فرض المساء
كنت منفعلا من البرد والدهشة ، وأنا مكوم على نفسي، حين كان أبي لا
يزال واقفا على رأسي، يجردني من الغطاء. أمسك بي من معصمي، وجرني
إليه، على نحو ما يفعل الأصدقاء ، حين يأتون مبكرين، حاملين البشرى
إلى نظرائهم الكسالى، المعتادين على النوم إلى الأصيل . لم أكن لأستجيب لجره. كنت مكتنزا ككيس مليء بالبذور. تجاهلته وأنا
أفرك عيني وأرتخي. كانت تلك، هي المرة الأولى، التي لم ينزل فيها عاليا، زعيق أمي، على سمعي كاللكمات، وهي تدعوني بفظاظة للاستيقاظ. كنت
أجننها بلا تجاوبي، ورغبتي الحرنة، في مواصلة النوم.
- حسنا ، ألا تريد التلفزيون ؟؟.
سمعت من خلف لذاذة الاستغراق أبي. كان لدي شعور بأنني أقشعر. بعد
سماع اللفظة، اصطكت بالفعل أسناني، وغمرني أوار صاخب . تلفزيون
؟؟؟...
- احذر ..أنت من سيدفعني إلى العودة للنوم. انفلت كدلفين من الفراش، حيث كان أخي، لا يزال غارقا في سباته
المعسول. هرعت إلى الحمام، ثم عدت سريعا جاهزا، أقف أمام أبي، بشعري
المنتصب المبلول ، الشبيه بشوك قنفد ، تأخذني رعشة خفيفة، وأنا أنظر إليه
غير مصدق، مركزا عيني الطافحتين بالفرحة والاستحسان ، ويداي خلف ظهري.
- ألن تفطر؟؟ !!..
كان أبي قد سبقني ولاشك. فكرت في شاي أمي اللاهب ، لكنني خفت أن نتأخر بشكل أكبر، ثم أنني كنت أدري، أنني لن أهون على والدي، ولن يتركني
لألم الجوع و نقمته. عند أول منعطف ، ستهب مشتهاة ، رائحة زيت المقلى ، من دكان ميلود ،
بائع الفطائر الاسفنجية اللذيذة ، وسيشتري لي منه فطيرتين أو أكثر، تلك
التي لن أمنحها الوقت لتبترد ، بل سأزدردها في هجوم ضار، والزيت
لا يزال يفور، على سطحها الذهبي اللامع. كان حدثا أن يحصل ذلك. بعد كل الجور واللامبالاة، يتم الرضى عنا. ننتقل من الإضاءة بالشمع
ولمبة الغاز، إلى الكهرباء. حين ذبلت أعيننا، أتى يوما رجال. نصبوا أعمدة، ثم بعدها أتوا
بأسلاك نحاسية ، في لفات كبيرة ، كانت تلمع في القيظ ، ونحن نتحلق حولها
. لم يكونوا حذرين ، وهم يتسلقون الأعمدة، ببدلاتهم المتسخة الدكناء، ويربطون الأسلاك، لكن بعد أن رحلوا،
تركوا رسما مخيفا على لافتة. كان تقاطع العظام بالجمجمة يفتح قولبنا ، على
أن البعد منها، يجنبنا إمكانية حدوث الخطر. أنيرت دروبنا الطويلة المتربة ، دفعة واحدة ، في كتامة ذلك المساء
الصيفي ، لكن أكثر البيوت كانت عاجزة ، عن دفع الرسوم ، فظلت على عماها،
فرحة فقط بالإنارة المتوهجة، التي نابها منها نصيب، بحكم قربها من
زاوية المصابيح، في أعلى العواميد الخشيبة المشققة. في المساء الذي أعقب الفرح، جاءت البنات وقعدن أسفل عمود نور. شكلن
حلقة، ثم غنين على إيقاع التعارج، أغنيات طويلة تائهة، وهن ينظرن
مباشرة، في عيون الأولاد. ربطت إحداهن وسطها وتلوت. تعالى الصفير،
فجاء أخوها وصوب نحوها صفعة، ثم شدها من شعرها، نحو البيت. سعيد ، ابن الحي ، وطالب الفلسفة، حد كثيرا من نداوة فرحة الناس ، وهو يعبر جنبهم ، حين أعلمهم واثقا ، أن اهتمام الحكومة لم يكن بهم ، بقدر
ما هو ضبط أمني . فهم بسبب جرائمهم الكثيرة ، و ازدهار حيهم ، كوكر للدعارة
والحشيش ، فكروا في بريتهم ، عسى أن يصطادوا ظافرين ، رؤوس الشغب.
- أولاد الكااااااالب ؟؟..
علق التهامي، المحشش دوما والمهلوس، والذي من ولعه، كان مستعدا ،
لتقديم حياته ، مقابل نفس طويل زائد، من غليون الكيف. كان يدري ، أنه لا
يستطيع العيش متآخيا ، مع عذابات حرمانه . آزره بقلق ، بوجمعة الشاحب ،
الملقب بكماي، مسلك المجاري والمواسير :
- أولاد الكلب و خلاص ؟؟.. أولاد ال...
- ما يجي من وراهم خير ، ما ترى باس .
- فالحين غير في السرقة و الرشوة .
فرح سعيد، وهو يرى مفعول تدخله ، فقال كلاما آخركبيرا، للمزاليط ،
جعلهم يدوخون . رمى جملا عن داروين وماركس ولينين ، والثورة ، والصراع
الطبقي، ثم غادرهم. كان ثمن التلفزيون باهضا ، قياسا للمداخيل ، لا يتوفر لسكان الحي ، من
أصحاب العربات و الباعة المتجولين ، والعمال البسطاء . لكن أبي الذي ترقى
في عمله ككبران ، في معمل التصبير، كان عليه أن يرضخ لي و لرغباتي ، أنا
شبله الذي لم يلده ، إلا بعد أن فضض الشيب شعره ، وطلق من أجلي خمس زيجات . يوما بعد يوم ، عرفت كيف أحد من جسامة مقاومته. حين كنت و أبي في طريقنا الى متجرالوزاني ، بشارع الرباط ، كانت قد
سبقتنا الى الحي ثلاث تلفزات ، اثنتان بمقهى الحاج مسعود، ومقهى المويسية
، والثالثة ببيت قدور، العدل المرتشي اللعين. وعلى خلاف هؤلاء جميعا ، سيصيراستواء باحة بيتنا، الأرضي الطويل ،
بهندسته الساذجة ، ملاذا للجيران ، وستشكل قعدات الناس فيه ، ديكورا
ثابتا ، في الأمسيات الحافلة. بيت العدل ظل مغلقا . كان فاسقا ، يتقن ألوان الرياء . يقفل البيت
على نسائه ، بينما يمتد ظله المتطاول بخفة ، خلف مؤخرات المارات ، وعيناه
ترصدان النوافذ . كان صوته يفقد الكثير من وضوحه وقوته.
-ماشاء الله .. ما شاء الله .
يهمس لهن بخبث ، ويداه تضيقان على بطنه ، داخل جبته .
لم تثر ثائرة أمي أبدا ، وهي تستقبل في بيتها ذلك الحشد من الناس ، ولم
تتذمر، مع أنها بشبابها الريان ، كانت سيدة البيت وحاكمته. ظلت مطيعة
مرحة ، تقدم الشاي لجاراتها القريبات ، اللائي يحضرن زمنا قبل الغير.
لحسن الحظ ، أن محطات ثلاث فقط ، هي ما كان يشد الناس ، و يأتي بهم
جماعات الى بيتنا ، سهرة يوم السبت ، و مسلسل
le fujitif البريء ، الذي
كان يستقطب الشباب، ومباريات الفريق الوطني. سهرة يوم السبت ، المبثوتة من عين الشق ، وحدها كان جمهورها مختلطا .
فرحة الحضور بالشيخات ، والثنائي قشبال وزروال ، واسكيتشات عبد الرؤوف
، و لقطات الكاتش ، للحاج فنان ، كل ذلك ، كان يزرع نوعا من الاستهتار في
الحلقة ، والاستعداد للهيجان . بيد أني كنت أضبط ، برنوة حاسمة مني ، أي
عنف جسدي مكتوم ، أو إساءة مدبرة ، تصدر بين الأطفال ، لكنني كنت أعلم فيما
بعد، أن أكثر من أصبع وسطى ، كانت تمتد نكاية ، الى المؤخرات !!.. كنا نرتاح، حين تأتي سيدة الطرب. كانت النساء يخلطن في الحساب ،
ويقبلن . لكنهن كن يخلفن جوا آخر، تآمريا ، وهن يسحبن أولادهن ، ويغادرن غاضبات على عجل ، شاتمات بحقد وكراهية ، صورة أم كلثوم على الشاشة
. لم يكن ذوق الناس ، على مزاج آهاتها و تلويها. صبري الحصيف، ورصانة أمي ، عصف بهما فيما بعد ذلك الافراط . ومدى
البهجة ، التي كنا نستشعرها ، بكوننا قبلة للامتاع ، ضعفت . لم أعد كما في
السابق ، متلونا بزهوي الخاص ، في أن كل البنات يكلمنني ، أو يدفعنني الى
نوازع السقوط في حبائلهن ، لأن أكثريتهن ، كن على استعداد ، لاقتراف
الحماقات و الفعل الحرام. بقي فيما بعد ، أصحاب الوالد ن وكذا أصحابي ، الذين يأتون مشوشين
بالقلق ، الذي يسببه لهم ، الجهازالدافع ، في بيوتهم الواقعة بين مستشفى
عقبة بن نافع ، حتى باب الشعبة البعيد . كان جهاز البث ضعيفا ، لا يترك من
الصورعلى شاشاتهم غير الطشاش . كنا نوزع عليهم كؤوس الكولا وكعك البيت ،
الذي تصنعه أمي كالأساور، ونتفرج في صخب على المباريات. بعد الفرجة ، كانت مهمتي أن أخرج مع الأصحاب. أوصلهم إلى حدود مستشفى
محمد الخامس ، عبر الأرض الرملية الخلاء ، التي كانت تنشر عليها شباك البحرالمتهتكة ، ليخيطها البحارة المتعبون. كنت بذلك أجنبهم بدقة ،
إمكانية أي هجوم محتمل ، من أولاد حينا الشرسين ، في الممرات المظلمة، حين
يغيب طيفي، وأطياف آخرين منا ، يعاضدونني
ومع كل الحيطة والحذر ، كانت تحصل أحيانا عركات . حساسياتنا الفكهة،
حيال كل شيء لامع ونظيف، كانت تستفز السكارى والمحششين، من أبناء حينا، فيلمسون
بدعارة، خدود الزوار، فتشتبك الأيدي والأقدام . لم يكن من شيء، يجعلهم ينهون على شبه خير، ذلك الاقتتال الدائر، عدا
سماعهم وعيد الأولاد .
-اعقل دين أمك . ستدفع الثمن غاليا أمام السينما .
فقط ساعتها يلين العراك ، وينتهون ، الى أن يبدوا الوسائط ، الشبيهة
بالمداعبات . لكن بازدياد الغضب ، كانت تحصل أحيانا مشاكل . أمام سينما الأطلس، كان يعسكر أولاد حي رحاة الريح ، وأمام رويال ،
يصلب عود أولاد الصقالة ، وشارع الرباط . ونحن ، حين نصل إلى هناك ، بوجوهننا المبللة بالعرق ،
نكون بحاجة إلى من يدرأ عنا ، لسعات الأحزمة ، حين تتلوى حول الآذان !!.. كنا نتشنج خوفا ، ونحن نبحث بالأعين ، عن طرق ، تجنبنا شر ما اقترفناه
. نسمع بغتة ، تلك الصرخات المفجعة ، فنعض على أسنانها من القلق :
- ها هم جاو . ودابا ، حصلتوا دين أمكم ، صافي ؟؟ . الحصلة تجيب
البصلة .
ثم نسلك تلك السبل الملتوية ، للاقتراب من الناس الطيبين ، بحثا عن
التسامح ، ونحن ندعي أننا أبرياء ، أو نندس خلف النساء المختلفات ، نمسك
في طيات لحمهن ، فندوخ من العطر المسكر ، الذي يمنحنا عسل الشهوة ، وشهوة
الانتصاب . لماذا كنا نغامر بالمجيء ، رغم كل ما يلوح قريبا ، من سيرتنا
المارقة ؟؟.. كانت حاجتنا حتمية للذهاب . من يقوى، على مقاومة إغراء ملصق، لفيلم
هندي أو كاوبوي ، على ظهر جدار طاحونة الحي؟؟ !!.. كنا نلقي عليه ، نظرات
طويلة حالمة ، ونحدق في الوجوه ، ثم نشتعل بالرغبة. نتفارض* للبعض ،الذين
يعيشون أعطاب الفقر، من أجل أن نكمل ، جمع و تحصيل درهمين ، لكن الأسوأ أن
نجد التذاكر ، في أيدي الصغار الأعداء ، سماسرة سواد السوق . سكيريدا
الصعلوك ، كان يعرف ، كيف يحررنا من الورطة ، بالنصب و الوعود . أما نحن
فطاقات مخيلاتنا ، كانت تبدو ساعتها ملجومة. أتكلم بلسان حال أولاد حينا ، أما أنا كنت مستثنى من هذا الضنك ، لأنني
مسالم بطبعي و عاقل . لم أكن أقطع الليل ممتطيا صهوات الجنون. لهذا كانت
علاقتي بأولاد هذه الأحياء ، بعيدة عن تبعات الثأر الموجعة ، إضافة الى
زمالاتنا في الفصل ، فنحن لا نأتي الى سينماهم فقط ، و لكن أيضا إلى
الثانويات ، التي لا أحد يفكر، في تشييدها قربنا .
أسأل نفسي الآن: لو لم يعم النور، وقسيمات السلف المنهكة، ما الذي
كان سيرفع كلفة الحرج، ويقينا عثرات القنوط ؟ !!..
... لذا حين حل الفيديو، كان جزءا هاما منا كشباب ، قد لاقى مصائره ،
بينما راحت الأمهات ، خلف ستائر غرف الجارات ، يكرعن كؤوس الشاي ، ويطلعن
الأفلام المخبوءة ، ليشتعلن بالفوضى والهرج ، مبهورات من عري الأعضاء، والممارسات الحرجة ، التي يرينها كما عند الحيوان ، لكن بتنهيدة الوله،
وكأنهن يتابعن درسا ، لفروض للمساء !!..
ماي 2005
ظل لمكان الحلم
يجتذبني منذ مدة ، حلم أن تتاح لي ، تلك العودة المكينة ، إلى أعطاف
حينا ، وإلى دروبه الضيقة اللاممهدة ، وأعود للظهور تماما ، كما لم أكن
قبلا ، طفلا راكضا خلف الأطفال ، أهرب من أمي
ومن تحذيراتها المشوشة . أتذكر الآن بسخافة ، كيف كنا نضجر ونتذمر ، ونسب الأهل المجانين ،
الذين لسبب ما حطوا الرحال في بيوت طينية واطئة ، لاإسفلت بها ولا ماء ولا
كهرباء . كانت فقط تضج بنا وبكلابنا ، وبروث
البغال البئيسة ، التي كانت تجر خلفها ، عرباتها المتربة.
كنا نهدد الأهل بالرحيل ، كأقصى تقدير ، بعد البكالوريا . هذا عن
الفئة غير الضالة ، التي كنت أنا
واحدا منها . أما الباقون ، الذين بلا أخلاق ، فكانوا منشغلين سعداء ،
بحصار الكلاب وقتل القطط ، واعتراض سبيل العشاق .. كانت تبعات الاهتمام بهم
، ليست في عداد الآباء . تقتلني الحسرة ، و أنا أتذكر تلك الأيام البعيدة ، و أتذكر أنني كنت
باجتهادي واستكانتي ، ولدا خائبا
ولابد، في تقدير المتسكعين منا و الضالين ، والخارجين طوعا عن الطوق ،
عدا تلك اللحظات المبتورة ، التي يجدون فيها
أنفسهم أحيانا لسبب ما ، حيين خجولين ، تتلبسهم تلك
الحالة اللامستساغة ، من الخمول البليد. أغبطهم الآن
هِؤلاء الصبية ، وأحسدهم و كأنهم فعلا أصحاب كرامات . لن أفسر كيف ولا
لماذا ، لأنني بتبريري ، لن أكون حتى جادا في رأيكم.
لكنني أتمنى لو أنني كنت عصيت أمي ، وتسكعت
ليلا في الطرقات ، لاكتسبت مثلهم قلبا ثابتا من حديد ، و أعصاب لا ترق
أمام بطش البوليس ، في اضرابات الطلبة ، ولما كنت
أتوارى هلعا ، خلف أي مبنى أو منعطف أو عمود نور.
أعترف أنني كنت صاحب قلب خفيف ، أو أنني صرت كذلك ، من محاذير أمي ، وحجرها علي . كنت
أصطدم بالصبية في عراك الدرس ، و كنت أتفوق عليهم وعلى أسئلتهم العنيدة ،
تلك التي تبدو لهم تعجيزية خارقة ، لكنني لم أكن
لأصمد أمام تعليقاتهم ولا هرجهم الزائد . كانوا يضحكون
علي ، مشيرين بسباباتهم نحو وجهي و هندامي ، و أطرافي المسترخية .
-يا أملس الوجه
!!..
كانت
تلك سبة لي . لكنني لم أشعرأبدا إزاءهم بالخجل . لم أكن كبعضهم لواطيا و
لا شاذا ، ولم أدخن أبدا ، غليون الكيف . لكن
لإثبات صلابتي ، بعد أن كبرت قليلا ، كنت أشتري سرا
سجائري السوداء ، وكان ذلك تحديا رهيبا لي و لأمي . في
العودة إلى البيت ، كنت آكل أوراق النعناع ،
ثم أترك العلبة عند باكبور . كان يتقاضى مني مقابل ذلك ، سيجارتين لمزاجه الرائق
.
باكبور كان مصدر الخبر في الحي ، والمتلصص دوما من الكوى والنوافذ . يعيش أعزب مع أمه
. كان أول من صبغ شعر رأسه ، ثم للوسامة ، وضع سنا ذهبية غلافا لنابه
الكبير . كان يوميء لنا أحيانا كي نقترب ، ثم
يحكي عن كل بيت ، حكايا داعرة ، عن وحوحات النساء ، وتأوه
الرجال في المضاجعة .
كان يطوف ليلا في الأزقة ، لأنه مسهد دوما لا ينام ، و في الصباح كان يقوم
بإذاعة الأخبار .
_الليلة ، ألا
ترغبون في السهر ؟ !!..
كان يقضي أغراض الشباب . يشتري من الخمارات قناني النبيذ ، ويهييء
السهرات الملاح ،
في الهواء الطلق ، قرب مرج المطار .
-كيف حالك يا
مصطفى ؟؟.. قرا و لا تهتم بهؤلاء الكسالى .
كنت أحس بطعم البهجة في صوته ، كلما رآني عائدا أتابط دفاتري . شيء ما
فيه ، رغم سفالته ، كان
يقول إنه سعيد بدراستي ، ولأمر ما كنت أشعر، أنه جنبي اعتداءات على عرضي ، كان
يمكن أن تحدث لي . هل كانت أمي تدفع له ؟؟ !!.. كان يقول لي بامتعاض :
_ كلهم مقودين
هادوا ، إياك أن تعاشرهم .
ولأن أمي ، رغم نباهتها و حرصها ، كانت تغيبها كثيرا ، ردهات
المستشفى الكبير و بلا طه الداكن ، كانت تنشغل عني بالغسل والمسح ، وفي
المساء حين تعود ، كانت تحمل خفية لجيرانها ،
في جيب مريلتها ، شاشا و حبوبا و مراهم لهم ، علاجا لأمراضهم الكثيرة
الشائعة . كانت غرفتها حقا ، صيدلية لا متجانسة ، من العلب و القناني .
أمي كانت قريبة من الأطباء و المرضى ، تسمع وترى ، لذا أصابها الهوس .
كانت لا تضع الصحن
لي ، دون أن تشد على كفي بقلق ، تتفحصمها كثيرا وتنبهني ، إلى أن الأيدي
القذرة ، مجلبة للمرض . كانت حزينة دوما وشاردة
، كما بدت في البيت ، ذلك اليوم الذي فقدنا فيه
الوالد .
كنت أحبها ، لكنني الآن بعد رحيلها ، أحملها إلى جانب التعب ، حنيني
الجارف إليها ، ومغبة كل ما
بي. كان عليها أن تتنازل قليلا ، كأمهات الصبية
العاملات في الفابريكات ، وتترك لي شيئا من عزمي
ومن إرادتي .. ماذا كان سيحصل ، لوأ نني تكلمت بسوء ، وأطلقت بصوت عال
تلك الشتائم البذيئة ، ولعنت الدين ، ورميت جزافا ، أعراض الأمهات غير الزانيات ؟؟ !! ماذا كان
سيحصل ، لو أن سهراتي طالت ،على الأقل في العطل ، إلى حدود الفجر ؟؟..
كنت سأكون أنا غيرأنا ، ولكنت استمتعت عن كثب ، بتلك
الأفعال الفاحشة ، لشخصيات تعيش منتشية ، في
سياقات رديئة !!.. بوشتى الخراز والمعطي السكليس وعلي الكراكير،
ثم بنت الطرشا . آآآه . بنت الطرشااااااا !!
جميعهم كانوا يلونون أعطاف الحي باختلالات حاسمة . لكن
حيرتي كلها كانت ترتكز في ابنة الطرشا، العاملة
صيفا في مصانع السردين ، والعاهرة في شتاء الكساد . ماذا لو أنني
ضاجعتها ، إذا لما كنت أصلا ، قد جسدت بملامحي ، ذلك
المشهد الكئيب ، كلما لاحقني هياج الرغبة و
جموحها ، ولما كان خوفي يشي بي ، من تعبيرات وجهي البشعة !!..
أمي بحرصها المريض ، محت جسدي ورغائبي ، و جعلتني كائنا ، لا يعرف كيف
يجتذب أنثى ،إلى حبائل شهوته . لحسن الحظ أنني قاومت برهبة ، إلى أن تجاوزت حدود
محنتي . لم يعرف بذلك
أحد ، سوى عاهرات عابرات ، وإلا صرت مثارا للسخرية . بيد أن قلبي ظل مليئا
بالخدوش .
لماذا فعلت بي ذلك
يا أمي ؟؟ !!..
ابنة الطرشا ، كانت تمنح من خبرتها تجارب للأولاد . تأخذهم في رحلة
تيه جنسية . كلهم أحسوا
باللذة على عجل ، في حضنها ، بعد أن كان بعضهم ، قد ذاقها قبلا ، من
حيوانات الحي
الشاردة . كانت أرملة كهلة ، لبحار غريق . من أين آتي الآن ، بلطائف تلك الجلسات في دكان الحلاق ؟؟.. في المرات
القليلة ، التي أفسحوا لي
فيها ، بعد أن كبرت قليلا ، كانت كافية أن تملأني بالسحر والدهشة .
كان دكانه فضاء للنقاش و التنكيت . يختلط فيه الجد
بالهزل بالسياسة بالأمية . بوشتى الخراز المنظر
، والمروج لإيديولوجيا السخط ، الذكي اللماح ، تعلم الكتابة و القراءة ،
على أيدي
الطلبة العائدين من الجامعات . كان إ لحاحه قويا فتعلم ، صارالمنافس
القوي لعلي الكراكي ( الكراكتير)، وعلي الكراكيرالناقد اللاذع ، المحارب القديم في الجيش الفرنسي ، وصاحب
الحكايات الحربية العجائبية ، كان داهية و مناورا ، يقلب الموازين لصالحه ،
حين يتربص التعليق الكيدي به ، ويوشك أن يجرفه. المعطي السكليس، ذي الجسد المقرفص الضئيل ،
القادر على الدس ، واللاعب الماهر للضاما .
كنا في العطل و
الأعياد ، نكتري منه فرحين ، دراجاته الهوائية العارية ، ونجوب بها الدروب
البعيدة ، حيث يقذفنا الأطفال بالحجارة ، فنسقط في الأشواك. كان حريصا
على رزقه ، ينهر المتعجلين منا :
-الريالات أولا.
ادفع ثم امتطي ظهر الدراجة .
كنت
أنظر اليهم ،جميعا بانبهار، لسلاطتهم ، و لمقدرتهم الفائقة على الايذاء .
كانوا متنافرين ،
يجمعهم الفقر، و قاسم الحشيش المشترك . أتلفت الآن بقلق إلى حالي . ما الذي حل بي ، خلافا لما حصل للآخرين ،
جعلني مثلا مميزا عنهم أو ذا
حضور باهر ؟؟ !!. لاشيء أبدا.. كان يمكن أن
أنفلت حافي القدمين ، ألعب في الآحاد المبكرة ، تلك المباريات الحامية وأتبلل بالعرق ، أ و أتعارك ، وأتلقى منكمشا ،
ضربات الأولاد المسعورين ، على ساقي وأسفل بطني ، دون
هلع من أن يلحقني ضرر !!..صدمتني زوجتي بسؤالها الذي تفتق في سمعي بغتة:
- مصطفى ، مصطفى ،
ألا تسمعني ؟.
التفت إليها محملقا ، في وجهها المليء بالبثور، والخالي من أية
ألمعية أو تعبير .
كنت
أعرف أنها مغرمة بي، بطريقتها، وأنني في ذهنها، لازلت ذلك المعلم ،
الذي من
طقوسها، أن تتباهى به أمام الجارات !!..
قلت بخيبة وألم :
-نعم . ماذا تريدين
؟ !!
-لماذا أنت شارد
هكذا ؟؟.. منذ مدة و أنت كذلك !!..
لم أجبها . كنت مسكونا بالضيق والقلق .
- مصطفى ، مصطفى.
كررتها بانقياد ، وهي تحرك جفنيها المنتفختين. كدت ألعنها، وأنا
أتخيل نفسي غريبا
لا
أعرفها . لكنني اكتفيت بردي المأساوي، وبأقسى ما أستطيع من وحشة وضجر :
- اصمتي. أنا لست
مصطفى ولا أي شيء. أمي من سمتني عبثا كذلك .
أبريل 2005-04-08
بقعة حمراء
أن ألعب ، وأشارك البنات لهو الظهيرة ، معناه ، أنني أتحول الى طائر
منطلق ، تنسل من داخله ، بيارق الشهوة للجري والشد والاختباء . أرنب بري
حساس ، أو غزال نافر ، يعرف كيف يستمتع ، من باحة أمامه ، تمتد فجأة ، بعد
طول حصار .
أمي كانت ستزوجني ، وأنا بعد طفلة ، في الرابعة عشرة من عمري . كنت
ساعتها أجمع بين روح الطاعة والوجل ، والسبب أن قريبتنا البعيدة ، حين
زارتنا بغتة ، لم ترفع عينيها عني لحظة ، حين رأتني منحنية ، أنظر عند قدمي
، وأنفذ بإتقان ، أوامر أمي وتوجيهاتها السامية . من غريزتها الصائبة،
قالت لأمي ن إنني أصلح عروسا لابنها .
ارتبكت وكبرت بسرعة ، في ظرف ساعات ، عندما أسرت لي أختي بالنبأ . أمي
تهلل وجهها . لن أبور كبنات عمتي ، لكن خجلا صاعقا من أبي، ألم بي.
عند المغرب كنت قد نسيت . أطلت حليمة من شق الباب ، بابنا الذي لايغلق.
نادتني باسمي . تعالي نلعب . فهرعت إليها ، لكن بعد وصلتين انزويت
نادتني طويلا بصخب ، ثم انصرفت عني ، مطلقة دعاءها المعهود : الله
يعطيك الويل ، آلويلة.
ما الذي أصابني!!؟؟.. تذكرت ابنة الشرطي ، وأمها المتسلطة ، وتذكرت
النساء الفزعات ، قبل أن يتحول البعض منهن إلى شامتات . كانت قد حلت بهن
مصيبة . هرب عريس ابنة الشرطي الجميلة . فتح النافذة في الظلام وقفز . كان
ذلك سببا كافيا ، كي تلملمنا الأمهات وتعنفنا . من الصغرى إلى الكبريات .
أنتن ، كن ينهرننا ، جلابات الذل والمهانة .
ابنة الشرطي كانت من غير بكارة . والعريس من صدمته ، حين دخل عليها ،
ومن حسه بالخديعة ، تركها وراح .
أمها منزوية ، كانت تلطم خديها ، وأبوها ركب دراجته النارية وانصرف .
كل المواساة لم تنفع . والعروس أسلمت أمرها للكل في إذعان .
الشامتات قلن إنها ذنوب الناس . أبوها كان جلفا قاسيا ، غليظ القلب .
لم يسلم في غاراته ، أي تعيس ، من لسعة حزامه أو عصاه ، وأمها مستقوية به ،
كانت تفور بإيقاع الشر والهياج .
كن يتهكمن عليه : قادر على حراسة الآخرين .. كان أولى به أن يحرس
بكارة ابنته !!..
صرنا قلقات نحن البنات . نجتمع لنحكي . من أين أتانا كل ذلك
المخزون؟.. اكتشفنا أننا جميعا مسلحات بالحكمة ، وأن شرط البكارة وحمايتها
، مرهون بمحاذير
نتقنها : ألا نقفز عاليا ، أو نركب حرف ظهر حاد ، وألا نتبول حيث
يتبول الأولاد .
كان قلبي يدق عاليا من الهلع ، حين تطلب الكبيرات منا إخراج اللسان .
كان ذلك يتخذ عندهن شكل الثأر. عذراء .. عذراء .. عذراء . لأ ، غير عذراء. أي رعب كان يصيب الصغيرات، من أداة الفحص والتقصي تلك ، حتى لو كان من
باب الشغب المجنون .
لم نعرف شكل الجنس وإن فكرنا فيه، ومحاذير الأمهات وتشديداتهن المرعبة، أجراس هول ، كانت تقرع دوما ، وبلا هوادة، كما أنها كانت كافية ، لعدم
التهيج والعزوف . لكن مريم ، فقدت بكارتها ، خلف مبنى غير مكتمل .
لم أكن صديقتها . كانت أكبر مني بقليل ، وكانت منشغلة تماما بنفسها و
إخوتها . ربما لإنها بكر أمها ، حملتها كل ذلك التعب .
إخوتها الأولاد انعزلوا ، لم يعودوا أقوياء بأبيهم ولا بأجسادهم .
كانوا مدركين ، أنهم سيكونون عرضة للمزاح اللجوج ، أو التعريض المدمر ،
مثلما يحدث ، عندما نرتكب الخطيئة .
فكرة الانتقام ظلت واردة . ربما فكرت الجارات في مسدس الوالد ، أو سكين
الإخوة، لكن لحكمة ما ، استسلموا للغط العجائز، ومساعيهن الحكيمة . قدر
ومكتوب . وأنت تريد وأنا أريد ، و الله يفعل ما يريد .
حكت المدينة كلها في حماس ، ثم بعدها أصابها الضجر .
من يومها توارت مريم ، و لم نعد نرى وجهها . أخضعت نفسها تماما ، لطيش
الطلبات. صارت عبدة البيت الذاعنة .
حين فاتحتني أمي مسرورة بالنبأ ، تلعثمت وبكيت . أطل وجه مريم الصبوح .
تخيلتها في عزلتها جاثية ، تمسح وتجلي ، وتتلقى عنف الكل ، برضى وقبول .
قلت لأمي في رجاء :
ـ أنا لا أريد الزواج ، لاأريد ، لا أريد .
ضحكت وقالت :
-و أنا أريد .
خجلت إذ وجدتني أقول لها :
ـ تزوجيه أنت ..
أطرقت قليلا ، وعندما رفعت رأسي، كانت ملامحها قد تكدرت ، لكن سرعان ما عادت إلى طبيعتها .
ـ إنه طيب يا ابنتي وميسور .
انطفأ وجهي من الألم ، و أنا أهددها :
ـإن زوجتموني أهرب.
بدا أنها ذهلت وهي تفكر. سمعتها تقول بقلق واستياء :
ـولم تهربين ؟.
قلت بغم ، وأنا أنظر إلى بقعة حمراء على البلاط :
ـأنا لا أريد أن أكون عبدة لأحد.
|