المحاكمة
الإهداء
إليها
..ما بقي في
الأبحر ماء وما تنزّل الغيْثُ من السماء وجداً.... وشوقاً.... وحنيناً.. إليكم
...أبنائي...
أبناءها قدركم أن تحيَوْا من أجلها .أو
تستشهدون في سبيلها
يوسف
المقدمة:
أدب المقاومة
الملتزم بدون الزام. والذي ظهر إلى الوجود العربي بدءاً من إحساس العرب بثقل
الجسد العثماني على صدورهم، مع ابتداء يقظتهم من نوم إجباري فرض عليهم زهاء
أربعة قرون.
وتململ ذلك الأدب
بدوره من خلال رماد الانحطاط. مع الشعراء المجددين والإسلاميين الذين قرأوا
الإسلام بعيون معاصرة مثل الكواكبي. وتطور هذا الأدب في مواجهة النوم
العثماني... ثم الاستبداد التركي. ثم الاستعمار الأوروبي إلى قرابة منتصف القرن
العشرين.
وجاءت كارثة.
احتلال فلسطيني الفجائعية كجرح نازف من خاصرة الأمة العربية. ليترفع أدب
المقاومة العربي من منزلة السير الهاديء إلى مقام الركض الخبب. فإذا الشعر غير
الشعر والرواية تدخل في طور تطوري جديد. وترفع المسرحية صدرها لترافق أجناس
الأدب الأخرى التي سبقتها بضعة أشواط.
ويبدأ الحديث
النقدي عن مسرح عربي ينتمي إلى العديد من أنماط الأداء الدرامي. بيد أن معظم ما
خلَّفته الملكة الإبداعية المسرحية لدى العرب كان مسرحاً ملتزماً يعالج وجود
الإنسان العربي في أرضه وفي العالم من حوله.
وغني عن التكرار أن
الثورة الفلسطينية على تباعد مواقعها، وتشتت قواعدها في أنحاء الكوكب، استطاعت
أن تفرز وراء مقاتليها كوكبة من المبدعين الذين تمكنوا من إبداع تيارات أدبية
لها شخصيتها الكاملة في زحام التيارات الأدبية في العالم. وجاء نتاجهم الفكري
والفني أنموذجاً جديداً متوهجاً له خصوصيته وفرادته.
ويوسف جاد الحق
واحد من تلك الإفرازات الإبداعية التي نذرت وجودها لتضميد الجرح الفلسطيني
النازف منذ خمسين سنة. وعرفته منذ سنين يكتب الرواية والمسرح والقصة.... وهو
عبر هذا الثلاثي مناضل ملتزم تمكن من تحويل القلم إلى قذيفة تضيء في مسيرتها
لتصل إلى هدفها بدون إساءة إلى جمالية الفن أو تهاون في سخونة القذيفة.
ويقدم مسرحيته
الجديدة: المحاكمة. لتأخذ موقعها في مسيرته الأدبية ذات الالتزام الطوعي النابع
من إيمانه بقضية يكتب من أجلها. فما الذي قدمه في مسرحية المحاكمة؟
تقف المسرحية على
خلفية واقعية حول واقعية حدثت بالفعل ففي عام 1972 وخلال دورة الألعاب
الأولمبية التي انعقدت في ميونخ- ألمانيا- قام بعض المجاهدين الفلسطينيين
باحتجاز عدد من اللاعبين اليهود المشاركين بتلك الدورة. مطالبين بإطلاق سراح
عدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون اليهود. ولما لم تستجب عصابات اليهود للطلب
نفذ المجاهدون تهديدهم وأعدموا بعض اللاعبين اليهود. وسلَّموا أنفسهم للسلطات
الألمانية التي حاكمتهم.
هذا هو ملخص الخبر
الذي حوله يوسف جاد الحق إلى خلفية درامية لمسرحيته.
سيتبادر إلى الذهن
أن يقوم الكاتب بتأليف نص مسرحي تسجيلي أو توثيقي، له من التاريخ نصيبه الأوفى
ومن الفن نصيب قليل. أو من الإبداع نَزْرُهُ اليسير.
ليشبه عمله عمل
المؤرخ أو المؤرخ الفنان في أفضل الحالات. فهل هذا ما صنعه يوسف جاد الحق؟ أم
أنه فطن لحالة التبسيط التوثيقي أو التسجيلي. فنقل الخبز من وثائقية التأريخ
وسجلات الأحداث الغابرة إلى رؤيا الفنان الخبير بتمزيق الحدث وإبداعه ليرتقي
إلى أفق الفن؟
لجأ يوسف منذ البدء
إلى عملية الخداع الفني التي نراها إحدى أهم حالات الإقناع. حيث زَجَّ بنا في
قاعة إحدى المحاكم في مدينة ميونخ. ورسم شكلاً مقنعاً لمحكمة ألمانية بقضاتها
الكهول، وأوقف المجاهدين الفلسطينيين الأربعة الذين نفذوا العملية. في مواجهتهم.
وإذا ما خيل إلى
المشاهد والقارئ أنه يسمع ويرى محاكمة حقيقية. يتسلل يوسف جاد الحق ليزج تاريخ
القضية الفلسطينية بين القضاة والمتهمين. ثم يرفع ستائر ذاكرته التاريخية
والفنية ليكشف للعالم فصول المأساة منذ بدء تكوين الجريمة العالمية لسحب فلسطين
من تحت أقدام أهلها... حتى تكوين الغدة السرطانية التي أطلق عليها اسم: الدولة
العبرية، أو إسرائيل، أو أرض الميعاد. أو ماشئت من صفات التزوير والتضليل في
هذا العصر الخائن.
وأحس المؤلف اإفادة
بدرجة متقدمة من تقنيات التوصيل المعاصرة. عندما كان ينقل الحدث عبر العين
السينمائية من قاعة المحكمة في ميونخ إلى إحدى قرى أو ساحات فلسطين ليطلعنا على
فصول من جريمة الكارثة الاستيطانية... وما يفعله اليهود بالأرض وأصحابها. كل
هذا يتم عبر سير الأحداث بتتابع مقنع وإيحاء جميل. بدون فجوات ولا تقطع ولا
افتعال ولا اجتراح خيالي يبعد المتلقي عن الرؤية التاريخية لحدوث الفعل.
وما كان يلجأ إلى
هذه النقلات التي تتم بسرعة البرق التي هي سرعة النقلات السينمائية
والتلفزيونية من حال إلى حال. إلا في حالة الضرورة إليها والتي تشبع المتلقي
إقناعاً. ولعل الأهم الأهم في هذه المسرحية هو قدرة مؤلفها على تماهي الرأي
العالمي الجائر لقضية فلسطين. وشرح وجهة النظر الغربية المتردية في مهاوي
الضلال اليهودي بصورة تكاد تصدقها إنها مخاطبة العقل الغربي بلغته بالذات. وهذا
ما رفع النص من حدود الانحياز الوطني والقومي إلى مجالات الشمولية العالمية.
حتى كأننا أمام حوار بين الرؤية العربية والرؤية الغربية الجائرة للقضية
الفلسطينية.
ومنذ أوائل فقرات
الحوار. حيث يسأل القاضي الألماني أحد المتهمين. كيف وصل إلى ميونخ؟... ويسمع
الإجابة ويلح على السؤال:
القاضي
: كم من الزمن
استغرقت الرحلة؟
نضال
: استغرقت
الرحلة عمري كله.
القاضي
: هل تسخر منا
أيها السيد؟
القاضي
: أبداً. هذه
هي الحقيقة... وإن شئت الدقة فهي ربع قرن من الزمان.
القاضي
: لو كنت
سلحفاة لوصلت في ربع هذه المدة
.
نضال
: ما ذنبي إذا
كنتم تصرون على ألا تعرفوا الحقيقة؟
القاضي
: مادمت حريصاً
على قول الحقيقة. قل لنا:
من هم بقية أفراد
العصابة؟
نضال
: هم مناضلون
وليسوا عصابة
حوار متلاحق مكتوب
بأقصى درجات التوتر بلا تفكك. وكأن المتحاورين يركضون باتجاه تصعيد الحدث. ومنذ
البدء كما قلت تمكن المؤلف من فرد أوراق القضية أمام العالم. فالمناضلون
الأربعة منذ أول إجابة لأولهم.
كانوا مصرِّين على
ربط النتائج بالمقدمات. وأن ما فعلوه ليس منفصلاً عن معاناة ربع قرن هو عمر
احتلال فلسطين. وأصروا على توصيل الجرح إلى المحكمة. بل تمكنوا من محاكمة
العالم الذي تجاهل وجودهم كشعب. لإرضاء نزوات الحقد الصليبي الذي تفجر بعملية
الاستيطان اليهودي في فلسطين.
ومع تصاعد الحدث
عبر الحوار، تتحول المحاكمة إلى ضدها. وبدلاً من أن نرى القضاة يحاكمون
الفدائيين، نرى الفدائيين يحاكمون القضاة الذين مثلوا عدالة العصر ورؤية العالم
لينقلب السحر على الساحر.
وأمام اتهام
المحكمة الذي يفجره القضاة بوجود الشباب الأربعة... يعيدنا الشباب الأربعة إلى
الخلف خطفاً بتكثيف الزمن لنرى الدوافع الأولى التي زودتهم بالغضب والحقد.
ليتحولوا إلى مناضلين. بل يدفعوننا للتعاطف معهم كآدميين حرمهم الاحتلال من
ممارسة أبسط ألوان العيش في ظلال بيوتهم في فلسطين.
فنضال أول المتهمين
يروي لهيئة المحكمة كيف اقتاد اليهود أمه وأخاه وأخته في الليل. وذبحوا الطفلين
وبقروا بطن أمه الحامل... بينما هو مختبيء في عب شجرة كالهرة المذعورة. أو
الأرنب الخائف. ومع روايته هذه. يتساءل القضاة: هل يمكن أن يحدث ما رواه هذا
الشاب العربي؟ أم هي حكاية من نسيج خياله... وهل يعقل أن يصدر هذا الفعل (عن
أناس متحضرين مثل الإسرائيليين؟).
فنضال إذن بدأ يهز
ويزعزع الصورة الحضارية التي حولها اليهود إلى قناع مراوغ يختبئون وراءه
ليمارسوا أبشع ألوان الطغيان الذي ترتكب في هذا العصر. ليعلن في نهاية محاكمته
أن اليهود هم (الذين صنعوا مني هذا الفدائي) الذي يقف أماكم الآن. ثم لا يكف عن
إطلاق مخزون ذاكرته من الصور الإجرامية التي يصنعها اليهود على الأرض العربية.
حتى ليهزأ بالمحكمة وقضاتها الذين اتهموه بالإجرام بينما هم يبرئون أو يغمضون
بصائرهم عن جرائم اليهود المتعاقبة والتي لا يستطاع حصرها وعندما يشعر نضال
بأنه أثار غضب القضاة يلجأ إلى غدر هو أشد إثارة من ذكر إساءات اليهود أمام
أصدقائهم الألما:
نضال
: يؤسفني أن
أثرت غضبك سعادة القاضي، ولكن هل لي أن أتساءل عن موقف المحكمة الموقرة من مصرع
المئات في مخيمات الفلسطينيين بلبنان بفعل الطيران الإسرائيلي.
ليجيبه القاضي بشيء
من التردد والارتباك:
القاضي
: ذلك موضوع
آخر.
إن ما فعله نضال مع
القضاة، كان أنْ حاصرهم في موضع الاتهام وبدلاً من أن يدافع عن نفسه، دفعهم
ليبحثوا عن مخرج من مأزق الاتهام.
وفي الفصل الثاني
يحين زمن محاكمة خالد الذي يصر على أن اسم بلدة فلسطين لا إسرائيلي، وأن اللعبة
التي تمارس تحت اسم الديمقراطية تظهر متقنة الصنع والأداء. وهي التي أبعدت
الشعب الفلسطيني عن ممارسة وجوده فوق أرضه. ومن ورائها ترتكب الجرائم.
وخالد من خلال
استجوابه يفضح لعبة اللاسامية وقد أسماها الاسطوانة المشروخة. مبيِّناً لهيئة
المحكمة أن الفلسطنينيين لم يهبطوا من كوكب آخر لتبعدهم السطوة الإعلامية
المضللة عن أصولهم السامية. ويندفع خالد باتجاه القصد أكثر عندما يفند دعاوى
التوراة ويُجِلُّ الله عن أي يُنزل من السماء مثل هذا الضلال المبين.
وكلما ابتدع القضاة
اتهاماً يرده خالد إلى نحورهم حتى يرسم لهم صورة عن قريته كفر قاسم. ويريهم كيف
احتجز الجنود اليهود مجموعة فلاحين عائدين إلى بيوتهم. يطلبون منهم الاتجاه نحو
جدار ويطلقون عليهم النار ببساطة كأنهم يصطادون سرباً من عصافير ساكنة.
وفي الفصل الثالث
تنعقد المحكمة. لتوجه لناصر نفس الأسئلة المدروسة والمخططة وفق الرؤية الغربية
لقضية فلسطين. حاملة نفس التشويه السياسي والفكري والتاريخي لتلك القضية. والتي
يفندها ناصر كمواطن مطرود من وطنه معبَّأ بنفس القهر الذي تعبأ به رفقاؤه
المناضلون. وعندما تلح هيئة القضاة على إلصاق صفة الإرهاب به. ينقل المحكمة إلى
حي قديم في يافا.... ليفرد صفحة من صفحات الإرهاب الذي اتصفت به العنصرية
اليهودية. ويُطلع المحكمة على حادثة شنق لمواطن فلسطيني كان يحمل طلقة مسدس
فارغة. ثم تتدافع الأوراق من ذاكرة ناصر لنشاهد فيها أصلاً من فصول الاحتلال
والقمع بعد التهيؤ الاستعماري والتواطؤ العالمي مع العناصر اليهودية المجتمعة
من بقاع الدنيا.
وإذا وصلنا إلى
نهاية المسرحية نكون قد اطلعنا وعبر المناضلين الماثلين أمام المحكمة الألمانية
على زيف الأساطير اليهودية المفتعلة. وكيف استغل الإعلام الثانية لتثبيت
أقدامهم في فلسطين. ولاستجداء عطف أوروبا وأميركا المهيأ أصلاً لمواكبة
الاحتلال.
ولعل المناضلين
المحاكمين فردوا كل الأوراق التي لملمها روجيه غارودي فيما بعد ليؤلف منها كتبه
المعروفة عن زيف الدعوة اليهودية.
هذا هو الإطار الذي
صيغت ضمنه فصول المسرحية. التي نراها عملاً فنياً ملتزماً لا يقل عن الأعمال
المسرحية العالمية التي تلتزم خطاً فكرياً في عصر التحلل من الالتزام.
الدكتور خالد محيي
الدين البرادعي
الفصل الأول
المشهد الأول
في مدينة ميونيخ:
قاعة فسيحة
الأرجاء. عالية الجدران. على السقوف رسوم هندسية عتيقة. تتصدر القاعة منصّة
تشبه خشبة المسرح. تتوسطها منضدة عالية مستطيلة الشكل.
يجلس إليها ثلاثة
قضاة كهول. عن يمينهم محامي الدفاع، وعن شمال النائب العام. الفدائيون الأربعة
في قفص على الجانب الأيمن، غير بعيد من المنصة. جمهور النظارة، من الجنسين، ومن
أعمار مختلفة يملأ القاعة في مواجهة المنصة”.
القاضي
: بعد أن يسود
الصمت، يتحدث بصوت جهوري عبر ميكروفون
تقوم هذه المحكمة،
أيها السيدات والسادة، بمهمة محاكمة عدد من الإرهابيين قاموا بأعمال إجرامية
فوق الأراضي الألمانية. منتهكين بذلك سيادتها ومتسببّين في الإخلال بالأمن
فضلاً عن إحراج حكومتنا تجاه دولة صديقة. ومما يزيد هذه الجريمة بشاعة قيام
الجناة بها إبّان دورة الألعاب الأولمبية، تجاه رياضيين أبرياء، ينتمون إلى تلك
الدولة الصديقة. نأمل مساعدتكم لنا في مهمتنا بالتزام الصمت واتبّاع النظام.
يصمت قليلاً، ثم
يتوجه ببصره وخطابه إلى من في القفص، عقب إلقاء نظرة على أوراق أمامه)
من منكم هو نضال..
نضال ياسين؟
نضال
: (شاب أسمر.
في منتصف العقد الثالث من العمر. حاد النظرات صارم القسمات)
أنا نضال.. نضال
ياسين..
القاضي
: قل لي كيف
وصلت إلى ميونيخ أيها السيد؟
نضال
: ليس مهماً
كيف وصلت.. المهم أنني وصلت..
القاضي
: عليك أن تجيب
بالتحديد على الأسئلة الموجهة إليك.. هاه.. كيف أتيت إلى ميونيخ؟ ومتى..؟
نضال
: ألا ترى يا
سيادة القاضي، أنك أخيراً سوف تخرج بالنتيجة ذاتها. ألا وهي أنني وصلت ميونيخ..
وهذا هو المهم.. فما أهمية كيف ومتى؟؟
القاضي
: من ذا الذي
يسأل أيها السيد.. أنا أم أنت؟
نضال
: حسناً.. لنقل
بالسيارة.. أو سيراً على الأقدام.. أو..
القاضي
: (متأففاً،
ولكن كمن يحاول أن يتحلى بالصبر)
كم من الزمن
استغرقت الرحلة؟
نضال
: (يصمت برهة..
تشرد نظراته بعيداً.. ثم يحدّق فيمن على المنصة)
استغرقت الرحلة، يا
سادة، عمري كله..
ينظر أعضاء هيئة
المحكمة بعضهم إلى بعض في دهشة. كذلك يفعل النائب العام، ومعظم النظارة في
القاعة)
القاضي
: هل تسخر منّا
أيها السيّد؟
نضال
: أبداً.. هذه
هي الحقيقة.. وإن شئت الدقة.. فهي ربع قرن من الزمان..!
القاضي
: (مشيراً
بكلتا يديه تعبيراً عن استهزائه)
لو لم تكن سوى
سلحفاة لوصلت في ربع هذه المدة..!
ضحك مكتوم في
القاعة. وابتهاج على وجه النائب العام)
نضال
: ما ذنبي إذن،
إذا كنتم تصرّون على ألا تعرفوا الحقيقة؟
القاضي
: ما دمت
حريصاً على قول الحقيقة. قل لنا من هم بقية أفراد العصابة.
نضال
: هم مناضلون..
وليسوا عصابة..
القاضي
: (بسخرية)
لعلهم ملائكة إذن..!
نضال
: هم بشر وحسب.
هم أصحاب وطن يطالبون به ويعملون من أجل استعادته.
القاضي
: حسناً..
حسناً.. قل لي من هم وحسب.. أسماؤهم.. أعدادهم..
نضال
: هم شعب بلادي
بأسره..
همهمة في القاعة..
حركات تنم عن الاستياء لدى هيئة المحكمة)
القاضي
: (يطرق على
المنصة.. ثم بنبرة غاضبة)
يا لك من ماكر..
كلكم هكذا..!
نضال
: حبذا لو أعرف
كيف توصلتم إلى هذه الحقيقة..! كنت أحسب أن هذه محاكمتي بمفردي ولم أكن أعلم أن
من صلاحياتكم محاكمة شعب بلادي.. غيابياً أيضاً..
محامي الدفاع
: (يستأذن
للكلام)
سيدي القاضي. لا
أعتقد أنه من صلاحيات محكمتكم الموقرة محاكمة أحد سوى المتهم الواقف أمامها..
ورفاقه..
القاضي
: (في حدّة)
المحكمة تعرف جيداً حدود صلاحياتها.
ثم موجّهاً كلامه
إلى نضال) تكلم أنت..
نضال
: ولكن ألا
ترى، يا سيدي، أنك لا تتيح لي فرصة للكلام..؟
القاضي
: أنت الذي لا
يريد أن يتكلم.. أنت تراوغ.. تضيع الوقت دون جدوى.
نضال
: وقت من هذا
الذي أضيعه، يا سيادة القاضي؟
القاضي
: وقتنا بالطبع..
نضال
: وقتكم
بالطبع.! أما وقتنا نحن فضائع منذ خمس وعشرين سنة. ولكن لا إنه لم يكن ضائعاً.
كنا نَُصنّعْ.. نتكوّن.. نتشكلّ، في ذلك الوقت الذي حبستموه ضَياعاً لنا،،
ونسياناً لقضيتنا..
القاضي
: (ينظر إلى
زميله مستغرباً) يتصرّف وكأنه هو الذي يحاكمنا..!
نضال
: لو كانت هناك
عدالة على وجه هذه الأرض لكان ذلك هو الأجدر أن يحدث..!
القاضي
: (حانقاً)
أحذرك يا هذا من التمادي في أسلوبك هذا أمام هذه المحكمة.
نضال
: (مقاطعاً
وبسخرية) الموقرة.. المحكمة الموقرة..!
القاضي
: يمكنك أن
تتكلم الآن
نضال
: هل تريدني
حقاً أن أتكلم؟ وأن أقول ما أريد قوله؟
القاضي
: (ينظر إلى
الجمهور مستنجداً) أتسمعون..؟ أتسمعون بحق الشيطان..؟
نضال
: إذن عليك أن
تسمعني.. وبصبر يا سيدي.. ببعض من التضحية من وقتك.. أعني وقت المحكمة النفيس..!
القاضي
: برافو.. ها
أنتذا تعرف أن وقت المحكمة لا يسمح بالكثير من الإسهاب.. وأن صبرنا سوف ينفد،
بلا شك، قبل أن تفرغ من سرد حكايتك..
نضال
: هي ليست
حكاية.. أولاً..
القاضي
: (في حنق
شديد) وثانياً.. وثالثاً.. ورابعاً.. وعاشراً.
نضال
: (بإصرار
وكأنه لم يسمع) هي ليست حكاية. إنها..
القاضي
: (مقاطعاً) ما
هي إذن؟ قل ما هي أيها السيد؟
نضال
: هي مأساة..
تسمونها أنتم تراجيديا.. دونها كل ما ورد في آدابكم منذ الإغريق وحتى يومنا هذا..
القاضي
: (يضحك في
سخرية) أسمعتم..؟ إنهم يعرفون التراجيديا وآداب الإغريق..! أليس عجيباً هذا
حقاً..؟
نضال
: (متجاهلاً
سخريته ومتابعاً) هي ملحمة أيضاً.. دونها الالياذة والأوديسّا..
القاضي
: (يضرب كفاً
بكف) ويعرف الأوديسا والالياذة.. ثم يجيء ليقتل..!
نضال
: معذرة، يا
سيادة القاضي، إذا كان ذلك تطفلاً على آدابكم.. وآمل ألا يسجل ذلك في لائحة
الاتهام ضدي بتهمة السطو..
!
القاضي
: ألا ترى أيها
السيد بأن صبرنا يجب أن ينفد..؟
نضال
: ألا ترون إذن
أيها السادة، أن لنا العذر في أن صبرنا قد نفد فعلاً، فلجأنا إلى الوسيلة
الوحيدة التي بقيت أمامنا، بعد أن أصممتم آذانكم عن سماع أصواتنا.. ونحن عشنا
زمناً وما زلنا نعيش أحداث القصة التي يضايقكم سماعها (مجرد سماعها) ولدقائق
معدودة.. أجل لقد عشناها ربع قرن بأكمله.. بكل مرارتها.. وأحزانها.. وو.
القاضي
: (مقاطعاً) لا
تقل لي أنك تنوي أن تتحفنا بالحديث عن تفاصيل ربع قرنك هذا..!؟
نضال
: لست أطمع في
كرم، إلى هذا الحد، يصدر عنكم.
القاضي
: نحن نعرف هذه
القصة القديمة على أية حال.
نضال
: بل أنتم
تجهلونها تماماً..!
القاضي
: قرأنا عنها
مجلدات.. وملفات.. وتقارير..
نضال
: كل الذي
قرأتم عنها.. لم يكن عنها.. ذاك هو الوقت الذي أضعتم سدى..!
القاضي
: ماذا تعني
بقولك هذا؟
نضال
: أعني أن ما
كتب عنها لم يكن عنها إطلاقاً..!
القاضي
: أهي أحجية؟
نضال
: ألا تقولون
أن للعملة وجهين..!
القاضي
:...
نضال
: وجه واحد هو
ما رأيتم.. الوجه الصدئ المطموس.. المشوّه.. أما الوجه الآخر.. الواضح
المعالم.. وجه الحقيقة فذلك ما لا علم لكم به.
القاضي
: قلت لك يا
هذا، أننا نعرفها.. مثل ما تعرفونها أنتم.. إن لم يكن أكثر..
نضال
: هذا أسوأ،
على فرض صحته. إذ أنتم تعرفونها، ثم تقفون منا هذه المواقف المتحيزة.
القاضي
: ينبغي أن
تحسن ظنك بالمحكمة أيها الشاب..
نضال
: حسن ظننا يا
سيدي، هو الذي أوقعنا دائماً في حبائل الشر ومكائد الأشرار..
القاضي
: من تقصد؟
نضال
: لو لم نحسن
الظن بكم -مثلاً- لما كنا وقعنا في هذا الموقف. كل شيء كان مرسوماً بإحكام من
قبلكم للغدر بنا. وطوال الوقت الذي كنا نتحلى فيه بسوء الظن فيمن حولنا، كانت
الأمور تسير على نحو جيد. ولكن فقط، وللتو وقعنافيما وقعنا فيه من شراك غادرة
لحظة أحسنَّا فيها ظننا.. ثم كان ما كان.
القاضي
: ها أنتذا
تعترف..!
نضال
: أعترف بماذا؟
القاضي
: بأنك ارتكبت
جريمتك النكراء عن سابق عمد وإصرار.. أنت مجرم خطير..!
نضال
: (ساخراً
ومطلقاً قهقهة عالية) أليس مضحكاً هذا الإستنتاج يا سيدي؟
القاضي
: إنه استنتاج
في محله يا هذا..
نضال
: صدقني، يا
سيدي، أنني لم أحرق إنساناً في فرن للغاز..!
القاضي
: أتُعرَض
بالمحكمة وبالشعب الألماني أيضاً؟
نضال
: هم يقولون
ذلك. أصحاب الشأن.. أصدقاؤكم.. يصدقون أويكذبون، لا أدري... على أية حال لم نكن
نحن طرفاً في هذا....
القاضي
: ولكن ذلك حدث
في العهد النازي.
نضال
: يسعدني أن
المحكمة تعرف تاريخها جيّداً!
القاضي
: ونحن ندين
ذلك العهد.
نضال
: وما جدوى
ذلك؟ نحن خير من يعرف جدوى الإدانة والشجب والإستنكار.. فهذه جميعاً لم توقف
الجاني يوماً عن مواصلة ممارساته الإجرامية.
القاضي
: هذا شأنكم
أنتم..
نضال
: بلى والعالم
معنا. لقد مكثنا ربع قرن.. ومعنا أشقاؤنا.. بل معنا أصدقاء كثيرون في هذا
العالم يفعلون الشيء ذاته.. ثم ماذا.. ها نحن هنا الآن كي نخضع لعملية ابتزاز
ظالمة من جديد..
القاضي
: لا تحسبنَّ
العدالة تعفي الجناة، أو تغفر لهم ما صنعت أيديهم.
نضال
: ولكن ها هم
يسرحون ويمرحون.. يملأون الدنيا عربدة وفجوراً، ويقترفون المزيد من الخطايا
والجرائم.. فأين الحساب؟ بل أنت تشدون أزرهم.. وتواصلون دعمكم لهم..
القاضي
: يبدو لي أنك
تنسى أين تقف الآن.. أنت هنا لست إلا إرهابياً..
نضال
: ولكني لم
أبقر بطن امرأة..
القاضي
: إنك لقاتل..!
هل تنكر ذلك؟
نضال
: لم يحدث أن
ذبحت طفلاً في حضن أمه مثل ما فعلوا ويفعلون بنا دوماً..
القاضي
: بل تفعل لو
أتيحت لك الفرصة.
نضال
: هي إذن مسألة
فرص متاحة..
القاضي
: ولم تُضعها
أنت حينما سنحت لك..
نضال
: لقد بكيت في
أول مرة ذبحت فيها أرنباً..
القاضي
: تبكي حين
تذبح أرنباً.. ولا تهتز شعرة في جسدك وأنت تقتل إنساناً متحضراً.
نضال
: وكيف عرفت،
يا سيدي، أن تلك الشعرة اهتزت أو لم تهتز..؟
القاضي
: أنا واثق من
ذلك.. كثقتي بأنكم قتلتم الرياضيين عن عمد..
النائب العام
: (يهب واقفاً
بانفعال) ولهذا أطالب بإيقاع العقوبة القصوى على الجناة..
نضال
: يبدو أنكم
تتناسون كيف حدث ذلك.. ولم يمض عليه زمن طويل يبرر نسيانه..
أما نحن فلن ننسى
كيف حدث التواطؤ لأننا نحن الذين ندفع الثمن..
القاضي
: ألا تجلس
مكاني يا هذا؟ يبدو وكأنه هو الذي يحاكمنا.
نضال
: حبَّذا..!
القاضي
: (ناظراً إلى
الجمهور في استهجان) هل شهد أحد منكم مثل هذه الوقاحة..؟
فتاة تهب لتقول
بصوت غاضب)
الفتاة
: ولكنكم، يا
حضرات القضاة لا تعطون الشاب فرصة ليقول شيئاً (ينهض النائب العام- وفي ذات
اللحظة يطرق القاضي على المنضدة عدة مرات ليسكت الجلبة التي نشأت في القاعة..
وتكاد تحدث مشاجرة بين مؤيد للفتاة ومعارض)
القاضي
: (بصوت مرتفع
عبر الميكروفون) صمتاً.. صمتاً.. أرجو المحافظة على النظام والتزام الهدوء..
لنستأنف إجراءات المحكمة حسب القوانين المرعية.
ثم ينظر إلى عضو
اليمين متسائلاً) أين وصلنا؟
النائب العام
: (يتكلم دون
أن يُسأل) قلت يا سيدي للمتهم (إنها وقاحة..) وهذا صحيح تماماً..!
نضال
: (لا يبد عليه
أنه فقد هدوءه.. ولكن الألم يتزايد في نبرات صوته)
هي وقاحة حقاً..
ولكن حسب مفاهيمكم المغلوطة، ومدنيّتكم الزائفة. أنتم مثلاً، يا سيدي، تعتذرون
بأرق عبارة إذا لمس أحدكم طرف رداء آخر عن غير قصد.. ثم أنتم أنفسكم، في موقف
آخر، تمزقون إنساناً مستضعفاً بالحراب.. بالرصاص.. لا لشيء إلا لأنه لا يملك
قوة الرد. حضارتكم تسمح بإبادة مدينة بأسرها بما ومن فيها.. هيروشيما.. نجازاكي..
ألا تذكرون..؟ حدث ذلك.. أبيدت المدينتان عن بكرة أبيهما وفي اللحظة ذاتها كان
(ترومان) الآمر بقصفهما يتناول إفطاره (الحضاري) وبالطريقة الحضارية.. بالشوكة
والسكين.. بل وهو يتحسس ربطة عنقه ليطمئن إلى أنها في مكانها الصحيح.. وشكلها
الملائم.. أليست هذه حضارتكم..؟ أليست...
القاضي
: (مقاطعاً
بصوت غاضب) أنت تتكلم ليس بوقاحة فقط.. ولكن بجرأة غريبة تستحق عليها.. آ آ..
(ثم يقطع حديثه فجأة وينفخ غيظاً)
نضال
: عذراً يا
سادة فأنا لم أتعلَّم أسلوب حضارتكم في استعمال الكلمات المنمقة.. أعني
المنافقة..!
القاضي
: أنت لست
خائفاً إذن.. أنت لا تخشى عاقبة ما أقدمت عليه.. أليس كذلك؟
نضال
: (ضاحكاً) من
يعرف الخوف لا يحظى بشرف الوقوف هنا. أيها السادة..
القاضي
: (في غيظ) إذن
هو شرف لك أن تقف هنا.. في قفص الإتهام..
نضال
: من وجهة نظر
محددة.. نعم..
النائب العام
: إذا سمحت لي
المحكمة الموقرة الإدلاء بما أرى بشأنه.
القاضي
: (بتودد زائد)
ليتفضل النائب العام.. تفضل يا سيد جاكوب..
النائب العام
: هذا المتهم
الماثل أمامكم ما فتئ يراوغ ويراوغ، في محاولة بارعة للسخرية من هيئة المحكمة
الموقرة. كما أنه يحاول أن يتخذ من هذا المنبر الحرّ وسيلة للدعاية لنفسه
(أولاً) ثم لقضية عفا عليها الزمن، وينبغي أن يسدل عليها ستار النسيان إذ هو
يتحدث عن شعب لم يعد له وجود. وهو (ثانياً) يتكلم وكأنه ندّ للسادة أعضاء هيئة
المحكمة.. يحاورهم ويداورهم ليس كمتهم يقف أمامها ليقدم حساباً عن جريمته. ثم
هو (ثالثاً) يتحدث دون شعور بالمسؤولية أو إحساس بالذنب نحو الجريمة التي
اقترفت يداه، مع عصابته الإرهابية بحق أبرياء لا ذنب لهم. رياضيون.. مجرد
رياضيين، أيها السادة..
متابعاً بطريقة
تمثيلية وكأنه يوشك على البكاء.. وبصوت متهدّج) جاؤوا إلى هذا المكان من أرض
الميعاد لكي يسهموا في مجهود حضاري (يشدد على هذه الكلمة حضاري) رفيع.. الألعاب
الأولمبية.. تصوروا الألعاب الأولمبية..!
لقد أقدم هذا
وزمرته على فعلتهم النكراء، غير عابئين بما يؤدي إليه ذلك من تكدير وتعكير لصفو
الملايين من شعوب أوروبا وأمريكا، وإفساد لحظات المتعة والسعادة التي كانوا
ينعمون بها أمام أجهزة التلفزيون في أسرَّتهم الوثيرة. جاءوا وكأنهم القدر
الصاعق على غير انتظار، فقلبوا سعادة الملايين إلى كدر حقيقي. فيما لقي أبناؤنا
حتفهم. لذلك كله أرى أن تعمد المحكمة المبجلة إلى إسكات هذه المحاولات
الطائشة.. بل وعدم السماح للمتهم بالكلام أصلاً، وليصدر الحكم العادل بحقه.
أعضاء المحكمة
يهزون رؤوسهم بالموافقة والإعجاب فيما هو يجلس في مكانه. ترمقه نظرات الجمهور
بين مستحسن ومستهجن)
محامي الدفاع
: (يستأذن ليرد
على النائب العام)؟
أرجو أن تلاحظ
محكمتكم الموقرة أن النيابة العامة تحاول تضليلها. كما أنها، هذه النيابة
العامة تفعل تماماً ما اتهمت موكلي، افتراء بفعله. فهي التي عمدت، في الواقع،
إلى اتخاذ منبر المحكمة وسيلة لبث دعاية صهيونية مضللة. وذلك واضح تماماً في
طرحها لمفاهيم مغلوطة، لا أساس لها من الصحة، ولا سند لها من الواقع والحقيقة.
كقولها بأن موكلي يتحدث عن شعب لا وجود له. فإذا كان هذا صحيحاً فمن تحاكمون
إذن، ولمن ينتمي هذا الكائن الواقف أمامكم ورفاقه؟ هل هبط علينا من كوكب المريخ
أو عطارد. أم تراه جاء من العدم، خلافاً لنظرية (لافوازيه). وإذا لم يكن شعب
فلسطين موجوداً، فكيف أمكن أن نكون في هذا المكان، وأن تكون هذه المحكمة
والأسباب المنعقدة من أجلها قائمة..؟ وأما (كدر) الملايين أيها السادة، وأما
(السعادة) التي قطعت على أصحاب (السعادة) فتلك أمور لا شأن لهذه المحكمة
ببحثها، ولا للنيابة العامة حق التعرض لها. وإذا كان لا بد من الخوض في أمور
كهذه، فلنقل بأن (سعادة) تلك الملايين التي قطعت للحظات يقابلها (شقاء) متصل
لملايين أخرى تعيش مأساة رهيبة منذ سنين عديدة. وإذا كانت الملايين السعيدة لا
تأبه لشقاء الملايين التعيسة، فكيف يتأتى لنا أن نطالب هذه الأخيرة بدورها، أن
تأبه لسعادة غيرها..؟ لماذا يجب أن يهمها ذلك؟ ألا ترون أنها معادلة صعبة؟ وإذا
كنتم، أيها السادة بحاجة إلى شواهد من وسط (حضاري) لا تملكون إنكار قيمته
الحضارية، لأنه أحد معالمها فذلك هو المؤرخ “تويبني” الذي يقول بأن على كل فرد
غربي أن يكون مستعداً لدفع قطرات من دمه، تكفيراً عما لحق بالفلسطينين من غبن
وأذى، لأنه -ذلك الغربي- ينتمي إلى الأمم التي أسهمت في صنع مأساتهم. وهو لم
يصنع شيئاً ولو برفع صوته استنكاراً.
أجل أيها السادة.
إن أولئك الذين استهجنوا أن تقطع عليهم متعتهم للحظات، هم أنفسهم الذين تجاهلوا
شقاء أولئك دهراً بطوله، ناهيكم عمن أسهم في صنعه من بينهم.
يتريث قليلاً
فيبادره القاضي:)
القاضي
: هل قلتم كل
ما عندكم؟
محامي الدفاع
: هناك الكثير
مما أود قوله حول الأمور الأخرى التي تعرّض لها حضرة النائب العام، لكني لن
أفعل فقد سبق الحديث فيها. غير أني أرجو لفت أنظاركم، والجمهور هنا (ملتفتاً
نحو الجمهور مشيراً بيديه) أيضاً في مغزى طلبه منع موكلي من الكلام.. مجرد
الكلام. فهذا مؤشر واضح على مدى تحقق الديمقراطية وشيوع الحرية في بلاد الحضارة
الغربية..!
ما إن يجلس حتى يهب
عدد من الحضور منددين بطلب النائب العام، مطالبين بحرية الكلام للجميع. عندئذ
يقف آخرون، ولكنهم قلة، مؤيدين مطلب النائب العام).
القاضي
: (يطالب
بالصمت والتقيد بالنظام) أطالب السيد محامي الدفاع بالتزام الموضوعية، وعدم
إثارة قضايا جانبية كالتي تحدث عنها. كما لا بد أن أعلن أننا لا نوافق على ما
ذهب إليه بشأن الحرية والديمقراطية والحضارة الغربية.
يصمت قليلاً. يتحدث
إلى زميله على المنصة همساً)
ثم موجهاً كلامه
إلى نضال)
أعتقد أنه من
الأجدر بنا ألا نضيع مزيداً من الوقت فيما لا طائل وراءه.. والآن تكلم أيها
السيد في الوقائع الأخيرة لما جرى هنا..
نضال
: سأتكلم..
ولكن من البداية. أي عما سبق الأحداث الأخيرة. فهذه الأحداث حصاد ذلك الزرع.
القاضي
: (يزم ما بين
حاجبيه.. ويرفع النظارات عن عينيه)
حصاد وزرع.. عمّ
تتحدث..؟
نضال
: (في شيء من
التهكم) معذرة، ربما خانني التعبير في الإتيان بمثل لا تفقهونه.
إذن لأقول بأن
المقدمات تعطي نتائج من نوعها. سأتكلم عما حدث، منذ البدايات.
القاضي
: لا تعنينا
تلك البدايات الخاصة بك. وقتنا لا يسمح- كما سبق أن قلت لك- باستعراض الأمور
على النحو الذي تريد.
نضال
: ولكن وقتي
يسمح وأنا لست في عجلة من أمري..
القاضي
: ليس وقتك أنت
الذي يهمّ..
نضال
: كل ما يتعلق
بي -أعني بنا- ليس مهمّاً في نظركم مع أن الذي أريد قوله هو الذي سوف يميط
اللثام عن وجه الحقيقة. هذا إذا كنتم تبحثون عنها..!
القاضي
: الحقيقة
البيّنة تقول /أنك وزملاءك هؤلاء أزهقتم أرواحاً بريئة.
نضال
: يا سيادة
القاضي إننا نحن المتخلفون -كما تروننا على الأقل- لانعالج الأمور بمثل هذه
السطحية. وعلى هذا النحو من الانحياز المسبق للظلم على حساب العدل وحقوق
الإنسان، التي لا تفوتكم مناسبة دون الحديث عن حرصكم عليها.. بل تقديسها.. ولكن
هذا أيضاً مؤكد حقيقة أنكم تكيلون بأكثر من مكيال واحد.
القاضي
: سأتجاهل
الكثير مما تهذي به. أسألك تحديداً: ألم تزهقوا تسعة أرواح بريئة عن عمد وسبق
إصرار؟
نضال
: ألا تدلُّ
صيغة هذا السؤال على صحة ما أقول، حتى من وراء منصة القضاء.. هل تعرفون، يا
سادة، من هو مدرب الفريق الإسرائيلي، ذاك الذي قتل..؟
القاضي
: وكيف لي أن
أعرف سوى أنه رياضي في الفريق الإسرائيلي..؟
نضال
: لكني أنا
أعرف.
القاضي
: (هاتفاً)
بالطبع أنت تعرف.. لأنك كنت تنوي اغتياله..!
نضال
: لتكن حليماً
بعض الشيء، يا سيدي. كان ذلك حين كنت في السادسة من عمري.
القاضي
: (مذعوراً) في
السادسة من عمرك؟ أتظننا يا هذا سوف نستمع إلى سخافات تسردها على مسامعنا عن
حياتك منذ طفولتك؟ أي شيطان أحمق هذا الذي يوحي إليك بأننا سوف نقبل منك ذلك.
نضال
: (كاليائس في
ألم بالغ) هذه هي مشكلتنا تماماً. ما من أحد يريد أن يسمع. ما نقوله نحن لا بد
أن يكون سخفاً.. مأساتنا من أولها لآخرها هراء.. المذابح التي وقعت علينا نكتة.
دماؤنا التي أريقت لو جمعت في مكان واحد لأمكنها أن تصنع بحيرة، أو نهراً
يجري.. هذا كله لا يعني لأحد شيئاً. أما تسعة (أبريائك) فتقيمون الدنيا ولا
تقعدونها من أجلهم. هؤلاء، بالمقارنة السالفة الذكر، لا تملأ دماؤهم برميلاً
واحداً من أصغر الأحجام..!
القاضي
: (مقاطعاً
بانفعال ومشيراً إلى الجمهور ومن حوله بيديه).
هل سمعتم، أيها
السادة، هل سمعتم مثل هذا الاستخفاف بالجريمة؟ برميل من الدماء البشرية لا يعني
في نظره شيئاً..
نضال
: أستغفر الله،
يا سيدي.. برميل الدماء هذا يعني كل شيء.. لأنها دماؤهم.. ونهر دمائنا نحن هو
الذي يجب ألا يعني شيئاً..!
القاضي
: (يتظاهر
بالصبر) لا بأس.. سأحاول، مرة أخرى، أن أتحلّى بضبط النفس إزاء حماقاتك.. المهم
أن تتكلم..
نضال
: كنت في
السادسة يومئذ أقبع إلى جوار أمي، بعد أن تناولنا عشاءنا المعتاد من زيتون
وزعتر وشاي. صحوت فجأة على صوت أمي تصرخ فيما هي تهزني بكلتا يديها في فزع..
نهضت.. فركت عيني..
القاضي
: (يضرب كفاً
بكف) يحدثنا عن فركه لعينيه..! تصوروا..! وماذا يهمنا أيها السيد حتى لو لم تكن
لك عينان على الإطلاق..!!
نضال
: (كأنه لم
يسمع تعقيب القاضي. يسرح بعيداً.. يحدق بصره في السقف مستعيداً الصورة وهو يروي
لهم..)
الفصل الأول
المشهد الثاني
أبواب دور عتيقة
لقرية فلسطينية. البيوت تطل على ساحة صغيرة. أصوات رصاص وانفجارات. أصوات صرخات
وصيحات مكتومة تأتي من بعيد. ثم صوت امرأة من وراء أحد الأبواب. يفتح الباب
فتظهر امرأة صغيرة وفراش. الأم مذعورة توقظ الأولاد بيديها وصراخها. فيصحو غلام
في نحو السادسة وبنت في نحو التاسعة. وتحمل الأم طفلاً في حضنها. تصيح بهم في
ذعر.”.
المرأة (أم نضال):
(تصيح) قوموا يا أولاد.. قوموا اليهود هجموا على البلد.. وأبوكم ما رجع من
الحراسة.. يا سميحة.. يا نضال.. قوموا يمّه..
نهض الولد
مذعوراً.. ثم البنت.. حائران بين الحلم واليقظة تهيب بهما فيما هي تنهض.. وتصيخ
السمع للضجة البعيدة وكأنها تقترب منهم..).
خذي أخوكي يا
سميحة.. اهربوا لبيت جارتنا أم العبد.. يا لله يمّه اسبقوني وأنا لاحقتكم..
يخرجان.. يركضان في
الساحة.. تقف عند الباب ترقبهما في ارتياح ما تلبث سميحة أن تتعثر.. تفلت من
يدها نضال.. تسقط..
يواصل هو جريه دون
أن يشعر.. تصيح بها الأم..)
يا سميحة.. مالك يا
سميحة.. الحقي أخوكي يمّه.. الله معك.
تنهض سميحة لتركض..
في هذه اللحظة تصاب برصاصة.. تسقط مجندلة على الأرض. تهرع إليها الأم دون وعي
شعرها منكوش، بملابس نوم قروية. تنقض عليها.. تجثو على ركبتيها تحاول أن ترفعها
إلى صدرها.. يتحشرج صوت سميحة. في حالة نزع واحتضار..)
الله يجازيكم..
الله يجازيكم يا كفار.. يا أبو نضال.. وينك يا أبو نضال.. (تتذكر الولد.. تنهض
كالمجنونة.. تنكبّ على صدرها باكية.. ثم تنهض لتهرول نحو الخارج.. لا تدري
أتلحق بالولد أم تعود للبنت).
راح الولد.. يا
خراب بيتي.. وراحت البنت.. يا مصيبتك يا خراب بيتك يا صفية.
يختفي المشهد ليظهر
زقاق من القرية.. وشجرة كينا.
ثم ما يلبث أن يظهر
عدد من اليهود الهاجاناة مسلحين برشاشات.. يجرّون امرأة من شعرها وتحت إبطيها
وهي حامل كما يبدو من بروز بطنها. ترتجف هلعاً بين أيديهم.. تصرخ وتصيح مرتاعة)
المرأة (الحامل)
: (في ضراعة)
اتركني ياخواجة.. أنا امرأة مسكينة مالي حدا.. يا خواجة ما لكم ومالي.. أنا ..
(تتقطع أنفاسها رعباً).
جندي أول
: (فيما هو
يشدّها ويسخر منها) خايفة ياست؟ لا تخافي.. لا تخافي.
جندي ثاني
: (صائحاً)
خلّصونا ما عندنا وقت.
جندي ثالث
: (يصوب
بندقيته إليها صائحاً بزميله) اتركها يا مردخاي.. ابتعد عنها.. سأريحك منها.
الجندي الأول
: (متريثاً)
طولوا بالكم.. طولوا بالكم..
الجندي الرابع
: (متعجلاً)
معلمنا بيغن قال اقتلوا كل الناس لا توفروا أحداً.. لعلكم نسيتم..
الجندي الأول
: (يهتف) قصدي
نتسلى.. اسمعوا وجدت لكم تسلية يا سلام..!
الجندي الثالث
: (في انفعال)
هذا وقت التسلية يا مردخاي..؟
الجندي الأول
: (كالمكتشف
لشيء هام) ترون أنها حامل.. لماذا لا نرى ما في أحشائها.؟
الجندي الرابع
: (ضاحكاً في
عربدة) ستولدها يا صاحبي.. ستشتغل مولدة من اليوم..!
الجندي الأول
: (مباهياً)
سترى كيف يا شلومو.
الجندي الثاني
: ونراهن على
جنس المولود ما رأيكم..؟
(يضجّون
جميعاً في ضحك صاخب يخبط بعضهم الأرض بقدميه. يخرج واحد منهم قطعة نقود يقذفها
إلى أعلى ثم تسقط.. يتصايحون، فيما المرأة قد جمدّها الرعب فكفت عن المقاومة في
قنوط.. ثم تهاوت على الأرض وهم ما برحوا يتصايحون...)
الجميع
: (يتتابع)
ولد.. بنت.. ولد.. بنت
الجندي الأول
: (وإذا كان لا
ولد ولا بنت..!
الجندي الثاني
: (ضاجّاً
بالضحك) يعني عجل أم خروف سيكون..!؟0
الجندي الأول
: يمكن توأم..
الجندي الثالث
: نخسر كلنا..!
الجندي الرابع
: (يرفع يده
إلى أعلى معلناً) أنا من يقوم بالعمل لكي يسجله لي التاريخ..!
يشرع حربة لامعة.
يضع رأسها عند بطن المرأة التي كفّت عن الحركة تماماً وأسبلت عينيها كما لو
كانت ميتة. يدفع بالحربة في بطنها بكل قوته يسحبها إلى أعلى ثم إلى أسفل.
تطلق المرأة صرخة
مدوية مرعبة.. يتكَّومون حول كتلة اللحم.. يتفحصونها وهم يتصايحون في ابتهاج)
الجميع
: (في تتابع):
ولد.. لا بنت.. لا ولد.. ولد.. ولد.
أحد الجنود
: (يصيح جذلاً)
كسبت الرهان يا أولاد.. كسبت الرهان.
الآخرون
: (بأصوات
عالية صاخبة) كسبت الرهان يا خنزير.. عليك اللعنة يا اسحاق.
ينصرفون في جلبة.
يسود الصمت لحظات. المرأة جثة هامدة ملقاة على الأرض. الطفل فوق جثتها. أصوات
الرصاص والانفجارات ما زالت تأتي من بعيد)
تظهر مجموعة ثانية
من الهاجاناه. يجرون امرأة أخرى وغلام في السادسة ملتصقاً بأمه. تقاوم.. تصرخ،
يطل الرعب من عيني الغلام.. فيما هم يتصايحون مبتهجين).
في توسل وهي تبكي
بحرقة.. متشبثة بابنها)
المرأة (أم وليد)
: يا خواجة
الله يخليك.. لا تقتلوني ما له غيري.. قتلوا أبوه في البيت خلوني أنا حتى
أربيه.. خلوا عندكم رحمة يا ناس..
جندي
: (بشراسة) مات
أبوه؟ في ستين داهية من الثوار أبوه.. بيستاهل..
المرأة
: (في مزيد من
الضراعة والاستعطاف) طيب اتركوني للطفل يا خواجة.. أنت ابن حلال (وهي تنظر
لأحدهم) الله يخلّي لك أهلك يا خواجة..
الجندي
: (يتظاهر بأنه
يستجيب لها) يعني خايفة على الولد من بعدك..؟ طيب لن نقتلك.. اهدأي.. لا تخافي..
جندي ثاني
: (يصيح به)
ممتاز يا شيمون.. ممتاز.. جئنا نلعب..
الجندي الأول
: (يغمزه
ليصمت) طول بالك يا رفائيل.
الجندي الثاني
: والوقت..
عليكم اللعنة..
جندي ثالث
: يوجد غيرها
كثير.. أمامنا عمل.. إذا أضعنا مثل هذا الوقت مع كل واحد أو واحدة.. اقتل
وامشِ.. هكذا التعليمات.. أنت وهو.. (ينتحي ثلاثة من بينهم ليتشاوروا ماذا
يصنعون بالمرأة وولدها فيما الرابع بالقرب منها يحتال عليها لتهدأ.)
جندي
: تقولين أنك
خايفة على الولد.. معك حق.. طيب لن نقتلك من أجل الولد..
المرأة
: كتّر خيرك يا
خواجة.. كتر خيرك..
يستلّ أحدهم خنجراً
ويتجه نحوها بخطوات واسعة لينقض عليها كالوحش.. فيما يمسك بها أحدهم واثنان
يمسكان بالغلام يمددانه على حجرها.. ذهلت.. جحظت عيناها.. حاولت تخليصه من بين
أيديهم.. انقض حامل السكين على الغلام ليذبحه من الوريد إلى الوريد.
ابتعدوا عنها
فجأة.. خرست المرأة. وقامت كإنسان آلي.. يداها ممدودتان.. عيناها شاخصتان في
الفراغ.. تمشي ببطء.. تدور حول نفسها.. تدور تدور.. حتى تسقط على الأرض..).
الفصل الأول
المشهد الثالث
تظهر قاعة المحكمة.
كما هي عند بداية حديث نضال في نهاية المشهد الأول. نضال مغمض العينين.. وجهه
نحو السقف.. يبدو عليه الإعياء. الصمت والوجوم يسودان القاعة).
القاضي
: وأين كنت أنت
في هذه الأثناء إذا كان هذا صحيحاً؟
نضال
: (يتنهد
عميقاً ويستأنف حديثه) كنت مختبئاً فوق الشجرة أرقب ما يحدث متجمداً تماماً في
مكاني.. لا أجرؤ على البكاء أو الحركة.. تصوروا ابن السادسة يشهد بعينيه هذا
الذي حدثتكم عنه. وليد الصغير كان رفيقي في المدرسة. لعبنا ظهيرة اليوم السابق
معاً، وأولاد مثلنا تحت الشجرة ذاتها أولاً ثم في الساحة أمام منزلنا. المرأة
كانت أم وليد جارتنا صديقة أمي. حتى شقيقتي نسيتها في تلك الأثناء . صدقوني أني
حتى هذه اللحظة لا أعلم ماذا حلّ بها.. كذلك أمي.. وكذلك سائر أهل قريتي. كان
ذلك آخر عهدي بهم جميعاً. وعلمت فيما بعد كما علم الناس تفاصيل ما جرى.. بقية
القصة. النساء اللواتي جررن في الشوارع.. ثم جردن من ملابسهن ليعرضن في أزقة
القرية أمام متفرجين من يهود المستعمرات القريبة.. ثم ألقي بهنّ واحدة واحدة،
وهن على قيد الحياة في بئر القرية.. قصة الرجال الذين صُفّوا على الجدران
لينهال عليهم الرصاص فيبادوا. وآخرون قطعت أوصالهم وتركوا ينزفون حتى الموت.
القاضي
: (صائحاً)
كفى.. كفى..
النائب العام
: (ينتهز
الفرصة فيهب واقفاً ليقول بلهجة تحريضية).
هل يعقل أن يحدث
هذا، أيها السادة؟ إن هذا الشاب، رغم أنه عربي، يتمتع بمخيلة خصبة.. ألا ترون
أنه قاص بارع؟ لقد روى لكم حكاية من صنع خياله. أرى أنها أثرت في مشاعر بعضكم
النبيلة. ولو كان هذا الذي قاله صحيحاً لما فاتني أن أتأثر مثلكم أيضاً.
ولكن هل يعقل أن
يصدر هذا عن أناس متحضرين مثل الإسرائيليين..؟
القاضي
: لا أعتقد ذلك..!
النائب العام
: تلك الدولة
هي واحة الديمقراطية في تلك المنطقة..
محامي الدفاع
: أستميح سيادة
القاضي عذراً لأقول بأن حكام (واحة الديمقراطية) اليوم هم أنفسهم مجرموا الحرب
الذين قاموا بالأعمال التي عرض موكلي جزءاً منها فقط. ذلك الجزء الذي عاشه هو
شخصياً.. فما بالك بما لاقاه شعب بأكمله وهذا الموكل ليس سوى واحد من أبنائه.
هؤلاء، للأسف الشديد، أضحوا الآن وبمقاييس عالم اليوم قادة وزعماء تقام لهم
الاحتفالات وعروض الشرف في حلهِّم وترحالهم، يحظون بمظاهر التكريم والحفاوة، في
حين كان ينبغي أن يحاكموا وأن يلقوا القصاص العادل جرّاء ما اقترفت أيديهم.
النائب العام
: (محتجاً
بانفعال) ولكن هذا الذي يدعيه محامي المتهم لا يعترف به أحد. وهذه الدولة
(إسرائيل) تحظى اليوم بالاحترام والنفوذ في كل مكان من العالم المتحضر..!
محامي الدفاع
: يجب أن نعترف
بأنكم انتصرتم بدعايتكم المضللة. كما انتصرتم على الحقيقة بقدراتكم الخارقة على
إخفائها عن أعين العالم برمتّه. التعتيم المطلق على ما تصنعون وهو كبير وشامل،
والتضخيم لأتفه الحوادث التي تصدر عنا، وهي في معظم الأحوال ردَّة الفعل فقط.
النائب العام
: (محتجاً
بخبث) ولكنك تخاطبني وكأنك نسيت موقفي.. أنا لست تلك الدولة. أنا النائب العام
في هذه المحكمة، بصفتي مواطناً ألمانياً.
محامي الدفاع
: (ضاحكاً في
سخرية) على أية حال أنت تعرف ونحن نعرف إلى أين يتوجه الولاء والانتماء
الحقيقيان.
القاضي
: (حسماً لذلك
الجدال ولتوجيه الحديث وجهة أخرى).
ولكن قل لي يا
نضال. لو كان ما ذكرت صحيحاً تماماً، كيف أمكنك الخروج من تلك القرية؟
نضال
: لا تسألوني،
أيها السادة، كيف خرجت، لأني أنا نفسي لا أعرف. أين ذهب ذلك الغلام؟ كيف عاش..
في أي مخيم أو ملجأ.. ما أحسبكم، على أية حال، سوف تسألون، فهذا الجانب من
الحكاية (كما أسميتموها) هو الذي لا يهمكم.
القاضي
: أرأيت كيف
أصبحت تميز بين ما يهمنا وما لا يهمنا. أسألك الآن ما هي علاقة هذا كله
بموضوعنا الذي نحن فيه؟
نضال
: ألا ترى
علاقة ما يا صاحب السعادة؟ لو لم يأت هؤلاء إلى بلادنا في الأصل هل كنا الآن
جميعاً في هذه القاعة.. وهل كانت هذه القصة ستكون قائمة؟
القاضي
: ولكن هل فيما
ذكرت ما يبرر ذلك الذي فعلت أم أنك قرّرت أن تأخذ القانون بيديك فاحترفت
الإرهاب؟
نضال
: تطوعت من
تلقاء نفسي.. بل نذرت نفسي من أجل تحرير وطني، بعد أن صنعوا مني، هم أنفسهم هذا
الفدائي منذ تلك الليلة. أما مسألة القانون، فهذه مسألة أخرى. إن وجودهم هنا في
(ميونيخكم)، وبالصفة التي جاءوا بها ليس شرعيّاً في حد ذاته. مكانهم هذا كان
يجب أن يكون لنا.
القاضي
: (ساخراً)
ومسألة شرعية وجودهم هنا من عدمها تقررها أنت أيضاً؟
نضال
: بل العدالة
هي التي تقرر ذلك..
القاضي
: أنتم خرجتم
على الإجماع العالمي بضرورة توفير الأمن والسلام في مجال نشاط رياضي إنساني
كهذا؟
نضال
: ولكن هذا
الإجماع لا يشملنا. نحن خارج حدوده.. بل هو إجماع على الظلم حين يستظل بمظلة
هؤلاء. ونحن يوم وضعنا ثقتنا في المحافل الدولية، وما يسمى بالرأي العام
العالمي، وما إلى ذلك ضاعت حقوقنا. بل أمسينا مثاراً للسخرية. أكثر من ذلك
وصفنا بالجبن. والآن إذ نتحرك من أجل استرداد ما سُلبناه ورفع صفة الجبن عنا
نغدو مجرمين وإرهابيين.. وما لا أدري من تسميات تتفتق عنها أذهان أعدائنا
ويصدقها، بل يعتمدها على الفور عالم الغرب. ذلك العالم الذي لا يأخذ قضية مأخذ
اليقين إلا إذا أثبتت لديه علمياً أو توثيقياً. اللهم إلا في قضيتنا، فهم
يصدقون دون تدقيق أو تمحيص. حتى الخرافة التي تبثها أجهزة الإعلام المسخَّرة
لخدمتهم. هنا تضيع صورة العلم. أليس ذلك أمراً محيَّراً. قولوا لنا أنتم، أيها
السادة، ماذا كان يجب أن نفعل كي ننال الرضى ونحظى بالمباركة.
القاضي
: على فرض
اعتقادك بما تقول. ألم يكن حريّاً بكم التحلّي بضبط النفس..؟
نضال
: ولكن مقولة
(ضبط النفس) هذه هي التي جلبت لنا، نحن العرب جميعاً، ما لا حصر له من المصائب.
حتى كارثة 1967 كانت هذه المقولة واحدة من أركان مسبباتها.
القاضي
: ما قمتم به،
على أية حال، ليس الوسيلة المثلى لعلاج أي شيء.
نضال
: وما هي
الوسيلة المثلى في رأيكم.. التسليم بما جرى والموافقة عليه؟ أم إعلان ابتهاجنا
وسعادتنا لأننا قُتلنا واغتُصبت أرضنا وشرَّدنا في شتى أرجاء المعمورة..؟
القاضي
: لست في موقع
من يدلكم على ما تفعلون.
نضال
: ونحن لا
ننتظر ذلك من أحد..
القاضي
: إذن لماذا
تصر على الحديث في هذا الأمر هنا في هذه المحكمة غير المعنية بشيء منه.
نضال
: لأن هذا
المكان منبر أتيح لنا الحديث من خلاله عن مأساتنا. ولكي نعلن أيضاً ما تعملون
على إخفائه، وهو أنكم أنتم الذين قمتم بالقتل، وهم أيضاً. وليس نحن في كل
الأحوال.
القاضي
: (محتداً) ها
أنتذا تعود إلى هذيانك..
نضال
: يجب أن تقول
لي هذا لأن ما يجري هنا سوف يصل إلى الرأي العام. وهو جزء من حملة الإعلام.
لهذا أكرر، لكي يسمعنا العالم أيضاً، بأننا لو كنا نبغي القتل فما الذي كان
يمنعنا أن نفعل ذلك منذ البداية، أي فور دخولنا مقر بعثتهم..؟ ولماذا مدَّدنا
المهلة التي أعطيناها مرات عديدة؟ ألم يكن ذلك من أجل ألا نُرغَمَ على التصرُّف
بطريقة أخرى؟
القاضي
: ولماذا لم
تستمروا هكذا حتى النهاية؟
نضال
: بل ذلك هو ما
فعلناه تماماً. ولو أنكم استجبتم هنا لمطلبنا، وهو مطلب إنساني... ولو أنكم لم
تلجأوا، بتواطؤ معهم، إلى الخديعة هل كان يقع ما وقع؟ حتى في الموت تصرون على
التمييز العنصري؟
القاضي
: (كمن اكتشف
حقيقة كانت غائبة) ولكنك تتناسى أنكم قتلتم المدرب الإسرائيلي منذ البداية. إذن
كان القتل في نيتكم أصلاً. هذه قرينة لا يمكنكم دحضها.
نضال
: المدرب.. هل
تعرفون، يا سيادة القاضي. من هو ذلك المدرب؟
القاضي
: ليس يهمني أن
أعرف من هو تحديداً، يهمني أن أعرف من قتله.. من بينكم؟ لعله أنت.
نضال
: أنا.. أجل
أنا..
أعضاء هيئة المحكمة
تعتريهم الدهشة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكذلك من في القاعة)
القاضي
: (بسرور) آه
ها أنتذا تعترف أخيراً. لقد وصلنا إلى النتيجة. كان عليك أن تنطق هذه العبارة
الجوهرة من قبل لتريحنا من عناء كل ما مضى. ولكن.. اشرح لنا كيف حدث ذلك..
نضال
: (وهو ينظر
إلى بعيد يستذكر ما حدث)
حين دخلت القاعة
التي تواجدوا فيها، مشهراً سلاحي، منذراً من يتحرك بالقتل. ذعروا واستكانوا
جميعاً إلا واحداً منهم لم يرضخ للأمر. اندفع نحوي، وفيما هو يقترب فوجئت بما
لم أكن أتصور. الوجه ليس غريباً عني.. مرسوم في ذاكرتي منذ تلك الليلة
السوداء.. كان المدرب الإسرائيلي، هو نفسه، ذلك الذي بقر بطن المرأة في دير
ياسين..
القاضي
: يبدو أنك
تعاني من عقدة نفسية، أو مرض عقلي. قل لي يا هذا. لماذا لم تعمد إلى العمل في
التجارة أو أية حرفة أخرى في البلد الذي لجأت إليه، وتقنع بحياة عادية توفرت لك
هناك، عوضاً عن ممارسة الإرهاب.
نضال
: مازلتم تصرون
على دمغنا بالإرهاب. حسناً إنهم لم يدعونا نعيش في سلام أبداً. حتى بعد الخروج.
كانوا دائماً وراءنا في كل مكان. يعملون على الكيد لنا وتضييق السبل في وجوهنا،
وإيقاع المزيد من الأذى بنا، دون استبعاد القتل، وتدمير الممتلكات. حتى إمكانية
العيش بهدوء، مع مأساتنا، لم تتوفر لنا. حالو بيننا وبينها. وكان لهم في ذلك ما
أرادوا. ونحن بدورنا سوف يكون لنا ما نريد. سوف نعمل على تحويل حياتهم إلى
جحيم. أبناء ضحايا الأمس هم فدائيو اليوم. وأبناء شهداء اليوم الراهن هم فدائيو
الغد الآتي..
النائب العام
: (بلهجته
التحريضية إياها) إنه يتوعد.. ويتحدى..
القاضي
: (مقاطعاً
ومتجاهلاً) لكأنك واثق من أنك سوف تخرج من هنا بحكم براءة..
نضال
: (ساخراً) لم
لا؟ ولكني لا أطمع في مثل هذا العدل.. بيد أنني لست كل الشعب الفلسطيني..
القاضي
: تقصد...
نضال
: أقصد أجيالنا
اللاحقة. تلك الأجيال التي ستصنع المصير.. ومصير أعدائنا على حد سواء.. ما نعجز
عنه بحكم الظروف الراهنة سيتمكنون هم من تحقيقه، فالظروف لا تبقى على حال.
لدينا -يا سادة- حكمة تقول: دوام الحال من المحال.. و.. ماضاع حق وراء مطالب..
النائب العام
: (مستهزئاً)
ولديكم مثلٌ أيضاً. يقول: عشم إبليس في الجنة..
نضال
: (بتحدٍ) لو
أمعن حضرة النائب العام الفكر لوجده ينطبق أكثر على حالة الطرف الآخر إذا كان
يحلم باستمرار الوضع القائم لصالحه على ما هو عليه. فلا الوضع الدولي سيبقى كما
هو.. ولا الذين يدعمونهم ويقفون إلى جانبهم سوف يواصلون ذلك على مدى الزمن.. من
يضمن هذا بل إن نذر التغيير وتبدل اتجاه الرياح تبدو في الأفق لا ينكرها سوى
عُمي البصيرة والبصر..
القاضي
: (في ضيق
واستعجال) حسناً.. حسناً، ولكن لماذا لم تقبلوا الفدية المالية التي عرضت
عليكم، وهي ضخمة فيما أعلم. لماذا لم تقبلوا إطلاق سراح الرهائن مقابل تلك
الفدية.. ألم تكن تلك صفقة رابحة؟
نضال
: لأننا لا
نفهم منطق الصفقات في قضايا الأوطان. ببساطة لأننا لسنا قراصنة.
القاضي
: لم تقبلوا
أيضاً بمحاولات الوساطة.
نضال
: لأن الوساطة
والتوسط وما إليهما كانت من أسباب نكبتنا، التي كان لكم، معشر الغربيين، الفضل
فيها.
القاضي
: (محتداً)
لأنك تصر على التمادي في عدم احترامك للمحكمة فقد أضطر لمنعك من الكلام.
نضال
: (ساخراً)
وهذا حق آخر من حقوق الإنسان يغتصب جهاراً نهاراً..
القاضي
: أتمنى لو أنك
كنت تتحلى بأخلاق أفضل..
محامي الدفاع
: (يطلب الإذن
بالكلام)
إنكم، أيها السادة،
حين تتحدثون عن الأخلاق تنسون، على الأقل، أن المعيار الأخلاقي لا يمكن أن يكون
له أكثر من وجه ويظل، رغم ذلك، أخلاقياً, فحين يقع حادث لنفر منهم، بل لواحد
منهم، تقوم القيامة وينتصب الميزان، وحين تكون الضحية شعب فلسطين بأسره لا
تحركون ساكناً. تتجاهلونه تماماً وكأن شيئاً لم يحدث. أنتم تنسون الوجه الآخر
للقضية كما قال موكلي. تنسون مثلاً، أن هؤلاء الذين يحلمون عليهم من أبراجكم
العاجية أو المخملية -لا أدري- هم بشر أيضاً، وإن كانوا لا يحلمون بأكثر من
العيش في سلام، في الأرض التي يملكون. لم يبق لهؤلاء أيها السادة إلا التراب
يتوسَّدونه بعيداً عن وطنهم. لم يبق للأمهات غير الثكل، وللزوجات سوى الترمُّل،
وللأطفال إلا اليُتم. لا يملكون أحياناً قطرة الماء، وليس الويسكي الذي يدلق
على أقدام الغانيات في مرابع الغرب الحضارية. كيف تنتظرون ممن اغتصب حقوقهم
الإنسانية أن يقيموا وزناً لأخلاقياتكم وقيمكم ذات الألف وجه. ثقوا أيها
السادة، أن لهؤلاء الرجال من القيم الإنسانية والأخلاقية ما لا يتمتع به الكثير
ممن يدَّعون الغيرة عليها. بل إن إنسانيتهم وحدها هي التي جعلت منهم ضحايا
التاريخ المعاصر. فهل بعد هذا من مأساة للأخلاق في هذا العالم أدعى للحزن..؟
يجلس محامي الدفاع
في ما يصفق له عدد ممن في القاعة)
النائب العام
: (متظاهراً
بالغضب) إنني أحتج أيها السادة، ويا حضرات القضاة. إن ما ورد في مرافعة محامي
الدفاع يتضمن إهانة لهيئة المحكمة الموقرة. لهذا فإني أطالبه بسحب ما جاء في
كلمته من عبارات غير لائقة.. ومعلومات غير واقعية..
ترتفع في القاعة
أصوات مؤيدة لطلبه)
محامي الدفاع
: (بهدوء وثقة)
غير لائقة من وجهة نظر من؟ وفي حق من؟
صخب في القاعة
وحركات أيدي وأصوات)
القاضي
: (يضرب على
الطاولة)
نعود لوقائع
الجلسة(ثم ناظراً إلى نضال) قل لنا أيها السيد، لماذا اخترتم ميونيخ
تحديداً...؟
نضال
: إننا ننوي أن
نطاردهم في كل مكان نعتقد أنه في الأصل، مكاننا نحن.
القاضي
: (تبدو عليه
الحيرة) في كل مكان تعتقدون أنه مكانكم... هل ميونيخ مكانكم أنتم؟ أهي بلدكم
أيضاً؟
نضال
: ليست بلدنا،
وما نتمنى أن تكون..
القاضي
: لهذا اتخذتم
منها مسرحاً لجريمتكم النكراء..
نضال
: (ساخراً) في
حق أبريائكم التسعة.. (يمط كلمة أبريائكم)
القاضي
: (في انفعال
وغيظ مكتوم) استهانتك البغيضة هذه تكفي لإدانتك.
نضال
: نعرف أن
الإدانة المسبقة والمقررة سلفاً في جيب سعادتكم. الذي لا نعرفه فقط هو.. في أي
جيب من جيوبكم هي..
القاضي
: (مهتاجاً)
هذا كثير، ولسوف أعمد إلى استخدام سلطاتي القضائية بحقك..
نضال
: يؤسفني أن
أثرت غضبك، سعادة القاضي، ولكن هل لي أن أتساءل عن موقف المحكمة الموقرة من
مصرع المئات في مخيمات الفلسطينيين بلبنان بفعل الطيران الإسرائيلي في اليومين
الأخيرين، بأوامر دولة -أو هكذا تعتبرونها- عضو مسؤول في هيئة الأمم المتحدة
بدعوى الانتقام للحادث ذاته..؟
القاضي
: (يتنحنح
والحرج بادٍ عليه)
ذلك موضوع آخر...
نضال
: (في استغراب)
كيف يا سيادة القاضي.؟
القاضي
: (في مزيد من
الحرج) ذلك انتقام له ما يبرره.. وقد يكون مشروعاً..
نضال
: ولماذا لا
يكون انتقامنا نحن مشروعاً أيضاً.. وله ما يبرره..؟
القاضي
: (وهو يطوي
ملفاً أمامه ويهم بالنهوض)
هذا موضوع آخر...
نضال
: (يرِّدد بصوت
خافت)
هذا موضوع آخر...
النائب العام
: (يطوي أوراقه
ويهم بالنهوض)
هذا موضوع آخر...
محامي الدفاع
: (يقف مردداً
بصوت منغَّم)
هذا موضوع آخر...
الجمهور في القاعة:
(يهبون وقوفاً وبأصوات متباينة)
هذا موضوع آخر...
القاضي
:(بين الضجة
القائمة) ترفع الجلسة حتى يوم.. /.. /..
ثم يجلس وهو
يردد).. هذا موضوع آخر...
الفصل الثاني
المشهد الأول
المشهد ذاته عند
بداية الفصل الأول، مع فارق: -ظهور حرس أكثر في القاعة ببزَّات رجال الأمن لا
سيما عند الأبواب والنوافذ.))
جمهور النظارة أكبر
ومن أعمار مختلفة من الجنسين.)
القاضي
: (يلقي نظرة
على من في القاعة. ثم على عضوي المحكمة عن يمينه ويساره. ثم يتفرس للحظات في
وجوه الفدائيين(في القفص). يتنحنح ويضع النظارات على عينيه. ينظر في ملف أمامه.
يعقد ما بين حاجبيه يهم بالكلام)
المتهم الثاني.
خالد.. اسمك الكامل..؟
خالد
: مسجل لديكم.
القاضي
: (متأففاً) ها
قد عدنا لمهزلتكم.. اسمك الكامل.. أجب على سؤال المحكمة يا هذا..
خالد
: وأي فرق سوف
تحدثه معرفة اسمي.. سموني ما شئتم.. فلن أكون سوى ذلك الإرهابي في رأيكم.،
كائناً من أكون ما دمت عربياً.. فلسطينياً..
القاضي
: (في ضجر) ألا
تعتقد أننا في مثل هذه المحكمة يجب أن نسأل المتهم عن اسمه كإجراءات قضائية..
ونعني اسمك الحقيقي وليس الحركي.
خالد
: (يغني) آه يا
يوم مولدي.. آه يا أيها الشقي..
القاضي
: (يرفع حاجبيه
في دهشة. همهمة في القاعة. يهم النائب العام بالحديث. لكن خالداً يسبقه إلى
الكلام)
خالد
: حسناً.. اسمي
خالد قاسم.
القاضي
: (في ارتياح)
آه هذا أفضل.. هذا أفضل.. هه.. بلدك..؟
خالد
: بلدي فلسطين.
القاضي
: (مصححاً)
تعني إسرائيل..
خالد
: (بأصرار) بل
فلسطين.
القاضي
: تعني ما كان
قبل عقدين أو أكثر من الزمن.
خالد
: أعني ما كان
على مدى التاريخ. بل قبل أن يكتب التاريخ. عقدان من الزمان لا يلغيان الحقب
والدهور.
القاضي
: لكن هذا هو
اسمها الرسمي الآن.
القاضي
: لكننا لا
نعترف بغير اسمها الذي نعرف. أسماء الأوطان لا تتغير بمثل هذه السهولة. هل
أستطيع أنا، لو شئت، أن أغير اسم برلين إلى ميونيخ وتقبلون مني ذلك؟.
النائب العام
: (يطلب
الكلام) إن هذا المتهم، يا حضرات القضاة، كزميله الآخر سوف يعمد إلى المراوغة
هادفاً إلى تضييع الوقت.. وقت المحكمة. ليصرفها بالتالي عن مهمتها. ها هوذا
يجادل في الاسم المسجل لدولتنا في هيئة الأمم المتحدة.
خالد
: (مقاطعاً)
ولكننا لا نُعنى بما فعلته الأمم المتحدة إلا بقدر ما أوقعت بنا من أذى. سنذكر
لها دوماً ذلك الجميل.. تقسيم بلادنا أولاً.. تغيير اسمها ثانياً. ثم التواطؤ
على البقية الباقية منها، فضلاً عن تشريدنا تحت كل سماء.
النائب العام
: (بلهجة
تحريضية) ألا ترون أنه يتطاول على مقام الهيئة الدولية الأعظم في عصرنا، وعلى
القانون الدولي أيضاً..؟
خالد
: (متجاهلاً
إياه وناظراً باتجاه المنصة) أي هيئة هذه التي أعطت لنفسها الحق بالتآمر على
مجموعة من البشر كي تسحب أرضهم من تحت أقدامهم.. لتقديمها لقمة سائغة.. هدية
للغرباء.. من خولَّها ذلك الحق..؟ وصاحب الأرض والحق لم يؤخذ رأيه، بل فرض عليه
ذلك فرضاً بمنطق السلاح والقوة. رفض وقاوم ومع ذلك أصرَّت على قرارها الجائر
وقدمت الدَّعم الماديَ والمعنوي لمعتدٍ.. لسارق..
القاضي
: (يقاطع
النائب العام الذي همَّ بالحديث) لننته من هذه المسألة، فكما أسلفت هذا ليس
موضوعنا.
محامي الدفاع
: (موضحاً) إن
موكلي، أيها السادة، يتحدث عما حلَّ بشعبه نتيجة لقرار تقسيم فلسطين. ذلك
القرار لم يكن إلا ظلماً فادحاً بتواطؤ عام بين الدول الكبرى من خلال الشرعية
الدولية الملفقة. ومن حق موكلي عدم الإقرار به. فمن ذا الذي يقرُّ بشرعية ظلم
يقع عليه؟
القاضي
: ولكن حضرة
محامي الدفاع ينسى فيما يبدو أن ذلك قد أقرَّ من قبل الأكثرية في تلك الهيئة.
محامي الدفاع
: اتفاق
الأكثرية على الظلم لا يجعل منه أمراً مشروعاً.. لا يكسبه مشروعية قط. وسيادتكم
إذا كنتم على شيء من الإطلاع، أقصد الاهتمام بالإطلاع على الشؤون الدولية، فلا
شك أنكم عندئذ تعرفون ما هي الوسائل التي اتبُّعت، من ترهيب وترغيب وتزوير
وضغوط مورست على أعضاء العديد من الدول لتغير مواقفها التي كانت في الأصل لصالح
الشعْب الفلسطيني، أي إلى جانب الحق، فتحولت في ربع الساعة الأخير إلى العكس
تماماً، أُجلت الجلسة أكثر من مرة وترتب على ذلك كل ما تبعه من سلسلة المتاعب
والحروب والمآسي.. ومازال هذا كله قائماً حتى الآن، بل ويزداد تفاقماً. اشتُريت
أصوات دول، أيها السادة، يؤمئذ. فكيف يصبح هذا الافتئات على حقوق الإنسان.. على
حقوق شعب كامل أمراً مشروعاً بالضرورة.. فقط لأنه صدر عن أكثرية، وأكثرية غريبة
وبعيدة لا علاقة لها بهذا الشعب كي تتولى أمر تقرير مصيره.
القاضي
: وهل يمكن أن
تُجمع دول على مثل ما تقوله؟
محامي الدفاع
: ذلك ما حدث.
القاضي
: ولكن إذا كان
هذا صحيحاً. لماذا لم يدافعوا عن موقفهم قبل أن يتم ذلك؟
محامي الدفاع
: كان شعباً
مغلوباً على أمره. أعزل من كل سلاح تحت حكم الانتداب البريطاني، الذي هيأ
الظروف للوصول إلى تلك النتيجة، حين وضع البلاد في ظروف تهيء لنشوء الوطن
القومي اليهودي، وإلى ما آلت إليه الأمور فيما بعد.
القاضي
: على أية حال
هذا كله خارج عن الموضوع الذي نحن بصدده.
النائب العام
: ما حدث
يومئذ، وما ترتب عليه من نتائج، وأياً كانت الظروف والملابسات بات الآن شرعياً
ودولياً. وليس لأحد الحق في الطعن فيه. الأمر الواقع القائم هو الأمر الواقع
المعترف به.
يحاول محامي الدفاع
أن يرد ولكن القاضي يوقفه بإشارة من يده)
القاضي
: حسناً.
استمعنا ما فيه الكفاية(ثم موجهاً كلامه إلى الفدائي خالد) لنعد إلى ما كنا فيه
إلى صلب القضية.
خالد
: ولكن اسمح لي
قبل ذلك أن أضيف، يا سيادة القاضي، أن هيئة الأمم هذه رغم كل شيء لم تعلن يوماً
إلغاء اسم فلسطين. العدو نفسه عمد إلى تطبيع إخفاء اسم فلسطين بالتعتيم عليه
بإنكاره، وفي نفس الوقت إبراز اسم إسرائيل كحقيقة وحيدة وأرى أنه يجب أن تربأ
محكمتكم هذه عن الانسياق في هذا الاتجاه.. وراء عملية التزييف، بل التزوير
الأكبر في التاريخ.. تحت مظلة الشرعية..
القاضي
: يبدو أنك لا
تقل ذلاقة لسان عن صاحبك الذي سبقك.. ما اسمه..؟ نضال..
خالد
: أنت الذي يرى
الأمر هكذا، يا سيادة القاضي. إنسان يدافع عن نفسه، الأمر الذي تقرُّه كافة
الأعراف والقوانين، يتحول عمله هذا أيضاً إلى تهمة عنوانها(ذلاقة اللسان)..
القاضي
: (في شبه
استنكار) تتكلمون دائماً عن أشياء غريبة.. وخارج الموضوع.. ميتافيزيقيون..!
أنتم هكذا..
خالد
: أليس ذلك
خيراً من أحادية النظرة عندكم؟ الرؤية بعين واحدة؟ ومن ثم فأنتم لا تعجبون إلا
بتلك النغمة الواحدة، ولا تريدون حتى مجرد الاستماع إلى غيرها، فأصبحت كأنها
الحقيقة. وفي خضم ذلك ضاعت الحقيقة نفسها.
القاضي
: (ساخراً)
ونحن ضد الحقيقة فيما ترى.. أليس ذلك ما تعنيه..؟
خالد
: تماماً..
القاضي
: (محتداً
وبصوت عال) ألا ترى أن هذه صفاقة أيها السيد؟
النائب العام
: (متدخلاً
وكأنه يشد أزر القاضي) هذا كثير. أطالب بأن يوقف عند حده هذا المستهتر بحرمة
القضاء في هذه البلاد. بل بنظامها الديمقراطي العريق أيضاً..!
خالد
: (موجهاً
كلامه للنائب العام في سخرية وحقد) لا أدري إن كان حضرة النائب العام نفسه يصدق
ما يقول..!
ضحك في القاعة..
تتحول إلى أخذ ورد بين فريقين -توشك أن تتحول إلى مشادة..)
القاضي
: (يضرب على
المنضدة بالمطرقة. ثم موجهاً كلامه للجمهور) أنتم طبعاً مستاؤون من إجابات هذا
المتهم اللامسؤولة..
الجمهور بين موافق
ومعترض.. تتعالى الأصوات يعاود القاضي تهدئتها بالضرب بمطرقته وبمناشدة الجميع
الصمت)
القاضي
: (متجهماً.
يقطب جبينه ليعيد الهيبة للمنصة. ثم ملتفتاً إلى خالد)
إذا لبثت مصرّاً
على أسلوبك هذا. ومنه إصرارك على المراوغة في إجاباتك فإنني لن أنتظر تلك
الإجابات. وسأسجل ما أراه ملائماً بالاستنتاج.. نحن لسنا على استعداد لإضاعة
مزيد من الوقت في هذه النقاط غير الهامة..
خالد
: أهذه نقاط
غير هامة يا سادة؟ فما هو الهام إذن؟ مصالحكم؟ قرارات المحافل الدولية التي
تسخرونها لخدمة تلك المصالح؟ بل تصنعونها حسب رغباتكم وتصوغونها لتوافق
أهواءكم؟ أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم..؟
القاضي
: (ساخراً)
يبدو أنك تجهل خريطة الجغرافيا السياسية العالمية. لو لم تكن كذلك لعرفت أننا
لسنا إحدى الدول الكبرى الدائمة في مجلس الأمن.
خالد
: لكنكم لا
تملكون إلا الاستجابة، إما لأنكم مغلوبون على أمركم، أو لأن لكم ذات التوجه حسب
القضايا أو القضية المحددة. فأنتم تنتمون إلى الحضارة ذاتها، تنهلون من النبع
ذاته، تحملون المفاهيم والقيم والأفكار ذاتها.
القاضي
: (يصمت
طويلاً.. مفكراً في الخروج من هذا المأزق) كم عمرك؟ آمل ألا تدخلنا في متاهة
جديدة نمضي فيها ساعات قبل أن نحظى بجواب.. برقم تذكره فقط، تحدد لنا فيه كم لك
من العمر..
خالد
: (ضائقاً
ذرعاً. مشيراً بكلتا يديه) لم لا تريحوننا من الشكليات أيها السادة، لم لا
تختصرون الطريق. أليس كل شيء مقرراً عندكم سلفاً..؟
القاضي
: الإجراءات
التي تحسبها مجرد شكليات لابد من استكمالها لإكساب الحكم صورته الشرعية.
خالد
: ضمن اللعبة
الدعائية للديمقراطية الشكلية. وهكذا تكون للشكليات مكانة القداسة. أن يقتل
البشر ظلماً وعدواناً ليس مهمّاً أو موضوعياً، ما دامت تلك الشكليات متقنة
الصنع والأداء..!
يخفت صوته وكأنما
يحدث نفسه في شبه همس مردداً)
ذلك الشاعر كأنه
كان يعنيننا بقوله:
قتل امرئٍ في غابة
جريمة لا تغتفر/ وقتل شعبٍ آمنٍ مسألة فيها نظر...
القاضي
: (وهو يشير
بيديه ضجراً.. وهو ينظر إلى الجمهور كالمعتذر)
لننته من هذه
المسألة. سوف نسجل.. سوف نسجّل.. ثلاثون سنة.. العمر ثلاثون سنة.
خالد
: (مقهقهاً في
سخرية وينظر إلى الجمهور) هل ترون أنهم أيضاً يقرون أمر خلقي. متحكمين في الكون
والزمن؟ ومتى وجدت على ظهر هذه الأرض.. بنظرة ثاقبة..!
ولكن ما الغريب في
الأمر ما داموا يقررون لنا، للواحد أو للمجموعة منا متى تنتهي حياته.. متى عليه
أن يغادر هذا العالم.. بقرار من محكمة كهذه.. بقرار في مثل تلك الهيئة
العتيدة.. بالضغط على صاعق لقنبلة تبيد هيروشيما ومائة ألف إنسان في طرفة عين..
القاضي
: (ساخراً) ألم
أقل أنكم ميتافيزيقيون...؟ بل رومانسيون...؟
محامي الدفاع
: استكمالاً
للشكليات في القضية، كما ترون، أرى أنه ليس من حق المحكمة أن تقرر بمفردها
أمراً كهذا ما دام الظنين متواجداً أمامها.
القاضي
: (متهكماً)
إذن توسَط لنا لديه -إذا تفضلت- ليقول لنا كم عمره.
خالد
: (يبادر قبل
أن يُسأل) ست وعشرون سنة. آمل ألا يبادر أحد إلى دحض هذا الادعاء..
همهمة في القاعة..
ثم صمت إثر ضرب المنضدة بالمطرقة من قبل القاضي)
القاضي
: كان هذا
ممكناً بالفعل. إذ يبدو عليك أنك أكبر من ذلك. وربما أردت فقط تسفيه رأيي حين
قدَّرت عمرك في الثلاثين. على أية حال لن نقف هنا أكثر مما فعلنا حتى الآن.
ولننتقل إلى صلب القضية. قل لي يا خالد لماذا عمدت إلى قتل.. أعني أسهمت في قتل
عدد من الرياضيين الإسرائيليين ؟
خالد
: لابد أن
سيادة القاضي وهيئة المحكمة الموقرة أيضاً سينفد صبرها إذ أعيد ما قاله رفيقي
في الجلسة السابقة.
القاضي
: ولكنك جئت
إلى هذه البلاد تحمل معك نية القتل على الأقل.. ومخططاً، ومُكلَّفاً من تنظيم
ما.. ما معنى هذا كله في رأيك؟.. وقد كانوا مجرد رياضيين لا مقاتلين..
خالد
: ولماذا لا
يسألون هم عن قتل أطفال فلسطين.. وهم مجرد أطفال.. لماذا لا يأبه أحد لعمليات
الإبادة الجماعية للآلاف من النساء والرجال من مختلف الأعمار، على مدى ما يقارب
نصف قرن من الزمان.. مع الفارق النوعي والسببي بين حالتي الاعتداء والدفاع عن
النفس..؟
وعن الوطن...؟
القاضي
: هاه.
والوطن.. ها أنتذا من يسأل المحكمة.
خالد
: ولم لا؟ أنتم
تتحدثون عن الحرية والديمقراطية.. أو ترانا حالة استثنائية في دنيا البشرية..؟
النائب العام
: (متهجماً
كعادته) أرأيتم، أيها السادة، إلى هذه القحَّة من قبل الجناة. إحقاقاً للعدالة،
وتوخياً لتفويت الفرصة عليهم في كسب الرأي العام بطروحاتهم الغريبة وحكاياتهم
المزعومة من على منبر هذه المحكمة أطالب بتجريمهم، على الفور، دون الالتفات إلى
أقوالهم ومزاعمهم. على أن يكون الحكم بأقصى العقوبة في المادة(...) رقم(...) من
قانون العقوبات(...) القاضية بـ....
القاضي
: (مشيراً إليه
بيده للكف عن متابعة كلامه ثم موجهاً كلامه إلى خالد) ليس من مصلحتك يا هذا
الاسترسال في أسلوبك المراوغ. لهذا أكرر سؤالي. وللمحكمة عليك واجب الإجابة:
لماذا أردتم قتل الرياضيين الإسرائيليين..؟
خالد:
نحن نعرف أنهم جنود جاءوا بزيّ الرياضيين. ومن حقنا أن نقتص منهم
كمجرمي حرب. وأنتم لا شك تذكرون نورنبرغ....
القاضي
: ها أنتذا
تقرأ التاريخ جيداً.
(غمغمة
في القاعة.. علامات استحسان وعلامات استهجان تبدو على وجوه مختلف الحضور)
النائب العام
: (مهتاجاً)
أليس واضحاً، أيها السادة، أنهم يتعاطفون مع النازيين، أنهم بلا شك لا ساميّون..
خالد
: (ساخراً) ما
أظن حضرة النائب العام يجهل من هم الساميون.. أليسوا نحن أيها السادة.؟ ألسنا
ساميين أم ترانا آريين دون أن ندري. أم ترانا جئنا من كوكب آخر.. غنِّها
دائماً، تلك الإسطوانة المشروخة لطول استخدامها. ألم يحن الكف عنها حتى بعد
انقضاء ربع قرن من الزمان أو يزيد. وبعد أن حققوا عن طريقها الكثير الكثير..
ألم تكن هذه وسيلتهم لخلق ظلم مماثل، بل أشدّ وأقسى على شعب آخر؟ لماذا لا يؤدي
وضعنا إلى خلق عقدة ذنب جديدة لدى ذلك الغرب، ما دام هو أيضاً المسبّب لها..؟
تلك الإسطوانة.. إيَّاها..
النائب العام
: (متصنعاً
الألم والغضب) الهولوكست.. ومعسكرات الاعتقال.. وقتل ملايين اليهود.. هذا كله
تسمونه أسطوانة..؟
خالد
: أليس هذا
تماماً هو ما تصنعونه بنا منذ ثلاثة أو حتى أربعة عقود.. أنتم والإنتداب
البريطاني والدعم الغربي بمجمله.. كم(هولوكوستاً) حل بنا أيها السَّيد: النائب
العام.. ولكن معذرة نحن نقتل اليوم بوسائل أكثر حداثة.. وبتقنية متطوَّرة.. يجب
أن نشكركم على ذلك..!
النائب العام
: (يبدو عليه
الحرج بعض الشيء) ألم أقل لكم أنهم، وهذا واضح تماماً، يسخرون من هيئتكم
الموقرة؟
خالد
: هو واضح
أيضاً أن استماع هذه الهيئة الموقرة لمزيد من تخرصات السيد النائب العام يضفي
عليها مزيداً من الوقار.
النائب العام
: (يصرُّ على
أسنانه غيظاً) إني أرى في شخص هذا الإرهابي أيخمان آخر..
محامي الدفاع
: إني أحتج. إن
حضرة النائب العام يحاول جاهداً إرهاب موكلي. وفي نفس الوقت التأثير على هيئة
المحكمة بما هو خارج عن نطاق القضية.. بدعاوى بالية كاللاسامية والهولوكست..
ابتزازاً للعواطف.. لإيقاع مزيد من الظلم بموكلي وشعبه.
(أصوات
في القاعة.. تعلو شيئاً فشيئاً.. تتحول إلى مشادات بين أفراد هنا وهناك.. تصل
بعضها إلى أسماع هيئة المحكمة متهمين إياها بالتحيز، والنائب العام بالكذب..
رجال الأمن يتحركون.. ويتحفزون..)
القاضي
: (يبدو قلقاً
خشية تطور الموقف فيبادر إلى الوقوف وبيده الميكرفون طالباً الصمت والإخلاد
للهدوء كي تمضي المحكمة في إجراءاتها. ولما لم يُستجب له.. يهدد بإخراج الجمهور
من القاعة).
أيها السادة.. أرجو
ألا تنسوا أن هذه قاعة محكمة.. قاعة محكمة وليست مقهى..
القاضي
: (بعد أن يجلس
ويسود الصمت يتوجه إلى خالد بكلامه) أنت المسبِّب لهذه الفوضى. فلتذكر أنت
أيضاً أنها قاعة محكمة وليست صالة بلياردو..!
خالد
: لأنها قاعة
محكمة.. وهنا في هذا المكان المرموق من العالم.. ولأنها مشهودة من قبل الصحافة
العالمية ووسائل الإعلام، فهذه فرصتنا النادرة.. أعني أنها إحدى الفرص القليلة
المتاحة لنا لإطلاع العالم على شيء من الحقيقة التي يعمل الجميع على طمسها،
بالتعتيم عليها تماماً كما يفعل مقترف الجريمة لكي يخفي جريمته عن أعين الناس
والعدالة معاً. إنهم يجلبون إلى بلادنا أناساً في كل يوم، خليط من بشر لا
يجمعهم شيء سوى الرغبة في الاستيلاء على بلادنا. ويطلقون عليهم اسماً مضحكاً
ومبكياً في الوقت ذاته. (العائدون الجدد).. عائدون إلى أين؟ آتون من أين؟ ومتى
كانوا في هذه الديار حتى يعودوا إليها؟ لماذا يحدث هذا دون أن يصنع أحد شيئاً
بحق الشيطان؟
القاضي
: لماذا تظنه
يحدث.. ولماذا الصمت إزاءه في رأيك بحق الملائكة؟
خالد
: لو أتيح لي
أن أجيب لفعلت. لو أعطيت حرية الكلام كما يجب ومن الوقت ما يلزم.. ولكن..
النائب العام
: (متدخلاً
بعنجهية) لأنهم شعب الله المختار. وهذه الأرض موعودة لهم. أرض الميعاد. أنت لا
تعرف ذلك أو لعلك تعرفه وتتجاهله. وعدوا بها من إله اليهود.. يهّوَه.. أيريحك
هذا؟
خالد
: يعني أن
لليهود إلهاً خاصاً بهم دون خلقه أجمعين بمن فيهم أهل هذه البلاد(ألمانيا)،
والشعوب كافة وحتى الدول التي تعضدهم في ظلمهم وتعينهم على تحقيق حلمهم هذا.
أليس الناس في نظركم(جوييم) أيّاً كانوا؟ ألم يخلقوا على شاكلة آدميين فيما هم
يملكون أرواح البهائم من أجل خدمة ذلك الشعب المختار؟ هل هناك تخلف عقلي أكثر؟
ومتى يحدث هذا؟ في عصر العلم والتكنولوجيا.. ولدى أهل العلم والتكنولوجيا
أنفسهم..
النائب العام
: أنت لا تفهم
هذا على أية حال.. أنت لن تفهم هذا..؟
خالد
: إذن اجعلني
أفهم أيها السيد النائب العام على أي الأسس اختاركم الله ومنحكم هذه الامتيازات
العجيبة؟ ومن قال لكم ذلك؟
النائب العام
: أسفار العهد
القديم المقدس.. التوراة..
خالد
: تلك التي
اختلقها أحباركم، ونسبوها كذباً لذلك المصدر، إذ كيف يرضى الله وهو الله، أن
يقع مثل هذا الظلم على مخلوقاته.. بل كيف يوافق الله على إبادة شعب على يد شعب
آخر. ثم يدعي الفاعل، مقترف الجريمة أمام الله نفسه بأنه مُنح امتيازاً خاصاً
منه ومباركة أيضاً.؟ البشر أنفسهم- أعني ذوي الضمائر منهم- لا يقرون ظلماً كهذا
فما بالكم بالله نفسه؟ أم ترى أن الشعب الآخر.. أعني الشعوب الأخرى ليست من
خلقه؟؟
القاضي
: (محتداً)
صمتاً.. صمتاً.. كفى.. كفى. (موجهاً كلامه لخالد) نحن أيضاً نوقن بأنها أرضهم
الموعودة التي سيهبط إليها السيد المسيح بعد معركة مجدّو القادمة.
خالد
: ولهذا تعملون
على تصديرهم إلى بلادنا بالجملة.. بعد أن عجزتم عن إفنائهم منذ زمن ليس ببعيد
- على حد زعمهم على الأقل-. ولماذا لا تحتفظون بهم كي تحلّ بركاتهم عليكم؟
القاضي
: (غاضباً
ومرتبكاً) لو تأكدت من أنك تعني ما تقول، وأنك على وعي كامل بهذا الذي تقول،
لما ترددت في إنزال عقوبة خاصة بحقك؟
خالد
: ولكن لماذا؟
ألم يحدث هذا فعلاً ألم تقضوا على الملايين منهم في الحرب التي مضت. (على الأقل
كما يتهمونكم هم)؟ ألم يحدث أن الأماكن المحترمة في بلاد الغرب كانت تعلق
لافتات على أبوابها تنص على منع الكلاب واليهود من دخولها؟ وذلك لم يأت من فراغ
بالتأكيد، فلولا ممارسات كانت تصدر عنهم، أو أخلاق عرفوا بها، أهَّلتهم لهذا
القدر من (الاحترام) لما حدث ذلك....!
النائب العام
: (مقاطعاً
بلهجة انفعالية عنيفة) أسجل احتجاجي على مواصلة المحكمة الاستماع لهذه الإهانات
الموجهة للشعب اليهودي الصديق العريق..!
القاضي
: (مخاطباً
خالد) ولكن هذا الذي أشرت إليه وقع في عهد النازية التي نتبرَّأ منها.
خالد
: وما شأن
البلاد الأخرى التي لم تظهر فيها النازية؟ وما قولكم في أن هذا كان موقف الغرب
منهم منذ عصر النهضة. شكسبير ومارلو في إنكلترا وحدها رسموا صورة واقعية
لممارساتهم نقرؤها اليوم.
القاضي
: حتى لو أن
ذلك قد حدث، ألم يكن ظلماً حاق بهم؟
خالد
: لقد جرَّ
هؤلاء العداء على أنفسهم في تلك المجتمعات بسبب أنانيتهم واستغلالهم لأبناء
البلاد التي استوطنتهم. شايلوك يقتطع رطلاً من لحم بريطاني لقاء مبلغ من المال
هذا تسديداً لدين هذا قاله شكسبير في(تاجر البندقية) لا نحن. جزيرة
مالطة...خيانتهم لها وهم من سكانها وانحيازهم للغزاة مقابل المال. هذا قاله
مبدع آخر هو كريستوفر مارلوفى. (يهودي مالطا).
القاضي
: لهذا هم
يتهمون شكسبير باللاسامية. ويعتبرونه معادياً لهم.. هو شخصياً..!
خالد
: يظل السؤال
قائماً: لماذا؟ ثم بماذا نفسر رواج تاجر البندقية وإقبال الناس عليها قراءة
وتمثيلاً حتى اليوم.؟ أما مسألة لاسامية شكسبير فأمر مضحك حقاً.
القاضي
: مادام الأمر
كذلك فكيف لك أن توفق بين هذه الدعاوى المتناقضة. عداؤنا المزعوم لهم بالأمس.
ووقوفنا إلى جانبهم اليوم..؟
خالد
: إنها المصالح
الاستعمارية المشتركة التقت مع العداء المشترك لنا أيضاً. كذلك هي عقدة التفوق
أصابتكم عدواها. فبالأمس القريب كان مرفوعاً هنا شعار(ألمانيا فوق الجميع).
ومنذ زمن نادى كبلنج البريطاني بتفوق الجنس الآري والرجل الأبيض تماماً كما
يعلنون هم عن حكاية شعب الله المختار. (يصمت قليلاً ثم يتابع فيما القاضي يقلب
في الملف أمامه) يا حضرات القضاة (ثم ناظراً إلى الجمهور) ويا حضرات السيدات
والسادة. أسألكم سؤالاً واحداً وحسب: هل لو حدث لكم مثل ما حدث لنا. هل كنتم
تلجأون إلى الصمت قانعين بتفسير الطرف الآخر؟ وإذا رفضتم ذلك وقاومتموه غدوتم
إرهابيين حقَّ عليهم العقاب. هل من بينكم من يقبل ذلك؟
(تُتبادل
أحاديث ونظرات وإشارات في القاعة)
القاضي
: (ملتفتاً نحو
القفص.. ثم إلى الجمهور) صمتاً أيها السادة.. والآن قل لي يا.. خالد.. ما الذي
حفزك على السير في هذا الطريق؟
خالد
: هم دفعوني
إلى ذلك دفعاً. بل وأرغموني عليه.
القاضي
: من تقصد
بقولك هم؟ المطلوب هنا التحديد وليس التعميم.
خالد
: الصهاينة. هم
صنعوا مني فدائياً يقاتلهم حتى تقوم الساعة أو يسبقها التحرير الوطني. وحين
أستشهد سيقاتلهم أبنائي وأحفادي. وما لا يتحقق اليوم يمكن أن يتحقق غداً. لدينا
مثل يقول: ما ضاع حقِّ وراءه مطالب.
القاضي
: حسناً.. ومنذ
متى قررت أن تكون..!.. حسناً لتكن فدائياً كما تُفضِّل أن تدعى..!
خالد
: منذ ذلك
اليوم المشهود في قريتي كفر قاسم.
النائب العام
: (متهكماً)
ألا ترى أنها غريبة هذه المصادفة؟ زميلك من دير ياسين.. وأنت من كفر قاسم.
خالد
: ستقع هذه
المصادفة مع أيٍّ منا وأيٍّ منا.. فما من قرية أو مدينة في بلادنا إلا وشهدت
مذابحهم..
القاضي
: (مستفسراً
بلهجة استنكارية) ما هذه الأخرى التي تسميها ماذا..؟
خالد
: (مشدِّداً
على الحروف) كفر قاسم.. كفر قاسم.. ألم تسمع سعادتك بهذا الاسم من قبل؟
القاضي
: كفر.. كفر
قاسم.. حسناً أنت من هذه القرية.. ولكن هل كان هذا هو سؤالي؟
خالد
: (مواصلاً)
نعم أنا من كفر قاسم. وليُسمح لي بدقائق قليلة. لن تسقط السماء على الأرض، يا
سادة، لو سمحتم بتلك الدقائق، من الديمقراطية أن أُسمع صوتي على الأقل... أليس
كذلك؟ (ران الصمت تماماً.. وتطلعت إليه العيون سواء مَنْ في القاعة أو مَنْ على
المنصة فتابع) كنت يومئذ في التاسعة. كنا عائدين من الحقول إلى القرية، قبل
الغروب بقليل. رجال وغلمان ونساء، مجموعة من الفلاحين. بعضنا في سيارة شحن،
وأفراد يمتطون الدراجات.. نغني.. نهرّج.. نتشاجر. أوشكنا أن نبلغ مشارف القرية
حين فوجئنا بمصفحات محمَّلة بالجنود تسدّ الطريق إليها. أشاروا إلينا بالوقوف.
ثم الترجُّل. لم نكن نحمل سلاحاً. لم يكن معنا سوى الفؤوس والمناكيش وأدوات
الزرع والحصاد.. أمرونا بأصوات زاجرة كالرعد..
يسرح بعيداً.. تشرد
نظراته.. مستذكراً صورة ما حدث...)
الفصل الثاني
المشهد الثاني
جنود من الجيش
الإسرائيلي، يحملون الرشاشات والبنادق. يشيرون إلى عدد من الرجال والنساء يأتون
على دفعات بالوقوف جانباً. يدخل راكب دراجة.. ثم آخر.. ثلاثة أو أربعة يحملون
أدوات الزراعة، بملابس الفلاحين الفلسطينيين. ملابس النساء أيضاً ريفية
فلسطينية..
الجنود يواصلون
الزجر، وإصدار الأوامر، إلى أن كبر عدد الموجودين.. في هذه الأثناء كانت تدور
مشادات..
..
وأوامر.. وصرخات.. ومشاورات بين الضباط اليهود...))
ضابط يهودي
: (يصيح بصوت
كالرعد)
يالله أنت وهو.. قف
هناك.. قفي هناك.. أنتِ أيضاً..
امرأة
: (في استياء
وخوف) خير إن شالله يا خواجة.
ضابط ثان
ٍ: (زاجراً)
خيراً؟ وجوهكم تبشر بالخير..!
امرأة ثانية
: (ثائرة) لكن
ما معنى هذا..؟ نحن عائدون من الحقول إلى بيوتنا.. ماذا فعلنا؟.
الضابط يدير ظهره..
لا يرد.. غير مكترث)
الضابط الأول
: (مواصلاً زجر
القادمين فرادى أو جماعة) عند الجدار قفوا هناك.. أنتم مخالفون لأوامر منع
التجول..
رجل
: (مستغرباً)
أيّ منع وأي تجول حتى نخالفه.؟.
الضابط الأول
: تتظاهرون
بأنكم لا تعلمون بمنع التجول..!
رجل ثاني
: (ثائراً)
نعرف ماذا؟ عن ماذا تتحدث؟
الضابط الأول
: (بعنف) منع
التجول يا بني آدم... أُعلن قبل نصف ساعة..
رجل ثالث
: (في دهشة) ما
دمت تقول قبل نصف ساعة. فكيف لنا أن نعرف ونحن في الحقول..؟
الضابط الثاني
: تعرفون أولاً
تعرفون.. ليس هذا مهمّاً.. المهم هناك أوامر أنتم الآن مخالفون لها؟
الرجل الأول
: (حانقاً) هذا
غريب.. كيف نكون مخالفين لشيء لا علم لنا به.. أنت متعلم وبتفهم يا خواجة..!
الضابط الثاني
: طبعاً متعلم
وأفهم.. ولهذا أطبقّ عليكم القانون.
الرجل الأول
: يعني بصفتك
متعلم تفهم أننا لم نرتكب خطأ ولم نخالف تعليمات.
الرجل الثاني
: (مستفسراً)
يعني إذا سمحتم.. هل حدث في القرية شيء؟
الضابط الثاني
: (متهكماً) لا
يا حبيبي حدث في القاهرة.. زعيمكم عبد الناصر.. وقناة السويس التي أغلقها. أهو
زعيمكم أم لا عبد الناصر؟
امرأة
: ولكن ما لنا
ومال عبد الناصر.. وقناة السويس..؟
الضابط الثاني
: أنتم عرب..؟
تنكرون أنكم عرب؟
امرأة ثانية
: ننكر كوننا
عرب؟ كيف يا خواجة..؟ احنا عرب.. وماذا يعني إذا كنا عرب؟
الضابط الأول
: (متدخلاً)
يعني كلكم في الهواء سوا
المرأة الأولى
: (خائفة وفي
فزع) يا خواجة أولادي بدون أكل طول النهار.. خلونا نمشي الله يخليك..!
الضابط الثاني
: (مقهقهاً وفي
سخرية) طولي بالك.. بتمشوا إن شاء الله مرة واحدة..! يعني على طول.. (يضحك بصوت
مرتفع ومنغَّم)
المرأة الثالثة
: (في مزيد من
الخوف) وماذا تنتظر يا خواجه؟
الضابط الأول
: نصيبكم..
المسؤول الكبير هناك(يشير إلى بعيد حيث ضابط عند سيارات جيب) هو الذي يقرر
أمركم.
في هذه الأثناء لا
يزال يتوافد بعض الأشخاص من الفلاحين.يُدفعون نحو رفاقهم إلى قرب الجدار
المتهدم.. خلف الجدار بستان وكروم. العسكر يقفون شاهرين أسلحتهم كأنهم في
معركة. الضباط يتشاورون.. الشمس توشك على المغيب)
الضابط الأول
: (يقترب،
يستنفر) هل هناك غيركم في الحقول؟
ينظر بعضهم إلى بعض
في حيرة)
الرجل الثاني
: لا نعرف إذا
كان هناك أحد.
الضابط الأول
: أنتم تكذبون.
الرجل الثاني
: (منفعلاً)
ولماذا نكذب.. نحن لم نصنع شيئاً نخاف منه.
الضابط الثاني
: (فيما هو
يتبختر جيئة وذهاباً) ستعرفون بعد قليل إن كان يجب أن تخافوا أولا..! (ثم وهو
يغمز بعينه لضابط آخر) أليس كذلك يا ارييل؟
المرأة الأولى
: (حين يقترب
الضابط اريل) أولادي ماتوا من الجوع يا خواجة
الضابط اريل
: أليس هذا
أحسن من موتهم بالرصاص..؟
المرأة الثانية
: (مرتجفة)
الرصاص؟ لماذا الرصاص يا خواجة؟
الضابط ارييل
: (ضاحكاً) لأن
صوته حلو..!
المرأة الثانية
: يلعن الرصاص
ويلعن صوته..! إن شالله ما نسمعه..
الضابط ارييل
: كل شيء عندكم
إن شالله.. قولي لي هل تحبون عبد الناصر؟
لا يجيب أحد.. يصيح
فيهم)
لماذا لا تردون؟
تحبون عبد الناصر؟
المرأة الأولى
: لماذا لا
نحبه؟
الضابط ارييل
: بل لماذا
تحبونه؟ ماذا صنع لكم؟
المرأة الثانية
: انقلب على
فاروق.. وحسَّن بلاده..
الضابط ارييل
: لا.. أنتم
تحبونه.. لأنه وعدكم برمي اليهود في البحر.. هاه.. في البحر.. أليس كذلك؟
المرأة الأولى
: يا خواجة
مالنا ومال ها لكلام.. خلونا نمشي الله يخليك.
ينصرف عنهم لينضم
إلى الضباط الواقفين قرب السيارات. يتحدثون ويشيرون بأيديهم.. يبدو أنهم يقررون
أمراً..
وفي هذه الأثناء
تسمع طلقات من حين لآخر.. تتبعها أو تسبقها صيحة أو صرخة..
الضابط ارييل
: (فجأة يصيح
بالجنود فيقفون وقفة استعداد.. ويحركون آليات بنادقهم..
يفزع الفلاحون..
يقتربون بعضهم من بعض.. الفزع في عيون النساء. يبدأن بالصراخ.. فيصيح بهم أرييل)
اخرسوا.. لا صراخ
ولا أصوات.. اسمعوا ما سأقوله لكم. ويردّ علي رجل واحد منكم. أنتم خالفتم أوامر
منع التجول. هل تعرفون عقوبة ذلك..؟
رجل
: نحن لم نسمع
بأوامر أو غيره.. كنا في الحقول.. ألا تفهمون أن كوننا في الحقول يعني أننا..
الضابط ارييل
: نعرف..
نعرف.. ولكن القانون هو القانون.
الرجل
: أي قانون يا
عمي.. نقول لكم لم نسمع بالأوامر إذن لم نخالف.. تقولون قانون..؟
الضابط ارييل
: سمعتم.. ما
سمعتم.. هذا ليس شغلنا.. هذه مشكلتكم أنتم..
الرجل
: (صائحاً..
والآخرون منكمشون.. النساء يلذن بالرجال)
يا عمي كيف..؟
فهِّمونا كيف بتحاسبونا على..
الضابط ارييل
: (مقاطعاً..
وبصوت مرعد) لا كيف ولا غيره.. أديروا ظهوركم.. اقتربوا من الجدار.. ارفعوا
أيديكم إلى أعلى.. بسرعة.. من يتلكأ يا ويله..
عندما يتلكأ
بعضهم.. ويتردد بعض، بينما ينصاع آخرون يهجم عدد من الجنود لدفعهم نحو الجدار..
وما أن يرجعوا إلى الوراء(الجنود) حتى ينهمر الرصاص من الرشاشات كالعاصفة..
يتساقطون.. تفيض الدماء فيما يتعالى الصراخ وترتفع الصيحات من النساء والرجال
والغلمان.. ثم تخفت لتنقلب إلى حشرجات وأنات احتضار...)
الفصل الثاني
المشهد الثالث
المشهد ذاته عند
نهاية المشهد الأول أي عند بداية حديث خالد أمام المحكمة. خالد كمن يعود من
حلم. أو كمن يصحو من كابوس مرعب.. يتصبب عرقاً، ويبدو متعباً وحزيناً.. لكنه
يستدرك موقفه فيتابع نقل الصورة لما حدث عقب المجزرة.).
خالد
: (متابعاً في
إعياء. يطغى الأسى والتأثر على كلماته) زخات الرصاص كالمطر.. تساقطت الأجساد في
اللحظة التي كنت أقفز من فوق الجدار المتهدم جزء منه.. أعدو.. أعدو بين
الأشجار. يلاحقني الرصاص مارقاً كالسهم يضرب الأغصان وأوراق الشجر كالعاصفة.
صرخات الرعب والألم. صيحات الإسرائيليين تلاحقني أيضاً. طفقت أعدو حتى بلغت
القرية. الشوارع خالية. والشمس اختفت. كيف بلغت دارنا؟ لا أعرف. تلقتني أمي
صارخة: ماذا دهاك؟ أين شقيقك؟... نعم شقيقي أكرم الذي رأيناه في اليوم التالي
بين أكوام الجثث.. كذبيحة تغمرها الدماء.. ماتوا جميعاً، من كانوا إلى جواري
أحياء قبل قليل..أتساءل منذ ذلك اليوم (يرفع صوته كأنما يصرخ) لماذا؟ لماذا؟
لماذا يجب أن يحدث لنا ذلك؟؟
القاعة والمنصة في
صمت مطبق لبعض الوقت)
النائب العام
: (في لهجة
رصينة مراعاة للجو العام السائد، ولكن بلهجة تحريضية ناظراً إلى الجمهور).
لا أخفي عليكم،
أيتها السيدات والسادة، أنني أتحلّى بضبط النفس طيلة الوقت الذي قضاه هذا
الإرهابي الماثل أمامكم، محاولاً استدرار عطفكم بقصة معظمها ملفّق. الغاية التي
يرمي إليها من وراء ذلك هي صرف الأنظار عن جريمته كواقعة، وعن بواعثها أيضاً..
فضلاً عن استدراره لعواطفكم.
محامي الدفاع
: (مقاطعاً) هل
يقصد سيادة النائب العام أن مأساة كفر قاسم من نسج خيال موكلي..!
ولكن أليست وقائع
مذبحة كفر قاسم مثبتة الآن تاريخياً، ولا سبيل إلى إنكارها..؟ لذلك أرجو
الإلتزام بالموضوعية، على الأقل، في هذه المحكمة، إحقاقاً للمصداقية.! وإن كنتُ
أدرك مسبقاً أنه مطلب بعيد المنال..!
النائب العام:
كفر قاسم.. كفر قاسم.. دير ياسين.. تلك كانت ظروف حرب.. وقع تجاوز
يومئذ أدّى إلى وقوع خسائر يؤسف لها.. لكن ذلك لم يكن مقصوداً أن يحدث كما حدث
تماماً..!
الأوامر العسكرية
هي الأوامر.. والعسكر لايهمهم إن كان ما يفعلونه صحيحاً.. ينطبق أو لا ينطبق
على حالة ما.. مسؤوليتهم فقط تنفيذ الأوامر. وقد كان مرور هؤلاء أمام تلك
المفرزة في وقت منع التجول.. فماذا كان ينتظر منهم أن يفعلوا!؟
محامي الدفاع
: (مستنكراً)
أبهذا القدر من الاستهانة ُينظر إلى أرواح البشر.. إلى مصائرهم..؟
هل المسألة هي فقط
الاستماع إلى تبرير منطقي أو أخرق لأي جريمة تقترفونها وحسب.؟
هل يجب أن يقبل
التبرير الصادر عنكم على علاّته، فقط لأنه صادر عنكم..؟ أنتم الذين مازلتم
تتحدثون، بعد ثلاثة عقود أو أربعة عما تسمونه بالهلوكوست، وتبالغون في تضخيم
أفعال النازية، وكأن أرواح البشر أصناف.. ومقاسات كالأحذية والجوارب.. منها
الغالي ومنها الرخيص. بشر تقوم الدنيا وتقعد إذا أصابهم مكروه، وبشر يجب أن
يُنسَوْا تماماً حين يذبحون وكأن شيئاً لم يحدث؟
النائب العام:
على أية حال، هذه المحكمة لم تعقد من أجل
محاكمة التاريخ.. لكفر قاسم أو غيرها..!
نحن هنا من أجل
اتخاذ الإجراء القانوني العادل بحق إرهابيين قتلوا أو تسببوا في مقتل أبرياء
إسرائيليين كما سبق أن بيَّنت، كانوا في مهمة رياضية.. وهي حضارية أيضاً بل
إنسانية تلك المهمة، فجاء هؤلاء المتخلفون.. غير المتحضرين، فأودوا بحياتهم
الغالية..!
محامي الدفاع
: (ضاحكاً في
سخرية) الغالية.. هنا بيت القصيد.. هي من الصنف الغالي الثمن.. تلك الأرواح،
كما قلت للتوّ..حياتهم الغالية.. أجل.. الغالية..!
القاضي
: (طالباً
إليهما الكف عن حوارهما المباشر) بالفعل. هذا الذي تتحدثون فيه خارج عن اختصاص
هذه المحكمة. (ثم موجهاً كلامه لخالد) بعد أن أسمعتنا هذه هي الحكاية أيها
السيد، عرفنا الآن سبب انتمائك لهذه الجماعات. دعنا ننتقل الآن إلى نقطة ثانية.
ماذا كان دورك في العملية تحديداً؟
خالد:
دوري في هذه العمليةهو دوري ذاته في أي وقت.. وأي مكان آخر.. مهاجمة
العدو في أي مكان أستطيع.
القاضي
: ولكن هؤلاء
لم يكونوا (العدو) الذي تتحدث عنه.. أعني العدو المفترض.
خالد:
هم عسكريون الآن أيضاً.. لا تتصوروا ياحضرات السادة أنهم يضيعون فرصة
كهذه دون أن يقوموا بأعمال خفية لصالح حكومتهم.. بل إن مهمتهم الخفية هي الأصل،
والرياضية هي الغطاء، إن كل يهودي في العالم له دوران... واحد في الخفاء لصالح
الصهيونية واليهودية العالمية، والآخر مايظهر به على صعيد الحياة اليومية،
وهؤلاء ليست بريئة أيديهم من دمائنا، لا بالأمس ولا في الوقت الحاضر.
القاضي
: على الرغم من
التعميم في إجابتك، لكن لابأس يمكننا أن نستنتج بأنك تعترف أخيراً.. وفي هذا
الكفاية.
خالد:
إذا كان هذا في عرفكم هو الاعتراف، فليكن.. أكثر من القرد الله ما سخط..!
القاضي
: (مستغرباً)
مالنا وللقرود الآن.. هل سنتحدث عن القرود؟
ضحك في القاعة..
غمغمات وهمس بين الحضور)
خالد:
هذا واحد من أمثالنا الشعبية، يقوله المرء عندما يبلغ مرحلة لا يعود
فيها أو بعدها أو عندها يخشى شيئاً لهول مايمرُّ به. عندما تبلغ معاناته مداها..
القاضي
: باختصار تريد
أن تقول أنك لست خائفاً.. أهذا ماتريد قوله؟
خالد:
خائف من ماذا؟ وأخاف على ماذا؟
القاضي
: من نتيجة
المحاكمة.. وعلى روحك..!
خالد:
(بلهجة ساخرة) كيف أخاف، أيها السادة، وأنتم تتحلَّوْن بمثل هذه الروح
الديمقراطية؟ ألا يجب أن تثبتوا للعالم، كما لأنفسكم أنكم ديمقراطيون؟
ومتحضرون.. ووو...
حتى مأساتنا ينبغي
أن تستغل لخدمة مدعاتكم وماشاكلها... كيف نخاف إذن؟؟
القاضي
: لا نريد
العودة إلى ماسبق أن أضعنا فيه غير قليل من الوقت.
خالد:
مايطمئننا، على أية حال، هو أننا بتنا على يقين من أن حضارتكم هذه باتت
على أعتاب انهيارها، لأنها في الأصل لم تكن قائمة على قيم صحيحة، أو مبادئ
إنسانية عادلة على الرغم من قدراتكم الخارقة على الزعم بغير ذلك. بل القدرة على
غسل أدمغة البشر بوسائلكم الجهنمية لحملهم على الاعتقاد بما ترغبون. لكن هؤلاء
لن يظلوا أغبياء كل الوقت. لسوف يكتشفون الحقيقة.. ولقد بدأ هذا فعلاً...
القاضي
: ( في لهجة
حانقة) كما ترون، ياسادة، إنني أحاول أن أتحلى بضبط النفس أنا أيضاً، ولن
تحملني إجاباته الفجة (مشيراً إلى خالد وهو يتوجه بالكلام للجمهور ولعضوي
المحكمة وللنائب العام) على الخروج عن حدود القوانين المرعية ومبادئ العدالة..!
خالد
: (بتهكم)
تماماً كعدالة القوانين الإسرائيلية..!
النائب العام
: (مباهياً
ومتجاهلاً السخرية في لهجة خالد) كيف لا وهي تنهل من المعين ذاته.
خالد
: (بسخرية
أشدّ) بدليل أن (أبطال) مجزرة كفر قاسم من ضباط جيش الدفاع حوكموا أيضاً يوم
اقترفوا جريمتهم.. وحكم على كل منهم بغرامة مقدارها (ثم يلفظ الكلمات مقطعة
وببطء شديد) أغورا واحدة.. مع وقف التنفيذ..!!!
ضجة في القاعة،
وتبادل نظرات وكلمات وهمس على المنصة، ثم وقوف النائب العام.. ثم جلوسه.. مرتين
أو ثلاثاً.. وهو يمسح عرقه عن وجهه وجبينه بمنديل أصفر اللون..).
خالد
:(مضيفاً وهو
يلتفت إلى الجمهور وبصوت مرتفع).
ترى كم ملياراً من
الماركات تدفع الحكومة الألمانية تعويضاً عن أرواح من قضوا نحبهم منهم برغم
العدد الهائل من الادعاءات الكاذبة..؟
النائب العام
: (ساخطاً..
يضرب المنضدة بيده) أسجِّل احتجاجي الصارخ من هذا المكان..!
خالد
: (يضحك
بمرارة) ألم أقل من قبل أن أرواح البشر ماركات أيضاً.. منها المرسيدس ومنها
الفيات ومنها الفولكس فاجن..!!
القاضي
: (دون أن يفصح
وجهه أو كلماته عن حقيقة مشاعره هذه المرة)
ما الذي تريده من
هذا على أية حال..؟
خالد:
(في تؤدة كمن يلقي خطاباً..وبنبرات هادئة) لا أريد أكثر من أن أطلع
العالم من فوق هذا المنبر على حقيقة ماجرى،’ وما زال يجري لنا على أيدي هذه
الطغمة التي فاقت نازيتكم، أيها السادة، في إجرامها.. بل آمل ألا أظلم النازية
ذاتها إذ أقارنها بها..!
النائب العام
: (في حرج واضح
وبغية التخلص من المأزق) ولكن ألا ترون أيها السادة أن هذا موضوع آخر..!
القاضي
: (يتبادل
الرأي مع عضوي اليمين واليسار ثم كمن يستجيب لرغبة أوحى بها النائب العام..
فيبدأ في لملمة أوراقه وكمن يحدث نفسه بصوت عال ودون أن ينظر باتجاه خالد).
لقد أضعتَ الكثير
من وقت هذه المحكمة ياهذا.. وسنؤجل الجلسة إلى يوم../../.. لأن هذا الذي تتحدث
عنه موضوع آخر..!
النائب العام
: (هاتفاً)
نعم.. نعم.. هذا موضوع آخر...!
الفدائيون الأربعة
: (يهتفون معاً
بلهجة مختلفة تنضح بالسخرية والإدانة)..نعم، أيها السادة.. نعم هذا موضوع آخر..!
الجمهور
: (يهب واقفاً
في الصالة استعداداً للخروج).
هذا موضوع آخر..!
هذا موضوع آخر..!
يقف الأعضاء
لينصرفوا. إلى الداخل فيما الجمهور يمضي مغادراً القاعة.. مردداً الهتاف ذاته
ويختفي الفدائيون فيما أصواتهم تتلاشى مرددة الهتاف ذاته أيضاً...).
الفصل الثالث
المشهد الأول
في مدينة ميونيخ:
المشهد ذاته عند
بداية الفصل الثاني).
القاضي
: ناظراً نحو
قفص الاتهام بعد أن قلّب أوراقاً أمامه) المتهم رقم (3) (يتأمله ملياً) حسناً..
آمل ألا تقحمنا أنت الآخر في حكاية ثالثة كما فعل زميلاك من قبل. ما اسمك؟
ناصراً:
(محدقاً فيمن على المنصة قبل أن يرد) اسمي ناصر.
القاضي
: (وكأنه فوجئ
بسرعة الاستجابة) آه... هذه بداية حسنة. يبدو أنك شاب متفهم للأمور. ولكن قل لي
لماذا اخترت هذا الاسم؟
ناصر:
(بلهجة بين الجد والسخرية) وهل يختار المرء
اسمه بنفسه عادة؟
القاضي
: (مستدركاً) آه.. لقد فاتني ذلك، إذن اتُخذ لك هذا الاسم تيمناً بعبد
الناصر.. أليس كذلك.؟
ناصر:
كلكم نظر، ياسيادة القاضي، ألا يبدو أنني خلقتُ قبل ظهوره ؟
القاضي
: (مرتبكاً) أعني لعلّه اسمك الحركي. على أية حال اسمك ناصر.. ناصر
ماذا؟
ناصر:
ولكنه مدون أمامكم..
القاضي
: هذه إجراءات
قانونية، أسألك فتجيب رغم أني لا أجهل بعض ما أسألك فيه. قلت لي ناصر ماذا؟
ناصر
: (بنفاد صبر)
ناصر المقدسي.
القاضي
: (
يتأمله ليفكر ويفرك جبينه بيده) تعني الأورشليمي... أهذا ما تعنيه؟
ناصر
: ( (بضجر) اللهم طوّلك ياروح..
القاضي :
ماذا
قلت؟
ناصر
: قلت
إن الاسم لا يترجم كما لاشك تعلم.
القاضي
: أين
كنت تقيم قبل مجيئك إلى ميونيخ؟
ناصر
: في
بلد عربي ما.
القاضي: شرق أوسطي
أو افريقي؟
ناصر
: كلاهما..!
القاضي
: (
مستغرباً) كيف؟ هل يقيم الإنسان في مكانين
في آن واحد؟؟
ناصر
: أقمتُ وأسرتي
في أحدهما عقب هجرتنا المعروفة عام 1948 ولما كبرت والتحقت بالجامعة في البلد
العربي الآخر.
القاضي
: ها.. أنت إذن
مثقف... وجامعي أيضاً، ألا يبدو غريباً إذن أن تتصرف كالبدائيين؟
ناصر
: (ضجراً).
(متأففاً كاليائس من جدوى أي ردّ) لاحول ولا قوة إلا بالله..
القاضي
: (مستدركاً)
على أية حال أنت تتعامل معنا حتى الآن بأسلوب حضاري نوعاً ما.. حسناً، ثم ماذا
بعد الجامعة؟
ناصر
: قطعت دراستي
لألحق بالرفاق.
القاضي
: متى كان ذلك؟
ناصر
: في أعقاب حرب
1967.
القاضي
: (يفكر ملياً)
بعد حرب الأيام الستة. ولكن لماذا لم تتابع دراستك للحصول على شهادة عليا؟ ألم
يكن ذلك أجدى لمستقبلك؟
ناصر
: أشكر
لسيادتكم حرصكم الواضح على مصلحتي الشخصية، بحيث يدفعكم ذلك إلى تقديم نصيحة
هامة لي.. ومجانية أيضاً..!
القاضي
: وماذا في ذلك
أيضاً؟
القاضي
: هو أمر لا
يقدم عليه إلا الأصدقاء.. ثم إنني أعتقد أننا لسنا جميعاً هنا لهذا السبب..!
القاضي
: هذا ليس
مهماً على أية حال. قل لي الآن من هم أولئك الرفاق؟
ناصر
: مجموعة من
المناضلين..
القاضي
: وفي أي
تنظيم؟
ناصر
: هذه أسرار لا
يمكن البوح بها.
القاضي
: (كالعاتب)
لماذا لا تواصل الإجابة كما بدأت.. ياناصر؟
ناصر
: أفهم أن
أطالب بهذا من قبل محكمة للعدو. فهل أنتم محكمة إسرائيلية؟
النائب العام
: (متدخلاً) من
حق المحكمة معرفة مايخفيه المتهم من معلومات ولا يعفيه من ذلك الزعم بأنها
أسرار خاصة بتنظيمه الإرهابي..!
محامي الدفاع
: أعترض. إن
موكلي لا يستطيع الكشف عن أسرار قد تمسُّ أمن تنظيمه.. لأن ذلك يعتبر خيانة
عظمى.
النائب العام
: ولكن الأمن
الإسرائيلي وأمن التنظيمات الإرهابية شيء آخر.
محامي الدفاع
: ولماذا يجب
أن يراعى الأمن الإسرائيلي حتى لو كان وهماً، ولا يكترث أحد حين يتعرض الأمن
العربي.. بل قل أمن الشعوب العربية جميعاً للتهديد والخطر؟.
النائب العام
: لأن الأمن
الإسرائيلي هو الأهم..!
محامي الدفاع
: (مستهجناً)
حقاً كأننا في محكمة إسرائيلية..!
القاضي
: (يطلب إليهما
الجلوس. يرفع النظارات عن عينيه. يحدق في الفدائي كأنما يفكر في الصيغة
المناسبة للسؤال التالي. الجمهور يترقب. همس يدور في القاعة. وعلى الوجوه
تساؤلات).
كنتُ متفائلاً في
البداية.. ومازال لدي الأمل بألاّ تخيّب ظني.. ألاّ تحبط تفاؤلي أيها السيد...
ناصر
: (ساخراً) لا
أعتقد -أيها السادة- أنني هنا من أجل أن أحقق لسيادتكم الرغبة في التفاؤل. أو
لكي أدفع عن أحد الشعور بالإحباط.. اللهم إلا إذا كنتُ مسؤولاً عن مشاعركم
الخاصة أيضاً..!
القاضي
: (كاتماً غيظه
ولكن بلهجة مسايرة) أعني أنه من الخير لك أن تتعاون معنا.
ناصر
: في ماذا؟
وحول ماذا؟
القاضي
: في أن تبيّن
لنا الأسباب التي حدت بك لأن تنخرط في صفوف تنظيم إرهابي وبالتالي القيام
بممارسات إرهابية..!
ناصر
: (يفرد ذراعيه
كاليائس) مازلتم تصرون على دمغنا بالإرهاب ووصف نضالنا المشروع بأنه أعمال
إرهابية.
القاضي
: (بتهكم) ماذا
أنتم إذن؟ ملائكة؟
ناصر
: (في ضيق)
أقول من جديد لمن في آذانهم وقر: نحن مناضلون من أجل استعادة وطننا وكرامتنا
وحقوقنا المسلوبة. هذا سبب رقم واحد.أما السبب الثاني فهو الثأر من مجرمي الحرب
الذين اقترفوا من الفظائع والآثام بحق شعبنا مالا مثيل له، ومابرحوا يفعلون ذلك
حتى هذه الساعة.
القاضي
: قل لي هل قتل
لك أحد أيضاً، أنت بالذات؟ مع أن هذا في حد ذاته ليس سبباً وجيهاً لممارسة
الإرهاب.
ناصر
: لا..
القاضي
: إذن لم يكن
هناك سبب شخصي يدفعك في هذا الاتجاه..
ناصر
: ومتى كان
النضال ضد الأعداء لا يتم إلا لأسباب شخصية؟
القاضي
: هل تعتقد أن
هذه إجابة سليمة؟
ناصر
: ماأرى سوى
أنكم تتعبون أنفسكم بهذا النوع من الأسئلة. ولكنني أؤكد لكم أنكم سوف تسمعون
الجواب ذاته لو سألتم أياً من الملايين الفلسطينية والعربية.
النائب العام
: (محتجاً) هذا
ليس صحيحاً، ياحضرات القضاة، فبين من ذكر معتدلون وعقلانيون..!
ناصر
: (ساخراً)
لهؤلاء صفات أخرى لدى شعبنا. هم على أية حال قلة لا يعتدُّ بها، ولسوف يحاسبهم
الشعب يوماً على تفريطهم.. (بمزيد من السخرية) وعقلانيتهم..!
النائب العام
: (بلهجته
التحريضية. إياها) ألا ترون، ياسادة أنه من النوع الخطر هذا الإرهابي الماثل
أمامكم؟ ألا ترون أنه يتوعد على الرغم من وقوفه في قفص الاتهام؟
القاضي
: (مبدياً
حيرته بحركات من يديه وعينيه وشفتيه) مايدهشني هو أنك كنت بعيداً عن منطقة
التوتر ذاتها تحاول أن تبني لنفسك مستقبلاً أفضل من هذا، ثم أنه لم يكن هناك
حافز شخصي مباشر يدفعك للالتحاق بالجماعات المتطرفة.. أليس هذا غريباً في حد
ذاته؟
ناصر
: (...) إذن..؟
القاضي
: لايمكن أن
يحدث هذا مالم تكن قد وقعت تحت تأثير من نوع ما.
ناصر
: (متسائلاً)
وهؤلاء الذين يقتلون منا كل يوم؟
القاضي
: قلت أنهم لا
يمتون لك بصلة. يعني أن أحداً من أسرتك لم يصب بسوء.
ناصر
: لكنهم هم
أسرتي.. (وبصوت أكثر ارتفاعاً) ليس شرطاً، ياسادة، ألا يمارس النضال ضد الأعداء
إلا لأسباب شخصية. هناك الوطن.. هناك تشردنا.. معاناتنا.. أكثر من ثلثي شعبنا
خارج الوطن.. والباقي سجناء داخله..إما في منازلهم تحت عنوان منع التجول.. أو
في السجون الإسرائيلية. محرومون من أبسط أسباب الحياة..، العمل، التنقل،
التعليم، حتى المياه تقطع عن مزارعهم وبياراتهم كي تجف، وبالتالي يُدفعون إلى
الرحيل ليستجلب مستوطنون من كل مكان في الأرض إلى بلادنا التي هم غرباء عنها
تماماً... ثم يزعم العدو بعد ذلك أننا رحلنا من تلقاء أنفسنا.. لأننا مجانين كي
نفعل ذلك.. ألا يكفي هذا كله ياسادة، حافزاً لنا على القتال حتى الموت؟
القاضي
: (بعد لحظة
تريث) ولكن هذا كان تطوراً للأحداث عقب قرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم
المتحدة في حينه.
ناصر
: (في ألم) لم
نعتقد يوماً أنكم -معشر الغربيين- تعدمون القدرة على التبرير حتى لأكثر الجرائم
الإنسانية فظاعة. ولكن دعونا نتساءل: لماذا لا يطبق من قرارات تلك الهيئة
(الموقرة) إلا ماهو ظالم لنا!؟
النائب العام:
(متظاهراً
بالغضب) إنه يندد بالمحفل الدولي الأعظم..!
ناصر:
(ضاحكاً بصوت
مرتفع) على وزن المحفل (الماسوني) الأعظم...! (ثم متسائلاً بتهكم واضح) أوليس
بين قوانين المحافل الدولية ماينص على معاقبة مجرمي الحرب؟ وهل تنطبق هذه
القوانين على أحد أكثر من هؤلاء؟ لماذا إذن لا يحاسبهم أحد.. أهم حالة
استثنائية أم هم فوق القوانين والشرائع الدولية؟ أم أن هذه الهيئة تخصصت في
إصدار قرارات وقوانين لا تطبق على أحد غيرنا فوق ظهر هذا الكوكب..!؟
يصمت وقد بدا عليه
الانفعال الشديد والإرهاق. يتعالى الهمس بين جمهور القاعة حتى يتحول إلى ضجيج..
يبدو أن هناك مناوئين ومتعاطفين بين الجمهور... يسكتهم القاضي بطرقات على
المنضدة)...
القاضي
: (وكأنه يريد
أن يغيّر الموضوع لامتصاص أثر ناصر على جمهور النظارة) أين كنت تقيم، ياناصر؟
أقصد أنت وعائلتك طوال سنوات هجرتكم؟
ناصر
: في مخيم
بلبنان.. مجرد لاجئين هناك...
القاضي
: لكنه بلد
عربي أيضاً فهو يمكن أن يكون بديلاً مناسباً عن بلدكم..!
ناصر
: هو بلد عربي،
لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الوطن.
القاضي
: عرب كلكم..
فكلها أوطانكم كما تقولون أنتم أنفسكم في كل المناسبات.
النائب العام
: (متدخلاً) هم
أيضاً لديهم أناشيد بهذا المعنى... منها واحد يقول: (بلاد العرب أوطاني، من
الشام لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنِ، إلى مصر، فتطوانِ، فلماذا يجب أن تكون أرض
إسرائيل بالذات..؟
ناصر
: حتى تراثنا
وشعرنا وآثارنا لا تنجو من تشويهكم لها واستغلالكم إياها. من هنا أنتم تحفظون
مثل هذه المقولات لكي تدينونا بها بعد إساءة تفسيرها. لا أنكر على أية حال أنها
أوطاننا، وأنني مستعد للدفاع عن أي منها حتى الموت، تماماً كما أفعل الآن من
أجل فلسطين.. أما أن يكون أي منها بديلاً لها فلا..
القاضي
: أنتم هكذا..
عاطفيون.. سانتمنتاليست..!
ناصر
: (متهكماً
بألم) لابد أن هذه أيضاً ذنوب يجب أن يُحاسب واحدنا عليها..!
القاضي
: على أية حال
لاشأن لنا بهذا..
ناصر
: لأنكم لا
تريدون الإقرار بأن بلادنا واحدة وتاريخنا واحد، وأمتنا تنتمي إلى أرومة واحدة.
وإن مصيرنا الأبيض والأسود.. والرمادي أيضاً لابد أن يكون واحداً.
القاضي
: في هذه أصبت.
نحن لا نفهم هذا حقاً.. كما أننا لا نستسيغه.
ناصر
: أنتم
تتجاهلون ماترونه بأم أعينكم، تتجاهلون أن المصري والسوري والمغربي.. وو...
العرب جميعاً قاتلوا من أجل فلسطين. لم يتخلف منهم أحد عن تقديم الشهداء. ألم
يساهموا جميعاً في مقاطعة إسرائيل اقتصاداً وتجارة؟ وفي الماضي..في ثورات
الاستقلال لم يقم قطر واحد بمفرده بالثورة ضد مستعمر ذلك القطر، بل شاركوا
جميعاً في ذلك.. ببساطة لأنهم أمة واحدة.
النائب العام
: هذا هوالغباء
العربي الذي تتحلون به-
محامي الدفاع
: (غاضباً)
أحتجُ على هذه الإساءة. وأرجو هيئة المحكمة أن تعمل على الحفاظ على كرامة موكلي
والأمة التي ينتمي إليها. كما أطالب باعتذار من النائب العام.
القاضي
: (يطلب إليهما
الكفّ عن الكلام) لابأس.. ولكن قل لي ياناصر ما الذي يجبركم على هذه المشاركة؟
ناصر
: ذلك الشعور
بالانتماء العضوي الواحد في كل شيء. هو دافع ذاتي لا إكراه فيه، ولكنه متسق
وملزم وكأننا مجبرون عليه جبراً.. هي مسألة مصير.
القاضي
: على أية حال
هذا أيضاً خارج عن موضوعنا الذي نحن جميعاً هنا بسببه. (يتنحنح. ينظر في أوراق
أمامه) قل لي الآن هل تفعل هذا من أجل الارتزاق؟
ناصر
: (متسائلاً في
سخرية) من أجل الارتزاق.. حتى بعد كل ماأسمعتكم إياه؟
القاضي
: تعمل مجاناً
إذن..! وهذا في حد ذاته جنون..!
ناصر
: لو كنت أبتغي
مالاً لوجدت السبيل إليه بعيداً عن تعريض حياتي للخطر على الأقل. أيُّ مالٍ في
الدنيا يعادل وجودي. إن هدفنا أسمى مما قد يخيل إليكم. ولكني أعذركم فأنتم حسب
مفاهيم الغرب المادية لا يقدم أحدكم شيئاً دون مقابل. مبدأ الصفقة هو السائد
عندكم. لا يعطي الإنسان إلا ليأخذ.. وليأخذ إذا استطاع أضعافاً مضاعفة. مبدأ
الفائدة المصرفية.. بسيطة.. مركبة.. حسب مقتضى الحال..!
القاضي
: ولكن هذا
أسوأ فأنت إذن تتطوع مختاراً لهذا النوع من المغامرة، وفي هذا إدانة أكبر لك.
ناصر
: يحزننا أنكم
تتعاملون معنا بمقاييس فُصّلت لنا تحديداً، كأننا نحن الذين ابتكرنا شيئاً اسمه
(مقاومة العدو). نحن لسنا حالة فريدة في هذا العالم. ألم يحدث هذا في فرنسا
مثلاً إبان الحرب العالمية الثانية. ألم يحدث أن قاوم الفرنسيون احتلالكم
لبلادهم..؟
القاضي
: ولكن
الجستابو كان يتعقبهم أيضاً ويوقع بهم القصاص.
ناصر
: وهذا تماماً
مايحدث الآن. هناك الجستابو وهنا الشين بيت والموساد.. بل ماهو أسوأ من
الجستابو نفسه. هل كان رجال المقاومة الفرنسية يُسألون عما إذا كانوا يعملون
تطوعاً أم بأجر؟ هل يصفونهم اليوم بالإرهاب أم يقيمون لهم النصب التذكارية
كأبطال؟
هيئة المحكمة
يتبادل أعضاؤها النظرات والهمسات. النائب العام يبدو محتداً ومضطرباً ينظر في
كافة الاتجاهات.. وبحقد نحو الفدائيين
القاضي
: من تتحدث
عنهم كانوا يقاومون دولة غازية معتدية على بلادهم؟
ناصر
: أوليس هؤلاء
الذين شرَّدونا وقتلوا وسرقوا واستباحوا كل شيء ليقيموا في أرضنا، أليس هؤلاء
غزاة؟ أليسوا معتدين؟ ماذا يمكن أن تسميهم سيادة القاضي..؟
القاضي
: كان اللجوء
إلى ماتسميه بلادكم وسيلتهم الوحيدة للنجاة.
ناصر
: إذا كانت
صحيحة حكاية فرارهم من مظالم النازية والبحث عن ملجأ لم يجدوه إلا في فلسطين
دون سائر بلاد الله لسوء حظنا، وإلا لما كنتُ أقف أمامكم هذا الموقف.. إذا كان
الأمر كذلك فما معنى استمرار ذلك الغزو وتدفق تلك الهجرة وبغير توقف حتى هذه
الساعة بعد زوال تلك الأسباب المزعومة؟
النائب العام
: من الخير أن
لا يتشعب الموضوع أكثر مما حدث حتى الآن؟
القاضي
: وعلى فرض صحة
ماتقول، لعل هذا يبرر كل مالديكم من الحقد، وأنت الذي لم يسبق له أن شهد مذبحة
ما أومقتل أحد ما، الأمر الذي حاول زميلاك أن يتخذا منه مبرراً لانتمائهما
للعمل الفدائي كما تسمونه أنتم؟ ألم يقل كل منهما أن ذلك هو الذي صنع منه
فدائياً؟
ناصر
: قد يأخذ ردي
وقتاً أطول مما تحتملون... هل يسمح وقت محكمتكم الموقرة وسعة صدرها بذلك؟
القاضي
: يفيدنا ذلك
على الأقل من ناحية المعلومات. أعني أن خسارتنا في الوقت لا تخلو من فائدة..
ناصر
: ( يبدو كمن
يتأهب لحديث طويل مثير للذكريات الحزينة.. يسرح ببصره بعيداً.. يتنهد.. تعلو
وجهه مسحة من الحزن) صحيح أنني لم أشهد شيئاً كالذي شهده رفيقاي. ولكن وسائل
المعرفة في هذا الزمن وفيرة تتيح للمرء أن يشهد وأن يسمع وأن يقرأ فيعرف
الكثير. ولكن لأبدأ بما هوأهم. نشأتي.. محيطي... أسرتي.. كل من حولي يتحدث عما
جرى لأنه ليس مما يمكن نسيانه. لم ينشغل شعب بقضية قدر ما انشغل شعبنا. قرن
كامل. يولد أحدنا ويموت وقضية صراعه هذه قائمة. هي ملحمة شعب على مدى طويل من
الزمن. /كنت في نحو الثانية. هناك في فلسطين/. كانوا يتحدثون على مسمع مني وأنا
قابع إلى جوار أمي أو أبي على واحدة من تلك المصاطب أمام البيوت، في البلدة
القديمة من مدينتنا.. يافا..
يسرح ببصره
بعيداً.. وينتقل المشهد.
الفصل الثالث
المشهد الثاني
نساء ورجال يجلسون
أمام البيوت في البلدة القديمة من يافا، وطفل في نحو الثامنة يجلس إلى جوار
امرأة في عقدها الثالث، ممتلئة الجسم. تغطي رأسها بشال أبيض كسائر الجالسات).
أمينة
: (تضرب كفاً
بكف) مسكينة أم سليم. لا بد أنّها جنّت. لم تصدق حين أنزلوا النعش من سيارة
الإسعاف. كانت طوال الوقت تقول (لا مابيشنقوه من أجل رصاصة فارغة وجدت معه.
الناس يشنقون حين يقتُلون.. ابني لم يصنع شيئاً يستحق عليه الشنق..).
صبرية
: (بتعجب)
كأنها لم تكن تعرف كم شنقوا قبله لهذا السبب أو مثله.
ندى
: (بتعاطف
وحزن) أمّ.. لأنها أمّ ياصبرية.. قولي الله يعينها.
أمينة
: (بغضب) ياناس..
ياعالم.. شاب ابن العشرين طول هالباب. يشنقونه لأجل خاطر اليهود وبحجة رصاصة
فارغة معه؟
صبرية
: ياترى
بيعاملوا اليهود بنفس الطريقة؟
ندى
: يامجنونة
الإنكليز بيعطوا اليهود السلاح بأيديهم..
أبو ناصر
: ياجماعة
نسيتم حكاية الصندوق الذي انكسر في المينا وتبعثرت محتوياته فكانت متراليوزات
وبواريد ومسدسات؟ كنت واحداً ممن شاهدوها. بضاعة كانت مشحونة باسم تاجر يهودي
من تل أبيب حتى اسمه فاكره (كوليك). المانيفست يقول بأن البضاعة قماش. ماذا
صنعوا؟ لملموا الحكاية وكأنها ماكانت.
أبو نعيم
: (بتعجب) وكيف
تلملمت يا أخي؟ كيف قدروا يلملموا أمر مكشوف بهذا الشكل؟.
أبو ناصر
: ضربوا طوق
على المنطقة، منعونا نحن الموظفين العرب في الجمرك. وعرفنا فيما بعد أنها وصلت
لهم سالمة.. مع الاعتذار أيضاً..!
أبو نعيم
: أعان الله
أبو سليم.
صبرية
: قل أعان الله
أمه. الرجل يصبر كيفما كان.
ندى
: (في تفجُّع)
ياحسرتي مالهم غيره.
أبو ناصر
: الإنكليز
ياجماعة الإنكليز أصل البلاء والدهاء والمصائب كلها..
أبو نعيم
: واليهود أصل
المصائب على البلاد والعباد..
أبوناصر
: في العالم
كله.. منذ فجر التاريخ لم تقم حرب إلا وكان وراءها يهود.. حتى الأنبياء.. قتلهم
اليهود..!.؟ بلاء البشرية...
الفصل الثالث
المشهد الثالث
بيت مماثل للسابق،
مع اختلاف في الأشخاص، عدا أبو ناصر، وصبرية، والطفل ناصر. يشربون الشاي وكعك
العيد أثناء الحديث).
أبو ناصر:
(يضرب كفّاً بكف) البواخر كل يوم والثاني محمَّلة مهاجرين يهود وعلى
المكشوف.
حامد
: الإنكليز
كانوا يدارون في السابق.
أبو فتحي:
وكانوا يعلنون أحياناً ولو في الظاهر.. تمثيل يعني.
أبو ناصر:
لكن اليهود يهود يا أخي. تصوروا نسفوا باخرة محمّلة باليهود. والإنكليز
عرفوا الفاعل واسمه مناحيم بيغن. كتبت عنه الصحف ونشرت صورته. هو كان يقود
العملية.
صبرية:
(تدق على صدرها) ياندامتي اليهود ينسفوا اليهود..!؟
مجيدة
: (أيضاً تدق
على صدرها مستهجنة) بيعملوها؟ معقول ياناس؟
أبو فتحي
: بيعملوا
أبوها، حتى يحرجوا الإنكليز ومايمانعوا تاني مرة. وهذا هو الحاصل اليوم. بواخر
طالعة نازلة. آلاف مؤلفة تتدفق على المواني.. حيفا.. يافا.. تل أبيب.. والله
أعلم إذا في أماكن غيرها..
أبو ناصر:
ومخازن السلاح في تل أبيب.. تسربت الأخبار بأن الإنكليز اكتشفوا
مستودعات لها أول مالها آخر قبل يومين.
أبو فتحي:
وبعدين.؟
أبو ناصر:
لا بعدين ولا قبلين. كالعادة لا من رأى ولا من سمع ياخوي..
أبو فتحي:
(متبسطاً) تسلم يديك يا أم فتحي على هالكعك..
أبو ناصر:
(ضاحكاً) أم فتحي ولاَّ أبو فتحي؟
يضج الجميع بالضحك
أبو فتحي:
طيب الحرب انتهت. وهتلر اختفى.. أومات.. المهم.. حجتهم بطلت فما معنى
تدفق المهاجرين منهم علينا من كل مكان في العالم؟
أبو ناصر:
مَنْ صدقوا أن الموضوع موضوع هتلر ونازية وماشابه مغفلين. الموضوع
أطماع في بلادنا.. في خيراتها وأرضها وموقعها.
أبو فتحي:
(متعجباً) وكيف الإنكليز ساكتين؟
أبو ناصر:
مصالح مشتركة.وعداء مشترك نحونا أيضاً.
مجيدة
: (في قلق)
والنتيجة..؟
أبو نعيم
: النتيجة في
علم الله.
الفصل الثالث
المشهد الرابع
أصوات قنابل
ورشاشات. وأناس يتراكضون في اتجاهات مختلفة. تهدأ الانفجارات وأصوات الرصاص بعض
الوقت ثم تعود من جديد. والناس يتراكضون أيضاً من جديد. يسود الصمت. ثم يظهر
تجمُّع من المهاجرين.. رجال ونساء وأطفال في جامع بمدينة صيدا).
رجل لبناني:
(يحمل سلة بيد وكيساً بيده الأخرى.السلّة تحوي معلبات وخبز والكيس يحوي
مايبدو أنه شراشف وملاءات) لا تؤاخذونا ياجماعة.. على قدر الحال..
رجل مهاجر:
(يبدو منكسراً يوشك على البكاء) كتّر الله خيركم يا أخي.. والله
ماقصَّرتم..
اللنباني
: لا شكر على
واجب. كلنا أخوة وأهل.
أبو ناصر:
(إلى جواره يقف ناصر) لا أراكم الله مثل هذا اليوم.
لبنانية
: (تقف إلى
جانب زوجها اللبناني واضعة كفاً فوق كف تحت صدرها موجهة كلامها إلى أم ناصر
خاصة) كلها كم يوم يا حبيبتي وترجعوا إن شاء الله...
أم ناصر:
(بامتنان ورجاء) الله يسمع منك يا أختي.. (تغص بدمعها. تمسح الدموع
بشالها وتخفي وجهها).
اللبناني
: اطمئنوا
الجيوش العربية دخلت فلسطين من كل الجهات. الإنكليز طالعين. واليهود.. يعني
اليهود أمام الجيوش العربية كلها ومعها جيش الإنقاذ، ومعهم المتطوعين العرب من
كل مكان.. ينتهون في يومين.. أسبوع ياسيدي.. المشكلة منتهية إن شاء الله..
بالتأكيد..
أبو ناصر:
(في ابتهال) الله يسمع منك يا أخي..
أم ناصر:
(تجلس متربعة. مطرقة تتبادل في قلق وضع يديها فوق بعضهما بين لحظة وأخرى
إبان ذلك تحدث نفسها) يابيتنا.. ياجيراننا.. يا ترى عايشين..؟ ميتين..؟ من
يعلم؟
أم ناصر:
وكليها لله يابنت الحلال..
أم ناصر:
أكثرهم ماتوا يا أبو ناصر. بعيني رأيتُ الزورق القريب منا يغرق. شبت
النار فيه وبعد لحظات اختفى تحت الموج بكل من عليه. يا حسرتي.. يمكن ضربوه
بمدفع..لابد كيف يمكن..؟
اللبنانية
: (في وله
وفزع) قنابل وأنتم طالعين من البلاد وفي عرض البحر؟ لا يكفيكم همكم..؟ الله
يجازيهم.. الله يسلط عليهم شر خلقه.
أم ناصر:
قنابل يا أختي ورشاشات فوق رؤوسنا، في الشوارع في المينا.. كيف وصلنا
بالزوارق.. شيء فوق الوصف.. ماذقناه من الويلات يا أختي (تغص وتخنقها الدموع).
اللبنانية
: (تقترب منها
وتحتضنها مواسية) إن شاء الله بترجعوا قريب يا حبيبتي.. طولوا بالكم إن الله مع
الصابرين..
اللبناني
: (حانقاً)
طيب ياجماعة.. العرب.. المسلمين.. العالم؟ وينهم..؟
أبو ناصر:
(في مرارة) كان العرب ينتظرون الموعد الرسمي لخروج الإنكليز من البلاد
في وقت كان اليهود يقتلون الناس.. يذبحون ويحتلون.. يظهر أن العرب رسميين أكثر
من اللازم.. والمسلمين يكتفون بالدعاء إلى العلي القدير بأن يشتت شمل أعدائهم..
والعالم يتفرج..!
اللبناني
: (يضرب كفاً
بكف) لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه رجعون (ثم في شيء من الحرج)
على كل حال إذا لزمكم شيء يا أخي لا تترددوا.. دارنا هناك (مشيراً بيده إلى دار
قريبة من الجامع) تقطع الشارع فقط.. أمانة بالله..نحن إخوة ياجماعة، والناس
لبعضها في الشدائد..
أبوناصر: (في ألم
وحرج) أبعد الله عنكم كل شدة يا أخي.. والله أنتم أخوة لنا وأكثر..
اللبناني
: (وهو ينصرف
وإلى جواره زوجته مطرقة الرأس ويداها تحت صدرها فوق بعضهما) السلام عليكم..
نراكم بخير إن شاء الله..
أبو ناصر:
كتّر الله خيركم.. في حفظ الله ياأخي..
الفصل الثالث
المشهد الخامس
ذات المشهد الأول
من الفصل الأول، أي قاعة المحكمة وهيئتها وقفص الاتهام بداخله الفدائيون
ناصر:
(كأنما يعود من غيبة طويلة، يتوجه ببصره حيناً إلى المنصة وحيناً إلى
الجمهور. ثم يتابع) ثم جاؤونا بشيء اسمه الهدنة. توقفت الحرب. ظن الجميع أننا
عائدون. حتى أن أمي أخذت تتفقد مفاتيح الدار التي أقفلتها بها عند رحيلنا. ولكن
هذه الأحلام ضاعت فجأة باستئناف الحرب واستيلائهم على أكثر مما خصص لهم في
مشروع التقسيم الظالم.. ثم اخترعوا لنا شيئاً أسموه (وكالة إغاثة اللاجئين)...
هذا أصبح اسمنا.. فذقنا من الذل الكثير.. توزيع المؤن.. سطل الحليب.. السكن في
خيام أو أكواخ تصلح لسكنى الحيوان.. وتوالت المآسي. من حروب واعتداءات لا تنقطع
ليس علينا وحدنا، حتى في مخيمات لجوئنا، بل أيضاً على الدول العربية المجاورة..
ومجازر واحدة تلو الأخرى.. غير دير ياسين وكفر قاسم.. قبية نحالين وخان يونس
وغزة.. الموت الجماعي، والعقوبات جماعية.. ثم احتلالهم في حزيران عام 1967
لماتبقى من أرض فلسطين.. وفوقها أجزاء من أراضي الدول العربية المجاورة يحدث كل
هذا، ياسادة والعالم يقف مكتوف الأيدي متفرجاً.. بعضه يقف عاجزاً عن فعل
شيء..وبعضه مباركاً..
القاضي
: (يطرق على
المنضدة) أقول الحق، لقد نفد صبرنا تماماً أيها السيد. لقد أنصتنا إليك طويلاً
يا.. ياناصر.. ولكننا غيرمضطرين لسماع المزيد.. كما أننا لا نستطيع السماح لك
بإدخالنا في متاهات لا أول لها ولا آخر.. ثم إن هذا كله مما أتحفتنا بسماعه لا
يعنينا في شيء. هو موضوع آخر...
ناصر
: (في حزن
وألم) قضيتنا دائماً موضوع آخر لا جدوى من الخوض فيه. كيف نلام إذن حين نعمل
على إثبات وجودنا بطرق أخرى.. حين نناضل من أجل الحصول على حقوقنا التي أهدرت
واستعادة أرضنا التي اغتصبت على مرأى ومسمع من الدنيا بأسرها؟
النائب العام:
(محتداً) مرة أخرى يذهب بنا هذا الجاني بعيداً عن صلب القضية المطروحة
أمام هذه المحكمة بل هو يتحدث في أمور ليست من اختصاصها..
القاضي
: (يهز رأسه
موافقاً) نعم.. نعم..هذه أمور ليست من اختصاص هذه المحكمة.
ناصر
: (في أسف) هذا
مايحدث دائماً. يجب أن يُعتَّمَ على مأساتنا تماماً وعلى الدوام، فما من أحد
يريد أن يستمع إلينا، أو يبصر مايحل بنا نحن مجردون، بمباركة أو قولوا بمؤامرة
دولية من كافة وسائل الدفاع عن النفس، سواء بالكلمة أو بالسلاح، أجل نحن أرض
مفتوحة مباحة. تملك أيدي أعدائنا الحرية المطلقة لتفعل بنا ماتشاء بغير حساب.
ويزعمون بعد ذلك أن هناك حقوقاً للإنسان..وإنهم حماتها.. ابتداء من تلك الهيئة
التي أهدرت دماءنا وانتهاء بمدّعي امتلاك الحضارة المعاصرة..
يدخل ضابط.. يتوجه
إلى القاضي بخطوات سريعة. ينحني ليهمس في أذنه. فيما هو يقدّم إليه ورقة.
يقرأها القاضي. ثم يصيح في وجه الضابط بصوت مسموع دون أن يدري لشدة انفعاله
ودهشته).
القاضي
: لكن هذا غير
ممكن؟ هذا غير معقول..! هل تعني أن هذه المحاكمة يجب أن تتوقف؟
الضابط لا يرد.
يمضي محدقاً في وجه القاضي. الصمت يسود القاعة. العيون محملقة في انتظار
ماسيقوله القاضي).
القاضي
: (بعد التدوال
مع عضوي المحكمة وفي صوت مرتجف، تأثراً) أيها السادة يؤسفني أن أقول بأنني مضطر
لإبلاغكم بأن جلستنا سترفع على الفور. أعني ستغلق لأن القضية باتت منتهية، فلقد
قامت مجموعة إرهابية أخرى باختطاف طائرة واحتجاز رهائن، وهي تطلب إطلاق سراح
هؤلاء المتهمين الماثلين أمام محكمتنا مقابل سلامة الرهائن، ولا يسع هذه
المحكمة أمام هذا الواقع المؤسف سوى الاستجابة لطلب السلطات العليا في حكومتنا.
وسوف يغادرنا هؤلاء إلى أي مكان يشاؤون وتحدده المجموعة الإرهابية آنفة الذكر؟؟!
النائب العام
: (مندهشاً
وثائراً أكثر من أي وقت مضى) ولكن كيف حدث ذلك؟؟.
ناصر
: (في ابتهاج
شديد وكذلك زميلاه إلى النائب العام) كيف حدث ذلك..؟ ذلك موضوع آخر..!
القاضي
: (يهب واقفاً
ومعه من على المنصة) نعم.. ذلك موضوع آخر..!
الجمهور:
(الأصوات من كل
مكان في القاعة) ذلك موضوع آخر..! ذلك موضوع آخر..!
الجميع يغادرون
القاعة.
|