بطاقة
تعريف الكاتب: عبد الله بن المقفع
وُلد (ابن المقفع) سنة 720 ميلاديّة في بلدة (جور) الفارسيّة (التي
أطلق عليها فيما بعد اسم (فيروزاباد))، وفيها ترعرع إلي أن بلغ أشُدَّه،
فاصطحبه أبوه إلي (البصرة) حيث اعتنق الإسلام، وقرأ علي الشعراء والرواة
واللغويّين المرموقين في عصره حتّي تمكّن من اللغة العربيّة وآدابها. ثم عمل
كاتبًا للولاة الأمويّين في (كرمان) بإيران، وبقي في خدمتهم إلي أن انتصر
العباسيّون، فالتحق بهم، ولزم (عيسي بن علي) عمّ الخليفة (المنصور). وكان (ابن
المقفع) في أثناء ذلك يترجم ويؤلّف، مشاركًا في الحركة العلميّة الفذّة التي
ازدهرت في (البصرة) و (الكوفة); فمن ترجماته التي لا يرقَي إليها الشك: (كليلة
ودمنة) وكتابان أو ثلاثة في سِيَر ملوك الفُرس ونُظُمهم وعاداتهم، وله كذلك
مؤلّفان في نصيحة الملوك هما: (الأدب الكبير) و (رسالة في الصحابة).
ولكنّ قُرب (ابن المقفَّع) من بيت الخلافة، وتعرُّضه لأمور المُلك
في زمن احتدم فيه الصراع علي السلطة، أوْغَرا عليه صدور الحكّام، فاتُّهِم
بالزَّندَقَة وأُلقي القبض عليه في (البصرة) بأمرٍ من الخليفة سنة 756 أو بعدها
بقليل، وكان والي تلك المدينة يكرهُه، فعذَّبه عذابًا فظيعًا، وقتله. وأغلب
الظن أن إعدامه لم يكن لسبب ديني كما قيل، بل لشك الخليفة في ولائه.
إن هذه المقتطفات من (كليلة ودمنة) لا تفي ابن المقفَّع كلّ حقّه إذ
ليس فيها ما يشير إلي أسبقيته في التعريف بالحضارة الفارسية القديمة ولا إلي
فكره السياسي المتميّز كما يظهر في رسالته (في الصحابة)، إلاّ أنَّها تكفي
لبيان ما يدين له به النثر العربي في زمن نشأته الأولي. ونخص بالذكر لغة الكاتب
الطيعة التي جمعت بين الدّقة والسلاسة، ممهّدة للأسلوب الكتابي الذي وُصف
بالسهل الممتنع، وسطّر به كبار الناثرين العرب، من الجاحظ إلي ابن خلدون،
مؤلفاتهم الخالدة.
عن
الكتاب
هذا الكتاب، (كليلة ودمنة)، من أجَلّ ما أبدعه الشرقيّون في السياسة
والأخلاق، ويتضمَّن أشهر ما أجْرَوْه علي ألسنة الحيوانات من قصص وأمثال. وقد
تضافر علي تأليفه بصورته التي نعرف ثلاثة من حكمائهم، وحَظِي عند الأدباء
وعامّة الناس حُظوة لم يبْلُغها إلاّ القليل من الكتب الموضوعة في العصر
العبّاسي الأول، فكثر نسْخُه، وتفنّن الخطّاطون والمصوِّرون في تزويقه، ثم
تُرجم إلي لغات عدّة، وتأثّر به كتّابٌ من الشرق والغرب علي السواء، فهو بذلك
مثلٌ نادر، بل فريد، للتفاعل بين الآداب العالميّة.
ويُجمع الباحثون علي أن الكتاب هندي الأصل، صنَّفه البراهما (وشنو)
باللغة السنسكريتيّة في أواخر القرن الرابع الميلاديّ، وأسماه (بنج تنترا)، أي
الأبواب الخمسة. ويُقال إنّ ملك الفرس (كسرَي آنوشروان) (531-579م) لما بلغه
أمرُه أراد الاطّلاع عليه للاستعانة به في تدبير شؤون رعيّته، فأمر بترجمته إلي
اللغة الفهلويّة -وهي اللغة الفارسية القديمة-، واختار لهذه المهمة طبيبه (بَرْزَوَيْه)
لما عرف عنه من علمٍ ودهاء. إلاّ أنّ (برزويه) لم يكْتفِ بنقل (بنج تنترا)، بل
أضاف إليه حكايات هندية أخري، أخذ بعضها من كتاب (مهاباراتا) المشهور، وصَدّر
ترجمته بمقدّمة تتضمّن سيرته وقصّة رحلته إلي الهند. وفي مُنتصف القرن الثامن
الميلادي، نُقل الكتاب في العراق من الفهلوية إلي العربية، وأُدرج فيه بابٌ
جديد تحت عنوان (الفحص عن أمر دمنة)، وأُلحقت به أربعةُ فصولٍ لم ترِدْ في
النصّ الفارسي، وكان ذلك علي يد أديب عبقريٍّ يُعتبر بحقّ رائد النثر العربيّ،
وأوّل من وضع كتابًا عربيًّا مكتملاً في السياسة، هو (عبد الله بن المقفَّع).
فاروق مردم بك
عرض الكتاب
لعبدِ اللهِ بنِ المقفَّعِ معرِّبِ هذا الكِتابِ "
هذا كتابُ كَليلَةَ
ودِمْنَةَ وهو ممَّا وضَعَتهُ علماءُ الهِندِ مِنَ الأمثالِ والأحاديثِ التي
أُلهِموا أن يُدخِلوا فيها أبلَغَ ما وَجَدوا مِنَ القَولِ في النَّحوِ الذي
أرادوا، ولم تَزَلِ العلماءُ من كلِّ أمَّة ولسان يَلتَمِسونَ أن يُعقَلَ عنهم
ويحتالونَ لذلك بصُنوفِ الحِيَلِ ويَبتَغونَ إخراجَ ما عندَهُمْ مِنَ العِلَلِ
في إظهارِ ما لديهِمْ مِنَ العُلومِ والحِكَمِ، حتي كانَ من تلك العِلَلِ وضعُ
هذا الكتابِ علي أفواهِ البَهائِمِ والطَّيرِ فاجتمعَ لهم بذلك خِلال . أما هم
فَوَجَدوا مُنْصَرَفًا في القَولِ وشِعابًا يأخُذونَ منها وَوُجوهًا يَسلُكونَ
فيها. وأمَّا الكِتابُ فَجَمَعَ حِكمَةً ولَهْوًا فاختارَهُ الحُكمَاءُ
لحِكمَتِهِ والأغرارُ لِلَهْوِهِ. والمُتَعَلِّمُ مِنَ الأحداثِ ناشِط في حِفظِ
ما صارَ إليهِ من أمر يُربَطُ في صدرِهِ ولا يدري ما هو بل عَرَفَ أنَّه قد
ظَفِرَ من ذلك بمكتوب مَرقوم. وكانَ كالرجلِ الذي لمَّا استكمَلَ الرُّجوليَّةَ
وَجَدَ أبويهِ قد كَنَزا له كُنوزًا وعَقَدا له عُقَدًا استَغني بها عنِ
الكَدحِ فيما يَعمَلُهُ من أمرِ مَعيشتِهِ. فأغناهُ ما أشرفَ عليه مِنَ
الحِكمَةِ عنِ الحاجَةِ إلي غيرِها من وُجوهِ الأدَبِ.
فصول من الكتاب
مثل
الحمَّالين والرجلِ الذي أصابَ كنزًا
ومَنِ استَكثَرَ من جَمعِ الكُتُبِ وقِراءَةِ العلومِ من غيرِ
إعمالِ الرَّويَّةِ فيما يَقرَأُهُ كانَ خَليقًا أن لا يُصيبَهُ إلاَّ ما أصابَ
الرجلَ الذي زَعَمَتِ العلماءُ أنَّه اجتازَ ببعضِ المَفاوِزِ فَظَهَرَ له
مَوضِعُ آثارِ كَنزٍ. فَجَعَلَ يَحفِرُ ويَطلُبُ فَوَقَعَ علي شيءٍ من عَينٍ
ووِرْقٍ فقالَ في نفسِهِ: إن أنا أخَذتُ في نَقلٍ هذا المالِ قليلاً قليلاً
طالَ عَلَيَّ وقَطَعَني الاشتِغالُ بنقلِهِ وإحرازِهِ عنِ اللَّذَّةِ بما
أصَبتُ منه. ولكن سأستأجِرُ أقوامًا يَحمِلونَهُ إلي منزلي وأكونُ أنا
آخِرَهُمْ. ولا يكونُ بَقِيَ ورائي شيءٌ يُشغَلُ فِكري بنقلِهِ. وأكونُ قد
استَظهَرْتُ لنفسي في إراحَةِ بَدَني عنِ الكَدِّ بيَسيرِ أُجرَةٍ أُعطيها
لهم.
ثم جاء بالحمَّالينَ فجَعَلَ يُحَمِّلُ كلَّ واحدٍ منهم ما يُطيقُ
فينطلِقُ به إلي منزلِهِ هو فيفوزُ به، حتي إذا لم يبقَ مِنَ الكَنزِ شيءٌ
انطلَقَ خَلفَهُمْ إلي منزلِهِ فلم يَجِدْ فيه مِنَ المالِ شيئًا لا كثيرًا ولا
قليلاً. وإذا كلُّ واحدٍ مِنَ الحمَّالينَ قد فازَ بما حَمَلَهُ لنفسِهِ. ولم
يكنْ للرجلِ من ذلك إلاَّ العَناءُ والتَّعَبُ لأنَّه لم يُفَكِّرْ في آخِرِ
أمرِهِ
مثل طالبِ
العلمِ والصَحيفةِ الصفراء
وكذلك مَن قَرَأَ هذا الكتابَ ولم يَفهَمْ ما فيه ولم يَعلَمْ
غَرَضَهُ ظاهِرًا وباطِنًا لم يَنْتَفِعْ بما يَبدو له من خَطِّهِ ونَقشِهِ.
كما لو أنَّ رجلاً قُدِّمَ له جَوزٌ صحيحٌ لم يَنتَفِعْ به إلاَّ أن يَكسِرَهُ
ويَستَخرِجَ ما فيه. وكانَ أيضًا كالرجلِ الذي طَلَبَ عِلمَ الفَصيحِ من كلامِ
الناسِ. فأتي صديقًا له مِنَ العلماءِ لَه عِلمٌ بالفَصاحَةِ فأعلَمَهُ
حاجَتَهُ إلي عِلمِ الفَصيحِ. فَرَسَمَ له صديقُهُ في صحيفَةٍ صَفراءَ فَصيحَ
الكلامِ وتَصاريفَهُ ووُجوهَهُ. فانصَرَفَ بها إلي منزلِهِ فَجَعَلَ يُكثِرُ
قِراءَتَها ولا يقِفُ علي مَعانيها ولا يَعلَمُ تأويلَ ما فيها حتي
استَظهَرَهَا كلَّها، فاعتَقَدَ أنَّه قد أحاطَ بعِلمِ ما فيها.
ثم إنَّه جَلَسَ ذاتَ يومٍ في مَحفِلٍ من أهلِ العِلمِ والأدَبِ
فأخَذَ في مُحاوَرَتِهِمْ فَجَرَتْ له كلمَةٌ أخطأَ فيها. فقالَ له بعضُ
الجماعَةِ: إنَّك قد أخطأتَ والوَجهُ غيرُ ما تَكَلَّمتَ به. فقالَ: كيفَ
أُخطِئُ وقد قَرَأتُ الصَّحيفَةَ الصَّفراءَ وهي في منزلي? فكانت مقالَتُهُ هذه
أوجَبَ للحُجَّةِ عليه وزادَهُ ذلك قُربًا مِنَ الجَهلِ وبُعدًا مِنَ الأدَبِ
مثل ربِّ البيت والسارق
ثم إنَّ العاقِلَ إذا فَهِمَ هذا الكتابَ وبَلَغَ نهايَةَ عِلمِهِ
فيه يَنبَغي له أن يَعمَلَ بما عَلِمَ منه لِيَنتَفِعَ به ويَجعَلَهُ مِثالاً
لا يَحيدُ عنه. فإذا لم يَفعَلْ ذلك كانَ مَثَلُهُ كالرجلِ الذي زَعَموا أنَّ
سارِقًا تَسَوَّرَ عليه وهو نائِمٌ في منزلِهِ، فعَلِمَ به فقالَ: واللهِ
لأسكُتَنَّ حتي أنظُرَ ماذا يَصنَعُ ولا أذْعَرُهُ ، فإذا بَلَغَ مُرادَهُ
قُمتُ إليه فَنَغَّصتُ ذلك عليه. ثم إنَّه أمسَكَ عنه وَجَعلَ السَّارِقُ
يَتَرَدَّدُ وطالَ تَرَدُّدُهُ في جَمعِهِ ما يَجِدُهُ. فغَلَبَ الرجلَ
النُّعاسُ فنامَ وفَرَغَ اللِّصُّ مِمَّا أرادَ وأمكَنَهُ الذَّهابُ. واستيقَظَ
الرجلُ فَوَجَدَ اللِّصَّ قد أَخَذ المَتاعَ وفازَ به. فأقبَلَ علي نفسِهِ
يلومُها وعَرَفَ أنَّه لم يَنتَفِعْ بعِلمِهِ باللِّصِّ إذ لم يَستَعمِلْ في
أمرِهِ ما يجبُ.
مثل الإخوةِ الثلاثة
وقد يَنبَغي للنَّاظِرِ في كتابِنا هذا أن لا تكونَ غايتُهُ
التَّصَفُّحِ لِتَزاويقِهِ ، بل يُشرِفُ علي ما يَتَضَمَّنُ مِنَ الأمثالِ حتي
يأتِيَ عليه إلي آخِرِه، ويَقِفُ عند كلِّ مَثَلٍ وكلمَةٍ، ويُعمِلُ فيها
رَوِيَّتَهُ، ويكونُ مِثلَ ثالِثِ الإخوَةِ الثلاثَةِ الذينَ خَلَّفَ لهم
أبوهُمُ المالَ الكثيرَ فَتنازَعوهُ بينهم. فأمَّا الاثنانِ الكبيرانِ
فإنَّهُما أسرَعا في إتلافِهِ وإنفاقِهِ في غيرِ وجهِهِ. وأمَّا الصَّغيرُ
فإنَّه عندَما نَظَرَ ما صارَ إليه أخَواهُ من إسرافِهِما وتَخَلِّيهِما مِنَ
المالِ أقبَلَ علي نفسِهِ يُشاوِرُها وقالَ: يا نَفسِ إنَّما المالُ يَطلُبُهُ
صاحِبُهُ ويجمعُهُ من كلِّ وجهٍ لبقاءِ حالِهِ وصَلاحِ معاشِهِ ودُنياهُ وشرفِ
منزلتِهِ في أعْيُنِ الناسِ، واستِغنائِهِ عمَّا في أيديهِم، وصَرفِهِ في
وجهِهِ من صِلَةِ الرَّحِمِ، والإنفاقِ علي الولَدِ والإفضالِ علي الإخوانِ.
فمَن كانَ له مالٌ ولا يُنفِقُهُ في حُقوقِهِ كانَ كالذي يُعَدُّ فقيرًا وإن
كانَ موسِرًا. وإن هو أحسَنَ إمساكَهُ والقيامَ عليه لم يَعدَمِ الأمرَينِ
جميعًا من دُنيا تَبقي عليه وحَمدٍ يُضافُ إليه. ومتي قَصَدَ إنفاقَهُ علي غيرِ
الوُجوهِ التي حُدَّتْ لم يَلبَثْ أن يُتلِِفَهُ ويبقي علي حَسرَةٍ وندامَةٍ.
ولكنِ الرأيُ أن أُمسِكَ هذا المالَ، فإني أرجو أن يَنفَعَني الله به ويُغنِيَ
أخَوَيَّ علي يَدي، فإنَّما هو مالُ أبي ومالُ أبيهِما. وإنَّ أولي الإنفاقِ
علي صِلَةِ الرِّحِمِ وإن بَعُدَتْ، فكيفَ بأخوَيَّ! فأنفَذَ فأحضَرَهُما
وشاطَرَهُما مالَهُ
مثل الصيَّادِ والصَدَفة
وكذلك يجبُ علي قارِئ هذا الكتابِ أن يُديمَ النَّظَرَ فيه من غيرِ
ضَجَرٍ، ويَلتَمِسَ جواهِرَ معانيهِ، ولا يَظُنَّ أنَّ نَتيجَتَهُ إنَّما هي
الإخبارُ عن حِيلَةِ بَهيمَتَينِ أو مُحاوَرَةِ سَبُعٍ لثورٍ، فينصَرِفَ بذلك
عنِ الغَرَضِ المقصودِ، ويكونَ مَثَلُهُ مَثَلَ الصَّيَّادِ الذي كانَ في بعضِ
الخُلُجِ يَصيدُ فيه السَّمَكَ في زَورَقٍ. فَرأي ذاتَ يومٍ في عَقيقِ الماءِ
صَدَفَةً تَتَلألأُ حُسنًا فَتَوَهَّمَها جَوهَرًا له قيمَةٌ. وكان قد ألقي
شَبَكَتَهُ في البحرِ فاشتَمَلَتْ علي سَمَكَةٍ كانت قوتَ يومِهِ فخَلاَّها
وقَذَفَ نفسَهُ في الماءِ ليأخُذَ الصَّدَفَةَ. فلمَّا أخرَجَها وجَدَها
فارِغَةً لا شيءَ فيها ممَّا ظَنَّ. فندِمَ علي تَركِ ما في يدِهِ للطَّمَعِ
وتأسَّفَ علي ما فاتَهُ. فلمَّا كانَ اليومُ الثاني تَنَحَّي عن ذلك المكانِ
وألقي شبكتَهُ، فأصابَ حوتًا صغيرًا ورأي أيضًا صَدَفَةً سنيّة فلم يَلتَفِتْ
إليها وساءَ ظَنُّهُ بها فَتَرَكَها واجتازَ بها بَعضُ الصَّيَّادينَ فأخَذَها
فَوجَدَ فيها دُرَّةً تُساوي أموالاً.
وكذلك الجُهَّالُ علي إغفالِ أمرِ التَّفَكُّرِ في هذا الكتابِ
والاغتِرارِ به وتَركِ الوُقوفِ علي أسرارِ معانيهِ والأخذِ بظاهِرِهِ دونَ
الأخذِ بباطِنِهِ، ومَن صَرَفَ هِمَّتَهُ إلي النَّظَرِ في أبوابِ الهَزلِ منه
فهو كرجلٍ أصابَ أرضًا طَيِّبَةً حُرَّةً وحَبًّا صَحيحًا فَزَرَعَها وسَقاها
حتي إذا قَرُبَ خيرُها تَشاغَلَ عنها بجَمعِ ما فيها مِنَ الزَّهرِ وقَطعِ
الشَّوكِ، فأهلَكَ بتَشاغُلِهِ ما كانَ أحسَنَ فائِدَةً وأجمَلَ عائِدَةً.
ويَنبَغي للنَّاظِرِ في هذا الكتابِ أن يَعلَمَ أنَّه يَنقَسِمُ إلي
أربعَةِ أغراضٍ: أحَدُها ما قُصِدَ فيه إلي وضعِهِ علي ألسِنَةِ البَهائِمِ
غيرِ النَّاطِقَةِ من مُسارَعَةِ أهلِ الهَزلِ مِنَ الشُّبَّانِ إلي قِراءَتِهِ
فتُستَمالُ به قلوبُهُمْ. لأنَّ هذا هو الغَرَضُ بالنَّوادِرِ من حِيَلِ
الحيواناتِ. والثاني إظهارُ خَيالاتِ الحيواناتِ بصُنوفِ الأصباغِ والألوانِ
ليكونَ أُنْسًا لقُلوبِ الملوكِ ويكونَ حِرصُهُمْ عليه أشَدَّ للنُزهَةِ في تلك
الصُّوَرِ. والثالثُ أن يكونَ علي هذه الصِّفَةِ فَيَتَّخِذَهُ الملوكُ
والسُّوقَةُ فيكثُرَ بذلك انتِساخُهُ ولا يَبطُلَ فَيَخْلُقَ علي مُرورِ
الأيامِ، ولينتَفِعَ بذلك المُصَوِّرُ والنَّاسِخُ أبدًا. والغَرَضُ الرابعُ
وهو الأقصي مخْصوصٌ بالفَيلَسوفِ خاصَّةً
مثل الشيخِ وبنيه الثلاثة
قالَ دَبشَليمُ الملِكُ لِبَيْدَبا الفَيلَسوفِ وهو رأسُ
البَراهِمَةِ: اضرِبْ لي مَثَلاً لِمُتَحابَّينِ يَقطَعُ بينهما الكَذوبُ
المُحتالُ حتي يَحمِلَهُما علي العَداوَةِ والبَغضاءِ.
قالَ بَيدَبا: إذا ابتُلِيَ المُتَحابَّانِ بأن يَدخُلَ بينهما
الكَذوبُ المُحتالُ لم يَلبَثا أن يَتَقاطَعا ويَتَدابَرا وآفَةُ المَوَدَّةِ
النَّميمَةُ. ومن أمثالِ ذلك أنَّه كانَ بأرضِ دَسْتاوَنْدَ رجلٌ شيخٌ له
ثلاثَةُ بَنينَ. فلمَّا بَلَغوا أشُدَّهُمْ أسرَفوا في مالِ أبيهِمْ ولم يكونوا
احتَرَفوا حِرفَةً يَكسِبونَ بها لأنفُسِهِمْ خيرًا. فلامَهُمْ أبوهُمْ
ووَعَظَهُمْ علي سوءِ فِعلِهِمْ. وكانَ من قَولِهِ لهم: يا بَنيَّ إنَّ صاحِبَ
الدُّنيا يَطلُبُ ثلاثَةَ أمورٍ لن يُدرِكَها إلاَّ بأربَعَةِ أشياءَ. أمَّا
الثَّلاثَةُ التي يَطلُبُ فالسَّعَةُ في الرِّزقِ، والمَنزلَةُ في الناسِ،
والزَّادُ للآخرَةِ. وأما الأربَعَةُ التي يَحتاجُ إليها في دَرَكِ هذه
الثَّلاثَةِ فاكتِسابُ المالِ من أحسَنِ وجهٍ يَكونُ، ثم حُسنُ القِيامِ علي ما
اكتَسَبَ منه، ثم استِثمارُهُ، ثم إنفاقُهُ فيما يُصلِحُ المعيشَةَ ويُرضي
الأهلَ والإخوانَ فَيَعودُ عليه نَفعُهُ في الآخرَةِ.
فمَنْ ضَيَّعَ شيئًا من هذه الأحوالِ لم يُدرِكْ ما أرادَ من
حاجتِهِ. لأنَّه إن لم يَكتَسِبْ لم يكنْ له مالٌ يَعيشُ به. وإن هو كان ذا
مالٍ واكتِسابٍ ثم لم يُحسِنِ القِيامَ عليه أوشَكَ المالُ أن يَفني ويَبقي
مُعدِمًا. وإن هو وَضَعَهُ ولم يَستَثمِرْهُ لم تَمنَعْهُ قِلَّةُ الإنفاقِ من
سُرعَةِ الذَّهابِ. كالكُحلِ الذي لا يُؤْخَذُ منه إلاَّ غُبارُ الميْلِ ثم هو
معَ ذلك سَريعٌ فَناؤُهُ. وإن هو أنفَقَهُ في غيرِ وَجهِهِ ووَضَعَهُ في غيرِ
مَوضِعِهِ وأخطَأَ به مَواضِعَ استِحقاقِهِ صارَ بمنزلَةِ الفَقيرِ الذي لا
مالَ له. ثم لم يَمنَعْ ذلك أيضًا مالَهُ مِنَ التَّلَفِ بالحوادِثِ والعِلَلِ
التي تَجري عليه كَمَحبِسِ الماءِ الذي لا تَزالُ المياهُ تَنصَبُّ فيه، فإن لم
يكن له مُخَرجٌ ومَفاضٌ ومُتَنَفَّسٌ يَخرُجُ منه الماءُ بقَدَرِ ما يَنبَغي
خَرِبَ وسالَ ونَزَّ من نَواحٍ كثيرَةٍ وربَّمَا انبَثَقَ البَثقَ العَظيمَ
فَذَهَبَ الماءُ ضَياعًا.
وإنَّ بَني الشَّيخِ اتَّعَظوا بقَولِ أبيهِمْ وأخَذوا به وعَلِموا
أن فيه الخيرَ وعَوَّلوا عليه، فانطَلَقَ أكبَرُهُمْ نحو أرضٍ يُقالُ لها
مَيُّونُ. فأتي في طَريقِهِ علي مكانٍ فيه وَحلٌ كثيرٌ. وكان معه عَجَلَةٌ
يَجُرُّها ثَورانِ يُقالُ لأحدِهِما شَتْرَبَةُ وللآخَرِ بَنْدَبَةُ. فَوَحِلَ
شَتْربَةُ في ذلك المكانِ، فعالَجَهُ الرجلُ وأصحابُهُ حتي بَلَغَ منهُمُ
الجَهدُ فلم يَقدِروا علي إخراجِهِ. فَذَهَبَ الرجلُ وخَلَّفَ عندَهُ رجلاً
يُشارِفُهُ لعلَّ الوَحلَ يَنشَفُ فَيَتْبَعَهُ به. فلمَّا باتَ الرجلُ بذلك
المكانِ تَبَرَّمَ به واستَوحَشَ. فتَرَكَ الثَّورَ والتَحَقَ بصاحبِهِ
فأخبَرَهُ بأنَّ الثَّورَ قد ماتَ. وقالَ له إنَّ الإنسانَ إذا انقَضَتْ
مُدَّتُهُ وحانَتْ مَنِيَّتُهُ فهو وإن اجتَهَدَ في التَّوَقّي مِنَ الأمورِ
التي يَخافُ فيها علي نفسِهِ الهَلاكَ لم يُغنِ ذلك عنه شيئًا. وربما عادَ
اجتِهادُهُ في تَوَقِّيهِ وحَذَرِهِ وَبالاً عليه
مثل الرجل الهارب
من الذئب واللصوص
كالذي قيلَ إنَّ رجلاً سَلَكَ مَفازَةً فيها خَوفٌ مِنَ السِّباعِ
وكانَ الرجلُ خَبيرًا بوَعَثِ تلك الأرضِ وخَوفِها. فلمَّا سارَ غيرَ بعيدٍ
اعتَرَضَ له ذِئبٌ من أحَدِّ الذِّئابِ وأضراها. فلمَّا رأي الرجلُ أنَّ
الذِّئبَ قاصِدٌ نحوه خافَ منه ونَظَرَ يَمينًا وشِمالاً ليَجِدَ مَوضِعًا
يَتَحَرَّزُ فيه مِنَ الذِّئبِ، فلم يَرَ إلا قَريَةً خَلفَ وادٍ فَذَهَبَ
مُسرِعًا نحو القَريَةِ. فلمَّا أتي الوادي لم يَرَ عليه قَنطَرَةً ورأي
الذِّئبَ قد أدرَكَهُ فألقي نفسَهُ في الماءِ وهو لا يُحسِنُ السِّباحَةَ وكاد
يَغرَقُ لولا أن بَصُرَ به قَومٌ من أهلِ القريَةِ فَتَواقَعوا لإخراجِهِ،
فأخرَجوهُ وقد أشرَفَ علي الهَلاكِ. فلمَّا حَصَلَ الرجلُ عندَهُمْ وأمِنَ علي
نفسِهِ من غائِلَةِ الذِّئبِ رأي علي عُدْوَةِ الوادي بيتًا مُفَردًا فقالَ:
أدخُلُ هذا البيتَ فأستَريحُ فيه. فلمَّا دَخَلَهُ وَجَدَ جماعَةً مِنَ
اللُّصوصِ قد قَطَعوا الطَّريقَ علي رجلٍ مِنَ التُّجَّارِ وهم يَقتَسِمونَ
مالَهُ ويُريدونَ قَتْلَهُ. فلمَّا رأي الرجلُ ذلك خافَ علي نفسِهِ ومَضي نحو
القريَةِ فأسنَدَ ظَهرَهُ إلي حائِطٍ من حيطانِها ليَستَريحَ ممَّا حَلَّ به
مِنَ الهَولِ والإعياءِ إذ سَقَطَ عليه الحائِطُ فماتَ
قالَ الرجلُ: صَدَقتَ قد بَلَغَني هذا الحَديثُ. وأمَّا الثَّورُ
فإنَّه خَلَصَ من مكانِهِ وانبَعَثَ فلم يَزَلْ في مَرجٍ مُخصِبٍ كثيرِ الماءِ
والكَلأِ، فلمَّا سَمِنَ وأمِنَ جَعَلَ يَخورُ ويَرفَعُ صَوتَهُ بالخُوارِ.
وكانَ قريبًا منه أجَمَةٌ فيها أسَدٌ عَظيمٌ وهو ملِكُ تلك النَّاحِيَةِ ومعه
سِباعٌ كثيرَةٌ وذئابٌ وبناتُ آوي وثعالِبُ وفُهودٌ ونُمورٌ. وكانَ هذا الأسَدُ
مُنفَرِدًا برأيِهِ دونَ أخذٍ برأيِ أحدٍ من أصحابِهِ. فلمَّا سَمِعَ خُوارَ
الثَّورِ ولم يكن رأي ثَورًا قَطُّ ولا سَمِعَ خُوارَهُ خامَرَهُ منه هَيبَةٌ
وخَشيَةٌ وكَرِهَ أن يَشعُرَ بذلك جُندُهُ. فكانَ مُقيمًا مكانَهُ لا يَبرَحُ
ولا يَنشَطُ بل يُؤْتي بِرزقِهِ كلَّ يومٍ علي يَدِ جُندِهِ. وكانَ فيمَن معه
مِنَ السِّباعِ ابنا آوي يُقالُ لأحدِهِما كَليلَةُ وللآخَرِ دِمنَةُ، وكانا
ذَوَيْ دَهاءٍ وعِلمٍ وأدَبٍ
فقالَ دِمْنَةُ يومًا لأخيهِ كَليلَةَ: يا أخي ما شأنُ الأسَدِ
مُقيمًا مكانَهُ لا يَبرَحُ ولا يَنشَطُ خِلافًا لعادَتِهِ? فقالَ له كَليلَةُ:
ما شأنُكَ أنتَ والمسألَةَ عن هذا? نحن علي بابِ ملكِنا آخِذَينِ بما أحَبَّ
وتارِكَينِ ما يَكرَهُ ولسنا من أهلِ المرتَبَةِ التي يَتَناوَلُ أهلُها كلامَ
الملوكِ والنَّظَرَ في أمورِهِمْ. فأمسِكْ عن هذا واعلَمْ أنَّه مَن تَكَلَّفَ
مِنَ القَولِ والفِعلِ ما ليسَ من شكلِهِ أصابَهُ ما أصابَ القِردَ مِنَ
النَّجَّارِ. قالَ دِمْنَةُ: وكيفَ كانَ ذلك?
مثل القرد والنجار
قالَ كَليلَةُ: زَعَموا أنَّ قِردًا رأي نَجَّارًا يَشُقُّ خَشَبَةً
وهو راكِبٌ عليها، وكلَّما شَقَّ منها ذِراعًا أدخَلَ فيها وَتِدًا، فَوَقَفَ
يَنظُرُ إليه وقد أعجَبَهُ ذلك. ثم إنَّ النَّجَّارَ ذَهَبَ لبعضِ شأنِهِ
فَقامَ القِرْدُ وتَكَلَّفَ ما ليسَ من شأنِهِ فَرَكِبَ الخَشَبَةَ وجَعَلَ
وجهَهُ قِبَلَ الوَتِدِ وظَهرَهُ قِبَلَ طَرَفِ الخشَبةِ فَتَدَلَّي ذَنَبُهُ
في الشَّقِّ ونَزَعَ الوَتِدَ فلزِمَ الشَّقُّ عليه فكادَ يُغشي عليه مِنَ
الألَمِ. ثم إنَّ النَّجَّارَ وافاهُ فأصابَهُ علي تلك الحالَةِ فأقبَلَ عليه
يَضرِبُهُ. فكانَ ما لَقِيَ مِنَ النَّجَّارِ مِنَ الضَّربِ أشَدَّ ممَّا
أصابَهُ مِنَ الخشَبةِ.
قالَ دِمنَةُ: قد سَمِعتُ ما ذَكَرتَ. وليسَ كلُّ مَنْ يـَدنو مِنَ
الملوكِ يَقدِرُ علي صُحبَتِهِمْ ويَفوزُ بقُربِهِمْ. ولكن اعلَمْ أنَّ كلَّ
مَنْ يَدنو منهم ليسَ يَدنو منهم لبطنِهِ، فإنَّ البطنَ يُحشي بكلِّ شيءٍ،
وإنَّما يَدنو منهم ليَسُرَّ الصَّديقَ ويَكبِتَ العَدُوَّ. وإنَّ مِنَ الناسِ
مَن لا مُروءةَ له وهُمُ الذينَ يَفرَحونَ بالقليلِ ويَرضَونَ بالدُّونِ
كالكَلبِ الذي يُصيبُ عَظمًا يابِسًا فَيَفرَحُ به. وأمَّا أهلُ الفَضلِ
والمُروءةِ فلا يُقنِعُهُمْ القليلُ ولا يَرضَونَ به دونَ أن تَسمُوَ بهم
نُفوسُهُمْ إلي ما هم أهلٌ له وهو أيضًا لهم أهلٌ. كالأسَدِ الذي يَفتَرِسُ
الأرنَبَ فإذا رأي البعيرَ تَرَكَها وطَلَبَ البَعيرَ. ألا تري أنَّ الكلبَ
يُبَصبِصُ بذنبِهِ حتي تَرمِيَ له الكِسرَةَ مِنَ الخُبزِ فَيَفرَحُ بها
وتُقنِعُهُ منك، وأنَّ الفيلَ المُعتَرَفَ بفضلِهِ وقُوَّتِهِ إذا قُدِّمَ إليه
عَلَفُهُ لا يَعتَلِفُهُ حتي يُمسَحَ وجهُهُ ويَتَمَلَّقَ له? فَمَنْ عاشَ ذا
مالٍ وكانَ ذا فَضلٍ وإفضالٍ علي نفسِهِ وأهلِهِ وإخوانِهِ غيرَ خامِلِ
المنزلَةِ فهو وإن قَلَّ عُمرُهُ طويلُ العمرِ. ومَن كانَ في عَيشِهِ ضيقٌ
وقِلَّةٌ وإمساكٌ علي نفسِهِ وذَويهِ وكانَ خامِلَ المنزلَةِ فالمَقبورُ أحيا
منه. ومَن عَمِلَ لبطنِهِ وشهواتِهِ وقَنِعَ وتَرَكَ ما سِوي ذلك عُدَّ مِنَ
البَهائِمِ
ثم إنَّ دِمنَةَ انطلَقَ حتي دَخَلَ علي الأسَدِ فَعَفَّرَ وجهَهُ
بين يديهِ وسلَّمَ عليه. فقالَ الأسَدُ لبعضِ جُلَسائِهِ: مَن هذا? فقالَ: هذا
دِمنَةُ بنُ سَليطٍ. قالَ: قد كنتُ أعرِفُ أباهُ. ثم سألَهُ: أين تكونُ? قالَ:
لم أزَلْ ببابِ الملِكِ مُرابِطًا داعيًا له بالنَّصرِ ودَوامِ البقاءِ، رَجاءَ
أن يَحضُرَ أمرٌ فأُعينَ الملِكَ فيه بنفسي ورأيي. فإنَّ أبوابَ الملوكِ تكثُرُ
فيها الأمورُ التي ربما يُحتاجُ فيها إلي الذي لا يُؤْبَهُ له. وليسَ أحدٌ
يَصغُرُ أمرُهُ إلاّ وقد يكونُ بعضُ الغَناءِ والمَنافِعِ علي قَدَرِهِ، حتي
العُودُ المُلقي في الأرضِ ربما نَفَعَ فيأخُذُهُ الرَّجلُ فَيَحُكُّ به
أذُنَهُ فيكونُ عُدَّتَهُ عند الحاجَةِ إليه
فلمَّا سَمِعَ الأسَدُ قَولَ دِمنَةَ أعجَبَهُ وطَمِعَ أن يكونَ
عندَهُ نصيحةٌ ورأيٌ. فأقبَلَ علي مَن حَضَرَ فقالَ: إنَّ الرجلَ ذا النُّبلِ
والمُروءَةِ يكونُ خامِلَ الذِّكرِ مُنخَفِضَ المنزلَةِ فتأبي منزلَتُهُ إلاَّ
أن تَشُبَّ وترتَفِعَ كالشُّعلَةِ مِنَ النَّارِ يَضرِبُها.
ثم إنَّ دِمنَةَ استأنَسَ بالأسَدِ وخَلا به فقالَ له يومًا: رأيتُ
الملِكَ قد أقامَ في مكانٍ واحدٍ لا يَبرَحُ منه خِلافًا لمألوفِهِ وهو،
أعظَمَهُ اللهُ، منيعُ الجانِبِ نافِذُ الأمرِ آمِنُ السَّاحَةِ. فرأيتُ أن
أتَطاوَلَ عليه بالاستفهامِ علي وجهِ النَّصيحَةِ، فإنَّ الأمورَ الخَفِيَّةَ
لا يُظهِرُها إلاَّ البحثُ عنها، فإذا أُظهِرَتْ أُجِيلَتِ الفِكرَةُ فيها.
فبينما هما في هذا الحديثِ إذ خَارَ شَتْرَبَةُ خُوارًا شديدًا
فَهَيَّجَ الأسَدَ وكَرِهَ أن يُخبِرَ دِمنَةَ بما نالَهُ. وعَلِمَ دِمنَةُ
أنَّ ذلك الصَّوتَ قد أدخَلَ علي الأسَدِ رِيبَةً وهَيبَةً، فسألَهُ: هل رابَ
الملِكَ سمَاعُ هذا الصَّوتِ? قالَ: لم يَرِبني شيءٌ سوي ذلك وهو الذي
حَبَسَني هذه المُدَّةَ في مكاني. وقد صَحَّ عندي من طريقِ القِياسِ أنَّ
جُثَّةَ صاحِبِ هذا الصَّوتِ المُنكَرِ الذي لم أسمَعهُ قَطُّ عظيمَةٌ لأنَّ
صوتَهُ تابعٌ لبدنِهِ. فإن يكن كذلك فليسَ لنا معه قرارٌ ولا مُقامٌ. قالَ
دِمنَةُ: ليسَ الملِكَ بحقيقٍ أن يَدَعَ مكانَهُ لأجلِ صوتٍ. فقد قالتِ
العلماءُ: ليسَ من كلِّ الأصواتِ تَجِبُ الهَيبَةُ. قالَ الأسَدُ: وما مَثَلُ
ذلك
مثل الثعلب والطبل
قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ ثعلَبًا أتي أجَمَةً فيها طَبلٌ
مُعَلَّقٌ علي شَجَرَةٍ وكُلَّما هَبَّتِ الرِّيحُ علي قُضبانِ تلك الشَّجَرَةِ
حَرَّكَتها فَضَرَبَتِ الطَّبلَ فسُمِعَ له صوتٌ عظيمٌ باهِرٌ. فَتَوجَّهَ
الثعلَبُ نحوه لأجلِ ما سَمِعَ من عَظيمِ صَوتِهِ. فلمَّا أتاهُ وَجَدَهُ ضخمًا
فأيقَنَ في نَفْسِهِ بكثرَةِ الشَّحمِ واللَّحمِ. فعالَجَهُ حتي شَقَّهُ،
فلمَّا رآهُ أجوَفَ لا شيء فيه قالَ: لا أدري لعلَّ أفسَلَ الأشياءِ أجهَرُها
صوتًا وأعظَمُها جُثَّةً
وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتعلَمَ أنَّ هذا الصَّوتَ الذي
راعَنا لو وَصَلْنا إليه لوجدناهُ أيسَرَ ممَّا في أَنْفُسِنا. فإن شاء الملِكُ
بَعَثَني وأقامَ بمكانِهِ حتي آتِيَهُ بِبَيانِ هذا الصَّوتِ. فوافَقَ الأسَدُ
قَولَهُ فأذِنَ له في الذَّهابِ نحو الصَّوتِ
فانطَلَقَ دِمنَةُ إلي المكانِ الذي فيه شَتْرَبَةُ. فلمَّا فَصَلَ
دِمنَةُ من عندِ الأسَدِ فَكَّرَ الأسَدُ في أمرِهِ ونَدِمَ علي إرسالِ دِمنَةَ
حيثُ أرسَلَهُ وقالَ في نفسِهِ: ما أصَبتُ في ائتِماني دِمنَةَ وإطلاعِهِ علي
سِرِّي وقد كانَ ببابي مَطروحًا. فإنَّ الرجلَ الذي يَحضُرُ بابَ الملِكِ إذا
كانَ قد أُطيلَتْ جَفوَتُهُ من غيرِ جُرمٍ كانَ منه أو كانَ مَبغِيًّا عليه
عند سلطانِهِ. أو كانَ عندَهُ مَعروفًا بالشَّرِه والحِرصِ. أو كانَ قد أصابَهُ
ضَرُّ وضَيقٌ فلم يَنعَشهُ . أو كانَ قد اجتَرَمَ جُرمًا فهو يَخافُ
العُقوبَةَ منه. أو كانَ يرجو شيئًا يَضُرُّ الملِكَ وله منه نَفعٌ. أو يَخافُ
في شيءٍ ممَّا يَنفَعُهُ ضَرًّا. أو كانَ لعدُوِّ الملِكِ سِلمًا ولسِلمِهِ
حَربًا. أو كانَ قد حِيلَ بينه وبين ما في يديهِ مِنَ السُّلطانِ. أو باعَدَهُ.
أو طَرَدَهُ. فليسَ السُّلطانُ بحقيقٍ أن يَعجَلَ في الاسترسالِ إلي هؤلاءِ
والثِّقَةِ بهم والائتِمانِ لهم
وإنَّ دِمنَةَ داهِيَةٌ أريبٌ وقد كانَ ببابي مَطروحًا مَجفُوًّا.
ولعلَّهُ قد احتَمَلَ عليَّ بذلك ضِغنًا ، ولعلَّ ذلك يَحمِلُهُ علي خيانَتي
وإعانَةِ عَدُوِّي ونَقيصَتي عندَهُ، ولعلَّهُ أن يُصادِفَ صاحِبَ الصَّوتِ
أقوي سلطانًا منّي فيَرغَبَ به عنّي ويَميلَ معه عليَّ. ولقد كانَ الواجِبُ أن
أهجُمَ علي صاحِبِ هذا الصَّوتِ بنفسي. ولم يَزَلِ الأسَدُ يُحَدِّثُ نفسَهُ
بأمثالِ ذلك حتي جَعَلَ يَمشي وينظُرُ إلي الطَّريقِ التي سارَ فيها دِمنَةُ.
فلم يَمشِ غيرَ قليلٍ حتي بَصُرَ بدِمنَةَ مُقبِلاً نحوه فطابَتْ نفسُهُ بذلك
وَرَجَعَ إلي مكانِهِ.
ودَخَلَ دِمنَةُ عليه فقالَ له الأسَدُ: ماذا صَنَعتَ وماذا رأيتَ?
قالَ: رأيتُ ثَورًا وهو صاحِبُ الخُوارِ والصَّوتِ الذي سَمِعتَهُ. قالَ: فما
قُوَّتُهُ? قالَ: لا شَوكَةَ له وقد دَنَوتُ منه وحاورتُهُ مُحاوَرَةَ
الأكْفاء فلم يَستَطِعْ لي شيئًا
قالَ الأسَدُ: لا يَغُرَّنَّكَ ذلك منه ولا يَصغُرَنَّ عندكَ
أمرُهُ، فإنَّ الرِّيحَ الشَّديدَةَ لا تَعْبَأُ بضعيفِ الحَشيشِ لكنَّها
تَحطِمُ طِوالَ النَّخلِ وعَظيمَ الشَّجَرِ وتَقْلَعُ الدَّوْحَةَ العاتِيَةَ
من مَوْضِعِها. قالَ دِمنَةُ: لا تَهابَنَّ أيُّها الملِكُ منه شيئًا ولا
يَكبُرَنَّ عليكَ أمرُهُ فأنا علي ضعفي آتيكَ به فيكونُ لك عبدًا سامِعًا
مُطيعًا. قالَ الأسَدُ: دونَكَ ما بدا لك. وقد تَعَلَّقَ أمَلُهُ به.
فانطَلَقَ دِمنَةُ إلي الثَّورِ فقالَ له غَيرَ هائِبٍ ولا
مُكتَرِثٍ: إنَّ الأسَدَ أرسَلَني إليكَ لآتِيَهُ بك وأمَرَني إن أنت عَجِلتَ
إليه أن أُؤَمِّنَكَ علي ما سَلَفَ من ذَنبِكَ في التَّأخُّرِ عنه وتَركِكَ
لِقاءهُ. وإن أنت تأخَّرتَ وأحجَمتَ أن أُعَجِّلَ الرَّجعَةَ إليه فأُخبِرَهُ.
قالَ له شَتْرَبَةُ: ومَن هذا الأسَدُ الذي أرسَلَكَ إليَّ وأين هو? وما
حالُهُ?
قالَ دِمنَةُ: هو ملِكُ السِّباعِ وهذه الأرضُ التي نحن عليها له
وهو بمكانِ كذا ومعه جُندٌ كثيرٌ من جِنسِهِ
فَرُعِبَ شَتْرَبَةُ من ذِكرِ الأسَدِ والسِّباعِ وقالَ: إن أنت
جَعَلتَ ليَ الأمانَ علي نفسي أقبَلتُ معكَ إليه. فأعطاهُ دِمنَةُ مِنَ الأمانِ
ما وَثِقَ به ثم أقبَلَ والثَّورُ معه حتي دَخَلا علي الأسَدِ. فأحسَنَ الأسَدُ
إلي الثَّورِ وقَرَّبَهُ وقالَ له:
متي قَدِمتَ هذه البلادَ وما أقدَمَكَها ? فقَصَّ شَتْرَبَةُ عليه
قِصَّتَهُ. فقالَ له الأسَدُ: اصحَبني والزَمْني فإني مُكرِمُكَ ومُحسِنٌ
إليكَ. فَدَعا له الثَّورُ وأثني عليه وانصَرَفَ وقد أُعجِبَ به الأسَدُ
إعجابًا شديدًا لِما ظَهَرَ له من عَقلِهِ وأدَبِهِ. ثم إنَّه قَرَّبَهُ
وأكرَمَهُ وأنِسَ به وائتَمَنَهُ علي أسرارِهِ وشاوَرَهُ في أمرِهِ ولم
تَزِدْهُ الأيامُ إلاَّ عُجبًا به ورغبةً فيه وتقريبًا له حتي صارَ أخَصَّ
أصحابِهِ عندَهُ منزلةً.
فلمَّا رأي دِمنَةُ أنَّ الثَّورَ قدِ اختَصَّ بالأسَدِ دونَهُ
ودونَ أصحابِهِ وأنَّه قد صارَ صاحِبَ رأيِهِ وخَلَواتِهِ ولَهوِهِ حَسَدَهُ
حَسَدًا عظيمًا وبَلَغَ منه غَيظُهُ كلَّ مَبلَغٍ. فشَكا ذلك إلي أخيهِ
كَليلَةَ وقالَ له: ألا تَعجَبُ يا أخي من عَجزِ رأيي وصُنعي بنفسي ونَظَري
فيما يَنفَعُ الأسَدَ وأغفلتُ نَفعَ نفسي حتي جَلَبت إلي الأسَدِ ثَورًا
غَلَبَني علي منزلَتي!
قالَ كَليلَةُ: أخبِرني عن رأيِكَ وما تُريدُ أن تَعزِمَ عليه في
ذلك
قالَ دِمنَةُ: أمَّا أنا فلستُ اليومَ أرجو أن تَزدادَ منزلَتي عند
الأسَدِ فوقَ ما كانت عليه. ولكن ألتَمِسُ أن أعودَ إلي ما كانت حالي عليه.
فإنَّ أمورًا ثلاثَةً العاقِلُ جَديرٌ بالنَّظَرِ فيها والاحتيالِ لها
بجُهدِهِ. منها النَّظَرُ فيما مَضي مِنَ الضَّرِّ والنَّفعِ، أن يَحتَرِسَ
مِنَ الضَّرِّ الذي أصابَهُ فيما سَلَفَ لئِلاَّ يَعودَ إلي ذلك الضَّرِّ،
ويَلتَمِسَ النَّفعَ الذي مَضي ويَحتالَ لمُعاوَدَتِهِ. ومنها النَّظَرُ فيما
هو مُقيمٌ فيه مِنَ المنافِعِ والمَضارِّ. والاستيثاق ممَّا يَنفَعُ،
والهَرَبُ ممَّا يَضُرُّ. ومنها النَّظَرُ في مُستَقبَلِ ما يَرجو من قِبَلِ
النَّفعِ وما يَخافُ من قِبَلِ الضَّرِّ لِيَستَتِمَّ ما يَرجو ويَتَوَقَّي ما
يَخافُ بجُهدِهِ.
وإني لمَّا نَظَرتُ في الأمرِ الذي به أرجو أن تَعودَ منزلَتي وما
غُلِبتُ عليه ممَّا كنتُ فيه لم أجِدْ حِيلَةً ولا وَجهًا إلاَّ الاحتِيالَ
لآكِلِ العُشبِ هذا حتي أُفَرِّقَ بينه وبين الحياةِ، فإنَّه إن فارَقَ الأسَدَ
عادَتْ لي منزلَتي. ولعلَّ ذلك يكونُ خيرًا للأسَدِ. فإنَّ إفراطَهُ في تَقريبِ
الثَّورِ خَليقٌ أن يَشينَهُ ويَضُرَّهُ في أمرِهِ
قالَ كَليلَةُ: ما أري علي الأسَدِ في رأيِهِ في الثَّورِ ومكانِهِ
منه ومنزلتِهِ عندَهُ شيئًا ولا شرًّا
قالَ دِمنَةُ: إنَّما يُؤْتي السُّلطانُ ويَفسُدُ أمرُهُ من قِبَلِ
سِتَّةِ أشياءَ: الحِرمانِ والفتنَةِ والهوي والفَظاظَةِ والزَّمانِ والخُرقِ.
فأمَّا الحِرمَانُ فأن يُحرَمَ من صالحي الأعوانِ والنُّصَحاءِ والسَّاسَةِ من
أهلِ الرأيِ والنَّجدَةِ والأمانَةِ، وأن يكونَ مَنْ حَولَهُ فاسِدًا مانِعًا
من وُصولِ أمورِ المُلكِ إليه، وأن يَحرِمَ هو أهلَ النَّصيحَةِ والصَّلاحِ من
عنايتِهِ والتِفاتِهِ إليهم. وأمَّا الفِتنَةُ فهي تُحارِبُ رعيَّتَهُ ووقوعُ
الخِلافِ والنِّزاعِ بينهم. وأمَّا الهوي فالإغرامُ بالنِّساءِ والحديثِ
واللَّهوِ والشَّرابِ والصَّيدِ وما أشبَهَ ذلك. وأمَّا الفَظاظَةُ فهي إفراطُ
الشِّدَّةِ حتي يَجمَحَ اللِّسانُ بالشَّتمِ واليَدُ بالبَطشِ في غيرِ
مَوضِعِهِما. وأمَّا الزَّمانُ فهو ما يُصيبُ الناسَ مِنَ السِّنينَ مِنَ
المَوتاَنِ ونَقصِ الثَّمَراتِ والغَزَواتِ وأشباهِ ذلك. وأمَّا الخُرقُ
فإعمالُ الشِّدَّةِ في مَوضِعِ اللّينِ، واللّينِ في مَوضِعِ الشِّدَّةِ. وإنَّ
الأسَدَ قد أُغرِمَ بالثَّورِ إغرامًا شديدًا هو الذي ذَكَرتُ لكَ أنَّه خَليقٌ
أن يَشينَهُ ويَضُرَّهُ في أمرِهِ.
قالَ كَليلَةُ: وكيفَ تُطيقُ الثَّورَ وهو أشَدُّ منكَ وأكرَمُ علي
الأسَدِ منكَ وأكثرُ أعوانًا?
قال دِمنَةُ: لا تَنْظُرْ إلي صِغَري وضُعفي، فإنَّ الأمورَ ليست
بالضُّعفِ ولا القُوَّةِ ولا الصِّغَرِ ولا الكِبَرِ في الجُثَّةِ. فَرُبَّ
صغيرٍ ضَعيفٍ قد بَلَغَ بحِيلَتِهِ ودَهائِهِ ورأيِهِ ما يَعجِزُ عنه كثيرٌ
مِنَ الأقوياء. أوَلَمْ يَبلُغكَ أنَّ غُرابًا ضَعيفًا احتالَ لأسوَدَ حتي
قَتَلَهُ?
قالَ كَليلَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?
مثل الغراب والأسود
قالَ دِمنَةُ: زَعَموا أنَّ غُرابًا كانَ له وَكرٌ في شَجَرَةٍ علي
جَبَلٍ، وكانَ قريبًا منه جُحرُ ثُعبانٍ أسوَدَ. فكانَ الغُرابُ إذا أفرَخَ
عَمَدَ الأسوَدُ إلي فِراخِهِ فأكَلَها فَبَلَغَ ذلك مِنَ الغرابِ فأحزَنَهُ.
فشَكا ذلك إلي صَديقٍ لهُ من بَناتِ آوي وقالَ له: أُريدُ مُشاوَرَتَكَ في أمرٍ
قد عَزَمتُ عليه. قالَ: وما هو? قَالَ الغُرابُ: قد عَزَمتُ أن أذهَبَ إلي
الأسوَدِ إذا نامَ فأنقُرَ عَينَيهِ فأفقَأَهُما لعلِّي أستَريحُ منه. قالَ
ابنُ آوي: بِئسَ الحِيلَةُ التي احتَلتَ! فالتَمِسْ أمرًا تُصيبُ فيه بُغيَتَكَ
مِنَ الأسَودِ من غيرِ أن تُغَرِّرَ بنفسِكَ وتُخاطِرَ بها. وإيَّاكَ أن يكونَ
مَثَلُكَ مَثَلَ العُلجُومِ الذي أرادَ قَتلَ السَّرَطانِ فَقَتَلَ نفسَهُ.
قالَ الغُرابُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?
مثل العُلْجُوم والسرطان
قالَ ابنُ آوي: زَعَموا أنَّ عُلجُومًا عَشَّشَ في أجَمَةٍ كثيرَةِ
السَّمَكِ. فكانَ يختلِفُ إلي ما فيها مِنَ السَّمَكِ فيأكُلُ منه. فعاشَ بها
ما عاشَ ثم هَرِمَ فلم يستَطِعْ صَيدًا فأصابَهُ جوعٌ وجَهدٌ شديدٌ. فجَلَسَ
حزينًا يَلتَمِسُ الحِيلَةَ في أمرِهِ. فمَرَّ به سَرطانٌ فرأي حالتَهُ وما هو
عليه مِنَ الكآبَةِ والحُزنِ. فدَنا منه وقالَ له: ما لي أراكَ أيُّها
الطَّائِرُ هكذا حزينًا كَئيبًا?
قالَ العُلجومُ: وكيفَ لا أحزَنُ وقد كنتُ أعيشُ من صَيدِ ما ههُنا
مِنَ السَّمَكِ، وإني رأيتُ اليومَ صَيَّادَينِ قد مَرَّا بهذا المكانِ فقالَ
أحدُهُما لصاحِبهِ: إنَّ ههُنا سَمَكًا كثيرًا أفَلا نَصيدُهُ أَوَّلاً? فقالَ
الآخرُ: إني قد رأيتُ في مكانِ كَذَا سَمَكًا أكثَرَ من هذا السَّمَكِ، فلنَبدأ
بذلك فإذا فَرَغنا منه جِئنا إلي هذا فأفَنيناهُ. وقد عَلِمتُ أنَّهُما إذا
فَرَغا ممَّا ثَمَّ انتَهيَا إلي هذه الأجَمَةِ فاصطادا ما فيها. فإذا كانَ
ذلك فهو هلاكي ونَفادُ مُدَّتي
فانطَلَقَ السَّرَطانُ إلي جَماعَةِ السَّمَكِ فأخبَرَهُنَّ بذلك.
فأقبَلْنَ علي العُلجُومِ فاستَشَرنَهُ وقُلنَ له: إنَّا أتَيناكَ لتُشيرَ
علينا، فإنَّ ذا العَقلِ لا يَدَعُ مُشاوَرَةَ عَدُوِّهِ، وبقاؤُكَ ببقائِنا.
قالَ العُلجومُ: أمَّا مُكابَرَةُ الصَّيَّادَينِ فلا طاقَةَ لي بها. ولا
أعلَمُ حِيلَةً إلاَّ المَصيرَ إلي غَديرٍ قريبٍ من هنا فيه سَمَكٌ ومياهٌ
كثيرَةٌ وقَصَبٌ. فإن استَطَعتُنَّ الانتِقالَ إليه كانَ فيه صَلاحُكُنَّ
وخِصبُكُنَّ .
فقُلنَ له: ما يَمُنُّ علينا بذلك غيرُكَ. فجَعَلَ العُلجومُ
يَحمِلُ في كلِّ يومٍ سَمَكَتَينِ حتي ينتهي بهما إلي بعضِ التِّلالِ
فيأكُلُهُما. حتي إذا كانَ ذاتَ يومٍ جاء لأخذِ السَّمَكَتَينِ فجاءهُ
السَّرَطانُ فقالَ له: إني أيضًا قد أشفَقتُ من مكاني هذا واستَوحَشتُ منه،
فاذهَبْ بي إلي ذلك الغَديرِ. فقالَ له: حُبًّا وكرامَةً. واحتَمَلَهُ وطارَ
به، حتي إذا دَنا مِنَ التَّلِّ الذي كانَ يأكُلُ السَّمَكَ فيه نَظَرَ
السَّرَطانُ فرأي عِظامَ السَّمَكِ مجموعَةً هنَاكَ فعَلِمَ أنَّ العُلجومَ هو
صاحِبُها وأنَّه يُريدُ به مثلَ ذلك. فقالَ في نفسِهِ: إذا لَقِيَ الرجلُ
عَدُوَّهُ في المَواطِنِ التي يَعلَمُ أنَّهُ فيها هالِكٌ سَواءٌ قاتَلَ أم لم
يُقاتِلْ كانَ حَقيقًا أن يُقاتِلَ عن نفسِهِ كَرَمًا وحِفاظًا، ولا
يُمَكِّنَهُ من نفسِهِ حتي يَستَفرِغَ ما عندَهُ مِنَ الحِيلَةِ في قِتالِهِ.
لأنَّه قد بَني أمرَهُ علي التَّلَفِ فلعلَّ خَلاصَهُ في ذلك القِتالِ،
والهَلاكُ واقِعٌ به كيفَ كانَ. فلم يَزَلْ يَحتالُ علي العُلجومِ حتي
تَمَكَّنَ من عُنُقِهِ فأهوي بكَلبَتَيهِ عليها فعَصَرَها فماتَ وتخلَّصَ
السَّرَطانُ إلي جماعَةِ السَّمَكِ فأخبَرَهُنَّ بذلك.
وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ بعضَ الحِيلَةِ
مَهلَكَةٌ للمُحتالِ. ولكنّي أدُلُّكَ علي أمرٍ إن أنت قَدَرتَ عليه كانَ فيه
هَلاكُ الأسوَدِ من غيرِ أن تُهلِكَ به نفسَكَ وتكونُ فيه سلامَتُكَ. قالَ
الغُرابُ: وما ذاكَ? قالَ ابنُ آوي: تَنطَلِقُ فَتَتَبَصَّرُ في طَيَرانِكَ
لعلَّكَ أن تَظفَرَ بشيءٍ من حُليِّ النِّساء فتَخْطَفَهُ ولا تَزالُ طائِرًا
واقِعًا بحيث لا تَفوتُ العُيونَ. فإذا رأيتَ النَّاسَ قد تَبِعوكَ تأتي جُحْر
الأسوَدِ فتَرمي بالحُليِّ عندَهُ. فإذا رأي الناسُ ذلك أخَذوا حُلِيَّهُمْ
وأراحوكَ مِنَ الأسوَدِ.
فانطَلَقَ الغُرابُ مُحَلِّقًا في السَّماءِ، فوجَدَ امرأةً من
بناتِ العُظَماءِ علي شاطِئ نهرٍ تَغتَسِلُ وقد وضعَتْ ثِيابَها وحُلِيَّها
ناحيَةً، فانقَضَّ واختَطَفَ من حُلِيِّها عِقدًا وطارَ به. فَتَبِعَهُ الناسُ،
ولم يَزَلْ طائِرًا واقِعًا بحيثُ يَراهُ كلُّ أحدٍ حتي انتَهي إلي جُحْرِ
الأسوَدِ فألقي العِقدَ عليه والناسُ يَنظُرُونَ إليه. فلمَّا أتوا أخذوا
العِقدَ وقَتلُوا الأسوَدَ
وإنَّما ضَرَبتُ لك هذا المَثَلَ لتَعلَمَ أنَّ الحِيلَةَ تُجزِئُ
ما لا تُجزِئُ القُوَّةُ. قالَ كَليلَةُ: إنَّ الثَّورَ لو لم يَجتَمِعْ معَ
شِدَّتِهِ رأيُهُ لكانَ كما تقولُ. ولكنَّ له معَ شِدَّتِهِ وقوَّتِهِ حُسنَ
الرأيِ والعَقلَ فماذا تَستَطيعُ له?
قالَ دِمنَةُ: إنَّ الثَّورَ لكما ذَكَرتَ في قوَّتِهِ ورأيِهِ
ولكنَّهُ مقِرٌّ لي بالفَضلِ وأنا خَليقٌ أن أصرَعَهُ كما صَرَعَتِ الأرنَبُ
الأسَدَ.
قالَ كَليلَةُ: وكيفَ كانَ ذلكَ?
----------------------------------------------------
أضيفت في 10/04/2005/ * خاص القصة السورية/ عن كتاب في جريدة
موقع صخر
كيفية
المشاركة
|