ذاكرة لما يأتي من وقت.... ذاكرتها
ربما انستها الايام حتما كل الدروب التي مرت بها مع حبيبها ذاك، و
ستنسيها كل اللقاءات و الحانات ،و ستنسيها رائحة عطره التي علقت بها سنوات،
و بريق عينيه و جاذبية صمته .
كان حبيبها الأول قد غير ذوقها للاشياء ، دخل في تلافيف حاضرها و تعلق
باطراف شعرها ، نسج خيالاتها و افكارها حتى حروفها .
كانت اذا تحركت تمشي مشيته ، و اذا نامت حضنت حلمه ،و اذا تكلمت خرج مع
حروفها حتى اصبح من يعرفهما لا يميز بين لونها ولونه بين حزنها وحزنه .
هي الرسامة اصبحت ترسم بريشته كانه معها، كانه يمسك باصابعها . اما هو الذي
كان نحاتا يحفر في صخر فمن لوحاتها منح الصخر معنى الحب و اخرج منه الماء
يسيل مزيجا من دمها ودمه .
ما رسمته هي على ورق كان نفسه ما زين به معارض منحوتاته و دون ان يكتب
مهداة اليها او يلفت النظر الى اسمها كان الجميع يعرفون انها هي ملهمته و
روح يده ، و هو ملهمها و روح اصابعها .
لم تستيقظ من حلم حبه و سكرها بكل شيئ فيه، الاحين علمت ان روحا اخرى بدات
تستعمر ارضها و ان شجرة جديدة كانت ترمي بجذورها، و تتهادى اغصانها في
سمائها ،و اصبح بريق عينيه يتلاشى و تفقد يديه سحرهما على ريشتها ،اذ من
الواضح انهما بداتا تنسجان خيوط سجادة جديدة .
قررت ان تعود الى ارضها الى وطنها فلعل ارتباطها بحبيبها كان من فراغ
الغربة و من سيف الوحدة القاتل . لعله كان وهما ،لعله تعلق بالارض و الوطن
، اليس هو ابن وطنها و ارضها في بلاد ضيقة لاتتسع لحلم احد.
تعلقت به كحنين و ذاكرة، فيه رائحة الصباحات الشتوية الباردة و صباحات
القهوة الممزوجة باحاديث الصباح البطيئة. و صارت تبحث فيه عما ينفرها منه و
من ايام بل سنوات قضتها معه .
قالت لنفسها لقد سرق حلمي و اخذ من عمري القصير ما لن اقوى على استعادته،
لقد حركت مطرقته و احييت حجره اما هو ما ذا قدم لي .
حزمت نفسها ، الوانها ، ريشها و بعض اللوحات التي شعرت انها لا تنتمي
لعصره و رمت كل شيئ خلفها و دون ان يدري و لربما عرف ولكنه بكبرياء من يريد
ان يبني قصة حب جديدة ليقول انني احب حتى النهاية تظاهر بانه لايعلم .
في طريقها الى المطار و قبل السفر بساعات كانت تقول للطريق ساعدني و خذ
خطواتي مني كي انسى يوما انني مشيت معه فيه ، و تقول للشجر عجل بخريفك و
لتسقط اوراقا ظللت قبلنا يوما، و انت ايها الصباح كم ستكون متعبة ذكراك
الا يمكن ان تختزل و تصبح الظهيرة هي اشراقة الاشياء .
ولكنها ماذا تقول لقلبها ليديها لخصائل شعرها لاصابعها ، و لشفتيها ، قالت
ساترككم هنا و ارحل الى ارضي بريئة نقية ، كما كنت طفلة تعشق اللعب و
الفضاء و الحرية ....طفلة لايستعمرني تراب و لاحب و لارجل و لاذاكرة .
عند باب الطائرة قالت و لماذا احمل هذه الاشياء معي ، رمت بلوحاتها كلها و
ريشتها و جزء من دموعها ،و خرجت تتبختر برقم مقعدها حتى جلست في الممر كي
لايعلق بناظريها شيئ و لايمكن حينها ان تتخلص منه .
اه ما احلى الطيران و الانعتاق ، شعرت ان روحها ردت اليها ، تنشقت هواءا
نقيا ليس فيه ذاكرة ، شعرت انها بين اناس طيبين كل مشغول بتثبيت نفسه و من
معه و كأنه يثبت نفسه في رحلة الحياة دون ان يدرك ان الخلود شيئ طارئ .
كانوا من الوان شتى و بلاد شتى . احضروا لها احد صحف وطنها غاصت في قراءة
اخبار مدينتها و حالة الجو هناك ،،و تعرفت عما يحدث بها و ما هي المستجدات
على الساحة وما هي اهداف الحكومة للفترة القادمة، معاناة الناس هناك و كانت
تستمتع بكل ما تقرأ .و صدفة قرات ان مدرستها القديمة في الابتدائي هي الان
في منصب مهم و لها صورة في الجريدة .
فعادت بها الذكريات الى ما قبل السفر الى ما قبل الرسم و الريش،الى عصر
المطر.
بدات الطائرة تحلق بعيدا في الفضاء، و تحلق روحها شيئا فشيئا، وتذهب هي
بعيدا و بعيدا هاهي تتذكر امها و هي تقودها في الشارع الضيق الى مدرستها ،
و ها هو ابوها عائد من وظيفته يلقي الشتيمة تلو الاخرى على هذه البلاد
التي لم تعد تطاق و لكنه عندما يراها في انتظاره ينسى كل شيء و يعاهدها ان
يرسلها الى ديار اجمل و احلى مليئة بالحرية و الحب و الحياة ، يجلسها
بجانبه و يسالها عن مدرستها و يعطيهاهديته المعتادة المزيد من قطع الحلوى .
و ياتي اخوتها و تبدأ الحياة حيث انتهت حياة و لا تزال الطائرة ترتفع و
روحها تمعن في التحليق و دماغها يمعن في النسيان .
طارت في سماء ملبدة بالغيوم تكفي لتنسي شعبا كاملا ذاكرته و ماضيه ، غيوم
سوداء تزداد سوادا كلما تعمقت بها الطائرة و اضواء خافتة و ناس نيام كل هرب
من لوحاته وريشه ، رعب يطوق المكان ، الحركة تتوقف تماما داخل الطائرة ,
تبدا الطائرة بحركات اشبه بالزلازل صعودا و هبوطا ، الانذارات تنطلق ، بدات
تشعر بخوف ماشعرت به يوما، تحاول ان تبدا حديثا مع الذي بجانبها تراه قد غط
بنوم عميق و الاخر ممسك بجريدته لا يرى غيما و لا يشعر بوخزة الم او خوف لا
بد انه غادر ريشته و حقائبه مرات عديدة فاصبح لا مباليا و لا يعنيه شيئ سوى
وجبة الطعام القادمة .
هل الجو بارد ام ماذا ، الخوف يقطع اوصالها ، الوحدة ترميها من غيمة الى
أخرى ، ساقاها تلتفان الواحدة على الاخرى ،تشعر بالعطش و لكنها لاتقوى على
الكلام ولا احد حولها ،الغيوم تتكاثف حولها تشعر و كانها تدخل في غابة ، ما
ان تنتهي من وحش حتى يأتي آخر اشد ضراوة ، تمد يدها لتمسك بيد الذي بجانبها
و لكنها أمسكت بحافة المقعد التي لادفء فيها و لا أمان.
وهاهي الغيوم تبدل اشكالها و تتلون تتراءى بصورة مختلفة فمرة تبدو كوحش و
مرة كطريق و مرة كجبل شامخ لا يصله أحد.
لكن احدى الغيمات تتراءى لها كتمثال صغير احسن صنعه، جناحان يخفقان حولها
، يريدان ان ياخذاها الى عالم اكثر امنا يمسكان بها ، يحيطان بجذعها تماما
كما كان حبيبه يفعل ذات مساء عندما يصبحان تحت السماء لا يغطيهما الا القمر
.
ترى هل هو من صنع هذا الطير لي ، هو الذي حضنني ام تمثاله ، من الذي قبلني
هو ام تمثاله ، من الذي زاح عني كل تلك الغيوم ايهما انت ام تمثالك ، من
الذي جاء بك الى هنا ، اشم رائحتك ، ارى بريق عينينك ، هل انت حقيقة هنا
معي في هذا العالم الملبد بالغيوم و بالقهر ، هل انت هنا تخطو بجانبي في
طريق معتم لا اعرف نهايته ،آه منك لماذا تركتني ارحل في هذا الجو البائس و
هذا الليل البهيم ، لماذا لم تمسك يدي عندما سحبني الوقت بعيدا عنك ، لا
احد هنا يفهمني ، لا احد يعرفني ،لا احد يدرك انني ارسم و الون و اخلق
،اشكرك انك احضرت لوحاتي معك و ريشتي و مرسمي ،اشكرك انك اتيت حين لم يات
احد و اشكرني انني لم انتظر احد سواك ، هل ستسمعني من جديد اصوات نحتك و
خلقك ، هل ستريني كيف تخلق بشرا من حجر ، و هل اريك كيف اجعل الوقت بيديك
لوحة تمتلئ بي و بك،و كيف امتلئ بك و تمتلئ بي افرغك في لوحة و تنحتني في
حجريعشق و يرفرف و يطير . و كيف اجعل الارض خارطة تشبهك واجعل المكان كونا
يحتفي بك ،كيف اعريك و تعريني ، احملك وتحملني نتسارع فنصبح ضوءا ثم قمرا
منيرا ثم كونا يحوي كل شيئ و لا شيئ يحويه . ها انا اليوم ارسمك باصابعي و
الونك برمشي ،و ها انت تصنعني كاسا تخمر في الحنين و تكور على مهل بين
يديك، فاشربني قطرة قطرةو اسكر ما شئت بي ، و امنحني ان اتلذذ بالدخول بك و
الامتزاج بدمك و التجلي بعينيك ، انت سجني و انعتاقي ...
يفتح الباب بقوة ،صوت يهدر ويزمجر ،يرمي من على كتفه كيسا مليئا بالخضرةو
اخر يضع فيه ادويته
اين انت يا امراة ،هل هذه رائحة حريق تلك التي تاتي من المطبخ ،لماذا
تركت الاولاد يصرخون،و لماذا تركت الوانك معهم حتى لونوا بها الجدران هل
هذا وقت نومك ،اه يا رب ما ذا فعلت لتبتليني بجلد سميك كجلدها .......
هزيمة مزمنة
اتكئ على رغبة مستديمة بالبقاء و ألتحف كتابا لدرويش يوم كان لديه قضية
.تتخطفني الرؤى و الذكريات و اترك للوجبات السريعة فرصة الانقضاض على كل
شيء و اعيش كما يعيش الاخرون بانتظار وجبة جديدة لنتذكر اننا حيوانات لم
تعد تنطق . أقلب المحطات الكثيرة و المترامية متجنبا الاخبار و المراسلين و
حدث في مثل هذا اليوم لانني كلما سمعته أجد أن كارثة ما حدثت في مثل هذا
الوقت...
أترك لناظري فرصة العمى القريب فلا أشاهد أبعد من شاشة التلفاز ،و لقدمي
فرصة الشلل فلا تبحث الا فيما بين اصابعي لتجد مزيدا من النتن و رائحة
الوقت و فوح المكان .
أبحث في هاتفي الذي أغيره كل عام و أجد أكثر من ألفي إسم وعنوان بريدي و
رقم دولي و عنوان مجلة و موقع ثقافي و اسماء اصدقائي المهتمين بالثقافة و
الشأن العام على حد قولهم , و أقول لنفسي اه لقد ذهبوا جميعا الى الفردوس
الذي كنا نحارب معا لاجل الوصول اليه و تركوني هنا عاجزا حتى عن الحلم
بينما تابعو هم النضال على طريقة الكنفاني و برتقالاته فوصلوا الى فردوسنا
الغائب ، اتفاجأ أن الباص الذي كان سينقلهم تعطل عند المحطة السابقة فذهبوا
اليه و بانتظاره يطلبون الوجبات السريعة و يقلبون المحطات و لكن على شاشات
السوق الكبيرة الذي تظهر المذيعة بكاملها من رأسها الى اخمص ثديها. يوقظني
من حلمي برودة مفاجئة على قدمي , آه لقد ساح الحبر من قلمي و لم أعد قادرا
على الكتابة حتى .خطر لي ان أكتب بساقي فعليهانقطة الحبر الان و فعلا تحركت
وكتبت ،و بعدها اكتشفت كم أنا غبي اذ انني لسنوات طويلة كنت استنكر علاقة
زعمائنا بالراقصات و اكتشفت انهم كانو يكتبون بالحبر الذي سكبوه على
افخاذهن تاريخ هذي الامة الذي اعتقدت لفترة طويلة انه يضيع .
يا الهي ما اذكى السياسون و ما اغبانا نحن العامة الذين نستخدم المراة
استخدامات تكاثرية بحتة . اشعرلحظتها اننا بايد امينة، لذلك قررت ان ابيع
كل املاكي التي ورثتها من اخر الاباء في السرب، فلدي قلم له اربعة ادوار
حسب المناسبات و الشخصيات و الموجات لو بعت الادوار كلها و خاصة في غلاء
العقارات و الاطلالات الجميلة التي يتمتع بها قلمي .
فالدور الاعلى يطل من احد جهاته على كل خيباتنا، بينما يطل من الجهة الاخرى
على سوق الاسهم الوطنية حيث تتم هناك عقود المبيعات الوطنية التي تتم
بالجملة ،اما الدور الارضي فقد بني من عظام و جماجم هؤلاء المغفلين الذين
ماتوا وهم يحاربون و لم ينتظروا حتى يتعلموا طريقة الرد الصحيحة على
الهجمات ,متهورون طائشون . كان بإمكانهم أن يصبحوا رجال أعمال و يردوا على
هجمات العدو بطريقة أكثر عصرية و قبولا لدى دول الشمال .
و سابيع ايضا دفتري الذي كنت اخربش عليه هذياناتي سمعت ان الهذيانات غالية
جدا ،اذ انها تباع فقط للمؤسسات الحكومية التي تعمل على اعادة ترتيبها بحيث
تصبح عقلانية فتنشر في الصحف التي تحمل اسماءا جميلة لها علاقة بالضوء و
الخلاص ,ولأن صحيفة معادية اسمها صحيفة الليل اتصلت بي و قالو لي ان
هذياناتك هي بقعة ضوء لن ترى الا في الليل .خفت من هذا الكلام فقررت ان
امحي كل ما كتبت لذلك اتصلت بالراقصة المناوبة فقالوا لي لقد ذهبت لتكتب
فصلا عن العاصمة الغائبة.
قالوا لي في جلسة اليوغا الاخيرة ان اهم ما ستجني من جلسات اليوغاانها
ستساعدك على ان توقف عقلك عن التفكير و تتباطأ العملية و عندها ستفكر بشكل
اعمق و قالوا لي اننا جميعا نفكر بامور كثيرة و افكار متزاحمة لا علاقة لنا
بها تستهلك تفكيرنا و طاقتنا فلنتركها ،و فعلا عودت نفسي أن لا أغرق
بالتفكير باشياء و اشياء ،فماذا أستفيد لو فكرت بجارنا اللبان الذي كان
يبيع اللبن للجنود الذين يمرون و الذين كانوا يقولون له سنحاسبك أول موسم
يأتي، و عندما يسألهم يعني متى؟ يقولون عندما ننتصر في المعركة القادمة و
نتوازع الغنائم .
واستدعيت أنا الطبيب لإسعافه يوم أمس من جلطة دماغية و قال لي يابني أكتب
لاولادي اسماء الجنود الذي ابيعهم منذ خمسين عاما و انا لاأزال بانتظار ان
يعطوني شيئا فالعلف غالي جدا و الأبقار لا تدر بسهولة......
ذاكرة لما يأي من وقت
-هما
كان في عيادته المزدحمة بدفاتر الأرشيف و الأجهزة و المحاطة بجدران تقي من
الأشعة و لكنها أيضا كانت جدران تفصله عن الزمن .
شعره الأبيض ارتجاف يديه ،و ألبسته التي يرتديها كانت تدل على أنه ينتمي
الى عالم اخر .كان مهلهلا و فوضويا و كان كل شيئ حوله يدل عليه.
فخرطوم المياه الذي لم يفكر ان يصلحه كان يترك مغسلة مليئة بالفوضى ، و
مرآة على الجدار مكسورة و قد وضع عليها شريطا لاصقا لانه اساسا لا يخطر
بباله ان ينظر فيها .
و أجهزته قديمة جدا قد لا تجدها في أية عيادة في العالم الا في دول
المجاعات الجنوبية التي تاتيها هذه الاجهزة من مزابل دول الشمال المتخمة
بكلي شيئ .
و غريب ان يمسك طبيب اسنان بسيجارته في عيادته لكنه كان يقول لمرضاه
لاتدخنوا مثلي ،اذ ان من يطلب المرض لا يجده.
و كان الطريق الى عيادته محفوف بكل انواع المخاطر فالاضاءة خفيفة و الشارع
ضيق ، و فيه انحنائات كثيرة و مفاجئة و لوحة اسمه كانت مقلوبة و الناظر
اليها اذا لم يعرف انها مقلوبة سيصاب بالدوار و الغثيان حكما .
أما المرضى فكانوا يتركون كل العيادات الفاخرة ، الملبسة باحدث الاجهزة ، و
المرصعة بالاحجار و الديكورات الحديثة و السكرتيرات الجميلات و المختارات
بعناية ، و موجودةفي أماكن راقية في هذه المدينة التي لاتعترف برقي أحد.
و لكنها تزدحم بأنوار مبهرة و كل ذلك ياتي من جيوب المرضى و أنوارهم
الداخلية و لذلك عندما يدخل المرضى إلى تلك العيادات يشعرون انهم سلبوا
طمانيتهم و أرواحهم و اصبحوا في عداد الموتى .
أما هو فكان بكل فوضاه يبعث في نفوس الناس الذين لم ينتموا يوما إلا الى
وطن تشبه عوالمه فوضى هذه العيادة و اهمالها و ضيقها و وعورة الوصول اليها
و مفاجآتها .
ذات مطر ، و في يوم عاصف ، نهاره مظلم و ليله بهيم و رياحه اقتلعت استقرار
الجدران و عنفوان الجذور الراسخة ، و نجومه تتسابق في الهروب من قدر
لايعلمه أحد.
في ذاك اليوم تمسك فتاة ماشقة الطول حادة المعالم بيدي سيدة ، متعبة،
متثاقلة ، ترك فيها الزمن خرائطه و دروبه، و لم يترك لها سوى بيت أشبه
بعلية في الحي الجاور ، تسكنه و حدها و لم تعرف أبوابه قفلا أبدا ، لان هذا
البيت-بيت أم اسماعيل _كان مزارا لكل من عرفها ، و ذلك لخفة دمه و خفة
حركتها و رومانسية جلساتها في شتاءات خلت من الحب في هذه المدينة النائمة .
و على الرغم من أنها بلغت من الحون عتيا و من العمر ما يكقي لولادة موت ما
، لكنها الآن مصابة بألم في اسنانها ، ألم تقاومه منذ ثلاثين عاما و كم اصر
عليها أبو اسماعيل وأم اسماعيل -حيث كانت تسكن معهم-أن تذهب الى طبيب
الاسنان علما ان الجميع قالوا لها ان هناك طبيب ممتاز قريب جدا من البيت ،
و كانت تقول لهم لم يحن بعد ، لازال في العمر بقيةو في القلب زمن وانكسار.
اليوم و قد انتقل الالم لشدته من اسنانها الى قلبها ، تستسلم ام اسماعيل ،
و تخرج من بيتها بعد مقاومة ثلاثة عقود و معها ابنة ابو اسماعيل الصغرى.
تمر بهما الدروب الملتوية في خواصر ضيقة في الطريق ، و الليل و البرق
والمطر تبللان كل شيئ ، الا عينيهما فقد بللهما الدمع و قلبها فقد بللته
الذكرى ،و فاحت منها رائحة القلب عندما يغزوه بريق اللقاء الاول للاشياء .
بعد طول معانا و صبر تصلان قريبا الى العيادة ، قالت الفتاة اسف اعرف ان
الوصول الى هنا صعب ، قالت لها السيدة ام اسماعيل : كنت اتوقع الوصول اليه
صعبا للغاية بل مستحيل و لكننا وصلنا .
تدخلان العيادة التي تضيئها شمعة واحدة تقاوم بكبرياء رغبة الهواء الداحل
من ثقوب الناقذة . كان يجلس بعيدا عن الشمعة ربما لانه يخاف ان اقترب نها
اكثر ان تنطفئ لثرة ما فيه من برد لسنين ، و كان قريبا جدا من الناقذة ليس
من أجل اغلاق الثقوب التي فيها و لكنه شم رائحة ما في هذا الجو الممطر
العجيب، رائحة يعرفها ، يقترب أكثر من النافذة كي يحدد هذه الرائحة و لكن
وحدها حبات المطر كانت تذيبها عشقا و تعطر بها طرقات المدينة المتخشبة.
يسمع صوتهما يآتي ، لم يتفاجأ ، فهو لا يتفاجأ بشيئ ، ربما كانت اخر مرة
تفاجأ فيها كانت منذ ثلاثين عاما عندما توفيت زوجته انتحارا !
أشار لها أن تجلس على الكرسي و تفتح فمها ،و قد اعتادوا على قلة كلامه فكان
الصمت و الرائحة العجيبة هما سيدا الموقف .
هو لا يلبس قفازا لأنه بحس يديه كان يشخص الألم فكل مكان في اصابعه يتحسس
الما ما .
نظر في عاج اسنانها و على الرغم من كبرها كانت اسنانها لامعة عاجية لاتوحي
بوجود مشكلة ، فحص لثتها فوجدها راسخة تزيد الاسنان الهاجية وسوخا و ثبانا
، أين الالم اذا ؟
أشارت الى مكان اصبعه المغروس في شفتيها ، و فعلا كان الالم في شفتيها ،
تعجب الطبيب المخضرم و الخبير بكل انواع الالم ، و قال لنفسه هل يمكن لشفتي
عجوز لا يمكن ان يكون لمسهما بشر ان يلتهبا في هذا العمر المتاخر من
الالتهاب ، أشار بانه انتهى وذهب باتجاه الطاولة و الرائحة تكاد تخترق
دماغه و تعبث باساريره ،و عظامه ، تابع البحث في خزانته عن دواء ما ، و
لكنه بدا يشرد ، يتذكر اسنانها و شفتيها ولثتها و يقول هل جائتي من قبل ؟
يخرج من صمته و دون ان ينظر اليهما سال الفتاة هل هل اتيتما من قبل الى هنا
؟ فاجابته هي لا ، ليس في هذا الزمن الرديء ، فأنا شفتاي لم تؤلماني فيما
اريد ان اذكر من عمر .
تعجب هو ، اذ انه لم يتوقع انها قد تتكلم ، قال ثانية للفتاة و هو يمسك
بدفتر التسجيل ليبحث فيه عن قرب على ضوء الشمعة المتهالكة لكن المكان بدأ
يزداد نورا و بريقا ورائحة و كان روحا ما اجتاحت المدينة ، قال : ما اسمها
، اجابت هي ثانية : ستناي ........
ذهب لحرف السين ، و هو يضع اصبعه على شفتيه ، و على طرف المرآة المرآة
المكسورة أمامه رأى اصبعه و شفتيها ، قلبه وعينيها ، اختلطت المشاهد و
الاحاسيس ، و الرائحة ، صوتها و هي تقول ستناي رنين حرفها عندما انتهت ، كل
ذلك زاده توهانا و دوارا ، و سبح في بحر من الخيال ...
الالتهاب ربما انتقل من شفتيها الى اصابعه الى شفتيه ، جسمه يرتعد ، حرارته
ترتفع ، تمطر جبهته عرقا صيفيا على ساحل بحر ، ركبتاه ترتجفان ، قلبه
يناديه ، يذكره، قلبه يتذكر ....
شفتاه تنطقان ، روحه تسبح في خياله ، خياله يطير بروحه ، يردد ثانية ستناي
، هل انت ستناي ، هل انتما شفتا ستناي ، هل اسنانها و هل عاج روحها و هل
اصابعي ثانية .....
تذكر ذلك اليوم المبكر جدا في عمر تسارع بعده نحو نهاية كانت تنسج على نار
وقت هادئ ، وعلى ذاكرة كانت تتبلور في ادمغة خرفت تلافيفها الا تلك التي
مرة بها تلك الذاكرة ...
كان لذلك اليوم رائحة مميزة ، تعبقته عمرا كاملا ، افقدته حاسة الشم فما
عاد يفرق بين الياسمين و الخشب ، و مابين البلابل و الحجارة ....
ستناي ابنة الستة عشرعاما ، و هو ابن العشرين ، و في ليلة تشبه هذه الليلة
حد الذهول ، بسمومها ، بغيومها ، بقسوتها , و بامطارها و برعدها وبرقها و
ظلامها ، و على جدار بيت ابي اسماعيل و بعد مطاردة صامتة بالعيون و الهمس ،
و فؤادين امتزجا منذ زمن ، اسندت ظهرها على الحجارة الزرقاء لهذا الجدار ،
و المغسولة بالمطر و بحبيبات البرد و العشق و المغامرة ، و فردت ذراعيها
كجناح طائر انثى تستقبل كونا اسمه رجل لاول مرة في حياتها و اول مرة في
حياته ، و فرد هو ذراعيه كنسر ، ادم و استعجل التفاح ، اقترب بسرعة اذ كان
عليه ان ينهي كل شيئ في ظلام بين برقين ، نظر في عينينها و المطر يبلل
أطراف جدائلها ، مسح بيديه جبينها و وجهها و بشعرها الاشقر حجبت عنه المطر
، و بنظرة انكسار من عينين خضراوين نهريتين أمعنا النظر في حبات المطر
الساقطةعلى الأرض هروبا من حب كان على عجل مسيحا ىخر يصعد حيا في السماء ،
و كانت رائحة الانبعاث الاول لعشق تحللت عناصره بالماء ، و كانت قبلتهما
الأولى ، سريعة ، كاغتيال المدن ، و خيانة الصحارى ، و فعلا استغرقت نوبة
برق واحدة واكثر من عمر ، و بللهما من بعدها المطر .....
بعد هذا اليوم اصبح جدار ابو اسماعيل علامة فارقة في الحب ، وكان يكفي
المرور بجانبه كي يشعرهما بلحظة الاشتعال الأول .....
عاد هو بعد سنين ، يشعر انها موجودة حوله او ربما ، فتش كل مكان ، حتى انه
لم يجد ايو اسماعيل ، كان قد مات هو و زوجته ، اما هي فقد عاهدت نفسها الا
تموت الا على عصمة هذا الحب ، و سكنت في بيت ابو اسماعيل بعد رحيل اهلها
جميعا الى وطنهم الاصلي -و طلبت من اهل الحي ان ينادونها ام اسماعيل بعد
وفاة ابو اسماعيل و زوجته ، و ربما كانت تريد ان تكون قريبة من ذاكرة في
هذا الجدار الذي غطته البلدية الشهر الماضي بلوحة عن احتفال المدينة بزواج
جماعي في الاسبوع القادم ،ربما كان يحتاج اطفاء هذه القبلة لاكثر من عرس .
أفاق من مرآته و طاولته ، يشعر بعبير اللقاء ، يفرح بعودتها تلك التي
انتظرها صامتا منذ سنين ، و انتظرها قلبه عمرا كاملا ...
لكن ستنايته خرجت في غيبوبته من العيادة كما خرج هو من حياتها دون انذار
منذ اربعين عاما ،و دون ان تخبره الا ببعض الدموع ، كانت تعرف او تدرك انه
في هذا الحي و لكنها اثرت ان تترك لحياته ان تصير الى الخلود بعيدا عنها ،
و نزلت على درج العيادة الذي مل من الانتظار ، لكن الليل و الدمع و الذاكرة
جعلتها لاترى بوضوح ، و خطت ابعد من اللحظة بقليل ، و كان لخطوتها صوت
ارتطام جسد على الارض المرصوفة بحجارة زرقاء مبللة بالمطر ، و ركض هو و
بنفس الدمع و الليل و الذاكرة ، نظر في دمعها ، و نظرت في دمعه ، نظرة
الانكسار الولى ، و الاشتعال الاول ، و اقترب اكثر ، و رسم بشفتيه على
شفتيها خطوط الحب الاخير ، حب على شفتين ملتهبتين من زمن ، قبلة كانت
الآخيرة على الحجارة الزرقاء البللة بالمطر ....و صعد المطر .
و نظر الى الفتاة المشدوهة و قال لها بعد صمت و دموعه تغسل وجنتيها من
الرائحة و المطر : اسف تأخرت كثيرا ، ان التهاب الشفتين في هذا العمر قاتل
.....
|