بطاقة تعريف الكاتب:
الجاحظ
أبو عثمان (عمرو بن بحر بن محبوب الكناني البصري) أعظم ناثري العصر
العباسي وأكثر بلغائه تصنيفاً وكتابةً وأثراً. جمع بين علوم الأوائل والأواخر,
وأتقن رواية أهل النقل ودراية أهل العقل, وانحاز في كتابته إلى العقل الذي رآه
حجة الله على خلقه, وسبيلهم إلى صنع حياتهم بإرادتهم الحرة, فمضى في طريق علماء
الكلام الذين وُصفوا بأنهم فرسان العقل, وأن ما يحسنونه من علوم الدين في وزن
ما يحسنونه من معارف الفلسفة, واختط لنفسه سبيلاً بينهم, مجتهداً لا متّبعاً,
فتميز بآراءٍ نُسبت إليه, وجماعة تحلّقت حوله تحت مسمى: (الجاحظيّة). وكانت
كتابته الإبداعية الوجه الآخر من كتابته الفكرية, إعلاءً من شأن العقل الذي
يبتدع لغاته الكاشفة عن وعوده, واحتفاء بالجذور العربية الأصيلة المنفتحة على
كل جديدٍ يضيف إليها بالقدر الذي تضيف إليه, وتأكيدا للمعنى الإنساني الذي فتح
أفق الهوّية على علوم وفنون المعمورة البشرية بأسرها دون تعصب أو تحيز, ومن غير
اتباع أو تقليد, طلباً للحكمة التي هي ـ كالمعرفة والفن ـ ضالة المؤمن. وكان
ذلك تجسيداً لحلم التنوع البشري الخلاّق, وسعياً إلى تتميم ما لم يقل فيه
السابقون على مجرى عادة اللسان وسنة الزمان وخصوصية المكان .
ولد الجاحظ بمدينة البصرة, موطن المعتزلة, حوالي سنة 150 هـ
(=767م). وأفاد من انفتاح علمائها على معارف الدنيا القديمة التي أصبحت ميسورة
لأمثاله باللسان العربي. وأكسبه نهمه المعرفي المذهل صفة الموسوعية التي دفعته
إلى الكتابة في كل مجال, كما لو كان حريصاً على أن يستحضر في كتبه ورسائله كل
ما في الدنيا حوله, وكما لو كان يريد لكتاباته المتنوعة إلى درجة غير مسبوقة أن
تكون مرايا متغايرة الخواص, ينعكس عليها التعدد اللانهائي لحضور الإنسان في
الكون, ذلك الحضور الذي يجعل من الإنسان العالم الأصغر الذي ينطوي على العالم
الأكبر. هكذا, كتب عن معنى التوحيد والعدل وحجج النبوة ونظم القرآن, كما كتب عن
النخل والزرع والمعادن وأنواع الحيوان, وعن تعدد الأجناس الموجود في زمنه
(الترك, والسودان, والهند والسند, والفرس) وتعدد اتجاهات الفكر (الشيعة بعامة
والزيدية بخاصة, والرافضة, والخوارج, والعباسية, والعثمانية) وعن الحرف
والطوائف (المعلمين, والكتاب, والصناع, والزراع, والقيان, والجواري, والخصيان)
وعن العوائد والأخلاق والملامح النفسية للنماذج والأنماط البشرية, فكتب عن الحب
والعشق, الكره والحسد, الجد والهزل, المعاد والمعاش, فضلا عن محبة الأوطان. ولم
تفُتْه الكتابة عن النبيذ أو رواية الُملَح والنوادر بلهجاتها, واصلاً ما كتبه
عن الغلمان بما كتبه عن البخلاء, غير مفلتٍ حتى لصوص الليل ولصوص النهار, بل
البرصان والعرجان والعميان, من مرايا رسائله وكتاباته التي انعكس عليها كل شيء
في زمنه .
ولذلك تعددت الصفات الفنية لكتابة الجاحظ التي تجاورت فيها
المتعارضات, فجمعت ما بين الإيجاز والإطناب, لحن العامة وفصاحة الخاصة, التوفر
على الموضوع الواحد والاستطراد, الاستنباط والاستشهاد, القياس المنطقي
والانطباع الذاتي, الرصانة الجهمة والسخرية التهكمية, الرواية والمعاينة, السرد
والحكاية, التجريد والتصوير الحسي. وكانت هذه الصفات, في اختلافها وتعارض
لوازمها, نتيجة طبيعية للآفاق الموسوعية الرحيبة التي انطلقت منها كتابة
الجاحظ, سواء في تعدد أدوارها الفكرية والاجتماعية والسياسية, أو تعدد جوانبها
الإبداعية التي اتسعت بحدقتيّ عينيه الجاحظتين اللتين لم تتوقفا عن التحديق في
علاقات عصره المتشابكة إلى أن تُوفي في شهر المحرم سنة 255 هـ ( 868 - 869
ميلادية) تاركا تراثه العظيم الذي نقدم أقل القليل من نماذجه.
-------------------------------------------------------------
أضيفت في
14/04/2005/ *خاص القصة السورية / من مختاراته عن الجاحظ لجابر عصفور/ صخر
عن
الكتاب
أجل كتب الجاحظ وأضخمها، وأول موسوعة من نوعها في تاريخ العرب، ألفه
الجاحظ وهو في السن العالية والفالج الشديد، وذلك بعد مقتل المتوكل سنة 247هـ
وأهداه للوزير الخطير محمد بن عبد الملك الزيات، وقدم له بمقدمة مسهبة في فن
الكتابة وأسرار التأليف، ضمنها فصولاً طويلة في الدفاع عن كتبه بما في ذلك كتاب
الحيوان، فجاءت في فن الكتابة وتاريخ الكتاب العربي، بمثابة مقدمة ابن خلدون في
علم التاريخ. وعرَّفه بقوله: (هذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه
العرب والعجم، لأنه وإن كان عربياً أعرابياً، وإسلاميا جماعياً، فقد أخذ من طرف
الفلسفة، وجمع معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علمي الكتاب والسنةِ
وجدانَ الحاسة وإحساس الغريزة، يشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك...) وفي تقديمه
للوزير الزيات قوله: (ولك من هذا الكتاب ثلاثة أشياء، تبيُّن حجة طريفة، أو
تعرّف حيلة لطيفة، أو استفادة نادرة عجيبة، وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو
إذا مللت الجد) وسماه (الحيوان) لأنه مبني كما يقول على تتبع ما في حياة
الحيوان من الحجج على حكمة الله العجيبة وقدرته النادرة، قال: (وكانت العادة في
كتب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطعات الأعراب ونوادر
الأشعار، لِما ذكرت من عجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر إن
شاء الله تعالى) إلى أن قال: (وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه
السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر أصلح، وما غايتنا إلا أن تستفيدوا خيراً)
طبع كتاب الحيوان لأول مرة في القاهرة سنة (1323هـ 1905م) ثم سنة 1907م بعناية
الحاج محمد الساسي المغربي، ونشره المرحوم عبد السلام هارون محققاً سنة 1945م
وأعاد طبعه سنة 1965م. واستخرج المقري ما فيه من فصول عن الطير، وأودعها في
القسم الخامس من الفن الثالث من كتابه (نهاية الأرب). ونقل الجرجاني خطبة
الكتاب برمتها في كتابه (دلائل الإعجاز). وربما كان الجاحظ قد ألحق فصولاً
بكتابه هذا، كان منها كتاب (القول في البغال) الذي نشر بعناية شارل بلّا سنة
1375هـ. ولوديعة طه النجم (منقولات الجاحظ عن أرسطو في كتاب الحيوان) الكويت
1985 ولصموئيل عبد الشهيد (الروح العلمية عند الجاحظ في كتابه الحيوان) 1975م
ولخولة شخاترة (بنية النص الحكائي في كتاب الحيوان) الأردن 1966م وانظر في مجلة
المورد (مج17 ع4 شتاء 1988م) الجاحظ: الناقد التفسيري، بقلم كاصد ياسر الزبيدي.
--------------------------
أعد هذه المقدمة
الباحث زهير ظاظا/ الوراق
فصول من الكتاب
الجزء الأول
خطبة الكتاب
بِسم اللَّه الرَّحمن الرحيم
وبه ثقتي
جَنَّبَك اللّهُ الشُّبْهةَ، وَعصَمك من الحَيرة، وجَعلَ بينك وبين
المعرفة نسباً، وبين الصدق سَبَباً، وحبَّب إليك التثبُّت، وزيَّن في عينك
الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعرَ قلبكِ عِزَّ الحقّ، وأودَعَ صدرَك بَرْدَ
اليقين وطرد عنك ذلَّ اليأس، وعرَّفك ما في الباطل من الذلَّة، وما في الجهل من
القِلَّة، ولعمري لقد كان غيرُ هذا الدعاء أصوبَ في أمرك، وأدلَّ عَلَى مقدارِ
وزنك، وعلى الحال التي وضعْتَ نفسك فيها، ووسَمْت عرضَك بها، ورضيتها لدينِك
حظًّا، ولمروءتك شِكلاً، فقد انتهى إليَّ مَيلُكَ على أبي إسحاق، وحَملُك عليه،
وطعنُك على مَعْبَدٍ، وتنقّصك له في الذي كان جَرَى بينَهما في مساوي الديكِ
ومحاسِنِه، وفي ذكرِ منافع الكلب ومضارِّه، والذي خرجَا إليه من استقصاءِ ذلك
وجمْعِه، ومن تتبُّعِه ونظمِه، ومن الموازَنَة بينَهما، والْحُكم فيهما، ثم
عبتَني بكتاب حيل اللصوص، وكتاب غِشّ الصناعات، وعبتَني بكتاب المُلَح
والطُّرَف، وما حَرَّ من النوادر وبَرُد، وما عاد بارده حارًّا لفَرْط برده حتى
أمتَعَ بأكثر من إمتاع الحارّ، وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء، ومناقضَتِهم
للسُّمَحاء، والقولِ في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّاً في العاجل، والكذب إذا
كان نافعاً في الآجِل، ولِمَ جُعل الصدقُ أبداً محموداً، والكذبُ أبداً
مذموماً، والفرق بين الغَيرة وإضاعة الحُرْمة، وبين الإفراط في الحميّة
والأنَفَة، وبين التقصير في حفظ حقِّ الحرمة، وقلَّة الاكتراثِ لِسوء القالَة،
وهل الغيرة اكتساب وعادة، أم بعض ما يعرض من جهة الديانة، ولبعض التزيُّد فيه
والتحسن به، أو يكون ذلك في طباع الحريّة، وحقيقة الجوهريَّة، ما كانت العقولُ
سليمة، والآفات منفيَّة والأخلاطُ معتدلة، وعبتَني بكتاب الصُّرَحاء والهُجَناء،
ومفاخرة السُّودان والحمران، وموازنة ما بين حقِّ الجئولة والعمومة، وعبتَني
بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب، وأقسام فضول الصناعات، ومراتب التجارات؛
وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرقِ ما بين الذكور والإناث، وفي أيِّ موضع
يَغلبن ويفضُلْن، وفي أي موضع يكنَّ المغلوباتِ والمفضولات، ونصيب أيِّهما في
الولد أوفَر، وفي أيِّ موضع يكون حقُّهنّ أوجب، وأيَّ عملٍ هو بهنَّ أليق، وأيّ
صناعةٍ هنَّ فيها أبلغ،
وعبتَني بكتاب القحطانيَّة وكتاب العدنانيَّة في الردّ على
القحطانية، وزعمتَ أنّي تجاوزتُ الحميَّة إلى حدِّ العصبيَّة، وأنِّي لم أصل
إلى تفضيل العدنانيَّة إلا بِتنقُّص القحطانيّة، وعبتَني بكتاب العرب والموالي،
وزعمت أنِّي بَخَسْت المواليَ حقوقَهم، كما أنِّي أعطيتُ العربَ ما ليس لهم،
وعبتَني بكتاب العرب والعجم، وزعمت أنّ القولَ في فرقِ ما بين العرب والعجم، هو
القولُ في فرقِ ما بين الموالي والعرب، ونسبتَني إلى التكرار والترداد، وإلى
التكثير، والجهل بما في المُعَاد من الخَطَل، وحَمْلِ الناسِ المؤن، وعبتَني
بكتاب الأصنام، وبذكر اعتلالات الهند لها، وسبب عبادة العرب إيّاها، وكيف
اختلفا في جهة العِلَّة مع اتّفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عُبَّاد
البِدَدَة والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة، والأصنام المنجورة، أشدَّ
الديّانين إلْفاً لما دانوا به، وشغفاً بِمَا تعبَّدوا له، وأظهَرَهم جِدّاً،
وأشدَّهم على من خالفهم ضِغناً، وبما دانو ضِنّاً، وما الفرق بين البُدِّ
والوثَن، وما الفَرق بين الوثَن والصنم، وما الفرق بين الدُّمية والجثَّة،
ولِمَ صوَّروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم، صُوَرَ عظمائهم ورجالِ دعوتهم، ولم
تأنَّقوا في التصوير، وتجوَّدوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين
والتفخيم، وكيف كانت أوَّليَّة تلك العبادات، وكيف اقترفت تلك النِّحل، ومن أيّ
شكل كانت خُدَع تلك السدنة، وكيف لم يزالوا أكثرَ الأصنافِ عدداً، وكيف شمل ذلك
المذهب الأجناسَ المختلفة، وعبتني بكتاب المعادن، والقولِ في جواهرِ الأرض، وفي
اختلاف أجناس الفِلِزِّ والإخبار عن ذائبها وجامدها، ومخلوقها ومصنوعها، وكيف
يسرع الانقلاب إلى بعضها، ويُبطئ عن بعضها، وكيف صار بعض الألوان يَصبُغ ولا
ينصبغ، وبعضها يَنْصبِغُ ولا يصْبَغُ، وبعضها يصبغُ وينصبغ، وما القولُ في
الإكسير والتلطيف، وعبتَني بكتاب فرق ما بين هاشمٍ وعبد شمس، وكتاب فرق ما بين
الجنّ والإنس، وفرق ما بين الملائكة والجنّ، وكيف القولُ في معرفة الهدهد
واستطاعة العفريت، وفي الذي كان عنده عِلْمٌ من الكتاب، وما ذلك العلم، وما
تأويل قولهم: كان عنده اسم اللّه الأعظم، وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات، وما
القولُ في الأرزاق والإنفاقات وكيف أسباب التثمير والترقيح، وكيفَ يجتلب التجار
الحُرَفاء، وكيف الاحتيال للودائع، وكيف التسبُّب إلى الوصايا، وما الذي يوجب
لهم حسن التعديل، ويصرف إليهم باب حسن الظن، وكيف ذكرنا غشَّ الصناعات
والتجارات، وكيف التسبُّب إلى تعرف ما قد ستروا وكشف ما موَّهوا؛ وكيف الاحتراس
منه والسلامة من أهله، وعبتني برسائلي، وبكلّ ما كتبت به إلى إخواني وخُلَطائي،
من مَزْح وجِدٍّ، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافُل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال
مِيسَمه باقياً، ومديح لا يزال أثرُه نامياً ومن مُلَح تُضحِك، ومواعظَ تُبكي.
وعبتَني برسائلي الهاشميّات، واحتجاجي فيها، واستقصائي معانيَها،
وتصويري لها في أحسَن صورة، وإظهاري لها في أتمِّ حلية، وزعمتَ أنّي قد خرجتُ
بذلك من حدِّ المعتزلة إلى حد الزيديّة، ومن حدّ الاعتدال في التشيُّع
والاقتصاد فيه، إلى حدِّ السرف والإفراط فيه، وزعمتَ أنّ مقالة الزيدية خطبة
مقالةِ الرافضَة، وأنّ مقالة الرافضة خطبة مقالة الغاليَة، وزعمتَ أنّ في أصل
القضيّة والذي جَرَتْ عليه العادة، أن كلَّ كبير فأوّلهُ صغير، وأنَّ كلَّ كثير
فإنما هو قليل جُمع مِنْ قليل، وأنشدت قول الراجز:
قد يَلحَق الصغيرُ بالجليل
وإنما القَرْمُ من الأَفِـيل
وسُـحُـقُ الـنـخـلِ
من
الـفَــســـيل
وأنشدت قول الشاعر:
ربّ كبير هاجَه صـغـيرٌ
وفي البُحور تَغرَق البحورَُ
وقلت: وقال يزيدُ بن الحكم:
فاعلم
بنـي فـإنـه
بالعلم
ينتفع العلـم
إن الأمور دقيقهـا
مما
يهيج له العظيم
وقلتَ : وقال الآخر:
صار
جداً ما مزحت به
رب
جدٍ ساقه اللعـب
وأنشدت قول الآخر:
ما
تنظرون بحق وردة فيكـم
تقـضـــي
الأمـــور
قد يبعث الأمر الكبير صغيرة
حتى
تظل له الدماء تصبب
وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب:
جدعتم بعبد اللـه آنـف قـومـه
بني
مازن أن سب راعي المحزم
وقال الآخر:
أية نار قدح القـادح
وأي
جدٍ بلغ المازح
وتقول العرب: العَصَا من العُصَيَّة، ولا تلد الحيَّةَ إلا حَيَّةٌ.
وعبتَ كتابي في خلْق القرآن، كما عبت كتابي في الردِّ على المشبّهة؛
وعِبْتَ كتابي في القول في أصول الفتيا والأحكام، كما عبتَ كتابي في الاحتجاج
لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديعِ تركيبه، وعبتَ معارضَتي للزيدِيَّة وتفضيلي
الاعتزالَ على كلِّ نِحْلة، كما عبتَ كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على
النصارى واليهود ثمَّ عبتَ جملةَ كتبي في المعرفة والتمست تهجينَها بكلِّ حيلة،
وصغَّرت من شأنها، وحطَطت من قدرها، واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها، فعبتَ
كتاب الجوابات، وكتاب المسائل، وكتابَ أصحابِ الإلهام، وكتابَ الحجَّة في
تَثبيت النبوّة، وكتاب الأخبار، ثمّ عبتَ إنكاري بصيرةَ غنام المرتدِّ، وبصيرةَ
كلِّ جاحد وملحد، وتفريقي بين اعتراض الغُمْر، وبين استبصار المحقّ، وعبتَ
كتابَ الردِّ على الجَهْمِيّة في الإدراك، وفي قولهم في الجَهْالات، وكتاب
الفرقِ ما بينَ النبيّ والمتنبي، والفرق ما بينَ الحِيَل والمخاريق، وبينَ
الحقائقِ الظاهرة والأعلام الباهِرة، ثمّ قصدتَ إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره
والتهجين لنظمه، والاعتراض على لفظه، والتحقير لمعانيه، فزَرَيت على نحْتِهِ
وسَبكه، كما زَرَيت على معناهُ ولفظِه، ثمّ طعنتَ في الغرض الذي إليه نزعْنا،
والغاية التي إليها قَصَدنا، على أنّه كتابٌ معناه أنبَهُ من اسمِهِ، وحقيقتهُ
آنَقُ من لفظه، وهو كتابٌ يحتاجُ إليه المتوسِّط العامي، كما يحتاجُ إليه
العالم الخاصي، ويحتاج إليه الرَّيِّض كما يحتاج إليه الحاذق: أما الرّيض
فللتعلُّم والدرْبة، وللترتيب والرياضة، وللتمرينِ وتمْكين العادة، إذْ كان
جليلُه يتقدم دقيقه، وإذا كانت مقدِّماته مرتبةً وطبقاتُ معانيه منزّلة، وأما
الحاذقُ فلكفايةِ المُؤنة، لأن كلَّ من التقط كتاباً جامعاً، وباباً من أمَّهات
العلم مجموعاً، كان له غُنْمه، وعلى مؤلّفه غُرمُه، وكان له نفعُه، وعلى
صاحِبهِ كَدُّه، معَ تعرُّضِهِ لمطاعِن البُغَاةِ، ولاعتراض المنافِسِين، ومع
عرْضِهِ عقلَه المكدودَ على العقولِ الفارغة، ومعانيه على الجهابِذة، وتحكيمه
فيه المتأوِّلين والحسَدَة، ومتى ظَفِر بمثله صاحبُ علم، أو هجمَ عليه طالبُ
فقه، وهو وادعٌ رافِه، ونَشِيط جَامٌّ، ومؤلِّفه مُتعَبٌ مكدود، فقد كُفي
مَؤُونَة جمعه وخزنِه، وطلبِه وتتبُّعِه، وأغناه ذلك عن طول التفكير، واستفادِ
العمر وفلِّ الحدِّ، وأدرَك أقصى حاجتِه وهو مجتمعُ القُوَّة، وعلى أنّ له عند
ذلك أن يجعَلَ هُجومه عليه من التوفيق، وظفَره به باباً من التسديد.
وهذا كتابٌ تستوي فيه رغبةُ الأُمم، وتتشابَه فيه العُرْبُ
والعَجَم، لأنه وإن كانَ عَرَبيًّا أعرابياً، وإسلاميًّا جماعيًّا، فقد أخَذَ
من طُرَفِ الفلسفة، وجمع بين معرفةِ السماعِ وعلْم التجرِبة، وأشرَكَ بين علمِ
الكتاب والسنة، وبينَ وِجْدان الحاسَّة، وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما
تشتهيه الشيُوخ، ويشتهيه الفاتِكُ كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعبُ ذو
اللَّهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحَزْم، ويشتهيه الغُفْلُ كما يشتهيه الأريب،
ويشتهيه الغبيُّ كما يشتهيه الفَطِن.
وعبتَني بحكاية قولِ العثْمانِيَّة والضِّرَارية، وأنت تسمعني أقول
في أوَّل كتابي: وقالت العثمانية والضراريَّة، كما سمعتَني أقول: قالت الرافضة
والزيدية، فحكمتَ عليَّ بالنصْب لحكايتي قول العثمانية، فهلاَّ حكمتَ عليّ
بالتشيُّع لحكايتي قول الرافضة وهلا كنتُ عندَك من الغالِية لحكايتي حجج
الغالية، كما كنتُ عندك من الناصِبة لحكايتي قولَ الناصِبة وقد حكينا في كتابنا
قولَ الإباضيَّة والصُّفْرية، كما حكينا قولَ الأزارقة والزيدية، وعلى هذه
الأركان الأربعة بُنِيَت الخارجية، وكلُّ اسمٍ سواها فإنما هو فرعٌ ونتيجةٌ،
واشتقاقٌ منها، ومحمولٌ عليها، وإلاَّ كنَّا عندَك من الخارجية، كما صرنا عندَك
من الضِّرَاريَّة والناصِبَة، فكيف رضيتَ بأن تكون أسرع من الشيعة، أسرع إلى
إعراض الناس من الخارجية، اللهم إلا أن تكون وجدتَ حكايتي عن العثمانيَّة
والضِّراريَّة أشبعَ وأجمعَ، وأتَمَّ وأحكم، وأجود صنعة، وأبعد غاية، ورأيتني
قد وهَّنت حقَّ أوليائك، بقدر ما قوَّيتُ باطل أعدائك ولو كان ذلك كذلك، لكان
شاهدك من الكتاب حاضراً، وبرهانك على ما ادعيت واضحا.
وعبتَني بكتاب العباسية، فهلاَّ عبتَني بحكايِة مقالِة مَن أبى
وجوبَ الإمامة، ومَنْ يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أنّ تَركَ
النَّاس سُدًى بلا قيِّم أردُّ عليهم، وهملاً بلا راع أربحُ لهم، وأجدَرُ أنْ
يجمع لهم ذلك بين سلامَةِ العاجل، وغنيمة الآجل، وأنَّ تركَهم نَشَراً لا نظامَ
لهم، أبعد من المَفاسِد، وأجمعُ لهم عَلَى المراشد بل ليس ذلك بك، ولكنَّه
بهرَك ما سمعتَ، وملأَ صدرَك الذي قرأت، وأبعَلك وأبْطَرَك، فلم تتّجه للحجّة
وهي لك معرضة، ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية، ولم تَعرِف بابَ المخرج إذ جهلتَ
بابَ المدخَل، ولم تعرِف المصادر إذ جهلتَ الموارد.
رأيتَ أنَّ سبَّ الأولياء أشفى لدائك، وأبلغَ في شفاء سَقَمك،
ورأيتَ أن إرسالَ اللسان أحضَرُ لَذَّةً، وأبعدُ من النَّصَب، ومن إطالة الفكرة
ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة.
ولو كنتَ فطِنت لعجْزك، ووصَلْتَ نقصَك بتمامِ غيرِك، واستكفيْتَ من
هو موقوفٌ على كفايةِ مثلك، وحَبيسٌ على تقويم أشباهك كان ذلك أزينَ في
العاجِل، وأحقَّ بالمثُوبة في الآجل، وكنتَ إنْ أخطأَتك الغنيمةُ لم تُخْطِك
السلامة، وقد سَلِم عليك المخالفُ بقدر ما ابتُلي به منكَ الموافِق، وعلى أنَّه
لم يُبتَل منك إلا بقْدرِ ما ألزمَته من مُؤنةِ تثقيفك، والتشاغُلِ بتقويمك،
وهل كنتُ في ذلك إلاّ كما قال العربي: هَلْ يَضُرُّ السَّحابَ نَبْاحُ الكلابِ،
وإلاّ كما قال الشاعر:
هل
يَضُرُّ البحرَ أمسى زَاخِراً
أَنْ رَمَى فيهِ غُلامٌ بَحـجَـرَْ
وهل حالُنا في ذلك إلاّ كما قال الشاعر:
ما
ضرَّ تغلِبَ وائلٍ أهجَوْتَها
أم
بُلْتَ حَيْثُ تَنَاطَحَ البَحْرَانِ
وكما قال حسَّانُ بنُ ثابت: ما أُباِلي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيسٌ أم
لَحَانِي بظهْرِ غَيْبٍ لَئِيمَُ
وما أشكُّ أنَّكَ قد جعلت طول إعراضنَا عنك مَطِيَّةً لك، ووجَّهتَ
حِلمَنا عنك إلى الخوف منك، وقد قال زُفَر بنُ الحارث لبعضِ مَنْ لم ير حقَّ
الصفح، فجعل العفْوَ سبباً إلى سوء القول: فإنْ عدتَ وَاللّهِ الذي فوقَ
عَرْشِه مَنَحْتُك مسنون الغِرَارَينِ أزْرَقـا
فإنّ دواءَ الجهل أن تُضْرَبَ الطُّلَى وأن يُغْمس العِرِّيضُ حتى
يغرّقا
وقال الأوّل:
وضغَائنٍ
دَاوَيتُها بضغـائنٍ
حتَّى
شَفَيتُ وبالحُقُودِ حُقُودا
وقال الآخر:
وما
نَفى عنك قوماً أنت خائفُـهـم
كَمِثل
وَقمك جُهَّـالاً بـجُـهّـالِ
فاقْعَسْ إذَا حَدِبوا واحدَبْ إذا قَعسوا وَوَازِنِ الشَّرَّ
مثقالاً بِـمـثـقـالِ
فإنّا وإن لم يكن عندنا سِنَان زُفَرَ بنِ الحارث، ولا معارضةُ
هؤلاء الشرَّ بالشرّ، والجهلَ بالجهل، والحِقد بالحِقد، فإن عندي ما قال
المسعوديَُّ:
فمُسَّا تراب الأرض منه خُلقتُمـا
وفيه
المعادُ والمصيرُ إلى الحشر
ولا تأنفا أن تَرْجِعا فتـسـلِّـمـا
فما
كسى الأفواه شَرًّا من الكِبْرِ
فلو شئتُ أدْلى فيكما غير واحد
علانيةً
أو قالَ عندي في السِّرِّ
فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ عنكُمـا
ضَحِكْتُ
له كيما يَلجَّ ويَسْتَشْرِي
وقال النَّمِر بن تَولَب:
جزَى
اللّهُ عنِّي جَمرَةَ ابنة نوفلٍ
جَزَاءَ
مُغِلٍّ بالأمـانةِ كـاذِب
بما خَبَّرَتْ عنِّي الوُشاةَ ليكذِبـوا
عليَّ وقد أوليتُها في النـوائِب
يقول: أخرجتْ خَبرَها، فخرج إلى من أحبُّ أن يعابَ عندها ولو شئتَ
أن نعارضَك لعارضناك في القول بما هو أقبحُ أثراً وأبقى وَسْماً، وأصدقُ
قِيلاً، وأعدلُ شاهداً، وليس كلُّ مَن تَرَكَ المعارضَةَ فقد صفح، كما أنَّه
ليس من عَارضَ فقد انتصرَ، وقد قال الشاعر قولاً، إن فهمتَه فقد كفَيتَنا
مئونةَ المُعارضَة، وكفيتَ نفسَك لزوم العارِ، وهو قوله: إن كنتَ لا ترهَبُ
ذمِّي لِـمَـا تَعْرِفُ مِنْ صَفْحِي عن الجاهلِ
فاخشَ سُكُوتي إذ أنا منـصـت
فيكَ
لمسموعِ خَـنَـا الـقـائلِ
فالسـامـعُ الـذمِّ شـريكٌ لـهُ
ومُطِعمُ المأكـولِ كـالآكِـل
مقالةُ السُّـوء إلـى أهـلـهـا
أسرَعُ
من مُـنْـحَـدر سـائلِ
ومن دَعا الـنـاسَ إلـى ذمِّـه
ذمُّوه بالحـقِّ وبـالـبـاطـل
فلا تَهِـجْ إنْ كـنـتَ ذا إربَةٍ
حرْبَ
أخي التجرِبة العـاقـل
فإنَّ ذا العَـقـل إذا هِـجْـتَـه
هجتَ
بـه ذا خَـيَلٍ خـابـل
تُبْصرُ في عـاجـلِ شـدَّاتـه
عليك
غِبَّ الـضـرَر الآجـلِ
وقد يقال: إنّ العفوَ يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم، وقد
قال الشاعر:
والعَفو
عندَ لبيبِ القومِ موعِظةٌ
وبعضهُ
لسَفيهِ القومِ تـدريبُ
فإنْ كنَّا أسأنا في هذا التقريع والتوقيفِ، فالذي لم يأخُذ فينا
بحُكم القرآن ولا بأدَب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يَفزَع إلى ما في
الفِطَن الصحيحة، وإلى ما توجبهُ المقاييسُ المطَّرِدةُ، والأمثالُ المضرُوبة،
والأشعار السائرة، أولَى بالإساءَة وأحقُّ باللائمة
أخذ البريء بذنب المذنب
قال اللّه عزَّ وجل: "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌُ وِزْرَ أُخْرَى"، وقد
قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: "لا يَجْنِ يمِينُكَ عَلَى شِمَالك"، وهذا
حكمُ اللّه تعالى وآدابُ رسوله والذي أُنْزِلَ به الكتابُ ودلَّ عليه من حُجَج
العقول.
فأمَّا ما قالوا في المثل المضروب رَمَتْنيِ بِدَائهَا وانسَلَّتْ،
وأمّا قولُ الشعراءِ، وذمُّ الخطباءِ لِمنْ أخَذَ إنساناً بذنْب غيره، وما
ضَرَبُوا في ذلك من الأمثال، كقول النابغة حيث يقول في شعره: وكَلَّفْتَنِي
ذَنْبَ امْـرِئٍ وتـرَكْـتَ كذِي العُرِّ يُكوَى غيرُه وهو رَاتِع
وكانوا إذا أصاب إبلَهُم العُرّ كَوَوُا السليمَ ليدفعَه عن السقيم،
فأسقمُوا الصحيحَ من غير أن يُبْرِئوا السقيم.
وكانوا إذا كثُرتْ إبلُ أحدِهم فَبَلَغَت الألف، فقئوا عَينَ
الفحْل، فإنْ زادَت الإبلُ على الألف فقئوا العينَ الأخرى، وذلك المفقَّأُ
والمعمَّى اللذان سمعتَ في أشعارهم.
قال الفرزدق:
غلبتك
بالمفقئ والمعنَّـى
وبيتِ
المُحْتَبِي والخافقاتِ
وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف والغارة، فقال
الأوّل: فقأت لها عَيْنَ الفَحِـيل عِـيَافَةً وفيهنّ رَعْلاَءُ المسامِع
والحامي
الرعلاء: التي تشقّ أذنها وتترك مدلاَّة، لكرمها،- يذبح العتيرة
وكانوا يقولون في موضع الكَفَّارة والأمْنِيَّة، كقول الرجل: إذا بلغَتْ إبلي
كذا وكذا وكذلك غنَمي، ذَبحْتُ عند الأوثان كذا وكذا عتيرة، والعتيرة من نُسُك
الرَّجبيّة والجمع عتائر والعتائر من الظباء فإذا بلغتْ إبلُ أحدِهم أو غنمُه
ذلك العددَ، استعملَ التأويلَ وقال: إنَّما قلتُ إنِّي أذبحُ كذا وكذا شاة،
والظباء شاء كما أنّ الغنم شاء، فيجعل ذلك القربانَ شاءً كلَّه ممَّا يَصِيد من
الظباء، فلذلك يقول الحارثُ ابن حِلِّزةََ اليشكُريُّ:
عَنَتاً باطلاً وظُلْماً كـمـا تُـع
تَرُ
عَنْ حَجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّباءَُ
بعد أن قال:
أمْ عَلينا جُناحُ كِنْدَةَ أن يَغ
نَمَ
غَازِيُهمُ ومِنَّا الجزاءُ
وكانوا إذا أورَدُوا البقرَ فلم تشرَبُ، إمَّا لكَدر الماء، أَو
لقلَّةِ العطَش، ضربوا الثورَ ليقتَحِم الماء، لأنَّ البقرَ تَتْبَعه كما تتْبع
الشَّوْلُ الفحل، وكما تتبع أتُنُ الوحش الحِمار، فقال في ذلك عَوْفُ بن
الخَرِع:
تمنَّتْ
طيِّئٌ جَهْـلاً وجُـبْـنـاً
وقد
خالَيتُهم فـأَبَـوْا خـلائي
هَجَوْني أنْ هَجَوْتُ جِبَال سَلمى
كضَرْب
الثَّورِ للبقرِ الظِّمـاء
وقال في ذلك أَنَس بن مُدْرِكة في قتله سُلَيك بنَ السُّلَكَة:
إنّي
وقَتْلي سُلَيْكاً ثمَّ أعْـقِـلـهُ
كالثَّورِ يُضرَب لمَّا عافَتِ البَقَرُ
أنِفْتُ لِلْمَرء ِإذْ نِيكتْ حَلِيلـتُـه
وأن
يُشَدَّ على وجعائها الثَّفَـرُ
وقال الهَيَّبان الفهميّ:
كما
ضُرِبَ الْيَعْسُوب أَنْ عافَ باقِرٌ
وما
ذَنْبُهُ أن عافَتِ الماءَ بـاقـرُ
ولمّا كان الثورُ أميرَ البقر، وهي تطيعُه كطاعة إناث النحل
لليعسوب، سمَّاه باسم أمير النحْلِ.
وكانوا يزعمون أنَّ الجنَّ هي التي تصُدُّ الثِّيرانِ عن الماء حتى
تُمْسِكَ البقرُ عن الشرب حتى تهلِك، وقال في ذلك الأعشى:
فإنِّي
وما كلَّفتُمونـي وربِّـكـم
لأعلَمُ مَنْ أمْسَى أعقَّ وأَحربـا
لَكالثَّور والجنّيُّ يَضرِبُ ظَهرَه
وما
ذنْبُه أن عافَتِ الماءَ مَشرَبا
وما ذنْبُه أَنْ عافَتِ الماءَ باقِـرٌ
وما
إن تَعَافُ الماءَ إلاَّ ليُضْرَبا
كأنّه قال: إذا كان يُضْرَب أبداً لأنها عافت الماء، فكأنَّها إنما
عافَتِ الماءَ ليُضْرب، وقال يحيي بن منصور الذُّهليّ في ذلك:
لكالثَّور والجنيّ يَضْرِبُ وَجْهَه
وما
ذَنْبه إن كانَتِ الجِنُّ ظالِمه
وقال نَهْشلُ بنُ حَرِّيٍّ:
أتُتْرَكُ
عارضٌ وبنـو عَـدِيٍّ
وتَغْـرَمَ
دارِمٌ وهُـم بَـرَاءُ
كدأبِ الثَّوْرِ يُضْرَبُ بالهَراوى
إذا
مَا عَافَتِ البَقَرُ الظِّمَـاءُ
وكيف تكلّفُ الشِّعرَى سُهيلاً
وبينَهما الكواكبُ والسَّـمـاء
وقال أبو نُوَيرة بن الحصين، حين أخذه الحكم بن أيُّوب بذَنْب
العَطَرَّق:
أبا
يُوسُفٍ لو كنتَ تَعلَمُ طاعَتي
ونُصْحِي
إذنْ ما بِعتَني بالمحلَّق
ولا ساقَ سَرّاق العِرَافة صالحٌ
بَنِيَّ
ولا كُلِّفْتُ ذَنْبَ العطـرق
وقال خِداش بن زُهير حين أُخذ بدماء بني محارب:
أُكلّفُ قَتْلَى مَعْشر لسـتُ مِـنـهـمُ
ولا
دارُهُمْ داري ولا نصرُهُم نَصْرِي
أُكلَّفُ قَتلَى العِيصِ عِيصِ شُـواحِـط
وذلك
أمرٌ لـم تُـثَـفّ لَـهُ قِـدْرِي
وقال الآخر:
إذا
عَرَكت عِجْلٌ بنا ذنْبَ طـيِّءٍ
عَرَكْنا
بتَيمِ اللاتِ ذنبَ بَني عِجْلِ
ولما وَجَد اليهودِيُّ أخا حنبض الضبابيّ في منزله فخصَاه فمات،
وأخذَ حنبض بني عَبْس بجنايَة اليهوديّ ، قال قيس بن زُهَيْر: أتأخذُنا بذنْبِ
غيرِنا، وتسألنا العَقلَ والقاتلُ يهوديٌّ من أهل تيماء؟ فقال: واللّه أنْ لو
قتلَتْه الريح، لودَيْتُمُوه فقال قيس لبني عَبس: الموتُ في بني ذُبيانَ خَيْرٌ
من الحَياةِ في بَني عامر ثم أنشأ يقول:
أكلَّفُ
ذا الخُصْيَيْن إن كان ظَالمـاً
وإن
كنتُ مظلوماً وإن كنتُ شاطنا
خصاه امرؤٌ من آلِ تيمـاءَ طـائر
ولا
يَعْدمُ الإنسيُّ والجـنُّ كـائنـا
فَهَلاَّ بنـي ذُبـيانَ أمُّـكَ هَـابِـلٌ
رَهَنْتَ
بفَيفِ الرِّيحِ إن كُنْتَ رَاهِنا
إذا قلتَُ قد أفلتُّ من شَرِّ حنبـض
أتاني بأُخْرَى شرّه مُتَـبـاطِـنـا
فقد جَعَلَتْ أكبادُنـا تـجـتـويكُـمُ
كما تجتَوِي سوقُ العِضاهِ الكرازِنا
قتل لقمان بن عاد لنسائه وابنته
ولما قَتَل لُقمان بنُ عادٍ ابنَته - وهي صُحْر أختُ لُقَيم - قال
حين قَتَلها: ألَسْتِ امرأة وذلك أنّه قد كان تزوج عِدَّةَ نساء، كلُّهنَّ
خُنَّهُ في أنفُسهنّ، فلمَّا قَتَلَ أُخراهنَّ ونزل من الجبل، كان أوَّلَ من
تلقّاه صُحْر ابنته، فوثَبَ عليها فقتلها وقال: وأنت أيضاً امرأة وكان قد
ابْتُلِي بأنَّ أختَه كانت مُحْمِقة وكذلك كان زوجُها، فقالتْ لإحدَى نساءِ
لُقْمان: هذه ليلةُ طُهْرِي وهي ليلتُك، فدَعيني أنامُ في مَضجَعِك، فإنَّ
لقمانَ رجلٌ مُنْجِب، فعسَى أن يقَع عليَّ فأُنْجِبَ، فوَقَعَ على أُختِه
فَحَمَلَتْ بِلُقَيْم، فهو قولُ النَّمِرِ بن تَولَب:
لُقيمُ
بنُ لُقمانَ من أُختِـهِ
فكانَ
ابنَ أُختٍ لهُ وابنَما
ليالِيَ حمّق فاستحصنَتْ
عليه
فَغُرَّ بها مُظْلِمـا
فأحبَلَهَا رَجلٌ مُحـكِـمٌ
فجاءت به رجلاً مُحْكِمَا
فضربت العربُ في ذلك المثلَ بقتل لقمان ابنتَه صُحراً، فقال خُفافُ
بن نَدْبةَ في ذلك:
وعَبّاس
يُدِبُّ لي المـنـايا
وما
أذنَبْتُ إلاَّ ذَنْبَ صُحْر
وقال في ذلك ابن أُذَيْنَة:
أتجمَع تَهيَاماً بـلـيلَـى إذا نـأَتْ
وهِجْرانَها
ظُلماً كما ظُلِمَتْ صُحْرَُ
وقال الحارثُ بن عُبَاد: قَرِّبا مربطَ النعامةِ
مِـنِّـي
لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عَنْ حِيالِ
لم أكنْ من جُنَاتِها عَلِمَ الـل
هُ
وإنِّي بحَرِّها اليومَ صالِي
وقال الشاعر، وأظنُّه ابنَ المقفَّع:
فلا
تَلُمِ المرءَ في شأنِهِ
فربَّ ملومٍ ولَمْ يُذْنِبَِ
وقال آخر:
لعلَّ لَهُ عُذْراً وأَنتَ تَلُـومُ
وكم
لائمٍ قد لاَمَ وهْوَ مُليم
حديث سنمَّار وقال بعض العرب، في قتل بعضِ الملوك لِسِنمَّار
الرومي؛ فإنه لما علا الخَوَرْنَق ورأى بُنْياناً لم يرَ مثله، ورأى في ذلك
المستشرف، وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثلَ ذلك البنيانَ لرجُلٍ آخرَ من
الملوك، رمَى به من فوق القصر، فقال في ذلك الكلبيّ في شيءٍ كان بينَه وبين
بعضِ الملوك:
جَزَاني
جَـزَاهُ الـلّـهُ شَـرَّ جـزائه
جَزَاءَ
سِنِمَّـارٍ ومـا كـان ذَا ذنـب
سِوَى رَصِّه البنيانَ سَبـعـين حِـجَّةً
يُعَلَّى
عليه بالقرَامِـيدِ والـسَّـكْـبِ
فلما رأى البُـنْـيانَ تـمَّ سُـحُـوقَـه
وآضَ
كمِثْلِ الطَّوْدِ ذِي الباذِخ الصَّعْبِ
وظنَّ سِـنِـمّـارٌ بـه كُـلَّ حـبـوة
وفازَ لَـدَيْهِ بـالـمـودَّةِ والـقُـرب
قال اقذِفُوا بالعِلْجِ مِنْ رأسِ شـاهـقٍ
فذاكَ لعَمْرَ اللّهِ مِنْ أعظَمِ الخَـطْـب
وجاء المسلمونَ، يروي خَلَفٌ عن سلف، وتابعٌ عن سابِق، وآخَرُ عنْ
أوّل، أنَّهمْ لم يختلِفُوا في عيبِ قول زِياد: لآخُذَنَّ الوَلِيَّ
بالوَلِيِّ، والسَّمِي بالسَّمِيِّ، والجارَ بالجارِ، ولم يختلفُوا في لَعْن
شاعِرهم حيث يقول: إذا أُخِذَ البَريءُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ تجَنَّبَ ما يُحاذِرُه
السقيمُ
قال: وقِيل لِعَمْرو بن عُبَيد: إنّ فلاناً لما قدَّم رجلاً
ليُضْرَبَ عُنُقه، فقيل له: إنَّه مجنون فقال: لولا أنَّ المجنونَ يَلِدُ
عاقلاً لخلَّيت سبيلَه، قال: فقال عَمْرو: ما خَلَقَ اللّهُ النَّارَ إلاّ
بالحق ولمّا قالت التغلَبِيَّةُ للجَحَّافِ، في وَقْعَة البِشْر: فضَّ اللّهُ
فاكَ وأعماك، وأطالَ سُهادَك، وأَقَلَّ رُقادَك، فوَاللّه إنْ قَتَلْتَ إلاّ
نساءً أعالِيهنَّ ثُدِيٌّ، وأسافِلُهُنَّ دُمًى فقال لِمنْ حَولَه: لولا أن
تَلِدَ هذِه مثلَها لخَلَّيتُ سَبيلَها فبلغ ذلك الحسنَ فقال: أمَّا الجَحَّاف
فجَذْوةٌ من نارِ جهنَّم.
قال: وذمَّ رجلٌ عند الأحنَفِ بنِ قيس الكَمْأةَ بالسَّمْنِ، فقال
عند ذلك الأحنَف: رُبَّ مَلومٍ لا ذَنْبَ لَه.
فبِهذهِ السيرةِ سرتَ فينا.
وما أحسنَ ما قال سعيدُ بنُ عبدِ الرحمن:
وإنّ
امرأ أمْسَى وأصْبَحَ سالماً
مِنَ
النَّاس إلاَّ ما جَنَى لَسَعيدُ
عناية العلماء بالملح والفكاهات
وقلتَ: وما بالُ أهلِ العلمِ والنظرِ، وأصحابِ الفكرِ والعِبَر،
وأربابِ النِّحَلِ، والعلماءِ وأهلِ البصر بمخارجِ المِلَل، وورثَةِ الأنبياء،
وأعوانِ الخلفاء، يكتُبُون كتبَ الظُّرَفاءِ والمُلَحَاء، وكُتب الفُرَّاغِ
والخُلَعاء، وكتبَ الملاهي والفُكَاهات، وكتبَ أصحابِ الخُصوماتِ، وكتبَ أصحابِ
المِراءِ، وكتبَ أصحاب العصبيَّةِ وحَمِيَّةِ الجاهليّة ألأَنَّهُمْ لا
يحاسِبون أنفسهم، ولا يُوازِنون بينَ ما عليهم ولهم، ولا يخَافُون تصفُّحَ
العلماءِ، ولا لائمة الأرَبَاءِ، وشنف الأَكْفَاء، ومَشْنأة الجُلَساء؟ فهلاّ
أمسكتَ - يَرْحَمُكَ اللّه - عَنْ عَيْبِها والطَّعْنِ عليها، وعن المَشُورَةِ
والموعِظة، وعن تخويفِ ما في سوء العاقبةِ، إلى أنْ تبلغَ حالَ العلماء،
ومراتبَ الأَكْفاء؟ فأمَّا كتابُنا هذا، فسنذكرُ جُمْلَة المذاهب فيه،
وسَنَأتِي بعد ذلك على التفسير، ولَعلَّ رأيَك عند ذلك أنْ يتحوَّل، وقولَك أن
يتبدل، فتُثْبِتَ أو تكونَ قد أخذتَ من التوقُّفِ بنصيب، إن شاء اللّه.
أقسام الكائنات
وأقولِ: إنّ العالَم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء: متَّفق،
ومختلف، ومتضادٌّ؛ وكلُّها في جملةِ القول جمادٌ ونامٍ، وكان حقيقةُ القولِ في
الأجسام من هذه القِسْمة، أن يقال: نامٍ وغيرُ نام، ولو أنَّ الحكماءَ وضعُوا
لكلِّ ما ليس بنامٍ اسماً، كما وضعُوا للنامي اسماً، لاتبّعنا أَثرَهُمْ؛ وإنما
ننتهي إلى حيثُ انتهوا، وما أكثَرَ ما تكونُ دلالةُ قولِهمْ جماد، كدَلاَلةِ
قولهم مَوَات، وقد يَفتَرِقان في مواضِعَ بعضَ الافتراق، وإذا أخرجت من
العالَمِ الأفلاكَ والبروجَ والنجومَ والشمسَ والقمر، وجدتَها غيرَ نامية، ولم
تجدْهم يسمُّون شيئاً منها بجَماد ولا مَوات، وليس لأنَّها تتحرَّكُ من تِلقاءِ
أنفُسِها لم تُسَمَّ مواتاً ولا جماداً، وناسٌ يجعلونها مدبِّرة غير مدبَّرة،
ويجعلونها مسخِّرة غير مسَخَّرَّة، ويجعلونها أحْيَا من الحيوان؛ إذْ كان
الحيوانُ إنَّمَا يَحْيا بإحيائها لَه، وبِما تُعطيه وتُعِيره، وإنما هذا منهم
رأي، والأُمَمُ في هذا كلِّه على خلافِهم، ونحنُ في هذا الموضعِ إنَّما نعبِّر
عن لُغَتنا، وليس في لُغتنا إلاّ ما ذكرنا.
والناسُ يسمُّون الأرضَ جماداً، وربّما يَجعلونها مَوَاتاً إذا
كانتْ لم تُنْبِتْ قديماً، وهي مَوَات الأرض، وذلك كقولهم: مَنْ أحيَا أَرضاً
مواتاً فهي له.
وهم لا يجعلون الماء والنارَ والهواءَ، جماداً ولا مَوَاتاً، ولا
يسمُّونَها حيواناً ما دامت كذلك، وإن كانت لا تضاف إلى النَّماء والحسّ.
والأرضُ هي أحدُ الأركانِ الأربعة، التي هي الماءُ والأرضُ والهواءُ
والنار، والاسمانِ لا يتعاوَرَانِ عندَهم إلاّ الأرض.
تقسيم النامي
ثمَّ النامِي على قسمين: حيوان ونبات، والحيوانُ على أربعة أقسام:
شيءٌ يمشي، وشيء يطير، وشيء يسْبَحُ، وشيءٌ يَنْسَاح، إلاّ أنّ كلَّ طائرٍ
يمشي، وليس الذي يَمشي ولا يَطِير يسمى طائراً، والنوعُ الذي يَمشي على أربعةِ
أقسام: ناس، وبهائم، وسباع، وحشرات، على أنّ الحشَرَاتِ راجعةٌ في المعنى إلى
مشاكلةِ طباع البهائمِ والسباع، إلاّ أنّنا في هذا كلِّه نتبع الأسماءَ القائمة
المعروفة، البائنات بأنفُسِها، المتميِّزاتِ عند سامعيها، مِنْ أهلِ هذه اللغةِ
وأصحاب هذا اللسان، وإنَّما نُفْرِد ما أفْرَدوا، ونَجْمَع ما جَمَعوا.
تقسيم الطير
والطيرُ كلٌّ سَبُعٍ وبَهيمة وهَمَج، والسباعُ من الطير على
ضَربَيْن: فمنها العِتاقُ والأحرارُ والجوارحَ، ومنها البغاث وهو كلُّ ما عظمَ
من الطير: سبعاً كان أو بهيمة، إذا لم يكنْ من ذواتِ السلاحِ والمخالبِ
المعقَّفة، كالنُّسورِ والرَّخَم والغِربان، وما أشبهها مِنْ لئامِ السباع، ثم
الخَشَاش، وهو ما لطُف جِرمُه وصَغُر شخصه، وكان عديمَ السلاح ولا يكون
كالزُّرَّقِ واليُؤيُؤ والباذنجان.
فأما الهَمَج فليس من الطير، ولكنَّه ممَّا يطير، والهمَجَ فيما
يطيرُ، كالحشراتِ فيما يمشي،
والحيّاتُ من الحشرات، وأيُّ سبع أَدخَلُ في معنى السَّبُعيَّة
مِنَ الأفاعي والثعابِين؟ ولكن ليس ذلك من أسمائها، وإن كانتْ من ذوات الأنيابِ
وأكَّالة اللُّحوم وأعداِء الإنسِ وجَميعِ البهائم، ولذلك تأكلُها الأوعَال
والخَنازيرُ والقَنافِذُ والعِقبان والشاهْمُرك والسنانير، وغير ذلك من
البهائم، والسباع، فَمنْ جَعَلَ الحيَّاتِ سِباعاً، وسمَّاها بذلك عندَ بعضِ
القولِ والسببِ فقدْ أصابَ، ومن جَعلَ ذلك لها كالاسمِ الذي هو العلامةُ
كالكَلْبِ والذئب والأسَد فقد أخطأ.
ومن سِباعِ الطيرِ شكلٌ يكون سِلاحُه المخالبَ كالعُقابِ وما
أشبهها، وشيءٌ يكونُ سِلاحُه المناقيرَ كالنُّسُورِ والرَّخَمِ والغِرْبان،
وإنَّما جعلْناها سباعاً لأنّها أكَّالةُ لحوم.
ومِنْ بهائم الطير ما يكون سلاحُه المناقيرَ كالكَرَاكِيِّ وما
أشبهها، ومنه ما يكونُ سلاحُه الأسنانَ كالبُومِ والوَطْوَاطِ وما أشبهها، ومنه
ما يكون سلاحُه الصياصي كالدِّيَكَة، ومنه ما يكون سلاحه السَّلْح كالحُباري
والثعلب أيضاً كذلك.
والسَّبع من الطير: ما أكل اللحمَ خالصاً، والبهيمةُ: ما أكلت
الحبَّ خالصاً، وفي الفنِّ الذي يجمعها من الخلْقِ المركَّبِ والطبع المشتَرَك،
كلامٌ سنأتي عليه في موضعه إن شاء اللّه تعالى، والمشتَرَك عندهم كالعصفور؛
فإنَّه ليس بذي مِخْلَبٍ معقَّف ولا مِنْسَر وهو يلقط الحبَّ، وهو مع هذا يصيد
النَّمْل إذا طار، ويَصِيد الجرادَ، ويأْكُلُ اللحم، ولا يَزُقُّ فِرَاخَه كما
تزقُّ الحمامُ، بل يُلْقِمها كما تُلْقِمُ السباعُ من الطير فراخَها، وأشباهُ
العصافيرِ من المشترَك كثيرٌ، وسنذكُر ذلكَ في موضِعه إن شاء اللّه تعالى.
وليس كلُّ ما طار بجَناحينِ فهو من الطير؛ قد يطير الجِعْلاَن
والجَحْلُِ واليَعاسِيبُ والذّبابُ والزَّنابِيرُ والجَرادُ والنمْل والفَراشُ
والبَعوضُ والأرضَة والنحلُ وغيرُ ذلك، ولا يسمَّى بالطير، وقد يقال ذلك لها
عند بعض الذكرِ والسبب، وقد يسمُّون الدجاجَ طيراً ولا يسمُّون بذلك الجراد،
والجرادُ أَطْيَر، والمثلُ المضروبُ به أشهر، والملائكةُ تطِيرُ، ولها أجنحةٌ
وليستْ من الطير، وجَعفر بن أبي طالب ذو جناحين يَطير بهما في الجنَّة حيثُ
شاء، وليس جعفرٌ من الطير.
واسم طائرٍ يقَع على ثلاثة أشياء: صورة، وطبيعة، وجَناح، وليس
بالريشِ والقَوادِمِ والأباهِرِ والخوافي، يسمَّى طائراً، ولا بعدمه يسْقط ذلك
عنه، ألا ترى أنَّ الخفَّاشَ والوَطواطَ من الطير، وإن كانا أمْرَطَينِ ليس
لهما رِيشٌ ولا زَغَبٌ ولا شَكِيرُ ولا قَصَب وهما مشهورانِ بالحمل والولادة،
وبالرَّضاع، وبظهور حَجْم الآذان، وبكثرة الأسنان، والنعامة ذاتُ ريشٍ ومِنقارِ
وبَيضٍ وجَناحين، وليست من الطير.
وليس أيضاً كلُّ عائمٍ سمكة، وإن كان مناسباً للسمك في كثير من
معانيه، ألا تَرَى أنّ في الماء كَلْبَ الماء، وعنْزَ الماء، وخِنزيرَ الماء؛
وفيه الرِّقُّ والسُّلَحْفاة، وفيه الضِّفْدَع وفيه السرطان، والبَيْنيبُ،
والتِّمساح والدُّخس والدُّلْفين واللَّخْمُ والبُنْبُك، وغيرُ ذلك من الأصناف،
والكَوسَج والد اللُّخْم، وليس للكوسج أبٌ يُعرَف، وعامَّةُ ذا يَعيش في الماء،
ويبيت خارجاً من الماء، ويبيض في الشطِّ ويَبِيضُ بيضاً له صُفْرَةٌ، وقَيْضٌ
وغِرْقِئٌ، وهو مع ذلك ممّا يكون في الماء مع السمك.
تقسيم الحيوان إلى فصيح
وأعجم
ثمَّ لا يخرج الحيوان بعد ذلك في لغة العرب من فصيح وأعجم، كذلك
يقال في الجملة، كما يقال الصامت لما لا يَصْنَع صمتاً قطُّ ولا يجوز عليه
خلافه، والناطق لِمَا لَمْ يتكلَّمْ قطُّ، فيحملون ما يرغو، ويَثغو، ويَنهَق،
ويَصْهِل، ويَشْحَج، ويَخُور، ويَبْغَم، ويَعوِي، ويَنبَح، ويَزْقُو، ويَضْغُو،
ويَهْدِر، ويَصْفِر، ويُصَوْصِي، ويُقَوْقِي، ويَنْعَبُ، ويَزْأَر، ويَنْزِبُ،
ويكِشُّ، ويَعِجُّ، على نطقِ الإنسان إذا جمع بعضه على بعض، ولذلك أشباهٌ،
كالذكور والإناث إذا اجتمعا، وكالعِيرِ التي تسمَّى لَطِيمة، وكالظُّعُن؛ فإنَّ
هذه الأشياءَ إذا وجد بعضُها إلى بعض، أو أَخَذ بعضُها من بعض، سُمِّيَتْ
بأنبَه النوعَين ذِكْراً، وبأقواهما، والفصيحُ هو الإنسان، والأعجم كلُّ ذي
صوتٍ لا يفهَمُ إرادتَه إلاّ ما كان من جنسه، ولعمري إنا نفهم عَن الفَرس
والحمارِ والكلبِ والسِّنَّور والبعير، كثيراً من إرادته وحوائجه وقصوره، كما
نفهم إرادةَ الصبيِّ في مَهْده ونعلم - وهو من جليل العلم - أنّ بكاءَه يدلُّ
على خلافِ ما يدُلُّ عليه ضَحِكُه، وحَمْحَمَةُ الفرَس عند رؤية المخلاة، على
خلاف ما يدلُّ عليه حَمحمتُه عند رؤية الحِجْر، ودُعاء الهِرَّةِ الهرَّ خلافُ
دعائها لولدها، وهذا كثير.
والإنسانُ فصيح، وإنْ عبَّرَ عن نفسِه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو
بالروميّة، وليس العربيُّ أسوأ فهماً لِطَمْطَمَةِِ الروميِّ من الرومي لبيانِ
لسان العربيّ، فكلُّ إنسانٍ من هذا الوجه يقال له فصيح، فإذا قالوا: فصيح
وأعجَم، فهذا هو التأويل في قولهم أعجم، وإذا قالوا العرب والعجم ولم يلفظوا
بفصيح وأعجم، فليس هذا المعنى يريدون، إنَّما يَعنُون أنَّه لا يتكلَّم
بالعربيَّة، وأنَّ العربَ لا تفهم عنه، وقال كُثَيِّر: فبُورِك ما أعطَى ابنُ
لَيلَـى بِـنِـيَّةٍ وصامتُ ما أعطَى ابنُ ليلى وناطقُه
ويقال جاء بما صَأى وصمت، فالصامت مثل الذهب والفضّة، وقوله صأى
يعني الحيوانَ كلَّه، ومعناه نطق وسكَت؛ فالصامت في كلّ شيءٍ سِوَى الحيوان.
ووجدْنا كونَ العالَم بما فيه حكمةً، ووجدْنا الحِكمَة على ضربَين:
شيءٌ جُعِلَ حكمةً وهو لا يَعقِل الحكمةَ ولا عاقبةَ الحِكمة، وشيءٌ جُعِل
حكمةً وهو يَعْقِل الحكمة وعاقبةَ الحكمة، فاستوى بذاكَ الشيء العاقلُ وغير
العاقل في جهةِ الدَّلالةِ على أَنَّهُ حكمة؛ واختلفا من جهةِ أَنَّ أحدهما
دَليلٌ لاَ يَسْتَدِلّ، والآخر دليل يستدل، فكلُّ مُسْتَدِلٍّ دليل وليس كلُّ
دليل مستدلاً، فشارك كل حيوانٍ سوى الإنسان، جميعَ الجمادِ في الدَّلالة، وفي
عدم الاستدلال، واجْتَمَع للإنسان أَنْ كان دليلاً مستَدِلاًّ، ثُمَّ جُعِل
للمستدِلِّ سببٌ يدلُّ به على وجوهِ استدلاله، ووُجوهِ ما نتج له الاستدلال،
وسمَّوا ذلك بياناً.
------------------------------------------
أضيفت في 15/04/2005/ * خاص القصة السورية/عن موقع الوراق
كيفية
المشاركة
|