أصفر
لم يكن لونها يوما. يقولون إنه لون جميل, لكنها لا تحبه.
و في كل مناسبة للحديث عن الألوان و علاقتها بالأشخاصِ و الأفكارِ تقرأ موشحها
التالي :
"لونٌ لا يليق بشخصيتي و لا يناسب لون بشرتي. لم يكن لوني يوما فلم
يدخل في قائمة مشترياتي ولا اندرج في سلسلة أهوائي الغريبة. الفستان
الأصفر الوحيد الذي أحضرته أمي لبستهُ مرة واحدة فقط كرمى لها و دون أن
أنزع ورقة السعر من داخله دليل عدم القبول.
وفي إحدى محاضرات علم النفس عن التعود اختارني الأستاذ كنموذج و سألني
عن شيء أكرهه ليثبت أن هذه الكراهية مجرد عادة . أخبرته أني أكره اللون الأصفر.
قال :" بل تعودت أن تكرهينه." ثم بكثير من الفخر طرح تساؤله التالي:
"و ماذا لو أهديتك وردة صفراء(جورية) يفوح عبقها الجميل و تتكئ قطرات الندى
الصباحي على خدودها باسترخاء . ماذا ستقولين :أليست جميلة ؟" قالها و قد شعر
أنه أربكني أو وضع يده على خلل التعود الذي لدي.
قلت باستحياء و دون اقتناع : نعم .
لكني لم أخبره أن لا وردا أصفرَ ولا عطرا أصفر و لا ذهبا أصفر لفت انتباهي أو
استهواني لا بالرائحة و لا بالشكل و لا بالقيمة."
هنا ينتهي موشحها الذي تكرره كلما سنحت الظروف.
-توالت الأيام . رسمتْ لوحاتٍ جداريه لم يتسلل هذا اللون إليها و كأنه غيرُ
موجودٍ في الطبيعة.
لم تدهن أي جدار في بيتها بالأصفر و لا استخدمته في أي من قطع
الأثاث أو التزيين أو الستائر أو الديكور.
لم تشترِ لأولادها شيئا من ملابسَ أو ألعاب تحتويه.
كانت تبتعد عنه وتمر قربه كأنها لا تراه.
أما زوجها فقد صار يبتعد عنه في اختياراته. لقد وافق على أن
يبقى هذا اللون خارج عالمِهما, بل ربما كان هذا الشيء الوحيد الذي قَبِله دون
نقاش أو جدال.
-وفي
سهرة عائلية و بتواجد صديق العائلة المقرّب عارضتْ زوجَها بالرأي في إحدى
مقولاته.
ثار بسرعة و استشاط غضبا و رفع صوته عاليا لدرجة أن الصديق خاف على صوته
أن يختفي.
أما هي فقد صمتت احتراما لوجود الزائر. كانت هذه هي المرة الأولى التي
تطرق رأسا اعتادت على رفعه كرأس الطاووس.
لم تجادله, لم تقف في وجهه كاللبوة التي يطيش برأسها الدم
فلا ترى حينها سوى تعابير وجهه المتجهمة و لا ترى سوى لونَ الدم الذي
يهيج في عينيها هي.
حافظت على صمتها بينما هدّد و توعّد و أنذر.
ثم أوضح لها بجدارة أن الكلام في هذا الموضوع لا يحتمل نقاشا أو جدالا أو رأيا
آخر.
وقال : خطٌٌ أحمر. هل فهمت؟ أحمر! أحمر! أحمر!
أومأت له و هي تسأل نفسها: ترى أما من خط أصفر لديه؟
ثم بهدوء و بطء رفعت نظرها نحوه و هي متيقنة أن احمرار الغضب
سينتظرها هناك.
توقعتْ أن ترى وجها يفور الدم منه و يصبغه بالأحمر , لكن وجهه كان أصفر.
تفاجأت: " كيف هذا؟ لا بد أن الدم قد تسرب لتوه من وجهه و سيعود
بعد قليل."
غادر الضيف في نهاية السهرة . عاودت النظر إلى وجهه بعد أن هدأ و كان لا
يزال أصفر.
بل بدا كأنه امتص كل اللون الأصفر الذي حرمته منه.
الأصفر الذي كبته في سنوات حياته معها ظهر كجرعة زائدة على وجهه.
في اليوم التالي و قبل أن تسجل ملاحظتها اليومية التي اعتادت تدوينها في
دفتر صباحي أزرق و هي ترشف قهوتها, ألقت نظرة أخيرة.
و كان أصفر.
كتبت في دفتر الملاحظات: "إن هذا اللون متجذّر في بشرته.
كيف لم أنتبه إلى هذا من قبل.
يا للغرابة ! لقد كان أصفر دوما.
لكنه كان أحد أخطر و أهم اختياراتي."
مايا عبّارة الكويت 2009
أضيفت في 15/06/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة
جسر التشابه... الاختلاف
"إن التأمل السابق للموت هو التأمل السابق للحرية"
مونتاني
-البداية
مرّت أيام وأشهر وهي تعتقد أنها تشبهه وأنه يشبهها.. أنهما اقتُطِعا من صخر واحد
أو شجر واحد.. أو جُبِلا من رمل وماء بحر واحد.. أو أن لهما باختصار روحاً
واحدة. لمّحت بذلك له ولم تقله علانية. تخاف أن تفعل فيرمقها بنظرة سخرية: أن
أين أنتِ مني.. أين قلبكِ الصغير من قلبي.. أين روحك الأرضية من روحي
السماوية.. أين فضاؤك الضيق من فضائي الرحب.. أين مفرداتكِ البسيطة من معاجمي
الضخمة.. وأين ما تكتبين مما أكتب!!. تشابه الأرواح يجب أن يؤدي إلى تشابه
درجات النجاح والإخفاق.. التألق والخبو.. ولكن أين أنتِ من أنا!
شعرتْ بقولـه هذا من دون كلام، فما أن تُلمّح لـه بتشابه فكرة ما.. جملة ما.. رأي
ما.. شعور ما.. حتى يدور بؤبؤا عينيه نصف دورة ويعودا للاستقرار بعد أن يجعلا
العالم يدور بها نصف دورة ويعود بها ربع قرن إلى الوراء.. فتقول أنا لا شيء..
أنا لست سوى ابنة أشهر وأيام.. ما كان علي المقارنة معه أو المقاربة منه بشيء
من الأشياء.
"وإن تزامنت أفكاركما الغريبة معاً!" قال عقلها منتفضاً لسنواتٍ قضاها وهو يملي
عليها ما تفعل وما تقول وهو يعلّمها محاولاً وضعها على الطريق الصحيح.. فكيف
تنكر كل شيء وتستسلم لبؤبؤي عينيه اللذين بنصف دورتهما قالا: "أنتِ لا شيء". لا
تجيبه.. تتركه مهملاً لأنها لا تريد أن تعرف شيئاً.
-تغيُّر.
مرت أيام جديدة بدأت الألوان تغيّر ألوانها.. الأشجار تخلع أوراقها.. الجبال
تتعرى من ثلوجها.. السماء تبكي عليها.. الأرض على رحابتها ما عادت تسعها..
جسدها سجن.. البيت سجن.. الشارع سجن.. ووجوه الناس سجون مزخرفة ومصائد مغطاة
بالحشائش... ابتسامات العيون والشفاه هي إحدى وسائل الاغتيال المبطّن.. الغدر
يلاحقها لتكبو فيطعنها في ظهرها والغيرة تحاصرها من الجهات كلها. الجميع يغار
منها ويحسدها. "اللا شيء" في المقابل لا يحسد شيئاً.
لماذا كل هذا الحسد..! أتُحسَد عليه وهي التي لا تملكه؟ أيغارون من أنه حبيبها..
هو الذي ما منحها أكثر مما منحهم سوى بعض الكلمات. بل منحها الانتظار.. القلق..
الخوف.. تأنيب الضمير.. عقدة الذنب وذكريات يشوبها الرماد وطعم المرارة.. أعاد
لها ذكرى البكاء الأول المرير يعنّ على بالها كلما غادرها.. خوفاً من ألا يعود
كغائبها القديم.
يرون أنها تكبر لأنها تسكن في عينيه وترى أنها تصغر إذ يؤطرونها بإطار عينيه فقط.
صاروا يقتربون منها ليقتربوا منه. هو قال نعم لاقترابهم منه فما المانع من
معجبين جدد. حاول إقناعها أنه كرمى لعينيها يلاطف هؤلاء الوافدين فهم يقتربون
منه ليقتربوا منها. ألبس جوهر الأشياء أشكالها. لم تناقشه لكنها رفضت بصمت أن
تكون جسراً يمر عليه الوافدون إليه.
-لحظة تأمل
إلى متى هذه الفوضى.. إلى متى يتوجب عليها أن تقتنع بآرائه وأن تتخلى عن آرائها..
إلى متى ترضى بأن تكون جسراً للعبور.. للوصول إلى الضفة الأخرى.. ضفته.. ضفة
النجاة! تلوكها ألسنتهم.. تطؤها أقدامهم ونعالهم.. تسمع أغاني نصرهم وهم يعبرون
الجسر خفافاً ويصلون عنده ممتلئين. ولكنها الجسر ما وَصَلت مرة ولا وَطِئت مرة
الضفة الأخرى.
لا يمكن للجسر أن يستقر على أرض.. كُتِب عليه أن يظل معلقاً بين الأرض والسماء..
كُتِب عليه البقاء وحيداً وكُتِب عليه الحسرة والبكاء.. وإن هرَب خلسة إلى
الضفة الجديدة، سقط من عيني نفسه.. وإن عاد أدراجه لضفته الأولى التي انبثق
منها، لم تستقبله بيديها المفتوحتين. فهو رفضَ لِكبَر أن تدوسه الأقدام كتراب
أرض فداسته كجسر مرتين.. فهو طريق للمسير ووسيلة للعبور.
لكنَّ وجهتها يوم غادرت ترابها الأول كانت القلاع.. وأنّى لجسر الآن أن يرتقي نحو
القلاع!
الذاهبون لا يعودون.. جميعهم يعبرون باتجاه واحد.. اتجاهه.. وهي تقف متأملة
للكوميديا السوداء. مضحك أن يعبروا فوقك أبداً ولا تعبر مرة.. أن يصعدوا على
أكتافك أبداً ولا تصعد مرة.. مضحك جداً.. مضحك حد البكاء.
ومرة عاد أحد الذاهبين ليلقي عليها نصيحة. قال: اعبري نحو الضفة الثانية.. اعبري
مثلنا..أتريدين أن أتوسط لك عنده كي يدعك تمرّين؟.
ممضّ هذا الكلام وجارح.. من عبر فوقها يحاول أن يعبّرها.. أن يتوسّط لدى من قال
لها "لأجلك استقبلهم في أرضي" بينما كان يخطط لزيادة رقعة مملكته بأولئك
المرائين.
ذاك الذي ينصحها يتناسى أنه لا تنفع الوساطات مع الجسور، فبذلك تسقط إلى الأبد.
-بداية النهاية
كان لا بد من أن تعرّي الحقائق.. أن تنزع أثواب الممثلين.. وجوه المهرّجين
والبهلوانيين.. أقنعة المشاهدين التي يضعونها زمن العرض.. وكان عليها أن تذهب
أبعد من ذلك فتدخل وراء ستارة المسرح الخلفية لتجر الكومبارس الذين يلعبون
لعبتهم في الخفاء ولترمي بهم تحت الأضواء. كان لا بد من نهاية للأشياء..
والنهاية مثل البداية تبدأ بنقطة معتمة أو مضيئة، لكنها تبقى نقطة تتصاعد وتنمو
لها أجنحة حتى تتفجر كطائرة ملغّمة أو تطير بعيداً عنها بعد أن يدركها الجميع
جيداً فتكون بذلك درساً مفيداً.
اختارت لبحثها نقطة بداية كانت "الاختلاف". قالت: لكي تقاوم الشر ما عليك سوى أن
تواجهه بالخير.. ولكي تكتشف كنه الأشياء ما عليك سوى أن تجمعها بأضدادها في
بوتقة واحدة. وضعت نتائج مسبقة لبحثها.. فإما.. أو. إما أن تتماهى الأضداد
ببعضها بعضاً بحالة من انجذاب السالب والموجب.. ولا مانع لديها إن كان ذلك عن
عشق لما بينهما من اختلاف.. وليس عن طبع كسر الرؤوس من جهة والطاعة العمياء
والخجل الزائد من الرفض من الجهة الأخرى.
أما (الأو) فهو الابتعاد المطلق أو الاحتراق التام أو التنافر عن كراهية وملل من
التشابهات القليلة التي جمعتهما لوقت، وإن لم يشعرا بها بوضوح. وبذلك يعود كل
منهما أدراجه في اتجاهه القديم.. لا يلتفت أحدهما نحو الآخر في محاولة أخيرة
للوداع.. إذ لا يمكن له أن يصير مثلها ولا يمكن أن تصير مثله برغم المحاولات
الجادة التي باءت بالإخفاق.
ولكن كيف ستبدأ البحث! لا بد من مخطط له.. هل تبدأ من النهايات.. من الأبواب
المغلقة التي وصلت إليها المحاولات.. من الكلمات المصمتة التي انتهت عندها
الحوارات.. ومن أن لا جديد سيأتي بعد. أم تبدأ من البدايات.. بتقصي الحقائق
والأحداث وماجريات الأمور أمراً أمراً.. أم تستخدم أسلوباً توصيفياً.. أم.. أم
تستخدم خنجراً تغرزه في قلبها وينتهي كل شيء.
الانتحار وسيلة من لا يملك المفاتيح للحلول، لكنها تملك كل متطلبات البحث من
أزمنة وتواريخ.. من مذكرات مكتوبة أو محفوظة في ذاكرتها تدل على تقادم الأحداث
وكيف كانت تتطوّر كرّة وتعود للوراء أخرى. لديها دلائل الصدق ودلائل الكذب..
دلائل الخداع الأبيض والأسود.. لديها أقوال الناس ونظراتهم.. لديها العيون التي
ترمقها بلا رحمة.. لديها الدفاتر والأقلام.. دفاتر ممتلئة وأقلام فارغة.
الآن هي بحاجة من جديد إلى دفاتر فارغة وأقلام ممتلئة لتكتب عن الأحداث التي كتبت
عنها سابقاً، ولكن هذه المرة كذكريات وليس كأحداث تعاش. عليها أن تكتب عنها
باتجاه معاكس تماماً ومن وجهة نظر محايدة وبأسلوب موضوعي لا ذاتي. ستكتب بعقلها
لا بعواطفها. ما عليها سوى أن تبدّل كل كلمة تشابه بكلمة اختلاف.. كل كلمة حب
بكلمة كره.. انتظار بوهم الانتظار.. شوقها لـه.. بشوقها لتقرأ أو تسمع كلماته..
دموع حبها لعدم قدرتها على امتلاكه إذ تكون معه بدموع شعورها بالذنب وكرهها
لذاتها إذ تجالسه.. وما من مخلّص.
وما كتبته عنه كان عليها أن تغيّره. فبدل اتصالاته الكثيرة بها اتصالاته الكثيرة
بنفسه.. الحديث معها بالحديث عنه.. شوقه للجلوس معها بشوقه للجلوس مع حالة ما
في أعماقه.. وبدّلت كلمة "أحبكِ" التي قالها لها بعبارة "لا أحب إلا نفسي".. و
عبارة "ظلال قديمة لسواكِ كانت تعتريني".. "بظلال متجددة لها لا تزال
تعتريني".. عبارة "أريدكِ دائماً وأبداً" بعبارة "أريدكِ حالاً ولمرة واحدة".
هذا كل ما كان عليها أن تفعله لتقلب القصة من تشابه إلى اختلاف. لم يبؤ بحثها
بالإخفاق فلقد توازنت المعادلة التي ما كانت تتوازن على الرغم من كل الرموز
والدلالات والأرقام فيها حين كان بحثها مستنداً على عنصر التشابه فقط. صارت
معادلة صحيحة.. لم تكتشف خطأ أو خللاً في مكان ما منها.
فاجأها أن المعادلة لم تتوازن وحسب بل إنها اتّخذت أيضاً شكل الحقيقة التي أضناها
البحث عنها.
-لحظة ما قبل الصفر
الحقيقة التي ستتعرى لحظة يُنزَع عنها آخر ستار أيقنتْ بأن هذه الفتاة قد وصلتها
ولم يعد بينهما سوى شعرة. كمحاولة أخيرة من الحقيقة لأن تبقى عذراء قصوى حذّرت
الفتاة قائلة: إن وصلتِ قمتي فستخسرين الأحلام الوردية.. الأطياف الملوّنة..
أوراق أشجار الرمّان الحمر في أول الربيع.. قطرات المطر الأول في بداية
الشتاء.. التماع الصيف.. دفء الخريف وحنانه.. كل ذلك سيصبح كذبة لديك ولحظات
السعادة الوهمية ستولّي إلى الأبد. ستخسرين.. لن تكوني جسراً بعد اليوم..
ستسقطين مغميَّاً عليك إلى الأبد مع آخر رداء أو غلالة تسقط عني، فهل أنت
موافقة؟ وهل أنت مستعدة للسقوط؟ لديك فرصة أخيرة لتعودي أدراجك إلى كذبة
اخترعتِها وصدقّتِها وأدمنتها إذ أسعدتك وخدّرتك بعض الوقت.. كذبة التشابه.
-قرار حاسم
بتصميم الذي يحمل روحه على راحته وهو ذاهب نحو الشهادة.. بعينيه اللتين تفرغ
منهما الدنيا والأم والحبيبة.. وبصوتها القدري العالي قالت: فلأسقط ولتسقط كل
الجسور.. وليمروا بعدي بالقفز البهلواني.. ليخترعوا قوارب بكد إيمانهم.. طائرات
يحلقون بها.. ليعبروا على جثتي إن شاؤوا نحو ضفاف الخداع.. لتكن مسرحياتهم
كوميديا فقط.. كوميديا بيضاء.. ليبنوا بيوتاً ويشتروا عقارات.. ليكبروا فوق
تلال الكلمات المقتولة.. ليغردوا وليملؤوا الكون بألحانهم المسروقة. إنه لا
يشبهني ولا يشبه أحداً.. وأنا لا أشبهه ولا أشبه أحداً.. نحن مختلفان تماماً..
عن بعضنا بعضاً كما عن الآخرين.
-موت
انزاح الستار الأخير عن الحقيقة فكان لها شكل شمس بيضاء.. توقف نبض الأشياء.. يبس
اللوز.. احترقت الفراشات في النور الذي بحثت عنه.. هوى الجسر دفعة واحدة..
وماتت...
-كلمة أخيرة
في حفل تأبين الجسور كانت الكلمة الأخيرة للحقيقة، قالت: لأنها مختلفة كان لها أن
تسقط وتموت، ولأنها مختلفة كان عليّ أن أظهر لها أمام إلحاحها وجهودها الحثيثة
لمعرفتي. رأتني للحظة قبل موتها.. ولكني سأمكث أمامكم أعواماً ولن تتمكنوا من
رؤيتي لأنكم لا تشبهونها ولا تحاولون مشابهتها.. فلا أنتم تضحّون بكل ما تملكون
لأجل رؤيتي ولا أنتم تموتون.
حمص. أيار 2001
غودو ينتظر
كان غودو يأتي ويذهب دون أن يروه... أو أنهم لم يتعرفوا عليه.
ومرة قال لهم: أنا غودو.. تعالوا معي أيها المنتظرون، ووقف ينتظرهم، لكنّ أحداً
لم يعره اهتماماً. ظلوا يدورون في دوائرهم اللانهائية العبثية.
تفاجأ غودو فهو قد سمع كثيراً عن انتظار أولئك البائسين والمعذبين لـه.
فقال مستنكراً: أنا أتيت لأني قرأت في إحدى مسرحياتكم أنكم تنتظرونني بشدة وحين
انصعت لأمانيكم ولبنات أفكاركم وجئت لأخلّصكم لا تردّون على ندائي!! لكنهم
كذبوه قائلين: أنت لست غودو أنت كالراعي الكذاب ونحن قرأنا هذه القصة ولن
نصدقك.
أقسمَ بأنه غودو وإن تأخر بالقدوم، لكنهم أنكروا قدومه مجدداً وأقنعوه بأنه وهمٌ
لا يستطيع إنقاذ أحدهم.. فاعتماداً على ذات المسرحية هو لن يأتي وإن أتى لن
يروه.
أشاحوا بوجوههم عنه بينما ظلّ ينتظر الناس جميعاً بعدما كانوا ينتظرونه وحده.
وحين ملّ من الانتظار وشعر بالوحدة والعزلة... انضم للناس وانصهر معهم في
دوائرهم.
حمص 23/ 1/ 2002-
الباب يُطرَق من الداخل
"حاصر حصارك"
محمود درويش
كان كتابي الجامعي في يدي اليسرى وجهاز تحكّم التلفاز في يدي اليمنى.. وكنت أتابع
ما يُعرض من مشاهد القتل وتدمير المنازل فوق رؤوس سكانها الأبرياء الآمنين.
فجأةً طُرِق باب بيتي الحديدي بقوة وعنف لدرجة أن نوافذ البيت وجدرانه اهتزَّت
مرتجفة من الخوف.
ارتجفتُ بشدة ظانّة أن أولئك القتلة قد خرجوا من التلفاز.. وهم الآن يقفون ببابي.
"لا.. لا.. ما زال الوقت مبكراً على مركبة فضائية تُقلُّهم بهذه السرعة ودون أن
يلمحهم أحد". نهضتُ.. ونهضتْ معي ساقاي اللتان تقصّفتا تحتي كأغصان شجرة عارية
تهزّها ريح عاتية في شتاء موحش. تمهّلت قليلاً قبل أن أسأل: من؟ من؟..
لم يجب أحد.. فتحت الباب ولم أجد أحداً. لا بد أن الطارق قد غادر بسبب تأخري بفتح
الباب.
عدت إلى الغرفة.. وعدت لأتابع مشاهد الجرّافات التي تهدم دون أن تفكّر بالذكريات
التي تسكن أركان البيت.. بالكتب على رفوف المكتبة.. بكلمات خطّها ولد صغير وهو
يشعر أن كلماته كنز.
"ترى هل ينأى كتابي عني عمراً بأكمله إن تهدَّم البيت الآن فوقي..!".
كيلا أسمع أفكاري رفعت صوت التلفاز فارتفع صوت الطرق على الباب مجدداً. هل
أفتح له..؟ لا لن أفتح كيلا لا يدخل بيتي.. بل سأفتح وسأواجهه وليكن ما يكون...
لا أحب أن يقال عني ضعيفة فهو إن كان سيدخل البيت فلن يهمه إن فتحت لـه أو إن
لم أفعل... سيدخله قسراً، فلماذا لا أواجهه وأموت بكرامتي بدلاً من الموت
الذليل.
فتحتُ الباب.. لم أجد قبالتي أحداً... مددت رأسي قليلاً نحو الجهة اليسرى فرأيت
خيالاً لرجل يرحل.. وددت لو أناديه.. لو أصرخ به ليعود.. ليواجهني إن كان
رجلاً.. لكن لم تكن لدي بعد القوة الكافية للهجوم كوسيلة للدفاع. أغلقت الباب
وعدت إلى التلفاز.. رفعت صوته عالياً علّي لا أسمع صوت الباب إن عاد يُطرَق؛
لكن الباب طُرِق بصوت أعلى وبضربات أسرع.. نهضت بسرعة تجاريها.. فتحت الباب
ورأيته..
عاد يقف أمامي بقامته القصيرة.. برأسه الأملس الخالي من الشعر.. وجهه الحليق
وكرشه الضخمة القادرة على التهامي دفعة واحدة. نَمَتْ ضفيرتان على طرفي كتفي
الصغيرين.. ضمر جسدي قليلاً في بعض مناطقه ونَحُل صوتي.. وعاد كتاب التاريخ بين
يدي إلى خمس سنوات مضت، فبعد يومين امتحان الشهادة الإعدادية.. سألتُ الرجل عما
يريده.
بصوت أجش مبعثه رجل ضعيف جعل المال صوته عالياً، ولكنه ما زال جباناً قال: إلى
متى سننتظر.. إلى متى؟ أجيبي. قلنا لكم منذ أسبوع وإلى الآن لم تتصرفوا بشكل
لائق.. لن ننتظركم.. لدينا أعمال غيركم... لن أدفع أجرة يوم آخر للعمال.
أطلق قنابل شتائمه عليَّ واحدة إثر الأخرى، وأمام سيل من الكلمات النابية لم أجد
لدي سوى أن أرجوه... رجوته أن ينتظر فلا يهدم الجدار المشترك بين بيتينا.
ـ لن ننتظر... ولماذا الانتظار.. أنا اشتريت هذا البيت الأرضي القديم لا لأسكنه
كما هو، بل لأهدمه وأبني بناية مكانه.. يجب أن أبني بنايتي هذه.. ابني في الصف
التاسع وبعد ثلاث أو أربع سنوات سنزوجه.. أين أزوجه..؟ على رأسي؟
ـ لكن..!
ـ ماذا..!
ـ هنالك حديقة وحوض يحوي نباتات وشجيرات ورد وشجرة ليمون.. فكيف...!!
ـ هل هناك زجاج؟
ـ لا..
ـ إذاً لا يهم.. أين إخوتكِ؟
ـ أنا وحدي.. انتظرْ حتى أتصل بهم... لحظة من فضلك.
كنتُ لا أزال ناعمة على الرغم من أن صوتي علا بعض الشيء. ركضت نحو الهاتف..
ضفيرتاي سبقتاني دون أن تجدا مكاناً تستقران فيه.. وجهي أصفر وعيناي تائهتان.
اتصلت بإخوتي فلم أجد أحداً منهم في مكان عمله. أسرعت نحو الباب.. ناديته:
يا.. يا .. يارجل أنا لم أجد أحداً.
أجابني بصوته العالي والذي لا يتناسب مع جسمه الضئيل وبعينيه اللتين تتطاولان على
طفلة: حسناً.. لن نهدمه الآن... هنالك جدار لم نهدمه بعد.. سنهدمه ثم
نعود إلى الجدار المشترك بعد قليل.
ـ إذاً بعد ساعة.. إلى أن يأتي أحد منهم.. موافق؟..
ـ نعم بعد ساعة.. جاؤوا أم لم يجيئوا.
أغلقتُ الباب مؤقتاً بينما ظل صدى صوته يتردد في أذني.
بعد قليل جاء إخوتي.. ارتميت عليهم بالبكاء: سيهدمون الجدار الذي يسترنا من
الشارع والذي يقي الورد من الرياح.
ـ إن هذا الرجل يهذي ولا شك.. لا تبكي.. دموعك أغلى من كل الجدران.
ـ ولكن ماذا ستفعلون؟..
ـ لا شيء سنتركه يهذي ويعوي.. نحن مستعجلون سنسافر إلى العاصمة... لدينا صفقة
مهمة.
بثوان أحضروا أشياءهم وأغلقوا الباب راحلين. خلفوني وحيدة بين جدران البيت الذي
سينقص جداراً حين يحين موعد الإنذار بعد نصف ساعة.
أمران دفعاني للعمل.. قلقي على نباتات الحديقة وخوفي إذ أحتمي بالبيت من الشارع..
أن أصير في اللحظة ذاتها مع الشارع وجهاً لوجه دون ستار.
ركضت نحو جدار الحديقة.. كان لا يزال شامخاً.. وبدا لي أن هراواتهم ستستغرق وقتاً
طويلاً حتى تتمكن من هدمه وأن أيديهم ستتعب إلى الأبد..
بسرعة بدأتُ العمل.. رحت أحفر حول شجيرات الورد، نزعتها ثم نقلتها إلى الحوض
الآخر. اتصلت بجارنا منسّق الحدائق وجاء مسرعاً. نقل شجرة الليمون إلى الحوض
المقابل.. واتفقت مع عامل نعرفه على أن يحضر مواد بناء ويأتي حالاً. بعدها كنت
مستعدة لأن أسمع طرق الباب.
طُرِق الباب بعدد أقل من الضربات وبعزيمة أضعف وبصوت أخفض.. أو هكذا شعرت.
بدأ قميصي يضيق عليّ، ولا يحتويني. ضاق بنطالي.. انفلتت ضفائري واستطالت قامتي..
تفتقت براعم الخوف والخجل عن قوة وثقة بالنفس.. فتحت الباب وبصوت واثق قلت له:
نحن جاهزون لهدم الجدار.. واتفقنا مع عامل على أن يبني جداراً آخر على بعد
خمسين (سم) من الجدار القديم وباتجاه بيتنا. وأنت اترك خمسين (سم) بعيداً عن
الجدار القديم من طرفك ثم ابنِ جدارك الخاص بك.. بالعلو الذي تستطيع وبالسماكة
التي تريد. أما مكان الجدار القديم والمئة (سم) الجديدة فسنتركه للهواء المخنوق
بين الجدارين الجديدين إلى الأبد.. إخوتي لن يعودوا حتى المساء. بإمكانك أن
تهدم الجدار فلقد نقلت محتويات الحوض.
نظر إليَّ نظرة أكّدتْ لـه أنني أنثى وإن كنتُ قلتُ وفعلتُ ما مضى.
حاول أن يريني نظرته تلك ثم قال: سأتمهّل حتى يعود إخوتك.. أليس الجار للجار!!
مزامنته لعبارته الأخيرة تلك بحركة من يده على ذقنه جعلتني أكثر تصميماً على أن
يهدم الجدار. شعرت أني أصبحت في مكان القوة إذ أطلب هذا. انقلبت صورته
تماماً. الجار الجديد مهرّب الآثار والذي لابد قد ابتلع أو خبأ تماثيل عدة في
كرشه.. لم أعد أراه رجلاً مخيفاً.. صرت أراه مسخاً قزماً... كرشه الضخمة بدت
مضحكة ومعبأة بالقذارة.. أما رأسه الأملس فمحشو بالغباء.
أمام تصميمي على وجوب هدم الجدار وبناء اثنين آخرين عوضاً عنه قال: إذاً بما أنه
سيكون جداراً عالياً ولن نتمكن من رؤيتكم، ما رأيك لو فتحنا في أسفل الجدار
وعلى مستوى طولكِ نافذة صغيرة كي تتكلمي من خلالها مع زوجتي وأولادي وكي نتكلم
معكم بسهولة إذا أردنا. قلت: لا أظن أننا سنحتاج إلى ذلك وإن يكن فهنالك هاتف
وباب للبيت.
شاعراً بالإهانة قال: أنتِ حرّة.. ومضى معطياً عماله أمراً بهدم الجدار.
مع كل هراوة تنهال على حجر أسود من أعلى الجدار القديم.. كان يصعد حجر بناء من
أسفل الأرض ليبني جداراً جديداً.
لم أرَ الجدار القديم منهاراً بشكل كامل إذ أن الجدار الجديد كان قد صعد أمامه
فما رأيت من تحطمه سوى ذؤاباته العليا وهي تتآكل كجدران القلاع القديمة. مع
كلمة "انتهينا" التي قالها لي العامل شعرت بأني بنيت جداراً حصيناً
لبيتي.
عدت إلى الغرفة.. عاد كتاب الجامعة إلى يدي اليسرى وجهاز التحكم إلى اليد
اليمنى.. صارت الملابس بمقاس مناسب. الأخبار انتهت.. صور الدمار وأصواته توقّفت
وطرق الباب توقّف...
كانت الفقرة التالية مع وصلة غنائية راقصة.. هزّت الراقصة خصرها بينما رافقتها
الموسيقى وقرع الطبول. عاد صوت الطرق مجدداً. ازداد الصوت علواً مع أني لم أكن
أضغط على زر رفع الصوت. هذه المرة لم يكن الطرق على باب بيتي.. كانت الطبول
تقرع في الحي.
فتحت الباب لأستطلع الأمر..
من الجهة اليمنى كانت الطبول تقرع لعودة جارنا إياه من الحج..
من الجهة اليسرى كانت الطبول تقرع في حفل زفاف ابنه الميمون.
حمص. ربيع 1989 ـ شتاء 2001
غرفة مكيَّفة
"ومعظم النار من مستصغر الشرر".
مبكراً بدأ الصيف هذا العام... ارتفعت درجات الحرارة على نحو مفاجئ، فخلعنا
ملابسنا الصوفيَّة لنرتدي مباشرة ثياباً صيفيّة، دون أن نرتدي شيئاً من الملابس
الربيعية.
لم نرَ شيئاً من بوادر الربيع كأزهار اللوز التي اعتدنا على رؤيتها تكسو أشجار
المدينة بحلّة بيضاء، ولم نخرج في نزهات ربيعيّة ككل عام إلى البساتين والحقول،
ولم نرَ الفراشات الملوَّنة الَّتي تحطُّ على الأزهار، ولا الحمائم البيضاء
الَّتي تطير في سمائنا الواسعة.
كان أفضل شيء نفعله في هذه الموجة الحارَّة.. أن نقضي أكثر أوقاتنا في البيت
اتِّقاءً للحر الشَّديد في الخارج، ولهذا قررنا أن نركِّب مكيِّفاً لتبريد غرفة
الجلوس في البيت الَّذي بدأت حرارته ترتفع شيئاً فشيئاً. وهذا ما فعله أكثر
سكان المدينة.. إما غيرةً من بعضهم بعضاً، أو ربَّما كانت فكرتهم الخاصَّة التي
أوحى لهم بها الطقَّس الحار. صرنا نمضي أكثر أوقاتنا في هذه الغرفة المكيَّفة،
فلا نخرج منها إلا للضرورة.. كتناول وجبات الطَّعام الرَّئيسة.. وقد وضعنا فيها
كل وسائل التَّسلية والتَّرفيه.
أختي الصُّغرى كانت الوحيدة الَّتي تخرج، وتدخل باستمرار. تستطلع الأجواء في
الخارج.. تذهب إلى غرفتها، تلهو مع ألعابها بعض الوقت، ثمَّ تعود... فهي تكره
الخمول أو الجُّلوس بلا حركة لفترة طويلة. كانت تناديني لأذهب معها في جولتها،
لكني كنت أرفض.
دخلت الغرفة علينا منذ أيّام، وقالت: "هناك فراشة في غرفتي"، وطلبت مني أن أقتلها
لها، لكني أخبرتها بأنَّها مجرَّد فراشة لا تؤذي، وأنَّ عليها تركها وشأنها.
في اليوم التَّالي جاءت لتخبرني بأن الفراشة أحضرت صديقتها.. فالفراشة تشجَّعت
على ذلك عندما لم تقتلها. في اليوم الثَّالث كان عدد الفراشات أكبر. سألتْ أختي
عن سبب مجيء الفراشات، فقلت لها: إنَّها بداية فصل الصَّيف، حيث تخرج كل
الحشرات. وسألّْنا والدي السُّؤال ذاته، فاستغرب من جهلنا وقال: فراشات
تطير في الصَّيف.. ما الغرابة!..
لم يبدُ عليه أي قلق وأنا كنت مثله. الوحيدة الَّتي بدا عليها القلق هي أختي..
فقد كانت تتضايق منها كثيراً.. ومرَّةً قالت لي ملاحظة جعلتني أنتبه قليلاً
لتزايد عددها في البيت..
ـ ألم تلاحظي أنَّ هذه الفراشات قبيحة الشَّكل.
قلت لها: لأنَّك لا تحبينها ترينها غير جميلة. قالت: لا.. أنا أحب الفراشات، لكن
ما أحبّه فيها أنَّها ملوَّنة، تطير من زهرةٍ إلى أخرى.. كلَّ واحدة بلون ونقشٍ
مختلف.. منها الأبيض الشَّفاف، ومنها الأسود الملوَّن بنقطٍ حمراء، ومنها
البنّي بنقاط وخطوط بيضاء.. لكنَّ هذه كلُّها لها حجم واحد ولون واحد هو البني
الفاتح، وهي لا تنتقل بين الأشجار والأزهار، وإنّما تحطّ على ملابسنا، وعلى
جدران البيت وأثاثه.
أجبتها: كفاكِ تفكيراً بها.. ستأتيك على شكل كوابيس ليلاً إن بقِّيت تفكرين بها
على هذا النحو المخيف. قلت هذا بعجلة وكأنِّي أريد أن أهرب من سؤالها
المقنع وحتَّى لا أبدو أمامها غبيَّاً في عدم ملاحظتي للشيء الَّذي لاحظتهُ.
مساءً عرضَتْ الموضوع على والدي، فأخبرها إنَّه من الممكن أن تكون هذه الفراشات
المتشابهة قد هربت من بيت أحد الجِّيران، أو أنَّها فصيلة واحدة، أو.. أو...
ولكن لم تعجبها ولا (أو) من احتمالاته.
استمرَّ الوضع على حاله ما يقارب الأسبوع، وأختي لا تزال على قلقها، وتوتّرها،
وكرهها للفراشات، حتَّى إنَّها صارت تمسك بيدها جريدة طول النَّهار تضرب بها
كلَّ فراشة تحاول الاقتراب منها، وأحياناً كانت إذا رأت واحدة على جدار ما،
تذهب وتقتلها حتَّى ولو لم تقترب منها. لم أكن أفعل مثلها مع أنِّي كنت أتمنَّى
ذلك، لكن لم أرد أن أغيِّر مبادئي الصَّغيرة أمامها، فأنا قلت حرام أن نقتل
الفراشات. أمَّا أبي فلم يكن يمانع قتلها، لكنَّه لم يُعر بالاً للأمر حتَّى
صباح يوم الجّمعة.
يومها استيقظنا متأخّرين وكان الجوُّ حاراً جداً. نهضنا بسرعة من غرف النَّوم،
واتجَّهنا نحو غرفة الجلوس المكيَّفة.. أحضرت أمِّي الفطور المتأخر إلى
الغرفة، ثمَّ أعادته بكسل إلى المطبخ. أما نحن فكنا نحضر العصير البارد
من المطبخ، ونعود بسرعة إلى الغرفة، نغلق بابها بإحكام كي يعمل المكيِّف
بالشَّكل الأمثل، ونجلس أمام التِّلفاز نقلِّب قنواته. كنَّا في حالة خمول
تامَّة، وكأننا تناولنا مخدراً ما.
قررنا أن نمضي يومنا في الغرفة فذهبت أمّي لتعدَّ لنا وجبة طعام جديدة. غادرت
أختي في هذا الوقت باتِّجاه غرفتها لتحضر الدُّمية الصُّوفيَّة، وماهي
إلا لحظات حتى سمعنا صراخها. فتحتْ الباب، ودخلتْ مسرعةً، وهي تحمل الدُّمية
ممزَّقة، وقد خرج الصُّوف من فتحاتٍ في ثوبها.
صرختُ بها: مابكِ؟ ولماذا مزَّقتِ الدَّمية؟
ـ لستُ أنا، بل أنتَ من فعل هذا.
ـ أنا..! ولماذا أفعل ذلك؟..
نظرتْ إلى الدَّمية الَّتي تحبُّها كثيراً وراحتْ تبكي.. ثم توقفت عن البكاء
وراحت تقلِّبها بين يديها فوجدت فراشاتٍ يخرجن من الصوف. صرختْ مجدداً: إنَّها
الفراشات.. هي الَّتي مزَّقتها..
ضحكتُ وقلتُ لها: لا تكوني غبيَّة.. فراشات تمزق دميتك؟
قالت: نعم.
لم يعبأ أحد بها وبدميتها، وظنُّوا أنَّها باتت مهووسة بكرهها للفراشات وقد تكون
هي من مزَّقت الدمية.
ذهبت نحو غرفتها مجدداً، ثمَّ عادت وصرخت: تعالوا وانظروا هذا المشهد.. كانت تصرخ
برعبٍ لم أره سابقاً. سألها أبي: ما بكِ؟ فقالت: الفراشات في كلِّ مكان،
الفراشات هنا وهناك. لم نصدِّق شيئاً من كلامها، أو ربُّما صدَّقنا، ولكنَّا لم
نهتم..
قالت ووصفت لنا الوضع، لكن لم يحرِّك أ حدٌ منَّا ساكناً.. فلم يكن أمامها سوى
البكاء. بكت وهي تقول: أنتم لا تصدِّقون!.. أنتم أغبياء.. ستمزِّق الفراشات
كلَّ شيء.. ليس دميتي وحسب بل كل ما لديكم. ثم التفتت إليَّ وقالت ساخرة من
جملةٍ كنت قد أخبرتها بها سابقاً: "هذه الفراشات ضعيفة، لا حول لها ولا قوَّة..
ولا تستطيع فعل أيّ شيء... اتركيها وشأنها.". ثمَّ أردفت: تركتموها وشأنها
فمزَّقت دميتي.
في هذه اللحظة شعرتُ بصدق كلامها، فذهبتُ للغرفة، ولحق بي والدي بعد ثوانٍ لنجد
أنَّ ما قالته كان صحيحاً.
كانت الفراشات في كلِّ مكان.. على الأرض، على الخزائن، على أطراف الأسرَّة.. منها
ما يطير، ومنها ما يمشي.. كلّها بلون واحد وحجم واحد.
نزع والدي أغطية الأسرَّة، فوجد كميَّة هائلة محتشدة تحتها، وقد مزَّقت الفِراش،
وأخرجت الصُّوف منه.. هرول مسرعاً مذعوراً نحو الغرفة الأخرى، واتَّجه مباشرةً
نحو الأسرَّة، وفعل الشَّيء ذاته فوجد الوضع إياه.. وكان باب إحدى الخزائن
مفتوحاً فتحة صغيرة فهرع نحوها، وفتحها، وبدأ يخرج منها الثِّياب الَّتي ثُقبت
ثقوباً صغيرة يصعب إصلاحها.
لقد فتَّت جيش الفراشات كلَّ ما في البيت.. ليس غرفة أختي وحسب. وعلمنا متأخرين
جداً أنه كان يعدّ على مهل لهذا الهجوم العنيف.. ثمَّ في هذا اليوم الحار نشر
جنوده بينما كنَّا نتنعَّم ببرودة الغرفة والمرطِّبات ونستمتع بمشاهدة البرامج
من الفضائيَّات كافة.
حمص. ربيع 1999
الأبيض الفارغ
في ركود اللون الأبيض كتبتْ قصصها.. جعلتْ منها مجموعة قصصية جديدة.. وعلى الصفحة
الأولى.. في المجال الأبيض المتبقي.. كتبتْ إهداء له.. فهو قد أهدى إليها إحدى
مجموعاته القصصية. على سطح أبيض جديد رسمت وجهه.. لم تلوّنه.. تركته بلون الورق
البارد.
صديقتها التي جاءتها خارجة من قعر الإناء سألتها: أين التقيتِهِ...؟
أجابت: عندما ذهبتُ مرة إلى المدينة.. في ذاك اليوم المشمس.. حين التمع بياض
الشمس على الشوارع الإسفلتية بشكل حاد.. تعرفت إليه.. أبدى إعجابه بي..
و وعدني أن يزور قريتنا، ثم جاء مرة.. كان الثلج يغطي كل شيء.. من قرميد البيوت
والأشجار إلى الممرات الترابية الضيّقة. في زيارته تلك وجد النهاية لقصتين
ماكان ليجد النهاية لهما ـ كما قال لي ـ لو أنه بقي في المدينة. بهاتين القصتين
اكتملت مجموعته القصصية العاشرة فأهداني إياها.
الآن.. وعلى موعد جديد معه تمسح ذكرياتها مع سواه.. أيام الطفولة واللعب.. أيام
المراهقة واللهو.. تعودُ صفحة بيضاء ليكتب عليها ما يشاء.
"قد لا يأتي".. قالتها صديقتها.
"لا... سيأتي إذ أنه طلب مني أن أحجز له في فندق القرية الصغير.. ذاك المطل على
الوادي.. ولقد فعلت". أجابتها بثقة.
على مشارف القرية انتظرَته.. بدأ البياض بداخلها يعلو قليلاً قليلاً وببطء شديد.
كانت ترقب وصوله على نار هادئة. وصل.. هبط من سيارته البيضاء.. يمسك بيد آنسة
بفستانها الأبيض الطويل.. ركضتْ حافية نحوهما.. صار الأبيض يسرع مثلها.. يقترب
كلما اقتربت منهما.. راح يعلو.. علا.. علا.. وينتفخ.. انتفخ.. انتفخ.. يعلو
وينتفخ.
رحبتْ بهم. قال ممتناً لترحيبها: جئنا نمضي ثلاثة أيام من شهر العسل في قريتكم
الجميلة.. ها أنذا ألبّي الدعوة.
الأبيض الذي انتفخ كقبة ما عادت تستطيع التحدب والنفور أكثر، انفتق وانهمر من
الجهات كلها.. أطفأ النار التي كانت تشتعل على مهل تحته.. عمَّ اللونُ الأبيض
المدى. صرخت أمها وهي تغلق أسطوانة الغاز: لا تغلي الحليب مجدداً.. فكلما فعلتِ
شردتِ ونسيته ففار. وكاد يحرقك. لا أعرف لماذا تنسين الحليب ولا تنسين
القهوة!!".
لم تسمع ما قالته أمها..
نقطة سوداء كانت تعتلي السطح الأبيض الذي هدأ توّاً
نقطة سوداء
في آخر
سطر
أبيض
فارغ
حمص. ربيع 2001
رحلة الملح
امتطينا البحر خيلاً سرجه السفينة. كانت السفينة تصعد حتى قمم الأمواج وتنزل حتى
قراراتها فنشعر أننا على ظهر خيل يقفز بنا فوق حواجز لا نهاية لها.
بدأت السفينة رحلتها صباح اليوم، وعبرت بنا البحر بسرعة، لم نشعر –نحن الرَّكاب-
بها إلا حين التفتنا إلى الوراء بعد بضع دقائق لنودّع اليابسة، فلم نرها إلا
كخط أبيض طويل ما لبث أن غاب. ارتفعت الشَّمس فوق رؤوسنا متحدِّية إيانا أن
نصمد ولو قليلاً. رميت الروايات التي كنت أقرأ فيها وتبعت الآخرين.
هبطنا الغرف الصغيرة في قعر السَّفينة والتي كانت تفوح منها رائحة العفن
والرطوبة. هناك بدأت حالة دوار البحر لدى أحد المسافرين، فراح يتمنى العودة.
وعلى الرغم من أن دوار البحر لا يعدي لكن عدواه انتقلت إلى أكثر المسافرين
الذين راحوا يتمنون أن يرموا بأنفسهم من السَّفينة، فقرش البحر أرحم لديهم من
هذا الدوار.
كانوا يتفوهون بألفاظ جديدة على مسمعي.. ألفاظ بحريَّة تختلف عن تلك التي
عهدتُّها في البر.. ويلعنون من المحّار وحتى آلهة البحر.
حان وقت الغداء، فقدّمه مسخ يرتدي ثياباً ملطخة بدهون الأطعمة وتفوح منه رائحة
الدم والقتل...
لا بد أنه دم الأسماك التي تقتل لتُقَدّم على موائد يرفض أصحابها أكل السمك فهم
يريدون رؤيته مقتولاً وحسب.. يريدون منعه من السباحة ليصير البحر لهم..
بينما الأسماك تصرّ على السباحة على الرغم من ملوحة الماء التي اعتادتها ولم
يعتدها آكلها.
بدا الطبّاخ، الذي يعد السمك برفقة المكائد، نسخة من (ماكريدج) –الطباخ في رواية
"ذئب البحار" – وربما كان ذاك في الرواية ظلاً لهذا.
بدأتُ أتخيل كيف أنَّهم يغسلون الخضار بماء البحر، ثمَّ يقطِّعونها ويرمونها في
حلل الطَّبخ الصَّدئة. رفضت أن آكل، ليس بسبب قذارة الطعام بل بسبب طريقة
الإعداد الوحشية وبسبب المشاركين في إعداده. لكن حين بدأ الجوع يصرخ في معدتي
بدأت آكل وكانت المعاناة الأكبر بالنسبة إلي إذ كان الطعام بلا ملح فتوقفت
مباشرة بعد اللقمة الأولى.
راح الجوع يصرخ من جديد، بل إنه راح يرسم لي صوراً من الصبر كي أتناول طعاماً بلا
طعم ولا ملح. بدأت صورة (سانتياغو) في "الشيخ والبحر" تتضح أكثر فأكثر. كان علي
أن أقتدي به وبصبره، فلقد تناول السمك النيئ دون ملح أو ليمون ليبقى على قيد
الحياة وينجز هدفه. لكني لم أستطع أن أكون مثله فلقد صرت مدمن ملحٍ ورحلات
ملحٍ.
عند المساء، صعدنا إلى سطح السفينة. رحنا نرقب سماء اللَّيل، ونستشعر إحساس
الحرِّية لأول مرة. راحت شهب تسقط في اتجاهات مختلفة، تضيء بعد انطلاقةٍ صغيرة
وسريعة وكأنها سهام تُطلَق من كنانةِ رامٍ ماهر، ثمَّ تنطفئ كشمعة عيد ميلاد
ينفخها ولدٌ لا مبالٍ.
فجأة سمعت قرقعة ما. لقد اصطدمت السفينة بصخر مرتفع كبير وثُقِبت.
راح الماء يتسرب إلى أسفل السفينة، ثم بدأ الرجال يملؤون صناديق صغيرة بالماء،
ويخرجون إلى السطح يرمون الماء في البحر ثمّ يعودون ليملؤوا غيرها وغيرها دون
كلل ولا ملل وكأن كل واحد منهم (سيزيف).
دعاني أحدهم للمشاركة ففعلت. نزلت إلى الأسفل وحين رأيت ما رأيت أدركت أنّ
الإصلاح بات مستحيلاً، وأنّ كارثة ستقع قريباً. قليلاً قليلاً تدفّق الماء.
أكثر فأكثر اتّسع الشّق. بدأت السفينة تثقل.. ورويداً رويداً راحت تغوص في
البحر.
أنزلنا قارب النجاة الوحيد وصار الناس يتدافعون لركوبه. الزوج يقفز من السفينة
تاركاً زوجه وراءه، الابن يترك والديه، والأخ يتخلّى عن أخته.. كلٌّ يسعى
لنفسه. لكن الأنانية الحمقاء أدّت إلى أن مال قارب النجاة، ثم قُلِب رأساً على
عقب، فلم ينج من كان على ظهر السفينة، ولا من ظنّ أنّه نجا بركوبه القارب. ولم
يبق لأصحاب القارب أولئك ما يُحسَدون عليه من ركّاب السفينة، ولم تكتمل
بالمقابل فرحة ركاب القارب أو شماتتهم، ولا طال حزن بعضهم على فراق أحبتهم على
ظهر السفينة الغارقة. غاص الاثنان بشكل متتابع.
لم ينجُ أحد غيري. كنت الوحيد الذي قفز إلى البحر طواعية". رحت أسبح باتِّجاهاتٍ
مختلفة. لم أكن أعرف نهاية الطريق ولم أكن مقتنعاً بوصولي حياً. لكن ثمة
(سانتياغو) في داخلي كان يدفعني إلى التمسك بالحياة كي أصل إما حياً لأستمر في
السباحة على اليابسة، أو ميتاً ليستمر بعدي من يجدني غريقاً على الشاطئ.
صرختُ بأقصى انتفاخ تستطيعه رئتاي: هل من أحد ينقذني في عرض البحر من عتمة الليل
وبرودة الماء. لم يجبني أحد. وبدأتُ أبتلع الماء، أعبُّ منه على دفعات، ثمَّ
أطبق فمي وكلّي تصميم أنّي لن أفتحه مجدداً حتَّى لا أبتلع المزيد؛ لكن لا أدري
كيف كان الماء يغافلني ويدخل جوفي قسراً. كان الماء شديد الملوحة بحيث أنَّه
جرح حلقي، وامتلأت معدتي منه حتَّى شعرت بالإقياء.
طالما أحببت طعم الملح وفضَّلته على بقيَّة النَّكهات لكن كان لملح هذا الماء طعم
رهيب. لأول مرَّة أكتشف أنَّ للملحِ طعماً آخر غير الملوحةِ.. إنَّه المرارة.
كان هذا الماء مالحاً صبراً، ومراً علقماً. بدأ التَّعب ينال مني وأحسستُ
بحاجةٍ إلى النوم، لكن كيف النوم وسط البحر. هنالك أكثر من خوف: الخوف من
الماء.. من الملح.. من السَّمك المفترس.. من أن يطول النوم...
رُحت أقاوم هذا النُّعاس بشتى السبل، لكنَّه تغلَّب عليَّ أخيراً. صحوتُ بعد قليل
لأجد نفسي ملقىً على سطح خشبيّ يغطِّيني سقف أزرق واسع. يبدو أنِّي نجوت أو
أنَّ أحدهم أنجدني. كنت على سطح سفينةٍ أخرى لا أعرفها ولا أعرفُ جهة سيرها.
ركلني أحدهم بقدمه وكأنِّي فقمة ليتأكَّد من حالتي، فوجدني حيَّاً. تركني وسار
بلا مبالاة.
في هذه الأثناء عاد النُّعاس من جديد يفاوض أجفاني. نمتُ مجدداً ولم أدرِ كم مرَّ
من الوقت إلى أن فتحتُ عينيَّ لأبحث عن اللَّون الأزرق الحُر للسماء، فلم أجده.
بحثتُ عنه حتَّى اهتديتُ إليه أخيراً. كان مقطَّعاً بخطوط سوداء، ومجمَّعاً في
زاويةٍ صغيرةٍ أعلى الغرفة. نظرت إلى جسدي المنهك من السِّباحة فوجدت كدماتٍ
حمراء وزرقاء تغطيه، ووجدت بعضاً من قطراتِ الدَّمِ قد تناثرت على قميصي.
تلمَّستُ الأرض التي غدت حجريَّة تحتي بدلاً من الخشبية.
بدأت ذاكرتي تعود إلي شيئاً فشيئاً. تذكرتُ أنِّي لم أكن في سفينة ولا كنت أصارع
الأمواج. لقد خرجت تواً من غرفة الاعتراف ورُميتُ في سجنٍ منفردٍ ريثما يُعادُ
التَّحقيق معي علّي أعترف على الذين لم يغرقوا بعد.
ساعة الرمل
لا أدري كيف حصل هذا الأمر .
كانت قد مضت فترة لم يهتف فيها أحدنا للآخر. و كان الحل
بأن أحرّك الرمال الراكدة فتصحو القلوب النائمة مجددا.
قلبتُ الساعة الرملية ذات الدقائق الثلاث و كنت أريد أن
أراقبها و هي تتسرب من الاختناق الضيق للزجاجة ذات المثلثين المتناظرين . لكني
نظرت إلى نفسي في المرآة و رحت أتكلم معه. بعد خمس دقائق نظرت إلى الساعة لكنها
كانت قد مرّرت دقيقتين فقط من الرمل بينما احتفظت بدقيقة فوق الاختناق .
"مستحيل لم يحدث هذا من قبل" . نظرت جيدا و دققت النظر
فلربما كان الرمل يتسلل ببطء شديد ، لكنه لم يكن يفعل . لقد توقف الرمل عن
التقطّر و توقف الزمن. و شعرت بشيء مرّ كالموت .
الوقت الذي طالما تمنيته ألا يمضي .. صار توقفه مخيفا
إلى هذا الحد. ولأنها ساعته المُهداة لي، خفت كثيرا من هذا الأمر . قلت :لا بد
أن نبضه توقف فتوقف الزمن و توقف زحف الرمل نحو الشواطئ الزمنية الأزلية.
كانت الساعة الإلكترونية تشير إلى الثانية ليلا . و قفزت
نحو الهاتف. اتصلت به علّي ألحق بأنفاسه الأخيرة فأخبرها كم كنت أحبها و
أقدّسها. و على غير عادتي اتصلت ليلا.. و على غير عادة لم يجب هو من بيته الذي
يسكنه وحده.. أجابت امرأة بصوت مبحوح.
علمتُ أنه مات.
و تلفّت نحو الساعة أهزّها .. أهزّها علّ طبيبا يضغط على
صدره بضع ضغطات توقظ قلبه كما سأوقظ هذا الرمل المتحجّر.. هذا الرمل الذي شاء
الركود فجأة.
هززتها كثيرا و سال الرمل .. لكنني سمعت صوت تحطم قلب لم
أدرِ أنه قلبي و اعتقدته قلبه. فيما مضى كنت لا أهزها.. فبمجرد أن أقلبها كانت
تساقط عليّ رطباً جنياً من محبته و كلامه الجميل.
رميت الساعة الزجاجية الرملية فهي السبب . لو ما توقفْ
الرمل فيها لما مات حبيبي. تهشمت الساعة و انتثر الرمل على بقعة صغيرة من أرض
الغرفة. لعقت الرمل بلساني على أنه رفات عظامه ثم نمتُ على الأرض فوق الزجاج
المهشّم الذي جرح وريدي.
عند الصباح جلست كالمغمي علي انتظر نعوته بأذنيّ اللتين
لم تعودا تسمعان و بعيني اللتين لم تعودا تريان ..لكنّ المذيع قدّمه على
التلفاز بلقاء حي و مباشر معه.
فرحت .. حزنت .. ضحكت على نفسي .. ضحكت كثيرا .. ضحكت
حدّ البكاء .. ضحكت ثم بكيت.. فلقد كسرت الذكرى الأخيرة منه و أضعت الرمال التي
حلمتُ بأن تُضفَر يوماً فتشكل حبلاً يشدّني نحوه أو يشدّه نحوي.
جمعت شظايا الزجاج في علبة شفيفة علّها تتحول مع مرور
الفصول و تعود ساعة كما تعود الأشجار خضراء بعد أن تعرى. لكن ما آلمني أن
الرمال سوف لن تأتي و تجتمع لتصب فيها من جديد بعد أن يلتحم الزجاج من الجوانب
كلها. أما الزجاج فهولا يملك نسغا يُنبِت رملا كما يُنبِت نسغ الأشجار أوراقا.
عدت نحو البقايا .. رميتها لعلمي أنّ هذه نهاية الحكاية
فلقد صار لديه امرأة تردّ ليلا على مخاوفي . أما أنا فلم يعد لدي رمل ولا زجاجة
و لم تعد لدي ساعة رمل أتخاطر من خلالها معه.
الضـَّفيرة
لطالما قال لها أحبُّ شعرك الطَّويل النَّاعم .. ولطالما
قالت له إذن تحبّه ، ولا تحبُّني. كان يجيبها : أحبُّك وأحبّه. كان يتغزَّل
كلَّ لقاء بشعرها قائلاً : شعركُ أجمل من شعر كل الفتيات اللواتي يقصصن شعرهنَّ
بطريقةٍ صبيانيَّة ، فتجعل منهنَّ كائناً ، لا يعرف إن كان فتاةً أم فتى ..
أنتِ وحدكِ ما زال شعرك طويلاً في هذه المدينة.. أنتِ وحدكِ مختلفة .. لست
كباقي الفتيات المتهوّرات .. أنت دنيا من الاتِّزان و التَّصميم والقيم و
الانعتاق .
لم يخلُ لقاء بينهما من حديث عن شعرها ، من مدحٍ له، من
وصفه بصفاتٍ رمزيَّة و تجريديَّة .. فهو أفق ، تراث ، قيم ، تاريخ بأسره ، و هو
عالمٌ من الجنون ومن التَّمرد .
كان شعرها جميلاً ، لكنَّه كان المعجب الوحيد المتبقي به
. كتب فيه القصائد، وحاول الدِّفاع عنه، والوقوف في وجه أيِّ مقصٍ طائشٍ يحاول
بتره عن وطنه ، و أخوته . كان هو الوحيد الَّذي يمنعها من العبث به كلَّما حاول
أحدهم أن يلعب بأفكارها فيجعلها تقصّه .
والآن غادر العاشق الولهان ، وبقيت القصائد مخطوطة في
شعرها بأصابع عاجيَّة ، بأمشاطٍ بشريَّة من لحمٍٍ ودمٍ طالما سرّحته من المنبع
.. وحتَّى المصب ، فوق الأكتاف و الوجنات . غادر ، وما عادت تعرف له طريقاً
للعودة ولا وقتاً للإياب . كان شعرها الَّذي رُسمت عليه أصابعُ يده يذكِّرها به
فتحبُّه أكثر ، ثمَّ تعود لتتذكَّر رحيله المفاجئ دون وداع ، ودون وعدٍ باللقاء
، فينقص اهتمامها بشعرها .
صارت تهمله ، تتركه مبعثرا ، لا تسرِّحه إلا ما ندر .
طول الغياب من جهة ، والضُّغوط و الإغراءات من جهة أخرى
جعلتها تفكِّر باتجاهٍ آخر .. راحت تناقش الموضوع بنفسها: "لماذا أحتفظ بهذا
الشَّعر الطَّويل ..! ما فائدته إن لم يكن هو موجودٌ هنا ..! ثمَّ إنَّه يتعبني
بطباعهِ القديمة التَّقليديَّة.. أن أسرِّحه صباحاً من جذوره وحتَّى آخر زمنٍ
له عند آخر تقليمٍ جرى عليه.. أن أغسله.. أن ألقيه قربي حين أنام وسادة حريرية
بنِّيَّة محروقة .. أن ألملمه .. أن أبعثره.. أن أقدم له الاحترام و فروض
الطَّـاعة. مللت تلك التَّقـاليد الرّوتينيَّـة لحياته ".
كان لا بدَّ من حلٍ جديدٍ ، و الإغراءات كثيرة بعروضٍ
تراها كلَّ يوم عن شعر فتيات الإعلانات ، وفي نشرات الأزياء ، و من (الموديلات
) الَّتي تأتي من القمر الصناعي الَّذي يبعث دائماً بالجديد . كان لابدَّ لها
من أن تنساق وراء كلّ هذا، وإن لم تفعل لدُعيت بالمتخلِّفة عن ركب الحضارة ،
وعن ركب الموضة والأزياء الحديثة و القصّات الدَّارجة .
كان كلُّ من يراها يتساءل عن سرِّ ذلك الشَّعر الطويل :
ألا تملِّينَ منه ؟ ألا يتعبكِ أثناء النوم ..؟ لماذا لا تقصِّينه قصَّة
الممثلة الأجنبية هذه أو تلك ..؟ لا بدَّ أنّها ستماشي وجهك الجَّديد، أي وجهها
بعد أن تضع عليه ما يسمونه مساحيق التجميل والتي يصنعها أشهر المصمِّمين
والعارفين بعالم الجَّمال من المبتكرين و الخبراء العالميَّن. يطلبون منها أن
تغير هيئتها وينسون أنها الأجمل ، و أنها لا تحتاج إلى مبتكراتهم .. والتي قد
لا تناسبها.
لكنها استجابت في النهاية لمطالب التغيير . غصَّة في
الحلق فقط تماشي هذه الكلمة .. كلمة القصِّ ، و لا شيء غير ذلك . ندم ساعة أو
ساعتين ، ثم يصبح كل شيء جديد .. كلّ شيء رائع ، كروعة هذا العصر.. كروعة
الأزياء ، والقيم المستوردة . قالت : و سأنسى ـ إن تناسيت ـ شيئاً فشيئاً أنّه
كان لي شعر طويل في يوم من الأيّام .
قررتْ الذهاب لعند مسرِّح الشّعر ..إما لتقصّه، أو لتأخذ
بنصيحته فقط. استقبلها بابتسامة هي أقرب لابتسامة :
"إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنّن أنّ الليث يبتسم"
كان يوزّع ابتسامته تلك على كلّ الحمقاوات في حين أن كل
واحدة منهن تحسب نفسها المعنية الوحيدة . رحب بها بحفاوة بينما راح يتفحصها
بنظرات الصائغ الذي وقع بصره على حجر ثمين جاء به شخص لا يعرف قيمته الحقيقية
ليبيعه .
_ تفضّلي آنستي .. ها هي كل المجلات .. و أشهر القصّات،
لا أحد يتقنها مثلي. شكرَتْهُ ،بينما ابتلعت بصعوبة سؤالها عن رأيه في أن تقص
أم لا ،فلقد أبدى رأيه مباشرة .
_ ها .. ماذا قلت يا آنسة ؟.. فكري على راحتك ..المهم
أنّك ستخرجين من عندي بحلّة جديدة، و بوجه آخر .. لا أحد سيعرفك ، أو يصدّق
أنّك أنت من دخلت هنا منذ دقائق .
_ إذاً أنت تنصحني بالقص ؟.
_ طبعاً طَبعاً .. الشعر الطويل صار(موضة) قديمة، وعادة
بالية علينا التّخلي عنها.ثم إني لا أعلم لماذا تتمسكين بالماضي. الآن سوف ترين
التّغيير، و أراهنك أنّك متى بدأتِ بقص شعرك، فلن ترغبي بإطالته مجدداً ، و
ستسعين بنفسك إلى قصِّهِ مرة تلو أخرى. أنا طبعاً لا أعمل دعاية لنفسي .. أنتِ
لك مطلق الحريّة .. و لكن انظري.. شعرك بدأ يتعب و يفقد بريقه.
كان شعرها في ذات اللحظة يلمع في عينيه و كادت عيناه
تنطقان : لم أرَ في حياتي شعراً بطوله .. بجماله .. بغزارته .. و بلمعانه .
أنهت تصفّحها للمجلّة ، فاستدار نحوها بسرعةٍ ، و قال :
_ ها.. ماذا قلت يا آنسة ... أيّة قصّةٍ نقص ؟
كان المقصّ جاهزاً في يده ، و خيّل لها أنّها و لو هربت
من بين يديه، سيلحق بها ، فاستسلمت بأن أ شارت له إلى إحدى قصّات المجلة.
- آه . لكنّها لا تقصّ سوى كمية قليلة ، و أنا أنصحك
بقَصّة أخرى تظهر الفرق جلياً . عليك أن تقصّي كمية كبيرة.. أكبر كمية ممكنة ،
ثم بعدها يترتب عليك أن تقصّيه بطريقة مشابهة كلّما حاول أن يطول مجدداً. عليك
أن تتبعي ركب الحضارة بأي شكلٍ ، و بأكبر سرعة ، و دون أدنى تفكير ... ماذا قلت
؟ موافقة ، أليس كذلك ؟.
_ نعم ، قالتها بصوت مخنوق ..
_ ما بك . كأنّك ستبكين ..! لا تخافي، سأعيد لكِ الشعر
المقصوص.
جدل شعرها المتناثر هنا و هناك .. على الظهر..على
الأكتاف و على الرّقبة بضفيرة واحدة .. كبيرة .. ثخينة.. ناعمة..طويلة.. قوية..
تصلح لسحب شرايين عدّة رجال من أجسامهم .. ثم قصّها بخطٍّ مستقيم قاطع ، فاصل ،
حاسم ، و ناولها الضفيرة . راح بعدها يقصّر من بعض الخصلات بحركات سريعة
ورشيقة.
هكذا انتهى كل شيء . عادت إلى البيت .. وقفت أمام المرآة
، فرأت الحقيقة عارية و أدركت سوء ما فعلته . راحت تبكي ، ثمّ تذكرت أنّ
الضفيرة لا تزال معها .. أخرجتها من الحقيبة ، حاولت أن تعيدها .. أن تلصقها
بشعرها بأيّ شكل .. . و لكن سدا .
لم تستطع إعادة وصلها ، فما كان منها إلا أن احتفظت
بالضَّفيرة المقصوصة في قطعة قماشٍ مطرَّزةٍ في خزانة مزخرفة ذات نقوشٍ جميلة
على أمل أن تحصل معجزة ما تمكنها من استعادة ذات الضفيرة.
هكذا صارت الضفيرة كتلك الآنية الزّجاجيَّة الَّتي
يحتفظون بها في الرُّكن الأجمل من صالة الضِّيافة في بيتهم . كانت مكسورة ،
لكنَّهم ألصقوها بعد أن سقطت من عليائها . لم يستطيعوا التَّخلِّي عنها
نهائياً.. فلقد كانت الأجمل ، و الأغلى على القلب كونها عاشرت أجيالاً . كان
كلُّ من يدخل الصَّالة يعجب بها. من يراها من بعيد لا يدرك ذلك الشّرخ ، لكنه
حين يقترب منها يراهُ واضحاً، ومشوِّهاً لجمالها ..
كانوا يمنعون الضُّيوف من لمسها حتَّى لا تتأذَّى أكثر،
فتتحطَّم بشكل كامل، أو تنفرط أجزاءٌ منها فيصعب لمُّها كحبَّات سبحة ذات خيطٍ
واهٍ .حتَّى أنَّهم لم يعودوا قادرين على وضع الورود فيها كالسَّابق، فالماء
يرشح منها.كانت آنية للزينة فقط .. لا تُلمس .. لا تُحمل باليدين .. لا تغسل
بين حينٍ وآخر .. و لا توضع فيها الورود . كانت تحفةً للنظر بالنِّسبة للزوَّار
.. أمَّا بالنِّسبة لهم فهي للألم وفقط... للتَّذكّر وفقط.. . للحنين الدَّائم
لها ، ولتلك الأيَّام الَّتي عاصرتهم بها. هكذا صارت الضَّفيرة آنية أخرى في
البيت . . لكنها تختلف بأنَّه لا أحد يجرؤ على عرضها. صارت آنيةً للحزن
الشَّرقي الرَّائع ، و القاتل معاً.
الباب يُطرَق من الداخل
كان كتابي الجامعي في يدي اليسرى و جهاز تحكّم التلفاز
في يدي اليمنى .. و كنت أتابع ما يُعرض من مشاهد القتل و تدمير المنازل فوق
رؤوس سكانها الأبرياء الآمنين . فجأة طُرِق باب بيتي الحديدي بقوة و عنف لدرجة
أنّ نوافذ البيت و جدرانه اهتزت مرتجفة من الخوف .
ارتجفتُ بشدة ظانّة أن أولئك القتلة قد خرجوا من التلفاز
.. و هم الآن يقفون ببابي.
"لا .. لا.. ما زال الوقت مبكرا على مركبة فضائية
تُقلُّهم بهذه السرعة و دون أن يلمحهم أحد ." نهضتُ .. و نهضتْ معي ساقاي
اللتان قصفتا تحتي كأغصان شجرة عارية تهزّها ريح عاتية في شتاء موحش . تمهّلت
قليلا قبل أن أسأل: من؟
لم يجب أحد .. فتحت الباب و لم أجد أحدا . لا بد أن
الطارق قد غادر بسبب تأخري بفتح الباب.
عدت للغرفة .. و عدت لأتابع مشاهد الجرّافات التي تهدم
دون أن تفكّر بالذكريات التي تسكن أركان البيت .. بالكتب على رفوف المكتبة ..
بكلمات خطّها ولد صغير و هو يشعر أن كلماته كنز.
"ترى هل ينأى كتابي عني عمرا بأكمله إن تهدّم البيت الآن
فوقي...!"
رفعت صوت التلفاز فارتفع صوت الطرق على الباب مجددا. "هل
أفتح له..؟ لا لن أفتح كي لا يدخل بيتي .. بل سأفتح و سأواجهه و ليكن ما يكون
.. لا أحب أن يقال عني "ضعيفة" فهو إن كان سيدخل البيت فلن يهمه إن فتحت له أم
لا .. سيدخله قسرا .. فلماذا لا أواجهه و أموت بكرامتي بدلا من الموت الذليل."
فتحتُ الباب .. لم أجد قبالتي أحدا .. مددت رأسي قليلا
نحو الجهة اليسرى فرأيت خيالا لرجل يرحل .. وددت لو أناديه .. لو أًصرخ به
ليعود .. ليواجهني إن كان رجلا .. لكن لم تكن لدي بعد القوة الكافية للهجوم
كوسيلة للدفاع . أغلقت الباب وعدت للتلفاز .. رفعت صوته عاليا علّي لا أسمع صوت
الباب إن عاد يُطرَق ؛ لكنّ الباب طُرِق بصوت أعلى و بضربات أسرع .. نهضت بسرعة
تجاريها .. فتحت الباب و رأيته ...
عاد يقف أمامي بقامته القصيرة .. برأسه الأملس الخالي من
الشعر .. وجهه الحليق و كرشه الضخمة القادرة على التهامي دفعة واحدة. نَمَتْ
ضفيرتان على طرفي كتفي الصغيرين و.. ضمر جسدي قليلا في بعض مناطقه و نَحُل
صوتي.. صعد كتاب التاريخ بين يدي فبعد يومين امتحان الشهادة الإعدادية ..
سألتُ الرجل عما يريده.
بصوت أجش مبعثه رجل ضعيف جعل المال منه رجلا قويا و لكنه
ما زال جبانا قال: إلى متى سننتظر .. إلى متى؟ أجيبي. قلنا لكم منذ أسبوع و إلى
الآن لم تتصرفوا بشكل لائق .. لن ننتظركم .. لدينا أعمال غيركم .. لن أدفع أجرة
يوم آخر للعمال .
أطلق قنابل شتائمه عليّ واحدة إثر الأخرى، و أمام سيل من
الكلمات النابية لم أجد لدي سوى أن أرجوه .. رجوته أن ينتظر فلا يهدم الجدار
المشترك بين بيتينا.
_ لن ننتظر .. و لماذا الانتظار .. أنا اشتريت هذا البيت
الأرضي القديم لا لأسكنه كما هو، بل لأهدمه و أبني بناية مكانه ..يجب أن أبني
بنايتي هذه .. ابني في الصف التاسع و بعد ثلاث أو أربعة سنوات سنزوجه .. أين
أزوجه ..؟ على رأسي؟
_ لكن ..!
_ ماذا ..!
_ هنالك حديقة و حوض يحوي نباتات و شجيرات ورد و شجرة
ليمون .. فكيف...!!
_ هل هناك زجاج؟
_ لا
_ إذا لا يهم .. أين أخوتكِ؟
_ أنا وحدي.. انتظرْ حتى أتصل بهم.. لحظة من فضلك.
كنتُ لا أزال ناعمة برغم أن صوتي علا بعض الشيء . ركضت
نحو الهاتف .. ضفيرتاي سبقتاني دون أن تجدا مكانا تستقران به .. وجهي أصفر ..و
عيناي تائهتان.
اتصلت بأخوتي فلم أجد أحدا منهم في مكان عمله . أسرعت
نحو الباب .. ناديته : يا .. يا.. يا رجل أنا لم أجد أحدا
أجابني بصوته العالي و الذي لا يتناسب مع جسمه الضئيل و
بعينيه اللتين تتطاولان على طفلة: حسنا .. لن نهدمه الآن .. هنالك جدار لم
نهدمه بعد .. سنهدمه ثم نعود إلى الجدار المشترك بعد قليل.
_ إذا بعد ساعة .. إلى أن يأتي أحد منهم ...موافق؟
_ نعم بعد ساعة.. جاؤوا أم لم يجيئوا .
أغلقتُ الباب مؤقتا بينما ظل صدى صوته يتردد في أذني حتى
الآن.
بعد قليل جاء أخوتي .. ارتميت عليهم بالبكاء : سيهدمون
الجدار الذي يسترنا من الشارع و الذي يقي الورود من الرياح .
_ إن هذا الرجل يهذي و لا شك .. لا تبكي .. دموعك أغلى
من كل الجدران.
_ و لكن ماذا ستفعلون ؟
_ لا شيء سنتركه يهذي و يعوي .. نحن مستعجلون سنسافر إلى
العاصمة.. لدينا صفقة مهمة .
بثوان أحضروا أشياءهم و أغلقوا الباب راحلين . خلفوني
وحيدة بين جدران البيت الذي سينقص جدارا حين يحين موعد الإنذار بعد نصف ساعة .
قررت أن أفعل شيئا. أمران دفعاني للعمل ..قلقي على
نباتات الحديقة و خوفي من كوني إذ أحتمي بالبيت من الشارع.. أكون باللحظة ذاتها
مع الشارع وجها لوجه دون ستار.
ركضت نحو جدار الحديقة .. كان لا يزال شامخا .. و بدا لي
أن هراواتهم ستستغرق وقتا طويلا حتى تتمكن من هدمه و أن أيديهم ستتعب إلى الأبد
..
بسرعة بدأتُ العمل.. رحت أحفر حول شجيرات الورد.. نزعتها
ثم نقلتها إلى الحوض الآخر. اتصلت بجارنا منسق الحدائق و جاء مسرعا.. نقل شجرة
الليمون إلى الحوض المقابل.. و اتفقت مع عامل نعرفه على أن يحضر مواد بناء و
يأتي حالا. بعدها كنت مستعدة لأن أسمع طرق الباب.
طُرِق الباب بعدد أقل من الضربات و بعزيمة أضعف و بصوت
أخفض.. أو هكذا شعرت.
بدأ قميصي يضيق عليّ و لا يحتويني . ضاق بنطالي ..
انفلتت ضفائري و استطالت قامتي . تفتقت براعم الخوف و الخجل عن قوة و ثقة
بالنفس .. فتحت الباب و بصوت واثق قلت له: نحن جاهزون لهدم الجدار .. و اتفقنا
مع عامل على أن يبني جدارا آخر على بعد خمسين (سم) من الجدار القديم و باتجاه
بيتنا . و أنت اترك خمسين (سم) بعيدا عن الجدار القديم من طرفك ثم ابنِ جدارك
.. بالعلو الذي تستطيع و بالسماكة التي تريد . أما مكان الجدار القديم و المئة
(سم) الجديدة فسنتركه للهواء المخنوق بين الجدارين الجديدين إلى الأبد.. أخوتي
لن يعودوا حتى المساء بإمكانك أن تهدم الجدار فلقد نقلت محتويات الحوض .
نظر إلي نظرةً أكدتْ له أنني أنثى و إن كنتُ قلتُ و
فعلتُ ما مضى. حاولَ أن يريني نظرته تلك ثم قال: سأتمهّل حتى يعود أخوتك ..
أليس الجار للجار !!
مزامنته لعبارته الأخيرة تلك بحركة من يده على ذقنه
جعلتني أكثر تصميما على أن يهدم الجدار. شعرت أني أصبحت في مكان القوة إذ أطلب
هذا. انقلبت صورته تماما. الجار الجديد مهرّب الآثار و الذي لا بد أنه ابتلع أو
خبأ تماثيل عدة في كرشه.. لم أعد أراه رجلا مخيفا .. صرت أراه مسخا قزما ..
كرشه الضخمة بدت مضحكة و معبأة بالقذارة .. أما رأسه الأملس فمحشو بالغباء.
أمام تصميمي على وجوب هدم الجدار و بناء اثنين آخرين
عوضا عنه قال: إذا بما أنه سيكون جدارا عاليا و لن نتمكن من رؤيتكم ما رأيك لو
فتحنا في أسفل الجدار و على مستوى طولكِ نافذة صغيرة كي تتكلمي من خلالها مع
زوجتي و أولادي و كي نتكلم معكم بسهولة إذا أردنا . قلت: لا أظن أننا سنحتاج
إلى ذلك و إن يكن فهنالك هاتف و باب للبيت.
شاعرا بالإهانة قال: أنتِ حرّة .. و مضى معطيا عماله
أمرا بهدم الجدار.
مع كل هراوة تنهال على حجر أسود من أعلى الجدار القديم
.. كان يصعد حجر بناء من أسفل الأرض ليبني جدارا جديدا .
إنه أول من يتحداني .. إنه التحدي الأول الذي أواجهه .
كان عليّ أن أقوم بشيء مميز لأني سأعيش عمري القادم تبعا لهذا الدور الذي
سألعبه اليوم؛ فإما أن أقف خجلة من نفسي و من قلة حيلتي .. و إما أن أتابع في
دروب التحدي إن كانت هذه البداية .
لم أرَ الجدار القديم منهارا بشكل كامل إذ أن الجدار
الجديد كان قد صعد أمامه فما رأيت من تحطمه سوى ذؤاباته العليا و هي تتآكل
كجدران القلاع القديمة . مع كلمة "انتهينا " التي قالها لي العامل شعرت بأني
بنيت جدارا حصينا لبيتي .
عدت إلى الغرفة ..عاد كتاب الجامعة إلى يدي اليسرى و
جهاز التحكم إلى اليد اليمنى.. صارت الملابس بمقاس مناسب . الأخبار انتهت ..
صور الدمار و أصواته توقفت و طرق الباب توقف...
كانت الفقرة التالية مع وصلة غنائية راقصة .. هزت
الراقصة خصرها بينما رافقتها الموسيقى و قرع الطبول . عاد صوت الطرق مجددا .
ازداد الصوت علوا مع أني لم أكن أضغط على زر رفع الصوت . هذه المرة لم يكن
الطرق على باب بيتي.. كانت الطبول تقرع في الحي .
فتحت الباب لأستطلع الأمر ..
من الجهة اليمنى كانت الطبول تقرع لعودة جارنا إياه من
الحج ..
من الجهة اليسرى كانت الطبول تقرع في حفل زفاف ابنه
الميمون.
|