حبال سرية
التف حبل العلاقة على عنقي فأصبت بالاختناق، فطاردتني يد خشنة كانت
الأسفكسيا أخف منها على قلبي الصغير، ربما لأن اليد أتت من عالمٍ لا
يتقبلني، لم أكن يومها سمعت شيئاً عن (الباستيل) وإلا أمكنني وصف ما فعلته
بي وصفاً يعرفه التاريخ ويليق بالتأريخ.
كنت أشعر بأن استسلامي لتلك اليد الخشنة المعاملة،استسلام شبيه
بالموت الذى عرفته وخبرته، فكان أول شعور أحسه وأعايشه واستعمل قلبي به،
إنه أول الأشياء التى تجعل القلب يضرب بعنف تمريناً له على تجارب ضرب
مقبله.
ووجدتني عالقة فى حبال العلاقة المشبوهة بيني وبين صاحبة البطن
الكبيرة التي سبحت فيها متحررة من الجاذبية والتملك والأقاويل والانحياز،
وجدت أيضاً يد غليظة أخرى تمسكني من رأسي حتى تحدد فيه جميع الحجرات التى
صنعتها السباحة فى المجهول، لقد شعرت بقبضتها تضيق تلك الحجرات وتضييق
معها نفسي.
ثم وجدت مادة لاصقة على عيني، زالت عقب الضربات التى تلقيتها على
قفاي وكأني تلميذة مدرسة، بزوال تلك المادة بدأت أول تجاربي للبكاء، ومنذ
ذلك الحين تعرفت على مالا يحصى من الأيادي الخشنة المنتمية إلى بعضها،
وأعرف واحدةً منها صفعتني على قفاي، أمسكت بي من قدمي ودلتني فى الهواء،
إلى الخلف تارة وإلى الأمام تارة أخرى، ثم دلقتني بجردل ماء بارد، فدخلت
الحياة وسمعت جلبتها، أناس وسيارات ومحاكم ومواشي وباعة وأنعام وألات وو........
وإثر تلك الانتفاضة التى أصابتني صرت أكبر كلما وقع ما يجعلني
أنتفض، حتى كبرت أكبر ممن ولدوا معي، لقد لفوا جسدي بحبلٍ طويلٍ من القماش
الأبيض، وتبسم لي قلة منهم لغرض الشماتة فيمن كتلتني داخل بطنها!
ولم تفعل المرأة التى أمسكت بي فى حجرها شيء سوى أن أشاحت بصرها
عني إلى الرجل ذي اليد الغليظة التى شد بها عنق خروف كان يجره إلى الطنجرة
التى لا يملأها جسمه.
كان الرجل غاضباً بلا مبرر، وقد وزع غضبه على الآخرين وظل لديه
الكثير منه فلم يبخل به على أحد، حتى مسجل النفوس فى البلدية الذى ارتكب
فاحشة السؤال عن الاسم الذى اختاره لثالث بنت!!
أما المرأة فكانت غاضبةً منى غضباً متواتراً، ولو كنت أحتمل ضربة
منها لا تقتلني لضربتني وما تأخرت!
إن لها هى الأخرى يد غليظة جافة ألصقتني بها فى ثديها، لسقايتي
سائلاً مراً ظلًت اكرهه مدى حياتي لالتصاق مذاقه بمذاق العقاب عندي، كما
ظلت هى تتجمل بدره لي لالتصاق مذاقه بمذاق الصبر عندها.
وهكذا استمرت الحياة متجهمة يغلب عليها مذاق الذنب إلى أن أتى يوم
لم يكن فيه الرجل الغاضب غاضباً ولم تكن الأيادي خشنة ولا غليظة ولم يفرز
جسد المرأة أى شيء مر كالعقاب، كما وأن السكين كانت كبيرة وجديدة
في يد الرجل، والخروف يملأ الطناجر كلها ويفيض وأنا والطفلة قريبة الشبه بي
نتعلق بأطراف ثوب المرأة، فتدفعنا عنها بيدين زادت غلظتهما، فنبتعد المرة
ونتمسك الأخرى، لنراها تضع المكافآت النقدية أسفل كتلة جسدها الذارفة لسائل
أبيض تذوقنا حلاوته لأول مرة من فوق شفتي الطفل الصغير الذى لم يصحو مذ
وفد إلى العائلة.
همست لأختي:
-إنه جميل.
همست لي أختي:
-أجل ولكنه لا يفتح عينيه!
همست لأختي:
-ربما لم يضربوه جيداً على قفاه ولم يخبر البكاء بعد.
همست لي أختي:
-بما سنناديه ؟
همست لأختي:
-سننظر ما يفعل الكبار ثم نفعل مثلهم.
همست لي أختي:
-تستحقين مزيداً من الأيدي الغليظة على قفاك،ألم تسمعينهم ينادونه
ب(عيل علي رأس بنتين )
همست لأختي:
-ولمَ هذا الاسم الطويل جداً ؟!
لم تهمس أختي بشيء، لم تعد تهمس على الإطلاق، فقد قررت الأسفكسيا
إسكاتها وتغيير أسم الطفل الثلاثي، لم اعرف آنذاك بأنها ستحملني وحدي ثقل
رأس الصبي الجميل الذى لم يستطع فتح عينيه أبداً مهما حاولوا !
بنغازي 2002/2/5
تقليد رجولي
(1)
كان في حوزة الحاكم صناديق كثيرة من البنادق غنمها رجاله من جيش
روماني يقطع الصحراء، وكان الحاكم يستعملها لمطاردة الصيد والمتمردين، قلما
يعطيها دفعة واحدة بلا رهائن، وكم يؤلم ذلك الرجال الحقيقيين منهم،
فيعجلون بإحضار الطرائد أينما كانت ليستعيدوا كرامتهم، قبل أن يبدأ
انتقاصها حيث لن يجدي بعدها تسوية.
(2)
لم يحبذ الحاكم تسليح الرجال غير المتزوجين على الإطلاق وقد عرفت
الواحة رجلاً واحداً دون زوجة ودون بندقية، إنه شيخ طريقة لا يتبعها أحد.
عندما يتزوج أحدهم فإن الحاكم يأمر بإطلاق الأعيرة النارية، ليشعر
العريس برجولته ولا يعتريه هاجس الحصول على بندقية كما اعتراه هاجس امتلاك
امرأة تكون له وحده، سيما وإن تجاوزت الأعيرة في زواجه ما يطلق في مناسبة
غيره، وعلى العريس في تلك الليلة العظيمة التي ينال فيها رجولته من الزوجة
ومن البندقية أن يكتفي بقسمته إلى الأبد!
(3)
إسماعيل رجل حاد الطبع، مستشيط بسبب وبلا سبب، اشتهر باسم (العداد)
لتوليه منصب العد في خزانه الحاكم النارية، وإليه وحده يوكل عد الأعيرة
التي تطلق في الأعراس كهدية سلطانية لأهل المتزوج، في عرس إسماعيل لم يجدوا
من يعد له، فالدستور يمنع على غير العداد أن يقوم بالعد، لقد ثار إسماعيل
لكرامته وهدد بترك الوظيفة، لكن الحاكم خشي أن تنهض رجولته أكثر مما يستحق
ليدخل بأهله، فتجاوز الحاكم الدستور بأن ثمل سكراً وأمر بأن تشعل نار
إسماعيل السماء الحالكة، فلا عد للعداد.
كانوا كمن يثأر لدمه من السماء، أو كأن طرا ئدهم التي يفرغون فيها
غيضهم رحلت هناك في البعيد المطبق، وعليهم ملاحقتها حتى يدخل إسماعيل
بزوجه، كانوا يفتحون النار بغيِرة تنفر رائحتها من أجسادهم، ألأِجل إسماعيل
كل ذلك، أم لأِجل مهنته أم لأِجل زوجته أم لأِجل ما يخشاه الحاكم منه ؟!
(4)
وكما كان إسماعيل سريع العد، كان سريع الدخول والخروج ببشارته،
استأنس الحاكم بسرعته، وتحمست النسوة لصهيل رجولته، فلم يصمت لهن طبل، كان
إسماعيل هو الصامت الأوحد، الحالك كما الليل الذي لا يستجيب لصوت ولا لنور،
الجامد كبندقية بدون رجل وكرجل بدون بندقية، لقد هزم إسماعيل في جولته
والحاكم هو من هزمه، لقد تغير دمه إلى صديد، والطبل مازال يدق لشجاعته
وفحولته، لكن العداد لم يمت من طعنة حاكمه فمد يده لبندقية أحد الرجال
وأطلق ما فيها على الأرض حتى فرغت، وفغرت الأفواه لمسلكه فصمتت الصحراء
أخيراً لتعرف نبأه؟
-أيها الناس واصلوا فرحتكم، أيها الناس زوجتي طالق!
(5)
في الكرة الثانية كره إسماعيل أن يتزوج زواجاً صامتاً، إذ ليس ذاك
بالفأل الحسن، رفض الحاكم حجته، فقد نال إسماعيل حصته وعليه ألا يتعدى
الدستور بقصته، عرسه الأول كلف الحاكم نصف ذخيرته فليرضى أو ليذهب إلى
الجحيم!
بدأ إسماعيل يثور لرجولته وقد أيده رهطه وأهله وقبيلته ومن يودون
إعادة الكرة مع زوجة جديدة، وعلا صوت احتجاجه حتى أزعج وليه.
قال الوزير لحاكمه:
-لبى لإسماعيل نزوته، تغنم صمته وتأمن كيده.
قال الحاكم:
-سيؤلب الرجال ضدي.
قال الوزير:
-إن جعلت ذلك تقليداً فلن يطالبوا ببنادقهم.
قال الحاكم غاضباً:
-الرعاع ... ها ها ها ها... بنادقهم... ها ها ها.
قال الوزير ملمحاً بخوف:
-خير لك من أن يطالبوا بعذرية نسائهم.
قال الحاكم مستيقضاً من ضحكته:
-عليك وعليهم اللعنة.
(6)
تمادى إسماعيل فى مطلبه ،فأراد الدخول وبندقيته فوق كتفه لا تنزلها
إلا المرأة التي تعرف حقاً أنها لن ترتد عليها، كما وتضعها له على كتفه
ليذيع بها سر ما حدث بينهما، حتى لا يحرجه الطبل والزغاريد والأعيرة
النارية والليل والتراب.
هدأ الحاكم، سكتت الواحة، أصوات الطبول والزغاريد لم تعد تسمع في
الأفق البعيد، ضلت لصيقةً بالأرض، دخل إسماعيل إذاً، وازداد الصمت بعده،
إسماعيل العداد ومحدث الجلبة ومحدث السكون، لم يسبقه أحد إلى هذه الصفات،
ُسمع إطلاق نار لم يتحدد مكانه، شنفت الآذان، كلا بل عيارين، حاول أحدهم أن
يعدها خارجاً عن القانون، كلا.. كلا .. كلا بل ثلاثة بل أربعة، انتظروا
عدادهم يخرج بسرعة ويعدها لهم، غير أنه لم يخرج.
طالت خلوته، كأنه استطاب البقاء، ناداه الشيوخ كي يعلن على الملا
فحولته، فلم يخرج ليفعل!
إسماعيل لم يخرج، انقلبت الثورة عليه، أخذوا يسبون غيبته، دقوا باب
حجرته، لم يجب أحد، دقت العجائز بمرافقهن لترد زوجته فلم يأتِ رد، دفعوا
الباب ليروا من قُتل، تحول الباب سريعاً عن طريقهم، ما من أحد في حجرته!
إسماعيل، إسماعيل، إسماعيل .... أيها العداد، واحد، اثنان، ثلاثة،
لقد أخذ عروسه وبندقيته وبدأ إعلان ثورته على الصحراء راضياً بأن يكون
طريداً طليقا كالصيود.
الرحلة العفوية
خطر في بالي وأنا خارج قريتي الصحراوية لقضاء أسابيع بحرية في (بوهريشيمه)
أن أكتب لك رسالة أجمع فيها كل مشاعري نحوك وأرميها لأمواج المتوسط تخبر
العالم بها ثم ترجعها في قنينة حملت رائحة شفتي إليك، بالرغم من أنني خلفت
ذكرياتنا ورائي في مدينة العجاج، تلك التي تعنى بتصدر التراب للعالم،
ويعمل نصف الألف مواطن الذين يكونون سكانها في كنس أزقتها من التراب وجرف
الرمال عن الدروب المحدودة المؤدية إليها.
ومع ذلك القدر الهائل من الغبار استطعت أن أحبك فيها، وأسكنك فسيح
بلاغتي رغم ما ارتفع في وجهي من عصي، لتخترق من ثم غربتي وتحفظات رب
العائلة الذي كلفته الدولة بشؤون بلدية هذه المنطقة المغبرة، فإذ أنت
تجتاز المسافة العرقية بين عائلتينا وتؤسس لدم جديد وتخترقني كبحر يغمر
يابسة.
كانت المقشات والمكانس تسيطر على حياة هذه القرية التي بكت أمي يوم
قرر أبي أخذنا إليها من مدينة تركض نحو التمدن، وكان مقدراً لي أن التقيك
فيها مع أن مهنتك لم ترتبط بالكنس، فقد وجدت هناك قبلي لتنتظرني، أي وجدت
لي بطريقة مختلفة.
دعني أقول لك أيها الأقرب إليَّ من وريدي والأبعد لعيني من غيب، إن
أنقى مياه مالحة هي التي يحتجزها هذا المعتزل الأشبه بفضاء عبادة، والذي
يقتسم روحه البحر والصحراء، ويقطنه عدد ضئيل من بدو لم نرهم حتى اليوم، رغم
إننا رأينا كرومهم الزاحفة مثمرة تستجدي القطاف، أي إننا لمسنا وجودهم من
بعيد فقط، إن بحر هذه الناحية نظيف من الناس، والهدوء كبير ومخيف، يبعث
على اتساع التفكير في الأزل إن أطلت البقاء فيه، ولا يوجد معناإلا حشرات
صغيرة غريبة استطاعت أن تقاوم الحر والفقر وتبقى بشكل ما أو إنها نفس تلك
التي تعيش في القرى والمدن لكن حاجتها للتكيف هي التي حورت أشكالها
وأحجامها على مدى طويل.
ذهبت أمي تعجن الخبز داخل الخيمة، وتناول أبي الفأس ليجمع لها
الحطب ويسجر تنور(الطابونة) المحفور في الرمال، أخذ معه أخي الأصغر ليعلمه
كيف يقطع الأغصان الجافة دون إيذاء الأجزاء الحية من أشجار السدر القصيرة،
الآخرون ذهبوا للسباحة والبحث عن الأصداف الغريبة لتكوين مجموعة من الآثار
المائية سيزينون بها صالون المنزل، لقد صحبوا معهم الصالون لأنهم لم يخلصوا
أذهانهم للحياة البرية.
أنا الآن لست بعيدة عنهم وهم يتقافزون في الماء ويعلو صراخهم في
سماء بوهريشيمه الساخنة، حيث لا صوت إلا صوت الأمواج التي تتحرك منذ القديم
وأصواتنا المؤقتة، وصوت حنيني الدائم إليك، وحركة مثيرة صامتة في أحشائي
تشبهك وأنت على السرير بجواري، بدأت أحس بها في مكان لم يعرفنا من قبل ولم
نعرفه، لا يشبهنا ولا نشبهه إلا في التصنيف الجغرافي الموحد لنا، لا اعتقد
إننا مهما عايشنا هذا المناخ الصعب نستطيع أن نكون بصدق أهل له.
أحد أخوتي يناديني الآن سأذهب وأترك أوراقي وقنينتي هنا كيلا يرونها
فيعبثون بها، أقبلك حتى أعود، أقبلك حتى الفناء.
وصلتنا رائحة الحطب في النار، لاشك بأن أبي أنهى مهمته وسيلحق بنا
للسباحة ريثما تنهي أمي تنضيج الخبز، حينها ستنادينا لنأكل شيئاً ربما
سيكون شكشوكة بالقديد، وربما شرمولة وجبن، والمؤكد أن الشاي الأحمر المنعنع
سيكون حاضراً، أمي تطلب منا الابتعاد عنها خلال خبز الخبز لكيلا تثير حركة
أقدامنا الرمال فتلتصق بالعجين، كانت تجثو على ركبتيها أمام الفرن الأرضي
لتلصق الخبز بسطح التنور ثم تغطيه بمسطح حديدي عليه جمرات فتؤمن له استواء
تام.
طيلة بقائنا هنا تهتم أمي بإطعامنا حتى أنها لا تنزل إلى البحر إلا
لقضاء الحاجة أو الوضوء للصلاة، إنها تخصني دون إخوتي بالكثير من الطعام،
فأنت لم تترك لي أحشاءً ضامرة، هناك فم غير مفتوح بعد ولا يلتقط صاحبه
طعامه سوى مني، وأمي تعلم جيداً ما يحتاجه لذا كلما كنت بجوارها ناولتني
شيئاً للأكل وكلما ابتعدت عنها خبأت لي شيئاً دون أخوتي.
كان ثمة بئر صغيرة قريبة وغير عميقة من مخيمنا، فمن طبيعة هذه الأرض
أن الماء المالح والعذب يتجاوران، وماء الشرب يمكن الوصول إليه على مد ذراع
ونصف تقريباً، كان أخوتي في أوقات الفراغ يتشاغلون بالحفر للوصول إلى الماء
العذب وكانوا يصلونه لكن أبى ينهى عن العبث بنعمة الله، أحد الذين اكتشفوا
(بوهريشيمه) قبلنا وضع إطارات شاحنة كبيرة على فوهة البئر كي لا تواريها
الرمال عندما تتحرك الرياح الرجيمة، ولأن للإطارات طبيعة مقاومة لقسوة
الشمس الحارقة.
استخدمت تنكة من تنكات شحوم السيارات كدلو لمتح الماء من البئر،
كانت تحمل رسم صدفة ويغلب عليها اللون الأحمر، فتحت من أعلى وربط بها حبل،
كما وضعت بالقرب من البئر بعض الصخور التي جلبت للجلوس عليها خلال غسل
الأشياء أو الاستحمام.
التقط أخي صدفات نحتها الملح والماء بشكل خارق، اجتمعنا نتأملها
بإعجاب، لو إنك معنا ربما كنت لتعبر بشكل مميز عما فيها من فن رباني،
تناولت إحدى القواقع وهمست فيها اسمي واسمك واسم طفلنا المنتظر، أحببت أن
أفعل ذلك بشيء لم يلمسه مخلوق قبلنا، لكي تعرفنا روحه كما عرفتنا روح هذا
المكان وأصررت أن تعرفك وإن لم تطأه معي.
قال جامع الأصداف:
-ماذا تفعلين بصدفاتي؟
-جدتي كانت تهمس في الأشياء الجديدة دائماً وأحياناً تتنفس داخلها
لتصنع معها علاقة مباركة فقط.
جمع أخي أصدافه لصدره العاري وابتعد بها ليكلمها كلاماً لا يريد
لأحد منا سماعه، عند الأصيل مشى أخوتي مسافات طويلة على الشط يبحثون عن
بقايا المراكب العاثرة الحظ التي سمعوا عنها أو قرأوها في الكتب أو نسجها
خيالهم، اختفوا عن الأنظار حتى شعرت أمي بالخوف والقلق وحاول أبي تهدأتها
مستعملاً المنظار في تقصيهم، تركتهما يتحاوران وذهبت إلى البحر، قالت لي
أمي وأنا أغادر الخيمة وفي يدي الورقة والقلم وقنينة ماء فارغة وكيس به
فضلات الطعام:
-لا تبتعدي أنت أيضاً فالوحدة مخيفة، كونوا مجموعين.
لكني ذهبت لأخلو بك واكتب مناجاتي اليومية لك قبل نزول الظلام، كانت
الأمواج مرتفعة كأن شيئاً حدث للبحر هيج غضبه، رأيت الكثير من عقارب الماء
الكبيرة تخرج للبحث عن الطعام، رميت لها بقايا البطيخ الأحمر والخبز
المبلل، فالتقطته فرحة وركبت الأمواج، كانت سريعة وخائفة رغم شكلها المخيف
عندما يتخيلها المرء تدب قريباً من فراشه بينما دياجير (بوهريشيمه) تبتلعه،
كانت عقارباً بيضاء أو ذات صفرة وأحداق بلورية، لا تحمل بشرة هذه الأرض كأن
طول مكثها في الماء سلخ عنها اللون الأسمر، لون ترابنا ومائنا وجلدنا، وكان
قرص الشمس سبيكة أرهقت الباحثين عن الذهب، لامعة على نحو غير متخيل، وعرائس
البحر يمشطن شعورهن لزفاف حورية متوسطية إلى سلطان الأوقيانوس العظيم.
في القنينة وضعت ما كتبته وجعلت معه عنوانك، لعل إنساناً يلتقطها
ويوصلها إليك، فيخبرك بغيرما لساني كم أحبك وكم اشتاقك في هذا المعتزل
البكر الذي لم يتدخل فيه الإنسان، حتى لكأن زمن سابق استقطعه من أرضنا فحضر
بجلال ورهبة.
(إنني أحبك أيضاً داخل هذا الزمن الغابر).
كانت (بوهريشيمه) في الليل منطقة أخرى ليست هي التي نصرخ فيها وحدنا
في النهار وتصمت في وجهنا وتدفن حلقها وتغرق وجهها المخيف كوجه ربان عثماني
مخرها طيلة قرون وعبأها بالرعب والبول والدماء والفضلات، (بوهريشيمه) في
الليل هي صمت مطبق يشف حتى يوشك أن يسمعنا ما وراء الصوت، وسفن شراعية تمخر
ليل المتوسط وتتحطم وتغرق وتختفي بما تحمله من سبايا ورقيق وذهب وتوابل
ومعادن وقصص واستغاثات يائسة وأسماك هامشية تمضغ على المدى حمولة تلك
السفن، وتلتهي عن قنينتي السابحة أبداً باتجاهك.
في بعض المساءات التي قضيناها هنا كنا نبتعد عن المخيم لكي لا
يسمعنا أبي ونحن نغني أو نتنافس في الصراخ، ذات مرة غنى شقيقي فلكلوراً
جعلني انتبه لجمال صوته في سرد تجربة حزينة تركت أثارها بقلبه الفتي.
وكان القمر مذهلاً كطرف سيف فضة أسطوري .... بل إنه هبط بالفعل
كمرآة عظيمة واغتسل في البحر على مشهد منا، عندما سمع الغناء
لو كان نشكى
للبحر بأسراري
تنشف أمواجه
من لهايب ناري
لو كان نشكى
يا عيني ياداي
***
آه لو كان نشكيله
بهموم قلبي
كلها نحكيله
تنشف أمواجه
بين يوم وليله
تبقا حماده خاليه وسحايب
لوكان نشكي
آه ياعين
***
ليش ليش
ليش الحيرة
يا قلبي لا تندم
واللي بدلك بالغير
بكره تلقا غيره
***
واللي بدلك خليه
بينه وبين الله لا تكافيه
لا ادوره ولا عاد تشقا بيه
الغالي رحل مخدوع في تفكيره
يا قلبي لا تندم.
***
هذه الليلة نتسامر طويلاً حول النار، أمي تعد الشاي وأبي يتكيء
بجوارها وإخوتي يتحدثون في أمور متفرقة، وأنا يذهب تفكيري إليك، أمي بعد
جلسة السمر والشاي تتلو تمائمها وادعيتها الليلية لتبعد عنا عقارب وهوام
ولوام هذه الأرض غير المرئية وشر ما يخرج منها بالليل والنهار، تمرر
سبابتها في التراب حول مراقدنا ثم حول الخيمة كلها، تالية آيات القرآن التي
تحفظنا ونحن نيام، أما أبي فيمارس مهام حراسته الليلية، يأخذ مسدس 9ملي
معه وينام في الجزء الخلفي للسيارة نصف النقل، بعدما يضعها أمام مدخل
الخيمة، إنه يحمينا لآخر لحظة من أي خطر قد يسقط علينا من الأرض أو من
السماء، يواجه (بوهريشيمه) كلها بما احتوت لأننا أولاده ولن يسمح لغموض هذه
الأرض أن يأخذنا إلى باطنها منه، كذلك نحن أولاد هذه المرأة التي لا تنتهي
أبداً من الاستنجاد بالله وبالأنبياء والرسل وصلاح البر والبحر، حتى ونحن
نقضي عطلة نريدها مختلفة عن حياتنا اليومية، بل نزعم أننا نريدها وأنها
ستكون مختلفة.
في الليلة الأخيرة من مخيمنا، يهتم أخوتي بحصر ما جمعوه من أصداف
وقواقع، وما وضعوه في علب المشروب من عقارب بحرية مختلفة الحجم ليرونها
لأصدقائهم، بينما يتأكد أبي من معدات تخييمه ويتفحص اطلاقاته وأمي تؤكد
لتارك الصلاة من أخوتي أن الله يراه هنا وهناك لذا فإن عدم معرفته بالقبلة
ليست سبباً منطقياً لترك الصلاة، وأنه لو كان خالص النية لسأل أو تبع من
رآهم يصلون، يتدخل أبي في الحديث بشكل مغاير للغة أمي قائلاً:
-إن جعلت البحر في ظهرك لكنت مباشرة في اتجاه مكة، لكنك تعرف اتجاه
مكة في بيتنا، لذا سترد دينك هناك.
كبير أخوتي كثيراً ما يخترق خطوط الحماية المتعرجة التي تضعها أمي،
أنه يخرج لسبب لا نعرفه ولا يخبر هو عنه، يذهب إلى البحر وحيداً يغيب ثم
يعود يدخل فراشه وينام، الليلة قام باختراقه المعتاد غاب قليلاً ثم عاد
يحمل قنينة في يده شدتني عندما لحظتها، قال لي:
-انظري وجدت هذه على الشط، يبدو أن الأمواج جلبتها.
وكان يعرف العلاقة التي تكونت بيني وبين القنينات الفارغة هنا.
أخذتها منه وفتحتها في الظلام فإذ بها ورقة، قفزت في فراشي أتلمس
ضوءاً لمعرفة ما فيها، لكن قمر هذه الليلة يكتنفه السواد والرؤية ضعيفة،
ونار أمي احتكر بقايا جمرها بخور الجاوي الذي خصت به سلاطين البر والبحر
وصلاح المكان وهي تسألهم المناشدة والمؤازرة في جميع الأحوال، إيمان أمي
بعدم وجودنا وحدنا في هذا العالم يدفعنا للإيمان بما تتصوره وهو غير مرئي
حتى نتيقن مثلها إن للبحر والبر والسماء سلاطين ومخلوقات من غير جلدتنا
لايمكن الهزء بها.
لايمكن في هذه الحالة مزاحمة جاوي الملائكة والسلاطين وإشراك
الصالحين في أمور ليست من مستواهم كقراءة ورقة في قنينة عابرة، لذلك لجأنا
لسيجارة أبي نتلمس عندها فض المضمون.
لم تكن الورقة الباحثة عن الضوء، سوى أولى الرسائل التي كتبتها لك
منذ خمسة عشر يوماً في هذا المكان، لم تمسسها يد عندما لم تجد يدك، سأحملها
إليك برائحتي وحرارتي وروحي الموجودة فيها، مثلما سيحمل أخوتي أشياءهم
المأخوذة من شاطيء (بوهريشيمه) الرائع، ومثلما تتفانى أمي في كسب رضا
الصالحين، وكأني وهم نلخص روح هذا المكان البكر كل ٍعلى طريقته لكي يسهل
حملها وتحملها.
بنغازي13 /6/2006
أضيفت في
18/10/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة
الكرثي
يومياً، وفي اللحظة التي تموت فيها مليون خلية من خلايا رأس حمدْ
من نسل حمدْ ليس كمثله في العراك أحدْ، تولد لحمد خلايا جديدة مطابقة،
لتنقطع الصلة بين ذات حمد والكهرباء الداخلية لحظة التبديل، فيتلمس طريقه
نحو نفسه في العتمة، يرتطم بغروره، تدخل يده بين فكي نزواته الموزونة
والجامحة، تقطع أصابعه ثم ما يلبث أن ينبت له مكان الإصبع إصبعين ونصف، لا
يسع حمد المرور لسقيفة الندم فحجم روحه أكبر من حجم الذات اللوامة، يتدحرج
إلى غياهب الذكريات المؤلمة، يلتقي بمن غدرهم وباعهم وظلمهم ولفق عليهم
الأكاذيب ليصل إلى منصبه الحالي، يقشعر بدنه فيهتز قلبه فيقع فيكون
لارتطامه صوت هاون نحاس يسقط من علٍ، يسترد حمد قلبه محنياً فإذا هو ورقة
من أوراق الحمام!
يتعثر حمد في قاعدته الذهبية القائلة "تملق من هم أعلى منك وتعسف من
هم دونك " فيكتشف قابليته لأنْ يخدع من قبل نفسه ويكون هو المخدوع الأول
والأخير!
مع الخلايا المحترقة يومياً تدخل رأس حمد أفكار بديلة يعالجها رأسه
المحدود، فيسيء إليها أو تسيء إليه بسبب عدم الاتساق.
اليوم دخلت فكرة سداسية الأبعاد وثانية ثمانية الأبعاد، كان الذهن
ضيقاً على الفكرتين، كما أن دخول الفكرتين معاً نجم عنه أحداث موجعة وخدوش
وجروح أصابت طبقات حمد الذهنية، ربما تتعالج وربما لا.
وكانت فكرة ما تحتاج لحرارة متوازنة، كي لا تتجمد ولا تذوب لحظة
امتشاجها بالطبيعة السطحية لذهن حمد البارد الحار، مثلما احتاجت أفكار
لسطوة الشمس عليها لتتخلص من ظلاميتها واحتاجت أخرى لضربة قمر كي تتحرر من
خشونتها.
عندما رفع حمد الكرسي من مكانه كانت فكرة ضئيلة غير مستعملة تشرف
على حركة مرور الأفكار داخل رأسه، نمت هذه الفكرة من فضلة التفكير لديه،
فكانت تقيم غيرها من الأفكار وتقعدها، تساند هذه للوقوف وتساير تلك، تدارى
وتواري.
كان حمد ينظف مكتب اجتماعات الرئيس، عندما حصل له التبديل، قطع
الأثاث أمامه محدودة ومعدودة، كان تنسيق وجودها في المكان وتكييف الفراغ
بينها وتكييفها مع الفراغ الموجود عملاً متعباً، في هذه الأثناء سمع حمد في
رأسه حركة الأفكار المختلفة التي تنظمها أعقل فكرة لديه، تلك التي أخذت على
نفسها الترتيب والتنظيم والتنسيق، أصيبت الأفكار المتشابكة بالاضطراب عند
دخول فكرة مغايرة، كانت مجرد فكرة غير واقعية وغير مطروقة وغير مهمة، تخص
نقل كرسي الرئيس من مكانه الضيق إلى زاوية واسعة.
المحير في الزاوية أن لها أربع مستويات، يمكن أن تكون جميلة
ومناسبة،إذا ’جلس فيها على الكرسي للقراءة، وإذا جلس للتأمل، وإذا جلس
للاسترخاء، وإذا جلس للحوار.
حاربت مجموعة شبه مؤتلفة فكرة بقاء الكرسي في الزاوية المانحة
للاسترخاء، لأن الاسترخاء سينتج أفكاراً ناضجة في رأس لم يبدِ نضوجاً في
غيرما الشر، وناهضت أيضا فكرة بقاء الكرسي في الزاوية المانحة للتأمل، لأن
أفكار التأمل أخطر من أفكار الاسترخاء، وناهضت أيضاً فكرة بقاء الكرسي في
الزاوية المانحة للحوار، لأن الحوار لايتم إلا بلغة، واللغة مؤلفة من
العبارات، والعبارات تختلط وتتداخل خلال الحوار، وتنتج في كل الأحوال
أفكاراً مولدة، ما نفعها لعقل لا يستطيع تفسيرها ؟!
جلس حمد متعباً على كرسي الرئيس، فراودته أفكار لم تكن لتخطر عليه
مالم يجلس على ذلك الكرسي، سرى داخل رأس حمد خمول وتخمر فكري، يشبه تخمر
اللبن في الأمعاء الدقيقة، من نواتجه أفكار خلت من الرغبة فيها، وأفكار خلت
من الحياة، وأفكار خلت من الحياء، وأفكار تشبعت بالهموم، وأخرى حضت على
التأمل، وأخري ارتيابية، وأخرى تمنح الأمان، وأخرى لا تتماشى مع نفسها،
وأخرى لها قوة الأنهار في الدفق، وأخرى لها مفهوم التدبير المنزلي، وأخرى
ضخمة لكنها تافهة.
فكر حمد في لماذا، وهو على كرسي الرئاسة الآن، تراوده فكرة تحول
نوارتهم العائلية إلى كلبة محتفظة ببعض صفاتها الآدمية القوية، مستخدمة
كبديل للنباح، النميمة والدس وتلفيق الأقاويل لتفريق الشمل العائلي؟
من كان ليصدق أن تتحول مجرد نوارة إلى كلبة؟!
ثم فكر حمدْ ما الداعي للتفكير في الكلاب البشرية التي يعرفها وهو
في أروع تجلياته!
ثم قدر من جلسوا قبله على هذا الكرسي في لحظات فراغه من المهام
الرسمية، من الكناسين والمساحين والهاشين والناشين، وقبل أن يسترسل في
التفكير، قطعت جميلة مديرة المدرسة الثانوية حبل أفكاره وتذكر مشاركتها
الوطنية في شنق أحد المتمردين وهو ميت!
جميلة شنقت الميت ليس لأنها تأخرت عن حفل القتل فوجدت كل شيء منته،
بل لأنها شعرت أن ميتة واحدة غير كافية لذلك الميت بالأخص!
جميلة المدعوة للاجتماع اليوم، كانت فتاة أحلامه بعد الإفطار وقبل
الغداء، وفي الظهيرة وقبل النوم، وقبل أن تصدمه بأنه ليس في مخططات أحلام
يقظتها على الإطلاق.
جرت فكرة حضور جميلة فكرة تغييب صالح، فلا حاجة بهم في الاجتماع
لصالح، صالح مجرد مدقق إملائي لن يحتاجوه في الحوار!
أخرجت هذه الفكرة فكرة عن تدليك العينين والحلم بسعادة أبدية على
كرسي كهذا الكرسي أو أقل، ليس أقل بكثير بل بقليل لكي يمشي الحال، لكن كيف
سيصنع الكرسي؟
وكيف ستصنع المطرقة ُوالمنشارُ اللذين يصنعان الكرسي؟
أخذ حمد يفكر في ثقل المطرقة حتى غشيه النعاس، وتساءل في نومه عن
اسم الكرسي، كيف ينطق حين ينكسر جزء منه، هل من الضروري أن يقال عنه كرسي
أم (كرثي) بحيث يعرف من لم يرَ الكرسي وسمع عنه أن به كسور؟!
حان وقت الاجتماع والكرثي غير موجود، وحمد أيضاً لم تره عين، كان في
الزاوية ذات المستويات الأربعة على كرثي الرئيس، تأخذه أحلامه للبعيد وتحت
يديه الباردتين مكنسة الغبار، ميتاً خلال نوبة عمل فكرية!
بنغازي 29/9/2004
الهوية
تجنبت الرافعة التي تقطع الشارع مثلي... رأيت واحدة أخرى عند شارة
المرور، وكانت ثالثة بعيدة جداً، تشبثت بمقبض باب الحافلة وهي تمضي
متمايلة، مد رجل يده إليَّ وأركبني، كان يجلس تقريباً خارج حدود الحافلة
المسرعة.
مالت الحافلة نحو اليمين، فملنا معها، وتخطت يدي الأسطوانة التي
تتوسط السقف طولياً وتتدلى منها أنشوطات جلدية... مددت يدي ثانية للقبض على
الأنشوطة فمالت الحافلة جهة اليسار، ففقدت توازني ووقعت إلى سطحها، كانت
المقاعد ممتلئة بالركاب ونصف أنشوطات الأسطوانة ممسك بها، تخطت نظارتي وجهي
في الاهتزاز الحالي، أردت اللحاق بها، فانزلقت الأوراق من تحت إبطي، مد
راكب يده تحت كرسيه ليساعدني في التقاط نظارتي قبل أن يهشمها شيء، ومد آخر
يده ليلاحق أوراقي أسفل مقعده، انزلقت هويتي أسفل قدم رجل من الريف، لمحت
صرصاراً يمرق مسرعاً فوق قدم الريفي الأخرى، إلى فجوة ظهر منها الحشو
الجانبي للحافلة، مالت الحافلة فضغط الريفي ظهر المقعد الذي أمامه برجله
ليقي نفسه الوقوع، سال ماء طيني من حذائه المعصور، اختلفت رائحة تربته،
تلطخت هويتي ثم اختفت عن عيني ، كنت ما أزال أحاول استعادة توازني للوقوف،
ارتطمت بالمقاعد...اتسخت بذلتي الجديدة والتوت ربطة عنقي على رقبتي، ضج
الركاب الذين ارتطمت بهم، قائلين عبارات دفع كثيرة، دفعني بعضهم عنه لأنه
بالكاد يتوازن في وقوفه، وحاول بعضهم تمكيني من الأسطوانة ... صرخت
بالسائق لما اشتد أمري :
هيه يا... خفف السرعة .
رد حالاً وكأنه كان ينتظر كلامي ليضاعف جنونه:
مانيش على فص خاتمك ولا خاتم أمك.
وانعطف بالحافلة المحتشدة قصداً إذ لم تكن الطريق منعطفة أصلاً!
مضى هكذا، وخمنت من حركة الحافلة إنه يدور حول جزيرة، لكن السرعة لا
تنخفض مازالت كما هي!
أمكنني أخذ نظارتي لتستقيم المشاهد أمامي، وتأبطت إضبارة المستندات
أقوى مما سلف، نفضت تراب الحافلة العالق ببذلتي الجديدة ، وقد نجح شاب يمشي
بتبديل قبضتيه على الأسطوانة في الاقتراب مني، ورفعي بإحدى يديه عن سطح
الحافلة الراكضة، كانت يده قوية، أجل قوية وحارة، لم أتركها رغم استعادتي
وضع الوقوف وتمكني من الأسطوانة، صاح السائق وهو يوقف الحافلة فجأة:
يابن الكلب كسرتني... يا ولد الذين ...يلعن أبوك وبو اللي خلاك
أتسوق...
ظننت أنّا وصلنا، حين توقف السائق عن القيادة ، لكنه تخلى عن المقود
ليعارك بيديه سائق الحافلة الثانية ، ثم أخرج عصاه من أسفل كرسيه وكذلك فعل
الآخر في حوار متفق على تفاصيله ونزلا يتضاربان، ويكملان الحوار الناقص
بينهما.
أدركت أننا لولا جنون الحافلة الثانية ما توقفنا عن الاهتزاز، ارتفع
صياح السائقين وأخفضَ ركاب الحافلتين رؤوسهم أسفل الكراسي مفتشين عن محافظ
ورخص ونقود وأوراق وأشياء أخرى سقطت منهم أو ممن سبقهم من الركاب.
شعرنا بالحافلة ترفع رأسها بكبرياء وتسير سيراً هيناً، كان السائق
الجديد رافعة البلدية التي ما ارتحنا على مقاعدنا وسررنا بوقف الاهتزازات
حتى ألفيناها تتوقف بنا في المنطقة المخصصة للخردوات، بالطبع لم نكن هناك
وحدنا، فخلفنا الحافلة الأخرى وأمامنا مئات الحافلات الوادعة كما لم تكن
مرة ... لم يأكل الصدأ ولا الخراب ولا النسيان حرفاً من أسماء المناطق
والبقاع التي حملتها.
مؤكد كان يركبها أناس منا في زمن مختلف!
بنغازي 9/4/2004
|