أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتبة: نجوى حسن

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

مواليد اللاذقية 

بكالوريوس في التجارة الاقتصادية – محاسبة 1979

موظفة في وزارة الاقتصاد / المناطق الحرة.

·عضوة اتحاد نقابات العمال

·عضوة اتحـاد الصحفيين.

عملت في الصحافة منذ عام 1990 .

عملت سكرتيرة تحرير بمجلة المعلومات 1995 ومديرة تحرير في مجلة المسبار.

ومراسلة سورية لمجلة المسافر السياحية السعودية.

تكتب في الصحف السورية والعربية مثل جريدة  المستقلة التي تصدر بلندن- وشبابيك في مالطا وغيرها.

شارك بالمقالات الأدبية  واللقاءات والتحقيقات التي تخص المرأة.

مديرة دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع منذ عام 1998 .

كتبت القصة القصيرة جداً.صدرلها  ثلاث مجموعات.

·الوداع الأخير قصص قصيرة 1995 .

·في ظلال الإبداع مع الشاعرة سعاد الصباح دراسات 1998.

·همسات دافئة قصص قصيرة 2001.

أجريت عدة لقاءات إذاعية/إذاعة دمشق/ وعدة حوارات في الصحف.

سيصدر قريباً خواطر ومقالات أدبية.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

شعاع من الأثير

زهرات الإعلان

صمت الخريف

شعاع ابتسامة 

 

 

 شعاع ابتسامة

 

 

مر وقت طويل ...إلهامه منقطع، يغمس يراعه في بحر عاطفته فيخرج جافاً إلا من ألوان باهته...

يمزق الأوراق ..يرميها بجنون في سلة المهملات التي تشهد على جفاف ينبوعه الحار.

كانت حروفه سائلة ثائرة كالبركان، تحوم حوله تمتد ألسنتها لتعانق روحه الشاردة، يغلفها ضباب مبهم يجثو على ذاكرته، وبحركة عصبية يضرب أشياءه على الطاولة ويبتعد عنها، ثم يغادر المكان يترنح في مشيته هاربا ًمن كابوس ران عليه منذ زمن.

منذ مدة لم يستطع أن ينجز قصيدة واحدة، كلما حاول تقاذفته صور شتى، تتملكه نوبة من التشويش، تضطرب أفكاره، يثور في داخله.. قلق كامل لم يكن بإمكانه تحديد هويته.. يثور على نفسه وعلى سر هذا الغموض المبهم الذي يلف نبع عاطفته ويحيلها من جنة معطاء إلى ساحة جرداء قاتلة .

في إحدى الأمسيات وبحركة تلقائية أمسك القلم محاولاً إنهاء الصراع الذي يجوب أركان نفسه، بدأ يلوّن صفحات الورق البيضاء بأفكار تنهال عليه وابل من الكلمات التي تتصارع على باب ذاكرته.. سطر سطورا عدة، ملأ فراغ البياض ، ليطفئ نار الحروف التي تتراكض حول ريشة القلم .. انتهى ثم أشعل سيجارته وعب منها ملء جوعه وعطشه للكتابة .. جثا أمام الحروف التي خالها تحترق على الورق.. لكنه صُعق عندما وجد أنه لم ينتج شيئاَ . مجرد جمل تدور في فلك العيون وأي عيون ؟ .

لم يأبه لجفاف العاطفة .. لكن الحيرة أكلت صبره ، مزق الورق، ضرب الأرض بقدمه ثم غادر المكان هائماَ على وجهه .

قادته قدماه إلى بيت أحد أصدقاء طفولته كان يرتاده بين الحين والآخر يشرب مع الأسرة شاي المساء ويتناقشون في أمور عدة. لكن هذه المرة لم تكن مثل سواها فقد لمح شعاعاَ ينساب إليه ، وسهماَ من الأهداب يرشق فؤاده ، تراكضت الدماء إلى رأسه ، جف حلقه ، تلعثم في السلام ثم تقدم وصافح الجميع عانق يدها بكلتي عينيه خيّل إليه أنه أعتصر الزمن ، وتقطر من بين أصابعه أجمل حلم غرد في خياله... جنّ وميضٌ من النشوة في محّياه، غزاه خيال قديم تسمرت عيناه.. خيم عليه الصمت ركب عجلة الزمن.. وأخذ يعود إلى الوراء .. سفرة سريعة وصلت بين الماضي والحاضر وقف في محطات مضاءة. وعند كل شعاع في عتمة ماضية .

وعلى شواطئ الذاكرة التي افتقدها منذ زمن حطت طيور هيامه وأشواقه . وعلى رصيف تلك الفاتنة خرج من دوامته ، وفي بحر عينيها أبحر ليعود لذاكرته القديمة .

غادر بيت صديقه معتذراَ .. انتصف الليل .. أغلق الأبواب .. أطفأ الأنوار وأغمض عينيه يبحث في ذاكرة الوجد والهيام .. بدأت مسارات الكواكب والنجوم الآفلة تلمع أمامه .. فوقف في ميناء صحن دارها عندما زار والدها يوماَ ، كانت الحسناء تتسلق شجرة اللوز الموجودة في صحن دارهم ، شلال شعرها الأسود ينثر عبق الحياة التي تضج به أنوثتها فتحيل مساءات الدار إلى فردوس تنتقل به كزنبقة عطرة بين نوافذ الغرف لتسقي أصص الورود، فتختلط أنفاسها بها ويفوح أريج الورد والأنوثة معاَ لينعش الفؤاد.

انتهت من سقاية الأزهار .. غابت لحظات ثم عادت وقد عانق كفاها الصغيران صينية القهوة .. اقتربت من وقدمتها له وقد اصطبغت وجنتاها بحمرة أخاذة . خيّل إليه أن عبيرها وسحر عينيها قد تقطرا في فنجان القهوة فزادتها لذة و نكهة ، وأصابه سهم من لواحظها بقي يئن في مكانه حتى تلك اللحظة ..

أيقظت ذكراها هذه ربيعاَ سرى في أوصالها كنشوة الماضي و أزاح الضباب الذي غلف ذاكرته ، فأمسك بالقلم وبدأ في رسم زمن البراءة التي ارتشفها من صحن دارها ومن شلال شعرها الليلي ، وشعاع عينيها ضمن ابتسامة فيها من السحر ما يخلق إلهاماَ جديداَ ..وانبجست الكلمات السجينة في ساحة اللاشعور ..وانهالت تتفنن في رسم عينيها ،وتخط بالأحرف الملتهبة طريق المستقبل الذي سيضمه مع تلك الابتسامة وصاحبتها.

 

 

 

صمت الخريف

 

بين أحضان خريفها اتكأ، وعلى شواطئها المنسية، ورمالها الدافئة حط رحاله، وضوء القمر يتوارى خجلاً من ضعف رؤياه، حدقت به ملياً تضخمت على جسده السنين، فناء تحت بصماتها مهموماً كثير الأعمال، متعدد المسؤوليات، لكنه صلب الإرادة، قوي العزيمة، واثق الخطوة، ذكي الملامح، قاسمته الأيام بعض شبابه واحتفظ بالبعض الآخر.

استقر نواة غضة في دافيء رمالها.. رمقته بنظرة جافة أورقت في خضرة عينيه، وتسربت إلى أغواره السحيقة التي اكتنزت كل الصدق.

لكنهما بقيا صامتين. أثلجه الصمت الموجع بينهما فذات وتحلل بين حبات رمالها ينشر شذى مروءته. توافد إليه الناس يستظلون برماله وينعمون بلطف نسائمه، وطيب سجاياه.

فوق أمواجها الصاخبة كتب أحرف اسمه، فهدأت ثورة قلقها وخوفها منه، لم يكن مغتصباُ بل كان نديماً هادئاً وديعاً. اكتفت بالنظر إليه بين الحين والآخر.

مع إطلالة الربيع، تنهدت حبات رمالها المخضلة برائق أنفاسه الدافئة، فعبق جوها بحرارة مختلفة، وأريج منعش، جذبها كنحلة عطش لرحيق الربيع.

اقتربت منه حذرة تسرق الخطوة من الزمن، ورويداً رويداً طوقتها أمواجه المتلاطمة فتارة تغوص وأخرى تصحو على نسيم أنفاسه، علمها دروس الأطفال، وفن السباحة والعوم، وتسلق الجبال ورسم لها تفسير الآمال، وفتح نافذة للحوار.

كان يوم جمع ولخص خمسون عام، أنست له دون صراخ، لكن الصمت لم يزل حارساً أميناً على الشفاه.

غابت شمس ذاك النهار وغيبت خياله عن الشاطئ. انتظرته في اليوم التالي ومع ورود القمر للسماء ولكن دون جدوى.. غاب.. طوت الأيام قلقه مكرهه. وعاد البدر للضياء. بحثاً عن خياله ولكن.. عبثاً مرت الشهور وفي يوم كالح العتمة لمحته مع الشفق يتسحب على عصاه دون شاطئها. بعيداً عن رحاله التي غرسها في محيط خريفها.. هرعت إليه والحزن يسيج ملامحها. وبحركة نارية سألته ما بك؟ أين كنت لماذا؟ لكنها لم تكمل حين وجدت هامته مسجاة دون حراك. وتطابق فكاه دون انفصال، أطبق الصمت ثانية على الشفاه اللاهبة.

طوت طولها قربه، اغتسل وجهها بالدموع وهي تحدجه بنظرات تالفة متسائلة حائرة ما بك؟ ما الذي أهمد ذاك العملاق فجأة. لم يبق منه إلا عينان خضروان تجولان في فسيح السماء والأجواء ثم تغزل المرارة دموعاً رقراقة تندي بها أوردة فؤاده كي تستمر بالحياة إلى أن يصمت في عيونه الخريف أو يعود ليورق في أعطافه الربيع بالإرادة والثقة والإيمان.. فإلى ربيعه القادم..

في الربيع التالي كسر عصاه ولملم قواه واستبدل التالف منها بالإرادة والإيمان بالله وعادت إليه الحياة من جديد بعد سنين من الغربة نفض عن أطرافه غبار الموت وانتصب واقفاً يجوب الدنيا ثانية بأطراف الخريف وروح الربيع ودفء الشتاء عاد يتخبط في صخب الدنيا محولاً صمته إلى

.مجلدات من الكتب وحدائق من الشعر وأشعل روحه تفانياً وعطاء

 

 

 

 

زهرات الإعلان

 

تشرق شمسه كل يوم وضجيج الحزن يعكر محياه.. عصبي المزاج، قلق القسمات يبعثر من أنفاسه ألماً دفيناً عميقاً.. يبتلع الآهات فيرسم على شفتيه ابتسامة صفراء يغطي بها آلامه الحادة أعماله اليومية ومشاريعه متناثرة بعيداً. غرس حـوله روضاً من الزهرات الفاتنات ينتشرن حوله.. يتخاطف النظر إليهن (سمراء – شقراء- طويلة.. قصيرة) جميعهن يسارعن إلى إرضائه وتلبية أوامره بأقصى سرعة.. يفتخر بهن أنهن نخبة (جمال وعلم.. فطنة وذكاء، خبرة ولغات) وهو رب العمل ومالك القلم والقرار.

كنت قاموسه المتحرك في كل صغيرة وكبيرة ومجمع أسراره العامة والخاصة إلا شيئاً واحداً، احتفظ به لنفسه. ذات يوم وفي جلسة ودية معه سألته عن رأيه بإحدى زهراته وعقدت العزم على الارتباط بها.. فجن جنونه.. وتمادى بلومي وتقريعي.. وأصبحتُ لا أعرف حدودي ولا أعي على أية درجة أقف.. ومن أنا.. (برغم أنني وبلا فخر أفوقه درجات بالعلم والموهبة أجبته بهدوء: ألم أكن المفتاح الذي أدرتَ به عملك؟.. ألم أكن اليد التي بنت وأسست وجهزت لك هذا الكرسي؟. ألم أكن العقل المفكر الذي وضع اللبنة الأولى لمجدك هذا ؟.. ألم أجمع لك أموالك المبعثرة هنا وهناك ومع فلان وفلان وخارج القطر؟.

طرحت عليه أسئلتي تلك وهو يهز رأسه غاضباً ثم سرق مني السؤال وطرحه عليّ ألا يمكن أن أتزوجها أنا؟؟.. لقد باغته سؤالي كما هزني جوابه قلت لكنك متزوج من ثلاث. وكلهن غادرن البلاد بعد الانفصال عنك دون أن يعلم أحد بذلك حتى أنت كما ادعيت ..وانسحبتُ.

كان يخشى على كلامه من نور النهار .. وضوء المصباح.. بين ابتسامة ماكرة.. وخوف من المستقبل لف حول عنقي كذبة غريبة ثم قذف بي بعيداً عن عمله.. مكثت شهوراً أبحث عن عمل ما.. يكافئ شهاداتي العلمية وخبراتي الفنية..

عاد إلى صمت أشد وألم أقسى، وازداد دفق التعاسة في صدره لم يبق من يتصدى لمشاكله اليومية، ويمتص غضبه المتكرر، الزهرات الفاتنات اللواتي يحركهن لهيب الإغراء الذي يوقظ فيهن شهوة العظمة والفوز، وشراسة الحلم والمستقبل في الوقت نفسه كن محركاً ومؤججاً لجمر الألم في داخله.

فهناك سر دفين في عمره تظهر ملامحه واضحة بين الفينة والأخرى من خلال إهماله وعدم اكتراثه لما يجري حوله بين طيات الورق.

تحفه الشكليات الناعمة ووابل من الإطراءات المبجلة تتدفق عليه في حين تتآكله التواقيع وركام الأوراق رغم إدعائه الذكاء. هذا أحد عناوين السر الدفين لكنه عنوان باهت لا يلفت الأنظار.

بدأ يلهو بالعاملين. فكل يوم بلاغ جديد يُنقّل العاملين بين المعامل التي أصبحت مترامية متباعدة ثم بدأ بالنقل…  يُنقل المكتب الفلاني بما فيه من أثاث وأجهزة وتركيبات.. يُحمل عدة طوابق.. وما أن يستقر دمه الذي تخبط ومفاصله التي تخلعت حتى يعود للنقل من جديد إما إلى مكان آخر.. أو ربما يعيدها إلى مكانها السابق.. وهكذا فقد دخلت الأجهزة في قائمة العاملين لديه.

لم ينطفئ حزنه يوماً.. ولم يشتعل رماد أحلامه.. رغم تفننه في اصطياد الزهرات وسرعة إبدالهن كل يوم كان يحمل له زهرة جديدة.. أكثر فتوناً أو أقل من زهرة الأمس لا فرق.

بعد أن أفرغتُ له الساحة.. بدا أكثر كذباً وخداعاً وأخذ يتمتع بلعبة الهدية.. تعلم كيف يصنع المناسبات ليُقدم أجمل زهراته هدية إلى مدير عام يزوره. أو مسؤول ما يصافحه. وكثر أيضاً إعفاء الزهرات من العمل بصورة مفاجئة كما تميز بلعبة المحادثة والحوار معهن رغم أن حوافه تتآكل.. وجيوب غيره تنتفخ وبقي يدور في دوامة لا أحد يعلم إلى أين يمضي.. وماذا يريد..

انتشرت رائحة غبائه وفوضويته أو لنقل طعم تعاسته ومرارتها- وباتت ازدواجية نفسه على كل لسان- فكان في اللحظة الواحدة يبدو موجوعاً ومتمرداً، قوياً، وضعيفاً، ذكياً وساذجاً، الجميع يتساءلون أهي عقدة نفسيه تغلغلت إلى جذوره فهزت كيان الرأي السديد لديه؟ وشوشت على الرؤيا البصرية؟ أم أن عدم الاستقرار نهج جديد لابتلاع الألم وقتل الفراغ النفسي؟ أم أنه يطبق نظريات الاحتمالات بأمور الإدارة والعاملين..؟…؟

 

أسئلة كثيرة تُطرح وتشكل علامات استفهام ودوائر سوداء.. فطن أخيرا إلى لعبة الإعلان عن مسابقة انتقاء للزهرات ومرت الأيام تطوي بين ساعاتها عشرات العشرات من المتقدمات لتلك المسابقات جميعهن يرسبن إثر سؤال مفاجئ يطرحه على الزهرة – وكالحرب تصبح فيها المفاجأة هي الأمر الحاسم- فيقرر رسوبها وتنصرف بعد التهديد والوعيد إن باحت بأي كلمة- عن المسابقة ويستفيض بشرح التفاصيل عن إمكانياته الاجتماعية والسلطوية والمادية التي يتمتع بها..

كل العاملين يرون ويقرؤون صامتين يريدون فقط أجرهم الشهري لا أكثر – مع تلك الاحتمالات سادت شريعة الغاب واصطياد الفرص، واقتناص الرغبات من قبل متسلقي الأحداث كيف لا وهو كالنبات الصحراوي تهزه أي نسمة وتصهره حتى اليباس حرارة الشمس..

بعد عشرات الإعلانات دخلت إحدى المتسابقات تسبقها ثقة عمياء بنجاحها رغم بشاعة وجهها ودمامة شكلها.. وقفت أمام المدير.. قدمت نفسها: إنني خليط غير متجانس فأبواي من قارتين مختلفتين وجدتي لأبي أرمنية الأصل. من القوقاز.. وجدتي لأمي استرالية الأصل وجدي تركي.. أخواتي اثنتان إحداهن في جنوب أمريكا والأخرى في تشاد واخوتي ثلاث متفرقون في المعمورة. أما أنا فقد ساقتني الرياح إلى سورية بلد الحرية والشهامة.

وفرت كلماتها الجريئة ونسبها الفوضوي مساحة من الزمن للدخول إلى عالم الأسئلة الحرجة.. وسرعان ما انسجمت نغماتها المختلفة مع أمواجه الصاخبة. رن الجرس دخلت إحداهن فقال: اذهبي مع الآنسة إلى مكتب القبول –وبالسرعة القصوى اطبعوا لها كتاب المباشرة منذ اليوم.

خرجت الفتاة ونشوة الفوز تكلل أساريرها- ومنذ تلك اللحظة.. بدأت باستلام العمل شيئاً فشيئاً. مظهرة أسرع الخطا في التقدم. والإلمام بكل التفاصيل... لم يمض وقت طويل حتى استحوذت على كافة المسؤوليات وباتت مشرفة عامة ونائبة رئيس ومسؤولة  التنفيذ في كل المعامل والمشاريع التابعة له..

مررت به يوماً بعد عدة اتصالات منه وعتاب حميم لأزوره، وكنت حينها مستشاراً في إحدى الوزارات لكنني كنت لم أزل أحتفظ له بقدر من الاحترام ومودة الصُحبة القديمة. قابلني بالترحاب والعتاب والمجاملات طلب لي فنجان قهوة ـ وبالمرآة المكبرة شرح لي عن إنجازاته ومساحة مشاريعه وتطلعاته وإذا بالباب يفتح دون إذن.. دخلت فتاة قصيرة القامة، جعدة الشعر، خشنة الصوت.. جفت الأنوثة من ملامح وجهها ليحتلها ذكاء النظرات.. واثقة الخطوة.. حادة النبرات.. حيت تحية باردة لم تتجاوز أطراف شفتيها.. قالت: بعد أن وضعت البريد أمامه.. لقد طردت فلان من العمل- وحسمت لفلانة أجرة يومين لتأخرها نصف ساعة.. الخ. كان يوقع البريد دون أن يقرأه مكتفياً بشرحها الموجز- أنهى البريد ودون أن يلتفت إليّ – قال: هل دعيتِ السيد الدكتور لحضور حفل زفافك غداً.. هزت برأسها.. ووجهت لي دعوة رسمية خرجت من فمها كسوط الجلاد. ثم أقفلت الباب وراءها.. التفت إلى المدير أسأله من هذه؟ قال إنها آخر الزهرات التي دخلت حديقتي وهي زهرة مهجنة.. أليست ملكة جمال؟.. إضافة لذلك إنها قمة في كل شيء وغداً سيتم زفافها على ابن عمها وستذهب معه إلى أمريكا حيث يُقيم.. خرجتُ وقد سقطت آخر ورقة له في نفسي..

في اليوم التالي شهد المعمل حفلاً صغيراً بسيط ضم جميع العاملين احتفالاً بزواج الفاتنة من ابن عمها الغائب.

غابت شمس ذاك اليوم بغيابها من العمل.. وبدأت ورشة الترميم تضع لمسات إضافية على منزل الدكتور ورب العمل الذي يشبه أجمل قلعة أثرية في بلادنا.

كان المشهد عنواناً كبيراً مبهماً لشيء ما يختلج في قلب الزهرة إذ قذفتها الرياح إلى العمل ثانية بعد غياب شهرين وفجأة مزق دهشة العاملين شوقها الزائد للعمل.. وإلا فماذا غير الرغبة في الامتلاك يأتي بها إلى ذاك المعمل؟.. ويُفترض أنها في أمريكا عند زوجها.

لم يكن المدير يرى أو يحس سوى تلك الصور الرومانسية التي يرسمها لمستقبله معها ـ فتنفرج شفتاه عن ابتسامات شبه بلهاء خاصة عندما كان يراقب نمو حملها. الذي زاد في تراجع أنوثتها.. وقصر قامتها. وازدياد غرورها..

تسعة أشهر وجاء المخاض يحمل معه جناحين للمدير.. الواحدة ليلاً وصوت زعيق الفرامل أيقظ كل الحي.. حملها بين ذراعيه وغاب بها لتعود في اليوم التالي تتبختر كامبراطور توّج لتوه ولم يألف لباس التاج بعد والمدير يحمل الطفل على ذراعيه يطأ الأرض وراءها بتؤدة ينظر إلى الطفل ويتمتم الله وأكبر.. الله وأكبر.. إنها الحياة.. إنها الدنيا..

راقه هدوء نفسه وها هي أنجبت طفلاً. شمل التغير كل شيء في المعامل وفي التعامل ـ وانفرجت أسارير المدير رغم ازدياد فوضويته. وتسرب أمواله من شقوق الإختلاس المشروع. انقشعت بعض غيومه، فتميز وقع أقدامه على الأرض حتى خياله بدا ظلاً حقيقياً لشخص جذّر طفلاً في تربة ما.

الموظفون يتبادلون أطراف السؤال أين زوجها؟ ولماذا يأخذها المدير إلى المشفى؟ و.. و.. وهي مشغولة تنثر شفافية مشاعرها المحمومة على المدير.. وشيئاً فشيئاً ترجل المدير عن دفة القيادة.. واستلت الزهرة أختام الإدارة واحدة تلو الأخرى.

سحبت الأيام أرقام السنة وقدمت بداية لتاريخ العام الثاني كل التغيير في المعامل والإدارات كان حسب رغبتها ومبتغاها وامتلأت رغباتها صبراً. فانفجر الصمام الذي كانت تحيطه بكل حواسها.

صباح مشرق جميل حمل معه الحدث الهام، وبعد لحظات من إغلاق الباب على الزهرة والمدير: انطرح صوت الشجار بينهما.. فقالت هل أنا عشيقتك؟ أم خادمتك؟.. واعلم أن لا وجود لك في هذه الحياة.. إلا بفضلي وشقائي وذكائي.. لا تقتل المسافة بيني وبينك إنك الخاسر الوحيد وقد تتحول دموعي إلى طلقات قرصنة.. اليوم عيد ميلاد ابننا.. اختزل الزمن وضمه إلى صدرك خلع صمته بكلمات موجزة .. مضت سنة ولم تتحركي.. نفذي وعدك لأنفذ وعدي ولتمت الفضيلة التي تتكلمين عنها..

هبطت كلماته كالثلج على جمر متقد.. صمتت تبتلع أفكارها.. وتهز رأسها.. ونادت إحداهن دخلت الزهرة لتخرج بأوامر المدير.. اصرفوا لفلانة مبلغ الفين وخمسمائة دولار. ونظموا لها أذن سفر خارج القطر..

جالت آذان العاملين وانتشرت رائحة الشماتة به وسقط احترامه كورقة صفراء قذفها الخريف. لقد جاء من يمرغ كرامته بالتراب مثلما فعل مع عشرات المهندسين والموظفين الذين طردهم لأتفه الأسباب وكأنه خُلِق ليُسعد بآلام الآخرين.

بهذا الخبر طوى ذاك النهار أحداثه العريقة وغادرت إلى لبنان.. تراشقت الأيام لغط العاملين وأخبار الطفل الذي بقي في البيت مع المربية..

دنت لحظة الضباب بعد شهرين وزف عصر ذلك اليوم عودتها من لبنان  وفي أحشائها نطفة تترعرع وتترعرع معها سعادة المدير لينجلي السر الدفين.. سباق عنيف بين الرغبة الجامحة من المدير بسماع نبأ الولادة وبين الزهرة التي تلهث وراء المهر والمعمل والقبضة الفولاذية

انقشع الضباب  ودوت الصرخة الأولى للولد الثاني وتعفر وجه الحق بالخديعة التي شقت طريقها إلى قلبه وبات المدير أباً لولدين ذكرين واعتلت الزهرة سدة الزمن وحصلت على مهر مؤجل باهظ بل تربعت على كل أملاك المدير بعدما أعلنها زوجة شرعية يتفاخر بها أمام الجميع.

 ومنذ ذاك التاريخ بدأ رسم الأحلام بينهما وتخطيط مستقبل الرفاهية والسعادة. بعدما انجلت آخر ومضة من سر دفين كان قد قضَّ مضجع الدكتور وبدد سعادته وثروته..

وصل الخبر بسرعة إلى إحدى مطلقاته في فرنسا لم تدم فرحته شهوراً حتى وصلت رسائل تتضمن تقريراً من أكبر مشفى في فرنسا لمعالجة العقم فحواه ( إن السيد فلان ابن فلان مواليد../ ونتيجة لعدد كبير من التحاليل والفحوص المخبرية تبين أنه مصاب وهو في سن البلوغ بمرض النكاف (أبو كعب) ونتيجة لتأزم المرض معه فقد سبب له عقماً تاماً وترى المشفى أنه من المستحيل جداً علاجه.. إضافة لوجود بعض الأمراض الجنسية التي تعيق حركة الإخصاب لديه (قد تكون عدوى أو وراثة).. وقد ختم التقرير بأسماء لجنة من الأطباء من تاريخ عدة سنوات أي منذ كانت تلك الزوجة على عصمته. وقد ضمت الرسائل شرحاً لعرضه الرخيص لها في تلك الآونة ولو باعت كرامتها كما عرض لكانت اليوم هي الأم التي تتربع على عرش الثروة والزوج والأولاد اللقطاء.

وهكذا لم يستطيع المدير تكذيب تلك الإشاعات عند جميع من أُرسلت إليهم لكنه كذبها عند البعض محاولاً إرضاء نفسه وزوجته .. مردداً كلمة هراء .. وتدجيل ولتفيق وغيرة

 

 

 

 

شعاع من الأثير

 

ضاقت حلقات الزمن حول نفسها.. حتى أوشكت أن تختنق إذ لا سبيل للخلاص إلا.. وهي المؤمنة بالله والقانته له.. ولكن كيف..؟ تسأل نفسها. دقت الرابعة صباحاً وهي تدور في حلقة مفرغة.. تفتش عن طرف خيط تتعلق به لينقذها..

اغتسلت.. توضأت قرأت القرآن.. صلت الفجر واندست في سريرها تسبح الله..

في الكعبة الشريفة.. تتبارك من الحجر الأسود وتمسح بكلتا يديها على وجهها وكل ما تصل إليه من جسدها.. طافت حول جدث الرسول (ص) سبع مرات.. وعادت تقطف عن الحجر الأسود آيات التبريك وتمسح وجهها عدة مرات وآيات الدعاء تتتابع على لسانها.. استفاقت على صوت حنون شفيف كشفيف الفجر.. مهيب كهيبة أهل الجنة يقول لها:

هيا تعالي إلى هنا.. وهنا تتخلصين من كل أحزانك وآلامك..

انتفضت آلاء من فراشها مضطربة فرحة تغمرها سعادة الكون ونور السماء.. نظرت حولها، الفجر لم يزل في باكورة ضيائه. حمدت الله وشكرته، صلت ركعتين لوجه الله. لقد زارت روحها الكعبة الشريفة – أحست بسعادة تغمر قلبها الحائر.. فتشت عن جذور الألم في نفسها. أخيها الأناني المتسلط.. والدتها المريضة.. أخواتها الجميلات اللواتي يبدون كقطعة الأثاث البالية في ذاك البيت.

لم تشعر بوخزة ألم واحدة وكأن الألم اقتلع من نفسها مثلما يُقتلع ضرس مؤلم من جذوره. تساءلت في قرارة نفسها ما الذي حدث؟ هل ستتبدل معاملة أخي معنا؟ هل قرر أن يجري الفحوصات المخبرية والتحاليل والأشعة لوالدتي التي وصل حجم بطنها حوالي المترين – ولم تعد قدماها تحملانها؟ أم هل تنازل عن بعض الأملاك لوالدتي كي تتصرف بها؟ أم سيحاول إعادة مبلغ من المال الذي استولى عليه من البنوك، حيث إن توقيعه كان يخوله سحب الأموال وقد خفاها ونكرها لدرجة أن أجسادنا بدأت تأكل من احتياطها السابق، لتكتفي في اليوم بوجبة واحدة، وقد أوشكت أن تنقطع.. أم أنه سيطلق الحرية لأخواتي كي يعملن ليأكلن بعدما استولى على جميع التركة، والتي تُقدر بآلاف الهكتارات من الأراضي المبنية، والمشجرة والبعلية والمستصلحة والمروية تتمثل بعدد من القرى كان والدي قد سجل كل قرية باسم واحدة من البنات. هذا ما تركه له الإصلاح الزراعي.. إضافة إلى الحوانيت وبعض الشراكة في معمل للكازوز والثلج.. وغيرها لا أدري..

كل الأسئلة فاضت على روحها دون ألم وهي التي تفيض أحزانها دمعاً مدراراً عند كل سبب. بدت الأحزان لها شعاعاً من نور يتجه نحوها ويمتد إليها. نهضت بعدما قرأت ما تيسر لها من القرآن الكريم.. ودخلت على والدتها فرأتها مغتسلة بالدموع.. بادرتها أهلاً يا آلاء والله لو استطعت الوصول إليك لفعلت؟ حمداً لله.. ولكن ما الذي جعلك تنهضين باكراً؟ ليست عادتك. خذيني إلى الشرفة وهيئي لنا القهوة.

أدارت آلاء دواليب الكرسي الذي غدا السرير والمكان الوحيد في الدنيا لأمها.. خرجت إلى الشرفة. أعدت القهوة.. وجلست قرب أمها مشرقة الوجه والروح.. وزاد ندى الصباح الجميل ورائحة الياسمين والورود المتفتحة على الشرفة في جمالها الفتان.. وكما كان يصفها والدها (بدت من حوريات الجنة).

آلاء في الرابعة والثلاثين لكنها تبدو كقمر الرابعة عشرة.. تحمل إجازة في التاريخ وهي أكبر أخواتها اللواتي لم يكن أقل منها جمالاً وذكاء… وأدباً.. وأخلاقاً.. لكن ذلك الجمال الذي حباهن الله به جعل من خوف القيصر والدهن عليهن. حزاماً كئيباً ضُرب حولهن لذا أبى أن يزوج إحداهن رغم كثرة الطالبين والمعجبين بهن، خاصة وأنهن جامعيات. .. كان جوابه الوحيد بناتي لسن للزواج، فهن حوريات تهن في السماء.. فنزلن عندي على الأرض وعليّ حراستهن مدى حياتي، وتأمين الحياة لهن مادياً مدى حياتهن..

مرت تلك الصور على شريط ذاكرة آلاء. وهي ترتشف القهوة مع والدتها فبدت شاردة الذهن مذهولة العينين.. هزتها كلمات والدتها.. آلاء ما بك؟ أراك وكأنك تضمرين شيئاً ما.. لأخيك؟.. هل تنوين على شيء ما.. له؟ كان جواب آلاء مختلقاً جداً هذه المرة.. إذ لم تنتابها نوبة البكاء الحاد.. أجابت لا.. لا.. معاذ الله أن أؤذي أحداً.. ولا حتى أخي.. سامحه الله.. لكن الله سينتشلني من ذاك الضيق. أي من هنا.. من هنا وكيف؟ سألت الوالدة.. وإلى أين؟.. وقبل أن تدخل في سين وجيم قالت آلاء.. سأقص عليك رؤيا حلمت بها اليوم بعد آذان الفجر. أخذت آلاء تعيش حالة المنام مغمضة عينيها وهي تشرح لوالدتها تفاصيل الحلم.. والحجر الأسود الذي تباركت منه، والآيات التي لم تعد تتذكرها..

 تابعت إلى أن وصلت للصوت الذي كلمها.. وقبل أن تكمل الحلم وقفت سيارة أجرة تحت الشرفة وترجل منها رجل جليل زادته لحيته البيضاء هيبة ووقاراً تلفت يمنة ويسرة، ونظر إلى الأعلى. فوجد السيدتين على الشرفة فقال: صباح الخير.. ردت آلاء الصباح وسألته من تريد؟ قال أريد منزل السيد قيصر. كادت آلاء أن تقفز من الشرفة لتختصر الطريق إليه، ثم توقفت واندفعت إلى الصالون والباب الخارجي.. نزلت الدرج مختصرة كل أربع درجات بخطوة واحدة. وصلت الرجل الذي بهره جمالها. واللباس الأبيض. صلى على النبي الكريم.. ومشى أمامها وهو مطرق يصلي على النبي الحبيب المصطفى..

على الشرفة قدم نفسه لوالدتها.. وأردف ساقوم بعمرة إلى الكعبة الشريفة أنا وزوجتي، في شهر رمضان المبارك .. بعد عدة أسابيع.. وقد جئت إليك بعد إلحاح زوجتي ورجائها لي.. لعل كريمتك الكبيرة تود الذهاب معنا إلى العمرة. طفقت الدموع في مقلتي الوالدة.. وتنهدت بحرقة الأم الملتاعة المريضة.. وقالت.. عمت صباحاً أيها الشيخ الجليل، وأنا أثمن لك ولزوجتك المصون تلك البادرة الطيبة المقدسة قداسة البيت الذي تودون العمرة إليه، ولكن آلاء لا تفكر بذلك على الإطلاق.. قاطعتها آلاء..

وقد أطبقت يدها على فمها وانطلقت سهام الرجاء من مقلتيها إلى الشيخ مشيرة إليه أن يصمت أمام والدتها ثم قالت.. أنا كريمتها الكبيرة لكني لا أملك جواز سفر، ولا حتى هوية فكيف بي سأذهب للعمرة يكفيني أنني اعتمرت فجر هذا اليوم.. وزرت المسجد الحرام وتباركت من الحجر الأسود وكنت لتو أقص على والدتي ما رأيت هناك. تلعثم الشيخ وقال.. اليوم؟ قالت أجل..وبعد أذان الفجر..

صمت الشيخ وهو يسبح الله بشفتين غطاهما شاربان كثيفان مع لحيته البيضاء وقرأ سهام الرجاء من عيني آلاء.. فشرب القهوة. واستأذن بالرحيل.. مضى الشيخ قائلاً بالإذن.. شيعه قلب آلاء وهو يرسم الأمل فوق جلباب الشيخ وعمامته الناصعة البياض.

شيعه صوتها، في أمان الله، حتى غاب عنها وعادت لتمنح السكينة لقلب الأم المريضة والتي ترى في آلاء رئتها الوحيدة، ومبعث أملها ورجائها ووجودها في الحياة. ولتتفحص صدى مجيء الشيخ وحديثه في قلب الوالدة في ذاك اليوم بالتحديد خاصة وقد تطابق مع حلمها..

بدأت الأم تستنكر طلب الشيخ وزوجته مؤكدة أن ذلك جاء بمحض الصدفة أو أنه إلهام من الله عز وجل. وأردفت هل تعلمين يا ابنتي بأنني لم أسمع عن زوجته خديجه أي خبر منذ خمسة عشر عاماً. مذ عُين زوجها إمام جامع كبير في مدينة حلب.. لكنها إنسانة شديدة الإيمان ومحبة للخير، متواضعة، كريمة النفس واليد، سمحة الوجه واللسان..

الشمس تشارف الضحى والبنات الثلاث لا زلن يرقدن في أسرتهن – لا شيء ينتظرهن سوى الفراغ واليأس وآهات الندم لذاك الأب الذي حرمهن من كل شيء. حرمهن من إيجاد بصماتهن في هذه الدنيا، منعهن من أن يتحولن إلى فراشات يطرن خارج الشرنقة التي حاك خيوطها ضمن جدرانه الأربع.. بل أرادهن بيوضاً لن تفقس مدى الحياة.

نادت الأم البنات لتبثهن فرحة مفعمة بالدهشة. تعالوا لقد زارنا اليوم الشيخ مبارك زوج السيدة الفاضلة خديجة نبشت كلمة زيارة البنات من أسرّتهن كرف حمام أثارته عصا قوية.. وطرّن إلى الشرفة يسألن من أتى؟.. وماذا يريد و..و.. 

فمنذ موت الوالد لم يرن أحداً ولم يسمعن طرق باب حتى الجيران المقربون منعهم الأخ من الدخول عليهن.. ولم يتكلمن مع أحد إلا ذاك الشقي الظالم الذي تحول إلى سجّان وهن من حكم عليهن بالمؤبد. حتى الوالدة التي بات سجنها سجنين سجن البيت وسجن الكرسي..

بدد قدوم الشيخ رتابة الهدوء والأشياء في المنزل لبضعة أيام.. بين سؤال وجواب تحليل وتفسير.. توقعات وأمنيات إلا آلاء فقد باتت صامتة الشفاه مشتعلة الأفكار.

منذ اليوم التالي لزيارة مبارك بدأت آلاء في إجراء بعض التدابير بخصوص جواز السفر. ذهبت خلسة إلى السوق لتبيع خاتمها الذهبي لتجلب لوالدتها بعض الأدوية وما يحتاجون من اللوازم.. - وفي غضون أيام جهزت كل ما تريد. وأرسلت للشيخ مبارك- ما ينم عن عزمها للقيام بالعمرة.

في اليوم المحدد الذي اتفقت عليه مع خديجة سراً. انسلت آلاء إلى السوق بعد أن قدمت طعام الافطار للوالدة وكتبت رسالة أودعتها صندوق بريد البيت تقول: أماه سامحيني فقد ذهبت للعمرة مع الشيخ مبارك وزوجته ادعي الله لي بالتوفيق.

هجرت آلاء أمها وأخواتها للحفاظ على الذات من الوقوع بخطأ الانتحار وغابت بين طيات الزمن المر تاركة وراءها شراسة الولد العاق والأخ الظالم، وسبباً لزيادة تعذيب أخواتها وتكثيف القيود عليهن.

وصلت إلى الحرم الشريف وروحها لم تزل راكعة في ملكوت المناجاة وطلب العون من الله، والاستغفار والتسبيح. بعد أربعة أيام من انتهاء العمرة عاد الشيخ مبارك وزوجه المصون حزينين كئيبين. مرتبكين ماذا سيقولان لأم آلاء وأخواتها.. أضعنا ابنتكم كيف؟ ومتى؟ وأين؟ لا أحد في الدنيا سيبرئهما من تلك الفتاة إلا كما تبرأ أخوة يوسف (عليه السلام) من دمه.. خاصة وأنهما قد ابتدأا بدعوتها للعمرة.. لكن إيمان الشيخ وفراسته وحكمته.. بددت تلك المخاوف.. وسلم بقضاء الله وقدره وحكمته. كانت آلاء قد خطت الخطوة الأولى في طريق نجاتها من أخيها.. عندما اختبأت في إحدى غرف الحرم الكبير.. زاهدة في حطام الدنيا وما تحمله.. آثرت الالتجاء للنبي (ص) من الغوص في ترهات الحياة.

نامت آلاء في اليوم الأول من اختفائها في إحدى غرف الحرم تفترش الأرض وتلتحف رحمة الله والمناجاة التي ألبستها ثوب السكينة والطمأنينة.. لم تعد خائفة على شيء حتى مرض والدتها.. سرقها النوم من احتدام أفكارها المتلاطمة كموج البحر المزبد.. ماذا تفعل؟.. أين تذهب؟.. كيف تختبئ من الشرطة فترة طويلة؟

ى من تلجأ؟ وكيف؟ غطت في نومها مستسلمة طاهرة القلب واليقين.. لم تدرك كم استغرقت في النوم.. عندما انتفضت أول مرة واقفة بخشوع خائفة بفرح السعادة. تكرر بسم الله الرحمن الرحيم.. اللهم اجعله خيراً مسحت وجهها ونظرت إلى السماء التي تطل عليها من زاوية صغيرة في أعلى الجدار الذي يلفها في الجامع.. وسرعان ما سرقها النوم من المناجاه والدعاء ثانية.. ليأخذها إليه استفاقت للمرة الثانية ويداها ممدودتان باتجاه القبلة تهم أن تمسك بيد الشيخ لتقبلها.. بسملت وهي توبخ نفسها سراً لعله اللاشعور يحدثني.. في المرة الثالثة.. استفاقت على صوت رجائها تقول: دعني أقبل يديك الطاهرتين وقل لي من أنت..؟ من أنت..؟

نهضت آلاء خائفة وفرحة.. تتلو بعض آيات الذكر الحكيم. توضأت وصلت ركعتين.. لوجه الله والمقام الشريف وجثت على البلاط. عقدت النية بأن تقص منامها على شيخ في الجامع ينم محياه عن الإيمان والصفاء.. وهو من سمح لها أن تبيت بحمى جدث الرسول (ص) ريثما يعود والدها..

مع آذان الفجر وطهر المكان.. وتباريح الدعاء والرجاء.. مرت الساعات مسكونة بالأمان والطمأنينة بغمرها نور الحلم.. بانتظار قدوم الشيخ..

مع وصول الشمس إلى قرابة الضحى سمعت أصواتاً غير تلك التي تسمعها من خدم التنظيف.. لم تزل جاثية متضرعة فتح الشيخ ذو الجلال والهيبة بابها.. وأشار لأناس معه قائلاً: تفضلا هذه هي ابنتكم.. نظرت آلاء إلى القادمين وشهقت شهقة الـوله تسمرت عينـاها فـي المرأة القادمة.. ولسان قلبها وعيناها تقولان إنها نفسها بلباسها الأبيض والأسود.. هي بأم عينها تلك التي رأيتها في المنام.. يتبعها رجل مسن ممتلئ القوام..

آلاء مبهورة العينين و مذهولة اللب مشلولة الفكر.. والسيدة تلامس الأرض بأطراف أصابع قدميها متجهة نحوها فاتحة ذراعيها.. انتشلتها من ذهولها بعناقها الحميم. وهي تنادي حبيبتي آلاء.. أنا عمتك آلاء.. وحشرجت الدموع صوت العمة الحنون.. لماذا يعيد التاريخ نفسه معك يا حبيبتي؟؟ ألأنهم سموك آلاء.. أم؟.. تقدم الرجل المسن وصافح آلاء بحرارة الأب والجد.. وهو ينظر إليها نظرة تبعث على الراحة والأمان.. حملت أجنحة الشوق العائلة مع آلاء الصغرى. وفي الطريق قالت العمة..

أنا يا ابنتي عمتك الوحيدة لأبيك قيصر وأعمامك.. ولكن مرارة الحرمان والقسوة والكبت حملتني إلى هذا المكان الطاهر. منذ حوالي خمس وثلاثين عاماً وكان عمري وقتئذ حوالي ثلاثين عاماً..

ومنذ ذلك التاريخ.. انقطعت عني كل أخبار عائلتي بعدما شطبوا اسمي من دفتر العائلة إلا يوم بلغوني بوفاة والدتي جدتك. وعلمت بانها أسلمت روحها للخالق وهي تتضرع له عز وجل أن يمنحني القوة. أما اليوم وبعد كل تلك السنين فقد رأيت وبعد آذان الفجر في المنام رجلاً يرتدي البياض قدماه في الأرض ورأسه يكاد يلامس النجوم.

قال لي: اللهم صلي على النبي يا آلاء في الحرم الشريف وفي الغرفة رقم 25 تجلس آلاء ابنة أخيك قيصر، بسملت عدة مرات وسرعان ما نمت ثانية لأراه يقف أمامي ويقول هيا انهضي آلاء بانتظارك أوصيك بها خيراً – أكرميها كما أكرمك الله.. نهضت أرتجف لبيت نداءه وأخبرت زوجي الذي أجابني هيا بنا نلبي نداءها حالاً.

فاضت عينا آلاء الصغرى بالدموع كجريان نهر في غدق الربيع. وقالت حمداً لله رب العالمين لقد جاءني  فضيلة الشيخ الجليل يرتدي البياض قدماه قربي ورأسه في السماء ليقول لي. يا آلاء ها هي عمتك آلاء قادمة إليك وزوجها.. اذهبي معها.. وهناك سيفتح الله لك باباً هنيئاً للحياة، نظرت فرأيتك أنت بلباسك هذا، وهيبتك وقد جاءني الشيخ ثلاث مرات.. وبعدها جلست أستعرض تاريخ العائلة وفي تلافيف ذاكرة الطفولة.. وجدت اسم آلاء محفوراً في زاوية منسية.. حين خطرت مرة وكنت في العاشرة من عمري أمام والدي في فستان أحمر اللون (وكان رحمه الله يعشق الأحمر) وضفائر شعري تميل على صدري بأشرطة حمراء.. ناداني يومها قيصر وفي عينيه مرارة وجد ودمعة حزن.. وآهة ندم.. تنهد بحسرة وضمني إليه بحنان لم أحسه لا قبل تلك الحادثة ولا بعدها. وقال لوالدتي كأنها عمتها آلاء .. سبحان الله لقد ورثت شكلها واسمها.. وطبعها.. سألته حينها.. من عمتي هذه؟ وأين هي؟ فقال لقد ماتت منذ زمن.. ولقد سميتك باسمها كي تبقى خالدة بيننا.. هذا كل ما عرفته عن عمتي آلاء حتى أخواتي لم يسمعن بالاسم..

مضت آلاء مع عمتها وزوجها إلى جدة وهناك عملت كمدرسة وأغدقت على والدتها وأخواتها بكل ما حصلت عليه. وأنقذت حياة والدتها بإجراء عملية جراحية لها.. وقد أكد الأطباء أنها حالة نفسية شديدة أدت إلى اضطراب الإفرازات عند الأم.

تزوجت آلاء رجلاً ثرياً وأنجبت أطفالاً. ومنذ ذلك التاريخ نسيت أمها وأخواتها الحاجة المادية والفاقة برغم استيلاء الأخ الظالم على كل أملاك والده التي يصعب حصرها...

 

أضيفت في 15/11/2004/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية