ترتيلةُ الرَّحيل
تتراقصُ الفراشاتُ في رحاب قصصي، تزدهي مثل الزُّهورِ البرّية، هل
لأنها رمزُ الجمال والتحليق أم رمزُ الإنبهار في توهُّجاتِ النُّورِ؟ لستُ أدري
ولا أريدُ أن أدري، وكلُّ ما أدريه هو أنَّني عندما أتمعّنُ في خفّةِ الفراشة،
أنظر إلى حفيف جناحيها المبرعمينِ بنكهةِ الكرومِ، أشعرُ أنَّ نصوصي باهتة أمام
تلاوينها الزاهية! ما كنتُ أظنُّ يوماً أنّي سأمسُك فرشاةً وأرسمُ فراشةً تحطُّ
على خدِّ وردة أو على موجةِ البحرِ، فجأةً وجدتُني أتعانقُ مع ألوانِ الحياة،
فرشتُ ألواني كي أستريحَ بين عوالم طفولتي المتلألئة بين حقول القمح، سارحاً في
براري الروحِ، أركضُ خلفَ الفراشاتِ والعصافير ..
عندما كنتُ أمسكُ فراشةً بعد مطاردة طفوليّة لذيذة، بعيداً عن أنظار
الامِّ، كنتُ أمسكُها بهدوءٍ يبهج كينونتي .. كنتُ أتكلَّمُ معها وأنظر إلى
الوبر الناعم، إلى تشكيلِ بهائها الجميلِ، ما كنتُ أقاوم جمالها فكنتُ أبوسُها
بكلِّ حبق الطفولة ثم أطيّرها في الهواء وأبكي عليها لأنَّها كانت تطير بعيداً
عنّي! كم كنتُ أشعر بالفرحِ وهي تكحّل طفولتي بألوانها الرائعة، الآن تتراقص
أمامي بهجة تلكَ الأيَّام فأجدني أحنُّ إلى فراشتي التي كنتُ أخبِّئها بين
جوانحِ الروحِ بعيداً عن الأضواء المبهرة كي لا تشتعل أجنحتها الشفيفة، ترقص
فرشاتي مثل قطرات النَّدى وأرسمُ فراشة تجاورها فراشة ثم تنفرشُ الفراشات فرحاً
فتولد لوحة من رحم الزمن الآفل، من جوانح الذاكرة البعيدة.
أتساءل: هل نحنُ الّذين عبرنا البحار وعبرنا الجسور وعبرنا بوّابات
الشِّعر والنصِّ والقصِّ والسَّردِ والعشقِ، عرفنا لماذا تحومُ الفراشات حول
الضَّوءِ إلى حدّ الإشتعال؟!
تعالي أيّتها الفراشة التائهة في عوالم الحلم، في عوالم البحث عن الفرح
الآفلِ، لماذا لا تبقى أفراحنا ساطعةً فوق خيوطِ الشَّمس؟!
جنوحٌ لا يخطر على بال، كيف لا يتشرَّبُ الإنسان جمال الحياة من جمال
الفراشات، من جمال سهول القمح، من جمالِ الزُّهور، من خدودِ الكون؟ هل كانت
المرأة يوماً فراشةً أو زهرة أو سنبلة أو شجرة يانعة ولا ندري، وإلا كيفَ
تلألأت هذه الكائنات الرائعة في صيغة التأنيثِ، في صيغةِ البهاءِ، في صيغة
إنعاشِ القلبِ وإنتعاشِ براري الرُّوحِ؟! عندما أتمعّنُ في وردةٍ قبل أن
أقدِّمَهَا إلى صديقةٍ من لونِ الماءِ، يراودُني أنَّ وردتي ستعانقُ وردةً من
عذوبةِ الدفءِ، فأغارُ من عناقهما فلا أقاوم بهجةَ العناقِ فأغوصُ في طقسِ
عناقهما ولا أميّز وردتي عن الأخرى فكلُّ الورودِ لها نكهة عبقة من نقاوةِ
بزوغِ الفجر، من لونِ خميلةِ الليلِ، خرجتُ عن خيوطِ العناقِ، عن ولادةِ الحبرِ
وعن حيثياتِ نضوحِ البهاءِ، تهتُ بين تضاريسِ العمر، عابراً لجينَ الحلمِ أبحث
عن وجه أمّي، عن وجهِ غربتي عن تمزُّقاتِ الليلِ الحنون!
كنتُ في الطابق السابع من سماوات غربتي، وحيداً مع دمعتي مع خيوطِ
الحنين، فجأةً هجمتُ على قلمي ثم كتبتُ ما أملته عليّ إرتعاشات مفاصلي، هطلت
دموعي على أصابعي الرفيعة .. لم أعُدْ قادراً على إستمراريَّة العبورِ، عبورُ
بحار اللونِ، أمواج العمرِ، دموع الإنتظارِ ..
هدوءٌ متناغمٌ معَ صمتِ الخمائلِ، عودي ينتظرني، موسيقى من نداوةِ
السنابل، من إحمرارِ طينِ الأزقّة التي ترعرعت فيها، بخورُ الحرفِ يتراقصُ فوقَ
قداسةِ المكانِ، هل للمكانِ قداسة دون قداسةِ القداسات؟ تموجُ أصابعي على أوتار
الشُّوقِ، على إنبعاثِ الرُّوح في شهقةِ أمّي، هل أنا في بحيراتِ حلمٍ أم في
نصاعةِ اليقين؟ بكاءٌ من لونِ زرقةِ السّماءِ، أعزف فوق أوتارِ الليلِ، فوقَ
ينابيعِ حزني، أرتّل ترتيلةً من وهجِ الرحيل، أبكي ثمَّ أبكي وأبكي، من قطب
الشِّمال، تنزاحُ دمعتي نحو بيارقِ الشَّرق، بيارق الدفء، بيارق أمّي لا يعلوها
بيارق الكون، أمٌّ أنجبتني على حفيفِ الموجِ بين سنابل القمحِ، على أنغامِ
الليل ونجمة الصَّباح شاهدة على أوجاعِ المخاضِ ..
آهٍ يا موجة حلمي، لماذا كلّ هذا البكاء، ثمة عناقٌ لروحِ الأمّ رغم
أمواجِ البحار، رغم سماكةِ الضَّباب وجموحِ القارات، عجباً أرى من هذا الثراء،
ثراء دمعتي لا يعادله ثراءً على مساحات المساء، أمسكتُ قملي، أنسجُ كيفيّة عبور
أمّي فضاء السَّماء، كيف ودَّعَتِ الكون بعد أن عانقَتْ روحي عناقاً من لونِ
عذوبةِ البحرِ، من الجهة الأخرى المقابلة لملوحةِ البحر، تيبّسَتْ شفاه أمّي
وهي تردِّد إسمي، غابت عن الوعي لكنّه لم يغِبْ عن كينونتها إسمي، بدأتْ
تردِّدُ إسمي قبلَ أن تعبرَ شهقةَ السَّماءِ، بحارٌ من الهمِّ بيننا، معلّقٌ في
انشراخِ سماوات غربتي، وهي هناكَ على مخدّةِ الوداعِ، وداعُ أحبَّتي وأنا تائهٌ
بين أمواجِ الجنونِ، جنونُ الغربةِ، جنونُ الحنينِ، أليسَ جنوناً أن نعبرَ
البحارَ تاركين خلفنا أمّهاتنا يبحثن عن قبلةٍ يطبعونها فوق جباهنا قبل أن
يودّعْنَ الكونَ، أليس حماقةَ الحماقات أن نعبرَ البحارَ بحثاً عن خرائطِ
الإخضرار، وهل على وجهِ الدنيا إخضراراً يضاهي بسمةَ أمّي؟!
تطلب من إخوتي حضوري الفوريّ رغم أنف البحر ورغمَ ضجيجِ الريحِ، تطلبني
على جناحِ الموجِ ونداوةِ النسيمِ، يبكون من هذا العرض المستحيل، من هذا الطلب
المعفّر بكلِّ تفرُّعاتِ الدُّموعِ، آهٍ دموعي دموعٌ لا تجفِّفها المناديل، لا
هاتف عبر البحار عندي ولا حضارة العصر تفيدني في الإرتماء بين أحضانِ الحياة،
أليست أمّي مَنْ أهدتني للحياة؟ .. ثم أراني بعد ثلث قرن من الزمانِ مشلوحاً
فوقَ بوَّاباتِ المدائنِ، مدائن غريبة عن دمعتي، غريبة عن وجنتي، غريبة عن
شهقتي، مدائن من لونِ المودّةِ، من لونِ الثَّلج من لونِ الإنشراخِ، انشراخ
ذاكرتي إلى قناديل مشتعلة على امتدادِ الليل، على مساحاتِ الحنانِ ..
اِحتار الأحبَّة هناك خلفَ البحارِ البعيدة في تحقيقِ رغبة أمّي، تريدُ
أن تقبّلني قبلة واحدة، قبلَ أن تعبر ضيافةَ السَّماءِ، قبلة واحدة لا غير، هل
هذا كثير عليها أن تقبِّلَ آخر العنقودِ، إبنها الذي كان يركض خلسةً خلفَ
الجرادِ والفراشات والعصافير .. كم ضحكَتْ بوداعةٍ مبهجة عندما كنتُ أرتطم في
خدودِ السنابلِ، وكانت تزدادُ إندهاشاً عندما كانت تراني أقبِّلُ فراشةً
وأتركها تطيرُ فوقَ بيادرِ المحبَّةِ ثم يزدادُ إندهاشها عندما ترى صفاء دمعتي
تنساب على رحاب خدّي، هل كانت أمّي فراشةً يوما ما ولا أدري، هل سأصبحُ فراشةً
يوماً ولا أدري، هل نحن البشر أجمل من الزهور؟! آهٍ لو كنتُ زهرةً يانعة فوقَ
تخومِ الوادي، على قمَّةِ جبلٍ، فوقَ رابيةٍ مبرعمة بالنَّفلِ، فوقَ شاطئِ
البحرِ.
كيف سأخفِّفُ يا قلبي من جمرةِ الحنينِ، يتقدّمُ أخي نحوَ أمّي قائلاً
لها تفضّلي هوذا صبري، يقدّمُ لها صورةً كبيرة من صُوَري المعلّقة فوق جدارِ
الحزن، تحضنُ صورتي ، تبتسمُ بسمةً تنعشُ غربتي، تقبّلني قبلةً واحدة ثم تسلمُ
الرُّوح عابرةً في قبّةِ السَّماءِ، وأنا من خلفِ البِّحارِ أنقشُ على الورقِ
في نفسِ الثواني كيفَ يشيِّعون جنازة أمّي، هل بلَّغتني فراشاتي التي كنتُ
أقبِّلُها فوقَ بيادرِ العمرِ، أم أنَّ روحَها كانت تعانق روحي رغم أنفِ الكون،
ورغم أنف البحرِ ورغم أنفِ الصَّخرِ والجمرِ ورغم اهتياجِ الريحِ؟ هل نحنُ
البشر باقات وردٍ من لونِ الماء أم أنَّنا شهقة غيمة ماطرة فوقَ موجاتِ الحياة؟
ذُهِلْتُ عندما شيّعوا جنازة أمّي إنكسرت شجرة في ساحةِ الدارِ من
جذعها المحاذي لسطحِ الأرض، إنحنَتِ الشَّجرة ومالت ثم إنكسرَتْ أمام حشدٍ من
المشيِّعين، هطلَتْ أسئلة أحبّتي على الروحانيين، إندهشَ الحشدُ، ولا ردَّ لهذا
الإنكسار، هل كنتُ في نسغِ الشَّجرةِ هناك، أنحني مودّعاً أمّي، أم أنني كنتُ
نسمةً هائمةً فوقَ تواشيحِ الضريحِ؟
وداعاً يا أمّي، يا زهرةَ منبعثة من أرخبيلاتِ الكونِ، روحي عانقت أمّي
مثلما كانت تعانقُ زرقةَ السّماءِ، جاءني صديقٌ بناءً على طلبي، عيناي حمراوان،
ماذا حصل، قال صديقي؟ أمّي ستودّعُ الكونَ هذه الليلة أو في الصَّباحِ الباكرِ
على إيقاعِ شهيقِ الشُّروقِ!
هل جاءك خبراً يا صديقي؟ قال صديقي، كيف سيأتيني وأنا معلّق بين خيوطِ
الغربة ولا وسيلة إتّصالٍ إلى عناقِ ذبذباتِ الرُّوحِ؟ كيفَ راودكَ هذا إذاً؟
روحي يا صديقي، توغّلَتْ في دكنةِ الليلِ عبر البحارِ! هزّ رأسه متصوراً أنَّني
أهذي أو ربما أصابني رجّة في شرانقِ غربتي .. هدّأني، إبتسمتُ وأنا غارقٌ في
حزني قائلاً، نحن أشبهُ ما نكونُ فراشات تشتعلُ من وهجِ الشَّوقِ، من وهجِ
العناقِ، عناقُ الرُّوحِ أعمق من كلِّ أنواعِ العناقِ، ما كان يفهمني، ربّما
كانت لغتي تلامسُ شظايا الاِنشطارِ، اِنشطارُ الرُّوح على مساحاتِ الاشتعال!
عندما سمع لاحقاً وسمعتُ أنا الآخر، جاءني، قبّلني، متسائلاً بإنذهالٍ،
ما هذا التواصل الروحي العميق يا أصدق الأصدقاء؟ بسمةٌ حائرة اِرتسمَت حولَ
حافّاتِ بئري، قائلاً هل تأكَّدْتَ الآن يا صديقي أنّني ما كنتُ أهذي؟ مع
أنَّني كنتُ أتمنّى في قرارةِ نفسي لو كنتُ أهذي وأهذي، بكاءٌ من أعماقِ صحارى
الرُّوحِ تدفعني نحوَ دفءِ الشَّرقِ، نحو هداهدِ القلبِ، نحو مرابعِ الطفولة،
نحوَ مسقطِ الرأسِ، نحوَ عظامِ الأهلِ، نحوَ هلالاتِ النُّجومِ الغافية بين
جوانحِ الحلمِ!
مَن يستطيعُ أن ينتشلني من اِندِلاقِ هذه البراكين سوى قلمي؟ أهلاً بكَ
يا قلمي، تعالَ كي أزرعَ رحيقكَ بين عشبةِ القلبِ وشهقةِ الرُّوحِ كي أرسمَ
فوقَ بيادرِ غربتي ترتيلةً من لونِ المحبّة، من لونِ فراشةٍ موشومة فوق بسمةِ
أمٍّ متعانقة مع هلالاتِ الرُّوحِ، مع صعودِ بخورِ القلمِ!
استمرارية القهقهات الصاخبة
إهداء:
إلى ديريك العتيقة (مسقط رأسي)
وإلى الأحبّة الأهل والأصدقاء الأصدقاء.
منذ بداية الشتاء حتّى نهايته، تتراكمُ أكوامُ الطّينِ في الشارعِ المؤدّي إلى
منـزلي. تستقبلني صباحات كانون القارسة. يتَسَرَّبُ البردُ إلى مسامات جلدي
وأنا في طريقي إلى الدوام. أرحِّبُ بساعي البريد .. أترقَّبُ مِرْسالاً من خلفَ
البحار .. أقلِّبُ عشرات الرسائل. أناجي قلبي:
لابأس غداً سألتهم كلماته .. ويأتي الغد وكانون لا يرحمُ الأجساد النحيلة!
.. ويوماً بعد يوم يكتظُّ جسدي، بطبقات سميكة من الأقمشة. أحاولُ أن أطردَ
البرد، لكنّه يتغلغل رغمَ أنف الأقمشة. لا أملكُ شيئاً سوى الإنتظار. المغلّفات
الرقيقة تتوزَّعُ على أصحابها، وأنا يطولُ بي الانتظار. أخرجُ من الدوامِ منهوك
القوى. لا أعرف أينَ أوجِّه أنظاري؟ .. أتردَّدُ قليلاً ثمَّ أسألُ نفسي:
هل أذهبُ إلى البيت وأستريحُ قليلاً، ثمَّ أعودُ لأرى العجوزَين الذّين يحملان
أوقار الشيخوخة، أم ماذا؟
أنادي أحد طلّابي، فيأتي مسرعاً وينتظرُ طلباتي .. أهمسُ في أذنِ الطالبِ: ممكن
تأخذُ كتبي للبيت؟ فيجيبني: لا أعرف بيتكم (استاس). يلفظ حرف الذال سيناً ..
أرسم له مخطّط البيت ثمَّ أسأله: هل عرفْتَ البيت الآن؟ .. نعم (استاس).
أسَلّمُهُ الكتب وأغيّرُ مجرى طريقي .. أريدُ دائماً اختصار المسافات. أقرع
الباب: ( ...... ...... ) يستقبلني العجوز ويزرعُ وجهي بالقبلات . يُعاتِبُني
قائلاً:
لِمَاذا لا تأتي عندنا مرّتين في الأسبوعِ؟ .. أشرح له ظروفي، فيشاطرني أعذاري
ولكنّه مع ذلكَ يطالبني بمزيدٍ من الزيارات .. تسمع زوجته حوارنا من المطبخِ
فتأتي والبشاشة مرسومة على وجهها الّذي حفرَ الزمن بصماته بينَ ثنايا تجاعيده.
تسلِّمُ عليّ بحرارة وحنان الأمّ. تقبِّلني وعيناها غارقتان بالدموعِ ، انّها
دموع الشوق. يفرحان كثيراً عندما أزورهما .. يجلسانِ على مقربةٍ منّي ويبدآن
(بالدردشة) معي. يسألانني فيما إذا جاءتني أخبار من خلفِ البحارِ؟ .. أومئُ
لهما برأسي نحو الأعلى. يأخذني الشرود قليلاً، فتقطعني الزوجةُ من شرودي وتطلب
منّي أن أحدِّثها عن ابنها الّذي عبر المسافات .. فأسردُ قصصاً وأحداثاً من
الذاكرة .. تحملُ قصصي طابع الفكاهة فأبدّدُ أحزانهما .. ويغمرهما الضحكُ ..
يضحكانِ بملء شدقيهما. خيطٌ من الصدقِ والحنانِ يربطني بهما. أحاولُ دائماً أنْ
أدخلَ السرورَ إلى قلبيهما النظيفَين. أعرف ماذا يريدان؟ فأقدِّمُ لهما رغبة
الأبوَين عندما يرحلُ عزيزهما بعيداً .. يجدانِ سلوى في مجالستي .. وحين يحينُ
موعد العشاء، يلحّان عليّ كي أتعشّى معهما .. أحقّقُ رغبتهما الملحاحة .. أحبُّ
الخبزَ المقمّر. خلال لحظات أرى حصّتي مقمّرة. أشعر بنكهة فرح حقيقيّة أثناء
دردشاتي معهما. يخيّراني بين شرب الشاي أو القهوة بعدَ العشاء .. أفضِّلُ الشاي
الخفيف مع قليلٍ من السكّر. أنظر إلى ساعتي بعد شَرْبِ الشاي، ثمَّ أطلبُ منهما
الاستئذان. ينهضُ العجوز قائلاً:
لِمَاذا ستذهب الآن؟ .. إنَّنا لم نشبع من مشاهدتكَ .. وتضيف زوجته بعتاب: صار
لكَ اسبوعاً لم تأتِ إلى عندنا. كم كنّا بشوق إليكَ. اقعدْ نصف ساعة أخرى،
بعدئذٍ اذهبْ في حال سبيلكَ. (اقعدْ الله يخلّيك)، انَّنا نحبّكَ مثل أولادنا
.. نريد أن تتحدّثَ لنا عن صديقكَ المهاجر. حديثكَ ممتعٌ وشيّق .. نرتاحُ
كثيراً عندما نسمعُ أحاديثكَ الحلوة ...
يحرجانني في إلحاحهما فانصاع لرغبتهما .. تغيب الزوجة قليلاً ثمَّ تأتي ومعها
حفنة راحة .. تعرف عاداتي ..كالأطفال أحبُّ الراحة .. وأحياناً كثيرة أسلكُ
امامهما سلوكاً كالأطفال، مبرِّراً موقفي بأسلوبي الساخر قائلاً:
جميلٌ عالم الطفولة، والأجمل أن يكون متوِّجاً في عالمِ الشباب! .. عقاربُ
الساعة اقتربَت من الثانية عشرة ليلاً .. يسمحان لي بالاستئذان .. كانون في
الشارع العريض يرحِّبُ بي. أسير بخطى سريعة كَمَنْ يطارده شخص . أتخيَّلُ نفسي
في تلكَ اللحظة أنني في غرفتي متكوّر تحت اللحاف، أقرأ أشعار (نيرودا) .. أسمع
إيقاعات أقدامي الممزوجة مع همهمات الليل. وقبلَ أن أصِلَ إلى الشارع المؤدّي
إلى بيتي، أرفع بنطالي وأطويه طويتَين. أكوامُ الطين لا ترحم نهايات بنطالي
ونعالي. وآهٍ .. يا نعال! .. أغسلها مرّتين، أو ثلاث مرّات في اليوم! .. راودني
أكثر من مرّة أن أستأجرَ غرفة يتيمة بعيدة عن أكوام الطينِ خلال الشتاء الطويل،
وذلكَ تخلُّصاً من أكوامِِ الطين المتراكمة في الشارع العريض المؤدّي إلى
صومعتي .. لكنّي عدلتُ عن فكرتي بعدَ أنْ أجريتُ حسابات دقيقة لمردودي .. (وآهٍ
.. يا مردودي!) .. ثمَّ قلبتُ الموضوع من جميع جوانبه فوجدتُ حلاً لهذه
التراكمات الطينيّة .. وتلخّصَ الحلّ بأنْ أضعَ مجموعة من نعالي في بيت أحد
أقربائي الواقع على الشارع النظيف نوعاً ما .. وخصّصتُ نعلاً لقطعِ الشارعِ
ذهاباً وإياباً، وتركتُ هذا النعل البائس يرتجف من البرد في بلكوني تارةً، وفي
بلكون أقربائي تارةً أخرى .. وهكذا تخلَّصْتُ من غسيلِ النعالِ إلى
الأبدِ!
كانت كتبي وأوراقي المبعثرة في أركانِ غرفتي تنتظرني بفارغِ الصبرِ .. وكانَ
النعلُ المخصّص لقطع الشارع، ينتظرني في بلكون أقربائي. تساءَلْتُ نفسي: هل
أعبر أكوام الطين بحذائي النظيف، أم أذهب وأرتدي ذلكَ النعل البائس المرتجف في
البلكون؟
تردَّدْت قليلاً ثمَّ حسمت الموقف، موجِّهاً أنظاري نحو بيت أقربائي .. وبعد
لحظات وصلتُ المنـزل.
كان بيت أقربائي قد وضعوا صفيحة كبيرة من التوتياء على المدخل الخارجي، تفادياً
من عبور الحيوانات الشاردة إلى الحوش. تقدَّمْتُ لأزيحَ صفيحة التوتياء، لكنّي
وجدت خلفها صخرة ثقيلة. انحنيت كي أقلب الصخرة ولكنّي لم أستطِِعْ. كانت رؤوس
أصابعي تلامس الصخرة .. ما كنتُ أريدُ أن أوقظَ أقربائي من النوم. كنتُ حريصاً
جدّاً أن لا أصدرَ أيّ صوت .. حاولت بعدّة طرق كي أعبر الحوش ولكنّي لم أستطِعْ
.. خطرَ ببالي أن أدفع الصخرة وصفيحة التوتياء معاً، ولكنَّ الصخرة كانت
متمركزة على قاعدتها المسطَّحة .. وكان من الصعب إبعادها .. ثمَّ تبادرَ إلى
ذهني أن أزيح التوتياء، إلا أنّني خشيتُ أن تصدرَ زعيقاً مزعجاً، يعكِّر صفو
الليل ويوقظ أهل البيت. ولَمَّا لم أجد حلاً بديلاً، اضطررت أن أزيح الباب
..(أو هذا الّذي أخذ دوره كباب!) .. وبعد عدّةِ محاولات، استطعت أن أزيحه
قليلاً. كانَ الظلام دامساً جدّاً .. مصباح الشارع كان محترقاً. وفيما كنتُ
أُبْعِدُ التوتياء اللعينة، خرجَتْ قطّة من الثغرة ولامسَتْ قدمي اليسرى،
فجفلتُ ورفعْتُ قدميّ بسرعةٍ لاشعوريّة ودستُ على ذيلِ القطّة، فأصدرَتْ مواءً
عالياً جدّاً .. وبدا لي مواء القطّة ممزوجاً بالبكاء .. كنتُ آنذاك ماسكاً
التوتياء من الأعلى، وكان رأسي وصدري نحو جهةِ الحوش، فلم أجد نفسي إلا وأنا
أرفع قدميّ إلى الأعلى ..اختلَّ توازني وأصبحَ كلّ ثقلي فوق، ما يُسمّى بالباب،
ثمَّ وقعتُ في الحوش بجانب الصخرة، تاركاً خلفي القطّة تملاُ سكون الليل مواءً
متواصلاً، فاستيقظَ صاحب البيت .. وسمعته يقول:
(خِجّ خِجّهْ جِيلِي! ..) .. أي ابعدي من هنا أيَّتها البقرة! .. كان يظنَّني
بقرة شاردة عبرَتْ الحوش وأصدرَتْ كلّ ذلكَ الضجيج والارتطام!
كنتُ آخذاً مساحةً ( محترمة) من الأرض .. تلوَّثَ بنطالي وجاكيتي .. وربطة
العنق كانت قد تمرَّغَتْ بالطِّين. حاولْتُ أن أنهضَ لكنّي لم أستطِعْ ..
تلمَّسْتُ رأسي وجسمي وتأكَّدْتُ من سلامةِ أعضائي .. وبدأتُ أسندُ نفسي على
الصخرة محاولاً النهوض، وعندما استويتُ واقفاً، سمعتُ صاحب المنـزل يردِّدُ
مرّةً أخرى (خِجّ خِجّهْ جِيلِي!) .. بشيءٍ من الانزعاج! .. وتقدَّمَ نحوي ..
كنتُ في موقفٍ لا أُحْسَدُ عليه. تنفَّسْتُ بألمٍ عميق وقلتُ: عفواً، أنا فلان!
عندما سمعَ صوتي، اندهشَ تماماً ثمَّ بدأ يردِّدُ اسمي .. وسمعته يطلق ضحكةً
بكلّ عفويّته، ثمَّ تقلَّصَتْ ضحكته وتخلَّلها إيقاعاً من الاحراجِ وسألني
قائلاً:
خير! .. ماذا تريد بهذا الوقت من الليل؟ .. ألا ترى أضواءنا مطفأة؟ .. أخشى أن
يكون قد حصل لعمّي مكروه ما!
لا .. عمَّكَ بخير.
إذاً .. ماذا حصل؟
وبإحراج نبرتُ: عفواً .. أنا لم آتِ بقصد زيارتكم وإنّما جئتُ من أجلِ حذائي!
من أجل حذائِكَ! .. (ولفظ عبارته الأخيرة باندهاش).
أيوه، من أجلِ حذائي الذّي خصَّصته لعبور أكوام الطِّين!
أيُّ حذاء .. وأية أكوام طين تتحدَّثُ عنها؟ .. انّني لا أفهمُ قصدكَ.
لا تفهم قصدي؟ .. انّني أقول لكَ آتٍ من أجلِ حذائي، أيوه حذائي الذّي أعطيته
لزوجتكَ وأخبرتها بأن تتركَه في زاوية البكون، وشرحتُ لها الأمر .. قائلاً لها
بالحرف الواحد، هذا الحذاء مخصَّص لعبور أكوام الطِّين ...
وفيما كنتُ أشرحُ له مهمّات هذا الحذاء، سمعته فجأةً يملأُ سكون الليل بضحكةٍ
صاخبة .. وبعد أن فرغ من ضحكته نبر قائلاً:
أخشى أن يكونَ ذلكَ الحذاء المملوء بالطِّينِ الأحمر هو حذاؤكَ الّذي تتحدَّثُ
لي عنه!
بالضبط! .. انّه مملوء بالطين من كلّ جوانبه.
(ضحكَ مرّةً أخرى) .. وقالَ باستغراب: هل ذلكِ الحذاء هو حذاؤكَ؟
أيوه .. انّه حذائي، وجئتُ الآن من أجله.
بالحقيقة يا أستاذ، زوجتي لم تخبرني عن هذا الموضوع على الإطلاق .. وبصراحة
وجدْتُ عصرَ هذا اليوم حذاءاً مقرمطاً ومملوءاً بالطِّين الأحمر، فظننْتُ أنّه
لأحد الشحّاذين .. وتصوّرتُ أنَّ شحّاذاً ما ربّما جاء خلسةً إلى دارنا واستبدل
حذاءه بأحد أحذتي .. هكذا توقَّعتُ لأنَّ الحذاء الّذي شاهدته يشبه تَماماً
حذاء الشحّاذين من حيث كثافة الطِّين ومن حيث (التقرمطِ) أيضاً. لهذا رميتُ
الحذاء في برميل الزبالة .. ولم أشرح الأمر لزوجتي، لأنّّني توقَّعْتُ أن تهبَّ
في وجهي وتتّهمني بالتقصير وعدم الحفاظ على أحذتي .. وفضَّلْتُ أن أرمي الحذاء
دونما أيّةِ شوشرات مع زوجتي! .. ولكن قُلْ لي كيفَ كنتَ تستطيع أن ترتدي ذلكَ
الحذاء المقرمط يا أستاذ؟ .. كيف كانت قدماكَ تتموضعُ فيه؟
انَّني كنتُ قد خصّصته فقط لعبور الشارع.
حتّى ولو لعبور الشارع .. انّه كان مقرمطاً ومقوّساً تقوّساً عجيباً!
ربّما تقوّس من البرد.
( .... ..... ..... ) .
هزَزْتُ رأسي متمتماً لنفسي: ربّما تقلَّصَ من البرد.
تفضّل يا أستاذ تحت البلكون، لقد بدأتْ تُمطِر.
عندما تقدَّمْتُ نحوه، تسلَّطَ عليّ ضوءَ البلكون، فسمعته يصفِّرُ بدهشةٍ
قائلاً:
ما هذا الطّين الّذي فوق صدركَ وسروالكَ؟ .. كرافيتتكَ كلّها طين يا أستاذ.
(حوارٌ محرج للغاية كان يدور، ورأسي بدأ يدور ايضاً). عدْتُ خائباً .. ولا أعلم
فيما إذا شرح هذه المستجدات فيما بعد لزوجته أم لا؟
( .... ..... ) استقبلتني أكوام الطّين فعبرتها بطريقتي القرويّة، كنتُ أنزلقُ
أحياناً ولكنّي كنتُ أعرفُ كيف أحافظُ على توازني، مستفيداً من خبراتي القديمة
في عالمِ الانزلاق!
كانت غرفتي الفسيحة ترتجف من البرد .. فتحتُ خزّان مازوت المدفأة، تمتمتُ: يا
حبيبي! لا يوجد في الخزّان نقطة مازوت. خرجتُ وجلبتُ (بيدونة) مازوت يكفي لهذا
المساء وليوم الغد. آهٍ! .. أينَ هو القمع؟
كيف سأُفرِّغ المازوت في خزّان المدفأة بدون قمع؟ .. يبدو أن القمع موجود في
غرفة والديّ.. فكّرتُ أن أفتحَ غرفتهم وألقي نظرة هناك، لكنّي عدلتُ عن فكرتي
كي لا أزعجهم في هذا الوقت المتأخّر من الليل. التقطتُ ورقةً قريبة منّي وصنعتُ
منها قمعاً وبدأتُ أفرّغُ المازوت بتمهُّلٍ في هذا القمع الورقيّ .. وانتابتني
في تلكَ اللحظة نوبة ضحك على موقفٍ طريف ومضحك حصل معي صبيحة هذا اليوم، لكنّي
تَمالكتُ أعصابي خشيةَ ألا يندلقُ المازوت على كتبي وأوراقي المبعثرة حول
المدفأة .. اشعلتُ قصاصة صغيرة ورميتها في المدفأة .. كل شيء في الحياة يتوقّف،
سوى عقاربُ الساعة تدور ولا تتوقَّف عن الدوران .. بدأتُ المدفأة تطردُ البرد
من حولي. كان الوقت قد تجاوز الواحدة بعد منتصفِ الليل .. همستُ لا بأس، غداً
دوامي هو بعد الظهر .. بإمكاني أن أسهر حتّى الساعات الأولى من الصباح.
وهناك! .. على امتدادِ طاولتي، تبعثرَتْ مئات الأوراق وحولها الأقلام تفتح
أفواهها بتعطّشٍ كبير! .. لَمْلَمْتُ الأوراق ثمَّ كوَّمتها على مقربةٍ منّي
واستلقيتُ بجانب المدفأة .. التقطتُ قلماً أحمر وبدأتُ العراك مع الأوراق ..
مَنْ يراني سيظنُّ أن هناكَ عداوة حقيقيّة بيني وبين كومة الأوراق.
كانت الأوراق تتوارى من أمامي بسرعة .. والأرقام كانت تتوزّعُ بآليةٍ سريعة ضمن
دوائر على الهوامش وفي أعلى الصفحات أيضاً. تَمْتَمْتُ: هذه الأوراق تشبه بئراً
لا يجفّ ماؤه. ثمانٍ وعشرين رزمةً، وفي كلّ رزمةٍ ما بين أربعينَ إلى خمسين
ورقة، بعض الخطوط كان مخربشاً كخربشات الدجاج، وبعضها الآخر كان متناسقاً
تناسقاً جميلاً. بدأ القلمُ يسعلُ سعالاً متقطِّعاً .. تناولتُ قصاصة صغيرة
ومررتُ رأسه المدبّب عليها يمنةً ويسرةً بشكلٍ سريع فتبيّن لي أنّه مصاب
بالسعال الديكي فرميته جانباً والتقطتُ قلماً آخر.
وبعدَ عراكٍ طويل، وضعتُ كومة الأوراق جانباً منقوشة بأرقامٍ حمراء. وقبلَ أن
أخلدَ للنومِ، كتبتُ على قصاصة صغيرة الأعمال المطلوبة منّي في اليوم التالي
ثمَّ استسلمتُ لنومٍ عميق.
.. وتتوالى الصباحات وأزدادُ تساؤلاً: أينَ أنتَ يا عابر المسافات؟ .. أهزُّ
رأسي قائلاً:
(الصداقة جسرٌ غير مرئي في عالمِ المرئيات، ولكي يعيش الإنسان زمن الصداقة وزمن
الحبّ، لا بدَّ أن يعيشَ حالة شوق واشتعال متواصل مع عالمِ الأحبّة .. وتدور
الأيّام ويفترق الأصدقاء كما تفترق أسراب السنونو .. ولا يملكون سوى هذه الجسور
غير المرئيّة في عالم المرئيات!).
اقترب العيد مبتسماً رغم برودة كانون. الآباء والأمّهات يجلبون السكاكر والحلوى
ولباس العيد .. الأطفال ينتظرون هداياهم .. الجميع يقومون بترتيبات العيد ..
وأمّا أنا وأقراني كنّا منهمكين في البحث عن أقلامٍ حمراء كي نوقّع في أعلى
الصفحات.
يا إله الفرح!..في ليلة العيد استلمت المرسال الّذي انتظرته طويلاً. توجَّهْتُ
مباشرةً نحو بيتي ..وفيما كنتُ أعبر صحنَ الدار، بدأتُ أرقص رقصاً يحمل فرح
الأطفال.. استقبلني والدي العجوز بسرور ثمَّ بدأَ يصفِّقُ لي تضامناً مع فرحي
وقالَ: وصلتكَ رسالة من صديقكَ، أليسَ كذلكَ؟
أيوه .. منذ دقائق.
.. غمرنا الفرح جميعاً. انزويتُ في غرفتي وبدأتُ أقرأ الرسالة بمتعةٍ غريبة
ولذيذة، مع أنّي كنتُ قد قراتها فور استلامي إيّاها. نبيذ أحمر على الطاولة كان
ينتظرني .. ارتشفتُ قليلاً منه. كانت (إيرن باباز) تغنّي الأوذيسة بسموٍّ رائع.
تواصلتُ مع صوتها المنعش .. كم كانت موسيقى الأوذيسة انسيابيّة .. كنتُ أحسُّ
من خلالِ انسيابيّة الموسيقى بنوعٍ من التجلِّي. كانت روحي منتعشة .. وليلتي
مطرّزة بالبهجة. نمتُ نوماً عميقاً .. عميقاً للغاية.
نهضتُ بفرحٍ في صباحِ العيد. جاء الزوّارُ تباعاً، وبداتُ أزرعُ وجوه الأحبّة
بالقبلات. الأحتضانُ كان دافئاً .. طلبوا منّي مرافقتهم، لكنّي اعتذرتُ منهم
واعتكفت في صومعتي أقرأ أشعاري تائهاً في عالمِ الذكريات ...
وفيما كنتُ شارداً مع أحلامي جاءني أحد الأصدقاء الحميمين وقطعني من شرودي
ووحدتي وسألني:
ما رأيكَ أن نزور العجوزَين؟
بالحقيقة كنتُ بانتظاركَ لهذا الأمر .. وفعلاً جئتَ في الوقتِ المناسب. ( ....
..... ) كان العجوزان ينتظرانني بفارعِ الصبر. قُبُلات العيدِ كان لها نكهة
خاصّة. لَمَحْتُ قامة طويلة. الاحتضانُ كان عميقاً .. والقبلات قامَتْ ركباً ..
صاحب القامة الطويلة استمطر علينا بضحكاته الارجوانيّة .. سأله أحدهم:
هل جئتَ من الكلّية وجلبتَ لنا كلّ هذه السلال من الضحكِ؟
أيوه .. جئتُ لأفرح وأضحك معكم.
كان الجوّ مبهجاً للغاية فتخلّّله نكتة من هنا وضحكة من هناك! .. انتهزتُ
الفرصة وبدأتُ أسرد لهم ماحصل معي منذ أيام. وعندما وصلتُ عندَ عبارة (خِجّ
خِجّهْ جِيلِي!)، ضحكوا على السليقة دونما أن يعرفوا معنى العبارة. ولكنَّ ذلكَ
الطويل الشقيّ سرعان ما قاطعني وطلب منّي أن أشرح لهم العبارة الأخيرة.
وحالما شرحتها لهم، سمعتُ موجةً صاخبة من الضحكِ تتعالى من جانبهم .. حاولتُ
تهدئتهم لمتابعة ما تبقّى من الحكاية، لكنّي لم أستطِعْ تهدئتهم، غاصوا في بحرٍ
من الضحكِ .. وكنتُ أرى بوضوح انفجار الضحكِ من مآقيهم. كانت راحات أياديهم
مشدودة على بطونهم وخواصرهم .. فما وجدتُ نفسي إلا وأنا منخرطٌ معهم بكلِّ
عفويّتي، أضحكُ أنا الآخر، حفاظاً على استمراريّة القهقهات الصاخبة!!
المالكيّة: كانون الأوّل (اكتوبر) 1987
احتراق حافّات الروح
تمعَّنْتُ فيهم واحداً .. واحداً.. أطفالاً وشباباً وشيوخاً، وأمَّا النساء فما
كنتُ أستطيعُ الإمعانَ فيهنَّ لأنَّهنَّ تحوَّلنَ إلى كتلةٍ من الأنين.
توغَّلَ ألمُ الفراق في مسامات جلدي .. هذا القلم المتواضع لا يستطيع أن
يعبِّرَ عمَّا كان يراودني يومَ الوداع. صوَرُ الأحبّة وهم يودِّعونني لا
أستطيعُ أن أنساها أبداً .. مشهدُ والديَّ العجوزين وأنا أودِّعما، مشهدٌ له
علاقة بأبجديات الموت قبل الأوان.. آنذاك شعرتُ أنَّ حافّات روحي تحترق بنارٍ
ملتهبة .. تتصاعدُ ألسنتها من مسامات قلبي .. هذا القلب الّذي تبرعمَت فيه
خلاصة مرارات الحياة.
لا أصدِّقُ نفسي أبداً أنَّني مررْتُ بتلكَ اللحظات الرهيبة .. عبرْتُ ضباباً
كثيفاً ثمَّ رحَّبَ بي سرابٌ بلا نهاية .. وتلوَّنَتْ مشاعري بألوانٍ بنفسجيّة
مضمَّخة، بعبير الشوق. السراديب المظلمة ابتلعتني ولم أعُدْ أميِّزُ أبجديات
السراب الَّذي كنتُ أسبحُ فيه بدون مجاذيف .. والرياح العاتية لطمَتْ خدَّيَّ
الحزينَين، فبكَتْ عصافيرُ الدوري من جنون العاصفة!
عبَرْتُ البحار .. وأكلني الشوق إلى أزقَّتي الضيِّقة. شجرةُ التوت الكبيرة
تنهضُ أمامي وأراها ـ رغم المسافات ـ تنحني معلنةً الحداد، فتغضبُ ( دجلتي )
مرتِّلةً ترتيلةَ الرحيل.. الدهاليز المعتمة الطويلة عصرَت رحيقي وقمَّطتني
الغربة ثوبَ الحِداد .. ويجنُّ جنوني إلى نجمةِ الصباح .. وكم أتذكَّرُ السهرات
الممتعة التي كنتُ أقضيها معَ أحبّائي على ضوءِ النجوم وهواء بلدتي العليل كان
يبلسم جراحاتنا!
مشاهدُ الوداع تتراقصُ أمامي الآن وأنا محاصرٌ وسط أخطبوط الغربة. أتذكَّرُ
اللحظة الّتي رجوتُ أمِّي وطلبْتُ منها أن تسامحني قُبيلَ وداعي الأخير.
اقترَبَتُ منها بقلبٍ مدمى قائلاً:
أرجوكِ يا أمَّاه ( اغفري ) لي وسامحيني .. وادعَي لي بالتوفيق .. ها أنذا
راحلٌ خلفَ البحار. كانت أمّي غائصة بأحزانِ الدنيا. ما كانت تستطيع أن تحرِّكَ
شفتيها .. كان وجهها شاحباً للغاية .. فجأةً ارتجفَتْ شفتاها بسرعةٍ قصيرة ثمَّ
توقَّفتا عن الحركة. كان الازرقاق بادياً على سيماءِ وجهها وشفتيها. اقتربتُ
منها واحتضنتها .. أحْبَبْتُ آنذاك أن أُدْخِلَها في قلبي وروحي وأتركها هناك
معلَّقة بين ثنايا الروح والقلب إلى الأبد. قبَّلْتُ يديها المعروقتَين وعيناي
زائغتان تهطلان بغزارةٍ واضحة. حاوَلَتْ أمِّي أن تقبِّلني لكنَّها لم تستَطِعْ
أن تفتحَ فاها. تجمَّدَ الدم في شفتيها وتحوَّلَ جسدها إلى ( كتلةٍ يابسة )
وجفَّ ريقها. آنذاك شعرْتُ بضآلة حجمي، وبضآلة الأهداف المرسومة في ذهني أمام
الموقف الّذي أنا فيه!
كانت رغبتي الوحيدة في تلك اللحظة أن تقبِّلَني وتعانقني عناقاً طويلاً بكلّ
أمومتها الحانية .. (ثلاثة أرباع ) دمها كان متجمِّداً في جسدها الّذي كان ينوء
تحتَ خريف السنين. عيناها جاحظتان تحدِّقان في لا شيء. كانت تشربُ مرارة الوداع
بشراهة.
وفيما كانت تسبح مع عذابات الفراق أوشكَتْ أن تسقطَ على الأرض لولا أنَّ أخي
وأختي تلقفاها على الفور ..!
موعدُ الانطلاق وتوديع أزقَّتي قد حان .. وأمّي لم تقبّلني بعد .. وضَعْتُ خدّي
على شفتيها اليابستين وقلتُ لها: أمّاه أرجوكِ أن تقبِّليني قبلة الوداع
الأخيرة. كانت تمعنُ النظر إليَّ ولم تنطق بكلمة. ما كانت تصدِّق أن فلذة كبدها
سيودّعها ( إلى الأبد ) بهذه البساطة. كانت تبكي بكاءً مرّاً. الألم الّذي
توغَّلَ في شراييني، في تلكَ اللحظات، تعجزُ كلّ اللغات عن الإفصاح عنه.
توسَّلْتُ لآلهةِ الحبّ والرحمة أن تبعثَ الحياة والحركة في شفتيها .. ووضعتُ
راحة يدي على ثغرها اليابس. فجأةً ارتعشَتْ شفتاها، فقلْتُ لها: أرجوكِ
قبِّليني يا أمَّاه! .. وبصعوبة بالغة استطاعَتْ أن تقبِّلَني قبلة يتيمة
واحدة!
الجميع من حولي يغلِّفهم البكاء والصراخ. أحد المارّة نظر إلينا مشدوهاً ..
تصوَّرَ أنَّ ( كارثةً ) ما قد وقَعَتْ .. تمتمَ قليلاً ثمَّ تابعَ متعثِّراً
في خطاه.
عبَرْتُ مطبخي المتواضع. شعور عميق بالألم كان يهيمن عليّ. عيناي حمراوان
وحزينتان. استقبلتني المرآة بعد أن غسلتُ وجهي البائس.. لم أعرف نفسي .. كان
وجهي شاحباً للغاية إلى درجة ما كنتُ أصدِّق أن ما أراه في المرآة هو وجهي.
كانت عيناي تلخِّصان مرارة الفراق وتهطلان دون استئذان الغيوم. ارتجفَت يداي
وازداد قلبي خفقاناً وكأنَّ وحشاً مفترساً كان يطاردني. غسلتُ وجهي ثانيةً ..
تذكَّرتُ أحبّائي الّذين كانوا يرتادونَ بيتي. تلمَّستُ برّادي ثمَّ فتحته
وشربتُ قليلاً من الماء. تألَّمْتُ جدّاً عندما وقع بصري على أدوية قديمة لأمّي
.. وبجانب الأدوية كان يوجد قليل من اللبن وثلاث بيضات. إحداها كانت مكسورة من
خاصرتها .. ولكنّي وضعتها بهدوء في الزاوية العليا من البرّاد. أحد المودّعين
كان يراقبني دونما قصد منه .. تقدَّمَ نحوي ثمَّ حضنني بكل عفويَّته .. هطلَتْ
عيناي دموعاً غير مرئيّة .. كانت تخرُّ نحو القلب مباشرةً وتصبُّ أخيراً عندَ
شواطئِ الروح!
الآن! .. من خلفِ البحار، أتذكَّرُ العناقات الطويلة، أتذكَّرُ كيف عبرتُ غرفةَ
والديَّ، أبحثُ عن منديل. كان والدي الّذي خلّفَ وراءه أكثر من ثمانية عقود من
الزمن، يصرخُ ويبكي كالأطفال. تقدَّمتُ نحوه وحضنته بحنانٍ عميق، فازدادَ
صراخاً وأنيناً .. قلتُ له لماذا كلّ هذا البكاء؟
أجابني: سأموتُ ولن أراهُ مرَّةً أخرى!.. ( قُشَعْريرة حارقة توغَّلَتْ في
ظلالِ الروح ) .. ثمَّ قلتُ له: بلى ستراه.
أجابني باصرار: لا .. سوف أموتُ ولن أراهُ مرَّةً ثانية.
فقلتُ له: ها أنذا بين يديك.
فقالَ: ما شأني بكَ طالما ودَّعني ولدي وأنا في خريف العمرِ الأخير .. تركني
هنا أجترُّ همومي وجهي بوجه الحائط!
شعَرْتُ أنَّ ناراً ملتهبة تشتعلُ تحتَ أقدامي عندما سمعته يقول: ( تركني هنا
أجترُّ همومي وجهي بوجه الحائط! ) .. ثمَّ قلت له بحرقةٍ ابنكَ لم يودِّعْكَ
بعد يا أبتاه .. وها أنذا أمامكَ و ..
قاطعني وهو يبكي بمرارة قائلاً: قبل قليل رحلَ ابني الّذي كنتُ ادلِّله.. وكم
حملته على كتفي في مواسم الحصاد الأخيرة .. وأدخلته المدارس .. وعندما أصبح
شابَّاً قرَّرَ أن يرحلَ بعيداً عنّي .. رحلَ وتركني ميّتاً بين الأحياء!
آهٍ .. آهٍ .. آه! ( استوطنَتْ أحزان العالم في قلبي ) .. ما كان والدي يعرف
انّي ابنه. لقد ذبحه ألمَ الفراق وتصوَّرني أحد المودّعين. ما كانَ قادراً على
استيعاب تلكَ اللحظات القاسية التي حرقَتْ شيخوخته الباقية. أقسمْتُ له أنّي
ابنه فلم يصدِّقْني .. وكان يبكي ويقول ابني راح .. مشى منذ لحظات .. صرختُ
بدون وعي وأنا أبكي ( بـا بــــا! ) أَنسيتني فوراً؟! .. وأَيقظَتْ صرختي
غيبوبته المنسابة في عالم الألم .. ثمَّ فجأةً حضنني وهو يقهقهُ دونَ أن يكون
لديه استعداد لهذه القهقهات المفاجئة .. كانت دموعهُ تنسابُ بغزارة وهو
يردِّدُ: أشكرُ الله أنّي رأيتكَ مرّةً أخرى وأنا حي!
المودّعون كانوا ما يزالون ململمينَ حولي. والدتي كانت مرتمية بينَ أحضان أختي
وأخي. كانت تظنُّ أنَّ أخي الّذي أخذَ دوري في احتضانها هو أنا! .. اقتربتُ
منها ووالدي ما يزال يعانقني ثمَّ حضنتُ والدتي ووالدي سويةً وأصبحتُ في وسطهما
تماماً. أحد المودّعين التقطَ صورةً مركّزاً على غزارةِ الدموع. كانت أمّي
تضحكُ من شدّةِ الألم .. ووالدي كان يزدادُ صراخاً.
طلبتُ من أحدِ المودِّعينَ أن يقومَ بدوري حفاظاً على استمرارية الاحتضان ..
فارتمى أحدهم بين أحضانهما وهما غائصين في بحرٍ من الدموع.
انسللتُ من بينهما بحزنٍ عميق وألقيتُ نظرة وداعيّة عليهما وعلى ساحة الدار ..
وودَّعتُ كلَّ الأحبّة الّذين تلملموا حولي واحداً .. واحداً. الطين الأحمر
اللزج كان مكتظَّاً حول منـزلي. (شهقتُ شهيقاً عميقاً ) .. وأمعنتُ النظرَ
بأكوامِ الطينِ التي رافقتني ثلث قرن من الزمان! .. انحنيتُ متناولاً حفنةً منه
ثمَّ وضعتهُ على صدري .. آنذاك وقع بصري على صفٍّ طويل من الأطفال في عمرِ
الزهور .. وقفتُ أنظرُ إلى عيونهم البريئة. كانت دموعهم تنهمرُ كالآلئ على
خدودهم الحزينة .. وبدأتُ أقبِّلهم .. وأقبِّلهم .. وكانوا ( يحتالونَ ) عليَّ
ويصطفّون يالتناوبِ مرّاتٍ ومرَّات .. وعندما استدركتُ اصطفافهم المتناوب،
سألتُ أحدهم: أظنُّ قبَّلْتُكَ منذُ قليل، أَليسَ كذلك؟!
نظرَ إليَّ وعيناهُ تلمعانِ براءةً وحزناً ثمَّ قالَ: بلى قبَّلْتَني.
ولماذا اصطفَفْتَ مرّةً أخرى؟
لأنّني ربَّما لا أراكَ بعدَ الآن .. لهذا أريدُ أن تقبِّلَني كثيراً.
نظَرْتُ إلى عينيهِ الحزينتين وشَعَرْتُ أنَّهُ فجَّرَ أحزان العالم في قلبي
وشعرتُ أيضاً أنَّ شيئاً ما أكثر مرارةً من العلقمِ بدأَ يخترقُ سماءَ حلقي ..
تابعتُ أقبِّلُ الأطفال .. وعندما كنتُ أقبِّلهم، كانت دموعنا تلتقي فوقَ
خدودنا مشكِّلةً خطوطاً عديدة تتسارعُ منسابةً نحو أعناقنا .. وأتذكَّرُ جيّداً
كيف كانوا ( يهجمونَ ) على يدي اليمنى ويزرعونها قُبَلاً .. آنذاكَ شعرتُ أنَّ
رأسي يدور .. ويدور. وبعدها لمْ أشعرْ بالزمن، ابتلعتني غيبوبة خانقة! ...
انطلقَت الحافلة .. أنظار المودّعين كانت مشدودة نحوي .. وعندما غابت الحافلة
عن الأنظار، بدأوا يتمتمون ويحدِّقون بحسرةٍ حارقة في الفراغ الّذي خلَّفته
الحافلة!
ستوكهولم: تشرين الثاني
1992
اللصّ والقطّة
استيقظتُ من نومي على صوت المنبّه. الساعة أشارت إلى الرابعة صباحاً. ارتديتُ
ملابسي بسرعة وألقيت نظرة سريعة على أولادي، اقتربتُ من ابنتي الصغيرة
وقبَّلتها بحنان، ثمَّ غطّيتها وأمعنت النظر فيها.
أزقّة المدينة وشوارعها كانت تنتظرني. ركبتُ درّاجتي .. الهواء كان منعشاً،
والحارس الليلي كان يسير بتمهُّلٍ في أحد الشوارع العريضة من المدينة. خفَّفتُ
من سرعةِ الدرّاجة ثمَّ دخلتُ أحد الأزقّة. الأضواء كانت خافتة .. ترجَّلتُ
ووضعتُ درّاجتي على الرصيف. القطط كانت تموء بصوتٍ عالٍ، شعرتُ أنَّ مواء إحدى
القطط يشبه بكاء الإنسان، وتبادر لذهني فيما إذا كانت القطط تبكي فعلاً أم لا؟
.. وهل البكاء من نصيب الإنسان وحده؟
براميل النفايات كانت كثيرة .. والقطط كانت أكثر، ينافس بعضها بعضاً. مواء
القطط عكّر صفو الليل، عدتُ إلى درّاجتي، لا أسمع سوى صوت العجلات والرفراف
الأمامي، كان الرفراف يصدر زعيقاً مزعجاً، خفَّفتُ السرعة قليلاً .. تمتمتُ
لنفسي: هذا هو المكان المطلوب، ثمَّ وضعتُ درّاجتي جانباً وأسندتها على جذع
شجرة عالية، وألقيتُ نظرة شاملة على المكان، فوقع بصري على برميل كبير،
البنايات من حولي كانت عالية جدّاً وفاخرة .. توجَّهتُ نحو البرميل، وجدتُ
كلباً قريباً منه، نبح الكلب بصوتٍ خافت وكأنّه يريد أن يُشعرني أنّه موجود،
تابعتُ أسير باتّجاه البرميل متجاهلاً نباح الكلب. وفيما كنت ألقي نظرة على
محتويات البرميل، فجأةً خرجَتْ منه قطّة وارتطمَتْ بوجهي وخربشتني ثمَّ توارت
عن الأنظار ودخلَتِ الأزقّة .. اضطربتُ جدّاً واقشعرَّ جسمي لهجومها المباغت،
وعندما خرجَتِ القطّة من البرميل أصدرَتْ مواءً عالياً، فنهضَ الكلب ونبح
بتوحُّشٍ وغضبٍ وهجم عليّ، فهرعتُ نحو درّاجتي هرباً منه، وفيما كنت أمسكُ مقود
درّاجتي، كان الكلب يمسك سروالي بأنيابه. تمزّقَ السروال وخوفٌ ما بعده خوف دخل
إلى أعماقي. الدرّاجة أصبحت بيني وبين الكلب. نباحه لم يتوقَّف، كان متواصلاً
ومخيفاً، ارتعدَتْ أوصالي وأوّل مرّة أرى وجهاُ لوجه شراسة الكلاب. ما هذا
البلاء الّذي وقعتُ فيه؟ أحد القاطنين في ذلكَ الحيَ استيقظَ من نومه، والحارس
الليلي سمع نباح الكلب وجاء بسرعة نحو مصدر الصوت .. وفجأةً سمعتُهُ يقول:
قِفْ مَنْ أنتَ؟ لا تتحرّكْ وإلا رميتكَ بالرصاص! (فُوَّهةُ البارودة موجَّهة
نحو صدري) .. سمعتُ صوت سيارة تسير بسرعة فائقة في الشارع القريب من الزقاق،
والكلب توارى عن الأنظار، وأنا تسمَّرْتُ في مكاني!
ارفَعْ يديك!
رفعتُ يدي، الدرّاجة وقعتْ على الأرض، الحارس الليلي اقترب منّي وصرخ في وجهي
قائلاً:
اعطني هويتكَ!
وفيما كنتُ أضع يدي في جيب سترتي العلوي، تدفّق ثلاثة مواطنين من منازلهم.
امسكوه، انّه لصّ، قال أحدهم .. ثمَّ بدأ يبربر قائلاً: منذ شهرين اقتحم اللصوص
دكّاني .. وقال الآخر: سُرِقَ دولاب سيارتي منذ يومين. (يدي ممتدّة) .. سحب
الحارس الليلي الهويّة من يدي، قرأ اسمي بصوتٍ مسموع.
في هذه اللحظة ترجّل شرطيان من سيارتهم بسرعة، وبصوتٍ واحد قالا: ماذا حصل؟
مشهد القطّة وهي ترتطم بوجهي، كان يتراقص أمامي .. قطرات من الدم على جبيني،
جرح خفيف على خدّي الأيسر .. انكسرتْ مرآة درّاجتي .. امتعض قلبي وشعرت
بالغثيان!
فتّشوه! قال أحد الشرطة.
هوية عمل، خمسة عشرة ليرة ودفتر صغير. قلّب الشرطي صفحاته، في أعلى بعض الصفحات
اسم ثلاثي، وبحذاء كلّ اسم بعض الأرقام ...
تفضَّل ع المخفر! (بلهجة آمرة).
رئيس المخفر: ماذا كنتَ تعمل في الساعة الرابعة والربع صباحاً؟
كنتُ أتمشّى أقودُ درّاجتي ..
تقودُ درّاجتكَ (بانفعال) .. لقد قال الحارس الليلي أنّه وجدكَ تصارع كلباً،
كان ينبح عليكَ بوحشيّة، وذلكَ أمام دكّان صاحب الكلب .. هل هذا حصل؟
نعم حصل ذلك.
إذاً قُلْ لنا بالتفصيل لماذا خرجتَ من المنزل في وقتٍ كهذا؟ وماذا كنتَ تنوي
بالضبط؟
بصراحة يا سيّدي كنت أقود درّاجتي في شوارع المدينة، ثمَّ عبرتُ أحد الأزقّة
وترجلّتُ بجانب بعض البنايات العالية ووضعتُ درّاجتي جانباً، متَّكئةً على جذع
شجرة و ...
وماذا يفيدنا إذا كانت درّاجتكَ متّكئة على الرصيف أو الجدار أو جذع الشجرة؟
ماذا يفيدنا ذلك؟ هـاآ! (صرخ رئيس المخفر في وجهي بانفعال).
هذه الحقيقة يا سيّدي.
رئيس المخفر: تابعْ!
بعدَ ذلكَ وقعَ بصري على برميل كبير، تقدّمتُ نحوه، وفيما كنت أهيئُ نفسي
لالقاء نظرة، فإذا بقطّة تحرج من البرميل بشكلٍ مفاجئ .. جفلتُ وخفتُ جدّاً ..
وكادت أن تلتهم وجهي لولا أنّني ابعدتها بيدي فخربشتني .. وبعد ذلكَ أسرعتُ نحو
درّاجتي و ...
قاطعني رئيس المخفر قائلاً: أيّة قطّة وأيُّ برميل تتكلَّم عنهما؟ انّني أحقِّق
معكَ الآن وكلّ كلمة تتفوّه بها يتمّ تدوينها في المحضر. يجب أن تكون صادقاً
معنا، وكلّما أخفيتَ الحقيقة تضاعفَتْ عقوبتكَ.
أقسم بشرفي يا سيّدي أتكلّمُ الحقيقة.
تتكلّمُ الحقيقة؟ (بصوتٍ عالٍ) .. برميل وقطّة في تمام الساعة الرابعة والربع
صباحاً، تسمّيها حقيقة؟ .. (يخرجُ من وراء طاولته) مبربراً: أنا لم أجد أبداً
رجلاً يخرجُ من منزله في وقتٍ كهذا، ويُقبَضُ عليه متعاركاً مع كلب ثمَّ يأتي
ويقول .. برميل وقطّة، وإلى آخر ما هنالك من الكلام الفارغ، الّذي لا يفيد
المحكمة بشيء. ماذا بينكَ وبين القطّة؟ هاآ! أيُّ منطق هذا الّذي تتكلّم فيه؟
آنذاك تذكَّرْتُ زوجتي وابنتي وأولادي الصغار .. ليلة أمس وعدْتُ زوجتي أن
أجلبَ دواءً لابنتي الصغيرة .. صوت سعالها يرنُّ في أذني كما كانت ترنُّ الساعة
يوميّاً في أذني.
رنَّ رئيس المخفر الجرس. نظرتُ حولي فرأيتُ قامة طويلة تقف باستعداد. أوامرك
سيّدي.
احجِزْ درّاجته وخُذْهُ إلى السجن!
وبينما كنتُ أسيرُ إلى السجن، تذكّرتُ ابنتي الصغيرة .. آهٍ .. يا ابنتي أنَّ
صدى سعالكِ يرنُّ في أذني الآن ولا يمكن أن أنساه .. اعذريني فلا أستطيع أن
أجلبَ لكِ الدواء هذا اليوم أيضاً، ولا أعلم إلى أين سينتهي بي هذا؟
مَحْـكَـمَـة!
القاضي: أنتَ متَّهم بمحاولة السطو على دكّان عن سابق اصرار وتصميم، ما هي
أقوالكَ؟
يا سيّدي والله أنا مظلوم.
تفضَّلْ قُلْ لنا ما هي أقوالكَ؟
حاضر سيّدي: لقد خرجتُ من منزلي الساعة الرابعة صباحاً .. كنتُ اقودُ درّاجتي
ومررتُ في أحدِ الأزقّة، وهناك وجدتُ قططاً يهاجم بعضها بعضاً، لقد خُيِّلَ
إليَ يا سيّدي أن بعض القطط كانت تبكي ..(جحظَتْ عينا القاضي) .. وترجَّلتُ بعد
ربع ساعة تقريباً من ركوبي الدرّاجة، بعد أن تركتُ القطط وشأنها .. ووجدتُ
برميلاً كبيراً فتوجَّهتُ نحوه، وفيما كنتُ أهيّئُ نفسي لألقي نظرة على
البرميل، فجأةً خرجَتْ قطّةً من البرميل وانقضَّتْ على وجهي، وبصعوبة تمكَّنتُ
أن ابعدها عن وجهي. اضطّربتُ جدّاً وما وجدتُ نفسي إلا وأنا أهرع صوب درّاجتي
.. وعندما وجدني الكلب أركض، فجأةً سمعته ينبحُ عليّ كالمسعور وهجم عليّ ومزّقَ
سروالي! .. انظرْ سيّدي، أقسم لكم بشرفي، سروالي مزّقه الكلب .. وعلى صوت نباح
الكلب جاء الحارس الليلي وهذه افادتي!
(يضحكُ كلّ مَنْ في القاعة).
يمسكُ القاضي (داقوقه) ويدقُّ على الطاولة .. هدوء تام يخيّم على القاعة.
القاضي: لقد تقدَّمَ صاحب الدكّان بعريضة، متَّهماً إيّاك بأنَّكَ ضُبِطْتَ
أمام دكَانه بقصد السرقة، ولولا أن كلبه كان يقظاً والحارس الليلي كانَ يقظاً
هو الآخر لكنتَ قد سطوتَ على دكّانه.
بماذا تجيب على هذا الاتّهام الموجّه إليك؟
لا أعلم كيف أجيبُ على هذا الاتِّهام.
هل تريد أن توكِّل قضيتكَ إلى محامٍ؟
لا سيّدي.
ولماذا لا تريدُ ذلكَ؟
لأنَّني بريء من جهة ولا أملكُ نقوداً من جهةٍ أخرى، وأنا متأكِّد بأنَّني بريء
ومظلوم.
أنتَ متأكّد شيء، وأن نتأكّد نحنُ شيء آخر.
أقسم لكم بأنَّني بريء وقلتُ الحقيقة يا سيّدي.
يقف صاحب الدكّان، بعد أن استأذنَ القاضي قائلاً: لقد وكَّلتُ المحامي ( ....
.....) ولديه أقوال تفيد المحكمة الموقّرة.
يقف المحامي ويسترسل طويلاً.
كنتُ أنظرُ إلى المحامي تارةً ، وإلى القاضي تارةً أخرى. تذكَّرْتُ زوجتي ..
وابنتي الصغيرة لم استطِعْ أن أجلبَ لها الدواء .. وابني! .. هل ذهب إلى
المدرسة جائعاً؟ .. أشعر وكأنَّ نباح الكلب يرنُّ في أذني الآن! .. وتتوالدُ
الهموم والأسئلة في ذهني ثمَّ تدور ولا تتوقَّفُ عن الدوران.
القاضي: ما هو ردُّكَ على أقوال المحامي الّتي تؤكِّدُ بأنّكَ كنتَ تنوي
السرقة؟
(أبدأ مرافعتي بشهيقٍ عميق) .. سيّدي القاضي: أنا ما كنتُ أنوي السرقة كما يزعم
المحامي .. أنا والقطّة كان لنا هدفٌ واحد ونيّة واحدة، فإذا كان هدفي السرقة،
فالقطّة كان هدفها السرقة هي الأخرى!
أيُّ هدفٍ وأيّة نيّة تتكلّم عنهما؟ وكيف تسمح لنفسكَ أن تشبِّهَ أهدافكَ
ونيّاتكَ بأهداف ونيّات القطط؟ وهل للقططِ غايات وأهداف كالإنسان؟
لا سيّدي، معاذ الله أن يكون للقططِ أهداف وغايات كالإنسان، ولكن عندما ينافس
الإنسان القططَ تحتَ جنحِ الليل على برميلِ النفايات، عندئذٍ تلتقي النيّات
وتصبح أهدافهما سيّان!!
المالكيّة: شتاء 1986
فراخ العصافير
إهداء: إلى
طفولتي،
إلى أسرتي التي
كانت تعانقها
سهول القمح وأيام
الحصاد!
أحنُّ إلى أيامِ الحصاد. أتوه بكلِّ شغفٍ في متاهاتِ الحقول، ألملم النباتات
الملوّنة بأبهى أنواع الزهورِ، تتراقصُ أمامي صوراً ومشاهداً مسربلة بين طيّاتِ
الغمام. آهٍ أتذكّر جيّداً عندما كنتُ طفلاً، كنتُ أعبرُ البراري الفسيحة،
أركضُ خلفَ الفراشات والجراد الأخضر. أهربُ من لملمةِ باقات الحنطة. كانت أمّي
تقول لأسرتي دعوه يفرحُ معَ عوالمِ الفراشات والعصافير.. أتذكّرُ جيداً كيف
قادتني إحدى الفراشات إلى أعماقِ الحقل وإذ بي أمام عشّ عصفور فيه فراخ صغيرة
تفتح مناقيرها عطشاً.. تساءلتُ، هل هذه الفراخ عطشى مثلي أم أنّها تتوقُ إلى
أحضانِ الأمِّ .. ركضتُ نحو جرّةِ الماءِ ثمَّ عدْتُ حاملاً في يدي الصغيرة
طاسة ماء، فقالت أمّي لمن هذا الماء يا ابنيّ؟ ركضتُ نحو الجهة المعاكسة لأهلي
قائلاً، لفراخِ العصافير، ضحكَتْ أمّي ثمَّ قالت، ونحن ألا نستحقُّ قليلاً من
الماء يا ابني؟ سآتي حالاً يا أمّي، تهتُ عنِ العشِّ ولم أهتدِ إليهِ لأنّه
كانَ وسطَ الحقلِ ثمَّ جلستُ وحيداً وسنابل القمح تحضن دمعي .. قَلِقَ الأهل
عليّ عندما طال بهم الإنتظار، وخافوا أن تكونَ قد لسعتني أفعى في قيظِ تلكَ
الظهيرة في رحاب الحقلِ.. ثمَّ استنفروا يبحثون عنّي فوجدتني أختي، زغردَتْ
وقالت هوذا صبري ثمَّ حملتني وهي تمسح دمعي، فبكيتُ أكثر، سألتني أمّي ماذا
تريد يا ابني؟ قلتُ لها ضيّعتُ الطريق إلى عشِّ فراخِ العصافيرِ! .. ضحكوا،
فجنَّ جنوني وطلبتُ منهم أن يمشّطوا الحقل بحثاً عنِ العشِّ. تلكؤوا في بادئِ
الأمرِ لكنّي بدأتُ أبكي بصوتٍ عالٍ، فما وجدوا بدّاً إلا أن ينصاعوا إلى أمري،
وبدؤوا يبحثون عن العشِّ، أمسكَتْ أختي يدي ونحنُ نمشي. بعد لحظات سمعتُ أمّي
وهي تهلهلُ (كليليليليلي!)، هوذا العشُّ يا صبري! ركضتُ بفرحٍ، آهٍ .. ولكن أين
طاستي؟ قلتُ لأختي اركضي، نسيتُ طاستي هناك عند دمعتي، ركضَتْ أختي مثل البرقِ
ثمّ جاءَت تحملُ رغبتي، أمسكتُ الطاسة ثمَّ وضعتُ اصبعي في الماءِ وبدأتُ
أنقِّطُ قطرات الماء في حلقِ الفراخِ وهي تفتحُ مناقيرها الغضّة، نظرَ والدي
إليَّ بتمعُّنٍ ثمَّ همسَ متمتماً مع أمّي، كنتُ غائصاً في عوالمِ الفراخِ،
أُغدِقُ على حلوقهم العطشى مطري، سمعتُ والدي يقول لأمّي هذا الولد (مو عادي)،
فقالت أمّي (خلّي) يفرح مع فراخ العصافير، فقال لها (خلّي) يفرح لكنّه شديد
الحساسية إلى درجةٍ لا يتصوّرها عقلي، وأخافُ عليه من الجنون، جنونُ الحبِّ
والعشقِ، جنونُ التواصل مع اخضرارِ الكونِ! .. فَرَحْتُ عندما شبعَ الفراخُ
ثمَّ أمسكتُ الفراخ بيدي وبدأتُ أداعبُ زغبها النديِّ، أتذكَّرُ أنّني قبَّلتها
..كنتُ أشعرُ وكأنّها تشكرني، كانت عيونها الصغيرة تنظرُ إلى عيوني، هل فهمَتْ
أنّني لستُ أباها ولا أمّها؟ هل عرفَتْ أنّني دمعةٌ ساخنة تخرُّ على فضاءِ
الروحِ؟.. شوقٌ جامح إلى هلالاتِ العشقِ، ومضةُ فرحٍ طريّة فوقَ جباهِ النسيمِ،
طفولةٌ مفروشة فوقَ أمواجِ البحرِ. تعالي يا طفولتي أريدُ أن أفترشَكِ فوقَ
أجنحتي لعلَّكِ تفتحي أمامي أبوابَ النعيمِ.
ستوكهولم: آب (أغسطس) 2003
|