللظروف، هذا ماتؤمن به. ولدته طبيعياً، سمعت صراخه الأليم وهم يفصلونه عنها،
ضمته بحنان إلى صدرها وشعرت كيف تفجّر الحب فجأة من صدرها كانفجار خزان كبير.
لسوء حظه كان اليرقان الذي أصابه بعد أيام من ولادته شديداً صبغه
بالبرتقالي الداكن، كان يجب نقله فوراً إلى الحاضنة، لكن الحاضنات الثلاث في
المشفى كانت معطوبة. وقد رأتها بنفسها كيف تسرح فيها الصراصير الصغيرة، صرخت
بقرف: صراصير في حاضنة للأطفال؟
ردت الممرضة بلا مبالاة: إنها معطلة منذ أكثر من عامين.
أخذ الصغير يختلج بقوة، رامياً ذارعيه خارج جسده، كأنه يتخلص من شيء
ثقيل يرزح على صدره، وتدور عيناه في محجريهما إلى الوراء، لتتحولا إلى بياض
تام. كان دماغه قد تأذى بشدة حين عثروا أخيراً على حاضنة في مدينة تبعد ساعتين
ونصفاً عن مدينة الوليد.
انهارت الأم حين أكد لها طبيب الأعصاب أن دماغ ابنها قد تأذى أذية
كبيرة لعدم إدخاله الحاضنة... صرخت ملتاعة وهي تتلوى ألماً كدجاجة مذبوحة:
والله نحن نعيش على كف عفريت، نعيش في هذه الحياة الحقيرة بقدرة قادر.
لم يخطر لها في يوم من الأيام أن تكون أماً لمعتوه، المجانين الذين
كانت تصادفهم في الشارع لم تكن تعيرهم أي اهتمام، لكأنهم ليسوا بشراً، إلا إذا
أجبرها المجنون أن تلتفت إليه بسبب تصرفاته المضحكة والخرقاء، فكيف وقد تحولت
إلى أم لمجنون صغير، لمعتوه برئ من علته.
الأسرة كلها تمنّت للصغير الموت، وهو لم يتجاوز الشهر من عمره،
زوجها الذي كانت تحكي لصديقاتها عن أن أروع صفة لديه: الحنان، كان يصرخ
متألماً: لاأريد ولداً مشوهاً. ليته يموت، ليته يموت. كانت تخاطبه هامسة كأنها
تحدث نفسها: لكنك والده! فيرمقه بألم وغيظ ويقول: لكن انظري إليه، أهذا طفل!
فتضمه بحنان شديد إلى صدرها، كأنها تتمنى لو تعيده إلى رحمها، وتسكب
على يديه دموعاً غزيرة وهي تبوح له وحده بأنها تحبه بجنون، وبأنها لاتستطيع أن
تتمنى موته أبداً.
طوال شهور نسيت أخاه الأكبر -صار الصغير المشوه هاجسها، لم يمش حتى
السنتين والنصف، ولم يتعلم النطق. الأب تعايش مع الجرح بأنجح وسيلة: تجاهَلَهُ،
أهمله ونفاه إلى الضواحي القصية من حياته، صاباً كل اهتمامه على ولده السليم.
وحدها الأم كانت تشتري للمعتوه ثياب العيد، ولا تمل من غسل ملابسه
التي يلوثها عامداً مذعناً لشياطين تتلبس روحه، تأمره أن يعفّر نفسه في التراب
وأن يسكب محتويات صحنه على ثيابه ورأسه. كانت تضرب ابنها السليم حين يضرب أخاه
المجنون، وتهدده بحرمانه من حلوياتها التي كانت تحضرها خصيصاً للمجنون الصغير.
أجهدت نفسها في تعليمه الكلام، رغم أن كل الأطباء نصحوها أن لافائدة
في جعله ينطق، لكنها توصلت مع الأيام إلى جعله يهمهم، وكانت وحدها قادرة على
ترجمة تلك الهمهمة. كان زوجها يتضايق من شدة اهتمامها بالصغير المتخلف،
ويشاجرها لإهمالها أسرتها، مؤكداً لها أن الرحمة الحقيقية للجميع أن يموت هذا
المسخ.
لم تكن تستطيع تخيل خلو حياتها منه، إنها تحبه بجنون، تحسه قطعة
منها، هذا المعتوه الصغير، الذي يفاجئها في لحظات خاطفة كيف يرنو إليها بعينين
تفيضان وجداً. ما أجمل عينيه قبل أن يغفو، ماكان ينام إلا وهو يطيل التحديق إلى
وجهها، فتحس بالتحوّل البطيء والتدريجي لملامح وجهها، تحس بالحنان يرفرف حولها
كفراشاتٍ من نور.
ذات يوم سالت دموعه من شدة تحديقه إلى وجهها، وحين كانت تبتعد كان
يُصدر أصواتاً متألمة تضطرها للعودة إليه. وحدها كانت دنياه، دنياه الغنية
بالحب والتي لم يستطع ذوو العقول المحدودة المتباهون بصحتهم العقلية أن يدركوا
كنه حب المجانين للعالم.
لم يصدقها أحد من أفراد أسرتها حين كانت تصف لهم حساسية الصغير
العالية ورقته وذكاءه الخاص.. ذات يوم حين كسر المزهرية من الكريستال، ضربه
والده بقسوة وهو يهزه من كتفيه النحيلتين قائلاً: الله يلعن الساعة التي شرّفت
بها إلى الدنيا، والله لقد جعلت حياتنا جحيماً، لكني لا ألومك، بل ألوم التي
تفوقك جنوناً : أمك.
يومها التجأ بخطواته المتعثرة، ومشيته المخلّعة إلى حضن أمه، رمى
نفسه في حضنها وهو يرتعش خوفاً كجرو صغير أفلت لتوه من انقضاض وحش مفترس عليه.
كان يبكي ويهمهم بأصوات مخنوقة مبهمة أشبه بالخوار، واللعاب يسيل
بغزارة من فمه، ضمته إلى صدرها، رشفت دموعه بشفتيها، مسحت لعابه بكم فستانها،
هدهدته حتى غفا.. كانت تتجاهل نظرات زوجها الغاضبة، وحين لم يعد يطيق صبراً
هزّها من كتفها قائلاً: ماعادت عيشتنا عيشة، أفكر أن ألحقه بمدرسة للمتخلفين
عقلياً.
صرخت: لا، لن أسمح بذلك مادمت موجودة.
-لكنه خرّب نصف أغراض المنزل، وهو لم يكمل الرابعة من عمره بعد.
قالت باكية: لا، أرجوك، يستحيل أن يعيش في مصحٍ للمعوقين.
صرخ: لماذا؟
لم تستطع أن تجيب في الحال، لكنها تمكنت بعد لحظات من جمع شتات
نفسها، قالت وهي تحس أنها تسيل حباً كماءٍ مقطر يغسل الصغير: لأنني أحبه أكثر
من أي شيء في الدنيا. انطفأ الرجل، وهلة. شعر أن كلماتها خدّرته كالبخور. كان
يشعر بالخدر كلما استنشق بعمق رائحة البخور. هل كانت كلمات زوجته متشكلة من
بخار روحها المتألمة؟
صارت فائقة الرقة مع مجانين الشوارع، تتساءل بشفقة: ماذنبهم؟
كانت تفكر طويلاً بمنطق جدتها في تفسير وجوه البشر المشوهين
والمتخلفين: لكي يتمجد اسم الله. لم تكن تقبل هذا المنطق أبداً، ترد بسخطٍ على
جدتها: لكن الله لايحتاج كي يتمجد اسمه أن يخلق بشراً غير أسوياء يتعذبون
ويعذبون أسرهم معهم. لكن الجدة تصر على تفسيرها، وتستشهد بآيات من الإنجيل، حين
سأل أحدهم يسوع المسيح: أي ذنب اقترفه هذا المسكين المسكون بالشياطين، حتى يكون
مجنوناً؟
قال المسيح: لا لذنب اقترفه، بل ليتمجد اسم الله.
انفتح باب غرفة الانتظار فجأة، أطلَّ الطبيب، نظر في ساعته معتذراً
لها قائلاً: أنا آسف، لم أتوقع أن حالة السيدة معقدة هكذا.
كانت سيدة مفرطة الأناقة، تخرج من غرفة الفحص، تضغط قطعة من القطن
بين فكيها، وحين لمحت الطفل شهقت ورسمت بآلية علامة الصليب على صدرها. تحفزت
الأم وصفعتها بقوة بخيالها، لكنها حملت الصغير ولحقت بالطبيب إلى غرفة
المعاينة.
كان يدير لها ظهره، يغسل أدواته، ويقذفها في صينية معدنية بجانب
المغسلة قال لها: خير، هل عاد الضرس نفسه يؤلمك؟
قالت: أقصدك هذه المرة لأجل الصغير.
تعوّدت على نصال الألم تنهالُ بلا رحمة مخترقة قلبها، كلهم يذهلون
حين تعتني بابنها المعتوه، كانت تصرخ أحياناً، لكنه روح، روح.
كانت لهجته تعني تحديداً: هل يستأهل هذا المسخ عنايتك؟
لم يسمح المعتوه الصغير للطبيب بفحصه، إلا وهو في أحضان أمه، أخذ
وجه الطبيب يزداد قتامة وهو يمعن في جوف فم الصغير، قال للأم بعد أن انتهى من
فحصه: تشوه شديد في الفكين والأسنان، الحالة صعبة جداً، ومكلفة للغاية أرى أنه
من الجنون التفكير بتصحيح تشوه فظيع كهذا..
سألت وكأنها لم تسمع كلامه: ما الكلفة يادكتور؟
حدّق الطبيب إلى وجه المتيمة حباً وقال: الكلفة كبيرة، لو أردتِ
أحسبها لك. لم يكمل لأن بقايا وجدان ذكرته أنها أمْ.
قالت: المال لايهم، سأتدبر الأمر.
رفع الطبيب كتفيه لامبالياً وقال: كما تشائين، لكن من واجبي أن أقول
لك حرام هدر المال.
خرجت من عيادة الطبيب تحمل ابنها، كانت ذراعه اليسرى تحيط بعنقها
وتعبث بشعرها، وذراعه اليمنى نصف المشلولة تنسدل مرتخية على صدرها. كان حاجز
صدره النحيل ينقل إلى صدرها إيقاع دقات قلبه، تناغم إيقاع القلبين مع إيقاع
خطواتها وعَتْ بعمق كيف يتوحد قدرهما بالحب، الحب صليب، صليب جميل. انتظم إيقاع
القلبين وطغى على ضجيج الشارع وصوت المذياع الملعلع. تحوّل الإيقاع إلى كلمات
مبهمة أخذت تزداد وضوحاً مع تسارع خطواتها. كان قلبها يغني بسرور باكٍ: يكفي أن
يحبك قلب واحد كي تعيش. ياصغيري البريء، ياطفلي الرائع.
توقفت عند إشارة المرور. تنبهت إلى أنه أغفى على كتفها، قبّلت وجنته
المنداة بلعابه، أحست أنها ترشف عسلاً. دمعت عيناها وهي تتمنى له أحلاماً
سعيدة.
زهرة الروح الأروجوانية
ما الذي يوقظها من عزِّ النوم سوى هذا الإحساس الأصم الثقيل المؤكد:
اليأس؟! أجل اليأس. حاولت أن تغّش نفسها وتبحث عن تعبير أخف وطأة، لكنها أدركت
في تلك الليلة حين أفاقت في الرابعة فجراً، واليأس متربصٌ بها كاشفٌ عن وجهه
العريض بعينين رماديتين مطفأتين دون بياض، وأنف عريض كالجدار، وفم عبارة عن شق
دون شفاه، أدركت أنه لامجال للالتباس، فهذا وجه اليأس. تذكرت نصائح الطبيب
النفساني الذي لجأت إليه في الشهرين الأخيرين.
منذ سنوات وهي تفكر باستشارة طبيب نفساني، لكنها كانت تخشى من نظرة
الناس، سيقولون عنها مجنونة، في سرها كانت تصرخ بهم: النفس تتعب كالجسد، بل
أكثر منه وتحتاج لمن يريحُها، حسمت أمرها أخيراً باستشارة طبيب نفساني لسبب
وحيد كون عيادة هذا الطبيب العائد حديثاً من ألمانيا تقع في مبنى ضخم كل طابق
فيه يزيد عن عشرة مكاتب، وكما يقولون (الطاسة ضايعة) تعبير عاميّ تحبه، يعني أن
لا أحد يعرف أي مكتب تقصد. ما طمأنها كون محل مزين شعر للسيدات في طابق عيادة
الدكتور النفساني، وكانت تتعمد أن يكون شعرها مُسَّرحاً بعناية حين تقصد الطبيب
ولا تنسى أن تضع في حقيبتها بخاخ تثبيت الشعر الذي يذيع أنها كانت لدى مزين
الشعر، فيما لو صادفت أحداً من أقاربها أو أصحابها. كانت بعد كل جلسة لدى
الطبيب النفساني تتعمد أن تدخل الحمّام، تبخ بكثافة رذاذ مثبت الشعر على رأسها،
ثم تخرج من عيادته بثقة.
الرابعة فجراً، سكون الخلق الأول، لم تبدأ بعد العمليات اللامجدية
للبشر، عالم الضجيج لم يستأنف دوامته، أعدت القهوة، وهي تتذكر أن وصية الطبيب
النفساني الأول أن تمتنع عن القهوة كلياً، وكل أنواع المنبهات، سمح لها بعد
إلحاح منها أن تشرب فنجان قهوة وحيد في الصباح، ووصف لها دواءً للقلق، تبتلع
منه حبة كل مساء. ولكن ولعها بالقهوة جعلها تتمرد على نصائح الطبيب. قالت له:
- القهوة صديقة قديمة.
ضحك متسائلاً: صديقة؟
قالت: طبعاً، أليست القهوة مشروب الأحزان، ومحطات السفر، ولقاء
الأصدقاء إنها صديقة الانتظار.
أعجبه تعبيرها الأخير "القهوة صديقة الانتظار" حكى لها أنه حين كان
يدرس في برلين، أحبَّ امرأة تسكن في ضاحية بعيدة، وكان يشرب عدة فناجين من
القهوة وهو ينتظرها.
أقنعها أن أهم خطة لنجاح علاج أرقها المزمن هو الامتناع عن
المنبهات، وحاول تعزيتها بأن تشرب نوعاً مستورداً من القهوة بدون كافئين، لكنها
لم تستسغه، قالت له في الجلسة التالية: القهوة لاتقبل الغش، مانصحتني به هو
سراب القهوة.
ابتسم قائلاً: سنتعاون معاً لمحاربة أرقك المزمن، والشديد في
الواقع، لا أريدك أن تسقطي ضحية إدمان المنومات، يجب أن تلتزمي بخطة للعلاج،
أساسها ركيزتان أساسيتان: العلاج الرؤيوي، والامتناع عن المُنبهات، الموضوع
الأول مهمتي، والثاني مهمتك، أريد منكِ وعداً بالانقطاع عن المنبهات ، وعدته هي
شاربة القهوة والضجر بامتياز حكت له أن صلب وظيفتها يعتمد على شرب القهوة، ذُهل
حين قالت له إن عدد فناجين القهوة يتجاوز السبعة في ساعات الصباح الأولى.
سألها: أهذا معقول؟
قالت: يادكتور كيف سنقضي ثماني ساعات عمل دون قهوة، خاصة أن عملنا
الفعلي لايتجاوز النصف ساعة.
أحرجته، لم يجب. قال طاوياً النقاش: المهم استبدلي بالقهوة عصيراً
طازجاً أو زهورات أو نعناعاً.
جلست ترشف القهوة وهي تتخيّل نظرة العتب في عيني الطبيب الجميلتين،
فكّرت: إنه شاب جميل حقاً، وممتلئ حماسة، لكن حزناً عميقاً ينفلتُ من عينيه
مباغتاً لكليهما وهو يتحدث إليها، ترى ماسرُّ حزن العينين الجميلتين؟ فكّرت وهي
ترشف قهوتها أنه ألهاها حقاً عن المشكلة ولم يحّلها لها. أكثر من عشر جلسات،
تستغرق كل جلسة نصف ساعة، يحدثها عن العلاج الرؤيوي. بهرها حقاً في الجلسات
الأولى، لدرجة أنها ظلت أياماً تحس بنشوة لاتعرف مصدرها. ترّجع صدى صوته في
ذهنها: المهم أن نغيّر نظرتنا للواقع، فالراتب الحقير لن يزيد إذا اكتأبنا،
والضجيج اللعين المنطلق من المذياع والتلفاز، وزئير السيارات وآلات النجار
والحداد، والباعة المتجولين الذين طوّروا طريقتهم في البيع باستخدام مُكبرات
الصوت، كل هذا الجعير كما تسميه والذي يدّمر الأعصاب ببطء مامن سبيل للخلاص منه
سوى بتعويد أنفسنا ألا نعتبره كارثة.
حتى الضجر نفسه الذي يدفعها للبكاء، من شدة وطأته، والذي تغذيه
تفاهة الناس، وانعدام النشاطات الثقافية في المدينة، وموت السينما والمسرح يمكن
التحايل عليه بخلق أهداف جديدة، تغير نظرتنا إلى الواقع.
نشوة الجلسات الأولى وحماستها لطاعة الطبيب تلاشت، بدأت بذرة شك
تنبتُ في روحها، إنه يُلهيها ولا يُعالجها، هذا ماتحسه، منذ سنوات وهي تعاني من
أرق ينهك أعصابها، تحس بنعاس شديد، تنام ساعتين، لتستيقظ، كأن أحداً لكزها في
كتفها وأمرها أن تقوم من فراشها، تنصاع للصحو، وتجلس في وحدة الليل وقد تماهت
مع وحدتها تصغي للصمت الذي تفتنها موسيقاه أكثر من كل موسيقى، تقلّب حياتها
أمامها سنة بعد سنة، ياللمرارة! يا للحقيقة القاسية، تنبسط أمامها سنوات حياتها
طويلة تدرك كم أن الألم طاغ، ويترك وشماً بحجم الذاكرة، أما الفرح فليس سوى
رشّات صغيرة من غبار رائحته ذكية، لكنه سرعان مايطير دون أن يترك أثراً سوى صور
باهتة في الذاكرة.
تذكّرت كم عانت مع والدها الذي أصابه الشلل بعد حادث سيارة، سبع
سنوات وهي تصحو على وجه أحبّ إنسان إلى قلبها وقد كوّمه العجز، كتلة من العذاب
المتواصل، كان يناديها لتهش ذبابة حطّت على وجهه لأنه عاجز عن هذا الفعل،
أنهكتها السنوات السبع، شلل والدها جعل روحها تنشّل تماماً، فقدت قدرة توليد أي
أمل، انصبّت على دراستها لتتفوق في الجامعة، وتغدو مهندسة بامتياز، لكن الوظيفة
براتبها الشحيح والبطالة غير المقنعة جعلتها تهوي في هوّة يأس له طعم مختلف عن
طعم يأسها بعد شلل والدها. ابتسمت وهي تتذكر قصة حبها لشقيق صديقتها. هل أحبته
فعلاً أم أمرت نفسها أن تحبه متعمّدة خلق شعور جميل في حياتها؟ تعاهدا على
الزواج، سافر إلى السعودية ليعمل على أمل أن تلحقه، لكنه سرعان ما سقط في
الإغواء، وتزوج أرملة ثرية.
كانت ترفض الاستسلام لمطبات اليأس، قوة الشباب وحدها كانت تجعل كفة
الأمل ترجح، انتهت مرحلة الآلام الأولى، توفي الأب وطوت صفحة الحبيب الخائن
وتعوّدت ذل الوظيفة، بدأت عهداً جديداً. تزوجت شاباً مناسباً يملك شقة ودخله
يضمن لها ألا يجوعا يوماً، لكنها لم تستطع الاستمرار معه، لأنه كان موهوباً
بعجن الساعات بالنَكَد، لايكف لحظة عن انتقادها، نبهها إلى أن أفظع وسيلة
لتعذيب إنسان لإنسان هي الكلام. لو كان طبخها مالحاً قليلاً لايكف عن انتقادها
أسبوعاً يريدها أن تحب مايحبه، وتكره مايكرهه، يفهم المرأة كظلّ لزوجها، يدهشه
أن للزوجة رأياً خاصاً، إنها يجب أن تكون السجادة التي تطؤها الأسرة: الزوج
والأولاد والأهل.
طلقته غير آسفة، وبعدها ابتدأ الأرق، كانت تحسد الناس الذين يغفون
بسرعة، لديها صديقة تشرب عدة فناجين من القهوة، ثم تغفو، لكم تغبطها، كانت لا
تزال راغبة بشرب فنجان آخر من القهوة، وهي تنصت لصمت الليل، نظرت إلى ساعتها.
الرابعة والنصف صباحاً، قامت تحضّر القهوة مبتسمة بسخرية من صورة الطبيب،
المسكين، لم ينجح في علاجه الرؤيوي معي، هذا ماقالته لنفسها وهي تلحق فكرة: أي
سخف أن يقنعني أن أغيّر نظرتي للراتب الحقير، إنه حقير لأنه يذلني ويشعرني أنني
مسخة، فأي وهم هذا العلاج الرؤيوي، قررت أنها ستعترف له بسخف نظريته وبأنه
يستحيل علاج المشكلة إن لم تستأصل من جذورها، إن لم يتغير الواقع جذرياً، أما
أن يطلب من فقير تعيس أن يغدو سعيداً وهو منقوع في فقره، فهذا دجل ووهم.
أجل ستكون جلستها الأخيرة معه، لكنها تعترف في الواقع أنها ارتاحت
له، وبأنها كانت تنتظر موعد الجلسات معه بشغف، لعلها بحاجة لصديق ينقذها من
صقيع العلاقات البشرية. كانت ترشف القهوة بتلذذ وعيناها ثابتتان دون تركيز على
نبتة في زاوية الصالون، تتدلى أغصانها الخضراء من الأصيص حتى تلامس الأرض.
أغصان جميلة مفصصة عبارة عن أوراق متلاصقة، في تدليها غنج ودلال، وفي نهاية
الأوراق تتفتّح زهور أرجوانية، شعرت أنها تبصر هذه النبتة للمرة الأولى،
انتبهت: إن الرؤية تعني الإدراك، منذ سنوات وأمها تعتني بالنباتات وهي لاتبالي
بوجودها، بل كانت تسخر من أمها قائلة: النباتات ليست جميلة إلا وسط الطبيعة.
لكن إحساسها بهذه النبتة مختلف تماماً في هذه اللحظة، بينهما لغة
خاصة، انحناء الأغصان يذكرها بانحنائها تجاه زمنها الظالم، كلاهما ينحني ويرزح
تحت ذلّ المعاناة، لكن النبتة تتفتّح على زهور أرجوانية ساحرة، إنها رغم ذلّ
الزمان تبدع زهرات متفائلة.
ارتعش قلبها للحقيقة التي شعّت من روحها، مذيبة وجه اليأس الرمادي
الكئيب بومضة، إنها هي كالنبتة محنية ومذلولة أمام زمن عاهر، لكنها تملك جمالها
الخاص وزهور روحها تفوق زهور النبتة جمالاً، أمكنها أن تسمع في صمت الليل
الجليل صوت الطبيب يقول لها: برافو، أهنئك، هذا هو العلاج الرؤيوي، أن ننظر
بعمق إلى حقيقة نفوسنا، وأن نكتشف الكنز فيها، ولا نترك لصدأ الأيام أن يتراكم
فوقه، وألا ننكسر للظروف المحيطة مهما كانت قاسية.
دمعت عيناها تأثراً، قالت وهي ترمق صورته المرتسمة بوضوح في خيالها
بامتنان وحنان، وترشف آخر قطرة من قهوتها: لكن القهوة يادكتور، أليست صديقة
الانتظار؟ كان اللون الأرجواني للزهور يشع دفئاً، يغزو قلبها مباشرة فكّرت: إن
نبتة صامتة ومُهملة منذ سنوات يمكن أن تكون صديقتها في معركة الحياة الصامتة
المستمرة.
البلهاء
بعــــد يومين من زفاف وحيدها، وُجدت تيريزا البلهاء ميتة تحت شجرة
السنديان الهرمة الوحيدة في الحديقة الصغيرة قرب بيتها، تحديداً الغرفة الحقيرة
التي عاشت فيها ربع قرن مع ابنها.
اختلفت الآراء حول وفاة تيريزا البلهاء، منهم من رجّح أنها انتحرت،
مستحضرين فرويد إلى أذهانهم الذي سيعتبر -كما يحلو لهم أن يفسروا- زواج ابنها
نهاية لحياتها من جهة، وتكثيفاً شديداً للحادثة التي صبغت مستقبلها إلى الأبد،
حين حملت بابنها وهي في الرابعة عشرة، وتنصّل الأب من الاعتراف بأبوته للجنين،
واعتقد بعضهم أن تيريزا البلهاء توفيت بسرطان الثدي الذي تعاني منه منذ سنوات،
وترفض العلاج. أما ابنها الذي بكاها بدموع من نار، فكان يهذي وسط دموعه بأنها
توفيت من الحزن، وبأن الحزن حين يزيد عن
حد معين يصبح قاتلاً.
لم يشيّع تيريزا البلهاء إلى مثواها الأخير سوى نفر قليل من الناس،
أختاها الوحيدتان دون زوجيهما، اللذين كانا متبرئان من تيريزا الساقطة، ابنها
وزوجته، ومالكة الغرفة التي استأجرتها تيريزا لتعيش فيها مع ابنها.
التصقت بتيريزا صفة البلهاء مذ كانت في الرابعة عشرة. كانت كبرى
إخوتها، ومسؤولة عن العناية بهم لأن أمها مضطرة للعمل من الصباح وحتى المساء
خادمة في البيوت لتعيلهم، فيما والدها هائمٌ منذ سنوات في مصحٍ للأمراض
العقلية.
كثيراً ماحلمت تيريزا بزيارة والدها، لكن أمها كانت تزجرها كل مرة،
تنهاها عن ذكره، فما كان من هذا النهي القاسي إلا أن يزيد اضطرام أشواقها
وأفكارها نحو والدها، كان غيابه يجعل حبها له شفافاً ونقياً لاتشوبه كلمات
البشر الفظة القاسية، ولا تصرفاتهم الخالية من الرحمة، وكثيراً ماكانت ترنو إلى
البعيد وتتخيل أنها تركض مسافات ومسافات لتلقي بجسدها في حضنه، فيضمها بقوة إلى
صدره وتمتزج دموعهما، وهو يعدها أنه لن يتركها أبداً... كانت صديقاتها يسخرن
منها حين يضبطنها تبتسم وتبرطم بكلمات وحدها، فيقلن لها: المجانين فقط يتحدثون
مع أنفسهم، لكنها كانت تبتسم ولا تُعلّق بكلمة. فهي تحب صديقاتها من كل قلبها
حتى لو سخرن منها وتهامسن بأنها بلهاء. ماكانت تفهم فن الكذب، ولا فلسفة الغش،
إنها تُعبّر عن كل ماتحسه بالقول والفعل وعلى الملأ. ماكانت تفهم لماذا يداري
الناس سلوكهم، ولماذا يكونون بعدّة أقنعة! ذات يوم حين زارتهم جارتهم، أدهشها
ترحيب أمها الحار بالمرأة، فانبرت تيريزا تقول بسذاجة: أمي، أليست هذه جارتنا
التي تقولين عنها بخيلة وثرثارة ولا يهمها سوى اصطياد زوج ثري لابنتها.
انقطعت العلاقة بين المرأتين بسبب تيريزا البلهاء، ورغم العتب
القاسي الذي تعرّضت له تيريزا من أمها، فإنها لم تفهم لماذا اعْتبرت مذنبة؟!
بقيت على تساؤلاتها الساذجة لماذا لايقول الناس كل شيء أمام بعضهم، لماذا
يكذبون؟ ومامعنى الكذب؟
فرحت بجسدها اللدن الرشيق، الذي أخذ يتكوّر، ويشع حرارة جديدة، أشبه
بتيارات مائية ساخنة تدغدغ جلدها وأحشاءها، كانت تضحك لصورتها في المرآة، وهي
تكتشف تلك المشاعر اللذيذة، وتتساءل: لماذا لم تشعر بها من قبل؟ كانت تقضي
ساعات تتأمل نهديها الشامخين، وتمرر يديها على وركيها وبطنها وفخذيها، منتشية
بالتحوّل الجميل والمدهش في جسدها، كانت مزهوة بتفتّح أزهارها، بالثمار اليانعة
الشهية التي ترغب أن يتحلّب الناس ليتذوقوها، وكانت تبكي بدموع سخية وهي تسمع
أغاني عبد الحليم حافظ الذي احتل أحلام يقظتها التي لاتنقطع إلا عند الضرورة.
في الثالثة عشرة سقطت تيريزا في شرك الحب، كل الحارة شهدت حبها
للشاب الجميل الذي يقود سيارته الفخمة البيضاء، ودون أن تتلفت خائفة وأمام
العيون المتلصصة من الشقوق والثقوب، كانت تيريزا تركض إلى حبيبها، وتجلس بجانبه
في السيارة ليأخذها إلى الشقة التي استأجرها لغرامياته.
دُهشت تيريزا حين انفضّت عنها صديقاتها، وصرن يرمقنها باحتقار
ويتهامسن حين تمر بجانبهن، كانت تتساءل بدهشة وحزن: لماذا تغيّرت نظراتهن؟!
ماكان لها أن تفهم أبداً نظرة الاحتقار، فهي لم تختبر هذا الشعور، ومادة روحها
النقية غير مؤهبة للإحساس به.
أخذ بطن تيريزا يتكوّر، ويزداد حجماً، أدهشها أنها غدت بدينة، مع
أنها لاتأكل زيادة عن عادتها! وبأن تنورتها الوحيدة ماعادت تحيط بخصرها. حتى
الشهر الخامس لم تلحظ الأم حمل ابنتها، في الواقع لم تكن تراها، لأنها تعود إلى
البيت حطام امرأة. متهالكة من التعب، تمسح أولادها بنظرة، وتغطّ في النوم،
تاركة صغارها يكبرون برعاية تيريزا البلهاء والعناية الإلهية، وصدقات الجيران.
ذات يوم تحلّقت صديقات تيريزا حولها وسألنها: تيريزا، ألا تلاحظين
أن بطنك يكبر؟ ويتغامزن وينفجرن ضاحكات.
فتلمس تيريزا بطنها متعجبة وتقول: أجل إنه يكبر.
فيسألنها: تيريزا من والد طفلك؟!
تحملق تيريزا في وجوههن وتتساءل بدهشة طفولية: طفل، أي طفل!.
تقول إحدى صديقاتها: من تعاشر رجلاً تحمل بطفل.
كانت تيريزا تفسّر كبر بطنها، بسبب انقطاع الطمث، فالدم يتجمّع في
الداخل، ويجعل بطنها يكبر، كانت مقتنعة كلياً بهذا التحليل الدقيق لكبر بطنها،
ولم تكن تقلق، فذات يوم سيتدفق كل هذا الدم إلى الخارج ويعود بطنها إلى حجمه
الطبيعي.
ضربتها أمها بوحشية وهي تسألها: منذ متى تعاشرين هذا الكلب؟ وكانت
تيريزا تبكي وترتعش ولا تتفوه بكلمة، استدعت الجلاّدة القابلة لتكشف على
ابنتها، وبعد الفحص رفعت القابلة عينين زائغتين بالدهشة وأدلت بتقريرها: الفتاة
حامل في شهرها الخامس، لكنها لاتزال عذراء!!
اقتحمت أم تيريزا منزل الشاب الثري وواجهت أسرته بحمل ابنتها، طُردت
الأم واختفى الشاب عن الأنظار، استدانت الأم المنحوسة -كما غدا اسمها في
الحارة- المال، وأقامت دعوى على الشاب لتضطره للزواج من تيريزا والاعتراف
بابنه، لكن الشاب نفى أبوته للطفل، وقال في المحكمة بأن تيريزا عاهرة وتعرف
الكثير من الرجال غيره، وذكر أسماء خمسة من أصدقائه وأصدقاء والده على أنهم
عشّاق لتيريزا، وأصرَّ على استدعاء هؤلاء العشّاق وسماع شهاداتهم بتيريزا،
عارفاً أنهم سيذكرون جميعاً الوحمة البنفسجية فوق عانة تيريزا بقليل!
وحين واجه محامي تيريزا المحكمة بتقرير طبي يثبت أن تيريزا لاتزال
عذراء، وبشهود من الجيران، يؤكدون أن الفتاة لم تخرج سوى مع الشاب الثري، استمر
الأب في نكرانه، وانتهت الدعوى بأن دفع الشاب مبلغاً كبيراً لصاحب السيادة كي
يُبرأ من أبوة الطفل الذي تحمله البلهاء في بطنها.
كان على تيريزا أن تعرف دفعة واحدة معنى الألم والتخلي ونبذ الناس
لها واحتقارها، الذي أحسته يؤلمها كوخز الإبر، كان عليها أن تعرف دفعة واحدة
معنى الوحدة وموت المشاعر البكر الطاهرة التي كانت تدفعها لتأمل جسدها بافتتان
وللارتماء في أحضان الحبيب مكتشفة جسدها في جسده، وسعيدة بأن يكتشف جسده في
جسدها.
انقضت كل تلك المشاعر الوحشية القاسية على تيريزا، وأحاطتها كدائرة
من نار وهي تتمخّض معانية آلاماً لاتطاق، بينما لاتسمع كلمة واحدة تؤاسيها من
أمها، أو القابلة، فمن يؤاسي فتاة حملت سفاحاً؟ لكن تيريزا البلهاء غدت أماً
بطرفة عين، ولدت إنسانة جديدة في اللحظة التي قذف رحمها ابنها.
خلال أشهر شاخت الصبية ذات الأربعة عشر عاماً، ماتت شهوتها للرجل
وتحوّلت إلى جرح سيظل مفتوح الشفتين مدى الحياة، وضاع ذلك الشعور البهي المتوهج
الذي لاتعرف أن اسمه الشهوة في غياهب الإهمال، أعطت روحها وكيانها لوحيدها، صار
دنياها وعالمها. كانت ترتعد من قسوة النظرات ووحشيتها فتهرب إلى دنيا صغيرها،
إنه الكائن الوحيد الذي يُحبها ويقبّلها، ويقبلها كماهي، وحده لايصدّق أنها
زانية.
كبر الصغير وكان صورة طبق الأصل عن والده، حاول البعض ممن يحتفظون
ببقايا رحمة في قلوبهم أن يصحبوا طفل الزانية إلى والده، ليفحموه بالشبه بينهما،
لكن الأب استمر في النكران، وتزوج من فتاة من سويته المالية، وأنجب منها ثلاث
بنات، لكن حرقة الصبي ظلت تلاحقه، فكان يقول في سره، أيُعقل أن أنجب ثلاث بنات
في الحلال، فيما الصبي لا أنجبه إلا في الحرام.
استطاعت تيريزا البلهاء أن تنتزع شفقة الناس بعد سنوات وليس
احترامهم، فالكل يشهد كم أحبت طفلها، ظلت تحمله حتى العاشرة من عمره، كانت تقضي
ساعات بجانبه تتأمله وهو نائم، تغني له أغاني عبد الحليم بصوتها الهامس العذب،
وتمسح دموعها الخرساء. ماعادت تتذكر أنها أنثى. انحفر الرجل في ذاكرتها مدية
تطعنها في الخلف، كانت دروس الحياة المبكرة والقاسية قد جعلتها تفقد أدنى رغبة
في المقاومة. كان الاستسلام التام لكل ماجرى معها هو الحل الأكثر رحمة وتحملاً
بالنسبة لها، وقد قاومت بضراوة محاولة العديد من الشبان جعلها عشيقة، حتى أن
أحدهم قال لها غير مصدق إنها لاتنوي معاشرة أي رجل: إلى متى ستتظاهرين بأنك
شريفة، وقد تعوّدت أن تباعدي بين ساقيك مذ كنتِ في الثالثة عشرة؟
تعوّدت تيريزا على ابتلاع الإهانات، واستمرت تقبر الأيام، يوماً بعد
يوم، لا يعنيها سوى ابنها، وتمكنت بواسطة جارتهم الوحيدة التي تشفق عليها من
الحصول على عمل في مؤسسة لبيع الخضار، وفي أوقات فراغها المستفيضة كانت تيريزا
تُبدع كنزات صوفية رائعة تبيعها وتساعد نفسها على العيش.
الصغير غدا كبيراً حين عاين جرح أمه، باحت له وهي ترتعد من شعورها
بالعار من يكون والده، سربلهما صمتٌ طويل لم تجرحه كلمات لأيام، كانت تعاني
آلاماً لاتطاق، وتخشى أن تفقد احترام الرجل الوحيد في حياتها، لكنه بعد أيام
دفن رأسه في صدرها قائلاً: أنتِ أروع أم في الدنيا. لكم أحبك ياتيريزا الرائعة،
أماهو فأكرهه، أنا لاأب لي.
كم كانت صادقة حين قالت له: لا تكرهه يابني، لاتجعل الكره يعّكر
روحك.
كانت تيريزا تعاني من اشمئزاز شديد حين ترى رجلاً وامرأة يتغازلان
على شاشة التلفاز، ظلت أسيرة مشاعر الإثم طوال حياتها، وساعد موقف اخواتها من
رسوخ هذه المشاعر، فبعد زواجهن انقطعن كلياً عن زيارتها، فهمت من غير أن تسأل
أن أزواجهن يمنعونهن من زيارة الأخت الآثمة التي أنجبت من غير زواج.
حين بلغ ابن تيريزا السادسة عشرة، فوجئت بعناية زائفة من أمها
وجارتهم، ليقنعوها بالزواج من أرمل يعيش في الأردن، أكدتا لها أن هذا الزواج هو
الوحيد القادر على إعادة الاعتبار ونفض الغبار عن كرامة تيريزا المعفّرة في وحل
الإثم منذ سنوات، فالرجل سيسجل ابن الحرام على اسمه، رفضت تيريزا بقوة وقالت
بأنها لاتطيق الرجال ولا تستطيع أن تقرِّب رجلاً. لكن الأم والجارة أقنعتاها
بأن زواجها سيحّول ابنها من ابن حرام إلى ابن شرعي وبأنها يجب أن تضحي في سبيل
ابنها.
قبلت تيريزا الزواج من الكهل، سافرت معه إلى عالمه الغريب، منتظرة
اللحظة التي سيسجل فيها ابنها على اسمه، لكنه أخذ يتملص، بدا لها واضحاً منذ
البداية أنه يريدها خادمة، بل عاهرة، كان يجبرها على لبس ثياب داخلية خليعة،
ويطلب إليها أن تقوم بحركات معينة، ويضربها كي تشاهد كل يوم العديد من الأفلام
الجنسية الخليعة لتتعلم فن ممارسة الجنس، لم تستطع تيريزا الاحتمال، هربت منه
بعد أن قال لها بأنه يستحيل أن يسجّل ابن الزانية على اسمه، وبعد أن صرخ في
إحدى فورات غضبه: ياقحبة كنتُ أظنك تعرفين فنون إرضاء الرجال، فإذا أنت تيريزا
البلهاء حقاً.
عادت تيريزا إلى غرفتها الضيقة تنشر أحزانها على الجدران، واستأنفت
حلمها الشاق الوحيد بأن يدخل ابنها كلية الهندسة. وأخيراً ابتسمت، هي التي نسيت
الابتسام، حين حصل ابنها على لقب مهندس، وخطب زميلة له في الجامعة، وترك أمه
تعيش وحيدة مع ذاكرة شوّهتها الآلام.
تحوّلت تيريزا إلى إنسانة شبه خرساء، كانت تقضي أياماً لاتنفتح
شفتاها عن كلمة، الجملة الأخيرة التي تفوّهت بها قبل وفاتها بيومين لجارتها:
أحس أن حياتي سراب.
القلة الذين شاهدوا جثة تيريزا تحت شجرة السنديان الهرمة، انتابهم
إحساس واحد بأنها كانت تحلم، ثمة ابتسامة ترفرف على وجهها، وسرب أحلام يطوف حول
عينيها ترى بماذا كانت تحلم تيريزا البلهاء قبل أن تسلم الروح؟!
المتاهة
كره أحدهما الآخر حتى أصابت كليهما أمراض جسدية، فقد استعمرت
الشقيقة رأسها ولم تتركها منذ كرهته، كانت تبقى ثلاثة أيام طريحة الفراش، لاتقدر أن ترى نوراً أو تسمع ضجة، غثيان مستمر وإقياءات وصداع فظيع لايهدأ
بأقوى المسكنات. هو السبب هذا ماتؤمن به. ولم يستطع الأطباء الجزم أو النفي
بشأن السبب الحقيقي لصداعها العنيد، لكنها كانت تصر وتؤكد لهم أنها لم تتناول
حبة مسكنة واحدة قبل أن تتعرف إليه.
أما هو فقد أصابته نوبٌ حادة من خناق الصدر مذ عرفها، وكثيراً ماكان
يستيقظ في الليل وهو يختنق ويسارع أطباء القلب لنجدته، ولطالما سألوه عن
السوابق العائلية لأمراض القلب في أسرته، وعن عاداته من تدخين وسهر وشرب، طبيعة
طعامه، كان يجيب فاقد الصبر ويقول لهم: صدقوني هي السبب، فقد كنتُ شاباً
رياضياً، وحققتُ بطولات في كرة القدم حتى تعرّفت إليها. وتزوجنا، تلك المرأة
النحس، التي اختنق قلبي في سمومها وحقدها. ورغم انفصالهما فإن أحقادهما ظلت
تغلي، وظل كل منهما يشعر أنه مغبون، ولم يثأر لكرامته المطعونة، ولم يُعْد
اعتباره أمام نفسه على الأقل، ولأن المثقفين يرفضون -بدافع الغرور ربما- اتباع
الأساليب الرخيصة في الانتقام كالضرب والثرثرة وتشويه السمعة، فقد قصدا الطرق
العلمية الحديثة لتحررهما من أحقادهما، لكن الطب النفسي وقف عاجزاً عن تفتيت
صخور الحقد المتينة في أعماقهما.
وأخيراً توصلا بعد بحث مضنٍ -كل بدوره- ودون أن يدري أحدهما بتحركات
شريكه في الكره، توصلا إلى طبيب صيني كان يجري أبحاثاً على أدمغة القرود. وعلى
مركز الذاكرة بالذات، وقد تمكن من اختراع دواء يؤثر في مركز الذاكرة ويجعل
القرد ينسى حوادث معينة إلى الأبد. وماأن سمعا بهذا الاختراع المذهل حتى اقتحما
-كل بدوره- صومعة الطبيب الصيني ورجواه أن يقتل -بدوائه الرائع- من ذاكرتيهما
ذلك الجزء الذي يحتله الآخر، كانت هي السبّاقة، ورجت المخترع أن يقتل تلك
الخلايا في دماغها التي تسجّل ذاكرتها معه، وأن يمحو صورته وصوته وحركاته،
وحاول الطبيب أن يُفهمها أنه لم يتأكد بعد من نتائج دوائه، وأن آثاراً جانبية
خطيرة قد تنجم عن استعماله، وأنه يجرّب على قرود وليس على بشر، وأن أي دواء يجب
أن يخضع لتجارب سنوات طويلة قبل أن يطبّق على الإنسان، لكنها بكت بحرقة وأسهبت
في شرح مأساتها، وأكدت للطبيب أن مصيرها الانتحار فيما لو لم تتحرر منه، وذعر
المخترع من منظرها ونصحها باستشارة أطباء نفسانيين. ضحكت وهي تجيب: لقد استشرت
أشهر الأطباء النفسيين وعجزوا عن إطفاء أحقادي على هذا الشيطان المُتنكر بهيئة
رجل، لقد دمرّني صدقني، إنه سبب استقالتي من عملي، فقد بلغتُ بسببه حداً من
الإرهاق جعلني عاجزة عن التركيز في أبسط الأمور.
طلب إليها الطبيب مهلة يومين ليفكر، وليحضر دواءه للاستعمال
الإنساني قال إنه سيجري بعض التعديلات على الدواء كي لايسمم جسمها، وحين احتجت
قائلة: ولِمَ الانتظار يومين؟
أجابها الطبيب فاقد الصبر: لأنك إنسانة ولست قردة.
وفي مساء اليوم ذاته الذي غادرت فيه المعذّبة صومعة الطبيب، اقتحم
عزلته شاب منهك يكاد يختنق من الزلة التنفسية، وزرقة شديدة تصبغ شفتيه وأظافره،
قال له: انقذني أرجوك. سمعتُ أنك تقتل أجزاء من الذاكرة، حررني من تلك الساحرة
المجرمة، وحين همّ الطبيب أن يطلب الإسعاف، أسرع الشاب يقول له: لاتطلب
الإسعاف، لقد عجز الأطباء عن مداواتي فمرضي سببه تلك المجرمة. وتجمّد الطبيب
يتأمله برعب وهو يشهق طالباً الهواء، والهواء لايبلغ قصباته المتشنجة بالحقد،
وأعطاه إبرة مهدئة وأسرع يبحث في صومعته عن أسطوانة أكسجين. لكن الاسطوانة كانت
فارغة للأسف، وبعد ساعة ارتاح الرجل، وقد أخذ يشرح للطبيب مأساة مرضه الذي عجز
الطب العادي والنفسي عن شفائه منه، وفجأة انتفض الطبيب وسأل الشاب: هي
-المجرمة- هل تشكو من مرض ما؟
ردّ الشاب: المجرمة تدّعي أني سببتُ لها الشقيقة.
وخفق قلب الطبيب وارتجف فزعاً وقال: وماسبب أحقادكما، انفصلا وابدأا
حياة جديدة.
ردّ الشاب: نحن منفصلان منذ سنوات، لكن الحقد ينهشنا دون رحمة، لقد
دمرّتني وشوّهت صورتي أمام الناس، كانت السبب في طردي من نادي كرة القدم،
وتململ الشاب فاقداً الصبر، ولماذا نخوض في الأسباب، وماذا يفيد أن أحكي لك كل
خلافاتنا.
ستعاودني النوبة صدقني. مايهمني الآن -وانهمرت دموعه- أن أقتلها،
أقصد أن أنساها، أرجوك أن تقتل خلايا ذاكرتي التي تخصّها، أرجوك.
منظر رجل يبكي بحرقة يؤثر بشدة، وعده الطبيب أن يعمل جهده وأن
يراجعه بعد ثلاثة أيام.
حارَ الطبيب الصيني كيف يتصرف، لكن حب المغامرة ومغريات تطبيق
اكتشافه جعله يجد مئات الحجج ليبرر لنفسه تطبيق الاختراع الجديد على ضحايا حقد
لايشفى إلا بقتل خلايا معينة في الذاكرة، فليجّرب، ووجد نفسه يضحك حتى دمعت
عيناه وهو يتساءل: ماذا لو التقيا عندي.
بعد يومين حضرت الشابة مبكرة ساعتين عن موعدها، كانت ضحية نوبة
شقيقة قاسية، قالت للطبيب: آه، أتمنى لو تنفك دروز جمجمتي ويطير دماغي من
خلالها. وارتمت على سرير الاختبار منهكة وقد أغمضت عينيها هرباً من النور رغم
أن الضوء كان خافتاً.
ومن منظرها اليائس عرف الطبيب أن كل محاولاته ستبوء بالفشل في
إقناعها بالعدول عن تجريب الدواء قال لها: حسناً سأسألك بعض الأسئلة، فأجيبيني
عنها قدر الإمكان وبلا انفعال.
قالت: أرجوك، أعطني الدواء، وأرحني من عذابات لاتطاق.
رد مؤكداً: اطمئني سأعطيك الدواء، لكني أحتاج بعض المعلومات
البسيطة.
سألها: منذ متى تعرّفت إليه؟
ردت وهي مغمضة العينين: منذ سبع سنوات، كنتُ أحضر مباراة كرة قدم،
مع صديقة لي، ذهبت معها مجاملة فأنا لا أطيق الرياضة، ومن بين آلاف المتفرجين
التقت عيوننا، التقط نظرتي، والتقطت نظرته، وتوّهمنا أنه الحب.
سألها الطبيب: هل كان لاعباً؟
-أجل، كان لاعباً مشهوراً.
سأل الطبيب بصوتٍ رخيم: ألم يكن حباً إذاً؟
ردت بعصبية والشقيقة تجلدها كل لحظة: لا، كان كُرهاً.
-وما الذي جذبك نحوه؟
ضحكت بسخرية: عيناه السوداوان اللامعتان، لقد احتواني بنظرته،
وأشعرني أنه لايرى سواي من بين آلاف المتفرجين، لم أكن أعلم أن عينيه هما عينا
الشيطان وأن ذلك اللمعان فيهما هو لمعان الشر.
-حسناً إهدئي، لاتنفعلي أرجوك.
-أرجوك يادكتور، الغثيان يشتد، أكاد أتمزق من الألم.
-حسناً، حسناً، أدخلي رأسك الآن في هذا الجهاز. تأملتْ جهازاً ضخماً
بحجم تلفزيون كبير فيه فجوة تتسع لرأس كبير، تساءلت بدهشة: ماهذا؟
شرحَ لها الطبيب أن هذا الجهاز يبين له أجزاء الدماغ بالتفصيل
ومكبّرة مئات المرات وأنه تمكن من التوصل إلى مناطق الذاكرة وتحديد خلاياها،
وقتل بعضها، وبذلك يمحو ذكريات معينة إلى الأبد.
أدخلت رأسها في الجهاز، ورغم أن ذعراً كان يضاف لصداعها، وبعد أقل
من ربع ساعة طلب إليها الطبيب أن تُخرج رأسها من الجهاز، فأخرجته، ولم تتمالك
نفسها أن صرخت من الفرح:
-دكتور لقد اختفى الصداع!
سألها الطبيب بقلق: ولاعب كرة القدم، هل يزعجك، هل..
تحوّل وجهها إلى علامة تعجب وهي تقاطعه قائلة: عمن تتحدث يادكتور؟
ضحك الطبيب وهو يحس بنشوة اختراعه وقال لها: حسناً، لقد شُفيت من
الشقيقة ومن أحقادك، لاتنسي أن تزوريني كل شهر مرة لأطمئن على صحتك، ولأراقب
آثار الدواء عليك. ولا داعٍ لأذكرّك بأن تحتفظي بسرية الموضوع.
ردت بسرور: بالتأكيد يا أعظم مخترع في الدنيا.
محته نهائياً من ذاكرتها، وعادت تمارس حياتها منطلقة ناجحة، اختفى
الصداع، وانهزمت الشقيقة.
وفي اليوم التالي جاء دور الشاب، تمدد على سرير الاختبار ذاته، كان
مزرقاً يطلب الهواء. وصرخ مستنجداً: أرجوك يادكتور أسرع، ماذا تنتظر!
ردَّ الطبيب بهدوء: حسناً لاتتسرع، ستشفى، عليك أن تجيب بدقة عن بعض
أسئلتي.
قال وهو يجاهد في استنشاق الهواء: وماهي؟
-منذ متى تعرّفت بها، وكيف؟
ردّ: منذ سبع سنوات، كنتُ أشهر لاعب كرة قدم، ولأن القدر الغادر شاء
أن ألتفت لأراها، تصوّر، أحسستُ أنني أرى ملاكاً، كانت بيضاء رقيقة، عيناها
خضراوان ساحرتان، شعرها أشقر ناعم طويل، هكذا كنتُ أتخيّل الملائكة، لم أكن
أعرف أن الشيطان يتنكر بهيئة امرأة جميلة، ولكن ارجع لكل الأديان يا دكتور، ترى
كيف كان الشيطان يتخذ شكل امرأة فاتنة، لقد دمّرتني، كانت السبب في طردي من
الفريق، وفي إدماني الكحول... أرجوك يادكتور أشفني. أحس أني أختنق.
طلب إليه الطبيب أن يدخل رأسه في الجهاز وشرح له آلية التأثير كما
شرح البارحة لشريكته في الحقد، وبعد أقل من ربع ساعة أخرج الشاب رأسه من
الجهاز، كانت شفتاه ورديتين، وصدره يتنفس بانتظام وهدوء، وكانت كل علامات
السعادة واضحة على محياه.
سأله الطبيب: كيف تشعر؟
ردَّ: لقد شفيت من خناق الصدر، أحس أنني ممتاز
سأل الطبيب بقلق: وتلك المرأة الأشبه بالملاك، صاحبة العينين
الخضراوين والشعر الأشقر. حملق الشاب إلى الطبيب وسأل دهشاً: أية امرأة يادكتور؟
أطرق الطبيب مدارياً ابتسامة النصر، ودّع الشاب، وهو يذكره بضرورة
زيارته كل شهر، ويذكره بأهمية الاحتفاظ بسرية الاختراع.
تتابعت الأشهر بسلاسة وصفاء، كسماء صافية لاتشوبها غيمة، انساب
الزمن منبسطاً سهلاً، ربيع أبدي عاشه كل منهما، قتلته وقتلها بطريقة حضارية،
وتحررا من سرطان الحقد.
بعد سنوات عاد نجمه يتألق كأشهر لاعب كرة قدم. ورجعت هي إلى عملها
نائبة للمدير العام في أضخم شركة لتصنيع أغذية الأطفال.
وذات يوم دعاها المدير لحضور المباراة الأولى التي سيشترك بها ابنه
البكر، خجلت من أن تقول له إنها لاتطيق الرياضة، كان عليها أن تُجامل المدير.
وجلست في الصفوف الأمامية إلى جانب المدير وزوجته، ومن بين آلاف
الحضور، التقت عينان خضراوان كعيني ملاك، بعينين سوداوين تشعان بريقاً آسراً
وانطلقت شرارة تحوَّلت إلى ابتسامة وشبه وعد!!
أضيفت في 30/03/2005/ خاص القصة السورية من
مجموعتها يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
جـــانحــة
حولتها الشرطة الجنائية إلى قسم مكافحة الفتيات الجانحات، لافتة
كبيرة مكتوبة بالأحمر تعطي الإحساس بالفضيحة.
قدروا أن عمرها خمسة عشر عاماً، فهي لا تحمل هوية، كُتب في
أوراقها وهي تدخل بناء مكافحة الفتيات الجانحات: مشرّدة، ضُبطت بجرم السرقة من
بقالية، سلّمها صاحب الدكان إلى الشرطة، لم تنكر حادثة السرقة، ردّت على المحقق
بجملة دامعة: لا أستطيع تحمل الجوع، أريد أن آكل.
وحده الجوع كان حيوياً في وجودها، هو ملهمها للنبش في القمامة،
والتسول والسرقة ولمساومات مختلفة كانت تجهل كنهها حتى وقت قريب.
اسمها عذاب حمدو، اسم على مسمى كما قال الشرطي ضاحكاً وهو
يسلمها للمسؤولة في قسم رعاية الجانحات، من باب الفضول كنت أزور هذا القسم،
وحدها اللافتة الكبيرة الصارخة بالأحمر، شدّتني، المشرفة كانت شرطية فُرزت
للاهتمام بالجانحات، قالت لي إنها تسلّمت عملها منذ شهرين، وإنها تسعى للانتقال
إلى مكان آخر، لأنها تحس بكآبة خانقة. أطلت عذاب حمدو من الباب وقالت للمشرفة:
ضرسي يؤلمني...
صرخت المشرفة: كفى، ما عدت احتملك، كل يوم يؤلمك شيء، مرة بطنك،
ومرة رأسك أجرجرك من طبيب إلى طبيب...
جمدني تعبير وجه الشابة، في وجهها شيء صارخ غير عادي، لكأن
الحياة نقشت على وجهها النضر حقداً دفيناً، أخذ يلوح من مسامها ليغمر المكان،
في عينيها نظرة قلق ويأس، ولمعان زائغ يوحي بالجنون. واضح أنها ترزح تحت وطأة
ضغط وكبت شديدين، رغم أنها نطقت بجملة واحدة: ضرسي يؤلمني، فإن الحزن العميق
كان يتستر خلف كلماتها. تفرست في الوجه النضر الذي ترسم خطوطه همّ صاحبته
القاسي، لا أعرف لماذا رغبت بالاختلاء بتلك الصبية، أحسستُ أنني معنية بأمرها،
كلنا معنيون، طلبت من المشرفة أن تسمح لي بالاختلاء معها، قالت وهي تتنهد: يا
ليت على الأقل أرتاح قليلاً من شكاويها المستمرة.
قدّرتُ أنها جائعة، ترددت! هل أطلب طعاماً أم أعطيها نقوداً،
رجحت الفكرة الثانية، وجدتني أنقدها بلا تردد خمسمئة ليرة، خطفتها للحال، وركعت
لتقبل قدمي، انتفضتُ واقفة وأنا أمسكها بحنان من كتفيها وأقول لها إياك أن
تركعي لأحد يا عذاب، تعالي اجلسي إلى جانبي أريد أن أحدثك.
دست ورقة النقود في جيب بنطالها الأسود الخلفية. واضح أن
البنطال لم يُشترَ لها لأنها اضطرت أن تحزم خصرها بحزام عريض أبيض مشقق كي تحكم
لصقه بجسمها، كانت تلبس سترة حمراء ضيقة تكشف عن عنق أبيض فتي، لم أمنع نفسي من
إطراء جمالها، وجهها المستدير النضر، وبياضها الوردي عيناها القلقتان
الواسعتان، وفمها الممتلئ الذي يفتر عن ابتسامة قادرة على رسمها في قسم مكافحة
الفتيات الجانحات.
أخذت تفقد تحفظها أمامي، شيئاً فشيئاً، بزفرات طويلة متلاحقة
تعبر عن ضيقها.
سألتها: منذ متى أنت هنا يا عذاب؟
قالت بآلية: منذ خمسة شهور.
سألت: أين كنت من قبل؟
ردت بالآلية ذاتها: في الشارع.
قالتها بسخرية باردة: كأنها تريد أن تصفعني بها، وتصفع المجتمع
بأكمله، لم أستطع إخفاء دهشتي قلت لها: في الشارع؟ أتنامين في الشارع؟
قالت ببساطة: لا، بل أنام في المغاور.
سألت: أية مغاور؟ من أين أنت؟
-من منطقة القساطل.
-أليس لك أهل؟
-أجل.
كانت ترد على أسئلتي ببساطة شديدة، كأن واقعها لا يثير أية
غرابة.
-أين والداك؟
-أبي في السجن.
-لماذا؟
أسرعت بالرد: كان يهرّب مخدرات.
-من قال هذا الكلام؟
ضحكت قائلة: الكل، راسمة بيديها دائرة أغلقتها بإحكام عليها.
-وأمك؟
-أمي تزوجت.
-لماذا لا تعيشين معها؟
-زوجها لا يرضى.
-وهي، أتعرف كيف تعيشين؟
-أجل.
-وكيف ترضى؟
هزت كتفيها بلا مبالاة، وكررت بآلية: زوجها لا يرضى.
-أليس لك أقارب؟
-أجل أعمام وأخوال.
-لماذا لا تعيشين عند أحدٍ منهم؟
-لا يرضون.
كانت تحمل على كاهلها لعنة العصر، أحسستُ من الآلية المطلقة
التي تجيب بها، أنها لا تعرف صفات إنسانية أساسية، كالحب، والحنان والتعاطف
والرقة... أخبرتني أنها تعيش في المغاور مذ كانت في السابعة من عمرها، وأنها
قبل هذه السن كانت تعيش مع أب وأم دائمي الشجار، كان والدها يضربها وأخوتها
ضرباً مبرحاً، حين ترجع خاوية اليدين من التسول، ومراراً كان يرميها لتنام في
العراء، غير آبه بالبرد والذئاب البشرية.
سألتها: كم أخ لديك؟
قالت: ثلاثة صبيان، وبنت.
-هل أنت الكبرى؟
-أجل.
-أين البقية؟
رفعت كتفيها باستخفاف وقالت: لا أعرف.
حّل بيننا صمت متوتر، كانت ترمقني بعينيها الزائغتين اللتين
يلوح فيهما الانهيار والجنون والجهل، إنها تجهل تشخيص حالتها، تفتقت في ذهني
جملة عفوية: أتراها إنسانة واقعية حقاً؟! أهي نتاج عصرٍ وحضارة!! أتنام حقاً في
المغاور وتأكل من القمامة؟!
تدّفق دفء غزير من روحي تجاهها، وأنا ألاحظ خشونة يديها وتقصف
أظافرها.
سألتها برقة: ماذا أخذت من دكان البقال؟
قالت: ألواح شوكولا، لا تتصورين كم أحبها.
-أبسببها سلمك للشرطة؟
-أجل، ضربني وسلمني.
-أحقاً ضربك؟
أشارت بيديها: نعم، على رأسي، وعلى ظهري، ركلني أيضاً في
خاصرتي.
كيف تتكلم تلك الطفلة بهذه البساطة المعذبة، في صوتها رنة
تحرقني وتشعرني بالذنب.
أمسكت يدها، وكأنني أريد التأكيد أنها كائن بشري حقيقي أمامي،
وليست خيالاً فاراً من كابوس.
سألتها: هل حقاً رفضك كل أقربائك؟
أطرقت، لم تجب، لمعت نظرة حقد مخيفة في عينيها جعلت قلبي يرتعش،
قالت وقد تصلب صوتها هذه المرة: أجل.
سألتها برقة مبالغ بها كي أساعدها على الاسترخاء: عذاب، أحسك
تخبئين سراً عني، احكي لي كل شيء عن نفسك اعتبريني أختك...
قاطعتني ضاحكة: سوسن.
سألتها: من سوسن؟
-أختي، هل تريدين أن أعتبرك مثلها؟
ألا تعرفين شيئاً عنها؟
-لا، عاشت معي في المغاور، مدة، ثم ضاعت.
-ألا تعرفين تقدير تلك المدة؟
هزت رأسها بالنفي.
تذكرت، قالت: كانت تسعل دوماً، أحياناً كنت أضربها لأن سعالها
يمنعني من النوم.
كم بدا سؤالي تافهاً وأنا أسأل مشردة مرمية في مغارة عن أحاسيس
التعاطف الإنساني.
-أما كنت تخشين الذئاب والحيوانات المفترسة يا عذاب؟
رمقتني بنظرة غائمة، كأنها تستحضر ذكريات بعيدة وقالت: أحياناً.
-أكنت تشحذين الطعام من البيوت؟
-نعم.
-أكان الناس يلبون طلباتك؟
-أحياناً.
أحسست من كلامها، أنها لا تعرف الكثير من المفردات اللغوية،
تفتقر للغة كما تفتقر لكل شيء، حاولت أن أحرض في نفسها شيئاً من الرقة لكني
عجزت. سألتها بروح الدعابة: ألا تذكرين إنساناً أو إنسانة عاملاك بكرم ورقة.
الكرم فهمته، أما الرقة فكلمة تستعصي على عقلها الذي لا يختزن
لمسة حنان. انتصبت واقفة كأنها تذكرت أهم حادثة في حياتها، قالت:
- ذات يوم كنت انكش في القمامة بحثاً عن بقايا طعام، فاجأني شاب
يحمل صرة، فتحها أمامي، كانت تلك أعظم مفاجأة لي، تصوري فروج كامل -أخذت شهيقاً
عميقاً وتابعت- رائحته دوختني، فروج مشوي مع سلطة خيار وبندورة، يا سلام، في
حياتي لم أتذوق أطيب منه.
سألتها وأنا أتوجس من جوابها: هل أعطاك الفروج دون مقابل؟
ضحكت، تساءلت ماذا أعني، يبدو أنها لم تفهم معنى مقابل.
-أقصد ألم يطلب منك شيئاً؟
فرّت شرارة ألم سريعة من عينيها، قالت: عجباً، كأنك كنت معنا.
-عذاب، أرجوك صارحيني، ماذا حدث بينك وبين الشاب؟
ردت ببساطة: لا شيء طلب إلي فقط أن نصعد ظهر شاحنة.
-ظهر شاحنة؟
-أجل.
-وماذا فعل؟
-لا شيء، لا أتذكر تماماً، سوى أنه أرخى جثته فوقي.
هوى قلبي وتابعت أسئلتي: وأنت ماذا فعلت؟.
-لا شيء.
-ألم تقاوميه.
-لا.
-ألم تتألمي وتخافي؟
-لا، بل فاجأني؟
-لماذا لم تقاوميه؟
ردت ساخطة: ولماذا أقاومه وقد أحضر لي فروجاً!
-أمن أجل الفروج سمحت له أن يغتصبك؟
قالت مؤكدة: أجل، الجوع صعب، صعب.
كان لحرف الباء، بالطريقة التي تلفظه بها، مفعول إقفال كل
إمكانية تواصل ولقاء بيننا.
أطرقت بخجل أمام الطفلة المسكينة، التي يعلق عليها الناس
آمالهم. سألتها بعد تردد:
-هل تكرر معك ما حدث..
قاطعتني بألم صريح: تقصدين الرجال.
-أجل.
ردت ببساطة: نعم، تكرر.
سألتها: كيف؟
قالت: ذات مرة دخلت أشحذ من مكتب، كان رجل وحده، طلب إلي أن
أجلس، أغلق الباب، أدخلني حماماً صغيراً طلب إلي أن أغتسل، فرحت في البداية،
كنت أحتاج لتنظيف جسدي، ثم تصرف معي، ضحكت، ولم تكمل.
-ألا تعرفين أن هذا الفعل يسمى اغتصاباً؟
-لا، لم أسمع بهذه الكلمة من قبل.
دخلت المشرفة تحمل فنجان قهوة، فرّت عذاب وهي تغمزني، قالت
للمشرفة: السيدة أعطتني مالاً هل يمكنني شراء بعض الأغراض من عند البقال.
قالت بجفاء: أجل، إنما لا تتأخري.
سألت المشرفة: كيف تعيش عذاب هنا؟
تنهدت قائلة: من التبرعات، ننتظر أن يتحنن عليها أحد أقربائها
ويأخذها لتعيش عنده، تصوري، ذهبت بنفسي لمقابلة أمها، بعد أن أضنانا البحث عن
عنوانها، رفضت استقبال ابنتها، قالت أنها غير مستعدة أن ترمى في الشارع مع
أولادها بسبب عذاب.
-شيء غريب، الحيوانات تحنّ على أولادها!
رشفت القهوة بصوتٍ عالٍ، قالت: ألا تعرفين أحداً ما يبحث عن
خادمة؟
وجدتني أسأل: ألم تفكري بتعليمها القراءة والكتابة؟
ضحكت: القراءة والكتابة؟ لماذا، هل ستسد جوعها! المشكلة مع عذاب
أنها عدوانية، شرسة، لا يغرّك شكلها، مقصوفة العمر جميلة، اقتربت مني وهمست
قائلة: لا تؤاخذينني أظن أنها مشروع (...)
انتفضت مجفلة من هذه الجملة، كأن أحداً لكزني بقوة مابين كتفي،
وجدتني أقول باحتداد: يجب أن نسعي لتكون هذه الفتاة مشروع إنسانة، كلنا يجب أن
نساعدها لتصير إنسانة تحس بكرامتها، لا أن تُرمى بين الجدران كغرض ينتظر من
يستعمله.
قاطعتني المشرفة بدهشة وهي تستغرب انفعالي: ألا يكفي أننا
آويناها، نطعمها ونلبسها بعد أن كانت مشردة كالكلاب.
لم أستطع أن أرد بكلمة، كانت صورة عذاب تحاصرني وهي تنام في
المغاور، وهي تنكش في القمامة، وهي تقايض جسدها بفروج، وهي تنام في العراء
مطرودة من بيت والديها، صور كثيفة كأنني شاهدة حقيقية عليها، حاصرتني ولحقتني
وأنا أخرج من مبنى مركز مكافحة الفتيات الجانحات، لأقف مسمُرة أمام اللافتة
العريضة الضاجة بالأحمر، وهي تؤكد إحساسي بالخجل.
التســوق
الأخــير
رؤوسُ العجولِ المقطوعةُ والمسلوخةُ، بدتْ متماثلةً ومتطابقة،
لكأنها صورةُ رأسٍ واحدٍ تتكررُ إلى ما لا نهايةَ في مرآتين متقابلتين، مصفوفةً
ومتلاصقةً فوق لوحٍ خشبيٍ، تحت الرؤوسِِ قصعةُ كبيرةٌ تحتوي الأكبادَ
والأمعاءَ، على الأرضِ قصعاتٌ تحتوي الأقدام...
لم يستطعْ أن يمنعَ نفسهُ من الانقباضِ وهو يتأملُ المنظرَ
الوحشي كما سمّاه، وكي يستفزهُ خيالهُ صوّرَ له صورةَ عجولٍ رشيقةٍ ترعى في
مرعىَ نظيفٍ شديدِ الخضرةِ مُعمدٍ بالشمس. تابع خطواتهِ بحذرٍ في "سوق الخضار"
متجاوزاً أكوامَ قمامةِ متعَفنةٍ، غزتْ رئتيه بسمومِ بخارها، الدكاكينُ
التاليةُ، كانت دكاكينَ دَجاجٍ، وقد فُرزت الأفخاذُ في أوعيةٍ، والصدورُ في
أوعيةٍ مجاورةٍ، توقفَ ليتأملَ صبياً لا يتجاوزُ العاشرةَ من عمرهِ يقطعُ
دجاجةً بواسطةِ آلةٍ كهربائيةٍ لها شكلُ دولابٍ مَعْدني حادٍ، وغير بعيدٍ عنه،
كانت الدجاجاتُ تغادرُ سجنها لتذبحَ ثم تلقى في برميلٍ وسخٍ يدور مُصدراً
قرقعةً هائلةً، ثم يتوقفُ لتخرجَ منه الدجاجةُ عاريةً جاهزةً للتقطيع..
تأملَ الصبيَ الذي تعملُ يداهُ بمهارةٍ على آلةِ التقطيع
الجهنميةِ، كيف تقصُ العظامَ بالسهولةِ التي يقصُ بها أظافرَه رامياً الصدور
والأفخاذَ في أوعيتها بمهارةِ متعودٍ وغير مبالٍ، حدّث نفسه: هكذا يتعلمُ
الإنسانْ القسوةَ.
حاذر في خُطُواتِه أن يصطدمَ بالبضائعِ التي تعرضُها
الأعرابياتُ، وهكذا كان الناسُ يسمونهن، كن يقرفصْنَ بثيابهن الطويلة ومناديلِ
رؤوسهن المزركشةِ قربَ قدورٍ من اللبنِ والجبنِ والزبدةِ ويعرضنَ بضائعهنَ على
المارةِ، دون أن يبذلن أيَ جُهدٍ لإبعادِ الذبابِ المتراكمِ فوقَ القدورِ، وكنَ
يصطحبنَ أطفالهنَ معهن، يتركنَهم طَوالَ اليومِ على الرصيفِ دائخينَ من التفرجِ
على مظاهرِ النتانةِ والقبحِ اللذين يفسدان كلَّ طاقةِ خيالٍ عندهم، استوقفه
وجهُ طفلٍ صغير لا يتجاوز السنةَ، يغفو في حضنِ أمهِ المقرفصةِ بجوارِ وعائها
الكبيرِ المملوءِ بالجبنِ البلدي، ورغم مهرجانِ الضجيجِ والنتانةِ والذبابِ
والحرِ إلا أن وجهَ الصغيرِ كان يعكسُ اطمئناناً مُلفتاً، وهناءةً لا حدودَ
لها، وكان حضنُ تلك الأم المتخمرةَ بعرقها وروائحِ بضائعها الحامضة هو حضن
العالم بالنسبة للصغير، أحس بخشوع وهو يتأمل هذا الصغير الغافي ، تمنى لو يشتري
كلَّ بضاعة أمه ويقولُ لها: اذهبي واعتني بالصغير بعيداً عن سوقِ القمامةِ
والذبابِ هذا... لكنه كان يعرفُ أنه لن يقدرَ على شراءِ كل تلك الكمية الكبيرةِ
من الجبنِ، ويعرف أنها لن ترجعَ إلى البيتِ، بل ستبقى بانتظارِ زميلاتها،
مجرجرةً معها الصغير كأنه لا يزال قطعةً من أحشائِها.
اخترقَ السوقَ أخيراً قاصداً اللبَّ أو القلبَ، حيث تتلاصقُ
العرباتُ الخشبيةْ تعرضُ الخضارَ والفاكهةَ، وتتنافسْ أصواتُ البائعين في
العلوِ، وفي تصنع لهجة إغواءِ الناسِ للشراءِ...
كانت زوجته -كعادتها قد أوصته أن يشتري كذا وكذا، لكنه تمرد هذه
المرةَ راغباً بالتحرر من طلباتِها الشبيهة بالأوامر. سأل نفسَهُ: ماذا تريدَ
أن تشتريَ يا سليمَ؟ رمقتْ عيناه عربةَ البامية بشوقٍ، ابتسم بكآبةٍ وهو يتذكرُ
أنه لم يتذوقها منذ عشرين عاماً، وطفتْ صورةُ الطبيبِ في ذهنهِ يحذرهُ: ابتعدْ
عن الطعامِ الذي يحوي الأليافَ، إنه مهيجُ للكولون، تنبّهَ له البائعَ كيف
يرمقُ الباميةَ بحنانِ محرومٍ، فمدَ له كيساً أسودَ قائلاً: لا تتردد لن تتذوقَ
أطيبَ منها، تناول الكيسَ وأخذَ يملأ قبضتهُ من الباميةِ مالئاً الكيس، ستغضب
زوجته، سيتركُها تبرطمْ دون أن يعلْقَ بكلمة، ستتظاهرَ أنها غاضبةٌ لأنه يخلُ
بصحتهِ، أما الحقيقةَ فهي تكره إعدادَ هذه الطبخةَ، عشرون عاماً وأمعاءهُ
تُذّله، تُذيقه آلاماً تستمر أياماً وليالي، وتدخله في نوباتٍ مخجلةٍ من
الإسهال المدمى، وكم من مرة تعرّضَ لتداخلات جراحية وأخيراً، والآن وهو على
بعدِ خطواتٍ من التقاعدِ، أخبره طبيبُه أنه استنفد كلّ الفرصِ العلاجيةِ، وأن
الحلّ الوحيدَ المتبقي هو قطعُ كاملِ أمعائهِ الغليظةِ، وفتح فوهةَ جانبيةٍ في
خاصرته لتخرجَ منها الفضلات.
عكس خيالهُ صورَ القدور المملوءةَ بأمعاءِ العجولِ، وجدَ نفسه
يقولُ جملة انبثقتْ من ذهنه دون تفكير: مأساةُ البشريةِ دفع ثمنَ الباميةِ وهو
يحسُ بنشوةٍ، تنهدَ مخاطباً نفسهُ برقةٍ جديدةٍ عليه، ذلك أنه قضى أغلبَ حياته
متجهماً من الهمومِ الماديةِ والمرضِ: كم من السنواتِ لم تفرحْ روحُك يا سليم؟
وأجابَ شقيقُ روحِه: آهٍ منذ زمنٍ بعيد، بعيد.. لشدَ ما كان متواطئاً مع نفسهِ
في تلكَ اللحظةِ، مكتشفاً وسطَ ازدحامِ سوقِ الخضارِ، أن صداقةَ الذاتِ هي
الصداقةُ الوحيدةُ المتبقيةُ للإنسانِ، وأتاه الإلهامُ المؤكدُ أنه لن يُقدِمَ
على هذه العمليةِ أبداً... ولأولِ مرةٍ استطاعَ أن يُواجهَ أسبابَ قلقهِ
العميقِ، شديد الوطأةِ. إنه ليس الخوفَ من العمليةِ أبداً... بل الخوفُ من
الذين يحبونهُ أو يدعونَ أنهم يحبونَهُ وتذكرَ جهاداً، ابنه البكرَ المهندسَ
المبتدئ الذي يعاني ضغوطاً ماديةً كغيره من الشبانِ، والذي يطمحُ أو يطمعُ -لا
فرقَ- في أن يعطيه والدُهُ ما ادخره طوالَ حياتهُ لأوقاتِ الحاجةِ، صحيحٌ أنه
لم يدخرْ الشيء الكثيرَ، مجردُ مئتي ألف ليرة، كان يعرف أنها ستتبخرُ نفقاتِ
للعمليةِ وما بعدها... الآن يستطيعُ أن يواجهَ الحقيقةَ وجهاً لوجه، يعرفُ
لماذا تعكُرَ مزاجَ جهادٍ، وعصفَ به غضبً مكتومْ يومَ أحسَ أن مئتي ألفِ سوفَ
تتبخرُ على أمعاءِ والدهِ وليس على مشروعهِ المستقبلي... لكنه في حمّى آلامه
المبرحة كان يداري تلك الحقيقةَ، يموّهها، تساءلَ وهو يمشي في سوقِ الخضار
محاذراً أن تزلَّ قدمهُ بسبب سخامِ القذارةِ الذي يَفْرشُ الأرضَ، لماذا أعيشُ
أكثر!؟ أليس الموتُ -أحياناً- يصونُ كرامةَ الإنسانِ، أكثرَ مما تصونْها
حياتهُ؟ وتذكرَ يومَ فاجأ زوجتَه وابنه جهاداً يتهامسان حولَ مرضهِ، وكيف بُهتا
حينَ وقعَ نظرهما عليه، لا يزالُ يذكرُ ابتسامتهَ الودود البلهاءَ، والقلقَ
المذعورِ في عيونهما، يومَها حاولتْ زوجَته إقناعه بأنهما قلقانِ بشأنِ صحتهِ،
ومتخوفان من العمليةِ و... تلكأتْ ولم تعرفْ كيف ستكمِلُ حديثها.
كانت تخشى أن يكونَ قد سمعَ كاملَ حوارهما... لكنه فهم الآن بعد
أن استعادَ نظراتهما في ذهنه، كلَّ ما قالاه، أمكنه أن يسمَعَ نظرةَ جهادٍ وليس
أن يفهمها فقط، وتخيلَ وجه ابنه الوسيم المنظر يقول ساخطاً: إنه على بعدِ
خُطواتٍ من التقاعد، كهلٌ ومريضٌ وميؤوسٌ من شفائهِ، وسيدفعُ مئتي الألفٍ من
أجلِ عمليةٍ غير مضمونةٍ، في حين أنني شابٌ أبني مستقبلي، وأحتاجُ هذا المبلغ
لأشاركَ زميلي في مشروع ناجح 100% مشروعِ صناعةِ الشموعِ التزينية، حاولي أن
تُقنعيهِ يا أمي بالعدولِ عن العمليةِ، ثم... ثم أيّ ذلٍ أن يُفرِغَ فضلاتِ
أمعائهِ من فتحةٍ في خاصرتهِ.؟
توقَفَ عند بائعِ البطيخِ، البطيخِ الأحمر المملوءِ بالأليافِ،
وابتلع ريقَه وهو يستحلبُ طعمَه الحلوَ والمميزَ، يحبهُ بارداً جداً. سيأكل
الباميةَ أولاً ثم البطيخَ، ولتبدأْ آلامُ كولونِه بعدها. لا يهمُ، ستكونُ
المسكناتُ التي صادقَها سنوات طويلةً بانتظارهِ، تأبط بطيخةً كبيرةً، ومشى
متسكعاً بين العربات، والضجيجُ والروائحُ حوله تُدْخلُهُ في حالةٍ تشبهُ
الغيابَ، خرجَ أخيراً من الدوامةِ إلى الشارعِ لتطالعهُ لافتة جعلتْه ينفجرُ
ضاحكاً: مشفى الأحذية، تصليحٌ، درزٌ، ترقيعُ كل أنواع الأحذية. راقت له هذه
الجملة كثيراً حدّثَ نفسه: هذه هي الحداثة، وقد يكون مشفى الأحذيةِ أكثرَ رحمةً
من مشفى البشر، على الأقلِ هنا يبذلَ الصانعُ خالص جهدهِ لإصلاحِ الحذاء، فهل
يُبذل هذا الجهدُ لترميمِ بشري!! وعاد يتذكر حنقَ جهادِ في صرفِ مدخراتِ عمره
على صحته، أشفقَ عليه وحاولَ أن يجدَ له المبرراتِ، بالتأكيدِ إنه ضحيةُ زمن
ماديّ لا يرحم، زمن يتمنى فيه الابنُ اعتصارَ أبيه واستخراجَ مضمونِ بطانةِ
جيوبهِ، آهٍ لا بأس يا ابني الحبيب، سأعطيك مدخراتِ عمري الماديةَ القليلةَ،
إنما ما يؤلمني كونُك لا تعرفُ كم أحبك، وكم... آهٍ كنتُ أتمنى لو ألمسَ محبتَك
لي، لو تحتضنني يوماً وتقول لي: يا أبي لا تخشَ العمليةَ، لا تكتئبْ هكذا
ساعاتِ وأنتَ مطرقٌ تلاعبُ نفسكَ بالورقِ أو تقرأ بملل الجرائدِ اليومية،
سأكونُ إلى جانبكَ دوماً يا أبي الحبيبَ وسأقدمُ لك راتبي الهزيلَ أيضاً لو
احتجتَ، وجودُكَ بركةٌ يا أبي، موقف كهذا كان كفيلاً أن يسكْن آلامَه، أن
يفارقَ الحياةَ وهو سعيدٌ... لكنّ جهاداً دائمُ التهجمِ والغضبِ والسخطِ على
الظروفِ، على الراتبِ، وعلى الحظِ..
حين همّ بعبورِ الشارعِ تذكر وجه الطبيبِ وهو يضعْ له خطةَ
العلاجِ قبل العمليةِ، عندك فقرُ دم من النزفِ المتكررِ في الكولون. يجب أن
نعالجهُ أولاً، كي تحتملَ التخديرَ والعملَ الجراحي، كما أنك مصابٌ بنقصِ
ترويةٍ قلبية قديم، لذا يجب أن نحتاطَ ونستدعي طبيب قلبية يلازمُك طوالَ مدةِ
العمليةِ، وأنصحكَ بعلاجِ أسنانِكَ المنخورةِ لأنها ستكون بؤرةً لإفراز
الجراثيم...
طرد صورةَ الطبيبِ من ذهنهِ متأففاً، كفى ماذا سأصلحُ في هذا
الجسدِ الذي اهترأ من التعب والمرض وتعاقبِ السنين، وقد تجرى كلُ هذه
الإصلاحاتِ وتكون النتيجةُ غيرَ محمودة. لماذا عليه أن يعيشَ مجتراً آلامهُ
الجسديةَ والنفسيةَ، إنه يرى نفسَه بعينِ خياله كيفَ سيكونُ عبئاً على الذين
يدّعون أنهم يحبونه، بحثتْ عيناه بلهفةٍ عن الطفلِ الغافي في حضنِ أمهِ، أمكنه
أن يميزهُ عن بعدِ لا يزالُ غافياً في حضنِ امرأة تنادي بصوتٍ جهورِيّ على
بضاعتها، وتمسحْ بكمها العرقَ المتصببَ من جبينها وعنقِها، دمَعَتْ عيناه وهو
يقول للصغير: مسكينٌ يا صغيري، تُرى كيف ستتحمل قدرَك؟!
أخذ جبينَه يتصبب بعرق باردٍ وهو يتأبطَ البطيخةَ بيد، ويحمل
كيسَ البامية باليد الأخرى، وجد نفسه يفكرُ بسلاسةٍ لم يعرْفها منْ قَبلُ في
حياتهِ، منطلقاً من فكرةِ موتهِ التي ستكونُ حلاً عادلاً ومثالياً للمجتمعِ،
سيأخذ جهاد مئتي الألف، وينطلقُ بمشروعهِ في صناعةِ الشموعِ التزينية. سيمكنُه
أن يحقق أرباحاً معقولةً تمكنُهُ من الاستقلال بمعيشتهِ عن أمه وأخيه الأصغر،
أما تقاعدُه فسيؤول لزوجته وابنه الأصغر، وسيمكنهما أن يؤجرا غرفةً من البيت
لطلاب الجامعة كما كانت زوجتَه تتمنى أن تفعلَ لتزيدَ الدخلَ، سينامُ الأصغَر
في سريره بعد موتِه، وستؤجرُ زوجتُه غرفَة الأولادِ... وسيبكون بدموعِ ينقصُها
الصدقَ على أبِ كان يمكنَه أن يعيشَ تراكماً زمنياً ذليلاً. لم يستطعُ أن
يُخرجَ منديلاً من جيبهِ ليمسحَ عرقَه الذي أخذَ يسيلُ بشكلٍ خيوطٍ دقيقةٍ
تتدلى من فروة رأسهِ مخترقةً حاجبيه، واصلةًٌ حتى ذقنه وعنقه، كان دوارٌ خفيفٌ
قد أخذ يصيبه اعتقد أن سببهُ الازدحامُ والروائحُ المقززةُ للقمامةِ والخضارِ
المتعفنةِ وأمعاءِ الحيواناتِ، لكنْ وخزةَ ألمٍ مفاجئةٍ أحسُها كالطعنةِ
باغتَتْهُ في رئته اليسرى جعلته يترنح لحظات مقاوماً قدر استطاعته سقوطَ
البطيخةِ وكيسَ البامية، مشى خطواتٍ متعثرةُ إلى الأمامِ كأنه يتبعُ مركزَ
ثقلهِ، تلاحقت أنفاسه وهو يحاول رسمَ ابتسامةٍ على وجههِ مخاطباً نفسه بأرقِ
لهجةٍ تحدّث بها في حياتِهِ: إنها النهايةُ، إنها نهايةُ الشقاءِ...
صرخ بعضُ المارةِ... سقطَ الرجلُ. تهاوى كأنه يسقطُ من غيمةٍ،
فيما تدحرجتِ البطيخةُ من يدهِ مبتعدةٌ، واصطدمت بعمودِ الكهرباءِ المعدني
المتين، منفجرةً عن نزيفٍ أحمر، محبوسٍ منذُ زمنٍ بعيدٍ داخلَ قشرةٍ سميكةٍ من
القهِر، كانت أطيافٌ سريعةٌَ تمرُ أمامهُ، وجوهُ أشخاص أحبهَمُ وأهداهُمُ
عمرهُ، وجوهُ أصدقاءٍ تسامرَ معهم ساعاتٍ وساعات، رؤوس عجولٍ مقطوعةٌ ومسلوخةٌ،
مشفى الأحذية، صورَ الطبيب بتحذيراتهِ الكئيبة، لكن الصورة الأخيرة التي تجمدت
بخيالهِ قبلَ أن يتقاعدَ قلبُه عن العمل، كانت صورةُ طفلٍ غافٍ في حضنِ أمٍ
تقرفصُ على رصيفِ الحياةِ تبيع الجبنَ لتطعمَ صغارها.
كانت خيوطَ من دمٍ تسيلُ من أنفهِ وأذنيه، وهو يسائل الحياة
سؤالهُ الأخير:
ترى ما مصيرَ هذا الصغيرِ الغافي في حضنِ أمِهِ؟!!
الموت
لا يقبــل الرشـــوة
تدور صينية القهوة على المعزين، ينتظر دوره، عن يمينه صالون
النسوة الباكيات، تساءل وهو يتناول فنجان قهوته: لماذا لا يبكي الرجال مثل
النساء؟ وهل البكاء صفة من صفات النساء وحدهن؟ وتخيل الرجال يبكون بالطريقة
ذاتها التي تبكي بها النساء، فضحك في سره، ورشف قهوته متذكراً أن عليه أن يزور
بيتين آخرين ليعزي. حدث نفسه:
اليوم ضربت الرقم القياسي في التعازي. الحمد لله انه يوم إجازة،
الوقت فيه طويل وفضفاض.
مزق الصمت صوت امرأة تولول: لم تعش حياتك يا حبيبي، وعلت موسيقى
البكاء الجماعي ثم تخافتت بعد دقائق. غاص قلبه وهو يردد صدى تلك الجملة: لم تعش
حياتك، وبدت له شديدة الوضوح لدرجة السخف، وشديدة الغموض لدرجة التعقيد في
الوقت ذاته، لكنه وافق المرأة بأن الشاب المتوفى لم يعيش حياته بالمعنى الزمني،
ولكن كيف يعيش الإنسان حياته؟ تساءل بقلق، فيما أتاه صوت ساخر أحسه يخرج من
فوهة مزهرية سوداء مزينة برسوم ذهبية قبالته، يأكل ويشرب وينام، كان الصوت
ساخراً لدرجة أزعجته حقاً..
وها هو رجل على أعتاب سن التقاعد، ترى كيف عاش حياته، وتخيل
نفسه في كل مراحل حياته مهموماً بدرجات متفاوتة، وبدت له لحظات السعادة قصيرة
وعابرة، تترك أثراً طفيفاً كالأثر الذي يتركه اصبع في العجين سرعان ما يزول.
وبدت له لحظات الألم عميقة ومديدة تترك وشماً في روحه وذاكرته لا يزول.
وهمس جاره في أذنه: المسكين مات فقعاً وهو لم يتجاوز الثانية
والثلاثين..
نظر إلى محدثه، كان رجلاً كهلاً، تغضن وجهه بطريقة أثارت قرفه،
وتأمله من مسافة القبلة، ابتلع ريقه محدثاً نفسه: ما أبشع النهاية... لكنه أحسه
كهلاً سعيداً لأنه لا يزال حياً، لكأن السنوات التي انقصفت من عمر الشاب قد
أضيفت إلى عمره..
قال الكهل: المسكين كان كالحصان، لكنه خسر خسارة هائلة
بالتجارة، أوشك على الإفلاس، فمات. وجد نفسه يرد بآلية: لقد ارتاح.
ترى لماذا نقول كلمات لا نعنيها، ولا نؤمن بها، هكذا تساءل حين
همس الكهل مجدداً في أذنه: أتعرف، لقد أصبت مراراً بالسكتة القلبية، وفي كل مرة
كان الله ينقذني، الله وليس الأطباء... وابتسم كاشفاً عن لثة عارية بنفسجية
مهترئة، فأثار القرف عند مستمعه، واضطر أن يقول له مجاملاً: الحمد على سلامتك.
انتفض من مكانه هارباً من مكانه المقيت، متجهاً إلى بيت التعزية
الثاني الذي ينتظره، وفي طريقه استوقفه عند منعطف الشارع صوت ملح يناديه، عبد
المجيد، عبد المجيد، تلفت ليرى رجلاً أنيقاً يسرع باتجاهه، حياه الرجل باسماً
فرد التحية محاولاً تذكر صاحب الوجه. إنه أليف، يشعر أنه يعرف صاحبه، لكن أين
لقيه؟ ومتى؟ لم يتذكر، ابتسم الرجل الأنيق وقال ضاحكاً: لم تتذكرني، أليس كذلك؟
تمعن عبد المجيد في وجهه وقال متأسفاً: للأسف لم أتذكر أين
التقينا؟
قال الرجل الأنيق: سأذكر، هل تمانع أن أدعوك لشرب كأس من البيرة
في مقهى قريب.
استغرب عبد المجيد من لسانه الذي دار للحال في فمه قائلاً: لا
أمانع.
عجباً ليس من عادته الإذعان بهذا الاستسلام التام للآخرين، خاصة
للغرباء، كيف وافق هذا الغريب قبل أن يتذكره. سارا متلاصقين، يتضارب كتفاهما
قال الرجل: ستتذكرني من تلقاء نفسك في الحال، هل تذكر رحلة الطائرة بين دمشق
والقاهرة سنة 1972.
ومضت ذكرى بعيدة وقوية في ذهن عبد المجيد: تلك الرحلة التي توفي
فيها شاب في الأربعين بسكتة قلبية ولم يستطع أحد إنقاذه.
ضحك الرجل الأنيق قائلاً: جيد، ذاكرتك ممتازة، وأنت كنت في
الطائرة أليس كذلك؟
وحاولت تهدئة المسافرين وإداخال الإطمئنان إلى قلوبهم.
ربت الرجل على كتف عبد المجيد قائلاً: ذاكرتك ممتازة يا عبد
المجيد.
قال عبد المجيد: وهل تنسى تلك الرحلة، رجل يموت في الفضاء.
قال الرجل: وماذا في ذلك الموت هو الموت.
-لكن ما أبشع أن يموت الإنسان في طائرة، كم سبب ذلك من أذى ورعب
للمسافرين.
ابتسم الرجل: الناس دوماً يخشون الموت، على الرغم من أن حياتهم
قد تكون موتاً أكثر من الموت.
وصلا إلى مقهى رصيف قريب، جلسا متقابلين، سأله عبد المجيد: لكن
اعذرني لم أتذكر اسمك بعد.
قال الرجل: اسمي منقذ.
ابتسم عبد المجيد: منقذ اسم ظريف، ترى من أطلقه عليك أمك أم
أبوك؟
ضحك منقذ متهرباً من الجواب وقال: أخبرني، هل وفقت بمساعيك
يومها.
تساءل عبد المجيد: أية مساع؟
قال منقذ: هل نسيت أنك حكيت لي ونحن في الطائرة، أنك ذاهب
للتوفيق بين ابنتك وزجها، لأن المشاكل بينهما أوصلتهما إلى حد الطلاق.
أصيب عبد المجيد بذهول وتساءل: أنا حكيت لك كل ذلك.
قال منقذ: معك حق، الحديث عمره أكثر من خسمة عشر عاماً.
قال عبد المجيد وكأنه يحدث نفسه: لكن كيف أبوح بتلك الأسرار
الشخصية لغريب؟
قال منقذ: ليس أسهل من البوح بالأسرار أمام الغرباء، والعابرين،
لأننا لا نخشاهم، فهم يتركوننا احرار من تدخلاتهم وتقييماتهم.
-معك حق.
اقترب منهم النادل، طلب منقذ زجاجتي بيرة وبطاطا مقلية، قال
لعبد المجيد: أحس بجوع.
سأله عبد المجيد: ماذا أنت فاعل هنا، أين...؟
قاطعه منقذ: في الواقع أتيت لمهمة محددة، وصلت منذ ثلاثة أيام
وسأغادر غداً.
-هل أنت تاجر؟ اعذرني نسيت مهنتك، هل سألتك ونحن في الطائرة عن
عملك؟
رد منقذ: لا، لم تسألني، كنت تتحدث عن نفسك فقط، كنت.ممتعضاً
بشدة من خلافات ابنتك مع زوجها، ولكن قل لي هل أثمرت مساعيك في إعادة الوفاق
بينهما.
-إطلاقاً، لقد حصل الطلاق في أثناء وجودي في القاهرة.
رد منقذ مازحاً: لعلك أسرعت في طلاقهما؟
قال عبد المجيد: ربما، لا أعرف، لكن ذاكرتك مدهشة فعلاً، كيف
تتذكر كل تلك التفاصيل، كيف وكأن فكرة ومضت فجأة في ذهن عبد المجيد: كيف عرفتني
في الطريق وناديتني بعد كل تلك السنوات؟ هل رأيت وجهي؟ أم عرفتني من ظهري...
ضحك منقذ مردداً عبارة زميله الطريفة: عرفتني من ظهري، قائلاً:
معك حق، الظهر يدل على الشخص كالوجه تماماً، في الواقع يا عزيزي، أنا كنت
أقصدك.
وضع النادل زجاجتي البيرة على الطاولة مع كأسين كبيرتين، وخاطب
منقذ قائلاً:
-بعد دقائق ستكون البطاطا المقلية جاهزة.
شربا البيرة، بعد أن رفعا كأسيهما عالياً وقال كل واحد للآخر في
صحتك.
تساءل عبد المجيد: أتقصدني أنا!
ابتسم منقذ وقال: أقصدك شخصياً يا عزيزي عبد المجيد.
-خير، هل تريد مساعدتي بأمر ما؟.
قال منقذ: لا أبداً لا أريد منك شيئاً، بل أتيت لأصطحبك إلى
العالم الآخر...
أحس عبد المجيد بامتعاض شديد وقال بلهجة موبخة: لا أحب هذا
الحديث، حتى لو كان مزاحاً. تابع منقذ باللهجة المرحة نفسها: أنا لا أمزح
صدقني، هذه مهمتي تحديداً يا عبد المجيد، أنقل الناس إلى العالم الآخر، أساعدهم
في العبور.
قال عبد المجيد ساخطاً وقد هم بالقيام: لا أستظرف حديثك أبداً
يا سيد منقذ، ولفظ اسمه بطريقة أقرب للسخرية والاحتقار.
-مهلاً، مهلاً يا عزيزي، لا تغضب، لا تغادر الدنيا غاضباً،
والله الشاب الفلاني الذي كنت تعزي به منذ لحظات سلمني روحه ببساطه تامة، قال
لي: ارحني من عذاب هذه الدنيا الذي لا يطاق، والمرأة المسكينة التي كنت تقصد
بيت ابنها لتعزيه بها، سلمتني روحها ببساطة أيضاً، رغم أنها كانت شديدة الولع
بحفيدها.
أحس عبد المجيد بالشلل، وآمن أن رجليه لن تقويا على حمله لو
حاول القيام، وما عاد باستطاعته رشف البيرة ولا الكلام، نظر في عيني منقذ،
أذهله أنه للمرة الأولى يتأمل عينيه جيداً. إنهما عينان بلا بياض، مجرد سواد،
سواد فاحم، أحس برعشة، وأخذ يرتعد، إنه يحس بأعماقه لاواعياً أنه في حضرة
الموت، لكن هل خطر له أن يأتيه الموت بصورة رجل أنيق يشرب البيرة.
تابع منقذ كلامه بلهجة بسيطة مرحة وهو يرشف البيرة: عبد المجيد،
أنا مجرد موظف، أوصل الناس، الذين تقدم لي أسماؤهم كل يوم إلى العالم الآخر.
تحامل عبد المجيد على نفسه وتساءل قلقاً: تقدم لك أسماؤهم؟!!
قال منقذ: أجل، كل يوم، يطلب إلي أحضر فلاناً، طفلاً، شاباً،
كهلاً، مريضاً، صحيحاً معافى، أوه لا أدقق، المهم أن أوصل تلك الأرواح إلى
العالم الآخر.
أخذت أسنان عبد المجيد تصطك مصدرة صوتاً كالقرقعة، لقد سيطر
عليه منقذ، إنه يشعر أنه في حضرة الموت، الذي يدعوه لشرب كأسٍ من البيرة قبل أن
يغادر، أعمل تفكيره وخطر له لو يستطيع أن يتملص منه، أن يرشوه، آه، ليت الموت
يقبل الرشوة، هكذا كان يحدث نفسه، حين أجبر على السيطرة على اصطكاك أسنانه
وارتعاد جسده سأل منقذ:
-منقذ، أمهلني فرصة، سأودع أسرتي، بل أمهلني بضع سنوات أخرى
أرجوك.
ابتسم منقذ قائلاً: أنا عبد مأمور يا عبد المجيد، صدقني أنا
مجرد وسيط.
اقترب منه عبد المجيد، وركز نظرته في سواد عينيه الشديد وقال:
اطلب مني ما تشاء، سوف أعطيك مهما طلبت...
قاطعه منقذ ضاحكاً: حقاً أنت ظريف، لكن لا مجال للتراجع يا عبد
المجيد، ثم انفجر ضاحكاً، ثم ما هذه الرشوة؟! في عالمنا هذه الكلمة ليس لها
وجود.
ردد عبد المجيد مرتعباً: في عالمكم، تقصد الموت، كيف هو؟
أخذ منقذ يلتهم البطاطا بتلذذ، وهو ينفخ البخار الساخن من فمه
ويقول:
عالمنا بسيط، لطيف، ومريح، ليس فيه شر.
-وماذا فيه إذاً؟
ابتسم منقذ وقال: سوف ترى.
أخذ عبد المجيد يحس بضيق يتعاظم في صدره، تمنى لو يتمكن من
الهروب، لكنه عاجز، ثمة قوة تسمره في مكانه، حل صمت ثقيل قطعه عبد المجيد
متسائلاً:
-على أية أسس تسلب الناس حياتهم؟
قطب منقذ حاجبيه ونظر بقسوة إلى عبد المجيد قائلاً: أنا لا أسلب
الناس حياتهم، أنا لست لصاً، قلت لك أنا مجرد موظف، مجرد وسيط، أنقل الأرواح
إلى العالم الآخر، أنقلها ولا أسلبها ما هذه المفردات البشعة في عالمكم..
قال عبد المجيد: لكنك تسبب الموت لهؤلاء المساكين.
-الموت، أجل في لغتكم اسمه الموت، لكنه هناك، في العالم الآخر،
اسمه رقاد، سلام، راحة.
-لكن على أي أساس يتم اختيار هؤلاء الأشخاص، أقصد لماذا يموت
طفل صغير بينما عجوز كهل يظل على قيد الحياة.
-والله لا أعرف، ثمة حكمة لا نستطيع فهمها.
-ولماذا لا يمكن فهمها؟ تساءل عبد المجيد بكل جوارحه: أريد حقاً
أن أعرف هذه الحكمة.
قال منقذ: عبد المجيد، أرجوك أن تهدأ، الحياة مهما طالت أو قصرت
ستنتهي ذات يوم.
-أجل أعرف، لكنني لا أريد أن أموت الآن، ثمة أشياء تنتظرني،
واجبات، والتزامات أسرتي، تحتاج إلى، أرجوك يا منقذ أمهلني..
اختنق صوت عبد المجيد، فيما أشرف منقذ على التهام البطاطا
المقلية كلها، قال: ما أصعب الجوع يا عبد المجيد، أنتم في هذا العالم تجوعون.
الجوع يدفع لارتكاب الجرائم لكن هناك لا يوجد جوع ولا جرائم.
يبدو أن عبد المجيد لم يصغ لكلام منقذ، كان مهتاجاً يريد أن يفر
من الموت، اقترب من منقذ وحطت راحته على كتفه، صعقته برودة ثلجية منبعثة من كتف
منقذ، أحس برعشة الموت تسري من جسده، ورفع كفه في الحال، لكأن كهرباء سرت فيها،
أحس أنه في حضرة الموت وجهاً لوجه.
قال عبد المجيد بصوت أخذ الرعب يملؤه: منقذ أرجوك، تظاهر أنك
نسيتني، قل لهم لم أجده و...
انفجر منقذ بضحك هستيري وهو يفكر بسذاجة عبد المجيد، وقال بعد
أن هدأت عاصفة ضحكه: وهل تظنني شرطياً أريد إبلاغك محضراً في المحكمة، لو تعرف
الأساليب والوسائط المتوفرة لدي للوصول إلى البشر لذهلت، هل تذكر يوم كنا في
طائرة، صرخ عبد المجيد: أنت من قتلت الرجل، أنت قتلته...
هم عبد المجيد بالفرار، دفع كأس البيرة بيده ساخطاً وقد بلغ
انفعاله ذروته، وحين هم عبد المجيد بالفرار سقط جثة هامدة، تجمع الناس حوله
خائفين يطلبون سيارة الإسعاف أو طبيباً بينما كان منقذ يدفع الحساب ببرود ويهمس
بصوت لم تسمعه أذن بشرية: هيا يا عزيزي عبد المجيد تهيأ للرحلة إلى العالم
الآخر.
موت البجعة
لقد وهبها الله جسداً له طراوة ورشاقة مميزتان، وكان يخيل
للناظرين أن هذا الجسد البديع خال من أي مادة قاسية، ليس في هيكله عظام، كانت
تملك ليونة ناعمة محببة. هكذا كانت فاتن منذ طفولتها، ابنه عائلة مميزة، من تلك
العائلات الارستقراطية التي تقدس الطقوس، وتحترم مواعيد الطعام، وتعطي أهمية
بالغة لربطات العنق وللقبعات الفاخرة، ولرحلات الاستجمام وشراء الثياب والعطور
الفخمة من أوروبا...
وفي المدرسة الانكليزية في الرياض تلقت فاتن دروسها، وتفتحت
موهبتها كراقصة باليه متميزة، حتى أن مدرستها الانكليزية أبلغت الإدارة أن هذه
الفتاة معجزة في رقص الباليه، وهي لم تكمل الثامنة من عمرها، وسر الأهل لتفوق
فاتن، فالباليه من المواهب الراقية التي تليق بالعائلات الارستقراطية، وفي
الفيلا الفخمة المسورة كانت فاتن تلبس ثياب الباليه، وتصير فراشة، تطير من غرفة
إلى غرفة، أو زهرة تتلوى على أنغام الموسيقى، كانت تذهل أهلها وزوارهم الكثر
بليونة جسدها وطراوته، وتعبير وجهها المسافر بعيداً إلى فضاءات لا يحلمون
ببلوغها، كانت تبكي أحياناً وهي تؤدي رقصتها بكل أحاسيسها، ذلك أن جسدها كان
كتلة من الأحاسيس، لكأن طبيعته العادية في طريقها للعبور إلى طبيعة سديمية
روحية، كانت قادرة أن تتوحد مع اللحن، فيصير جسدها رمزاً أسطورياً...
وحين بلغت فاتن الثانية عشرة، رشحتها مدرستها الانكليزية-
المتخصصة في تدريب الفتيات الموهوبات في رقص الباليه- للاشتراك في مسابقة
عالمية لرقص الباليه في باريس، ولم تصدق فاتن أن جسدها يملك كل تلك الطاقات
المخزونة، وأنها مبدعة وقد تصير لها شهرة عالمية، وكادت تطير في شوارع المدينة،
ودت لو ترقص لكل الناس ساعات وأياماً، بل عمرها كله، وأحست أنها كالعصفور الذي
يغرد ويطرب الناس جميعاً... لكنها أطرقت بأسى وهي تعرف أنها لا تستطيع أن تخرج
خارج سور الفيلا الفخمة...
لكن حدث ما لم تتوقعه أبداً في حياتها، ذلك أن للأسر الراقية
طقوسها وقوانينها، فقد استدعاها والدها إلى مكتبه، وكان منشرحاً ومرحاً، وأخذ
يدردش معها في مواضيع شتى، وتلوى حديثه حتى وصل إلى موهبتها الفذة في رقص
الباليه، وذكّرها كم شجعها، ثم حكى لها عن أيام دراسته في واشنطن، كيف كان
يستهويه شيئان لا ثالث لهما! الأوبرا والباليه، كانت تنصت سعيدة وهي تتأمل هذا
الرجل الارستقراطي الناجح واللبق بفخر وحب، وصمت قليلاً وقد اتخذ وجهه تعبير من
يفكر بعمق وقال لها: ولكن يا فاتن يجب أن نفكر بعقل.
واتسعت عيناها بدهشة وسألت بآلية: في ماذا؟
قال بلباقة أمير من القرون الوسطى: أنت فتاة ناضجة الآن، ورقص
الباليه قد يكون له تأثيرات سلبية عليك...
ما كان بخار الألم قد بدأ يتكاثف غيوماً في نفسها بعد، ذلك أنها
لم تفهم تماماً ما يريده الرجل الذي يفكر بعقل!
سألته: ماذا تعني يا أبي؟
ورد مرتبكاً رغم مداراته لمشاعرها وتظاهره بالمرح: أظن أن
والدتك توضح لك الموضوع بأسلوب أفضل مني، ترك كلامه غباشة أمام نظرها وتشويشاً
لذهنها، ولازمها طنين أو وشة في أذنها كصوت مذياع غير واضح، ورقصت في ذلك اليوم
رقصة البجعة التي نازعت طويلاً ثم ماتت، وحين استلقت على الأرض في نهاية الرقصة
كانت تبكي دموعاً مرة للمرة الأولى، ذلك أن حسها الطفولي الخام جعلها تدرك أنها
ستكون قريباً تلك البجعة التي ماتت...
وحضرت السيدة الراقية تحتضن ابنتها، وأحكمت إغلاق الباب وراءها
بحذر، كأن هناك من يتنصت عليها، وابتدرتها أمها بابتسامتها المرسومة بدقة على
وجهها ذي البشرة الحريرية من تأثير مساحيق العناية بالبشرة الطبية والغالية،
قالت لها: فاتن أظن أنك ستفهمين كلامي، وأظن البابا مهد لك بحديثه عن سلبيات
رقص الباليه... سكتت قليلاً وهي تتأمل وقع كلامها على الوجه الطفولي المذهول،
ثم أخذت نفساً عميقاً وتابعت بثقة: لقد صرت صبية يا فاتن، والباليه بحركاته
الواسعة والعريضة، قد يعرض الفتيات لمشكلة في غاية الخطورة.
وارتجفت فاتن من الذعر وردت بآلية: الخطورة؟...
تابعت الأم: أجل يا عزيزتي، أنت تعرفين أن شرف الفتاة هو أهم
شيء على الإطلاق، وأن الرياضة العنيفة، وكذلك رقص الباليه، قد يجعلانها تفقد
هذا الشرف الثمين...
ضحكت فاتن ببراءة وقالت: أوه يا أمي أتخيل الذهب والألماس بكلمة
ثمين...
ابتسمت الأم وداعبت رأس فاتن وقالت: بل أثمن بكثير من الذهب
والألماس، إنه لا يقدر بثمن. قالت فاتن قلقة: ماذا تعنين بكلامك يا أمي، إنك
تشوشينني، ماذا تقصدين؟!
ردت الأم بحزم: فاتن أنت صبية، بعد سنوات ستصيرين زوجة، ولن
نترك هواية الباليه تفقدك شرفك، أوه ألم تفهمي بعد...
وهوت راقصة البالية التي لم تكمل الثالثة عشرة، وتحولت لهلام
ملتصق على البلاط الرخامي وانسكبت دموعاً غزيرة على الوسادة الصماء، وشهدت رسوم
ورق الجدران الفخم اختناق موهبة رائعة، واستنجد الجسد الطري المعجون بالموسيقى،
يستجدي أصحاب العقول الراجحة كي يسمحوا له أن يعيش إحساسه وإبداعه، وأن ينمو
ويحلق في سماء الفن، ولكن العائلات الارستقراطية تتبع أسلوب العقل والإقناع،
والاحتلال، بهدوء وسلاسة، ولين مبطن بصرامة كالحديد، خنقت فاتن بحديث العقل،
بمنطقه المحكم، كسلسلة حديد مقفلة، وصارت تتوه بأفكارها وعقلها يتوقف عند ذلك
الشيء الذي لا يقدر بثمن، والذي هو أغلى من كل مجوهرات الأرض، والذي يمكن أن
تخسره برقص الباليه!!
ولم يعد جسدها فراشة ولا عصفوراً ولا عطراً ولا موجة ولا غيمة،
واستمرت حياتها تتابع بكآبة لطيفة محايدة، وقد استسلمت لحكمة العقل ورغم
الأوقات التي كانت تبكي فيها بحرقة لاذعة، إلا أنها كانت تخشى أن تخالف حكمة
العقل الذي يقدر الأمور أفضل منها، وهي المراهقة القاصر...
واعتبرت المدرسة الانكليزية انسحاب فاتن من فرقة الباليه جريمة،
وليس مجرد خسارة، وفشلت جهودها في اقناع فاتن بالعودة إلى الرقص، كان جواب فاتن
الوحيد نظرة شاردة حزينة وأحياناً كانت تجتر بلسانها فقط كلام أهلها الرزين
الذكي والخانق.
ولأن الإنسان يخلق الأمل دوماً، أو هو الحيوان الوحيد الذي
ابتدع شعوراً اسمه الأمل، فقد انتظرت فاتن أن تتزوج زوجاً يقدر موهبتها، ويسمح
لها أن تمارس رقص الباليه، وكان لها ما أرادته وتحققت المعجزة، وتقدم لخطبتها
شاب عربي عاش كل حياته في أوروبا، وله ولع غريب برقص الباليه والرقص التعبيري،
وحين رقصت أمامه لم يصدق أن حبيبته تملك تلك المرونة الهائلة، ووعدها أنه سيقبل
بشرطها الوحيد، ويتركها تمارس الرقص بعد الزواج، وسيكون فخوراً أن تشارك زوجته
في المسابقات العالمية لرقص الباليه، بعد أن تقدم له ذلك الشيء الذي لا يقدر
بثمن!
وعادت فاتن تنتعش وتزهر وتورق من جديد، وتألق وجهها بسعادة
الإبداع والانطلاق، وتم الزفاف بأفخم أشكاله وكما يليق بأبناء العائلات التي
تحترم الأصول والتقاليد، وتتباهى في البذخ وتقدس الشكليات، وسافر الزوجان إلى
لندن لقضاء شهر العسل، وكانت المفاجأة التي حضرها لها زوجها رائعة فعلاً، فقد
قدمها لأشهر مدربي رقص الباليه في لندن، ورقصت فاتن أمامه، وأكد لها المدرب
أنها يمكن أن تكون من أشهر راقصات العالم على الاطلاق فيما لو تدربت بانتظام
ولكن الزوج أجاب بابتسامة حضارية أنهما سيرجعان إلى الوطن بعد شهر...
بعد خمسة أشهر حملت فاتن، وأسعدها الحمل بقدر ما سبب لها غربة
عن ذاتها، لأنها ستبتعد عن الرقص، لكن زوجها أكد لها أنه لا يمانع أن تتدرب على
رقص الباليه بعد الولادة...
وأنجبت بنتاً حلوة، انصرفت لتربيتها، وبعد أشهر استعاد جسدها
وضعه الأول المثالي للرقص، وحين همت بالانتساب لمعهد رقص الباليه، دعاها زوجها
إلى عشاء رومانسي في مطعم لا تقصده إلا الأسر العريقة والتي تجيد التحدث بلغة
العقل.
وبعد أن شرب نخب أحلى زوجة، وأجمل أم، وأروع راقصة باليه، وبعد
أن تغزل طويلاً بزوجته الفنانة المبدعة، ابتسم طويلاً وانتهت ابتسامته بكلمة
ولكن... وارتعبت فاتن وهي تتذكر "لكن" أمها، و"لكن" أبيها، ترى كيف ستكون "لكن"
زوجها؟!
وعادت الغباشة تشوش نظرها، والطنين يصم أذنيها، وأتاها صوته
رصيناً مع الموسيقى الهادئة التي يبثها المطعم:
-حبيبتي، أنت الآن أم، أم لطفلة رائعة، ولا يليق بأم أن ترقص
شبه عارية أمام الناس، صدقيني يا حبيبتي أنا مؤمن بموهبتك، فأنت حقاً ظاهرة
قلما تتكرر، ولكن هل فكرت بطفلتك، ماذا سيكون موقفها وأمها ترقص بثياب الباليه
على المسرح ومئات العيون تتفرج على جسدها...
قاطعته مذعورة من اللاكن الجديدة وقالت: ولكن الباليه فن راق
جداً، وجسد راقصة الباليه هو لغتها في التعبير...
وقاطعها بحزم: أعرف يا حبيبتي وأنا الذي أدمنت حضور حفلات
الباليه، ولكن مجتمعنا، وكونك أماً، والأم تعني التضحية، يجب أن تضحي يا فاتن
في سبيل ابنتك، فكري بعقلك يا فاتن، أن يكون عقلك كميزان الذهب دقيقاً
للغاية...
وعاشت فاتن في مثلث على رأس كل زاوية منه كلمة -لكن- لكن الأم،
ولكن الأب، ولكن الزوج، وهي في الداخل شعلة موهبة مختنقة لا تستطيع أن ترقص،
وكلما تحركت اصطدمت بضلع قاس، فتاوهت وطنين لغة عقولهم يلاحقها ولا يرضى أن
يسكت.
وأخذت تتساءل، أية لغة هذه لغة عقولهم، والطفلة الصغيرة ألا
يسعدها أن تكون أمها راقصة مبدعة، وماذا لو تفرجت العيون على جسدها، ولماذا
يصرون أن تكون لحماً رخيصاً يثير الغرائز بينما هي قادرة أن تكون سمفونية،
وغزالاً رشيقاً، لماذا يصرون أن يكون جسدها عورة وهي تحسه قصيدة...
وحوصرت فاتن في كلمة لكن، في مئات الجمل التي تبدأ كلها بكلمة
لكن، ومن وقت لآخر كانت رجفة مبهمة تجتاح جسدها، وأدركت وحدها أن جسدها يرتجف
متألماً يشتاق أن يكون ذاته، ليحطم حلقات سلاسل الحديد التي طبعت على كل حلقة
كلمة لكن، كانت تغمض عينيها وتحاول أن تفكر بعقولهم، ولم تدرك أن حزنها اشتد
إلى درجة مخيفة، وأنه احتل الجسد الطيع اللين، وأن عقلها صار يئن تحت ثقل
عقولهم يجرونه مجبراً ليفكر مثلهم، وبلغ بها الإرهاق حداً يصعب تحمله.
وذات مساء لبست ثياب راقصة الباليه، وأزاحت الستائر وفتحت
النوافذ، وأخذت ترقص وترقص، وتحولت النافذة إلى مثلث لكن الأبدي، ووجدت نفسها
تهرب منه، وذعر الناس وهم يرون راقصة باليه تطير من النافذة وتسمرت عيونهم
عليها كالمسامير تنغرس في لحمها، وانفتحت أفواههم في وقت واحد وانطلقت كلمة
واحدة من حناجرهم تردد صداها طويلاً...
لكن، لكن، لكن.
3/3/1994
|