الأخضر
نباتات " البوتس " المعلقة فى شقتى تتدلى من أعلى إلى أسفل حتى تكاد تلمس الارض
، فتضفى على الشقة لمسة ساحرة 0 مازحنى زوجتى كل يوم قبل نومى وهى تتساءل
: هل اطمأننت على أولادك قبل ان تنام ؟ 000 ولكن أحد الجبابرة يثير فى نفسى ليس
الخوف على أولادى الخضر فحسب ،ولكن على مستقبل النباتات فى شقتى 00 أنه
"أحمد الصغير " ، أره يوماً يمزق نبات البوتس المتدلى ، فأهدده بالخصام
أذا لم يتوقف ، فلا يبالى 0 ثم أهدده بان الله سيدخله النار ، فيظهر
الرعب على وجهه ، ويجرى ناحية أمه يبكى خوفا من النار ، فتهدئ أمه من روعه ،
ويتعهد وهو يبكى بأنه لن يعود إلى تمزيق أوراق النبات 000
ولكننى فى اليوم التالى أراه يمارس فعلته الشنعاء ، فأغضب وأقول له أن النبات
سيكرهه ، فيحملق فى وجهى باستغراب وحيرة 000 ثم أخبره فى صباح اليوم التالى
بأننى أثناء نومه فى الليل ، سمعت النبات يبكى بسبب تمزيق أوراقه فيطرق الصغير
متفكرا ، ويهم بأن يقول شيئا ، ولكنه يتراجع وقد أكتسى وجهه الحزن 0
ولكننى بعد عدة أيام كنت أمر بصالة المنزل ، فأذا بى أرى مشهداً غريباً : كان
الصغير يلمس أوراق النباتات المتدلية برقة شديدة وكأنه يربت عليه ، وبدا لى وهو
يميل على إحدى الأوراق الكبيرة وكأنه يهمس لها بشىء
تحـدى
لأول مرة ظننت أنه مجذوب
لحيته الطويلة ، ووجهه المرهق المصفر ، والنظرات الذاهلة فى عينيه ، وجلبابه
المتسخ
يحمل فى يد عصا مثبت فى أخرها قطعة قماش بألوان العلم 0 ولكن شكى تبدد بعدما
علمت أنه والد التلميذ بالمدرسة المجاورة لمنزلى والذى دهسته مؤخراً شاحنة
البضائع المملوكة لأحدى التجار الذين لمعوا فى حقبة السبعينات 0
بدأ يظهر فى الشارع أمام المدرسة بعد يومين من الحادث 0 ياتى مبكرا ويساعد
الأطفال فى عبور الشارع الخطر أمام المدرسة ، ثم يجلس على الرصيف منتظراً
أنتهاء موعد الدراسة ليساعدهم فى عبور الشارع إلى الرصيف المقابل 0
يقف فى منتصف الشارع بجرأة ، شاهراً العلم فى وجه السيارات ليجبرها على الوقوف
، ثم يعبر بالأولاد فوجاً بعد فوج ، وبعدها يذهب إلى حيث لا يدرى أحد أين يسكن
، ليعود مبكراً فى اليوم التالى فى موعد المدرسة 0
أراقبه وبعض من علم بقصته يدس فى يده بعض النقود ، فيقبلها بلا غضب وأيضاً بلا
أمتنان ، ثم الحظه وهو يدسها بسعادة فى جيوب الأولاد 0
لا يكل من المجيء كل يوم ، حتى فى الطقس القارص والمطر ، ولا يأبه بوقفته
المتحدية لطريق السيارات ، شاهرا فى وجهها العلم ليجبرها على الوقوف ، بينما
يكتسى وجهه بالتحدى السافر والصرامه 0
عندما خرجت إلى الشرفة ذات يوم على صرخات الأولاد ، كان ملقى فى وسط الشارع
بعدما أطاحت به إحدى السيارات ، وكان الأولاد متحلقين حوله يبكون .
أغتيال
أختارته لكى تولد منه 000000
ليس فى الدنيا أرق إحساساً منه . فى أعماقه يكمن فنان ، فى قلبه يقبع قديس.
لذلك أختارته لكى تولد منه 00
عندما جاءت ساعة المخاض ، خرجت نوراً 00 تجسدت أمام عينية كأروع ما تكون امرأة
00 جسدها البلورى الصافى يرى من خلاله العالم .
كان يعزف لها على قيثارته ، وكانت تغنى بصوت حزين 00
عندما قتل أبوه ذات يوم ، أتاه أخوته 00
قالوا : ننتقم 0
قال : لا 0
قالوا : أتترك دم أبيك ؟ أتترك قاتله الشرير ؟
قال : الشر لا يمحى بالشر
قالوا : أتجبن ؟ أتضعف . أتكون كامرأة ؟
ملئوا قلبه حقداً . ضعف . رضخ 0
فى المساء ، أختاره لكى يولد منه 0000
أسود كالليل بلا قمرا ولا نجمات 0 تجسد رجلا فى يده الخنجر يلمع فى وهج المصباح
00 أمتدت يده لتطعنها ، ثم تلاشى وذاب فى الليل المنتشر 00
هاله تغيرها : الجسد البلورى أستحال أديما 00 لم يعد يرى من خلاله الأشياء 0
جزع 0 سألها : ماذا أصابك ؟ 000 الصمت يدوى ، ما ياتى جواب 0
نظرت باللوم توجهه إلى عينيه 00 قرأ بعينيها صرخة 00 دوت صرخاته المجنونة :
- كلا 000 لست القاتل 0
كانت تذوب 00
وتتلاشى 00 رويدا 00 روايدا 0
الشجرة
أكرهها هذه الشجرة القميئة الرابطة فى الفناء 00 تقف أمام نافذة غرفتى تكاد أن
تسدها ، وتمنعنى من رؤية العالم الذى خلف النافذة .
ضخمة جداً هذه الشجرة ، وأنا أكره الاشياء الضخمة ، كما أنها دون باقى الأشجار
ليس فيها أى نوع من الجمال ، حتى خضرتها غير مبهجه 0
رائعة غرفتى ولا عيب فيها سوى أطلالة الشجرة اللعينة عليها ، فبالإضافة إلى كون
غرفتى مرتبة وجيدة الأثاث ، فهى تعتبر أدفأ غرف المنزل شتاء 0
تستفزنى ضخامة هذه الشجرة بلا فائدة ، وتطفلها حتى لتكاد تقتحم على غرفتى من
خلال النافذة 0 وكلما اصطدمت بها عندما تعوق رؤيتى ، تجددت رغبتى فى أجتثائها
أصارح أبى برغبتى ، وبأن وجود هذه الشجرة يصيبنى بالاكتئاب ، ويؤثر على تركيزى
فى المذاكرة ، فيواجهنى بأن ما أقوله هو كلام فارغ ، ولكننى ألحظ عليه
بعض القلق فيما يتعلق بموضوع المذاكرة ، خاصة وأنها الثانوية العامة 0
ثم تواصل أمى إقناعه بإزالة الشجرة خوفاً من تأثيرها على نفسيتى ومن ثم نجاحى
بتفوق ، فيوافق أبى متضرراً ، وهو يردد المثل العامى بأسى : دعنا وراء الكذاب 0
عندما جاء النجار وقفت مع أبى نتابع عمله فقد أرهقت الشجرة النجار رغم استخدامه
للمنشار الكهربائى 0 وعندما تمت إزالة الشجرة ، لاحظت نظرات الحزن فى عين
أبى ، فقد كانت الشجرة قديمة جداً 0
فى غمرة شعورى بالانتصار ، صعدت إلى غرفتى لأرى آثار الوضع الجديد 0 كانت
الغرفة يغمرها الضياء 0 ولأول مرة أستطعت أن ارى العالم خلف النافذة ، لقد بدا
أجتثاث الشجرة عملا رائعاً حقا0
عندما حل الشتاء ، أكتشفت لأول مرة أن بالنافذة العديدة من الثقوب والمسارب
التى ينفذ منها الهواء والذى أحال غرفتى إلى ثلاجة حقيقة ، وتعجبت كيف لم أكتشف
هذه الثقوب من قبل .
تقـزم
لا أدرى لماذا كنا جميعاً نرهبه فهو لم يؤذ أحد منا، بالإضافة إلى كونه صديقنا
.
عندما كان " عباس " يطل علينا بجلبابه الطويل كنا نتوقع دائما حديثا عن الحلال
والحرام والعذاب ، كانت اجسادنا تقشعر مما يذكره عن عذاب القبر والنار ، ويزيد
من تلك القشعريرة صرامة تعبيراته وقوة صوته 0
الأغرب من ذلك أن ما كنا نستشعره من خوف فى حضوره ، كان يعيد إلى نفوسنا ما كنا
نستشعره من رهبة تجاه الأباء فى الصغر ، والمدرسين فى مدرستنا . كنا نخاف
أن نخطئ أمامه بشىء قد يكون حراما أو يستوجب العذاب ، ونتصرف جميعاً بحذر كما
لو كنا نخشى أن ينتقدنا " عباس " الذى كان يشارك فى جميع مناقشاتنا ،
ويصوبها من وجهة نظره ، فهذا الموقف حلال ، وهذا حرام ، وهذا الرأى يستنزل لعنة
الله ، وذاك يستوجب الرضا .
كان يبدو بيننا عملاقاً ، وكنا لا نجرؤ على مناقشة احكامه ، وإذا حاول أحدنا
المناقشة ، كانت نظره من عينيه فيها اتهام بالضلال والزيغ كفيلة بإنهاء أى نقاش
.
وبالأمس عندما طرح صديقنا " نور " قضية الحداثة فى الأدب والفن ، فقد استعل
النقاش بيننا ، وأخذ كل منا يدلى بوجهة نظره ، ونحن نستعرض المذاهب الحديثة فى
الفن والنقد ، وكان " عباس " صامتاً طوال الجلسة ، منكمشاً فى كرسيه ونظراته
زائغة ، وهم أن ينطق بشىء ، ولكنه تراجع .
بدا لى مع سخونة الحوار بأنه ينكمش شيئاً فشيئاً ، حتى ظننت أن سيتكور على نفسه
0
تحفى الثمينة
تحفى الصغيرة الجميلة ، أعتز بها وأحرص عليها بشدة ، وأزين بها غرفة الصالون ..
أضع تحفى على " الترابيزة " الواطئة قليلا لسوء حظى ، ثم أرتعب بشدة عندما ياتى
إلينا ضيوف لديهم أطفال .
جيراننا الذين يقطنون فى الشقة المقابلة كثيراً ما يزورننا . لديهم طفل فى غاية
الشقاوة ، وعندما ندخلهم إلى الصالون ، كانت عينى لا تغيب عن مراقبة الطفل ،
فتدور معه نظراتى القلقة حيثما يتحرك. ولكنه فى أحدى المرات غافلنى وضرب بيده
تحفة صغيرة : تمثال " روميو وجوليت " كانت غالية الثمن . ورغما عنى إنفلتت منى
نظرة تعبر عن المقت الشديد ، لاحظها والده بقليل من الارتباك وكثير من الاعتذار
، ولكننى لم أستطع أبدا أن تكون مشاعرى ودية تجاه ذلك العفريت الذى حطم تحفتى
الثمينة .
أما هذا الشقى الأخر الذى أستطاع أن يغافلنى ويكسر أغلى تحفى : تمثال " بوذا "
الرائع ، درة تحف الصالون . غافلنى هذا الشقى وكسره ، ثم توقعاً منه لرد فعلى
، أندفع نحوى ليحتضننى وكأنه يحتمى بى ، فأجد نفسى مضطرا لأن أهش فى وجهه كى
أهدئ من روعه ، ثم أحتضنه ناسيا كل تحف العالم وهو يردد :-
" بــابا 000 000 بــابا "
ابتسامة الوجه الشاحب
عندما واجه نظرات الطبيب المترددة ، ألقى على وجهه نظرة ثابتة ، وسأله بلهجة
تحمل قدراً كبيراً من الثقة واصطناع المرح :
- ماذا عن مريضك يا دكتور ؟
زار الطبيب منذ حوالى أسبوع ، وكان يشكو من سعال لم يتحسن بأدوية السعال
التقليدية .. فى الفترة الأخيرة كان يخرج بلغماً كثيراً ، وبين الحين والآخر
كان يبصق بلغماً مدمماً .. قضى الأسبوع الفائت فى أجراء فحوص وتحاليل وأشعات
على منطقة الصدر .. طمأنه الطبيب إلى أن هذه التحاليل والأشعات لا ينبغى أن
تقلقه ، وأنها ضرورية لمن تعدى عقده الخامس ، خاصة إذا كان مدخناً .. وقال له
الطبيب أيضاً أن الأجانب يقومون بهذه الفحوص بصفة دورية كل ستة أشهر أو على
الأكثر كل عام ، حتى لو لم يشتكوا من أى أعراض مرضية .. ورغم ذلك ، فقد كانت
هذه التحاليل والإشاعات مقلقة له . لم يكن يعرف بالتحديد أهى بذاتها مصدر هذا
القلق ، أم أوهامه وتخيلاته …
عاد إلى الطبيب ونظراته التى مازالت مترددة ، فشعر بالارتباك وبشىء من الخوف ..
عبرت تلك المشاعر عن نفسها فى حدة خاطب بها الطبيب :
- قلت لك تكلم يا دكتور .. فلست أخاف من أى شىء .
- اهدأ قليلاً ..
قال بحدة :
- أنا هادئ .. هادئ جداً ..
خلع الطبيب نظارته ، طوى ذراعيها ووضعها أمامه على المكتب ، ثم واجهه بنظرة
حائرة .. فتح الطبيب فمه لينطق ببطء وحذر :
- سرطان .. سرطان فى الرئة ..
للحظات خيل إليه أن الغرفة تدور ، وأن الأرض تهتز من تحته ، ثم شعر وكأن حركة
الكون قد توقفت ، ثم عادت الغرفة تدور والأرض تهتز مرة أخرى . تم ذلك كله فى
ثوان قليلة .. وضع يده على جبهته ، ثم تحركت أصابعه عليها وكأنها تعتصرها ..
ثبت نظراته على أرض الغرفة التى لم تهدأ اهتزازاتها تماماً .. شعر بأن بصره
مجهد .. دام بينهما صمت ثقيل .. أفاق على صوت الطبيب الهادئ :
- الطب لا يعرف اليأس .. الشرط الأول لنجاح العلاج هو الأمل والرغبة فى العلاج
، والقوة النفسية .
- لا تقلق يا دكتور .. أنا صلب للغاية .. لقد مررت بمحن كثيرة .. حياتى كانت
سلسلة من الاعتقالات والسجون والتعذيب .
- صلابتك هذه ستكون خير سند للعلاج .
صمت قليلاً ثم عاد ليسأل :
-هل المرض فى مرحلة متقدمة ؟
-قليلاً ..
قال بغضب :
-لا أفهم قليلاً هذه .. إما حالة متقدمة أو ليست كذلك .
-الحالة متقدمة .. كون السرطان ثانويات فى الكبد ، ولكن يمكن وقف تقدم المرض
بوسائل عديدة .
-هل ستكون هذه الوسائل مجدية ؟
أكمل بسرعة :
-أقصد فى الشفاء
-إذا أردت منى أن أكون صادقاً معك فإن أى علاج يحتمل النجاح أو الفشل . المهم
هو قوة الإرادة والأمل والرغبة فى العلاج . هذه أشياء أساسية وهامة .
-هل يمكن أن تعطينى فكرة عن وسائل العلاج هذه ؟
-نبدأ عادة بالجراحة ، ثم نستكمل بالعلاج الكيماوى والإشعاعى .
حملق فى الأرض قليلاً . ثم رفع رأسه وسلم على الطبيب صامتاً . وعندما استدار
خارجاً ، ارتطم صوت الطبيب بظهره وهو يقول :
-لا تيأس من رحمة الله .
* * * *
غادر عيادة الطبيب ، وعبارة " لا تيأس من رحمة الله " تطن بأذنه بإلحاح شديد .
رحمة الله ؟! .. الله ؟!.. حاول أن يتذكر منذ متى انقطعت علاقته بالله تماماً
.. حتى سن المراهقة كان متديناً ، وكان يواظب على الصلوات .. الانقلاب بدأ فى
الجامعة ، عندما تعرف على زميله الماركسى سمير شهدى . نمت العلاقة بينهما إلى
الصداقة . تذكر أن سمير هو الباب الذى دلف من خلاله إلى التنظيمات الماركسية .
انبهر بماركس وأنجلز ولينين ، وآمن بمادية التاريخ ، وكره رأس المال المستغل
الذى يأكل عرق العمال . منذ هذه اللحظة قطع علاقته بالله . اعتقد فى الدين
الجديد . دين بلا إله . أصبح يهاجم الأديان الأخرى بضراوة وآمن أنه من أنبياء
الدين الجديد الذى لابد أن يزيل أوهام الديانات البالية . والغريب أنه أحب
وتزوج فتاة متدينة . هو نفسه عجز عن تفسير ذلك . الرفيقات فى التنظيم لم يكن
قليلات ، وكانت بعضهن جميلات ، والأهم من ذلك كن يحملن نفس الفكر والعقيدة .
فلماذا هذه الفتاة المتدينة !! وكيف أحب من تعتقد بشدة ما يمقته بشدة!!
تساؤلات كثيرة دارت فى رأسه ،وأضناه البحث عن أجابه لها .ولكنه فى النهاية كان
يحبها،ولم يكن على استعداد للتخلى عنها لأى سبب.والأكثر غرابة من ذلك، أنه هو
الساخر الهازئ من الأديان، أحترم تدينها .لم يقل أمامها أى شئ يخدش عقيدتها
الدينية ،و لم يحاول يوما أن يغير من عقيدتها ،أو يجادلها فيها . و لم يحدث
يوما أن جاهر بإلحاده أمامها . ولكنه لم يصل درجة أن يصلى لكى يرضيها ، أو يفعل
ما من شأنه أن يعطى صورة كاذبة لإيمان دينى .اعتبرته هى متساهلا فى أمور الدين
، وتألمت لذلك . حاولت أن تجره إلى الالتزام الدينى .حدثته يوما عن عقوبة تارك
الصلاة ،فأبتسم لأول مرة بسخرية .
حاولت معه بشكل أكثر صراحة :
- ألم يأت الأوان لتصلى؟
أجابها بلهجة حادة:
-لا أحب المواعظ .
كانت هذه هى المرة الأولى التى يحتد فيها عليها فى أمر دينى . بعدها توقفت عن
محاولاتها ،آملة فى نفسها أن يهديه الله .الأولاد تدينوا مثل أمهم ،لم يحاول
التدخل فى اعتقاداتهم ..علمتهم الفرائض والسنن والأدعية ،و كان يسخر فى نفسه من
ذلك ،ولكنه لم يجرح شعور أحد فيما يعتقده . كان على العكس بالنسبة
للآخرين ،يهاجم العقائد بقسوة و سخرية .
و عندما كان أحدهم يجابهه بسؤاله :
- و من خلقك ؟!
كان يرد ببساطة :
- الطبيعة موجودة .. وتتطور .. قانون الصدفة الكبير أنتج كائنات حية أولية ،
تطورت حتى وصلت إلى ذروتها فى الإنسان .. الطبيعة هى الخالقة .
* * * *
فى اليوم التالى ذهب إلى طبيب آخر متخصص فى علاج الأورام . كانت فى رأسه
تساؤلات كثيرة . قرر أن يكذب على الطبيب ، ليحصل على إجابات أكثر صدقاً وصراحة
.
قال للطبيب دون الدخول فى مقدمات :
-زوجتى مريضة بسرطان الرئة . المرض أنتشر إلى الكبد . المرحلة متقدمة . لقد
تعمدت أن أجئ إليك وحدى حتى يكون الحديث أكثر صراحة .
سكت قليلا ، ثم أكمل :
- لى سؤال محدد : هل هناك علاج مضمون ؟
-لا يوجد علاج مضمون ،و لكن هناك دائما الأمل .
-لنكن أكثر صراحة . إذا لم يكن هناك أمل فلا تخفى ذلك عنى . على الأقل حتى
أستطيع إسعادها الفترة المتبقية من عمرها .
سأله الطبيب :
- هل تم عمل أشعة مقطعية ؟
- نعم .
- هل يمكننى الاطلاع عليها .
كان قد تعمد نزع البطاقة المدون عليها أسم المريض من على صورة الأشعة . ناولها
للطبيب . قام الطبيب بعرض صورة الأشعة على جهاز خاص يوضح الرؤية . ظل يحملق
فيها طويلا ، ثم سحبها و عاد إلى مكتبه .
قال الطبيب بهدوء :
-الحالة حرجة للغاية . لا أخفى عليك أن الأمل ضعيف .
شعر برجفة شديدة تجتاحه . لاحظ الطبيب ذلك .
قال الطبيب :
-كن شجاعاً . الأعمار بيد الله .
استولى عليه الحنق .
قال بلهجة قوية حتى يبدو متماسكاً :
- كم أمامها من العمر ؟
- قلت لك أن الأعمار بيد الله .
قال بضيق :
- دعنا من ذلك ، فأنا لم ألجأ إلى شيخ أزهرى . حدثنى عما يقوله الطب .
قال الطبيب بهدوء :
- إذا لم يتم العلاج ،فليس أمامها أكثر من شهر.
- و إذا تم العلاج ؟
-لا أستطيع القطع . و لكن الحالة حرجة جداً . لا أريد أن أقول أنها حالة ميؤوس
منها ، فأنا أكره كلمة اليأس .
-أريد أن أسألك مرة أخرى عن جدوى العلاج.
-مهما كان الأمل ضعيفاً ، فهناك فرصة لتحققه .. أنه واجبك الأخير تجاه زوجتك
،حتى لا تندم يوماً ، أو تتهم نفسك بالتقصير .
* * * *
قرر أن يبدأ رحلة العلاج ..
كانت المشكلة الأولى هى زوجته و الأولاد . هل يخفى عليهم الأمر ؟ . هل يخبرهم
؟. وكيف سيخبرهم ؟ بالقطع سيدخل المستشفى ، فالخطوة الأولى هى العملية الجراحية
. هل سيدخل المستشفى بدون علمهم ؟ .. بدا له ذلك مستحيلاً . العملية ليست بسيطة
. قد تطول الإقامة فى المستشفى ، ربما إلى عدة أسابيع . رغم قلقه على زوجته
والأولاد ، كان يشعر بحاجته إليهم فى هذا الموقف . سيسعده أن يكونوا بجانبه .
قرر فى النهاية أنه لا جدوى من إخفاء الأمر . بطريقة أو بأخرى سيعلمون فى
النهاية.. قرر أن يبسط الأمر لهم ، و أن يسخر من أى محاولة للتهويل من جانبهم و
أن يشعرهم بأنه مازال صلباً كعادته . كان قد أتفق مع الطبيب الذى سيجرى له
العملية ،و أختار المستشفى التى سيدخلها .
فى المساء ، قال لزوجته ببساطة :
- سأجرى عملية جراحية .
أمتقع وجهها، و نظرت إليه ساهمة .
قال بلهجة ، حاول أن تكون مرحة :
-عملية بسيطة ، إزالة ورم بسيط فى الرئة .
أسقطت نفسها على كرسى . نظرت إليه ذاهلة .
قالت من بين دموع سقطت رغم إرادتها :
-سرطان ؟
قام واحتضنها . قال لها وهو مازال يحتضنها :
-لا تضخمى الأمر . الطبيب أكد أن المسألة بسيطة . سيزيل الورم ويصبح كل شىء على
ما يرام .
ارتفع صوتها بالبكاء وهى تتشبث به . شعر بأنه يتمزق من داخله . تسائل فى نفسه :
ماذا لو علمت بحقيقة الأمر ؟!!! .
قال لها بصوت خفيض :
-لا تهولى الأمر.المسألة بسيطة للغاية.لا ينبغى أن يراك الأولاد منهارة هكذا.
استمرت فى البكاء ، احتضنها بحنو ، وأخذ يربت على ظهرها .
همس فى أذنها :
- إذا رآك الأولاد هكذا ، فسوف ينهارون .
ابتعدت عنه قليلاً . مسحت دموعها بيدها . وعادت لتحتضنه .
* * * *
لم يستطع أن يقاوم رغبة جارفة فى معرفة كل شىء عن مرضه. اشترى عدد من الكتب
التى تتحدث عن السرطان ، وكيف يحدث . من خلال الكتب عرف أن السرطان هو شذوذ
خلية عن النظام . خلية تنمو بشكل عشوائى مجنون . تتكاثر وتتضخم حتى تعوق العضو
المصاب وتشله عن ممارسة دوره الطبيعى . خلية ! . ذكره هذا بالخلية السرية التى
انضم إليها فى شبابه .. الخلية السرية السياسية كانت كل حياته . . ولكنه اكتشف
أيضاً - بانبهار شديد - أن الخلية البشرية لها حياتها أيضاً .. عالم زاخر
بالأعاجيب .. تمتلك جهاز للاتصال ، وجهاز لتوليد الطاقة ، وآخر يختزن الطاقة
ليفجر الخلية عندما يصيبها ضرر غير قابل للإصلاح .. وكروموسومات تحمل كل
المعلومات الخاصة بالإنسان فى شفرات .
كان مذهولاً من فيض المعلومات عن الخلية البشرية . جاءت على ذهنه خليته السرية
، فحاول أن يجد وبينها وبين الخلية البشرية وجه للشبه ، ولكن تفكيره المشوش عجز
عن ذلك . عاد مرة أخرى إلى هذا العالم الغريب .. لم يكن يتصور أبداً أن الخلية
البشرية بهذا الإبداع والتعقيد والإدراك .. كون مصغر ، يعانى هو الآن من
اختلاله.. تذكر قانون الصدفة الكبير فأندهش . باغته التساؤل : هل يمكن للصدفة
أن تبدع مثل التعقيد ؟ وهل يمكن للعشوائية أن تنتج النظام ؟ .. أصابته الحيرة .
شعر بأنه عاجز عن التفكير الهادئ ، ولكنه فى نفس الوقت كان يشعر بالارتباك
والحيرة … باغتته بشكل غير متوقع ابتسامة والده وهو يموت .. اندهش لمجىء هذه
الذكرى غير المتوقعة .. عاوده شعوره القديم بالاندهاش ، وهو يرى والده على فراش
الموت . كان والده يتألم وهو جلس بجانبه .. فى لحظة الموت هدأ الألم . وكان
والده يحملق فى الفراغ ويبتسم . مات وعلى وجه هذه الابتسامة . اندهش بشدة من
ابتسامة رجل يترك الحياة ، تصور أن وجهه لابد أن يتقلص تعبيراً عن الحزن من
مغادرة الحياة .. لم يستطع أن يفهم هذه الابتسامة … ترك بسرعة هذه
الذكريات ليفكر فى المستشفى التى سيدخلها فى الغد .
* * * *
عندما تمدد على سرير المستشفى ، تذكر الشاعر " أمل دنقل " وديوان الغرفة رقم
(8) .. " الملاءات البيضاء ، معاطف الأطباء البيضاء ، الكفن .. تذكر صدق أمل
دنقل فى هذا الديوان وتحديه للموت .
الموت ؟! …
اكتشف أنه لم يفكر جدياً من قبل فى الموت ..
ما الموت ؟!…
طاف هذا السؤال فى رأسه وكأنه لا يعرف ما هو الموت ! تصور نفسه جثه هامدة ،
فأقشعر بدنه … ثم واصل التخيل كأنه يعذب نفسه فتصور جسده فى الكفن .. ثم أوغل
إلى أبعد من ذلك وتصور جسده يوضع فى حفرة ضيقة مظلمة ، تغلق عليه … ارتجف جسده
بشدة . تمادى إلى تخيل جسده وهو يتحلل ثم فى النهاية يتحول إلى تراب .
ثم ماذا ؟! ..
ظل هذا السؤال يتردد فى داخله .. يطارده .. يعذبه .. يجلده كالسوط . ثم ماذا
؟.. ثم ماذا ؟ ..
ثم لا شئ ؟!………
أصابته هذه "أللاشئ" بذعر .. أيكون بعد كل لا ذلك لا شئ؟.. عدم .. كادت
"أللاشئ" توصله إلى حافة الجنون.
طفت على ذهنه مرة أخرى ابتسامة والدة وهو يموت .. تساءل فى نفسه : أكان يبتسم
للحياة الأخرى ؟! أكان يبتسم لأنه لن يصبح لا شئ إلى الأبد ؟!.. غلبه النعاس
دون أن يدرى .. رأى نفسه فى حلم .. كان يطير نحو ضوء باهر .. أفاق على حركة
الطبيب والممرضات .. رأى تروللى العمليات . كانت زوجته والأولاد حوله .. رفعوه
إلى التروللى للذهاب به إلى غرفة العمليات .. من طرف عينه لمح زوجته ترفع يديها
إلى السماء .. سمعها تدعوا الله له بالنجاة . فشعر بنوع من الارتياح .
* * * *
عندما أفاق من أثر المخدر بعد خروجه من غرفة العمليات ، تطلع فى الوجوه . فهم
كل شئ . وجوه الأطباء والممرضات أكدت ما قرأه فى وجوه زوجته والأولاد . فهم أن
كل شئ قد أنتهى . وأنه لا أمل .. كانت قواه خائرة . صلابته المعهودة
تلاشت . كان ساهماً طوال الوقت ، غارقاً فى التأملات ، غائباً عمن حوله .
* * * *
قالت زوجته أنه كان يحملق فى الفراغ ويبتسم لحظة وفاته ، بينما أكد الابن
الأكبر أنه رأى وجه والده يضحك لحظة وفاته . أما البنت فقالت من بين دموعها
بأنها لم ترى على وجهه طيلة حياته مثل هذه الابتسامة .
|