انعدام الوزن والذقون
لا وزن لي، لا كتلة تحملني، لا وزن للأخلاق، لا وزن للتاريخ، لا وزن
للعلاقات، لا وزن للمروؤة والشهامة والفراسة والقيافة، لا وزن للذبذبات
وللرنين، الوزن وزن نفسي، والوزن في هذه اللحظة وزن لمحة بصر خاطفة درجت ببالي،
لا تعير للأرض ودورانها اهتماما، ولا تسدي للتاريخ وأطرافه انتباها، لا تحظى
بالعودة ولا تنال من التقدم، تنهال عليها الأسئلة، وتنهمر فوقها التعليقات، ولا
تدري بأي أرض تدرج ولا بأي فضاء تمضي، لا تعلم من محتواها إلا ما يمليه عليها
الواقع المشؤوم، ولا تركن إلى الدنيا بما فيها إلا بما تمنحه إياها قسرا ومضة
خاطفة من ومضات الأحقاد وشرارات البغض ووابل من العقد النفسية، أو ما تنتابها
من موجات التخطيط المجرم ولوي الحقائق والضباب الكثيف والظلم المسموم. آه يا
سعيد يا صديقي الحميم ماذا أضيف ولا أراه يطرف عينا أو يظهر سنا أو يحيي تجعيدا
في جبهته، إنه المذيع التلفزيوني، هذا الحيادي الذي ينقط حيادا أبعد من المريخ،
نعم هو حيادي وسيصرفون له مكافأة مالية على حياديته وحرفيته، يتكلم عن جثث
مشوهة وأطفال يموتون تحت الأنقاض، وقصف وحشي لا هوادة فيه ولا إنسانية، إنه لا
يتأثر البتة، قلب من حديد أهنئه عليه، وأغبطه على رباطة جأشه وربطة عنقه.
أجابه سعيد متحرقا: معك حق فالأولى أن نتعلم الحيادية فيما لا يضر
مصالحنا، هي العولمة دون التعمق بحالنا والتقليد دون المسببات والظروف.
أضاف أحمد: لا وزن لي، لا وزن للاخلاق، لا وزن للتاريخ، ولا ما تؤديه
البشرية من الولاء لنفسها، ولا ما تعانيه القوانين الوضعية، ولا ما تركه
كونفيشوس ولا ما قاله أفلاطون أو اصطنعه بطليموس، ولا ما أيده الكتاب الأحمر
ولا ما خطتة السريانية ولا الهيروغليفية، ولا ماجاء في الكتاب الأخضر ولا في
صفحات المسلات من تشريعات حمورابي.
التفت سعيد نحو النافذة ثم أغلق الستائر وهمّ بتشغيل التلفزيون، عندها
أردف أحمد: لا وزن للعلاقات العامة والاتصالات ولا ما يدور بين البشر وبين
الحدود وعبر الحدود وبين المقامات الرفيعة والقنوات الفضائية والهواتف المحمولة
والذبذبات الثقيلة والخفيفة، والمصالح المتبادلة بعنجهية والشبكة العنكبوتية،
ولا وزن للعلاقات الخاصة بين الأفراد على الطريق وندماء الحياة والمترعين
بالشوق إلى المزيد من العيش والاستكثار من التنفيس لكل البشرية من البداية إلى
النهاية، والدرب واحد مقصود أو غير مقصود فلا أحد يحيد من البشر، ولا أحد يخرج
عن النهاية كيفما يريد وحسبما اتفق، ومن يريد قد لا يدرك ما يريد، حتى النفس
الأخير، ومن خرج حيا كما عيسى عليه السلام، ومن خرج مطمئنا كما محمد صلى الله
عليه وسلم فقد رحمه الله عزّتْ قدرته وجلّ جلاله، وإلا : " وقدمنا إلى ماعملوا
من عمل فجعلناه هباء منثورا" صدق الله العظيم.
أدار سعيد التلفزيون، لحظات ونشرة الأخبار في منتصف الأرض تبدأ: تحذير
غير رسمي، يا أصحاب الذقون الطويلة قصروها، يا أصحاب الذقون العريضة هشموها، يا
أصحاب الذقون المفلطحة دققوها، يا أصحاب الذقون المدببة ابردوها، يا أصحاب
الذقون العادية اهجروها. هز سعيد رأسه وقال: قبل أن أنظر إلى المرآة مرة أخرى
سأزيل ذقني، نعم سأزيلها.
قال أحمد باستغراب: ألم تحلق هذا الصباح؟
أردف سعيد: المذيع يتكلم عن الذقون وليس عن اللحى.
استجاب أحمد قائلا: سأزيلها أنا أيضا.
استنكر سعيد الأمر مضيفا: لا ، يجب أن نبقي واحدة، أما أنا فسأزيلها
بالكامل وأبقي على الأسنان والأضراس وأيضا اللسان والأربطة المحيطة به، وليس لي
بعدها من الأمر في الدنيا شيء فأنا مكبل الإرادة أساسا مربوط اليدين مكمم الفيه
ومقدم على ... لاشيء، فكل عام وأنا بألف ألف خير، أمشي وفي يدي فانوس الرؤية كي
يراني الناس وعلى رأسي ناقوس الخطر يدق ولا يتوقف، مع المشي أو خلال النوم أو
التفكير أو عند مشاهدة الأيام تطوي للوراء، وذلك كي لا أنسى ما أنسى وأحمل فوق
ظهري عبء أناس الأرض وهو ينزاح ذراعا خلف ذراع نحو هاوية الأمل، لا شيء أحلى من
الأمل في هاوية لا تبقي ولا تذر، ولا شيء أفضل من أمنيات تسبح في الأيام من دون
ذقون حتى لا يضحك أحد عليها لا من البشر ولا من الأحياء الأخرى.
أردف أحمد: بدأت متشائما دون وزن ولكنك سبقتني أيها الصديق، لا تنس أنه
ما زال هناك فكر عظيم يتمطى في غياهب العقول ويتصارع في مغارات الوجدان.
احتد سعيد قائلا: واقعي أنا في توقعاتي وتوجهاتي، حالم في حياتي وحزمي
المتهالك على أرصفة الوجدان الذي تتكلم عنه. لماذا لا ندمج عقلينا، عقلي وعقلك
لنصبح في حالة توازن غير مرعب، أنت بذقن كاملة وأنا من دون ذقن على الإطلاق.
أردف أحمد والابتسامة تعلو محياه: تعيرني ذقنك كل يوم ساعة كاملة عند
سماع نشرة الأخبار.
ابتسم سعيد بعد احتداده وقال: هذا ما لم أحسب له حساب، التوازن هو في
أنك تأخذ القسط الكامل من الضحك علىالذقون أما أنا فأصبح في أحلامي سابحا ضد
التيار ومع التيار وإلى كافة الجوانب دون تأثير الضحك على الذقون عليّ، وهكذا
عالمنا متوازن فعال لا يتخبط، الفكرة صائبة صدقني.
قال أحمد: والتطبيق!
أسرع سعيد بالإجابة: أتركه لك فأنت من يتم الضحك على ذقنه ولست أنا،
أنا لا أعرف من الأمر شيئا حينئذ.
قال أحمد: اتفقنا، ولكن بشرط.
انتبه سعيد وقد فوجئ بالإجابة: ما هو؟!
قال أحمد: أنت تشتري لي دواء وجع الرأس وشراب تخفيض الكولسترول وحبات
الضغط وجهاز تحليل السكري والأنسولين وترطب لسانك وأربطته بالدعاء لي على
الدوام.
أضيفت في 06/06/2005
/ * خاص القصة السورية
رائحة المكان
تحياتي القلبية،
الحنان والألفة والاستمرار،
أبي الكريم.
.. ملؤها المحبة والمودة والحنين.
... أتمنى... بخير وعافية من الله ....
هو ذا مظروف يتهادى بلون ربيع الأيام الفاتح، أطرافه مزركشة بالأحمر
والأزرق يتعاقبان على شكل معينات، وعبارة البريد الجوي مطبوعة على خده الأيمن،
وها هي ورقة زرقاء كسماء الصيف الصاحية أرفعها إلى شـفـتيّ وأقبّـلها ثم أنظر
إليها وإلى الحروف فيها وأطويها بعناية، وبلطف أدفع بها داخل المظروف، ألوان
الطيف تعانق أعطافي المتقوقعة على مودة عارمة تكاد تنبهر بأصداء الذكريات،
وتنساب على عمر الأحزان المتحرك، ولكن الذكريات ثبتت فيه وانطبعت على أروقته
وأكنافه. اتخذ المظروف مكانه داخل دفتر المواعيد كي يتم التصاقه ويُحكم إغلاقه
فلا تهرب منه كلمة ولا تنفذ منه رائحة الذكريات، هذا الدفتر المليء بإشارات تنم
عن وجع الرأس وسرعة الزمان وكثرة الأشغال، ثم نام المظروف هادئا في الدفتر حتى
الصباح.
سألني موظف البريد: رسالة عادية.
قلت: نعم عادية فيها سلامات وسؤال عن الصحة والأحوال.
استبشر وجهه وبانت نواجذه حين قال بلهجة السؤال: أقصد عادية أم مسجلة.
رددت الابتسامة وقلت: عادية.
استدار ووضع ختما على الرسالة وهو يسأل عن النقود، وما زالت آثار
الابتسامة على محياه. لم أعط للأمر انتباها إلا حين رمى الرسالة في كيس من
القماش معلق على عربة معدنية، قلت: على مهلك المظروف فيه عواطف أخشى أن تُخدَش
فتصحو وتهرب. أعاد الإبتسامة التي لم تنطفئ بعد وقال بصوت فيه مودة: أراك ما
زلت تستخدم البريد العادي أليس لديك بريد الكتروني أو جوال. كان الوقت مبكرا
والجو في الخارج يعلوه الغبار وقرص الشمس يحاول الوصول إلى الأرض وتكاد تسمع
صدى صوتي وصوته في صالة مكتب البريد، أجبته: لدي كل هذا ولدي أيضا (ماسنجر) كله
متوفر والحمد لله. قال مردفا: ولماذا ترسل رسالة فيها عواطف فقط وتكلفك أكثر من
رسالة جوال أو بريد الكتروني. قلت بأدب: أرجوك هذا شأني. فجاء معتذرا طالبا مني
الصفح بشأن تطفله عليّ فخجلت منه ورجعت نحوه بعد أن هممت بالخروج وقلت: لا عليك
يا أخي الكريم إنما هي عادة اعتدت عليها مع أبي وأنا في الغربة ولا أحب أن
أقطعها أو أكسرها، أخاف على نفسي من الجفاء العاطفي. أومأ وأرجع البسمة قائلا:
معك حق فالسرعة أفسدت أشياء كثيرة في حياتنا. أتبعته بقولي: خطي بقلم الحبر
السائل هو أنا يعبر عن مكنونات سريرتي، ولواعجي أبثها بحميمية ومودة لا تستطيع
أن تقارنها مع القليل مما تعطيك التقنية الحديثة، الزمن يتوقف مع كتابة كل حرف
باتجاه أهلي ويعيدني على موجات الأثير طفلا حانيا، أرجو أن تفهم قصدي، والمكان
في تلك اللحظات لحظات الكتابة ينبع أمامي، يتصابى وينتشي، يتباهى بوجودي ويؤيد
شكواي، يداي مشغولتان، فأتحسسه بأنفي وأملأ منه صدري شهيقا عميقا لا أتركه حتى
يحمر وجهي، وأنا لا أعترض على التقنية الحديثة ولكن كيف ننسى الماضي بحلاوته
وطلاوته، نضرب به عرض الحائط وهو ما أتى بنا ورعانا. كان منصتا بشغف ومرفقاه
على الطاولة التي بيني وبينه، استقام وقال: صدقت يا أخي أقسم لك أني تعبت من
الركض وراء الحياة المتفلتة وأتمنى أن أجلس ساعة أكتب فيها رسالة حميمية لأحد
أحبه، لم أفعل ذلك منذ عدة سنين. ثم استدار نحو الباب فقد تناثرت الأصداء ولم
ترجع فهاهو زبون يمشي باتجاهه ومعه طرد بريدي، قال لي: أرجو ألا تذهب. أخذ منه
الطرد ووزنه ثم دفع الزبون المبلغ وخرج. أكملت وقد عاد الصدى: كان أبي يعرف
أنني أدخن وأنا واثق أنه لم يخبره أحد عن الأمر ولم ير قط لفافة في يدي من قبل
عند زياراتي القليلة له، كان يشم رائحة ورقة الرسالة لا شك، كنت أدخن بشراهة
عندما أكتب دائما ولم أشعر بهذا، وعندما دخنت الغليون لفترة قالت لي أمي على
الهاتف تدخن الغليون فقلت كيف عرفت قالت من والدك، وقتها قنعت أنه يشم رائحة
المكان مثلما أتحسس أنا رائحة الذكريات هناك، كل واحد بطريقته، وبعد أن أخرجت
زفيرا طويلا ومزقت آخر لفافة ورميت آخر غليون من الشباك وصلتني رسالة منه يقول
فيها مبروك يا بني حافظ على صحتك. قال صاحبي وقد عاد إلى الاستناد على مرفقيه:
الله الله يا أخي، أعدتني إلى ذكريات لدي حميمة كدت أنساها في خضم العمل
والمسؤوليات المتزاحمة. ثم قص علي قصة من عنده. تركته هائما بلذة سامقة وخرجت
وقد تلاشت آثار الغبار من الجو فجأة وبرزت الشمس بعد محاولات بكل إشعاعاتها إلى
الأرض، وفي عينيّ بحر من الدمعات تترقرق وستخرج حتما لتنزل سيلا على الخدين،
خديّ أبي.
أضيفت في 25/05/2005
/ * خاص القصة السورية
صحن لا قط 3 أمتار للبيع
نزل الظلام على الأوجاع، أوجاع العمل، يد تتنقل بين الفأرة وبين مفاتيح
الكمبيوتر ويد فيها قلم يسجل معلومات تملى عليّ من سماعة الهاتف الثابتة، تقديم
العروض غدا وليس لدي وقت كي أحك رأسي بيدي، وهذا دماغي يرسل إشارات لتثبيط
مواطن الحكة كي أركز على المعلومات، انتهت المكالمة واستطردت بجهاز الكمبيوتر،
جاءت إشارة رسالة إلكترونية، دون شعور مني فتحتها ولو فكرت بالأمر لما فتحتها
لأنني مشغول جدا، وهذه هي علة الرسائل الالكترونية لا تستطيع ردها ويصيبك فضول
قاتل لفتحها مع أن أكثرها على الإطلاق لا يسمنك ولا يقدمك قيد أنملة، ولطالما
فتحتها فدعوني أقرأ ما فيها، ها هي دعاية تقول بالخط الواضح العريض: (صحن لا
قط 3 أمتار للبيع). لم أملك نفسي فقد توقفت عن العمل مليا وراح عقلي يتوه في
أفكار الدعاية، أنا جائع وهذا هو الصحن يأتي أمامي، هل هو صحن خضروات مسلوقة أم
فيه من اللحوم والشحوم ما يكفيني ليوم وليلة فأنا لم آكل منذ الصباح وهذه
العروض الثقيلة لن تكون جاهزة قبل الصباح التالي، سآكل الوجبة الدسمة فليس لدي
وقت لوجبة قادمة في الوقت القريب، ثم وقع نظري على لا قط، كيف تقول الدعاية لا
قط وقد مرت قطة صغيرة طولها أقل من 3 أمتار بقرب النافذة خارج المكتب منذ قليل،
هذا الإعلان مخطئ بقوله لا قط، ثم خطر ببالي لا قط كلمة واحدة فلماذا يترك
الإعلان فراغا زائدا بين الألف والقاف، فعرفت أن الإعلان يقصد لاقط وهو أي هذا
الصحن يلتقط الأشياء ليقدمها لنا، وهل يأتي الطعام مع ذبذبات الهواء ليلتقطه
الصحن؟! هل هي تكنولوجيا جديدة؟! ثم عرجت على 3 أمتار بعد أن عرفت أن اللا قط
هي لاقط من الالتقاط، فهذا الصحن يلتقط ثلاثة أمتار ثم يعرضها للبيع، لماذا 3
أمتار فقط ولماذا للبيع وليس للشراء! فأنا لست بائعا، ولماذا أحصل عليه حتى
يؤرقني كل يوم ويقول لي قم لتبيع على الأقل مترا واحدا كل صباح حتى ألتقط غيره،
وأنا مشغول جدا ولا وقت لدي لأضيعه في هذه المهاترات والمغالطات مع صحن لا أعرف
له أصلا ولا هدفا محددا، ثم وقبل أن أغلق نافذة الإعلان قرأت الجملة كلها جملة
لا تفصيلا، وعرفت أن هذا هو صحن لا قط فيه وهو لاقط وفيه 3 أمتار طولية أو
مكورة وهو للبيع وليس للشراء، ثم احترت في أمري فكيف أستعمله للبيع وأنا لا
أبيع شيئا إلا هذه العروض التي أحضّرها منذ يومين؟! ألا يمكن أن نشتري به؟ تركت
الحيرة فقد حان وقت أذان العشاء وادلهم الليل في الخارج بحق وأنا لم أغادر
مكتبي، لكن عقلي الباطن لم ينته من أمر اللغة وتلابيبها واستخداماتها، نقرتُ
على الفأرة نقرة واحدة خفيفة لكي أغلق الإعلان والشاشة بأكملها فصرخت الفأرة ثم
هربت مسرعة وهي تقول: جاء القط جاء القط. ضحكت وقلت لها ارجعي إنه ليس قطا بل
هو صحن لاقط ولا قط فيه لا تخافي.
أضيفت في 09/02/2005
/ * خاص القصة السورية
قصص قصيرة
البكاء من الأطلال
تركها تسرح في الزمان الماضي، لا تأبه لما يأتي به الزمان القادم، فستان جميل
ممزق في طرف الغرفة، الضرب لا يغني ولا يسمن من جوع، بل يوقظ الأمل المدفون في
انتقام لا أشد منه، وقد عزمت عليه.
عودي مع النور
عودي إلي كل صباح، شمسا تختبئ الأحزان منها ، لا أحب العتمة في ممارسة معاني
الحب، لا أرغب أن أؤدي طقوس النظر بعينين جاحظتين، عودي إلي كل ربيع مع إنعام
الطل على الأزاهير وانتعاش الروح من الندى ، وعندك كل الأيام ربيع، لا أرغب
تطويع الحب على مدفأة الاحلام، ولا ترويض الحب على مروحة الأمنيات، لا أعرف
تطريز الحب على أنغام سقوط الورق الأصفر .. عودي إلي كل ربيع. لن أكون.
مشكلة
حصل على رقم الهاتف من صديق ثم سألها عن العنوان، فتحت له الباب فولج منه مسرعا
نحوها وأشبعها تقبيلا، خرج بعد نصف ساعة فإذا بسيارته مهشمة بهراوة غليظة.
الواقع
وهي تمد يديها إلى الأعلى وتنظر بسلاسة إلى الشلالات المنحدرة بعنفوان وعفوية
قالت: أشعر كأنني في حلم. فجأة أخرج الزوج بطاقات السفر من حقيبة يده وأشار إلى
السعر بإصبعه الممدودة.
وجع الحواس
محاولا ثم محاولا لم يستطع تحديد روحي، فيها ندب وتنديد، فيها شجب وفيها
اعتراض، وفيها تسوّل للحقيقة، أقفل الحديث بلا محاولة جديدة، قال: أنت كيف تعيش
فحواسك لا تعمل! نهضت متثاقلا لا ألوي على شيء فأمره لا يهمني ورأيه لا يعيبني،
ثم في الليل وحدي صرخت متوجعا: لا للاحتلال والغطرسة اللئيمة.
فرجة
عينان شهلاوان لامعتان، دمعة واحدة، وهي تنظر إلي باحتباس، قالت باستفهام: أين
كنت. رفعت رأسي معتدا به ونظرت نحوها قائلا: كنت أروّح عن نفسي من غبارك. كان
رأسي عند نفسي مطأطئا خجلا. قالت: غباري هو غبارك لا يتركني أتنفس. لمحت في
عينيها انفراجا من الانحباس.
صرخة توجس
ناداه الخوف المجهول، في ردهات عتمة ليل يكاد لا ينتهي، أجفان العينين تتحرك
ببطء ، أخذ يصحو رويدا رويدا على أصوات النفائس والروائع وهي تختفي خلف انبلاج
أنوار الصباح.. ترحل عنه مع إطلالة كل يوم وتعود مع حلول الظلام، لا يراها تحت
جنح الليل العتيم، يفتح عينيه ويحملق، لا يراها ، لا يراها.
مدية صميمية
ولجت متوجسا من باب المطار أحمل مديتي في قلبي. كشفني جهاز الأشعة ولم يجدوا
معي شيئا. أحالوني إلى المستشفى الخاص بالمطار للتصوير المقطعي، وجدوها واضحة
تكبر وتصغر في القلب، حولوني إلى قسم الجراحة. هناك فتحوا القفص الصدري، ولجوا
إلى قلبي، شقوا الشغاف، أزالوا الصمامات مؤقتا، دخلوا إلى البطين ثم الأذين،
أخذوا ما أخذوا في الطريق، لا يهم، أقفلوا من جديد والخيبة تنهشهم وتتخطفهم، لم
يجدوا شيئا، لم يعثروا على أي شيء .
مصالح
قالت: ما أكثر الذكور
أجابها: ما أكثر الإناث
ثم قال: دوسي على رأسي وأنت منهن ولست بمثلهن بلا شك
قالت: لا، أنت إصعد على هامتي فلك القوامة
قال: لا ، لا، الحب مصلحة فردية.
الظل الثقيل
وهي ترمي بثقلها عليه أوجس منها خيفة فخفة جسمها ودقة أناملها لا تنم عن ثقل
ظلها، أزاح النقاب عن حجيرات قلبه فإذا هي تتفرغ من شحنات الحب التي تراكمت في
اليومين الماضيين.
أكثر من طريق
استدارت وهي تقول: أعرف طريقا آخر.
قلت بهدوء: لا تذهبي بعيدا، لا تتنكري للأحلام التي بيننا، عرفتك محبوبتي،
وعرفتك محجوبة. ثم رفعت صوتي متجها نحو ظهرها المتمايل بعيدا وهددت: إن لم
ترجعي قريبا سأحصل على قرار دولي باقتحام عالمك الساحر كي تتبرجي في الليل
أمامي وتفتحي مكامن ثروتك. لم تعيرني اهتماما.
احتواء
كلمتني بعفوية: ليت العالم يعرفني. سألتها هل تعرفين العالم؟ تبسمت باسترخاء
وأردفت: لا أعرف منه إلا أنت وأمي. قلت دون تردد: أمك على رأسي أما أنت ففي
كياني كله. قالت باستغراب: أأنت كرة أرضية!
الوقوف
على الجمر
لم يبق من البيت إلا إطار الباب وجزء من جداره عندما هرع أحمد إلى الأنقاض
يتفحص ما بينها وما حولها، هنا وفي هذه اللحظة تكمن مشكلته ومأساته، هنا وفي
هذا الزمن تنقض عليه المواجع تذبح نياط قلبه، هنا استفاق من حلم له عويل، أخذ
يقاوم ويقاوم راكضا حتى استنفر كل قواه، لقد نزل الصاروخ الأعمى من الطائرة دون
رحمة واتجه نحو المنزل الواقع في الشارع المقابل، سمع أحمد الانفجار فخاف
واختبأ هنيهة ثم خرج وقد لمح الدخان يتصاعد من محطة قلبه ومهوى فؤاده، إنه
منزلها، منزل عائشة، هدأت الدنيا إلا من أصداء دوي يخرق السكون العالمي ويطبق
على القلوب النائمة، تسارعت النبضات والتهمت الأفكار خلايا الدماغ الحاضر
والباطن، ثم توقفت الأفكار عند منزل عائشة بل عند عائشة بالذات، وتجمدت الأحداث
جميعها بين هموم العيش وبين الاحتلال والقضايا الإقليمية والعالمية عند عائشة،
أخذ يهذي ويصرخ باسمها وهو يركض مادا عقله وأفكاره قبل يديه لانتشالها وهي تزحف
ببطء نحو إطار الباب المهدم، قضى الصاروخ على أبويها وإخوتها الثلاثة ومزق
أجسادهم، وهي ترمي بما تبقى لها من قوة بجسدها نحو الباب تجر خلفها ذيلا من
الدم يتقاطر من ساقيها المهشمتين، وصور خراب الدنيا تتراءى أمام عينيها ويتداعى
تاريخ العراق أمام بصيرتها... لا لبلاد الرافدين مع الاحتلال البغيض، لا لكل
متآمر جبان، لا للحياة تحت جنح اغتصاب الشعوب ومصادرة حق الحياة..
هي في عيني أحمد العراق كله والمستقبل كله وكل شيء عنده، لا حياة له إلا بها
وهي تمد يدها نحوه عله ينقذها لأول مرة ولآخر مرة وفي إنقاذها يحيا العراق كله
وفي حياتها يتشكل رحم الحياة من جديد لبلاد جثم الظلم عليها سنين متعاقبة، هي
في عيني أحمد الحياة كلها ببؤسها وشقائها ثم بزينتها القليلة في أحياء تلك
المدينة الراقدة على شط فرات العرب، لأول مرة يلمس أحمد يدها فقد رآها منذ
يومين تشير إليه وتداعبه ببراءتها المعهودة، تبسم وأومأ برأسه علامة القبول وقد
آن الأوان ليأتي بأبيه وأمه لخطبتها، وهل يستطيع العيش بغير ذكرها أو من دون
حسها حوله وقد ملأت عليه سكون الليل وضوضاء النهار وأعملت فيه التفكير، وهي من
أوقد في نفسه معالم الطريق لحياة الشراكة الزوجية... وهو من رفض العمل والحياة
في بغداد وعاد إلى الفلوجة كي ينعم برؤيتها وهي تنضج على نار هادئة في فرن
الحياة تحت أجنحة أبويها، كانت قرة عين لهما وهما يحترمان أحمد ويقدران نواياه
الحميدة..
قفز أحمد فوق الطوب المتكسر وأعجاز الأخشاب المبعثرة ثم أمسك بحافة الإطار بيد
ومد الأخرى نحو عائشة وعائشة تمد يدها المرتعشة بإعياء ووهن، ها هو يلمس يدها
المغبرة الناعمة لأول مرة في حياته وهي تصارع الحياة والموت معا، ارتفعت اللهفة
ولامست القلوب القلوب، ما إن لمست يده يدها أحاط بمعصمها متلهفا ومتوجسا
ومتهافتا، صرخت متأوهة بصوت تعب مكتوم: أحمد أحمد. ثم فجأة مال شعرها وتبعه
رأسها مرتطما بالأرض تحت قوس إطار الباب وهذا ذيل من الدم ينسلُّ إلى داخل
المنزل المتهدم، ترك يدها ووقف ينظر إلى الجثة تحت قوس الباب، يد غالية حانية
ممدودة نحو الأمام خارج المنزل المهدم، وقف يتأمل المنظر بخشوع ويندد بنقم
الحياة، قال إنا لله وإنا إليه راجعون ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين، أتته
من خلفه أمه بشرشف غطى به شعرها وجسدها، وقف على كتل أحر من الجمر، وقف على
عتبات جحيم المحتل ينظر إلى الرافدين وهما يتهاديان نحو شط كل الصدور، وقف يمزج
الدم بالكرامة والإباء وهو ينبس كلمة الحق فوق جثث الغاصبين، اقتنى السلاح ثم
اختفى عن الأنظار رويدا رويدا، وراح إلى حيث يدري.
أضيفت في
02/02/2005
عاصفة شمسية
انتبهتْ إلى عينيها تنظر إليه برغبة شرسة، وترمقه بعاطفة مدفونة، هوى عليها من
مكان لا تعرفه، تقاطرت الأنسجة من كل صوب تلفحها وتلفعها ألوانا وألوانا من
الحرير، وهي تتفحصه بشوق إلى كلام وكلام، هل شغفها حبا وهو يعبر فوق الجسر
الخشبي يتهادى بطوله لا يبالي بشيء، أنهت المحاضرة الأخيرة لتوها وهي في طريق
عودتها إلى غرفتها عبر المنتزه الرئيسي للجامعة، من حولها التلال والجبال،
تتوجها قطع الثلج الناصعة تحت شمس ساطعة مشعة لولا أن الحرارة تقترب من الثامنة
في أوائل آذار، الغزلان البرية على السفوح القريبة حذرة من المتنزهين وهي تعدو
فرحة بذوبان الثلوج مستقبلة العشب الطري اللذيذ بعد غياب، وأوراق الشجيرات
الصغيرة الطرية تنتظر أفواه الغزلان كي تلثمها ثم تمضغها، استدار نحوها وأوقفها
في منتصف الجسر بادئا بالاعتذار ماداً يده وفيها آلة تصوير، غالبت نشوتها
المكبوتة، واستقر هو بجانبها، ابتسمت ومدت يدها وهي تنظر إلى تعبيرات وجهه
وحركات جسدة وقوة ساعديه، تفاعلت النظرات، طلب منها أخذ صورة فمشت للخلف ببطء
إلى طرف الجسر، أخذت صورة ثم صورة، اقترب منها وهو يمد يده لاستعادة الآلة،
قال:
- من المؤكد أن الصورة جميلة لأن عينك أخذتها
ما أسعدها، كلمها قبل أن تبوح بما في بالها تجاهه، حقق ما رغبت به ، نفسها
تتوثب بشراهة، هل ترمي بجسدها نحوه وتلقيه أرضا أم تفتح يديها وتستلقي سابحة مع
الهواء البارد. إنه رقيق بحذر، وجذاب بعجب، سألها عن البحيرة خلف المنتزه
واستفسر عن المنتجع حولها وعن الجبال والغزلان والشمس الكبيرة الباردة، لم يمض
على قدومه إلى هذا البلد سوى أسبوعين، أتى لإكمال دراسته في هذا البلد الغريب
وليست الغربة جديدة عليه، فجأة اهتز الجسر مصدرا أصواتا بصرير، توهما أنه
يتصدع، توقفا عن الحركة، أمسك يدها وتمسكت بيده وخاصرته، ضحكا ثم خرجا إلى
العشب والزهر وأوراق الشجر، نسيا ما حولهما واتحدا في فكرة واحدة تمضي وتهرع
بين قلب وقلب، شرارات تنبعث منها نحوه فتشحذ أعطافه، وأشعة منه تنهال عليها
فتؤججها، وأوراق غضة طرية تنتظر الغزلان لتهبط وتقضمها بعد رحيل المارة
والمتنزهين، انتهت به إلى غرفتها يرشف القهوة ويأكل فطيرة قالت هي من صنع
يديها، عبرت بها الحياة إلى شطآن سعادة من حولها بحار نضارة مكشوفة وحيوية
مفتونة، وعرفت الكرة الأرضية في لحظات ألحانا متناغمة متناهية في الدقة على
أوتار المدار، والشمس تصدر عواصفها المتأججة، من بعيد يصل نورها الدافئ دون دفء
والعاصفة تمتحن سلاسة الدروب في الطريق عبر القمم الجبلية البيضاء.
وبين ليلة وأخرى تحتدم الجبال برؤوسها، العشب تحت الندى، وأوراق الشجيرات الغضة
تلوكها أفواه الغزلان، هما يجلسان على السرير يرشفان القهوة ويسبحان في الكلام
والألحان، نفس القهوة ونفس الفطيرة، السرير صغير، وأضواء رؤوس الجبال تصد وتبعد
ما تبقى من عواصف الشمس أثناء النهار، يخرج هو مع طلوع الفجر، ينسل من باب
الغرفة قاصدا مسكنه، يكمل مانقص من نوم، ترك وراءه عبادات وترك وراءه مستقبلا
يصفعه على أم رأسه كلما عاد إلى رشده، ترك وراءه عواصف تتعثر في حفرات الطريق،
وقد أعجبته شراهتها المستطيرة، نهمها الغرائزي، توقدها الفارع، وسكونها المريب،
لم يأبه لتحليل تصرفاتها فهو في غمرة الألحان الفضائية، والانفعال الجرار،
واتقاء العواصف دون دراية، والعشب تحت الندى، لم يكترث بما عانته هي من الوحدة
والعزلة وما أتاها من مساوئ الاضطرابات النفسية قبل لقائه، تخبره بما كان، وهي
منهمكة في أفق السرير وحوله والجو يميل إلى البرودة في الليل والغزلان ما تزال
تهبط من أجل الأوراق الشهية الندية، يسمع القصة تلو الأخرى ليلة بعد ليلة وهو
يعب من تلك العلاقة النابضة بالعشب، وينهل من تلابيب السكون المريب مع الندى،
تقول وتقول عن الماضي وعن التفكير بما هو آني يثير العواطف نحو عواصف الشمس،
أخذ الملل ينسل إلى أفكاره والحذر ينسدل فوق شغافه من قصص لا تنتهي حول الظنون
وحول عنفوانها الماضي المتعسف في خوض غمار الآتي من الحياة، ثم بدا له جلياً،
كيف لم يره أو ينتبه له من قبل؟! لم يكن في هذه الحدة، لا لم يكن، ربما غطته
العواطف المحتدمة وسترته الأفكار السطحية من عشق مزيف، لا عليك لعلها مذبذبة
ومتشاطرة، وسوف أجد طريقي بعد حين في شعب آخر من شعاب الحياة، والجبال ما تزال
تصد العواصف الشمسية أثناء النهار وترمي بنفسها متثاقلة تتنفس متعبة بذراها
البيض في رقدة الليل وقد تخلصت من الغزلان إلى السهول المجاورة حيث العشب
والأوراق، عاد ليستفسر عن نفسه فكيف يسبر أغوار غيره، المهم أن أحصل على ما
أريد وأجد الرغبة والأهواء في الشراك، ثم شاب نفسه الحذر الشديد وانتابت قلبه
الشكوك، ماذا تريد هي منه، وكيف يشحذ أفكاره للمضي إلى الصواب ؟
ما زالت الغزلان تتحسس الأرض وتلتهم أوراق الشجر التهاما، وهاهو الندى يتكاثف
رويدا رويدا تحت براثن العتمة، لم يأن الأوان كي يترك السرير وينسل من الغرفة
آيباً إلى مسكنه، تململ على حافة السرير ، أحس أنها أيقظته، أخرج رأسه من تحت
الوسادة وكاد يسقط على الأرض، شعر بشيء بارد يلمس عنقه، يؤلمه قليلا، انتفض
وعاد إلى حيث كان، كانت هي جاثية على صدره، قالت بيقين بارد وعينين مشدودتين:
لو تحركت انغرست السكين في عنقك. نظر نحوها ببرود، وهو يقلب افكاره، إنها سكين
على رقبتي، قال:
- لماذا أيقظتيني، كفاك مزاحا، كم الساعة؟
وقد أيقن أن الوقت مازال ليلا حين أردف:
- أراك لا تردين ولا تتحركين، انتهى اللعب!
تقلصت عضلاتها وتقارب حاجباها من بعضهما حين قالت:
- أنا جادة فيما أقول لا تتحرك وأجبني
- كفاك هراء إنه منتصف الليل
صرخت وعيناها تبرقان من الغيظ في ضوء الليل: - هذا هو أفضل وقت كي آخذ حقي منك
يا ...!
تظاهر بالضحك وقال: - حقك بهذه السكين ، ما الأمر؟! هل جننتِ؟
- يا مغفل يا ناكر الود يا نذل، اتخذت مني ألعوبة تفرغ نزواتك عندي وترمي
بعواطفك الكاذبة في قلبي ولا تشعر بي وها هو الوقت حان ...
- ألعوبة ونزوات ووو..
لم يفهم شيئا وقد رأى إمارات الغضب الحقيقي في صورتها، هل يرى ما بداخلها الآن
وهل هذه هي حقيقتها؟! وأردفت هي بحنق:
- أخبرتك مرارا وتكرارا ولا فائدة منك.
لا فائدة منك، لا فائدة منك، قال في نفسه وهو يفكر بالخلاص من هذه الورطة. هل
ماتت الغزلان فلا أوراق ندية! أم هربت الجبال وتقاعست وعواصف الشمس قادمة!
والآن ماذا يفعل! أيقوم بسرعة خاطفة بعد أن يضرب يدها بعيدا عن عنقه، لا.. لا..
هذا خطر ! أم ينسل إلى الأرض متدحرجا ثم ينهض مسرعا!
سالت بضع قطرات من الدم على عنقه، أحس بها وما إن مد يده لتمس مكانها حتى ردها
ثانية من حيث أتت عندما أحس بحد السكين يضغط، ثم صرخ مدركا خطورة الموقف:
توقفي، توقفي ، لنتفاهم.
- سأذبحك وأقول أنك هاجمتني لتغتصبني، تدبرت أمري وأعلمت صديقات لي أن رجلا
غريبا بصفاتك يطارني ويهددني.
- حسبتك ترغبين بعلاقة مفتوحة
- خطر على بالي ولكن لا أمان للرجال ولا عهد لأمثالك عندي
- ماذا تريدين الآن، الزواج ؟!
كانت أسنانها تصطك ويدها الملتفة على مقبض السكين ترتجف حين قالت:
- تهزأ مني أيها الوغد القذر، هل نسيت قولك لي استغلي وجودي هنا فأنا في فسحة
ونزهة وسأعود إلى بلادي..
مرت على ذهنه تلك الخواطر بسرعة البرق حين كانت تخبره عن زوج أمها الذي مات
مقتولا بعد أن كان يتهجم على أمها بحضورها ويشبعها ضربا حتى الإغماء، وقد كبرت
وكبرت وهي ترى ذلك النذل ينهال عليها وعلى أمها ضربا تتفتح منه الأجساد وتدمى
النفوس، وكيف ينسى تلك القصص الدنيئة المتوالية عن أبيها وعمها وأختها وغيرهم
من عائلتها، ثم عادت له تلك القصة حين أضحت أمها ذات ليلة في المستشفى بين
الحياة والموت وزوج أمها في المطبخ متمددا وسكين كبير منغمس في ظهره، أترى كانت
تبالغ في قصصها وسكونها المريب، أهي قاتلة زوج أمها!! هذه هي عواصف الشمس
تتعدّى الجبال وتمحق العشب وتيبس الأوراق.
تحركت يدها بعصبية على عنقه فصرخ من الألم الحاد وفي لمح البصر خيل إليه أنه
انتصب واقفا لا يرى من الدنيا شيئا سوى كوة تكاد تضيء من الأمل في توبة لعل
الكابوس يغلق بابه.
|