أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

مسرحيات / الكاتبة: سلوى بكر

 حلم السنين

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة المسرحية

 

 

المسرحية

الفصل الثالث م1

الفصل الثاني م2

الفصل الثاني م1

الفصل الأول م1 

الفصل الثالث م2

 

 

حلم السنين

الشخصيات 

مكرع - الأمير - شاد -  العمائر - عسكر -  حاجب -  جواري -  عرافة -  وزير -  سلطان

 

 

 

الفصل الأول  المشهد الأول

 

 

قاعة عرش شرقية قديمة، لا تنم عن فترة تاريخية محددة، اللهم إلا أنها قروسطية، الأثاث والديكور خليط من طرزعربية وفارسية وهندية وصينية، الاتفاق الوحيد فيها هو إيحائها بالغنى والهيمنة والجبروت.

 

السلطان بين حاشيته وحراسه. الوزير يبدو في حالة ترجٍ وتوسل، بينما السلطان في حال من الغضب والهياج.

 

السلطان :  قلت لك ألف مرة أيها الوزير إني لا أريد مزيداً من العرافين والمنجمين. لقد سئمت كل هذه الأكاذيب والترهات. عشر سنوات مضت. استقبلت خلالها عدداً لا يحصى من هؤلاء الدجالين المهرجين دون جدوى. بت كالظمآن المهرول وراء سراب في الصحراء، هنا وهناك، ولا يجد ما يرويه. لقد سئمت أوهام التنبؤات، وشعوذة السحرة، وتمائم الكاهنات. وأنت أيها الوزير عليك أن تسأم من كل هذا وتكف عنه. كم ديكاً أسود بنقطة بيضاء بحثت عنه بنفسك وجلبته من بلاد الواق واق دون جدوى؟ كم أهدرنا من دماء الخراف البيضاء التي لا تمأمىء، والماعزات السوداء اليتيمة؟ هه؟ ( يضحك بسخرية(  .  

 

كله، إلا ذلك الساحر الذي طلب مرة دجاجة فريدة عمياء. أجل.. دجاجة عمياء طلبها ذلك الخبيث. لا.. لا أيها الوزير. كفّ عن هذا. لا أريد مزيداً من التنبؤات تلهب جذوة النار المستعرة في ذرى آمالي، وتكون كالريح العاصفة بجنون أشواقي وأحلامي. أنا لا أريد إلا أمراً واحداً الآن. حقيقة واضحة مجسّدة أمام ناظري. طفل أتحسسه وألمسه وأشمه... أشم رائحة شعره، وألمس أسيل خده وأضمه الى صدري. لقد أكلني الانتظارأيها الوزيروعيل صبري. أشعر أنني على وشك الجنون أو الانفجار. كلما فكرت في كل هذا الملك والسلطان. كلما فكرت في تلك السماوات العالية الممتدة بلا نهاية فوقي، والتي حدودها هي حدود سلطنتي، كل هذه الأنهار الجاريات، وهذا الماء الدافق الجم وقد جرى من تحت عرشي. أنا المالك، الآمر، الناهي، المنتقم، الجبار، المذل، قاهر ملوك الأرض ومعفّر جباههم في التراب، الفاتح الأعظم، الصقر الخاطف، والريح العاصف، أسد البرية، وسيد البشرية، كما ألقب في كل مكان. أنا الوحيد دون عباد الله في كل الأرض، أصبح بلا ولد. بلا وريث يرث الملك بعدي، ويحمل اسمي ويخلد ذكر سلطاني ومجدي. لا ولد يحفظ ما أمتلك من بلاد تمتد من عند النهر الأصفر ببلاد الصين البعيدة، وحتى ما حول بحر الظلمات الأعظم.لا..لا أيها الوزير. كفى. أصمت ولا تحدثني عن كهنة وسحرةوعرافين. أريد طفلاً، طفلاًيخرج من صلبي ويقبض بيده على الصولجان بعدي، ويتكلل رأسه بتاج ملكي الفريد.. التاج الذهبي ذو الياقوتة العجيبة. الياقوتة الحمراء التي ما كانت لتتوج رأسي إلا بكل ذلك الدم الذي سفحته والذل الذي فرضته.لا...لا.. إ-هب عني أيها الوزير، لقد ودعت عظيم الآمال، ودفنت ما لديّ من أحلام. لا أريد بعد اليوم مزيداً من الأوهام، وقد تعلّقت بما يكفي بحبال العنكبوت الواهية،وتمرمت نفسي بالفشل والخيبة مرة إثر مرة..أسكت أيها الوزير.. أسكت واذهب عني الآن

)يطرق في الأرض، ويعود الى عرشه ليرتمي عليه كالمهزوم، بعدما كان يجول في القاعة كالمجنون، وكأنما يخاطب نفسه دون الوزير)

 

الوزير :  (بعد تأمل وصمت) ولكن هذي العجوز الموجودة لدينا الآن، أتت من وراء الجبال البعيدة يا مولاي. تقول أنها سارت سنة بكاملها، قطعت خلالها آلاف الفراسخ والأميال، وتعرضت لما لا يحصى من الأهوال، حتى أنها رأت أثناء رحلتها وبأم عينيها الغول والعنقاء. وها هي الآن، بعد أن ظلت شهوراً تنتظرعند أبواب المدينة تقول أنها لا ترغب إلا في المثول بين يديك،لا تريد هبة أو عطية أو مجداً من وراء هذا، لقد أتيت بها الآن يا مولاي وألح عليك يا سيدي أن تراها، لأني أخشى أن تموت فهي مريضة جداً، والموت يراودها بين الحين والحين، وربما قطفنا من كلماتها ثمرة رجائنا الطويل. ولعلنا ندق ذات يوم- بعد ذلك – في كل السلطنة كؤوسات البشارة والفرح.

 

السلطان :  كؤوسات البشارة.. كؤوسات البشارة. آه أيها الوزير. كم تقت الى سماعها وهي تنبىء في كل أنحاء السلطنة بميلاد ولى عهدي. كم تقت الى تنشيف أذني بدقاتها السارة، لترقص على إيقاعاتها دقات قلبي. آه. إنها تبدو لي كحُلم مستحيل لا يتحقق أبداً، إنها كلؤلؤ الأغوارالسحيقة، وذهب السماء البعيد. لا..كفى.. كفى أيها الوزيرلا تدغدغ مشاعري بمثل هذا الكلام، لا تمنّ نفسي بما لن يحدث أبداً . لقد كرهت "ربما"، و"علّنا"، مثلما سئمت كل تلك العقاقير والدهانات والأشربة التي طالما تجرعتها بحثاً عن المستحيل. حتى الشهد المصفى مللت شربه مع الماء الزلال عند كل صباح لأنه دواء. الآن إذهب أيها الوزير. إذهب واتركني في الحال. (يصفق بيديه) هاتوا الشراب..الآن أريد الشراب.. أريد خمراً..خمراً فقط يهدىء روحي.. ولا شيىء آخر الآن

الوزير :  مولاي، أتوسل إليك يا سيدي.. الأمر لن يستغرق أكثر من بضعة دقائق. فقط دقائق معدودة لا غير، نستمع خلالها الى العرافة وينتهي كل شيىء.. إنها - وكما تقول- سوف تنبئنا نبوءة قصيرة مقتضبة، ولن تطلب خرافاً فريدة لا تموء، أو ديوكاً خارقة لا تصيح، أو معزاة سوداء بثلاثة عيون. مولاي إأذن لها بالدخول. أرجوك وأتوسل إليك يا حبة عيني. لأجل خاطري هذه المرة. لأجل وزيرك المسكين المتفاني في خدمتك وخدمة عرشك والسلطنة. ضعني في الدهن واللبد، وارم بي عند حارق الصحراوات وأكثرها قسوة وسخانة حتى يأكلني الدود إن شئت، وإن لم يعجبك الأمر هذى المرة

)ينحني الوزير على الأرض. يقبل الأرض بين قدمي السلطان ويبكي (

 

)يطرق السلطان برأسه قليلاً. يبدو كأنه يفكر(

 

السلطان :  إنهض. إنهض أيها الوزير الوفي. قلبي تقطع من بكائك. هاتوا له شربة مياه يشربها. ورشوا عليه رشة عطر. لاداعي لكل هذا، فلتدخل العجوز لنراها، ولتمثل بين أيدينا

الحاجب :  (يصيح) فلتدخل في التو والحال عرافة الجبال البعيدة

يفتح باب القاعة، وتدخل منه عجوز متهالكة، مشعثة، ذات نظرات قوية، تبدو غير مبالية بكل الأبهة والعظمة السلطانية، تجول بعينيها في المكان. تتحرك ببطىء، وتقف أمام أول جندي يقابلها عند الباب من حراس السلطان

العرافة :  (للجندي) سلام عليك أيها السلطان العظيم

الجندي :  (مصدوماً) .. حاشا.. حاشا أيتها المرأة. أنا جندي. بيدق مسكين، ولست جلالة السلطان

العرافة :  (تتأمله بتمعن) ولماذا أنت لست السلطان؟ ما الذي يمنع. لا تنقصك رجل أو يد أو عين. هه؟ تبدو شاباً موفورالصحة. وجهك مليح وشاربك وذقنك لا بأس بهما. ثم إن ملابسك جيدة ولديك سلاح. لا. أنت السلطان لكنك تهزر معي. سلام عليك أيها السلطان...

 

الوزير يقاطعها بسرعة وقد بدا في حالة شديدة من الارتباك )

 

الوزير :  تعالي هنا .. تعالي هنا أيتها العجوز الخرقاء، هذا جندي حارس. محض حارس، هل عميت؟! مولاي هنا.. تعالي هنا.

 

العرافة : طيب.. طيب أيها الخادم.. إنتظرني، سآتي إليك حتى تقدمني لسيدك. ولكن كن مهذباً. لا داعي لأن تتفوه بكلمات تعبر عن أصلك ومنشئك الوضيع.. ياه، المكان واسع جداً، يبدو أنني سأسير كثيراً وتتعب قدماي.

 

تتوجه الى الوزير

هلا جئت أيها الخادم وحملتني، ألا ترى أنني عجوزولا أستطيع المشي طويلاً.. ألا تسدي لأمك العجوز معروفا ًوتوفر علي المشقة والعناء.

 

الوزير :  خسئت أيتها العجوز. أنا الوزير. احترمي نفسك وإلا مسحت بك الأرض، وقطعت خبرك من الوجود.

 

العرافة :  قطيعة تقطعك.. أنت لا تستطيع أن تمس شعرة واحدة من رأسي (تضحك) لأني صلعاء تماماً، ثم إني ذاهبة الى السلطان، مالك ومالي؟ تكون وزيراً أو خادماً، ما الفرق؟! كله ارتزاق، وكل الناس تعرف ما معنى الوزير، ما هو الوزير! (تلتفت الى الجندي) . قل له ما معنى الوزير!. 

الوزير :  (مقاطعاً) إخرسي.. إخرسي أيتها المرأة. وتقدمي بسرعة الآن

يذهب إليها ويمسك بيدها محاولاُ حثها على المشى بسرعة لتمثل أمام عرش السلطان

 

العرافة :  بالراحة.. بالراحة، أنا لا أستطيع السير بسرعة. ثم لا تلمسني.. لا أحب أن تلمسني يدك القذرة هذه.

 

تدفع يده بعيداً.. وتتحرك ببطء حتى تصل الى عرش السلطان ).

 

تتأمل السلطان لحظات، تتأمل التاج والكرسي المذهب والصولجان ).

 

تاجك جميل جداً أيها السلطان. لكني أظن أني رأيته ذات مرة منذ سنوات في مكان ما. (تحاول التذكر آه، ربما في تلك المعركة الشنيعة عند النهر الأصفرببلاد الصين، رأيت رجلاً ممدداً على الأرض، وقد خرج قلبه من صدره وإلى جانبه تاج يشبه هذا بالضبط،وقد تعفر بالتراب، وتلوث بالدماء.. آه ما أبشع هذا.

 

السلطان، يبدو عليه الغضب والارتباك، بينما يفغر الجميع أفواههم، أما الوزير فيصيح بغضب وغيظ ).

 

الوزير :  إخرسي.. إخرسي أيتها العرافة.. قولي مقالتك وإلا أمرت بدق عنقك هنا..هنا والله في الحال، ولكن قبل كل شىء، أنحني فوراً وقبلي الأرض بين يدي سيدك ومولاك.. ألصقي جبهتك بالأرض طويلاًوأظهري خشوعك وذلتك أيتها الشمطاء الحقيرة فوراً

العرافة :  يا لك من رجل زرب اللسان،عديم النظر تطلب مني الانحناء، ولا ترى كم هو محني ظهري، ألا يكفيك كل هذا الانحناء، إن أمثالي لا ينحنون مرة واحدة. نحن نتربى ونتعود كل يوم، ومنذ مولدنا على الانحناء، القهر والذل والجوع، لا تمنحنا لحظة واحدة كي نرفع رؤوسنا وننتصب. ثم هلا سكت قليلاً فلم تقاطعني حتى أقول قولي، وأتمم عملي الذي قطعت كل هذه المسافات لأجله.  

 

تتوجه الى السلطان، بعد أن تجلس وتتربع أمامه على الأرض )

 

هل يمكن أن تأمر لي بكوب من الشاي بالحليب المحلى بالعسل الخفيف حتى أشربه؟ لقد عكّر هذا الرجل دمي.. أرجوك أخرسه،واأمره ألا يقاطعني أو يتحدث أثناء كلامي.

 

السلطان :  (يكظم غيظه ويبتسم) هاتوا لها ما طلبت، أما أنت أيها الوزير فلتسكت قليلاً حتى نسمعها وننتهي

العرافة :  سلام عليك أيها الغلبان

الوزير :  السلطان يا حمارة.

 

العرافة :  آه.. أقصد السلطان. نسيت. يحدث لي ذلك عندما لا أفطر لقد جئت بسرعة ولم أفطر. سوف آكل شيئاً.

 

)تخرج من خُرجها بعض البقسماط الأسود الجاف وتبدأ في التهامه (

 

السلطان :  ألا ترين أن هذا الخبز الجاف قاس جداً على أسنانك! سآمر لك بشىء طري تأكلينه.

 

العرافة :  لا تقلق يا سيدي، لا أسنان لدي، سقطت كلها منذ زمن بعيد، في الحقيقة أنا لا أعرف طعم الأشياء الطرية.. لم أتذوقها أبداً، وأخشى أن تعافها نفسي إذا بلعتها، فأسترجعها ويحدث ما لا تُحمد عقباه في حضرتكم. إطمئن يا مولاي، أنا أقضم اللقمة وأضعها في فمي وأضغط عليها بدراديري حتى تذوب.. دعك من هذا.

 

الوزير :  إذن. ادخلي في الموضوع، قولي بسرعة ما لديك فلقد سئمنا ثرثرتك التي لا لزوم لها

السلطان :  قلت لك اسكت. اسكت الآن.

 

العرافة :  سلام عليك أيها السلطان من صاحبة الشطارة، وسيدة البشارة، عرافة الجبال البعيدة التي لا يطأها إنس ولا جان، ولا يملكها ملك أو سلطان.

 

السلطان :  (مقاطعاً) فكّرني يا وزير، نروح ونشوفها مرة، ولو أعجبتنا يبقى...

 

الوزيــر :  طبعاً طبعاً يا مولاي. لكن دعنا نخلص من موضوعنا أولاً.

 

العرافة :  والله مهما عملتم كان غيركم أشطر. نقبكم على شونة. مالكم ومال الجبال البعيدة! كله عاوزينه! كل حاجة عاوزين تبلعوها في كرشكم؟

 

الوزير :  تهذّبي واخرسي.. لن نحتمل هذا منك طويلاً . كل شىء وله حدود أيتها الحمقاء ما شأنك بهذا؟! السلطان يوجه لي الكلام. لا تتدخلي في كلامنا. هذه مسائل عليا. أمن دولة ممنوع أن تتدخلي فيها.

 

السلطان :  أسكت. أسكت واتركها تتكلم. بالله. هاتي ما عندك أيتها المرأة.

 

العرافة :  (تحرك الأكل في فمها تمضغ) . لقد اجتزت الفراسخ سيراً، وعبرت الوديان ليلاً حتى ألقاك، بعد أن رأيتك في منامي ثلاث مرات (تغني أغنية عبد الوهاب الشهيرة) .

 

أنا زارني طيفك في منامي قبل ما احبك ) (تضحك) .

 

الوزير :  سأقتلك.. والله سأقتلك في الحال إذا لم تكفّي..

 

العرافة :  : يوه. الشاي تأخر. عاوزة أبلّع. وأسلّك صوتي.

 

لقد رأيتك أيها السلطان في المنام ثلاث مرات. مرة عندما كنت مقيّلة في الظهر تحت شجرة جوافة بلدية. ومرة قبل الفجر وقمت بعدها محصورة وعاوزة أعمل كما الناس والمرة الأخيرة شفتك وكأنك أمامي، كما الآن، بدمك ولحمك وشحمك، بمناخيرك المخنشرة وشفاتيرك و عينيك الصغيرتين المسحوبتين وكأنهما حبتان ترتر. (تضحك)

 

الوزير :  اخرسي..اخرسي.

 

العرافة :  إخرس أنت والله لو سمعت صوتك مرة ثانية لأذهب وأتركك تاكل بعضك وتضرب أخماساً في اسداس.

 

السلطان :  اتركها.. اتركها واسكت.. قلت لك اسكت.

 

العرافة :  : الله! ( وهي تنظر إلى الوزير شذراً. وتستمر في توجيه كلامها إلى سلطان ) .

 

ثم بعد ذلك يا مولاي قمت وفتحت عيني، وكان الوقت وقت مغربية والدنيا هس..هس. فسمعت من يناديني هامساً ويهتف في أذني: شدّي الرحال إليه. وبشّريه بحلم السنين. أجل سيكون له ولد يرث العرش بعده. إسمه حلم السنين.

 

السلطان :  ولد ولد إسمه حلم السنين؟ (يفقد وقاره ويصفق جذلاً) .

 

ولد؟ هل أنت واثقة ومتأكدة أنه قال لك ولد؟ إياك أن تكون بنتاً. أنا لا أحب البنات. أنا عاوز الولد. طيب احلفي برحمة أمك أنه ولد

العرافة :  (تقلده) أنا لا أحب البنات.. أنا لا أحب البنات.

 

تشير إلى جميع من على المسرح

 

  كلكم لا تحبون البنات إلا في حالة واحدة فقط (تشير بيدها) الحالة الأفقية في السرير. أجل تحبون البنات هناك. في الأسرّة فقط. عندما تحولون الأسرّة إلى موائد طعام، والبنات كحمامات أو يمامات أو بطاّت أو برتقالات أو تفاحات شهية تشبع شهواتكم، وتمنحكم اللذة التي ترغبونها.

 

الوزير :  ما هذا الذي تقولينه أيتها المرأة، هل جئت هنا لتدخلينا في فلسفة عقيمة؟ ألا تعرفين أن الفلسفة هي صنو الهرطقة، والله لأضعك بين يدي أولي الأمر من العارفين المتفقهين ليبتوا في أمرك. والله لأسجنك بتهمة الفلسفة والكفر وأقلب عليك العامة والرعاع.

 

العرافة :  أسكت يا هذا. ما شأنك أنت بهذا الكلام؟ مالك أنت والبنات؟ خليك في الصبيان. (تغمز بعينها(

 

السلطان :  آه. أسكت أنت. خليك أنت في الصبيان.. مالك ومال البنات؟ أسكت خلّنا نعرف الحكاية وبقية النبوءة. لأني منتظر الكلام على أحر من الجمر. يا الله.. يا الله ياعرافة الجبال البعيدة، هاتي ما عندك، ثم نتكلم بعد ذلك عن البنات والصبيان. لكن - ورحمة أمك – هل الهاتف قال لك ولد؟! ولد اسمه حلم السنين

العرافة :  : أمي موجودة على ظهر الدنيا.. لماذا تفوّل عليها؟ أمّا أبي فمحتمل أن يكون قد مات، أصلي عمري ما شوفته. وعيت على الدنيا بدون أب. (تضحك) يعني ما الفارق؟! لو كان موجوداً كان سوّد حياتي أنا وأمي، ثم كنتم أخذتموه كما جميع الرجال إلى الحرب.. ألا تشبع هذه الحرب من الرجال أبداً؟ أنتم فعلاً لا تحبون البنات بدليل أنكم جعلتم الحرب مؤنثة لتجعلوا الجميع يقولون: حرب قذرة. حرب ضروس. حرب شنعاء. حرب مميتة. حرب فانية...

 

الوزير :  إذا لم تدخلي في الموضوع وتتحدثي في مسألة النبوءة سأخرجك من هنا فوراً وسيكون الويل كل الويل لك.

 

العرافة :  (للسلطان) خلي الجدع الحشري الواقف هناك يسكت. قلت إسمه الخفير والاّ؟..

 

السلطان :  (مصححاً لها) الوزير.. وزير السلطنة حمّص أخضر برقوق.

 

العرافة :  طيب قول لترمس أصفر أبو صوت مخنوق أن يسكت لأني زهقت منه، وهات لي الأول الشاي بالحليب لأني عاوزة أفطر.

 

السلطان :  (يضحك) طيّب. كملي، والشاي بالحليب سوف يكون عندك في التوّ والحال. قولي بسرعة لأني متلهف على سماع بقيّة البشارة.

 

  هاتول بسرعة سطل شاي بالحليب للعرافة.

 

العرافة :  محلّى بعسل خفيف.. وبحليب معزى بيضاء بنقطة سوداء في ذقنها.

 

السلطان :  (متوجهاً للوزير بغضب) ألم أقل لك لا أريد سماع مثل هذا الكلام مرّة أخرى، هل سنعود ثانية إلى السخافات وشروط الديوك والمعيز والخراف؟

 

العرافة :  خلاص. إذا لم توجد معزة بيضاء بنقطة سوداء في ذقنها. هاتوا حليب كبش بثلاثة قرون.

 

الوزير :  (يقترب منها ويبدو وكأنه على وشك أن يضربها وقد استل سيفه) . هل جننت؟ ما هذا الذي تقولينه؟ إذا لم تدخلي في موضوع النبوءة سأقتلك هنا. وعلى رؤوس الأشهاد.

 

العرافة :  أتقتلني لأني طلبت كأساً من الشاي بالحليب. كل هذا لأجل الشاي بالحليب؟ طيب سأذهب الآن ولا أريد منكم شيئاً. (تبدو وكأنها على وشك الخروج) . سلام عليكم..سلام عليكم يا بخلاء، يا مقترون، بالناقص شايكم وحليبكم.. والله يحرم عليّ حتى لو كان بلبن العصفور.

 

السلطان :  أسكت أيها الوزير. لا تفتح فمك بكلمة واحدة، ولتعد هذا السيف إلى غمده. تعالي هنا أيتها المرأة لا تخشي شيئاً. أكملي كلامك وعليك الأمان، ولسوف نأتي لك بحليب كبش بثلاثة قرون.

 

العرافة :  كبش بثلاثة قرون؟ هل ستأتيني بحليب كبش بثلاثة قرون؟ لا.. أنت تمزح أيها السلطان؟ أنت تمزح معي.

 

السلطان :  آه كبش بثلاثة قرون.الله. مستحيل فعلاً ولكنك أنت التي طلبت ذلك منذ قليل. ألم تطلبي بنفسك ذلك ومنذ قليل؟

 

العرافة :  خلاص. خلّه شاي بحليب عادي .. أي نوع من الحليب ولو حتى لبن عصفور منقط مزقطط من على أية شجرة في حديقة القصر. (تضحك) ( تتعمد التلكؤ في الكلام وهي تقضم وتزدرد البقسماط )

 

السلطان :  اتركينا الله يخلّيك من موضوع الشاي والحليب.. وادخلي في مسألة النبوءة. قولي بسرعة وهاتي ما عندك. أصل صبري نفذ وروحي طلعت من الزهق.

 

العرافة :  أعرف. أعرف أن السلاطين والمتجبرين ليسوا بصابرين، ويظنون أنهم إن قالوا للشىء كن فيكون. في الحقيقة أنهم في الحماقة لسادرون. ومن حكم الزمان لا يعتبرون، ثم أنهم..

 

الوزير :  (متوجهاً للسلطان) مولاي.. أرجوك.. اتركني أفعلها،أتركني أقتل هذه المرأة في التو والحال، وإلا سأجدني مضطراً لقتل نفسي. هل يهون عليك أن أموت كافراً؟ لقد خرجت هذه المرأة عن حدود الأدب، وطفح كيلي منها وهي تتطاول على عظمتكم وعلى أصحاب المقامات والرتب.

 

العرافة :  (بجد) والله لو لم تكف عن مقاطعتي، فالسوف أنصرف فوراً ولن أقول بقية النبوءة أبداً، حتى ولو قطعت رقبتي.

 

الوزير :  فلنقطع رقبتها في الحال يا مولاي.

 

العرافة :  وماله. ياللا اعملها. لكن عليك أن تعلم أن أجلك سوف يحين بعد أجلي بحوالي ساعة إلا ربع. يعني تشهد على نفسك يا شاطر و..

 

السلطان :  كفى. كفى. اسكت أيها الوزير، وإذا لم تستطع أن تتمالك نفسك فغادر المكان في الحال. ألست أنت الذي أصرّ على دخولها ومثولها بين أيدينا؟ إذن تحمّل. تحملّ نتيجة إصرارك وإلحاحك على حضورها هنا.

 

العرافة :  أيّدك الله وقدّس سرّك أيها السلطان وسلّم فمك لأنك أعطيته كلمتين في جنبه. والحق أقول لك، إن ما أنت راغبه ومؤمله سوف يكون، فلسوف تبنى إن شاء الله بفتاة هي كبدر السماء، وسلسبيل الماء، ولسوف يكون اسمها برقع الحياء خاتون، وآيتها شامة وعلامة، أمّا الشامة فلسوف تكون في نهاية كتفها الأيسر، وأمّا العلامة فهي أن بكفها ستة أصابع سبحان العاطي الخلاق، ولسوف ترزق يا مولاي من برقع الحياء بغلام جميل، لا هو بالقصير ولا هو بالطويل، وشعره لا هو ناعم أو كثير. لكنه على أية حال سوف يكون كورد الأكمام، وفاكهة الزمان والبدر الطالع على الأنام. والمسألة يا مولاي هي أنه يا كبدي سوف يولد بعلّة، آفتها الدموع والبكاء، فإذا بكى او ناح قدر جرى فرس فرسخاً من الأرض، قُضي عليه وانتهى الأمر. لذا فعليك منعه ابداً من البكاء مهما كان الأمر، ومهما كبر وأمتد به العمر، أي أنه يجب أن يعيش في مرح وسرور، ولا يجوز أن يبقى حتى ولو للحظة حزيناً أو مكدوراً، ثم أعلم أن هذا الوليد الخارج من صلبك سوف يجر على مملكتك الخراب ذات يوم، وها أنا اقول لك كل شىء بمنتهى الصدق والأمانة، دون كذب أو خيانة، فبشّرتك وحذّرتك وأنذرتك، ليكون لك الخيار، وعليك تقع مغّبة الاختيار.

 

الوزير :  (يبدو غاضباً غضباً ليس مفهوم، وقد أخذ يتمتم لنفسه بكلام، ويبدو كمن يتوعد العرافة بسوء سراً، لكنه يتوجه إليها في النهاية بصوت عالٍ موتور)

 

أي خراب تتحدثين عنه أيتها العجوزالخرفة الحمقاء؟ أجئت تبشرين أم جئت تنذرين؟ والله لا حل لك إلا الموت.. سأميتك ميتة لا يصل إليها خيال بشر أو جان.

 

السلطان :  انتظر.. انتظر أيها الوزير. دعها تكمل ما عندها، ولكن: ألا قلت لي أيتها العجوز كيف سيكون الخراب؟ إن من سيخرج من صلبي سوف يكون وريثي وسلطان البلاد من بعدي..فأي خراب في هذا الأمر؟! أفصحي أيتها المرأة بربك.

 

العرافة :  أيها السلطان، أنا أصدقك القول. الهاتف لم يهتف لي بكيفية الخراب ولم أرغب في حجب ما لا يرضيك فالأمانة قد تكون في الإفشاء وليست في الإخفاء. ولعلك تعلم أن الكمال ليس من شرط

 

الإنسان.والفضيلة إن زادت عن بلوغها قد تتحول إلى رذيلة. والخراب قد يحل من عاطفة رعناء أو ظلم أعمى، لكنه لابد آت من استبداد غشيم، وعدل يبحث عن مقيم، ولعلك تعلم أن الذي لا يرى أبعد من أنفه مثله كمثل الذي يسير على أربع، فلكي يرى المرء البعيد، عليه أن يقف ويستقيم والوقوف تأمل، والاستقامة رغبة في البلوغ، دون الدوران والعروج. والآن اتركني أرحل يسلام. (تلتفت إلى الوزير) والموت سيحل بي أينما كنت وعلى أي حال صرت وبأية طريقة اختارها لي الخالق، والخوف من المنية لا يناسب مثلي، لكنه يليق بكل جبار غشيم. وأنا لا أريد هبة أو عطية ولا حتى شاياً بالحليب.

 

السلطان :  اتركوها تمضي بسلام.. وأوصلوها إن أرادت إلى ما وراء الجبال البعيدة.

 

الوزير :  طبعاً يا مولاي. عاوزين نعرف سكّة الجبال البعيدة بالضبط

- ظلام

المشهد الثاني 

   خشبة المسرح ما زالت مظلمة، تتعالى منها أصوات حركة ناس وحيوانات ولغط ترتيب مواقع الممثلين والحيوانات والأثاث والأشياء،يدخل السلطان والوزير والحاشية بينما تضاء الخشبة. الحركة والأصوات ما زالت مستمرة، وفي هذا المشهد يصبح الارتجال هو سيد الموقف، وتصبح السلطة، كل السلطة للممثل.

 

الوزير :  الله، الله. بسم الله ما شاء الله. كلّه تمام يا مولاي،

 

)يتجول السلطان يتبعه الوزير في المكان. يقترب الوزير من أحد المهرجين بينما هو ينط ويقفز ويتشقلب ويتوجه بالكلام للسلطان (.

 

الوزير :  رائع. ممتاز. ولد شاطر جداً. هذا المهرج يا مولاي جلبناه من جزيرة المرح الواقعة في أعالي البحار. يقال أن أهلها لا يكفون عن الضحك والتهريج ليل نهار بسبب لعنة ربانية حلت بهم بعد إثم اقترفوه. وهذا يا مولاي كبيرهم بعد أن أسرناه وأتينا به عبداً ذليلاً.

 

)المهرج يأتي بأفعال مضحكة بوجهه وجسده ويقلد الوزير ساخراً، بينما ينشغل الرجل بغيره. يضحك الجميع(.

 

الوزير :  (يشير إلى أحد القرود) وهذا القرد يا مولاي متخصص في عجين الفلاّحة، وزميله الذي هناك في نوم العازب. إنهما غاية في الظرف يا مولاي. ويشرحان قلب الحزين.

 

السلطان :  عظيم.. عظيم.. رائع. ضعوا سرير الأمير في وسط القاعة تماماً، حتى يستطيع رؤية هؤلاء من كل ناحية وإذا ما تقلب إلى اليمين أو اليسار. ولكن هل أبلغتم الجواري التعليمات بدقة؟ ثم أين الشخللات والخشخشات؟ إصنعوا واحدة كبيرة تلهيه عند أول بادرة بكاء تصدر عنه.

 

الوزير :  لقد جلبنا يا مولاي لأميرنا المحبوب حلم السنين عجيبة من عجائب بلاد الصين، عبارة عن شجرة صغيرة وارفة، صنعت من الورق وخشب المسك والعنبر، وعلى فروعها أطيار وأزهار، ويصدر عنها أصوات فرح ومرح. كأنها أصوات غابة بأكملها. هي ستكون هنا في غضون أسبوع مع قافلة قادمة من طريق الحرير. اطمئن يا مولاي. حسبنا حساب كل شىء، حتى المكرع يا مولاي يقبع هناك في طرف القاعة. ( يتوجه إليه ومعه السلطان، فيبدو شاباً يافعاً وقد أدخل يده في قفاز ضخم أشبه بقفاز الملاكمة، يتأمله الوزير والسلطان ملياً (.

 

الوزير :  أرأيت يا مولاي ما ألبسناه في يده، إنها حاشية مبطّنة من الحرير والقطن، حتى تكون ضرباته رقيقة حانية على ظهر الأمير ليتجشأ. نحن نفذنا تعليمات الحكيم بدقة ولسوف نجشئه بعد كل رضعة، وبعد كل شربة ماء، حتى عندما يكبر سنجشئه أيضاً. الحكيم قال أن العفونات والطيارات يجب أن تخرج أولاً بأول من أمعائه، لأنها إن بقيت تعمل مغصاً وتسبب ألماً. وقال أيضاً إنه يفضل أن ننومه منبطحاً حتى لا تبقى طيارات بداخله.

 

السلطان :  لا..لا داعي لحكاية النوم منبطحاً هذه، حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه. (يغمز بعينه للوزير) . أتفهم؟

 

الوزير :  طيّب.. لا داعي للانبطاح، ولكن هل سمعت يا مولاي أغنية المكرّع. (يتوجه بالكلام إلى المكرع) هلاّ قلت لنا يا ولد أغنيتك الرقيقة التي سوف تغنيها لأميرنا العزيز، عندما تكرعه.

 

المكرع :  صحة إيىء (يصدر صوت التجشؤ(

 

عافية إيىء

 

مطرح إيىء

 

ما يسري إيىء

 

يمري إيىء

 

إيىء.. إيىء..إيىء..

 

السلطان :  وما هذا؟ لماذا بقي هذا العبد هكذا ساكناً على الأرض؟

 

)يقترب من قصرية على ظهر عبد أسود ساجد على الأرض ومستمر في مكانه كالصنم.. تبدو قصرية صغيرة مزركشة على ظهره(

 

الوزير :  هذه يا مولاي لزوم سيدي الصغير، فلسوف يتحرك به العبد ويزحف هنا وهناك وهو يغني حتى لا يمل أميرنا أثناء قضاء حاجته. إن صوت العبد من أجمل وأرق الأصوات المعروفة في المدينة. ولكن لا شىء يغلو على أميرنا الصغير وفي سبيل سعادته. أليس الأمر طريفاً يامولاي؟ (ثم إلى العبد) هل أسمعت مولاك شيئاً من الغناء أيها الرجل ؟

 

حامل القصرية : (يغني)

 اعملها يا حبيبي وريحني الله يخليك

 

كفاية قرف. وفرّح العزول والعدو فيّ الله ما يوريك

 

جار الزمان عليّ وبعد غنا العز والفرح..

 

صرت أغني وأقول: أفيه.. أفيه.. أفيه

 

أو أخيه.. أخيه.. أخيه..

 

السلطان :  فكرة ممتازة ومسهلة لكل أمر عسير. ولكن ألم يكن من الأفضل أيها الوزير أن يستبدل العبد بجارية حلوة ذات شعر طويل، فربما أراد صغيري ولي العهد أن يعبث بشعرها مرة ويشدّه قليلاً حين يحزق ويعصر نفسه.. ها ها.. ها

 

الوزير وجميع الحاشية :  ها ها ها ها..

 

الوزير :  سنستبدل العبد بالجارية فوراً يا مولاي، سأختار جارية لها أطول وأجمل شعر في البلاد كلها، حتى يعبث أميرنا العزيز به وقتما يريد.

- ستار -

 

 

 

الفصل الثاني  المشهد الأول

 

قاعة العرش ذاتها والتي شهدت لقاء العرافة بالسلطان. الأضواء كابية حزينة. السلطان يتحرك بعصبية جيئة وذهاباً، وقد أخذته الحيرة وبدا عليه الغيظ .

 

السلطان :  والآن. ماذا أفعل يا ربي؟ سبع سنوات مرت على مولده، ونجحت خلالها في محاصرته بالفرح والمرح، ومنعته من مجرد الدمع وليس البكاء، حتى ظننت أنه ولد بلا دموع خلافاً لسائر البشر، لكن ها هو يبكي للمرة الثانية خلال أقل من شهرين.. شهرين فقط، لقد كرر ما قاله في المرة الأولى بعدما رأى القمر بدراً مكتملاً في السماء. لقد رفع يده وأشار بإصبعه بعيداً إلى السماوات الصافية الزرقاء وهمس بصوته الحريري البرىء: أريد فطيرة الفضة هذه في صفحة الفيروز. كيف أحضر له هذا يا ربي؟ كيف أقطف القمر بدراً من عليائه لأقدمه له؟ عندما طلب ذلك في المرة الأولى، قدمنا له قرصاً كبيرا ًمن الفضة النقية الخالصة على صفحة من الفيروز السينائي النادر الثمين، لكنه دفعها بيده بعيداً بغضب، ولم يعبأ بها، ثم ضرب الأرض بقدمه وقال وهو يشرع في البكاء: أريد تلك الفطيرة البعيدة الرائعة، أريد فطيرة الفضة البعيدة، هل هذا معقول؟ أيعقل مثل هذا الطلب يا ناس؟ أيظن أنني واحد من الجن، أو العماليق الأقدمين لأستطيع فعل هذا؟ لقد أحضرت له كل ما طلب في المرات السابقة حتى لا يبكي وتحدث الكارثة. أرسلت كتيبة من الفرسان لتاتي له بوردة الثلوج المستحيلة من أعالي جبال السماء العالية الوعرة والواقعة في وادي الغيلان المميت، ويعلم الله كم كلفني ذلك من ذهب وجوهر. قط سيام الأنيس، جلبت له أربعة أزواج منه دفعة واحدة. عندما أراد قطاً ذهبياً بعينين زرقاوين، حتى المعزة التي لها رأس خروف أعطيتها له عن طيب خاطر عندما أرسلها لي سحرة مغارات السودان البعيدة. لا أدري ماذا أفعل أكثر من هذا؟ اليوم يطلب القمر. وغداً قد يطلب الشمس وبقية النجوم.

 

ولكن ها هي نبوءة العرافة قد أوشكت على التحقق، سيموت إن لم أجب له طلبه. سيبكي ويموت لأظل أنا ضائعاً بين الألم والحسرة. أعض إصبع الندم، وقد ضاع أملي في الحياة. نعم سأفقد كل أمل وكل رجاء في هذا العالم إذا ما مات إبني. وحيدي وقرّة عيني "حلم السنين". وريثي المنتظر الذي خرج من صلبي بعد سنوات طوال من الصبر والعناء. دخلت خلالها بمائة عذراء من أجمل صبايا الأرض وأشدهن فتنة دون فائدة. كنت أقتل كل واحدة منهن، وأقطع خبرها عن هذا العالم، إذا ما مر قمرين مكتملين دون أن ينقطع طمثها، أو يبدو ما يشير إلى إمكانية انتفاخ بطنها ببذرة طفل.. طفل واحد فقط أتشوق إليه ويرث الملك بعدي.

 

أفنيت كل أخواني الذكور واحداً إثر آخر. سممت الكبار منهم بسموم مميتة لا تُحس ولا يُشعر بها حتى يبدو موتهم موتاً طبيعياً وقدراً مقدراً من عند الله. الصغار منهم أغتلت بعضهم وهم في المهد بأساليب عبقرية تفتقت عنها قريحة وزيري العزيز، والآخرون وأدتهم في بطون أمهاتهم قبل أن يولدوا. لقد سالت دماء كثيرة هنا على أرضي.. وفي هذا المكان، حتى جاء قُرّة عيني "حلم السنين"، وتحققت نبوءة عرافة الجبال البعيدة، بعد أن حلمت به جاريتي، معجزة السماء، برقع الحياء، تلك الفلاحة العفيّة الفذة التي أثلجت صدري وبرّدت ناري، وطمأنت نفسي بحلم السنين، وكان وزيري العزيز قد جلبها إلىّ بعد عناء ومشقة في البحث، قال إنها الفتاة التي صدقت عليها شروط النبوءة، وجرى التأكد من وجود شامة وعلامة بجسدها، وأنها خرجت من بطن امرأة مجربة ولود. ما إن تحرث وتبذر حتى تحمل ثمارها، حتى إنها طرحت ثمانية عشر بطناً ولا تزال خصبة ولوداً، كأرض بكر لم يجر وطؤها من قبل، وابنتها لابد أن تكون مثلها، معطاء، عامرة بالثمار.

 

لا.. لا يمكن أن أترك الحلم يضيع أمام عيني. النجمات التي قبضتها بيدي تلك من سماوات المستحيل لن أدعها تفلت من يدي. لن أترك وحيدي. وريثي الذي صنعته بمعجزة من السماء. لن أتركه فريسة سهلة للبكاء ودموع العدم والفناء.

 

لا.. من المستحيل أن أتركه يبكي. لن يبكي حلم السنين حتى أقل من رمح فرس في فرسخ من الأرض. لن أتركه يبكي حتى رمح فرس لشبر واحد من الأرض. ولكن أين الوزير؟ (يصيح بغضب)

 

أين الوزير الآن؟ لماذا تأخر عن الحضور وقد طلبته منذ ساعة؟ أنا أريده الآن.. بسرعة وفي التو.

 

)يدخل الوزير مسرعاً وهو يلهث ويبدو عليه الانفعال الشديد )

 

الوزير :  لقد جئت يا مولاي فوراً. كنت مع سيدي حلم السنين بعد أن أبلغوني أنه شرع في البكاء مرة أخرى، فتوجهت إلى جناحه بالقصر مسرعاً، وبصحبتي الحكيم. كان قد طلب مجدداً فطيرة الفضة في صفحة الفيروز. فرحت أهدئه وقلت له إنني سأجيب طلبه بالطبع، لكن عليه الانتظار قليلاً حتى نجهز السلالم العالية الذاهبة إلى عنان السماء، والتي بها فقط نستطيع إحضار القمر. ثم إن الحكيم أعطاه ترياقاً لطيفاً منوماً، فشربه بعد ملاطفة ومسامرة من كل الذين حوله، حتى هدأ شيئاً فشىء، ولم أتركه إلا بعد أن نام وراح في سبات عميق. وها أنا الآن بين يديك يا مولاي. ها ها ها. لقد فعلت المستحيل حتى أجعله مسروراً ضاحكاً وقد نسي البكاء، تصور يا مولاي. بركت على الأرض كأنني جمل، وطلبت منه أن يعتليني ورحت أتحرك به، بينما أخذت جاريته تغني بمرح وهي تضرب على الدف: إدلع يا جمل حمدان.. إتشخلع يا جمل حمدان. حتى ابتسم ابتسامته رائعة والتي تحول وجهه كقرص من العسل المصفّى، ثم مدّ يده فخلع العمامة عن رأسي، فلما رأى ضفيرتي وقد تساقطت على ظهري، راح يضحك. فضحك كل من كان هناك حتى العبيد والجواري، ورحت أضحك بدوري ها ها ها ها...

 

السلطان :  لا.. لن أقبل بمثل هذا الكلام مرة أخرى أيها الوزير. أنت الذي تلهيني الآن. لن أتركك تتلاعب بي أيها الوزير. لن أغامر هذه المرة وأتركه يبكي حتى يموت. لن أتركه يموت ليضيع عرشي وملكي.

)يقترب من الوزير.. يمسكه من تلابيبه، يثبت نظراته على وجهه في قسوة مخيفة وقد اكتسى وجهه بملامح وحشية (

 

السلطان :  أنت تعلم ما قالته العرّافة جيداً. عرّافة الجبال البعيدة. تلك المرأة الغريبة التي لا أعرف أكانت نبوءتها فألاً أم شوماً. قالت إن الخراب سيحل على مملكتي بعد ميلاده. وها هي علامات الخراب تلوح في الأفق. الأمير بدأ في البكاء. بل هو يعاوده بين الحين والحين. ولي عهدي سوف يموت إذا ما تكرر بكائه. وبعدها سيضيع مُلكي، ولن تضرب السكّة بإسمي، ولن يتردد ذكري بعد ذلك على هذى الأرض. هذا هو الخراب الذي أخشاه. الخراب الذي يقلقني ويؤرّق صحوي ومنامي، ويجعلني أهجس مع نفسي ليل نهار، كلما بقيت وحيداً وخلوت بها. لقد صرت أغرق كل ليلة في الشراب حتى تسكن روحي، وأنسى الأمر قليلاً، لكن ما أن أفيق وأثوب إلى رشدي حتى أجدني مهموماً. خائفاً. يائساً من جديد.. لا.. لا.. لا أستطيع العيش هكذا. لن أواصل الحياة كرخو ضعيف بلا حيلة يقبع داخل قوقعة من الرعب والخوف، سأحمي وحيدي أيها الوزير أقهر الموت مهما كان الثمن، سأنقذ عرشي وملكي. جيوشي وأرضي وفضتي وذهبي سأذود بهم جميعاً عن وليدي.. سأقهر الموت المتربص به. سألبي له كل ما يطلب حتى ولو كان القمر. لن أدعه يبكي أبداً. أبداً.. أتفهم؟.. أتفهم ذلك أيها الوزير؟ (يبكي) .

 

الوزير :  مولاي وسيدي السلطان. يا مذلّ السلاطين ومعفّر جباه الملوك في الأرض. فداك روحي ومالي وأهلي. لا تبك أرجوك. الحراس على الباب قد يسمعون بكائك. (يمد له كم عباءته الواسعة) .

 

إمسح مناخيرك يا مولاي. امسحها فيّ وبطل البكاء، وإلا عملت لك جمل حمدان أنت الآخر. رُق.. رُق يا حبيبي. (يحدث نفسه) وحياة أمي لأجلب العرافة، أسّ الخراب والبلاء، من تحت الأرض، وأعرفها شغلها. البلوة المسيّحة سأمسح بها البلاط وأخوزقها على عيون الأشهاد.

 

السلطان :  ماذا تقول أيها الوزير؟ هل تكلمني؟

 

الوزير :  لا.. لا يا مولاي. أقول إنني سأفعل المستحيل حتى آتي بالقمر. سآتي بالقمر لسيدي الصغير حلم السنين، سأنتزعه من علياء سمائه وأقدمه له ليلهو به ككرة صغيرة من البلور. وحياة ذقني هذه. (يمسك بلحيته( .

 

السلطان :  هل هذا وعد منك أيها الوزير؟ هل ما تقوله سيحدث حقاً؟ أستأتي له بالقمر حقاً؟ إسمع. إن فعلت ما يطلبه صغيري سأهبك هذه المرة ما لا تحلم به من أراض وضياع، سأهبك سهل التبر الجنوبي كله، السهل الخصيب، الذي ينبت أعظم برّ في أراضي السلطنة كلها، والذي يؤتي بغلة وثمار قلما يوجد في الدنيا مثلها. سيكون ذلك كله لك ولذريتك من بعدك ولسوف تكون أراضيه بكاملها لك من عند باب الأماني وحتى باب الوداع.

 

بل وربما أهبك أراضي حلق الوادي كذلك.

 

)الوزير تلتمع عيناه بشدة ويكتسي وجهه بتعبير الطمع وشهوة الملك(

 

الوزير :  اطمئن يا مولاي.. سأحضر القمر. سأحضر فطيرة الفضة في صحن من الفيروز.. لا.. لن يحول بيني وبين ذلك شىء.

 

السلطان :  أرجو أن تفعل ذلك أيها الوزير. إياك أن تخدعني وإلا.. سينتظرك الدهن واللبد في النهاية.. أتفهم؟ الدهن واللبد أيها الوزير.

 

الوزيــر :  إطمئن يا مولاي.. لن تكون هناك وإلا أبداً، ولن يكون هناك دهن ولبد.. سأحضر القمر. يعني سوف أحضر القمر.

- ظلام -

 

 

 

الفصل الثاني المشهد الثاني

 

)الوزير فى الصحراء أثناء الليل. لا ينير المشهد غير ضوء القمر فى السماء الصافية ونجمات الليل. السكون شامل ولا شىء غير صوت الوزير، يتحدث بينما يتحرك و كأنه يمتطى فرساً يقطع بها الصحراء) .

 

الوزير :  دردن.. دردن.. دردن (مقلداً صوت جرى الفرس)

 

ها أنا عائد الآن.. عائد إليه بحيلتى الجديدة، إنها القصة الأخيرة التى ابتدعتها لتباعد بينى وبين الموت إن انطلت عليها و قبلها. أما إذا لم يصدقها فلسوف يكون مصيرى الدهن واللبد ، سيطلينى بدهن ولية خروف سمين، ثم يلفنى باللبد ويحوطنى من كل جانب بالحبال حتى لا أقوى على الحراك، ثم يلقينى حياً تحت الشمس الحارقة فى أبشع مفازة فى سلطنته حتى أتعفن ويأكلنى الدود.

 

أى مصير هذا الذى سأنتهى إليه . وأية طريقة جهنمية للموت ابتدعتها بنفسي ذات يوم عندما أسرنا أمير قلعة الموصل وقتلناه بها، عقاباً على صموده أمامنا، وقتاله لنا زمناً طويلاً، تكبدنا فيه عدداً لا يحصى من خيرة جنودنا وفرساننا، حتى استسلم وسقطت القلعة فى أيدينا فقررنا قتله بأشنع طريقة، وكنت أنا المبتدع الخلاّق- كما كنت دائماً- فى طرائق الموت والتعذيب. لا.. لن يكون هذا مصيرى ابداً. أنا الحاذق، الجبار. العبقرى، الذى لا ينهزم عقله أمام عقل .

 

لقد طلب منى المستحيل وإلا كانت نهايتى. المستحيل أمام النهاية. إنه الجنون عينه المتربص بالحياة. هو يطلب القمر أيضاً. السلطان يطلب القمر مثلما ذلك الطفل الأرعن. تلك الخرقة البلهاء التى يظن أنها خرجت من صلبه وأن دمه يجرى فى دمها وأنها سوف تحكم وترث العرش بعده. إنه يطالبنى بإنزال القمر من سمائه. يطالبنى بقطف المستحيل لأقدمه على طبق من الجنون لأميره الصغير. أى فكرة جهنمية واتت ذلك المدلل الصغير حتى يطلب القمر؟ أيظن أن القمر ثمرة جوافة تمتد إليها اليد فتقطفها من على الشجر؟ أيظن أننى أملك الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى فأقدمهما له وقتما يشاء؟

 

لقد أوقعنى ذلك الأبلة الصغير فى أعقد فخ صادفنى طوال حياتى. أنا الخبير المحنك فى مواجهة الفخاخ والشراك مهما كانت خطورتها وفظاعتها. أى لعبة بدأتها، وكنت أظن أننى الكاسب المنتصر الأول فيها، وها هى تنقلب ضدى الآن، لأصبح الخاسر الأوحد فى نهايتها؟ لقد حسبت أن قصة العرافة سوف تكون النهاية السعيدة لذلك الأرق المزمن الذى عشته طوال السنين المنصرمة، بعد أن أعيتنى الحيل فى جعله ينجب طفلاً يطفىء به شهوة الملك المستعرة دوماً بداخله.

 

لقد أتيت بهذة العجوز الشمطاء لتلقى بنبؤتها عن ميلاد الأمير، والله وحده يعلم من هو الأب الحقيقى لذلك الطفل، الذى ما زال جميع من فى المملكة يظن أنه معجزة من معجزات الطبيعة، وهبة نادرة من هبات السماء .

 

كان الجزء المتعلق بالبكاء من بنات أفكارى تماماً. أما ما يتصل بالخراب فكان من قريحة تلك العجوز الشيطانة، والتى لا أعرف حتى هذه اللحظات ما السبب الذى دفعها للكلام عنه. لقد كانت مشعوذة بائسة تهيم على وجهها عند حدود السلطنة، إلتقطتها ذات مرة، عندما خرجتُ على رأس حملة صغيرة مع أمير الجيوش لتأديب جماعة من اللصوص وقطاع الطرق هناك. لقد رأيت هذه

 

المرأة تضرب الرمل وتوشوش الودع، وكانت فكرة خداع السلطان قد اختمرت فى رأسى تماماً آنذاك، وقررت تزويجه من فتاة، أزوجها بعد ذلك بمعرفتنى لمن هو قادرعلى ما لا يقدر عليه السلطان، فجئت بتلك المرأة وكان ما كان منها فى حضرة السلطان. كنت قد أيقنت أنها تقرأ الطالع بمقدار لا بأس به، لكنى ما زلت حائراً فى أمرها، وفى كل ما قالته عن الخراب بعد ذلك.

 

فى الحقيقة فكرت فى قتلها فور خروجها من لقاء السلطان بالقصر، لكن، أقول الحق، خشيت انكشاف خطتى وافتضاح أمرى، وآثرت إرسالها بعيداً قرب الحدود مع رئيس العسس، عدوى الأول فى السلطنة، وعين السلطان علىّ فى كل تحركاتى، وذلك حتى ينقل ذلك الخسيس للسلطان أننى تركت المرأة تذهب بأمان فلا ينكشف أمرى وتفسد خطتى.

 

لقد بدا الأمر منذ ذلك الوقت ولقاء العرافة بالسلطان، محبوكاً مسبوكاً على نحو لا يصدق، كانت القصة كلها محكمة، متينة البناء حتى كدت أن أصدقها بنفسى.. أجل كدت أن أصدقها بنفسى.

 

لقد عاشت البلاد كلها ظرف اختيار "برقع الحياء"، إذ أرسلت المنادين بطول البلاد وعرضها لينادوا فى الطرقات والشوارع والحارات، على أن كل من لديه جارية، اسمها "برقع الحياء"، أن يحضرها فى التو والساعة إلى قصر السلطان، وهكذا رحنا نختبر بواسطة مجموعة من العجائز كل العذارى والأبكار حتى نجد الشامة والعلامة اللتين وصفتهما العرافة، وكنت خلال ذلك قد دفعت بالفتاة المرجوّة، والتى اخترتها سلفاً للمهمة السلطانية المطلوبة، فلما شاهدت العجائز الشامة والعلامة صحن، وأعلن عن الفتاة، وهكذا صارت الفلاحة التى جلبتها بمعرفتى" برقع الحياء خاتون". ثم إنى، وبعد دخول السلطان عليها بأيام، دفعت بها الى أحضان غلام من غلمانى، أعرف أكثر من أى مخلوق على هذه الارض، كم هو قدير فحل، ويا أسفى عليه- اضطررت لقتله بعد ذلك. قتلت تلك الزهرة اليانعة التى يعلم الله وحده، كم كانت عزيزة على فؤادى، وكان لها أجمل وألذ الذكريات معى. لكنى كنت واثقاً أن الأمر مستحق لكل هذه التضحية، وكل هذا الثمن الباهظ، وأن القصة قد بلغت ذروتها بعد التأكد واليقين من حمل "برقع الحياء خاتون"، وأنها صارت حتى نهايتها السعيدة المرجوّة بميلاد الأمير "حلم السنين".

 

كل ذلك تحملته فى سبيل رضا السلطان عنى، واستمرار وثوقه بى، ولينتهى القلق والعذاب الذى أعيشه كل يوم، وأتخلص من التهديد والوعيد الذى يجعلنى استنشق أنفاسى وكأننى بهلوان يسير على حبل معلق في الريح، وكأنني المسؤول الاول، ولا أحد غيرى، عن مجافاة الطبيعة له، وبخلها معه، فلطالما هددنى بالعزل والإقالة واتهمنى بالتقصير فى الجهد والعمل على حل مشكلته، وكأننى المذنب المسؤول لأن الحياة لاتقدم له ما تقدمه لملايين الرجال، وحتى أحطّ الناس قدراً وشاناً. لقد أعيتنى الحيل، بعد أن أحضرت له أعظم الحكماء والمطببين، وأشهر العرفين والسحرة والمنجمين دون فائدة. ولكن ها أنا أقع فى المصيدة الآن، وإذا لم يقتنع بقصّتى فلسوف يكون مصيرى الموت، ولا شىء غير الموت. فى المرّات الأولى. عندما كانت جهودى يصيبها الفشل ولا تنتفخ بطون عذراواته بحمله المستحيل. كان يأخذه الغضب ويهددنى بالإقالة والعزل، كان يقول: "أنت لم تبذل قصارى جهدك لتحلّ معضلتى". كان يرمى الحكماء والمطببين بالخيبة والعجز. أحضرت له بيدبا الحكيم.. بيدبا الذى لا ينزل من قلعته فى أقاصى الهند، ليذهب الى أى ملك أو سلطان مهما كان. احتلت عليه بعدما فشل تهديدى ووعيدى له، خدّرته واحدة من جواريه وحملناه سراً إلى هنا، فلما أفاق وجد نفسه بين يدى السلطان، ولم يصدق الرجل ما جرى له، لكنى طمأنته واعتذرت له وأرجعته معززاً مكرماً إلى قلعته البعيدة بعدما وصف الدواء للسلطان. لو سجلت ما فعلته لأجل حلّ معضلته لما كفانى سفر كبير من الأسفار، يكتبه عشرة من أمهر الخطاطين الكتبة، ورغم ذلك هو يزعم أننى قدمت له أخيب المنجمين وأبأس العرافين، وأننى أهدرت أمواله وثروته.. أجل أمواله وثروته التى لا يعلم إلا الله وحده أننى ولا أحد غيرى من جمعها له ديناراً ديناراً، وفلساً فلساً بما فرضته على الناس من مكوس وضرائب. ولكن المسألة تجاوزت الآن الإقالة والعزل.

 

إنه يقول : "وإلا اللبد والدهن". طيّب هل سمع أى إنسان من قبل أن القمر يمكن أن يهبط إلى الأرض؟ ألا يعرف هو مثل الجميع أن هذا كالغول والعنقاء والخلّ الوفى؟

 

لكنى أظن أن قصتى ستنجح. إنشاء الله ستنجح. لقد تركت السلطانة منذ شهور بعد أن قلت للسلطان، أننى ذاهب إلى الرخ صديقى فى وادى الهلاك، ولسوف أطلب منه إحضار القمر، فهو وحده القادرعلى الطيران عالياً فى السماء والوصول الى هناك، ثم حكيت له عن صداقتى القديمة للرخ، والجميل الذى أسديته له ذات يوم، قلت له أننى فى إحدى المرات، وبينما كنت أسير بالقرب من وادى الهلاك حيث يسكن الرخ، سمعت صوتاً عالياً يصم ّ الآذان، لا هو بالزئير ولا هو بالنفير، وإن كان هو بإيقاع الأنين والبكاء أشبه. فتوقفت أتلفت حولى يمنة ويسرة، وإذا بالرخ يرفع إلىّ قدمه من سحيق وهدته، فلما تأملتها جلياً، إذا بسن فيل كبير قد انغرس فيها والرخ لا يكف عن الصراخ، فزعقت حتى يسمعنى، واستأذنته بكل الاحترام والأدب أن أنزعها من قدمه، فوافق وفعلت حتى استراح، وبعدها أهدانى ماسة رائعة وياقوتة عجيبة مما يلتصق بالأفيال الذبيحة التى يقدمها له جامعو الماس، حتى يطير بها من وهدات الوادى التى لا يمكنهم بلوغها، وقد التصقت الماسات بها وسقطت على الأرض. ويعلم الله وحده أن الياقوتة العجيبة وتلك الماسة الرئعة إنما أحضرتهما أثناء نبشى لجبانة من جبانات الفراعين القدماء بصحراء مصر، وقد عثرت عليهما ضمن كثير من دروجوهر كان مخبأ بأجساد موتاهم. لكن السلطان صدّق حكايتى عن الرخ فالغريق يتعلق بقشة، وتركنى أذهب لملاقاة الرخ، فذهبت إلى هذه الصحراء وبقيت فى بعض من مغاراتها وحدى ريثما أعود بعد وقت وأقول له إننى قابلت الرخ .

 

لقد فكرت فى الفرار والهرب بعيداً، أوالاختباء من السلطان، لكنى أعلم جيداً كم هو غشوم مفتر إذا ما استبد به الغضب، وأنه لابد مقتف أثرى مهما طال الزمن، وأن رئيس العسس عدوى الأول فى السلطنة، سوف يبحث عنى فى كل مكان حتى يجدنى فيقدمنى على طبق من فضة لمولاه، فيذيقنى هذا مر العذاب قبل أن يأمر بقتلى، وهكذا بت أضرب أخماساً فى أسداس، حتى أسعفتنى قريحتى بهذا الحل المبهر.. ها ها ها، فعدت إلى السلطنة مرة أخرى وأنبأت السلطان بشرط الرخ. قلت له إن الرخ قال:" إن القمر كبير جداً، أكبر مما نظن نحن سكان الأرض، وأنه ليس فطيرة من الفضة فى صفحة من الفيروز كما نراه، لذا فيجب أن نمهّد الأرض ونوسعها تماماً حتى يضعه فى مكان يكفيه عندما يأتى به" وقلت له أيضاً إن الرخ لن يأتى بالقمر إلا إذا كان هناك مكان كاف له، وقد فرح السلطان جداً، وشرع فى عمليات الهدم بطول البلاد وعرضها، وهو مازال يصدر أوامره ليجرى الهدم بهمة وحماس، وها أنا عائد إلى المملكة مرة أخرى بعد أن تركت السلطان وقلت له إننى ذاهب ثانية إلى الرخ لأستعجله بإحضار القمر، وأن الرخ أصر على أنه لن يهبط بالقمرعلى أرض السلطنة إلا بعد التأكد من أنها كافية ليضعه عليها فى هدوء وسلام. يا لفكرتى العبقرية، فكرتى المعضلة، فليشمر السلطان عن أكمامه ويوسع مكاناً للقمر، فليستمر بهدم كل ما فى السلطنة، فليهدم كل طوبة وكل حجر فى السلطنة حتى النهاية. لقد بدأ الناس فى الهرب. عشرات الصناع والزراع يهربون كل يوم من مدن وقرى السلطنة . ولكن هذه ليست مشكلتى، إنها مشكلة السلطان.. صاحب القرار الأول والأخير فى عملية الهدم. لقد عملت ما علىّ.. والباقى عليه، وأظن العيب عدّانى.. ها ها ها، والشطارة أن يوسع الأرض للقمر... ها ها ها.. دردن.. دردن.. دردن.

 

)على الجانب الآخر من المسرح، تظهر عرافة الجبال البعيدة تتقدم وهى تقلد صوت أقدام ركوبة تافهه (حمار جحش) تبدو فى حالة من النشوة والفرح). 

العرافة:  الآن سأذهب إلى السلطنة، سأكحل عينى بمرأى الخراب وقد حلّ فى كل مكان. ما أعظم ذلك، وما أشد فرحى وحبورى به، الآن فقط سوف أستريح. سوف تبرد نار فؤادى ويمكننى أن أموت قريرة العين. لقد صدقت نبوءتى.. صدقت لأنهم صدقوها.. (تضحك ساخرة) إن النبوءات تصدق لأننا نصدقها، إن عبقرية البشر ربما تكمن فى تحويل الأكاذيب إلى حقائق. والترهات إلى ثبوت محسوسة مجسوسة. ها ها ها. لقد صدقوا نبوءتى. صدقوا ما لا يُصدق: أن يحل الخراب بسبب مولد طفل.. .. .. طفل صغير لا حول ولا قوة له. ولكن ولم لا؟.. ألم تشعل حروب لا نهاية لها بسبب كذبات تافهة، أو أوهام وترهات لا أصل لها ولا حقيقة وراءها؟ .

 

إن البشر حقاً لمن أغرب المخلوقات. الإنسان مخلوق غريب بالفعل، إن كل المخلوقات تقتل لتشبع، تصارع لتبقى، أما هو.. الإنسان، فشهوة السيطرة والقتل لا تنتهي لديه.. إن الطمع والهيمنة ربّه الحقيقي في هذا العالم، إنه مستعد لتصديق أتفه الأكاذيب، وأخرق الترهات في سبيل ما في داخله من شهوة السيطرة والطمع.. ولكن ها أنا ذاهبة الآن.. ذاهبة لأرى بأم عيني كيف حل بهم الخراب.. لقد مضى وقت طويل. (تقلد صوت الحمار) .

 

)يسلط الضوء على الوزير مرة أخرى، بينما تختفي العرافة وإن ظل صوت ركوبتها ).

 

الوزير :  (يلتفت حوله) من هناك؟.. من هناك؟، من الذي يسير هنا في هذه المفازة الموحشة وفي هذا الوقت من الليل. هه؟.

 

)صوت العرافة مع استمرار وقع أقدام الركوبة(.

 

الوزير :  (محدثاً نفسه) هل هناك أحد هنا؟. من يتكلم. أجبني من هذا الذي يسير هنا في هذه الأرض القاحلة وفي عز الليل؟

 

يخيل إلىّ أنني سمعت هذا الصوت من قبل، إنه ليس غريباً على أذني. إنه صوت امرأة عجوز بالتأكيد. (ثم بصوت عالي) من؟ من هناك؟!

 

)يسلط الضوء على العرافة لتبدو أمام الوزير( . 

العرافة :  سلام على من اتبع الهدى، من أنت أيها الرجل ولماذا تسير في هذا المكان وحدك باليل.

 

الوزير :  (يقترب منها) أنت.. أنت لماذا تسيرين وحدك في هذا المكان بالليل.

 

العرافة :  هذا شأني، ولكن أنت.. أنت.. إن صوتك يشبه صوت رجل خدام من خدام الملوك والسلاطين.

 

الوزير :  اخرسي أيتها المرأة.. أنا الوزير، وزير السلطان والرجل الأول في البلاد كلها، بعد السلطان طبعاً.

 

العرافة :  آه. إذن لست مخطئة، أنت وزير السلطان، ألا تعرفني؟ ألا تعرف عرّافة البلاد البعيدة.

 

الوزير :  عرّّّافة البلاد البعيدة. المرأة الشيطانية الحيزبون، ما الذي أتى بك إلى هنا، لقد وقعت في يدي. لقد كنت أفكر بك منذ قليل، كنت أقول لنفسي لو رأيتها مرة أخرى، فلسوف أخنقها بيديّ هاتين، أيتها الماكرة الفاجرة، لقد أوقعتني في أعقد ورطة صادفتها طيلة عمري، لقد جعلتني قاب قوسين أو أدنى من الموت، سأقتلك الآن.. سأقتلك في التو، ولكن قبل أن أنهي حياتك.. أريد أن أعرف لماذا فعلت ذلك؟، لماذا أختلقت قصة الخراب أمام السلطان. أنا لم أتفق معك على هذا.

 

العرافة :  إذا كنت سوف تقتلني، فلماذا أريحك وأقول لك. لن أقول لك شيئاً، سأحتفظ بأسباب ما فعلته لنفسي.

 

الوزير :  إذن سأقتلك الآن.. الآن وفوراً. (يقترب منها وهو في حالة هياج) .

 

العرافة :  تمهّل، تمهّل قليلاً، أنسيت نبوءتي؟، أنسيت أن أجلك سيحين بعد أجلي بساعة إلا ربع؟.

 

الوزير :  (يتراجع) أيتها الملعونة. تتلاعبين بي، إذن سأقتادك مخفورة أمامي وسوف أضعك في الحبس، سأضعك في أبشع حبس عرفته البلاد، سأحبسك في سجن المقشرة، وما أدراك ما سجن المقشرة.

 

العرافة :  سجن المقشرة، وما أدراك ما سجن المقشرة!!

 

أمثالك لا يعرفون إلا هذه اللغة. لغة القوة والعنف. ضعني في سجن المقشرة. ولكن ما الذي ستجنيه من وضعي في السجن؟! تهديدك لا يخيفني لأنك لن تستطيع وضعي في السجن. وجودي إلى جانبك خطرعليك يا حبيبي. ثم أمازال لديكم حرّاس سجون في السلطنة يحرسون من تسجنونهم؟، لقد رأيت ما حدث بنفسي، رأيت الفرار، والهروب الكبير، وأعلم أنه لم يعد هناك ناس.. أرضكم باتت بلا ناس، بلا بشر وكأنها أرض للجن والشياطين، لم تطأها أقدام إنس قط.

 

الوزير :  أيتها المرأة الجهنمية، أيتها الشيطانة الخارقة، بالله عليك .. قولي لي .. قولي لي فقط، لماذا فعلت ذلك.. لماذا تنبئت أمام السلطان بكل هذا الخراب؟! كأنك كنت تعرفين كل شىء، تعرفين أن الخراب آت ولا ريب فيه؟

 

العرافة :  إسمع أيها الرجل. لقد عشت كل حروبكم، حروب السطوة والجشع، لقد عشت حروبكم حتى قتلتموني وأفنيتموني، وأنا على قيد الحياة، لقد أكلت حروبكم أولادي، أولادي جميعاً: سبعة بطون أنجبت، وصاروا وروداً رائعة، من أصل خمسة عشر بطناً، عاشوا لي، وأزدهروا وكبروا ثم قطفتهم حروبكم، حروبكم البغيضة في سبيل السطوة على الأرض، والهيمنة على هذا العالم. ماذا تبقى لي؟.. ماذا تبقى لي في الحياة بعد ذلك غير الهيام الأبدي بحثاً عن المستحيل، بحثاً عن أولادي الذين خرجوا كجند في حروبكم التي لا تنتهي، وكأني أنجبتهم لألقمهم نارها التي لا تنطفىء.وعندما صرت في قصر السلطان، وبعد دخولي ذلك المكان الباذخ ذي الحدائق المترامية الغناء، والقاعات الفسيحة الممتدة، والذهب الذي يجلل كل شىء فيها، ثم دخولي قاعة العرش والتي خلت للوهلة الأولى عندما رأيتها أنها قاعة لملك من ملوك الجان، أدركت أن الخراب آت لا ريب فيه، فالجوع والفقر يتمكنان في كل ركن من أركان البلاد، جوع يدفع الناس لأن تأكل الفئران والدواب الميتة، وفقر بلغ بالبعض أن يبيعوا أبنائهم صبية وأطفالاً، وأنتم هناك في القصر.. لا تعرفون ماذا تفعلون بالذهب، لكثرة ما لديكم حتى صرتم تزينون به الجدران، وتسكبونه طلاء على أعمدة القاعات.. وقتها أدركت أن ذلك هو بداية الخراب.. بداية الخراب.

 

الوزير :  إذن. أنت تقصدت ذلك، تقصدت أن تتحدثي عن الخراب.. أردت الانتقام لأبنائك منا.. أبناؤك الذين قتلوا في حروبنا.

 

العرافة :  لا أعرف.. فسّر الأمر كما شئت. هذا لا يهم الآن.

 

الوزير :  (بغضب) ولكن هذا يهمني أنا.. يهمني تماماً أيتها العجوز الكريهة لقد دمرت كل الذي بنيته، أفسدت خطتي تماماً وها أنا أدفع الثمن بسبب فعلتك الآن، وبسبب حديثك عن الخراب القادم مع الطفل الوليد. لقد صرت مهدداً بالموت إذا لم آت بالقمر، وإذا لم تنجح خطتي التي بدأتها ولعبة التسويف والتأجيل مع السلطان، فلسوف أقتل أبشع مقتلة، وهذه المرة إذا لم يقتنع السلطان بما قاله الرخ فلسوف يفتك بي.. أتفهمين سوف يفتك بي.. لا.. سأقتلك.. سأقتلك في التو والآن بضربة واحدة من سيفي هذا ولن ألوث يدي بخنقك. ( يستل سيفه ويوشك أن يضربها به، لكنها تبتعد وتصرخ)

 

العرافة :  إياك.. إياك أن تفعل، سيحل أجلك بعد أجلي بساعة إلا ربع.

- ظلام -

 

 

 

الفصل الثالث  المشهد الأول

 

 

قاعة العرش،السلطان بين غلمانه وجواريه ليلاً، غناء ورقص، يبدو الرجل فى حالة شديدة من المرح والنشوة. الوزير يحادثه وهو فى حالة شديدة من الزهو .

 

الوزير :  لا يا مولاى، لن أذهب إلى الرخ مرة أخرى، فلقد قال إنه سيطيرعالياً فى السماء، وبمجرد أن يرى الأرض ممهدة تماماً فى السلطنة فلسوف يأتى بالقمر فى التوّ والحال، وقال أن لا ضرورة للذهاب إليه مرة أخرى، وتجشم مشقة السفر والترحال.

 

السلطان:  ولكن أظن أن كل شىء قارب على الانتهاء، ولم يتبق إلا قدر يسير من العمائر والدور وينتهى الأمر تماماً

الوزير:  أجل يا مولاى لم يتبق إلا قد يسير من خطط بغداد، ومرو،وجرجان،وبلخ،وبخارى، لقد هدمت السدود والجوامع ودور العبادة كلها، وكذا البيمارستانات والتكيات والمدارس، لم يتبق إلا قدر يسير من القصور والدور، مسألة وقت وينتهى كل شىء يا مولاى، والأرض سوّيت تماماً ومهدت للقمر. قريباً إنشاء الله سنخرج فى جولة تفقدية لترى بنفسك ما تم وأنجز من عمل، الجميع يردد الشعار الذى أعلناه فى جميع أنحاء البلاد " نموت نموت وينزل القمر". 

السلطان:  والأمير.. أميرى العزيز، كيف حاله الآن، هل بكى مرة أخرى أيها الوزير؟

 

الوزير:  حاشا لله أيها السلطان. مستحيل حدوث ذلك مرة أخرى، نحن نلهيه طوال الوقت، أغلقنا شبابيك قاعته تماماً ودققناها بالمسامير حتى لا يرى أى شىء خارجها ولا حتى السماء، المضحكون والمخايلون والمهرجون لا يفارقونه لحظة واحدة وكلما طلبنى لأعمل له جمل حمدان أذهب إليه فى التو والحال، مهما كان الأمر، حتى ولو كنت.. (يغمز بعينه ويضحك) كل شىء يمكن تأجيله يا مولاى فى سبيل سيدى وحبيبى الأميرالصغير، أما الحكيم فهو لا يتركه أبداً، حتى إذا ما شرع فى البكاء يعطيه الترياق فوراً ليهدأ وينام. كله تمام يا مولاى، لا تقلق أبداً الأمور تجرى على خير وجه.

 

السلطان والوزير يعبّان الشراب، بينما تتصاعد أصوات الغناء، يتقدم الحاجب مسرعاً ويقدم رقعة إلى الوزير، يبدو على الوزير القلق ويهمس للسلطان

الوزير:  إنه شاد العمائر يا مولاى، هو بالباب و يريد الدخول فوراً.

 

السلطان:  الآن ؟! وفى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟! ما الذى يريده الآن؟

 

الوزير:  لا أدرى يا مولاى. لعل الأمرعاجل وهام، حتى إنه لم يستطع الانتظار ليطلع الفجر ويجىء إلينا.

 

السلطان:  إذن .. أدخلوه.. أدخلوه فوراً.

 

)يدخل شاد العمائر، وهو فى حالة شديدة من الهم والكرب(

 

شاد العمائر:  سلام عليك يا مولاى، سلام أيها الوزير.

 

أعتذر يا مولاى عن مجيئى فى هذا الوقت المتأخرمن الليل، ولكن يا ولاى.. أنا لم أستطع الانتظار حتى الصباح. لم أحتمل الصبر حتى الصباح.

 

السلطان:  تكلم بسرعة أيها الرجل وهات ما عندك، لقد قلقت بالفعل.

 

شاد العمائر :  مولاي.. أنت تعلم أننا هدمنا كل شىء، هدمنا الدورومسكن الجند، وكل الربوع والخانات والبيمارستانات والمدارس وحتى بيوت العبادة كلها، نحن يا مولاي لم نبق في المملكة حجراً فوق حجر أو طوبة على طوبة، ولم يبق إلا أن نهدم أعشاش الطيورعلى الشجر، وأوكار الغربان والبوم في أعالي النخيل.. لقد انتهى كل شىء.. كل شىء يا مولاي.

 

السلطان :  (مقاطعاً بسرعة) أعلم أعلم كل ذلك، ولا داعي لتكراره على مسامعي، لا تخش شيئاً، سأكافئك مكافأة مجزية نظير جهدك وتعبك في النهاية. لا تقلق أيها الرجل...

 

شاد العمائر :  (مقاطعاً بدوره) مولاي.. لم آت إليك في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لأجل مكافأة أو عطية، لكني جئت لأجل قلعة الحصن. فغداً يا مولاي ووفقاً لخطتكم في الهدم، سوف نشرع في إعمال المعاول والفؤوس في جدران قلعة الحصن، سوف نشرع في هدمها غداً يا مولاي، وبمجرد أن يصيح الديك ويبزغ نور الصباح

السلطان :  (وهو مستمر في الشراب) وما المشكلة في هذا أيها الرجل؟ هل جئت إلى هنا، وفي مثل هذا الوقت من الليل، لتقول لي أنك سوف تشرع عند بزوغ الصباح في هدم قلعة الحصن؟ يا لك من رجل غريب حقاً؟

 

شاد العمائر :  اعذرني يا مولاي، فأنا لم أستطع نوم الليل ولم يغمض لي جفن منذ أيام، إن الألم يعتصرني والمرارة والحسرة تأكلان روحي منذ أسابيع، ونفسي عافت الطعام، ولم أعد قادراً على احتمال مزيد من الألم، لقد جئت إليك يا مولاي متوسلاً ألا تهدم قلعة الحصن.. إنها درع البلاد الأخير، وترسها العظيم التي تزود به سهام الأعداء، وأنت تعلم يا سيدي كم تكلفنا من جهد وعرق في سبيل بنائها، لقد فنى الآلاف من أبناء هذا البلد وعمالها وهم يدفعون الأحجار ويحملونها تحت قيظ الشمس، وبرد الشتاء ونحن نقول لهم، إنما أنتم تفعلون ذلك في سبيل أبنائكم وأحفادكم والذود عن كرامة الوطن، ودفاعاً عن أرضكم. إن قلعة الحصن يا مولاي هي عبقرية من عبقريات العمائر التي لا مثيل لها في المعمورة كلها، وهي عزيزة على نفس كل أبناء الوطن، وعلى نفسي، وقد أمضيت جُل شبابي وعمري في سبيل رسمها وبنائها. لقد آثرت عدم الزواج والبناء بامرأة كي أبني هذه القلعة، وعشت كالراهب في محرابه وأنا أرسمها في مخيلتي وكأنني أرسم عروساً مشتهاة أو فتاة أحلام لا توجد على الأرض. إنها قطعة من كبدي يا مولاي إن شئت.. وهي الوتد الشامخ الذي سوف نتشبث به من عاديات الزمان. بربك يا مولاي. إعف قلعة الحصن من كل ذلك الدمار الذي يجري في هذه البلاد.. أرجوك يا سيدي ومولاي. (يركع على الأرض متوسلاً وهو يبكي). 

السلطان :  ماذا قلت؟! ماذا قلت أيها الرجل؟! أنت تتمنى علىّ ألا أهدم قلعة الحصن؟ أنت تعصي أمري وتريد أن ترمي بسلطنتي إلى التهلكة؟! هل فكرت لحظة واحدة، لماذا نقوم بأعمال الهدم والتسوية؟ ألا تعرف السبب؟! ألا تعرف أن ذلك لم يكن إلا لعلة الحفاظ على العرش والسلطنة؟! قم.. قم من على الأرض، وانظر إلى البعيد أيها الرجل، انظر إلى المستقبل، عندما أفنى وأموت ولا يوجد من يرث العرش بعدي إذا ما مات وليدي، هه إذا ما مات وليدي ماذا ستفعلون؟! من سيحكم السلطنة بعدي؟

الوزير :  (مهدئاً السلطان) حاشا لله حاشا لله يا مولاي. (يتفل) تف من فُمك.. تف من فمك هذا الكلام يا روحي.

 

شاد العمائر :  أرجوك يا مولاي.. فلتفكر في الأمر. قد يكون كل ما هدمناه، وما سوينا الأرض به كافياً ومناسباً لوضع القمرعليه، قد لا نكون في حاجة مُوجبة لهدم قلعة الحصن...

 

الوزير :  (بسرعة) من قال ذلك، لو كان ما فعلناه كافياً، لو كانت الأرض الآن كافية في المملكة، لكان الرخ قد رأها وأتى بالقمر فوراً كما قال لي.لا.. بالقطع المكان ليس كافياً للنزول بالقمر على الأرض

شاد العمائر :  (متجاهلاً ما قاله الوزير ومتوجهاً إلى السلطان) أرجوك يا مولاي. فلتفكر في الأمر. إن هذه القلعة تختلف عن أى شىء بنيناه ويمكن أن نبنيه في المستقبل، إنها تختلف عن المنازل والدوروالقصوروكل ما بنيناه يا مولاي. لقد ظللنا سنوات طوالاً نبني فيها يا مولاي. إن العشرات والآلاف من الحجارين والخشابين والبنائين والحدادين والمبلطين والزجاجين والمزخرفين والنقاشين عملوا فيها حتى صارت معجزة معمارية قلما يؤتى بمثلها، إنها تكشف عن برجها العالي وعلى مرمى البصرحدود البلاد كلها، وتطل على جهات الأرض الأربعة. إنه من المستحيل أن نشيد مثلها مرة أخرى وقد أحرقنا كل مخططاتها، وأعدمنا خيرة من عملوا بها من أهل الحرف والمهن، حتى لا يفعلوا لغيرنا مثل ما فعلوه فيها. بالله عليك يا سيدي فكر في الأمر. فكر في الزمن الآتي.. في الأجيال المقبلة وما ستقوله عنا إذا هدمنا قلعة الحصن.

 

السلطان :  (منفجراً بالغضب) إذهب. إذهب من أمامي بسرعة أيها الرجل قبل أن يتملكني البغض لك والغضب عليك فآمر بقتلك. هل تعصي أوامري؟!، هل ترفض طلبي؟!. من الغد ابدأ بهدم القلعة. مع إشراقة الشمس، أريد أن تترامى إلى أذني موسيقى المعاول والفؤوس وهي تهدم القلعة، لا أريد أن أرى أينما جلت ببصري، واستقر ناظري إلا أرضاً ممهدة. أرضاً ممهدة مستوية لا يوجد عليها حجر قائم فوق حجر. أو شقيفة صغيرة تعلو فوق قطعة من الطوب. أتفهم أيها الرجل؟. أتفهم أيها المعماري العظيم؟ (يضحك بوحشية) ألم تسمع الشعار؟ ألم تسمع الشعار الذي يتغنى به الجميع الآن هنا على أرضي..

 

لا صوت يعلو على صوت المعاول والفؤوس،

 

ولترفع الكؤوس لنشرب نخب القمر.

 

)يرفع الجميع الكؤوس ويتصاعد لحن. يغنيه الجميع بينما يتراجع شاد العمائر مذهولاً ببطء

  السلطان. الوزير. الجواري. العبيد. يغنون:

 

  كله يهون في سبيل القمر

 

الربوع. الدروب.المشافي. المدارس. وحتى أوراق الشجر

 

الصغار. الكبار. الرجال. النساء وكل أنواع البشر  

- ظلام

 

 

الفصل الثالث  المشهد الثاني

 

قاعة العرش وقد زالت عنها مظاهر العز والأبهة، الإهمال والرثاث يهيمنان على المكان والعنكبوت يشارك السلطان قاعة ملكه. تبدو القاعة هادئة شبه مظلمة. السلطان نائم على كرسي العرش بينما الوزير متكىء على حاشيته في الأرض يحملق بذهول

السلطان:  (يفيق من النوم متثائباً) لعل الرخ وصل أيها الوزير، فلقد سمعت أصواتاً، جعلتني أصحو من غفوتي. (يتلفت حوله) ما هذا الظلام الذي يحيط بي من كل جانب، أظن أن الرخ جاء، إنه يحجب الشمس الآن تماماً، يحجبها بجناحيه الأسودين الهائلين.. فلنذهب أيها الوزير ونستعد لاستقباله.

 

)يحاول النهوض

الوزير :  لا.. لا يا مولاي. الرخ لم يأت بعد، يُهيأ لك أنه الرخ. فأنت نائم من بعد الظهيرة، والشمس غابت منذ ساعة، والليل حلّ، لذلك أنت تشعر بالظلام، وبأن كل شىء أسود من حولك.

 

السلطان :  آه.. إنه الليل، حالك السواد، ولكن لماذا لم يشعل الخدم الوقايد والشموع، لماذا لم يشعلوا الثريات ومصابيح القصرالتي تجعل الليل نهاراً، والشمس ساهرة لا تنام؟

 

الوزير :  الوزير، (يعتدل في جلسته متبرماً) . (يتنحنح في تردد) لم يعد هناك خدم يا مولاي.. آخر خادم هجرنا بالأمس فقط، بعد صمود نبيل منه استمرسنة بكاملها، لم يتلق خلالها إلا ما يقيم أوده من لقيمات قليلة، الجميع غادرونا قبل ذلك بوقت طويل، فلا شىء نعطيه لهم يا مولاي.

 

أما الشموع.. شموع الثريات العظيمة في القصر، فلم يتبق منها شىء، اللهم إلا الشمعة الوحيدة الموجودة في الركن هناك. (يتحرك ببطء وتكاسل)

 

لقد هرب الشماعون كلهم يا مولاي، سأذهب وأوقد هذه الشمعة. سنوقدها بعض الوقت، حتى يتبقى منها شيء في الغد.. (يشعل الشمعة ويعود إلى مجلسه في غير مبالاة)

السلطان :  غريبة.. غريبة أن يذهب كل هؤلاء. لقد قلت لي بالأمس أنه لم يعد هناك ما يؤكل غير بعض الفواكه التي جلبتها بنفسك من حديقة القصر. لا أدري ماذا جرى للناس؟ أين الحراس والجند؟ أطلب من الجند أن يذهبوا ويتتبعوا الفارين، وكل أولئك الخارجين عن طاعتنا. قل لهم إنني آمر باعتقال وحبس كل المشاغبين المتمردين الرافضين خدمتنا. لا أريد عصياناً بأي حال من الأحوال

الوزير :  لم يعد هناك جند أو حراس يا مولاي. الحارس الأخير تركنا بالأمس. قال إنه لم يعد قادراً على الاحتمال. نحن لم ندفع رواتب الجند عاماً بأكمله يا مولاي.

 

السلطان :  لم تدفعوا رواتب الجند لمدة سنة؟! لماذا، لماذا أيها الوزير لم يدفع الخازندار رواتب الجند؟! هذه جريمة. فلتأمر بقطع رقعبة متولي الخزانة فوراً.

 

الوزير :  لا توجد خزانة يا مولاي، فما كان في الخزانة من أموال أنفقنا معظمه على هدم قلعة الحصن وقد كلفنا ذلك أموالاً باهظة، بعد الحادث المأساوي الذي وقع لشاد العمائر.

 

السلطان :  أعلم أعلم.. ذلك الكافر الزنديق، الذي شنق نفسه أعلى برج القلعة، ورفض أن يهدمها وعصي أوامري. لقد حلّت عليه لعنتي ولعله في سافل سافلين بئس الجحيم الآن.

 

الوزير :  لقد أنفقنا أموالاً لا حدود لها يا مولاي على عملية الهدم، فالقلعة كانت مشيدة من الصخر الصوان وبطريقة عبقرية مستعصية على الهدم.

 

السلطان :  اتركنا من أمر القلعة الآن، فلقد هدمناها والحمد لله.. هدمنا كل شىء وانتهى الأمر والأرض باتت ممهدة تماماً.. فلنعد إلى مرتبات العسكر، ادفعوا المرتبات للعسكر فوراً وجميع أصناف الجند كذلك.

 

الوزير :  لقد سطا متولي الخزانة على الخزائن كلها يا مولاي، حملها على الركائب ليلاً، بكل ما تبقى فيها من أموال وذهب تحت جنح الظلام.. طار بها وكأنه رخ مستحيل، ولم يستطع أحد اللحاق به أبداً.

 

السلطان :  إنه لأمر مؤسف حقاً .. أمر مؤسف جداً، ولكن لا يهم.. لا يهم سنعوض كل ذلك، سأجعلك أنت يا وزيري من الآن فصاعداً متولي الخزانة، ولتأمر فوراً بجباية ضرائب جديدة ومكوس على كل شىء، ضريبة على الرؤوس، وضريبة على الأرض، وضريبة على الملح، وضريبة على الصيد أياً كان نوعه، ولتفرض ضريبة حتى على الماء والهواء. لا تستثني في ذلك أحداً من الرعية، مهما كانت رتبته أو طبقته، أو حسبه أو نسبه. لا تخش شيئاً أيها الوزير فلسوف تُعمر خزائننا فوراً وفي غضون أيام.

 

الوزير :  المشكلة في هذا الأمر، الذي كنت قد فكرت قبلك فيه يا مولاي أنه شبه مستحيل، لأنه لم يعد هناك رعية في البلاد يا مولاي، لقد رحل الجميع، رحل الفلاحون والزراع، وكل أرباب الحرف بأسرهم وعمالهم، وحتى العبيد رحلوا يا مولاي. سمعت أن بعض العبيد ذهبوا بأنفسهم إلى النخاسين طالبين منهم بيعهم مرة أخرى، بعد أن تركهم سادتهم وأصحابهم. لا.. لن نتمكن من فرض ضرائب بعد الآن يا مولاي.

 

السلطان :  لقد بدأت تُقلقني أيها الوزير بهذه الأخبار السيئة، ولكن لا يهم، كل الأمور سوف تعود إلى مجراها وتنصلح مرة أخرى بعد أن يهبط الرخ بالقمر على أراضي السلطنة، سوف نستدعي رعية جدداً من البلاد المجاورة، سنعلن عن حاجتنا لشغل وظائف رعية. المال يصنع المعجزات أيها الوزير، سوف نشتري رعية بأموالنا، وربما أدعك تذهب بنفسك إلى أسواق العبيد، لتقلب فيها وتشتري بنفسك ما لذ وطاب من الرعية ها ها ها (يضحك) ، ولكن ماذا عن صغيري؟ كيف حال ولي عهدي العزيز الآن؟

 

الوزير :  هو نائم يا مولاي أعطيته منذ قليل الترياق الذي أوصى به الحكيم، لكني زدت جرعته قليلاً حتى ينام أطول فترة ممكنة فلا يفيق إلا بعد حلول الرخ بالقمرعلينا، فأنا أخشى أن يهب من نومه فيبكي ولا يجد من يُسرّي عنه، إذا ما تذكر فطيرة الفضة وصفحة الفيروز. لأن المهرجين واللاعبين والمخايلين وحتى المُكرّع، تسللوا جميعاً واحداً إثر آخر وبصنعة لطافة في جنح الظلام دون أن يراهم أحد فيمنعهم وتركوا قاعة الأمير خاوية، المؤسف يا مولاي أنهم أخذوا الشخاليل واللعب معهم وحتى آلة الموسيقى الصينية العجيبة ولم يتركوا شيئاً للأمير ليتلهى به.

 

السلطان :  : مجرمون. كلاب. لا رحمة في قلوبهم ولا شفقة كبدي على أميري الصغير.. كبدي على حلم السنين.. إذن هو وحيد بمفرده. وحيد بمفرده أيها الوزير.. هاته إلينا، هاته إلينا هنا بسرعة لنسليه ونلاعبه، أيبقى وحيدي بلا شخاليل وجلاجل.. مسكين.. كبدي عليه؟

الوزير :  لا يا مولاي هو ليس بمفرده.هو مع أمه مولاتي برقع الحياء خاتون، إنها لا تتركه لحظة واحدة. ولكن يا مولاي..

 

السلطان :  ولكن ماذا أيها الوزير.. تكلم.. تكلم وهات ما عندك..

 

الوزير :  لم أكن أريد إخبارك يا مولاي.. لكن مولاتي برقع الحياء خاتون باتت في الآونة الأخيرة غريبة الأطوار بعض الشىء، إنها تبدو زائغة النظرات، تحادث نفسها حيناً، وتتوجه بالكلام إلى حيث لا أحد وتقول.. ليت الرخ يأتي بفطيرة واحدة بالعسل، فطيرة بالعسل بدلاً من فطيرة الفضة هذه... 

السلطان :  وما الخطير في ذلك، أأمر لها بصفحة كاملة مملوءة بفطائر العسل.. لا تجزع أيها الوزير، ولتأت إلينا بشراب نشربه وبعض الجواري لتسري عنا قليلاً بشىء من الغناء.

 

الوزير :  لا عسل في المملكة يا مولاي. لا توجد نحلة واحدة بالبلاد. النحل يحتاج زهوراً ووروداً. ولم يعد هناك جوار يا مولاي.. ولا عازفون، أو أصحاب طرب، القمر الآتي لم يترك شيئاً هنا. أي شىء يا مولاي

السلطان :  لا بأس لا بأس.. عندما يستقر القمر على أرضنا سيعود الجميع حتماً.. سيعودون مرغمين، ولسوف تعود ليالينا السعيدة مرة أخرى. على |أية حال غن لي شيئاً.. غن لي شيئاً يسليني ويلهيني قليلاً حتى يهبط القمر على أرضنا.

 

الوزير :  الوزير، (يشرع في الغناء(

 

فطيرة من الفضة

 

أمل يتردى

 

أم عيد كما النيروز 

السلطان :  (يصيخ السمع، يتلفت شمالاً ويميناً) أسمعت شيئاً أيها الوزير.. أظن أنني سمعت شيئاً..

 

)أصوات أقدام جند تأتي من بعيد في إيقاعات قوية منتظمة وهي تدق على الأرض مع إيقاعات طبول(.

 

إنه صوت الرخ، أجل صوت جناحي الرخ العظيمان وهما يصفقان الهواء بشدة وبانتظام، إنه أيها الوزير يملأ قلبي بالنشوة، وكأنه صوت أقدام جند وقد انتصرت في حرب من الحروب.

 

اذهب أيها الوزير وانظر من الشباك.. شاور للرخ بيدك ونادي عليه ليهبط فوراً.. فوراً..ها ها ها.

 

)يذهب الوزير إلى نافذة القصر ويطل بينما تقترب أقدام الجند أكثر(

 

الوزير :  لا شىء.. لاشىء يا مولاي، يخيل إلى أنها وقع خطوات جند.. جند كثيرون كالجيش الجرار إنها خطوات تقترب من القصر يا مولاي

السلطان :  إذاً.. الجند عادوا، لقد عاد الجميع أيها الوزير، إذ أدركوا أن الرخ على وشك الهبوط.. لقد عاد جنودي أيها الوزير.. لسوف أعفوا عنهم جميعاً..أجل.. سأعفو عنهم جميعاً.

 

الوزير :  لا.. لا يا مولاي.. إن الجنود ليسوا جنودنا إن راياتهم المقتربة التي تلوح لي على ضوء مشاعل النار ليست راياتنا السوداء الحبيبة، بل هي رايات عدو مُغير.

)تقترب أصوات أقدام الجند أكثر، يبدو الخوف على السلطان بينما يتصاعد بكاء طفل عن قرب. يصرخ السلطان فزعاً(

 

السلطان :  حلم السنين. أأميري الصغير يبكي؟.

إنه ينوح أيها الوزير.. ينوح! (يبكي السلطان بدوره) .

أدركه. أدركه أيها الوزير. امنعه فوراً عن البكاء. أوقف الكارثة التي ستحل بنا سريعاً. قل له أنه لو بكى لن يكون هناك عرش ولا سلطنة وستضيع البلاد. (يستمر بكاء الطفل ويتصاعد بشدة) .

 

السلطان :  (كالمجنون) لا.. لا أريد بكاء.. أوقفوا هذا البكاء.. أوقفوا ذلك الخراب.اذهب إليه أيها الوزير.. إذهب يا جمل حمدان. قل له إن الرخ قادم.. لقد سوينا كل شىء بالأرض.. لا يوجد هنا وعلى مرمى البصر في كل مكان إلا أرض، أرض ممهدة مسوّاة تنتظر القمر. تنتظر المعجزة.

قل شيئاً أيها الوزير..لا تقف هكذا تنظر من النافذة وقد أدرت ظهرك لي، قل شيئاً وانبئني بالبشارة، أعلن بسرعة قدوم الرخ، قل إن الرخ سيهبط فوراً من السماء حاملاً بمنقاره القمر.

)يظل الوزير ناظراً من الشباك وقد أدار ظهره للسلطان دون مبالاة. يتزايد بكاء الطفل ويتحول إلى صراخ يتخالط مع صفير الرح ونداءات السلطان. بينما تتصاعد موسيقى عنيفة تستمر لفترة وتتناغم مع دقات أقدام الجند المقتربة من المكان.. تتلاشى الموسيقى شيئاً فشيئاً وتستمر للحظات أصوات أقدام الجند فقط مختلطة بصوت الريح المندفعة من نافذة القصر(.  

 

تنطفىء الشمعة الوحيدة على المسرح ويظلم المكان تماماً

- ستار -

 

أضيفت في 09/06/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية