قصة فجيعة جداً
ها قد غدونا في هذا الزمن أسرى لمجموعة متراكمة..
متشابكة.. متراكبة.. من الصور.. ولا عجب.. فهي تغزونا من كل حدب وصوب..
تتسلل هذه الصور إلى قاعنا النفسي – وغدت المهيمنة بلا حرج على عقلنا
الباطني..
هبت علي هذه الخاطرة.. وأنا أتذكر رؤيتي ليلة
البارحة..
وقد مرت علي في لحظات ثلاث..
في اللحظة الأولى.. رأيت ياسر عرفات.. وهو يحمل
بندقية في يمينه.. وغصن زيتون في يساره.. وفجأة هوى عرفات..
في اللحظة الثانية.. رأيت رجلاً لم أتبين ملامحه..
دار الرجل دورتين حول ياسر عرفات.. التقط الرجل غصن الزيتون.. ومكثت
البندقية في يمين ياسر عرفات وهو ملقى..
في اللحظة الثالثة.. ظهر الرجل الذي لم أتبين
ملامحه.. حاملاً غصن الزيتون وقد ذبلت أوراقه.. وتهدلت أطرافه.. وجف عوده..
تنبهت من رؤيتي.. ومازال الرجل متشبثاً بحطام غصن
الزيتون.. !!
وقد ظل له رافعاً حتى تجمدت يداه ..!!
في اليوم الرابع عشر يكتمل
القمر
قالت لي الحسناء.. وقد تيمتني شعراً وهياما ورواء:
-دع أوهامك الحمراء وأنتظر، في اليوم الرابع عشر
يكتمل القمر..
وتغابيت، وقلت:
-ما الذي تعنين.. في هذا الرنين.. أما من سبيل.. أما
من حنين..!!
فتمايلتْ.. وتهاديت.. وهمهمت:
-ويحك من غر جهول.. ها أنت هاجرت التراث.. ونسيت ما
قال المغني وهو يعدو في الحقول..!!
دون مني رحت أصغي لصدى من ذاكرتي.. أومأت لي جدتي،
وهي ترنو للقمر.. وتصطفي منه العبر..
وتقول: سبحانك رب البشر..
ها دورة خصبنا، تهتدي.. نحن النساء.. بهدى ملك
الضياء.. وهو يسري في السماء.. !!
قلت في ذاتي، وقد أطربني هذا القران:
-صدق الشاعر العربي.. حين أرسى بين الحسن والبدر
قران.. !!
حماري وجدتي وأنا
حين كنا نعيش في قريتنا – في حوران – في أعوام
الخمسينات من القرن الماضي.. كان لدينا حمار أبيض اللون، قوي البنية، شرس
الطباع.. له نهيق مميز يعرفه القاصي والداني.. لم يتوان قط عن لبطي وغيري
من الصبية، ورمي مراراً أرضاً عن ظهره...
أتى زمن، قرر فيها أبي، أن يتدمشق ( من دمشق)، وقد
ضاق ذرعا بحياة الريف الحوراني ( البائس).. فلا نهر ولا شجر.. فعمد إلى بيع
ما نملك، من عنز وغنم.. وحمارنا الفظ الطباع..
تركنا القرية، وبقيت جدتي ودجاجاتها، وقد رفضت
الرحيل. ومن يحرس الدار قالت.. وأردفت تتمتم بصمت.. دون أن تعرف شاعرنا
الراحل محمود درويش " إن البيوت تموت برحيل أهلها.."
كنت بدوري متعلقاً بحياة القرية.. ففي أول فرصة
مدرسية.. حملت ذاتي وعدت مسرعاً والغبطة تتملكني إلى مهبط راسي القرية..
بفرح عارم استقبلتني جدتي.. ضمتني بحنان.. ثم طفقت
تحدثني عما لديها من أخبار وأفكار.. وفجأة تملكها الضحك. وحين سيطرت على
ذاتها، أخذت تقص علي.. أفعال هذا الحمار الشيطان.. كما كانت تدعوه..
قالت: صبيحة اليوم التالي لمغادرتكم.. فوجئت بالحمار
على باب الدار.. يدفعه برأسه.. كأنه يود اقتحامه.. وأخذ ينهق.. ويرفس الأرض
بحافره..
وأردفت تحكي والتأثر باد على محياها: دمعة حرى أو
اثنتين.. سالتا.. خرجت إليه فتحت له الباب.. وبسرعة البرق (وكانت قد اعتادت
على هذا التشبيه البديع) إلى مربطه دخل.. وهدأ وسكن..
جاء صاحبه باحثاً عنه.. وقد قدر لجوءه إلى دارنا..
وحين أراد الرجل سحبه بقوة الجر.. أدار له الحمار
قفاه ولبطه.. ونهق، ولم يكتف.. بل أطلق تلك الفعلة.. ( أطلق ريحاً.. حسب
التعبير الذي قرأته في طفولتي.. في رواية كوخ العم توم )..
لم يستطع الرجل جر الحمار.. تدخلت جدتي.. وربتت على
ظهر الحمار وقادته.. إلى حيث يرغب الرجل..
تكرر الأمر في اليوم التالي..
وعاد الصاحب.. وكان هذا ملاكاً كبيراً في القرية (
كولاكاً – حسب التعبير الماركسي).. لديه الخير الكثير.. وقد قدم له..(
للحمار).. كل ما طابت له نفسه.. من تبن وحشائش وقشور البطيخ والعلف
والشعير.. وعامله بلطف كبير.. وربت على ظهره.. وخصص له مربطاً لائقاً
بجلالته.. بيد أن الحمار لم يقدر ما حصل عليه من نعم.. وفضل حياة التقشف في
مربطه..
تكرر الحال وسار على هذا المنوال.. حتى يئس منه
صاحبه..
وأخيراً.. عقد هذا الصاحب اتفاقاً جنتلمانياً مع
جدتي، أصبح بموجبه فيها الحمار سيداً في عرينه.. يأتي مربطه في دارنا،
حينما تنتهي مهامه..
وهكذا درج الصاحب على حمل العلف إلى دارنا.. وتقوم
جدتي بدورها.. في إقناع الحمار على خدمة الرجل..
قلت لها.. أين هو الآن.. قالت في مربطه في
التبان..(حجرة مخصصة للتبن وللحمار فيه ركن صغير=مربطه)..
قفزت مسرعاً.. ودلفت التبان.. كان منظراً رائعاً..
نهق الحمار واستدار ناظراً إلي.. وللمرة الأولى كان بيننا سلام وربت.. دون
خصام.. وبكيت.. وفي ذاتي همست.. حمارنا وطني مخلص متعصب شوفيني.. نحن تركنا
الدار وهو يرعاها..
عندما أتذكر حكاية حمارنا في أيامنا هذه.. تأتيني
قصيدة محمود درويش.. مكيفاً إياها.. قائلاً..
لماذا تركت الحمار وحيداً يا أبي.. والدار ..!!
ها قد غدونا في هذا الزمن أسرى لمجموعة متراكمة..
متشابكة.. متراكبة.. من الصور.. و لا عجب.. فهي تغزونا من كل حدب وصوب..
تتسلل هذه الصور إلى قاعنا النفسي – وغدت المهيمنة بلا حرج على عقلنا
الباطني..
هبت علي هذه الخاطرة.. وأنا أتذكر رؤيتي ليلة
البارحة.. مرت علي هذه الرؤية في لحظات ثلاث..
في اللحظة الأولى.. رأيت ياسر عرفات.. وهو يحمل
بندقية في يمينه.. وغصن زيتون في يساره.. وفجأة هوى عرفات..
في اللحظة الثانية.. رأيت رجلاً لم أتبين ملامحه..
دار الرجل دورتين حول ياسر عرفات.. التقط الرجل غصن الزيتون.. ومكثت
البندقية في يمين ياسر عرفات وهو ملقى..
في اللحظة الثالثة.. ظهر الرجل الذي لم أتبين
ملامحه.. حاملاً غصن الزيتون وقد ذبلت أوراقه.. وتهدلت أطرافه.. وجف عوده..
تنبهت من رؤيتي.. ومازال الرجل متشبثاً بحطام غصن
الزيتون.. !!
وقد ظل له رافعاً حتى تجمدت يداه ..!!
|