لحظات سقطت في العدم
القلم بين أصابعى والصفحة تحت يدى بيضاء. يتحرك القلم دون أن يكتب
شيئا. ترمقنى الصفحة البيضاء بسخرية. كأنما لم أكتب فى حياتى سطرا. تبدو
اللغة غريبة كلماتها مبنية للمجهول. حروفها مقدسة تخاطب المرأة بصيغة
المذكر. كل شئ مذكر فى اللغة حتى الإله والشيطان والموت. الصفحة الخالية من
الكتابة لونها أبيض بلون الموت. الكفن أبيض وسرير المستشفى أبيض. معاطف
الأطباء والطبيبات ومرايل الممرضات والممرضين. عيناى مفتوحتان لا أعرف إن
كنت الطبيبة أو المريضة. الكاتبة أو الصفحة البيضاء غير المكتوبة. المساحات
الخالية بين السطور. اللحظات الساقطة من حياتى والسنون. تسرب الروح من
الجسد وغياب العقل.
هل عجزت عن الكتابة أم أشرفت على الموت؟ كانت هناك علاقة دائمة بين
الموت وعدم الكتابة. فوق فمى كمامة. رائحة الإثير تملأ الجو. ربما هو
المخدر. يلجأون دائما إلى المخدر فى مواجهة الوعى. جسدى مصلوب فوق منضدة
الجراحة فى غرفة العمليات. أو ربما هى منضدة المشرحة فى كلية الطب. مربوطة
الذراعين والساقين بخراطيم من المطاط. أسمعهم يتكلمون عنى بضمير الغائب.
كلمة الضمير فى اللغة مذكرة مثل كلمة إنسان. لا يوجد فى اللغة مؤنث كلمة
ضمير. أصواتهم متشابهة ملابسهم بيضاء رائحتهم واحدة. مزيج من الإثير وصبغة
اليود ودخان سجائر. صوت ينادى إسمى وإسم أبى، لم يكن لى أب واحد، هناك
دائما أكثر من أب، إسم الأب الواحد أسطورة، فى التاريخ يحجب الأصل تحت صورة
أب رمزى، لغة تجعلنا كائنات مذكرة أو لا نكون. صورة مقدسة تعيش على كبت
الحقيقة. تحت تأثير المخدر تطل الحقيقة المكبوتة من تحت الماء مثل رأس جبل
من الثلج.
- وأين هى أمى؟
أتلفت حولى أبحث عن وجه أمى بين الوجوه. أصابع حديدية تثبت رأسى فى
المنضدة. تزحف الأصابع إلى عنقى تضغط عليه. أيحاولون خنقى لأنى أسأل عن أمى؟
أين اختفت أمى؟ قتلوها؟ دفنوها فى مقبرة ومعها إسمها؟ شطبوا على إسم أمى.
مسحوه بالأستيكة. قالوا ربما بعد الموت تحملين إسم أمك، لأن الحقيقة بعد
الموت تظهر، ويختفى إسم الأب المزيف.
الصوت ينادى إسمى مرة أخرى. يرن الاسم فى أذنى مألوفا. سمعته مرارا
فى مراحل حياتى السابقة. رأيته فوق أغلفة كتبى ورواياتى. الصوت ينادينى
بلهجة خشنة ذكورية. صوت رجل ملامحه غريبة. هذا الرجل لا أعرفه مع ذلك يمسك
يدى المثبتة فوق المنضدة، يقول للأطباء والطبيبات أنه زوجى.
- متى تزوجت هذا الرجل؟!
ارفع يدى لأمسك رأسى. يدى لا تتحرك. الصداع يقسم رأسى قسمين. ذاكرتى
لا تسعفنى. لحظات فى حياتى سقطت فى العدم. أحاول استعادتها دون جدوى. هذا
الإثير يخدرنى، يستخدمون المخدر لقتل الذاكرة. اقاوم، أفتح فمى لأصرخ. صوتى
لا يخرج.
* * * *
مربوطة الذراعين والساقين، فوق فمها كمامة، تفتح فمها نصف فتحة
وتقول لهم: لا اريد مخدر! لا أريد أن أفقد الوعى! أنا طبيبة ولست مريضة
وإسمى نوال وأمى إسمها زينب أما جدى السعداوى فأنا لا أعرفه مات قبل أن
أولد.
* * * *
الصوت يناديها بإسمها وهى لا ترد. زوجها يقول لهم أنها ليست نائمة
وليست غائبة عن الوعى. إنها فقط تكتب. وهى حين تكتب تصبح غائبة عن هذا
العالم. لا تسمع أحدا ولا ترد على أحد.
قالت لزوجها بعد ليلة الزفاف المؤلمة سأكتب مالا يكتب. كل يوم تجلس
إلى مكتبها من أول النهار حتى آخر الليل. القلم بين أصابعها والصفحة تحت
يدها بيضاء. تمزق الورقة وراء الورقة. تمزق شعرها. تفتح فمها عن آخره تطلب
الهواء. تختنق. تشد الكمامة فوق فمها. تعض بأسنانها الأصابع الملفوفة حول
عنقها.
جسمها فوق المقعد اصبح جزءا من المقعد. مربوطة إلى المقعد بالحبال.
نصفها الأسفل مربوط لا يتحرك. النصف الأعلى لا نرى منه إلا الرأس المطرق
فوق المكتب. القلم بين أصابعها الطويلة السمراء يرسم على الورقة حروفا
سوداء مبتورة. يحتك سن القلم بالصفحة البيضاء. يصنع صريرا خافتا. أذناها
تلتقطان الصوت داخل الصمت. ينتصب رأسها وعيناها نصف مغمضتين.
كأنما لم أكتب فى حياتى. لم تمسك أصابعى القلم. لا أعرف اللغة،
واللغة لا تعرفنى. هذه الحروف ليست حروفى، لم أتعلمها من أمى، يقولون عنها
لغة الأم، وهى لغة رجل غريب مات قبل أن أولد، أحاول النهوض من مقعدى وراء
المكتب. قدماى وساقاى مربوطة بالحبال. أسير نحو السرير بجسدى المربوط.
أستغيث فى النوم بلا صوت. شريف نائم إلى جوارى مستغرق فى النوم.
أرمقه بشىء من الحسد. منذ تزوجنا عام 1964 وهو ينام بسهولة. يضع
رأسه فوق الوسادة وينام فى نصف ثانية. ضوء خافت يسقط فوق الجدار من خلال
شقوق النافذة. نسمة خفيفة تحرك النتيجة المعلقة، التاريخ يشير إلى العام
الجديد 2000، يبدو الرقم غريبا، يفتح شريف عينيه، يرمق الرقم بدهشة، يا خبر
بقينا فى سنة 2000 كده بسرعة؟ أطفو فوق السرير كأنما اعوم فوق الزمان
والمكان.
* * * * 2
الزمن يمضى وأنا متجمدة تحت الغطاء. أحاول النوم دون جدوى. كأنما
نسيت كيف كنت أنام، أحاول الكتابة دون جدوى، كأنما نسيت اللغة، شريف نائم
إلى جوارى. ترك سريره فى غرفته وجاء إلى غرفتى. تحدثنا قليلا قبل النوم.
يكتب رواية جديدة وأنا عاجزة عن الكتابة. كأنما لم أكتب أبدا. عيناى
مفتوحان كأنما لم أنم أبدا. يفتح شريف جفونه يرانى محملقة فى السقف.
- مالك يا نوال؟
- مش عارفة أكتب يا شـريف، لا يمكن حاكتب أبدا أبدا، كل مرة تقولى
كده يا نوال وتكتبى، المرة دى هى الاخيرة يا شريف، كل مرة تقولى هى دى
الأخيرة، لأ خلاص هى دى الاخيرة ولا يمكن حاكتب، خلاص فقدت القدرة على
الكتابة، حاولى تنامى يا نوال، مش عارفة أنام خلاص فقدت القدرة على
النوم.
* * * *
أنهض من السرير وأمشى فى الظلمة. على أطراف أصابعى أمشى حتى لا يشعر
بى شريف. أسير إلى الشرفة. نحن فى الدور السادس والعشرين، فى القرن الواحد
والعشرين، أمد قدمى إلى السور واقفز فى الهواء.
ثم أفتح عينى، أرى جسمى ممدودا فوق السرير. إلى جوارى القلم والصفحة
البيضاء تعلوها خطوط متعرجة بلا كلمات، بلا عبارة واحدة ذات معنى.
يفتح شريف عينيه. يرانى صاحية شاخصة إلى السقف. يربت على كتفى: نامى
يا نوال، أهمس بصوت خائر: تفتكر يا شريف إن فيه تناقض بين الزواج والإبداع؟
يضحك شريف، جايز يا نوال، لكن خلاص نعمل إيه بعد خمسة وثلاثين سنة؟!
* * * *
الكتابة فى حياتى كانت تأخذنى إلى بئر عميق فى بطن الأرض. إلى مكان
يخلو من البشر. إلى مساحة لا يشاركنى فيها أحد. لا أسمع صوتا. لا شئ يتحرك.
صمت مطبق كالموت. كنت أحمل قلمى وأوراقى وأغادر البيت. أمشى وأمشى دون
توقف. أتلفت حولى كأنما أبحث؟ اتطلع إلى الأرض والسماء والبيوت والشوارع
والعمارات والأزقة. أبحث عن شق أهرب فيه. أختفى داخله وأغلق ورائى سبعة
أبواب. لا يكفى باب واحد لطرد الأصوات. ابحث عن الصمت داخل الصمت. أتلفت
حولى لا أعرف إلى أين أذهب. اسير بحذاء نهر النيل. اتوقف لحظة أحملق فى
المياه أمد قدمى فوق السور واقفز.
اصحو من النوم مبللة بالعرق. الأوراق مبعثرة فوق السرير والقلم فى
يدى. إلى جوارى رجل نائم.
النتيجة فوق الجدار مكتوب عليها التاريخ، اليوم والشهر والسنة.
أحملق فى الرقم، 1956، هل عادت عقارب الساعة إلى الوراء أربعة وأربعين عاما
وأنا غارقة فى النوم؟ الرجل النائم يفتح عينيه. الظلمة شديدة لا أرى من
ملامحه إلا العينين. من خلال الضباب الأسود يبرز الأنف. عظمة كبيرة تتوسط
الوجه مقوسة قليلا. تحت الأنف شارب أسود كبير.
لا شئ ينفرنى فى الرجال مثل الشعر فوق وجوههم، يذكرنى بالفصائل
السابقة لنشوء الانسان.
كان نائما على جنبه الأيسر، ظهره ناحية الحائط وجهه ناحيتى. التاريخ
فوق الحائط يشير إلى عام 1956. قشعريرة باردة تزحف إلى جسدى. ذاكرتى تعود
إلى السطح بالتدريج أخرج من بطن الأرض جزءا جزءا، أصحو فوق شئ يهتز، جفونى
ثقيلة افتحها بصعوبة التاريخ فوق الحائط ثابت عند عام 1956. النافذة مفتوحة
بدون زجاج ولا شيش. الهواء البارد ينفذ إلى جسدى وأنا راقدة فوق ظهرى.
أسنانى تصطك ارتجف بالحمى. فى حلقى غصة وفى انفى رائحة دم. عيناى تدوران
فوق الجدران. المكان غريب لم أره من قبل. الحائط بلا طلاء لونه اسود تعلوه
بقع أكثر سوادا. الشقوق فى الجدران تشبه الشقوق فى الارض يتدلى من السقف
سلك كهربى مات فوقه ذباب أسود. الرجل نائم إلى جوارى فوق السرير العريض من
الصاج الأسود. عيناه مغمضتان والزمن لا يتحرك. التاريخ ثابت عند عام 1956،
بالضبط يوم 23 يوليو 1956. أشد جفونى لأصحو. عيناى مفتوحتان من قبل. لم
أغمضهما لحظة واحدة طول الليل. كنت افكر فى الهروب، كيف أهرب والى أين؟
الليل كان طويلا بلا نهاية. مسمار فى الحائط يتدلى منه معطف أبيض
تعلوه بقعة دم، حقيبة صغيرة من الجلد الأسود، ملقاة فى وسط الغرفة، من
حولها تبعثرت أدوات طبية، سماعة لها خرطوم اسود طويل، حقنة لها ابرة طويلة،
اربطة شاش وقطن ، وصورتى فوق بطاقتى ممزقة ومعها أسمى.
لايزال نائما على جانبه الايسر، وجهه ناحيتى، ذراعه اليمنى ممدودة
فوق السرير. كنت أترك مساحة كبيرة بيننا، مسافة طويلة أطول من ذراعه
الممدودة، يده ضخمة كبيرة، أصابعه غليظة، لم أر فى حياتى أصابع غليظة بهذا
الشكل. أتلفت حولى أبحث عن مكان الباب. الظلمة شديدة لا أرى الباب، كأنما
الغرفة بدون باب، اربعة جدران عالية سوداء، ولا منفذ للهروب.
هذه الليلة صيف عام 1956 تعود إلى ذاكرتى، ومعها ليلة اخرى فى صيف
عام 1941، بالضبط 30 أغسطس 1941. أردت الهروب من بيت أبى وأنا فى العاشرة
من العمر. لم تكن الليلة مفزعة مثل تلك الليلة 23 يوليو 1956. اللحظات
المنسية فى حياتى تطفو فوق سطح الذاكرة. عيون سوداء صغيرة تلمع وسط خضم من
السواد. نجوم تظهر فى الليل من وراء سحابة كثيفة سوداء. الهروب من بيت الأب
اقل إفزاعا من الهروب من بيت الزوجية. كلمة "زواج" تعنى باللغة العامية
"الجواز"، كانت جدتى تقول: “ربنا كتب علينا الجواز يا بنت إبنى، مصيرك
الجواز زى كل البنات، القدر والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، جوازتى
كانت جنازتى يا بنت إبنى، نحمدك يارب على كل المصايب ولا يحمد على مكروه
سواك.
منذ السادسة من عمرى وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاثة عن ظهر قلب،
انطقها فى نفس واحد: "ربنا. المصائب. الجواز".
* * * * 3
كلمة الحب لم تكن هى الجواز. كنت أغنى مع الراديو للحب. لم نكف نحن
البنات عن الغناء للحب. لم اسمع فى حياتى أغنية واحدة عن الزواج.
الحب مصيدة الفئران تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل القطط
المغمضة. يفتحن عيونهن مفزوعات. تحول الحب إلى أربعة جدران سوداء فى بناء
آيل للسقوط هو بيت الزوجية.
فى العاشرة من عمرى خفق قلبى بالحب الأول. لم أكن أرى من الرجل إلا
عينيه. كان يمكن أن أموت من أجله. إختفى الرجل لحسن حظى قبل أن أهرب من بيت
أبى. سافر ولم يترك إلا صورة ضوئية إختفت هى الأخرى وسقطت فى العدم. التقيت
به صدفة بعد ثلاثين عاما. رأيت وجها غريبا له أنف طويل مدبب وشفتان رفيعتان
إلى حد التلاشى. أيمكن أن يقبل بهما امرأة؟! عيناه صغيرتان غائرتان بلا
بريق ولا ضوء. كيف كانت عيناه تغرقنى كالشمس، لم أستطع الحملقة فيهما، كنت
أسقط فيما يشبه الإغماءة إن رنت حروف إسمه فى الجو.
فى العشرين من عمرى خفق قلبى بالحب الثانى. عيناه كالحب الأول كانت
هى الشمس. هربت من بيت أبى وأمى. تركت كتبى وأوراقى واقلامى وملابسى وصور
طفولتى. سرت فى الطريق اليه لا التفت ورائى. تحول الحب لسوء الحظ إلى زواج.
فتحت عينى على الجدران الاربعة السوداء، داخل مطبخ فى بيت قديم آيل للسقوط
فى حى بمدينة القاهرة إسمه المنيل.
* * * *
بالامس رأيت فيلما مفزعا مخرجه ستانلى كوبريك. مأساة الجنود
الأمريكيين فى حرب فيتنام. مكنة الحلاقة ذات الموسى الحاد تدور على رؤوس
الشباب فى ربيع عمرهم، تجتز شعورهم عن فروة الرأس، الخراف يسلخون جلودها فى
المذبح. يتحول الشاب الفنان الرقيق إلى قاتل سفاح. يدرب على القتل دون أن
يطرف له جفن. يقول له المدرب العسكرى:
- سلاحك فى يدك مثل سلاحك بين فخذيك منبع القوة والرجولة.
تدور الكاميرا على أجسام الشباب فى معسكر التدريب، يمسكون باليد
اليمنى البندقية، وباليد اليسرى يمسكون العضو الذكرى اسفل البطن، يسيرون فى
صف طويل يشبه القطار الطويل يسير فوق القضبان، كل منهم يمسك قضيبه.
كنت جالسة فوق الكنبة الزرقاء العريضة فى الصالة، إلى جوارى شريف
يتابع الفيلم. دخل المدرب العسكرى غاضبا إلى أحد الشباب يأمره أن يسلم
سلاحه. نهض الشاب واقفا يرمقه بعينين يختفى سوادهما تحت الجفن. تحولت
العينان الى مساحة من البياض بلون الثلج. المدرب العسكرى يقترب منه يأمره
أن ينزع سلاحه. الشاب واقف فى مكانه ثابت. البياض فى العينين ثابت. الننى
الاسود الصغير اختفى تماما تحت الجفن. اللون الابيض فى العينين كالثلج.
تحرك اصبع واحد على الزناد. انطلقت الرصاصة فى صدر المدرب العسكرى. سقط إلى
الارض غارقا فى دمه. توقف الشاب يلهث. جلس فوق المرحاض. وضع فوهة البندقية
فى حلقه. ضغط بأصبع واحد. تفجر الدم من حوله، فوق الجدار الابيض اللامع من
السيراميك، فوق السقف الابيض، وبلاط الارضية الابيض، غرق البياض فى دم
احمر.
منذ طفولتى يفزعنى الدم الاحمر فوق الملاءة البيضاء. دم العذرية
والحيض والختان، قطعة دم متجلطة تنزلق من جسدى وأنا امشى فى الشارع. نقطة
دم تتركها الابرة فوق ذراعى بعد أن ينزعها الطبيب. وجه الطبيب يشبه وجه
المدرب العسكرى فى الفيلم. وجه ممسوح الملامح رمادى اللون كالجرانيت،
والعينان ممسوحتان إلا من البياض الابيض بلون الثلج. واقفا أمامى شاهرا
الابرة فى وجهى مثل البندقية.
انتهى الفيلم بعد منتصف الليل. أطفأ شريف جهاز الفيديو. ذهبنا معا
إلى النوم. اصبح لكل منا غرفة نوم مستقلة. داخل كل غرفة مكتب صغير ومكتبة
لها رفوف تحمل الكتب والاوراق والصور وخطابات الحب السرية. تعودت الكتابة
والنوم داخل غرفة خاصة لها باب لا يفتحه احد. الكتابة مثل النوم تحتاج إلى
الصمت المطبق. الصمت داخل الصمت.
منذ الطفولة تفزعنى الافلام كأنما هى الحقيقة. يفزعنى الظلام فى
الليل. اتسلل من سريرى لانام بجوار أمى أو أختى. تجاوزت الستين عاما
والطفلة فى اعماقى هى الطفلة. اخاف الظلام حين امشى وحدى فى الليل. منظر
الدم فى الافلام يرتعد له جسدى. يسألنى شريف كيف اشتغلت طبيبة وجراحة فى
مستشفى الصدر بالجيزة؟ كيف أمسكت المشرط فى يدك وفتحت الصدر والبطن دون أن
يطرف لك جفن؟
واقول لشريف إنها امرأة أخرى تلك التى اشتغلت بالطب والجراحة. أو
ربما يختلف الدم المراق تحت أيدى الاطباء والطبيبات عن الدم المراق تحت
ايدى العساكر والازواج.
* * * *
صور من الماضى ماتت وراحت فى العدم. احاول استعادتها دون جدوى.
اللون الاحمر القانى يلطخ السطح الابيض. مشهد أراه فى النوم حين يغيب الوعى.
حين يتسرب اللاوعى إلى الوعى. منذ الطفولة يرتعد جسدى لمنظر الدم.
قطرة حمراء فوق ملاءة السرير البيضاء. من أين يأتى الدم فى الطفولة؟
ولماذا يتكرر دون انقطاع؟ منذ التاسعة من عمرى رأيت الدم فى الفراش. تعودت
رؤيته الشهر وراء الشهر، السنة وراء السنة حتى أدبرت طفولتى.
لم تعد البقعة الحمراء فوق الملاءة تفزعنى. أصبح غيابها هو المفزع.
افتح عينى كل صباح وأبحث عن البقعة الحمراء فوق الملاءة، فى ملابسى، فى
ثنايا النسيج الأبيض أبحث عن قطرة واحدة حمراء.
تمط سامية شفتيها الرفيعتين وتقول، هذه اشياء غير مهمة يا نوال،
المهم قضية تحرير العمال والفلاحين من الرأسمالية والامبريالية، ويضحك شريف
حين يسمعها تنطق هذه العبارة فى نفس واحد، يعرف انها صديقتى منذ المدرسة
الثانوية فى حلوان الداخلية، وقد اصبحت زميلة له فى حزب اليسار منذ اكثر من
نصف قرن.
رغم الاختلاف تستمر صداقتى بها، الصداقة القديمة منذ الطفولة تصبح
مثل علاقات الدم، حين كتبت عام 1965 عن الختان ومشاكل المرأة الجنسية قالت
إننى أخون القضية الوطنية، وفى عام 1972 حين كتبت عن النظام الطبقى الابوى
قالت لا يوجد إلا النظام الطبقى فقط أوالمشكلة الاقتصادية، وفى عام 1982
حين بدأنا نشكل تنظيما للنساء اعترضت وقالت لا تمثل النساء طبقة ولا يحق
لهن تكوين تنظيم مستقل. ثم نطقت كلمة “فيمنيست” وهى تمط شفتيها الرفيعتين
بامتعاض.
لكن سامية تغيرت مع مرور الاعوام، وفى عام 1995 حضرت مؤتمرا للمرأة
فى نيويورك، ثم عادت تتحدث عن النظام الطبقى الابوى، وفى عام 1997 اصبحت
ترأس تنظيما نسائيا مستقلا، ومجلة للمرأة من النوع الفيمنيست، وفى عام 1998
بعد أن اصدر وزير الصحة قرارا بمنع ختان البنات فتح شريف الجريدة ذات صباح،
راى صورة سامية تتلقى الجائزة أو الوسام باعتبارها الرائدة فى مجال النضال
ضد منع الختان.
* * * * 4
فى المدرسة الثانوية كانت البنات يبحثن فى ثنايا ملابسهن الداخلية
عن القطرة الحمراء. كان إختفاء الدم فى حياة البنت يعنى كارثة. تخشى البنات
الحمل السفاح.
لا يغسل العار إلا الدم، الرجال يقومون بالغسيل، والنساء يفقدن
الدم، يتحول القاتل إلى بطل يحمى الشرف، تدفن البنت فى الخفاء ويدفن معها
اسمها واسم امها. يتألق إسم الاب بعد مقتل البنت.
منذ قصة العذراء الطاهرة فى التاريخ تخشى البنات الحمل السفاح. يدور
السؤال فى رؤوسهن وهن نائمات: أيمكن أن تتكرر القصة فى التاريخ؟ هناك قصص
تكررت وجاء ذكرها فى كتب الله. كم مرة تكرر عصيان بنى اسرائيل لأوامر الله؟
كم مرة تكرر غفران الله لبنى اسرائيل؟ كم مرة أرسل الله إلى البشر رسولا
يحثهم على الايمان به؟ كم كان عدد الانبياء والمرسلين؟! كم مرة تكرر نزول
الانبياء إلى الناس؟ كم مرة ارسل الله مندوبه إلى سيدنا ابراهيم وسيدنا
موسى وسيدنا عيسى وسيدنا محمد؟! لماذا اذن لا يتكرر نزول مندوب الله إلى
احدى البنات لتحمل كما حملت ستنا مريم العذراء؟!
فى المدرسة الابتدائية ورد السؤال إلى ذهنى وأنا نائمة. كالحلم
الآثم كتمته فى أعماقى. ثم اكتشفت أن جميع البنات احلامهن آثمة. وفى
المدرسة الثانوية أيضا همست لى الزميلات بما يدور فى عقولهن اثناء النوم.
قالت صفية انها منذ قرأت قصة العذراء مريم وهى تحلم بمندوب الله يهبط اليها
فى الليل. وقالت سامية انها لا تؤمن بالله مع ذلك يأتيها المندوب فى الحلم.
وفى كلية الطب قالت صديقتى بطة، اما أنا يا نوال فقد جاءنى المندوب فى
الواقع والحقيقة وليس الحلم. ثم كركرت بالضحك، بالشهقات المتقطعة كهواء
محبوس يخرج من عنق زجاجة ضيق.
* * * *
كنت غارقة فى النوم حين التفت الاصابع الغليظة حول عنقى. كما يحدث
فى الاحلام حاولت أن افتح فمى لاصرخ. صوتى لا يخرج. الاصابع الغليظة قوية،
اقوى من اصابعى. افتح فمى طلبا للهواء. اشهق بصوت مكتوم. كان يمكن أن
استغيث واوقظ الجيران. لكنى رأيت أن الموت أهون من الفضيحة.
كلمة “الفضيحة” كانت تخرق أذنى منذ ولدت. ولادة الانثى كانت فى حد
ذاتها فضيحة تتكتم الاسرة الخبر، تتخفى الام الوالدة عن عيون الناس، يغرق
بيت المولودة الانثى فى الصمت.
كلمة "انثى" فى حد ذاتها فضيحة، إن قال لى احد انت انثى أصفعه على
وجهه. كلمة جنس ترن فى اذنى نابية، لا استطيع أن انطق كلمة "جوزى"
بالعامية، انطقها باللغة الفصحى المحترمة وأقول زوجى. كنت قد تزوجت للمرة
الاولى تحت اسم الحب الكبير. قصة طويلة بدأت وأنا فى العشرين من العمر
فتاة عذراء، وانتهت وأنا فى السادسة والعشرين زوجة عذراء تحولت إلى أم
عذراء ثم تحررت بالطلاق.
لماذا لم افقد عذريتى حتى اليوم، بعد أن تجاوزت الستين عاما؟ لكن
العذرية مثل القضاء والقدر، مكتوبة على جبين النساء، ليس فى مقدور البشر أن
يهتكوا عرض المرأة الصالحة التى تعرف الله، وتعرف انه اصطفى العذراء مريم
من نساء العالمين، هى الوحيدة ذكر اسمها فى كتابه الكريم، ولها سورة كاملة
فى القرآن باسمها مريم، تتطلع النساء إلى هذا النموذج الامثل للطهر
والنقاء؟!
منذ الطفولة أرى السيدة مريم العذراء النموذج الأعلى. أم المسيح.
الوحيدة دون النساء أجمعين تم تعريفها بالاسم فى القرآن. جميع النساء
الأخريات مجهولات الاسم، حواء زوجة سيدنا آدم، وزوجات سيدنا محمد عليه
السلام لم يذكر اسم واحدة منهن فى القرآن حتى السيدة خديجة لم يذكر إسمها.
كان طبيعيا أن يتجه طموح الفتاة المسلمة المثالية إلى مريم العذراء
وليس أى امرأة اخرى. منذ أدركنى البلوغ فى سن التاسعة من العمر اقسمت بينى
وبين الله، اننى سوف اكون مثل ستنا مريم، وسوف أحمل وألد دون أن امارس
الجنس وأصبحت أنتظر كل ليلة مندوب الله.
وطال الانتظار العام وراء العام، ثم جاءنى رجل يتخفى فى الظلام،
وهمس فى أذنى أنه مندوب الله. كنت فتاة مثالية يرتعد جسدى حين اسمع كلمة
الله اغمض عينى واهمس: يارب ارجو أن تذكر اسمى فى كتابك الكريم كما ذكرت
اسم ستنا مريم، ولماذا تصطفيها هى وحدها. ألا يمكن يارب أن تصطفى امرأتين
وقد اصطفيت اكثر من عشرين رجلا من الانبياء الصالحين؟!
كان ذلك فى الطفولة الساذجة والمراهقة الأولى. ثم دخلت كلية الطب.
اصبحت افصل بين الحلم والواقع، بين الوهم والحقيقة، وقعت فى حب حقيقى
وتزوجت زواجا حقيقيا على سنة الله والرسول، وحملت وولدت واصبحت أما حقيقية
غير عذراء وغير طاهرة، كان هناك شئ غير طاهر يحدث لى فى الليل، شئ لا يبعث
على اللذة بل الألم والاثم، كان زوجى الاول رجلا مكتمل الرجولة. كان فدائيا
شجاعا يضحى بحياته من اجل الوطن. عاد من جبهة القتال كافرا بالوطن.
- الخيانة يا نوال!
- خيانة الحكومة يا أحمد.
- الحكومة هى الوطن يا نوال.
- الحكومة شئ والوطن شئ آخر.
- هذا وهم يا نوال.
- هذه حقيقة يا احمد.
- لا وهم، كل شئ وهم يا نوال، خلاص أنا اكتشفت الحقيقة، كنت
مخدوع وأنا باهتف الله. الوطن. الحب، الثلاثة وهم يا نوال!
جسدى يرتعد حين اسمع صوته فى الليل يردد "الثلاثة وهم يا نوال". كان
يصحو طول الليل. يحقن نفسه بجرعة مضاعفة من الماكسيتون فورت، يجلس وراء
المكتب ويمسك القلم بين اصابعه، يكتب كلمتين اثنتين لا غير: “الثلاثة وهم”
ثم يشطبهما ويبدأ من جديد "الثلاثة وهم" يشطبهما بالقلم ثم يكتبهما اول
السطر.
كان يكتب بقلم رصاص، ويشطب بالقلم ذاته، حين ينقصف القلم يضعه فى
البراية، يحركه المرة وراء المرة حتى يصبح له سن طويل رفيع مدبب. يكور
الورقة القديمة ويرميها فى الصفيحة تحت المكتب. تمتلئ بالورق المكور،
يفرغها فى صفيحة القمامة فى المطبخ ويعود يجلس إلى المكتب.
يفرغ البراية من النشارة بعد أن يبرى القلم وراء القلم، لا يترك
القلم إلا بعد أن يصبح أقصر من عقلة الإصبع، لم يكن يخرج من البيت إلا
ليشترى اقلام الرصاص، رزم الورق الأبيض، وعلبة الماكسيتون فورت من الصيدلية
فى شارع المنيل.
كنت قد تخرجت واشتغلت طبيبة فى مستشفى قصر العينى الجديد أو مستشفى
المنيل الجامعى، يبعد عن بيتنا مسافة نصف ساعة على القدمين، أخرج فى
الثامنة صباحا وأعود فى الثالثة بعد الظهر. اراه جالسا وراء المكتب فى غرفة
النوم. كانت الشقة صغيرة، بها غرفة واحدة، وصالة صغيرة للطعام، ومطبخ صغير،
وشرفة صغيرة تطل على فرع النيل الصغير، يتكون البيت من أربعة ادوار، فى كل
دور شقتين متقابلتين، ونحن فى الدور الثالث.
كان راتبى الشهرى عشرة جنيهات ونصف، أشترى بها الطعام ومصاريف
البيت. كانت أمه تعطيه تسعة جنيهات كل شهر، نصيبه من ميراث أبيه. ينفق
الجنيهات التسعة على شراء الأقلام الرصاص والورق وعلب الماكسيتون فورت. قبل
الطلاق بفترة قصيرة لم تعد الجنيهات التسعة تكفى. كان يحقن نفسه بجرعة
تتزايد يوما وراء يوم. وهذا أمر معروف فى الطب. إن الجسد قادر على التغلب
على اى سموم تمشى فى الدم، مخدرات أو منبهات، يدخل الماكسيتون فورت تحت
المواد المنبهة، يحتاج المدمن إلى زيادة الجرعة حتى يتغلب على مقاومة الجسم
للمادة الكيمائية.
كان يفتح حقيبتى وياخذ منها ليشترى الماكسيتون فورت. أصبحت أخبئ
الحقيبة فى مكان لا يعرفه. بدأ يبيع اثاث البيت. لم يكن عندنا إلا اشياء
قليلة. لم يبق إلا السرير الصاج الأسود العريض، والمكتب الخشبى والمقعد
الواحد الذى يجلس فوقه طول الليل يكتب عبارة واحدة من كلمتين:
"الثلاثة وهم". ثم يكور الورقة ويلقيها فى الصفيحة.
قبل الطلاق بثلاثة ايام خلع الشيش والزجاج من النافذة، وعاد يحمل
علبة الماكسيتون فورت. نمت طول الليل ارتجف بالبرد. كان السرير تحت
النافذة. لم يكن عندنا إلا بطانية واحدة. فتحت عينى قرب الفجر رأيته جالسا
يكتب ويشطب ويرمى الورق فى الصفيحة.
حين رآنى افتح عينى رمقنى بنظرة غريبة، رأيته رجلا غريبا. صوته اصبح
غريبا.
- صحيتى يا دكتورة؟
- أيوه.
- قوليلى الثلاثة دول وهم والا لأ؟
- الثلاثة مين؟
- الله الوطن الحب.
- حقيقة وهم لا يهم، المهم هو انك تبطل هذا السم الذى تحقن
به نفسك!
- لا يعالج السم إلا السم وداونى بالتى كانت هى الداء.
- لا يمكن حياتنا تستمر بهذا الشكل.
- طبعا خلاص الحب راح يا دكتورة!
- مش عارفة.
- انا عارف، الحب وهم كبير.
- لأ.
- يعنى مؤمنة بالحب؟
- أيوه.
- مين هو الرجل السعيد يا دكتورة؟ لا يمكن اكون انا، لانى
أنا خلاص انتهيت!
- كل شئ يتوقف على ارادتك انت.
- انتهت إلارادة وكل شئ. لم يبق إلا الموت، وكما كنا نقول
ايام الحب نعيش سوا ونموت سوا ايه رايك نموت سوا؟
* * * *
ليلة 23 يوليو 1956 قبل أن يطلع الفجر.
العالم يحتفل بعيد الثورة الرابع وأنا اختنق. اصابع غليظة تلتف حول
عنقى فى الليل. أحاول أن اصرخ. صوتى لا يطلع كما يحدث فى الحلم. افتح فمى
طلبا للهواء. اشهق بصوت مكتوم. كنت افضل الموت عن أن يسمع صوتى احد.
فى حياة النساء كان الموت افضل من إلاستغاثة. المرأة فى الشقة
المجاورة كانت تستغيث. اسمع صوتها فى الليل وأنا نائمة. يفتح الجيران
نوافذهم يسمعون صوتها. امرأة أخرى تستغيث فى العمارة المجاورة. فى الصباح
اسمع الناس يتهامسون.
أب يضرب ابنته لأنها تأخرت فى الليل. رجل يضرب زوجته لأنه وجد حصوة
فى صحن الأرز. زوج يقتل زوجته لأنه يشك فى سلوكها. يتهامس الناس وما له؟
الشرف فوق كل حاجة. كل رجل حر فى بيته. الرجال قوامون. ربنا قال واضربوهن.
بنات حواء. ربنا قال إن كيدهن عظيم.
يغلق الجيران نوافذهم وينامون. تصحو المرأة على الفضيحة. سيرتها على
كل لسان. تكف بعد ذلك عن الاستغاثة. لم اصرخ تلك الليلة؟ منذ الطفولة لم
الجأ إلى الصراخ حين يقترب الموت. كنت افكر فى طرق المقاومة أو الهروب.
* * * *
منذ صيف عام 1956 حتى صيف عام 1960 فقدت جزءا من ذاكرتى. أربعة
أعوام كاملة نسيت ملمس الأصابع الغليظة حول عنقى. سقطت فى العدم كأن لم
تكن. لم يبق منها إلا ظلال سوداء فوق جدار أسود ثم اختفت هذه الظلال أيضا
وراحت فى العدم.
فى النوم وأنا غائبة عن الوعى تبدأ الظلال فى الظهور من بطن الخضم
الأسود مثل قمة جبل الثلج تحت الماء.
إهدار الد م
بداية عام 2000
القلم بين أصابعى والصفحة تحت يدى بيضاء. مساحة من الفضاء تنتظر
كلماتى. النافذة مفتوحة أمامى على السماء. أحملق فى مساحات من الخواء. أبحث
عما كان أبى يقول أنه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبى. لم يكن عقلى
يقبل أى شىء دون برهان. يغضب أبى ويقول هناك حقائق ليس لها برهان. يرمقنى
بنظرة حمراء لأكف عن الجدل. ولم يكف عقلى عن التساؤل.
كان عقلى مشكلة حياتى، أردت التخلص منه منذ الطفولة، فى سن المراهقة
أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور فى رأسها سؤال، أشياء
أخرى تدور فى جسدها، رغبات عارمة يرتج لها الجسد، أحلام فى اليقظة والنوم
عن الحب، أشياء لها ملمس مادى، الجسد يعانق الجسد فى الليل. ترمقنى أمى
بنظرة حمراء لأكف عن الحب. لم يكن جسدى يكف عن رغباته.
أصبح جسدى مشكلة حياتى. أردت التخلص منه منذ المراهقة. فى سنين
الشباب الأولى أصبحت بلا جسد. امرأة ناضحة مثالية حسنة السير والسلوك، زوجة
مطيعة لزوجها فى البيت، مطيعة لرئيسها فى العمل، تضحى بحياتها من أجل
الأسرة وإن قامت الحرب تضحى بالأسرة وتموت فداء الوطن.
مرت بى أيام أمشى فى الطريق مثل الخيال. شبح من الأموات. شاحبة
الوجه مطبقة الشفتين فى صمت. لا شىء يتحرك فى عقلى أو جسدى. منذ زمن طويل
فقدتهما. أترنح وأنا أمشى مثل خيال المآتة. كان الموت قريبا منى أكاد ألمسه
بيدى. الموت من أجل الوطن من أجل الله، من أجل زوجى، يعلو الله فوق الجميع،
من بعده يأتى الوطن أو الملك أو الرئيس، بعد ذلك يأتى الزوج.
فى الليل كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزوج يسقط الانجليز. كان ذلك فى
طفولتى، تغيرت الاسماء فى مرحلة الشباب، أسمع الشباب يهتفون، يسقط الرئيس
يسقط الامريكان، أشاركهم الهتاف وأضيف من عندى ويسقط الزوج.
صديقتى صفية تهتف معى يسقط الزوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات
سامية وبطة. الثلاثة زوجات مطيعات يحلمن بالطلاق فى الليل. أربعة وأربعون
عاما يحلمن بالطلاق. يتكرر الحلم كل ليلة حتى إنتهى القرن وجاء القرن
الجديد الواحد والعشرين.
ذاكرتى تروح وتجىء فى الزمن على نحو عجيب يتلاشى نصف قرن فى لحظة،
واللحظة الحاضرة تمتد أمامى لانهائية، يلتحم الماضى بالحاضر فى لحظة واحدة.
الصوت يتسرب إلى أذنى واضحا كأننى أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوة الله.
أهب من النوم على الصوت يزعق فى شارع الجيزة. النافذة مغلقة بالشيش
الخشبى والزجاج المزدوج. شريف نائم فى سريره المجاور لسريرى. كان لنا
سريران منفصلان فى غرفة نوم مشتركة. الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة
البياض، الأرض من البلاط الناعم، أنزلق فوقه حين أمشى، فوق المنضدة الساعة
تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند 31 ديسمبر 1988، عيد رأس
السنة الجديدة، أشياء مفزعة تحدث دائما ليلة العيد. منذ طفولتى لا أحب
الأعياد، يمتلئ قلبى بالحزن حين يتألق العالم بالفرح.
- أهدروا دمها الكافرة عدوة الله.
جفونى مثقلة بالنوم. يسرى الصوت إلى أذنى قبل أن أفتح عينى. أضواء
خافتة تتسرب من شقوق الشيش. أمشى إلى النافذة على أطراف أصابعى. أتوقف لحظة
لألتقط أنفاسى.أطل من بين الشق. الشارع ليس فيه أحد. عربة كارو يجرها حمار،
صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزازة العربة. سيارات مسرعة تظهر أنوارها
ثم تختفى. الشق ضيق أخشى أن أفتح النافذة. الصوت يزعق، يردد بعض الاسماء،
يرن إسمى وإسم ابى وجدى السعداوى الذى مات قبل أن أولد.
- اقتلوهم الكفرة أعداء الله.
أذناى من وراء النافذة المغلقة تلتقطان الاسماء واحدا وراء الآخر،
يرن إسمى فى الجو نوال السعداوى، يخترق رأسى مثل طلقة الرصاص. يفتح شريف
عينيه. يرانى واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال.
- فيه إيه يا نوال؟
- سامع الصوت؟
يفتح شريف النافذة، من أين ينبعث الصوت. الميكرفون فوق مئذنة الجامع
المجاور لنا. أو الجامع الآخر الجديد فى الشارع الخلفى. أو الجامع القديم
وراء الكنيسة. أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوقها
ميكرفون ضخم. يربت شريف على كتفى: نامى يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل
فى البلد.
يأتى الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد فى الكون يعرف الحقيقة إلا الله
والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون. يضحك ويقهقه
بصوت يهز الاسلاك. أيوه يا شريف ما حدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت،
فاكر حريق القاهرة فى يناير واحد وخمسين، الحكومة والانجليز حرقوا البلد
عشان يضربوا العمل الفدائى فى القنال، أنا متوقع حرايق فى البلد مش حريق
واحد، الجماعات الاسلامية دى عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب
اليسار كله، وطبعا معاه الامريكان، أنا باسمع إسمى فى الميكروفونات فوق
الجوامع، الجوامع دى كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا مننا
يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والامريكان عاوزين يخلصوا منى أنا بالذات،
لأن مقالاتى فى الاهرام أخطر من المقالات فى صحف المعارضة، عاوزين يقتلونى
يا شريف.
- مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو
كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الاهرام يا يوسف.
- أيوه يا شريف، لكن أنا عارف أن الحكومة سايبانى أكتب عشان تكون
عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أى معارضة،
على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف ازاى يهدروا دم امرأة؟أ
- زى ما بيهدروا دم الرجل يا يوسف.
- لكن المرأة غير الرجل يا شريف.
- مش فاهم.
- فى الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب فى الثأر، وفى السياسة
أيضا دم الرجل هو المطلوب.
- ليه يا يوسف؟ هو الرجل فقط اللى عنده دم؟!
كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون. يضحك يوسف بصوت
عال، تهتز الاسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.
كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمى فى كلية الطب وأحمد المنيسى وفؤاد
محيى الدين وغيرهم من الطلبة. لماذا بدا أحمد حلمى مختلفا عن الجميع؟!
الصوت الهادىء المنخفض. الكلام القليل. الخطوة فوق الأرض الواثقة غير
المتسرعة؟ العمل فى صمت دون ضجة. فى الاجتماعات فى المدرج الصغير كنت أراه
جالسا فى الصف الأخير. يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو فى مكانه
جالس. يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب يثرثرون بأصوات عالية وهو
صامت. يتكلمون فى وقت واحد يقاطعون بعضهم البعض، وإذا تكلم أحمد حلمى صمت
الجميع.
حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمى عام
1951. برزت ملامحه من العدم. الجبهة العريضة والشعر الأسود الغزير.
الحاجبان الكثيفان. العينان. الانف. الصوت. المشية فوق الارض. الكلام
القليل والعمل فى صمت. مات أحمد حلمى بعد أن عاد من الحرب مهزوما. ماتت
الروح قبل أن يموت الجسد. كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة. مات شهيد
الوطن مثل أحمد المنيسى دون أن يقام له حفل تأبين.
كان زعماء الطلبة مثل زعماء الاحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد
اللعبة. لم يستشهد منهم أحد. لم تسقط من أحدهم قطرة دم. أصبح فؤاد محيى
الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء. كان فى كلية الطب ضمن اليسار، عضو
لجنة العمال والطلبة، وفى عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع
العام، وفى عهد السادات لم يعترض على شىء، جلس فى مقعد رئيس الوزراء، يتلقى
التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع
الخاص، ثم سقط فى مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء فى عهد حسنى
مبارك.
التقيت بفؤاد محيى الدين لأول مرة عام 1951، فى اجتماعات طلبة كلية
الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص فى الاشعة. طويل القامة
نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس. عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة
الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة. كنا نتحدث فى
الأدب والابداع. تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون
أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس، ثم يضحك، أيه رأيك يا نوال نتبادل
المواقع، تبقى أنتى وزيرة الصحة وأنا أديب مشهور فى العالم زيك، أضحك وأقول
له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدونى بعد أسبوع.
صوت أبى الميت كان يهمس فى أذنى، الوزير يأتى بقرار ويذهب بقرار،
والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.
لم يكن فؤاد محيى الدين صديقا، رغم حديثنا عن الادب والفن، كان هناك
حاجز زجاجى يقف بينى وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله
الادبية، أن طموحه فى المنصب العالى أكثر من طموحه الادبى. يوم 25 نوفمبر
1981 كان لقائى الاخير بفؤاد محيى الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة
حسنى مبارك فوق الكنبة المذهبة فى قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل،
ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهن أنور السادات السجن قبل
اغتياله بشهر واحد، هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام
1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسنى مبارك قرارا بالافراج عن
الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، إنفتح باب السجن فى
صباح ذلك اليوم وحملونى من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجون إلى قصر
العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيى الدين.
كنت أرتدى حذائى الكاوتش أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه
بالتحقيق فى جريمة اعتقالى دون سبب إلا كتابة رأيى. قبل الاجتماع أخرجت
الرسالة من حذائى وناولتها لرئيس الدولة. قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لى:
معلهش يا دكتورة نوال.
رنت كلمة معلهش فى اذنى غريبة، هل يضعوننى فى السجن دون جريمة ثلاثة
شهور ثم يقولون لى معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد فى
ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضى ونتطلع إلى
المستقبل، قال بلغته هذه الحروف، بلاش ننبش القبور، وكان يعنى أن ننسى فترة
السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.
لم يقنعنى هذا الكلام، كنت أرى أن تقييم الماضى ضرورة لعدم تكرار
الاخطاء، وأن التحقيق فيما حدث يتمشى مع القانون، ثم لماذا ينتظر الناس
دائما ما يفعله رئيس الدولة، لماذا لا يعملون بدلا من مجرد الانتظار؟
ولماذا يصبح رئيس الدولة هو الفرد الوحيد الذى يعمل والذى يتخذ القرار ونحن
علينا أن نجلس فى بيوتنا وننتظر؟
بدأ فؤاد سراج الدين يتكلم بعد أن انتهى رئيس الدولة من كلمته. قال
فؤاد سراج الدين، يا سيادة الرئيس لقد أنابنى زملائى لأتكلم عنهم، دهشت
لهذه العبارة الاولى، لأن أحدا لم يأخذ رأيى فى موضوع الإنابة هذه، كان
عددنا ثلاثة وعشرين شخصا، منهم واحد وعشرين رجلا، وامرأتان فقط، أنا واحدة
منهما، سألت زميلتى: هل تعرفين شيئا عن هذه الإنابة؟ هزت رأسها بالنفى.
سألت الزميل الجالس إلى جوارى، فقال، لا أعرف شيئا يا دكتورة نوال لكنى
سمعت أن محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد
سراج الدين للتحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدكتور فؤاد
محيى الدين بهذا القرار لابلاغه للسيد الرئيس، وبالطبع لم ياخذ رأينا أحد،
قلت كيف ينوب عنا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطى كيف نقبله نحن
الذين دخلنا السجن لأننا اعترضنا على التصرفات غير الديموقراطية؟ ابتسم
الزميل فى أسى وقال، يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى
السجن!
لم يعبر فؤاد سراج الدين عما كان يجيش فى صدرى، رفعت يدى وطلبت
الكلمة بعد أن انتهى من كلمته، رمقتنى بعض العيون بشىء من الضيق، ثلاثة أو
أربعة من كبار الأسماء الذين كانوا داخل السجن بالأمس ثم أصبحوا اليوم شيئا
آخر، يتطلعون إلى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ويرمقون المساجين الآخرين شذرا.
* * * * 2
أعطانى رئيس الدولة حق الكلام، تكلمت، قلت كل ما عندى فى أقل من خمس
دقائق، تشجع بعض المسجونين الآخرين وطلبوا الكلمة، ربما تلعثم أحدهم خوفا
أو رهبة، إلا أنه فتح فمه وعبر عن رأيه، زميلتى المسجونة تكلمت وطلبت حماية
النساء الحوامل فى السجن، وتكلم شاب عن رعاية صغار السن وعدم تعريضهم للضرب
أو التعذيب، وفجأة رأيت محمد حسنين هيكل ينظر فى ساعته فوق معصمه وقال هذه
العبارة: أظن أن وقت السيد الرئيس ثمين ولا يسمح بمزيد من الكلمات واقترح
قفل باب الحديث.
فى لقاء لى مع محمد حسنين هيكل بعد بضعة شهور سألته: لماذا قلت هذا
الكلام، وهل وقت الرئيس أثمن من وقت ثلاثة وعشرين شخصا دخلوا السجون دون
جريمة؟ وإذا كان هو لم يقفل باب الحديث لماذا تقفله أنت وكنت مسجونا معنا؟
ثم لماذا لم تأخذوا رأينا فى موضوع إنابة فؤاد سراج الدين ليتكلم عنا؟ ألم
تفعلوا بنا ما يفعله أى حاكم دكتاتور رغم أنكم تكتبون عن الديموقراطية؟!
كان شريف معى فى هذا اللقاء وسمعنى أقول هذا الكلام، نظر إليه محمد
حسنين هيكل وقال: الدكتورة نوال صعبة أوى مش كده والا إيه يا دكتور شريف؟
ابتسم شريف بهدوء وقال: نوال تعبر عن رأيها وهذا حقها.
بعد اللقاء مع رئيس الدولة يوم 25 نوفمبر 1981 خرجت من قصر العروبة،
قالوا لنا داخل القصر أن قرار الإفراج صدر ويمكننا العودة إلى بيوتنا،
اجتزت حديقة القصر الكبيرة أشم رائحة الزهور، رمقنى أحد الصحفيين فأقبل
نحوى، نظر إلى حذائى الكاوتش مندهشا، وقال أتقابلين رئيس الدولة بهذا
الحذاء الكاوتش؟! قلت، ولماذا تنظر إلى حذائى يا أستاذ؟
وقفت عند محطة الأتوبيس أنتظر سيارة أجرة تحملنى إلى بيتى فى
الجيزة. فوق الأرض وضعت حقيبتى بها ملابس السجن. أرمق الناس وهى تمشى فى
الشارع. كيف يمشون هكذا دون أن تقبض عليهم الشرطة؟ كأنما لم أمشى فى الشارع
أبدا بهذه الحرية؟ كأنما رجال البوليس سوف يأتون بعد لحظة لإعادتى إلى
السجن. لم تكن كلمتى أمام رئيس الدولة هى الكلمة المطلوبة. انتزعتها من بين
براثن السلطة وزملاء السجن. لم يطلبها أحد، لم يرغب فى سماعها أحد تقلصت
وجوه الرجال حين تكلمت، بما فيها وجه رئيس الدولة، كيف تتكلم امرأة بهذا
الشكل فى أمور لا يتكلم فيها أحد، كلمة فؤاد سراج الدين لم تخرج عن تقديم
الشكر والامتنان لرئيس الدولة لأنه أطلق سراحنا. كلمة زميلتى لم تخرج عن
طلب حماية المرأة الحامل فى السجن باسم الشفقة، كلمة الشفقة تطرب لها أذن
الرجال، الشفقة بالمرأة الحامل الضعيفة، ضعف النساء يؤكد قوة الرجل،
الرجولة هى القوة والقوامة، الرجال قوامون على النساء، زميلة السجن كانت
ترتدى الحجاب، تؤكد به هوية الأنثى التى يطلبها الرجال. لم تتقلص الوجوه
حين تكلمت الزميلة المحجبة، خرجت من السجن وأصبحت صورتها فى كل مكان، تكتب
فى صحف الحكومة والمعارضة، تتحدث باسم الإسلام والتراث والحجاب، أصبح لها
مقال أسبوعى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى، صورتها بالحجاب على رأس
المقال، على وجهها ابتسامة أنثوية ناعمة، شفتاها متوردتان.
أمام باب الشقة فى الجيزة وضعت حقيبتى على الأرض. رأيت اسمى فوق
رقعة نحاسية صغيرة. ضغطت على الجرس. فتح شريف الباب. مش معقول! أى مفاجأة!
كان يظن أننى فى السجن. لم ينشر الخبر بعد فى الصحف. ألقيت ملابس السجن فى
صفيحة القمامة. وأخذت حماما ساخنا. تمددت فوق السرير النظيف الدافىء.
الملاءة بيضاء ناعمة تفوح برائحة صابون معطر. أدفن رأسى فى الوسادة
الناعمة. أغمض عينى كأنى فى حلم سأصحو منه بعد لحظة وأجد نفسى فى زنزانة
السجن.
جاءت ابنتى منى وابنى عاطف من المدرسة آخر النهار. أخفانى شريف فى
الغرفة ليصنع لهما المفاجأة. أراهما من ثقب الباب جالسين فى الصالة. سحابة
من الحزن تطفو فوق الوجهين الحميمين، عيون أطفال خطف بريقها غياب الأم،
خيالهما قادر على اختراق جدران السجن، يكسر القضبان الحديد، يرى الأم جالسة
فوق الأرض، تكتب بأصابعها فوق التراب رسالة إلى أطفالها.
فى صباح اليوم التالى قرأ شريف الصحف. خبر الإفراج عن المسجونين فى
الصفحة الأولى. برقيات التهنئة إلى السيد رئيس الدولة يتبارى على نشرها
الكتاب المعروفون، ذوى الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية
الطويلة، لم يفتح أحدهم فمه حين صدر قرار الاعتقال وتم حبس أكثر من ألف شخص
دون تحقيق ودون جريمة. كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون، قلت
لشريف، الصمت فى مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة فى الجريمة.
فى جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدولة بقلم يوسف إدريس
الكاتب الكبير. ظهر إسمه بالبنط العريض. كأنما هو بطل الإفراج عن السجناء،
لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدولة، أصبح البطلان محط الانظار واختفى
المسجونون داخل البيوت أو بين السطور، لا تنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير
جدا لا يكاد يرى بالعين المجردة.
حين كنت فى السجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس. قلت
لتوفيق الحكيم أنت رئيس اتحاد الكتاب ورئيس لجنة القصة بالمجلس الاعلى
للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت
السجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانونى،
وأن ترسل مندوبا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرا عن حالة الزنزانة التى أعيش
داخلها.
وفى الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له أنت زميل لى فى اتحاد
الكتاب ولجنة القصة ولك مقال أسبوعى بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئا ضد
قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.
لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة. لم يجتمع اتحاد
الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة. وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج
يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدولة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.
بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا فى زيارة، قال إنه جاء للتهنئة،
وكان يريد أن يشترى لى باقة ورد لكن جميع مجلات الورد كانت مغلقة، وضحك
شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت ؟! سهر معنا يوسف
إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكستون أدمن عليها مثل أحمد
حلمى، يصبح لسانه ثقيلا فى الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلا، يداه أيضا
تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطلا.
- عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟
- مين يا يوسف؟
- أنا يا شريف، أنا اللى …
شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السخرية الخفيفة، يعرف أن
يوسف إدريس لم يرد على رسالتى ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنه
يعيش وهم البطولة منذ كان طالبا فى كلية الطب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة
تسرى فى دمه، تصور له الوهم كأنما هو الحقيقة.
كان يوسف إدريس يجلس أمامى منفوخا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح
يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536، الألم فى عمودى
الفقرى والنوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزملاء والزميلات من الكتاب والادباء،
وصمت نقابة الأطباء، أرسلت رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.
تلك الليلة لم يكف يوسف عن الكلام، يقول أنه السبب وراء خروجنا من
السجن، وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضا مللت كلامه عن بطولته
الوهمية، وقلت وأنا أتثاءب، أعتقد يا يوسف أنك فى حاجة إلى الذهاب إلى بيتك
لتنام. قال، ولكنى لا أريد أن أنام، قلت ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام،
نهض متثاقلا واقفا فوق قدميه وقال، عرفت يا نوال أننى كنت السبب وراء قرار
الإفراج عنكم؟ قلت، وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنا فى السجن؟!
مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة. انكمشت البالونة
وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفا. رمقنى بشىء من الغضب. لم أنس أنه صمت
حين كان الكلام واجبا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو ايضا. أكان ضميره
يؤرقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمى
يقول، الماكسيتون ليس مثل المخدرات يضعف الذاكرة، إنه أخطر المنبهات جميعا،
يشعل الاحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شىء، مع ذلك تظل الذاكرة
مشتعلة لم تنس شيئا.
* * * * 3
أول مرة أسمع عن قائمة الموت أو إهدار الدم كان عام 1988. أرسلت
الحكومة حراسة أمام بيتى فى الجيزة، وبودى جارد لحماية حياتى. لم أكن أدرك
فكرة إهدار الدم. لم أسمع إسمى يرن فى الليل من فوق الجوامع. وقال شريف ما
رأيك أطلب لطيفة الزيات فى التليفون، لابد أن لديها بعض معلومات.
لم تشأ لطيفة الزيات أن تتكلم عبر الأسلاك، أنت عارف يا شريف،
التليفونات عليها رقابة، أنا جاية الجيزة ويمكن أمر عليكم بالبيت، بوسلى
نوال يا شريف.
كانت لطيفة الزيات صديقتى منذ نهاية الستينات نلتقى بصفة منتظمة فى
اجتماعات لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان لها أخ يحتل
منصبا كبيرا فى الدولة، يلتقى بالسادات أحيانا، يهمس لأخته لطيفة أحيانا
بمعلومات لا يعرفها أحد. حين فقدت منصبى فى وزارة الصحة فى أغسطس عام 1972
همست لطيفة فى أذنى: السادات بيقول لسانك طويل. وأطلقت ضحكتها العالية على
شكل قهقهات متقطعة، ومدت يدها البضة الناعمة وأمسكت يدى، وراحت تضحك دون
انقطاع، يتورد وجهها الممتلئ، يقفز الخدان المكتنزان إلى أعلى، يضغطان على
العينين الصغيرتين، تنغلق الجفون إلا من شق ضيق يطل منه جزء من الننى على
شكل خط أسود. يصبح وجهها مستديرا كوجوه الاطفال، يهتز جسمها المربع
الممتلىء، أسمع ضحكتها فى الشارع قبل أن أدخل بيتها. تذكرنى بضحكة أمى، لكن
جسد أمى لم يكن يهتز، وكان لضحكتها رنين فى الجو يشبه رنين الفضة المجلوة،
لم تكن أمى تدخن ولم يكن صوتها مبحوحا أو مشروخا بالدخان. كنت أضحك مع
لطيفة وأقول لها أنت مدخنة يا لطيفة، تموت على نفسها من الضحك، ثم تصمت
فجأة، تكسو وجهها سحابة حزن وتقول، أعمل إيه يا نوال، خلاص ما فيش لذة فى
حياتى إلا دى. وتشير إلى السيجارة بين شفتيها.
كانت تجلس إلى جوارى فى لجنة القصة، يجلس توفيق الحكيم عند رأس
المائدة، فهو رئيس اللجنة، يجلس نجيب محفوظ وثروت أباظة عن يمينه، ويجلس
يوسف إدريس ويوسف الشارونى عن يساره. يفتح توفيق الحكيم الحديث عن
الاشتراكية والرأسمالية، ثم يطرح السؤال: هل الله إشتراكى أم رأسمالى؟
يقهقه يوسف إدريس ويقول: أعتقد أنه من أهل الوسط يا أستاذ توفيق. تقهقه
لطيفة الزيات وتقول: يعنى قصدك من الحكومة؟
لم يكن مثل هذا الحديث يعجب بقية الأعضاء، لكن أحدا لم يكن يعترض
على الرئيس، منذ الإله إخناتون ورمسيس الأول يحترم المصريون الملوك
والرؤساء، يدرك توفيق الحكيم هذه الحقيقة ويسترسل فى حديثه متجاوزا الخطوط
الحمراء، يحكى بعض الفكاهات عن الملك فاروق، يضحك يوسف إدريس ويقول: النكتة
دى فيها إسقاط يا أستاذ توفيق؟، إسقاط على مين يا يوسف؟! وينفجر أعضاء
اللجنة بالضحك، تتصاعد القهقهات مع دخان السجائر حتى السقف.
ثم ينتقل توفيق الحكيم من السياسة إلى المرأة لا يمل الحديث عن
المرأة رغم أنه كان يحمل لقب عدو المرأة. تلمع عيناه وهو يتحدث، تدوران على
وجوه الرجال أعضاء لجنة القصة، ثم تثبتان على وجه واحدة من الأديبات.
رغم كهولة توفيق الحكيم كان يتمتع بحيوية تفوق الشباب. شعره الأبيض
مع البريق فى العينين يضفى عليه جاذبية خاصة. تنقضى الساعة وراء الساعة وهى
يحكى النوادر والفكاهات عن أيام شبابه. يحرك رأسه ويديه فى حماس ويقول:
المرأة ملاك أو شيطان ولا ثالث لهما. يهتف أعضاء اللجنة فى نفس واحد على
رأسهم يوسف إدريس: تمام يا أستاذ!
يرمقنى توفيق الحكيم بطرف عين. يرانى صامتة مترفعة عن الرد أفكر فى
شىء آخر. تطلق لطيفة الزيات ضحكتها، القهقهة المتقطعة المتصلة، تشعل سيجارة
جديدة بأصابع ترتعش قليلا، يهتز جسمها مع الضحك، تمد يدها المهتزة تحت
المائدة وتمسك يدى، تقرب فمها من أذنى وتهمس: عينه عليكى يا نوال!
- مين يا لطيفة؟
- يعنى مش عارفة؟
* * * *
حين دخل أسمى قائمة الموت عام 1988، همست لطيفة الزيات فى أذنى:
بيقولوا يا نوال روايتك سقوط الإمام فيها إسقاط!
- إسقاط؟
- أيوه يا نوال.
- إسقاط على مين؟!
- على السادات.
- ده مات يا لطيفة من سبع سنين!
- بيقولوا لسه عايش.
وأطلقت ضحكتها الطويلة المتقطعة الانفاس. أشعلت السيجارة وراء
السيجارة، تحكى لى الحكاية المرة بعد المرة، تنسى أنها حكتها من قبل، ترتعش
أصابعها وهى تشعل عود الكبريت، تضحك بعد كل عبارة تنطقها وتمد يدها لتمسك
يدى.
* * * * 4
عام 1992 دخل اسمى قائمة الموت مرة أخرى. وضعت الحكومة حراسة مسلحة
أمام بيتى فى الجيزة، وبودى جارد يرافقنى ليل نهار. قال شريف، حياتك فى خطر
يا نوال، ولابد من السفر إلى مكان بعيد.
لم نكن نعرف من أين تنطلق الرصاصة. من الجماعات الإسلامية أم من
الحراس؟ كانت صديقتى القديمة بطة فى مؤتمر إعلامى دولى فى لندن. وكانت
سامية فى نيويورك فى مؤتمر نسائى دولى. جاءت صفية إلى بيتى وسألتنى هل
لطيفة الزيات صديقتك يا نوال؟ قلت لها نعم هى صديقتى، قالت صفية، غريبة
أوى، ليه هى بتقول كلام ضدك يا نوال؟ كلام ضدى؟ يمكن مجرد إِشاعات يا صفية،
لأ يا نوال، ده كلام مكتوب فى المجلة، خدى اقرى يا ستى!
كانت مجلة أدبية عربية، وحوار أجرته إحدى الصحفيات مع لطيفة الزيات،
سألتها هذا السؤال: كيف تفسرين نجاح روايات نوال السعداوى المترجمة إلى
اللغات الأجنبية؟ جاء رد لطيفة الزيات، لأن نوال السعداوى تكتب للغرب!
قبل ذلك بأيام قليلة كانت لطيفة الزيات فى بيتى، كانت تقول لى أننى
أهم روائية عربية وأنها سوف تصدر كتابا نقديا عن أعمالى الأدبية. كانت
تتحدث بحماس، وتضحك مع شريف وتقول له أنت يا شريف كاتب مبدع، روايتك الشبكة
جميلة جداً، هلى تنوى ترجمتها إلى الإنجليزية؟
- دى رواية طويلة جدا يا لطيفة.
- وماله؟
- أنا مشغول بترجمة روايات نوال.
- إشمعنى يعنى؟
- روايات نوال بتعجبنى.
عام 1980 ظهر أول كتاب لى باللغة الإنجليزية، كان شريف هو الذى تحمس
لترجمته. نجح الكتاب وترجم إلى لغات متعددة، ومن بعده بدأ الناشرون فى
أنحاء مختلفة من العالم يطلبون ترجمة كتبى الأخرى.
وأصبح جرس التليفون يرن فى بيتنا، الأدباء الكبار يأتون إلينا فى
زيارات مفاجئة. جاء عبد الرحمن الشرقاوى يحمل عددا من كتبه، أهداها لى
ولشريف، بعد أن انتهت الزيارة، قال لشريف وهو يودعه على الباب:
عندك كارت بلانش إذا شفت إن كتاب من كتبى ممكن ترجمته ونشره فى
لندن! وقال شريف بهدوء: أنا روائى ولست مترجما يا عبد الرحمن. كانت
الزيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشرقاوى. قرأنا نعيه فى جريدة
الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يداعبه ويقول، يعنى
إشمعنى نوال يا أخى اللى أنت نازل ترجمة لرواياتها، ما ترجملى رواية أو
مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملى شوية إغراءات يا
يوسف ثم أنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها.
قرأ شريف معى ما كتبته لطيفة الزيات عنى، وبدأ عدد من الماركسيين
والماركسيات يرددون ما قالته لطيفة، وعدد من النقاد الأدباء والأديبات
العاجزين عن نشر أعمالهم فى الخارج. كان نجاح روائية مصرية خارج البلاد أمر
غير مألوف، وهى لا تتبع لا الحكومة ولا حزب من الأحزاب ولا المجلس الأعلى
للثقافة.
حين عادت سامية من الخارج قالت لى، والله يا نوال حاجة تفرح إن
كاتبة مصرية تحصل على هذا التقدير والاحترام فى العالم. قلت لها، وما رأيك
فيما أشاعته صديقتك لطيفة؟ مطت سامية شفتيها الرفيعتين وقالت شىء طبيعى يا
نوال، أنا كمان باحقد عليكى، الغيرة تنهش قلبى وأحيانا أقول يا رب تموتى يا
نوال!
يضحك شريف ويقول، أنا باحب صراحتك يا سامية لكن المشكلة ليست الغيرة
أو الحقد، المشكلة إن نوال كاتبة مستقلة لا تستند إلا على قلمها، ويمكن أن
تنقد الشرق والغرب والحكومة والمعارضة، واليسار واليمين، والمشكلة أيضا
تتعلق بالمناخ العام والإحباط، لطيفة الزيات ويوسف إدريس وكثير من الأصدقاء
كانوا زملاء لى فى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى، حين بدأنا الحركة
عام ستة وأربعين ضد الملك والانجليز كان المناخ العام أفضل من اليوم. كنا
فى مرحلة الشباب عندنا مبادئ وحماس وأمل. المناخ الجيد يبرز أحسن ما فى
الانسان. لكن الحركة ضربت ودخلنا السجون. لم يهزمنا السجن لكننا انهزمنا من
الداخل. تفككت الحركة وتفرق الزملاء وانتشرت الإشاعات. المناخ السىء يبرز
أسوأ ما فى الإنسان. وأنت يا نوال من جيل آخر جاء بعدنا. أما جيلنا فقد
تمزق بين الطموح والاحباط، بين تأييد السلطة ومعارضتها، لطيفة الزيات هى
المثل على ذلك، هذه الضحكة العصبية دليل على التمزق والإحباط، رعشة الأصابع
والإفراط فى التدخين، وابتلاع حبوب الفاليوم، إنها تعرف تماما أنك ناقدة
للغرب أكثر منها، وتعرف أيضا أن الغرب ليس شيئا واحدا، وهناك فى الغرب من
هم أكثر تقدما وأكثر اشتراكية من الإشتراكيين عندنا، المسألة ليست غرب
وشرق، هى تعرف ذلك، ويوسف إدريس يعرف ذلك، لكن المسائل الشخصية تتغلب على
المسائل العامة، والإحباط يولد الإشاعات، وما معنى أن يكتب أديب أو أديبة
للغرب أو للشرق؟ وأغرب شىء هؤلاء الذين يقولون أن الأعمال الأدبية الناقدة
لمجتمعنا تسىء إلى سمعة مصر فى الخارج! أعظم الأعمال الأدبية لابد أن تكون
ناقدة لمجتمعها، أهم أعمال يوسف إدريس أو نجيب محفوظ الأدبية هى التى نقدت
النظام الحاكم وأشكال الظلم أو القهر فى بلادنا، لكن يوسف إدريس ونجيب
محفوظ فى الأهرام، أكبر جريدة حكومية فى مصر، وهما جزء من النظام، يتمتعان
بحصانة السلطة، وقد ترجمت أعمالهما إلى اللغات الأجنبية عبر وزارة الثقافة
أو المجلس الأعلى للثقافة وكلها مؤسسات حكومية، لكن أعمالهما لم تنجح فى
الخارج كما نجحت فى مصر ، لأن النجاح الأدبى فى بلادنا لا يعتمد على جودة
العمل فقط ولكن على الدعم الحكومى أيضا، ولا يمكن للكاتب أن يشتهر ويحمل
لقب كاتب كبير دون أن تكون له علاقات طيبة بالمسئولين الكبار، وهذه هى
المشكلة بالنسبة لك يا نوال أو غيرك من الأديبات أو الأدباء الذين لا
يسيرون فى فلك السلطة. إن السلطة فى مصر تملك كل مؤسسات الثقافة والنشر
والإعلام والترجمة. ويمكنها أيضا مصادرة أعمالك، وتشويه سمعتك. لكنها لا
تملك مصادرة أعمالك المترجمة فى الخارج. شاءت الصدف يا نوال أن تتزوجى شريف
حتاتة وأن يقوم شريف بترجمة رواياتك! أتعرفين يا نوال آخر إشاعة عنك؟
يقولون أنك تزوجتينى لأترجم أعمالك! كان شريف يضحك، يحاول أن يخفف عنى وطأة
الألم.
كنا فى بداية يناير 1992، نتأهب للرحيل إلى المنفى. أصبح الخطر
يحوطنا من كل جانب. يتحدث الناس كل يوم عن قوائم الموتى. الأسماء التى تم
إهدار دمها. جرائم تحدث دون أن يقبض على القتلة. الهمس يدور بين الناس، لا
يعرفون الوهم من الحقيقة، ولا الإشاعات من الحقائق. كانت الحراسة المسلحة
أمام بيتنا، والبودى جارد يتبعنى حيثما أذهب. لا أعرف من أين تنطلق
الرصاصة. فى النوم أرى دمى مهدرا فوق أسفلت الشارع. تزحف قشعريرة باردة إلى
جسدى من الرأس إلى بطن القدمين، والصوت يزعق اقتلوها الكافرة عدوة الله
والإسلام.
|