أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: أدهم مطر-السعودية

       
       
       
       
       

نصوص2

نصوص1

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

أديب وكاتب قصة وشعر من السويداء

بدأ الكتابة منذ المرحلة الثانوية المبكرة،

شارك بالكثير الكثير من الأمسيات الأدبية /شعراً ونثراً وقصة /

وقد فاز بالدرع الذهبي في مهرجان الإبداع الأدبي لعام 2004 في دمشق /دورة المرحوم ممدوح عدوان/

له مخطوطات لمجموعات قصصية اربع

ولديه المئات من القصائد وديوان كبير اسمه /تقاسيم على ناي مكسور /

وهو ديوان من عدة مجموعات كلها مطبوعة وجاهزة أن يتبناها أحد بعد قراءتها وفهمها،

يعمل في مجال الترجمة، يُترجم الكتب من الإنكليزية للعربية

وقد درسها في جامعتي دمشق وبيروت وله بعض المحاولات لكتابة الشعر بتلك اللغة.

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الميت الذي عاد

 المحفظة

أخي

سالي 

مأساة محاسب

الحلاب

المزهرية

ربيع

شهيد

الإرهابي

 

 

سالي

 

المطر !!! هذا الرّحيق الإلهي الذي يُطهّر الطبيعةمن غبار الفصول ، ويغسل قلوب الناس ، يسقي ورود الحزن في نفوسهم ، ويفتح أمام المواقد الودودة أبواب الذكريات  وحكايا الماضي ، يلمُّ شملَ العائلات ، وتنهمك الأمهات والجدات في تراثهنّ القديم المتجدّد ، يتفنّن في استعراض مأكولاتهن الممُيزة حين يلتمّ الأبناء والأحفاد حول الموائد التي تفيض منها نكهة البركة والبساطة .

يتحلّقُ الشبان حول مواقد الحطب ، ينُظفّون أسلحة الصيد القديمة الموروثة عن الأجداد ، ويضعون اللمسات الأخيرة لرحلات الصيد المبُكّر التي لا تنسى ، وينعكس لهب حطب اللوز والزيتون على وجناتهم التي احمّرت إثر تناول كؤوس النبيذ البيتي المعُتّق وحبّات العنب المجففة .

المطر ينهمر ، يزداد كثافة ، فتغتسل حجارة البيوت البازلتية في البلدة القديمة ، وتنبعث رائحة التراب المنعشة من الشوارع الضيقة والتي كوّنت فيها السيول جداول صغيرة .

 المطر ، وأنا أمشي تحته بمتعةٍ غريبة ، لا شيء أجمل  من السير تحت المطر حيث تنفتح آفاق التأمل  فهذا المطر الذي يغسلني منذ ثلاثين شتاء ، قد غسل أجدادي وأجدادهم ،لكن العلاقة بين البشر والمطر أعمق بكثير ، المطر هو الذي كوّن البشر عندما امتزج بالتراب ، أليس الإنسان في نهايته حفنة تراب وكأس ماء؟

العلاقة أعمق ، أعمق ، وهذا ما يفسر الحنين الجارف لعشق الناس للمطر، نحن جميعا أبناء المطر ، أبناء التراب !! .

دفنت تلك الأفكار المطرية في ذاتي المتسائلة حين وصلت إلى مبنى مديرية التربية ، كان المطر قد بللني تماماً ، فلُذتُ تحت سقف مرآب السيارات القرميدي ، ورُحتُ أنفضُ عني قطرات الماء التي تحّولت إلى بللٍ حين امتصّتها ملابسي .

دخلت المبنى الجديد ، كانت الفوضى عارمة في الداخل ، فقد انحشر الموظّفون والمراجعون والطلاب في سراديب وممرات المبنى ، منهم من ينتظر توقف نوبة المطر، ومنهم من جاء ليراجع في أمر ٍما  ومنهم من أتى ليرى نتائج مواده خصوصاً وأن قسم الامتحانات يضم كل نتائج المراحل الدراسية  الجميع يدخلون خائفين ويخرجون بعد لحظات ، بعضهم يوزع ابتساماته على من حوله فرِحاً ، وقد ضاق به المكان لسعادته بنجاحه ، وبعضهم الآخر يخرج كئيباً ، يائساً، دامعاً ، وقد ضاق به نفس المكان لدرجةٍ يكاد معها أن يختنق .

سألت الآذن العجوز عن قسم الفرز فأشار بيده المتجعدة إلى نهاية الممر على اليمين، خُضتُ في الزحام ثانية ، وقد بدأت تساورني شكوك شتى ، ماذا لو لم تصل أوراقي بعد ؟ ماذا إن فضّلوا علي أحد الذين لديهم معارف أو نفوذ ، فنحن في زمنٍ لا حول للبسطاء فيه ، ولا مكان للذين يشقّون طريقهم دون مساعدة ، لقد تعقدت الأمور واختلطت ، وسادت بيروقراطية من نوع جديد  بيروقراطية جيوبها المطاطية كبيرة ، بيروقراطية المحسوبيّات ؟!

تتوالى الأسئلة على ذاكرتي كالمطارق ، لكنني سرعان ما أُبعِدُ تلك الوساوس ، فأنا الناجح الأول في المسابقة التي أجرتها مديرية التربية لانتقاء مدرسين للغة الإنجليزية

طرقتُ باب مكتب مدير الفرز ، فتحته بهدوءٍ والخجل يحتلُّ تفاصيل وجهي الذي أُحسّه مُلتهباً ولا أزال أعاني من عقدة الخجل من الأساتذة ، حتى الذين علّموني في المرحلة الثانوية ، كنتُ حين أراهم يسيرون  في أول الشارع باتجاهي ، أهرع عائداً من حيث أتيت ثم أتوارى عن أنظارهم .

دون مقدمات ، ناولني مدير الفرز كتاب تكليف صغير ، و هنّأني ببر ود على قبولي مُدرِّساً جديداً في المدرسة الإعدادية لإحدى القرى النائية ، مُبارِكاً لي انضمامي لأسرة المدرسين ، متمنياً لي التوفيق  وحين قلت له أنني قدّمت طلباً للتدريس في مدرسة المدينة التي تعلمتُ فيها صمتَ قليلاً ثم أجابني بلهجةٍ عصبيةٍ لا تخلو من الارتباك :

هل تعتقد أن الأمر بيدي يا أستاذ ؟ لقد نال زميلك فرصة التدريس بتلك المدرسة وفهمك كفاية  تفضل ولا تحرجني أكثر ، مع السلامة .

وزميلي ذاك هو ابن أحد معاوني المحافظ في المدينة .

 توقف الباص العتيق الذي عايش الحرب العالمية الثانية – والتي لا تزال آثارها واضحة على هيكله الصدئ - بصعوبة بعد رحلةٍ طويلة استمّرت أكثر من ساعتين صعوداً و نزولاً عبر الطرق الجبلية الوعرة .

كانت القرية هادئة ، والشوارع شبه خالية ، وكانت ثّمة آثارٍ رومانية تناثرت هنا وهناك وتلاحمت مع بعض البيوت الإسمنتية الحديثة البناء .

ترجّلتُ من الباص حاملًا كتبي وأشيائي الخاصة في كيس بحّارةٍ قديم كان لوالدي ، أهل القرية البسطاء يُميزون بوضوحٍ كل غريب يطأ قريتهم ، لكن وجوههم المُكتنزة والفيّاضة بالبراءة تبعث على الودّ فلا يشعر الغريب بالوحدة ، سألت فلاحاً مَرّ بقربي ممتطياً حماره عن المدرسة ، فأشار بعصاه إلى بيتٍ حجريٍ كبيٍر مؤلف من طابقين ، ولم ينس أن يدعوني بكرمٍ فطري للاستراحة في منزله رغم أنها المرة الأولى التي يراني فيها .

 رحَّب بي مدير المدرسة الكهل،وهيئة التدريس القليلة العدد ، قال لي أستاذ مادة الرياضيات مازحاً :

-أهلا بك في منفانا السيبيري يا زميل !

لكنني لم أفهم ماذا يقصد آنذاك ، رددتُ التحية بخجل طالبٍ ثانويّ ، فكم أنا صغير أمام خبرات أولئك الأساتذة القدامى .

كانت المدرسة " الحجرية " كنيسة رومانية قديمة في مملكة " سالي " ،  هذا ما قاله لي أستاذ مادة التاريخ المهووس بالآثار الرومانية ، وبخاصة مملكة  " سالي " فقد ترك زوجته وأولاده وجاء إلى هذه القرية البعيدة الجليدية ليتابع دراساته حول هذه المملكة التي لاتزال القرية تحمل نفس اسمها " سالي " ، ويُصرّ ذلك المعلم على أنه يسمع في كل ليلة خميس وقع الدواليب الحديدية وحوافر الخيل وصليل السيوف على البلاط الحجري المحيط بالمدرسة والنبع الروماني القريب ، والذي لا يزال أهل القرية يشربون منه حتى اليوم ، بل أنه يتمادى في حديثه لدرجة أنه يعتقد أن ملكة سالي تزوره في ليلة كل ليلة خميس ، وتأمره بالبقاء معها  لذلك كان يمضي ُجلّ يومه بين أنقاض ديوان القصر الملكي الذي لا تزال أطلاله واضحة، ويعتقد أن سالي الملكة ستعود لتكرر المذبحة ، وكان ينتفض مشدوها حين  نجتمع لتناول الشاي، صارخاً :

ستعود ، لابد أن تعود ،  لقد قالت لي ذلك !!

 وحين سألته عن هذه الملكة ، أجابني بشيءٍ من الخشوع :

-إن هذه الملكة قد خلّصت شعبها من الفقر والفساد الذي كان سائداً، فرغم أنها مملكةٌ غنية إلا أن البعض احتكر غذاء الكل ، واستفحل خطرهم ، ولما لم تستطع أن تُعيد العدالة والحرية ، دعت كبار قادتها وتجار مملكتها إلى وليمةٍ كبيرة، وذبحتهم هناك ، ثم انتحرت فكانت  كبش فداء لشعبها المقهور الجائع.

وفوجئتُ أكثر حين علمت من مدير المدرسة أن أستاذ التاريخ هذا قد حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس ، وكانت " سالي " أطروحته ، لكنه حين عاد وجد خطاب تعيينه هنا بدلاً من التدريس في الجامعة ،  فانفصمت شخصيته .

كان طلاب المدرسة الوحيدة يأتون من عدة قرى كل صباح سيراً على الأقدام ، أو على الحمير ، أو يتجمهرون فوق أحد الجرارات الزراعية النادرة الوجود ، وما أن يبدأ الدرس الأول حتى يغطّ معظمهم في نومٍ عميق  ، في البداية كنت أغضب كثيراً لعدم استيعابهم الدروس ، لكنني أصبحت أعذرهم  فيما بعد واضطر لإعادة شرح الحصة عدة مرات سيما و أنهم يعتقدون أن مدرس اللغة الإنجليزية لا بد و أنه جاء من دولة أجنبية ، أو هبط من كوكب آخر ، و أغلبهم يظن أن الشهادة الثانوية هي أخر محطة في رحلة العلم .

 لقد كان هناك الكثير من الأشياء التي لابد أن تفهمها تلك الأجيال المنفية البعيدة عن كل ما يسمى حضارة ، رغم أن سالي كانت هناك ،  بأوابدها الشامخة ، و المسرح الروماني لا يزال يردد أصداء ملاحم " دانتي " و " جلجامش " و أشعار " هوميروس " و أساطير " عشتار ".

-لا بد أن نذهب للتعزية !! قال لي مدير المدرسة بلهجة حزينة في ذلك الصباح الناصع البياض

 و قد كفّن الثلج القرية حتى النوافذ ، و سدت الطريق الوحيدة المؤدية إلى المدينة تماما .

 بدأ يشرح لي الأمر ونحن في الطريق ، وقد امتطينا بعض الحمير ، فبينما كان الثلج يتساقط بغزارة منذ عدة أيام ، كان في القرية المجاورة ثلاثة أخوة يؤدون خدمة العلم ، و يتحتّم عليهم الالتحاق بمواقعهم إلا أن الثلج قد حال دون ذلك ، فقرروا أن يغامروا بالنزول إلى المدينة سيرا على الأقدام ، و في الطريق تاهوا، و غاصوا في تل ثلجي عميق لم يستطيعوا التخلص منه فماتوا ، و بعد يومين انتشلتهم صدفة جرافة البلدية التي كانت تفتح الطريق ، و تبين أنهم كانوا ملتصقين ببعضهم في محاولة فاشلة لنشر الدفء في أجسادهم المتجمدة .

 عدنا إلى القرية بصعوبة ، و كانت السماء تنذر بعاصفة ثلجية جديدة ، و في تلك الليلة ، أصر مدير المدرسة على دعوتي إلى منزله لتناول "الدهن" ، قائلا بعد أن لاحظ  دهشتي :

-إن تناول الدهن في الليالي الثلجية طقس نحرص على تطبيقه ، خاصة مع الأطفال خوفا عليهم من أن يموتوا و هم نيام لشدة الصقيع في الليل !!.

في الصباح التالي ، أفقت على أصوات بعيدة تناديني بأن أنهض ، وحين فتحت الباب كانت دهشتي بالغة حين لم أر شيئا ، سوى بياض ناصع يبهر الأبصار ،  فمنازل القرية مغطاة تماما بالثلج ، و بعض الأهالي يحاولون فتح سرداب صغير بين هذه التلال الثلجية لإنقاذي من الحصار ، كان مستوى الثلج أعلى من سطوح المنازل ، وقد خشع قلبي و بصري لهذه اللوحة الطبيعية المستحيلة ، البيوت

و المدرسة و مركز البريد ، و أعمدة النور التي أصبحت مجرد أوتاد بعد أن غادرتها الكهرباء منذ زمن بعيد ، كل شيء قد اختفى ، ابتلعه الثلج ، و لم ينقذ أهل البلدة سوى حوامة عسكرية ، رمت أكياس الخبز و الشاي الجاف و بعض المعلبات فوق منزل المختار ، ثم غاصت في الغيوم الرمادية المنخفضة ، و لم تعد .

 في ذلك المساء ، و قد اجتمعنا حول موقد الحطب في منزل مدير المدرسة ، أعلن أستاذ التاريخ أن سالي الملكة غاضبة جدا ، و قد أمرته أن يتعمد بماء نبع القرية لأن وقت عودتها قد حان لتمنحه شرف الحرية من منفاه ؟!

 لقد كانت كلماته المرتجفة ممزوجة بإصرار غريب ، و نظراته المتراقصة تؤكد اقتناعه بما يقول ، لكننا  و قد اعتدنا على أفكاره الرومانية تلك لم نُعر للأمر أهمية بقدر ما أشفقنا عليه .

 في صباح يوم الجمعة التالي ، أيقظني آذن المدرسة باكرا ، كان منفعلا ، وطلب مني أن أذهب إلى المدرسة فورا ، فالمدير يريدني ، و رغم أنه يوم عطلة ، فقد ارتديت ملابسي وذهبت ، كان جميع الأساتذة هناك ، و أهل القرية ، و المختار ، و كانت المفاجأة حين طلب منا مدير المدرسة الذي بدا حزينا ، كئيبا ، و كالح الوجه أن نتبعه ، ثم سار بنا بين تلال الثلوج باتجاه أنقاض القصر الروماني ، و هناك كان أستاذ التاريخ طافيا فوق مياه النبع المتجمدة ، و كان عارياً .. ..

أضيفت في 15/10/2005 / * خاص القصة السورية

 

 

 

 أخي ..

 

رنّ جرس الهاتف على مكتبي في الوظيفة الرسمية عدة مرات قبل أن أجيب ، كنت مشغولا بتنظيم البريد اليومي الذي سيدخل جناح الوزير للتوقيع عليه ، رفعتُ السمّاعة،جاءني صوته بعيداً ،ضعيفاً،مرتبكاً، ممزوجاً برجفةٍ واضحة :" أنا انتظرك في المطار !!".

المطار ؟؟ ما الذي جاء به إلى المطار ؟؟ ما الذي يريده من المطار ؟؟ لم بد ا صوته هكذا ؟؟

ارتجفت مفاصلي لمجرد التفكير بأي أمر سيء ،  فقد كنت قد أفقت للتوّ من صدمة وفاة أحد الأصدقاء ، و لم أزل أعاني من دواماتٍ مفاجئة تكتسح رأسي ، و من كوابيس و ذكريات تؤلم نفسي .

رميت القلم من يدي ، نهضتُ كالملسوع ، ناديت الآذن العجوز الذي أتى مهرولاً كعادته ، طلبت منه  الانتباه للمكتب ، ثم أخذت محفظتي و نزلت الدرج بسرعة ، لم اكترث للتحيات الصباحية التي ألقاها علي زملائي ، و ما أن خرجت من مبنى الوزارة إلى الشارع ، حتى لسعتني شمس تموز ، وأربكني ضجيج السيارات و فوضى الحركة.  قفزت إلى الرصيف المقابل ، تلمَّستُ محفظتي ثانيةً ، أشرت لسيارة أجرة سرعان ما توقفت، و طلبت من السائق الانطلاق إلى المطار بأسرع ما يمكن .

بدا لي الطريق طويلا جدا ، و كأن المطار في بلد آخر ، حاول السائق أن يحادثني لمجرد التسلية  و لكنه عدل عن فكرته ، حين لاحظ أنني أنظر إلى الأشجار التي تعبر بسرعة جنونية من النافذة .

عجيبة هذه الدنيا ، عجيب هو الإنسان ، أتساءل كم عيناً تعلَّقت على هذه الأشجارو هي تغادر الوطن ؟؟

كم نظرةٍ عشّشت بين الغصون تستجدي البقاء  ؟!..

طعم فنجان القهوة الصباحي المر لا يزال عالقاً بفمي ، تلمّست رقبتي ، فأدركتُ أنني نسيت ربطة عنقي على مشجب المكتب ، ِلم َ هذا الشعور بالاختناق رغم أن رقبتي حرة

أعلنت إذاعة دمشق في المذياع تمام الحادية عشر و الربع ، غيرّ السائق الإبرة نحو إذاعة أخرى، جاءني صوت فيروز الرّطب " يا جبل اللي بعيد ، خلفك حبايبنا .." طلبتُ من السائق أن يرفع الصوت قليلا ، لا أدري ما الذي يدفع عواطف الإنسان كلّها لأن تثورَ دفعةً واحدة !! أهو الحنين ؟ أهي الذكريات ؟ أهو الحزن الساكن نقيّ عظامنا ؟؟ أم السعادة التي أوهنت قلوبنا من كثرة الحلم بها ؟؟

أحسُّ ، وكأنّ بحراً من الدموع تحجزه عيناي و كم أخشى أن يفيض .

أيقظني شرطي المرور على باب المطار من شرودي ، طلب هويتي الشخصية ، قلَبها ، ثم أعادها ، تابعنا المسير حتى باب القاعة الرئيسية ، نقدت السائق الأجرة ، كانت كبيرة  لكنني لم أهتم كثيرا لذلك  شكرته و نزلت .

دلفتُ القاعةَ،فاجأني الضّجيجُ ثانيةً،جميع مَن في القاعة يتحركون بكل الاتجاهات وكأن مسَا قد أصابهم و أصوات مكبرات الصوت تُعلِن إقلاع طائرات،و هبوط أخرى ، تارةً تأمرُ المسافرين للتأهّب،وتارة أُخرى تتمّنى للقادمين السلامة ، و طيب الاقامة .

 ُجلتُ بنظراتي في أنحاء القاعة الدمشقية الفسيحة ، رأيته ، بطوله المميز ، واقفاً هناك بجانب حجرة الهاتف العمومي  ينظر مثلي ، كان واهناً ، ضعيفاً ، و عيناه معلّقتان على باب الخروج ، شعرتُ بأنه خائف ، ركضتُ نحوه ، رآني أركض باتجاهه، تعانقنا ، ربطتنا تلك الرّحم ، و ذلك الدم الواحد الذي يجري بجسدينا ، أحسستُ بالارتواء لما عانقته،حاول بحر الدموع أن يفيض ، أسكته حين مسح بيده المرتعشة دمعتي ، امتزج طعم الدموع بطعم المرار في فمي ، بلعتُ ريقي بصعوبة ، جلسنا على أحد المقاعد ، تأ مّلتُهُ ، رجوته أن يتراجع عن سفره إلى " ليبيا " ، أجابني بحرقة ، طلب مني أن أدعه ليُجرّب حظّهُ بالسفر ، تأمّلتهُ ثانيةً ، رأيتُ إصراراً ممزوجاً بالخوف في عينيه الزرقاوين رجوته ثانيةً لأن يبقى و يُكمِلَ دراسته ، ابتسم و صمت ، تناول محفظته الصغيرة ، فتحهاوأعطاني بعض الأوراق

وجواز سفره ، و طلب مني إكمال المعاملة في مكاتب المطار  فهو لا يحُسِن التصرُّف،سيما و أنها المرة الأولى التي يأتي بها إلى هنا،نظر بعضنا إلى الآخر بصمت،أحسسنا سوياً بمرارة الغربة،أخذتُ الأوراق وطلبت منه أن يتبعني .

بدأتُ أتنقَّلُ ِبخفّةٍ بين أروقة المكاتب الحكومية ، ختمٌ هنا ، و توقيع هناك ، استرقُ النّظر إليه و هو يمشي خلفي بتثاقل ، يجوب بنظراته التائهة على الناس ، و اللوحات الإلكترونية ، آه ، كم هو صغيرٌ  على السفر ، أتعجَّبُ من نفسي ، كيف أُنجز معاملةَ سفره بهذا الحماس ؟ بهذه الروح المنُفعلة ؟ما الذي يجري ؟ إني أُبعِده عني بيديّ ، إني أُعجّلُ في رحيله عن أمه،عني ، عن هذا الوطن ، آه ، كم هو واسع و ضيق هذا الوطن ؟؟

استرقتُ النّظر إليه ثانية ، وجهه مُصفرٌّ ،ضبط نظراتي هذه المرة، ارتبك،حاول أن يبتسم ففشل .

أمام مكتب التأشيرة وقفنا ، ناولتُ الموظف الأوراق و جواز السفر ، لا أدري لماذا تلمَّستُ الجواز ، فَرَكتُهُ بأناملي  أحسستُ أنه غضٌ ، طريٌ جداً ،وحين فتحه الموظف على إحدى الصفحات أمسكَ ختماً كبيراً،وختم الجواز  شعرت إذ ذاك بوخزةٍ قاسيةٍ في صدري وكأنَّ الختمَ كان على قلبي ؟ .

رمى الموظف الأوراق أمامنا ، وطلب منا التوجّه إلى باب المغادرة دون أمتعة،كانت أمتعته حقيبة صغيرة، توجّهنا مع بقية المسافرين إلى باب الخروج ، وهناك أوقفني شرطي إذ لا يُسمَح لي  بالمتابعة إلى باحة المطار .

وقفنا بصمتٍ ، بدهشةٍ ، كأننّا تمثالان من شمع ، أمعقول أننا سنفترق ؟؟

أمسكتُ بيديه ، كانتا باردتين ، بلعَ ريقه ، لم أستطع أنا ذلك ، فتح لي ذراعيه النّاحلتين و ضمّني  بقوة ، شعرت بأنفاسه المتُسارعة السّاخنة على عنقي ، سمعتُ قلبه المتُعب يبكي، أحسستُ بأوردته تحاول التّشبث بدمي ، لم أُرِد تركه إلا أن الشرطي نبّهنا بضرورة الإسراع،أبعدتُ نفسي عنه بصعوبة، فاضت دمعتان ، مسحهما بيده ثانية ، قال بأنه سيراسلني حين يصل ، طلب مني الاهتمام بصحتي وزوجتي ، و الأولاد ، ثم انخرط وسط الناس ، و ابتعد طيفه عني رويدا ، حتى بدا صغيراً  أمام ضخامة الطائرة .

أدركتُ الآن كم فقرنا كبير ، و أنه و القدر ، مُتّفقان على حياتنا،شعرتُ و كأنّه لا أحد في المطار سوانا ، عيناي التائهتان ، تنظران للأشياء و لا تريان شيئا ، تنهّدتُ  فخرجت تنهيدتي من صدري  كالجمرة،طعم حريق في فمي ؟ و الغربة تسكن روحي منذ الآن .

صعد أخي سلم الطائرة ، لم أعد أراه ، فاض بحر دموعي ، لقد غلبني و فاض ، أغرق روحي بفيضانه وأصبحت الدموع حاجزاً بيني ، وبين الرؤيا ، أقلعت الطائرة ، أٌقلع أخي  و أقلع معه قلبي .. ؟ ..

 

 

المحفظة ..

 

انسحبت آخر شعاعات الشمس بهدوء معلنة بدء المساء،ونهضت الرياح من سباتها الطويل جالبة معها قطعان غيوم رمادية ، ناشرة رائحة المطر

كنا في أوائل كانون،ونسيمات الشتاء باردة ، تلفح الوجوه ، و تهزّ أوراق أشجار الأرصفة ، بدأ  الناس يستعدون لاستقبال هذا الضيف البارد ، فالشتاء بالنسبة لأهل المدن عبء ثقيل ، تكتظّ الأسواق بالمواطنين فجأة ، فهذا يحمل مدفأة جديدة ، و ذاك ينوء تحت ثقل " بيدون المازوت " الذي ملأه من محطة المحروقات ، إنه الشتاء ، هذا الهمّ الكبير الذي هبط من السماء فجأة .

انهمرت قطرات المطر الأولى بخفّة على الأرض العطشى ، فتشرّبتها بسرعة،وما هي إلا دقائق ، حتى استحمّت الأشجار ، نافضةً  عنها غبار الخريف ، و اغتسلت الشوارع  ففاحت تلك الرائحة الرّطبة المحُبّبة ، و انعكست أضواء أعمدة النور على الإسفلت النظيف ، أما في الأحياء النائية المتناثرة على أطراف المدينة ، فقد غاصت شوارعها الضيقةوغير المُعبّدة في بركٍ من الوحل ، وبدت البيوت الطينية الصغيرةوكأنها قد تكوَّرت على نفسها لاتّقاء الريح ، محاولةً التشبّث بأسقفها المكونة من صفائح الزنك الصدئة .

في أحد تلك البيوت ، كان " أسعد " يحاول إشعال " بابور الكاز " لينشر بعض الدفء لأولاده النيام ، إنها العاشرة ليلاً الآن ، و لا بُدَّ له أن يذهب إلى مبنى البلدية لاستلام العَرَبة قبل البدء بعمله الليلي ، نهض بسرعة ، ارتدى لباس العمل البرتقالي  انتعل حذاءه المطاطي ، رمق أطفاله بنظرةٍ حنونة  ثم حمد الله مرتين ، و أغلق الباب الخشبي المُتفسّخ خلفه،وضاع في عتمة الليل .

وصل إلى البلدية بعد عناء ، استلم عربته البرتقالية المهترئة ، والتي تفوح منها رائحة العفن وكذلك مكنسته  الشعثاء ذات الساق الطويلة ، ثم توجه إلى قطاع عمله في شوارع المدينة الحديثة .

كان أسعد في الأربعينيات من عمره إلا أن ملامحه،وتجاعيد وجهه الكثيرة وسحنته الداكنة ، تعطيه ُعمراً أكبر وكأنه شيخ عجوز ، زملاؤه في العمل يلقبّونه بالأعرج ذلك أن ساقه اليمنى أصبحت أقصر من اليسرى بقليل بعدإصابته أثناء حرب حزيران عام سبعةوستين، فهو حين يمشي،يبدووكأنه يصعد و يهبط بوتيرة منتظمة .

شرع يكنس الشوارع يشكل روتيني اعتاد عليه لأنه يحفظ كل شبر من المنطقة المكلف بتنظيفها كثيراً مايُصاب بالضيق حين يصل أمام بعض المنازل الفخمةفالشوارع هناك تكون وسخةجداً وخاصة في الليل ، يتساءل دائما ، " لماذا لا تكثر القمامة إلا أمام منازل الأكابر ؟؟. "

لكنه يقوم بجمعها بتأنٍّ ، و ينظف مكانها .

كان الجو بعد منتصف الليل هادئاً ، رطباً ، منعشاً ، يوحي بنوبة مطرٍ جديدة ، وحين وصل إلى أحد المفارق،انعطف، وحاول تثبيت العربة الثقيلة الممتلئة بأكياس القمامة ثم وقف ليلتقط أنفاسه المتعبة، و بينما هو كذلك ، لمح شيئا صغيرا ملقى على الرصيف . 

اقترب ببطء  ، تسمّرت عيناه ، دُهش لما رأى ، إنها محفظة جلدية سوداء منتفخة، التقطها أسعد بيدين مرتعشتين ، فتحها ، وجدها مليئة بأوراقٍ نقديةٍ خضراء لم يعرف ماهيتها ، دسَّ المحفظة في جيب سرواله ، وحاول متابعة عمله ، لكنه سرعان ما انتابته نوبة قلق شديدة :

" ترى من يكون صاحب المحفظة ؟؟ لا بد أنه يبحث عنها الآن ؟"ثم حزم أمره وقرّر أن يُسلِّمها لمخفرالشرطةالقريب،وهناك وقف أسعد أمام صف الضابط المناوب مُعلناً أنه وجد محفظة نقود،تناول الشرطي المحفظة،قلَّبها،نظر إلى أسعد نظرة شكٍّ ، ثم قرر احتجازه حتى الصباح ، ريثما يتم الإعلان عن المحفظة المفقودة.

لم يفهم أسعد أبعاد الموضوع ، و لماذا يريدون احتجازه ، طلب من الشرطي إذناً للذهاب لتسليم العربة ، ووعد أن يعود ، إلا أن الشرطي رفض بشدة ، ارتبك أسعد فقدطلع ضوء النهار،و إن تأخرعن موعد تسليم العربة ، سيتّهمه ناظر البلدية بالتقصير وبأنه كان نائماً أثناء الليل، و سيفصلونه عن العمل ، فالعربة مهمة جداً بالنسبة لهم  وزميله في الوردية الصباحية سيكون بالانتظار و سيصبح بلا عمل هو الآخر .

توسّل إلى الشرطي ثانية ، لم يكترث الأخيرله ، زجره ، وأمره بالتزام الصمت  وأفهمه بأنه لا يستطيع إخلاء سبيله قبل قدوم صاحب المحفظة ، و التأكد من صحة المبلغ الموجود  . 

فقد أسعد الأمل بالذهاب ، وجلس على بلاط الدرج ينتظر ، مرّت الساعات بطيئةً، ثقيلةً، ممُِلّةً

وقبيل الظهر ، وقفت سيارة فارهة أمام المخفر ، نزل منها رجلٌ بدينٌ  يحمل بيده سيجاراً كبيراً  دخل المخفر بسرعة ، غير آبهٍ بأسعدَ الذي ألقى  برأسه على الجدار،واستسلم لإغفاءة عميقة .

صرَّح الرجلُ بأنه صاحب المحفظة،ولم يلحظ فقدانها بالأمس،فقد سقطت منه سهواً وهو يهمُّ بمغادرة أحد الملاهي الليلية .

ناوله الشرطي المحفظة بعد إعطائه لأوصافها،وقال بأن عامل التنظيفات أسعد،هو الذي وجدها صدفة  فتح الرجل محفظته ، وبدأ  يَعُدُّ النقود بلهفةٍ واضحة ، ثم أعلن بأن المبلغَ كاملٌ،إذ ذاك نادى الشرطي أسعداً،وحيّاهُ لنُبله واعتذر منه عن سوء الظنِّ،مُعرِّفاً إياه على صاحب المحفظة الذي شكره وصافحه بحرارة ، ثم ناوله خمسون ليرة عربوناً على إخلاصه وأمانته.

انطلق أسعد إلى البلدية بأسرع ما أمكنه ، ثم توجّه بعدها إلى بيته الغارق في الوحل،عاد إلى بيته يائساً ، خائباً ، قلقاً .

لقد حفظ أسعد الأمانة ، لكنه خسر الوظيفة ؟؟.

 

 

الميت الذي عاد …

 

 

لم يكن في غرفة المشفى البيضاء إلا ثلاثة أشخاص ، عمي،وشقيقي الأصغر وطبيب العناية المشددة الذي أعلن وفاتي رسمياً بعد أن نزع عن صدري المسابر الطبية والكهربائية التي زرعوها على جسدي عند دخولي قبل ساعتين .

أعلن الطبيب النتيجةَ بكلماتٍ باردة اعتاد عليها :

- " إن القلب قد توقف جرّاء سَكتةٍ مفاجئة وحدثت الوفاة ، الأعمار بيد الله"ثم أغلق الباب خلفه تاركاً الاثنين الواقفين بجانب الجثة في ذهول،ما لبثا أن انفجرا ببكاءٍ مرير

تمت إجراءات شهادة الوفاة بسرعة غريبة ، و نقل الجثمان إلى سيارة الإسعاف التابعة للمشفى كي يتم دفني في مقبرة البلدة .

دقات القلب توقفت ، و توقفت معها الحياة ، و الذكريات ، و الطبيعة ، كل شيء توقف فجأة تجمّد الزمن في عروقي ، و النور انسحب إلى الكون الأزلي ،وهاأنذا الآن في بحر الصمت السرمدي لكنني أرى كل شيء ؟ أسمع دبيب الحركات  و فحيح الأصوات ، و همسات الطبيعة ؟ ياإلهي ؟؟ إني أعي تماما ما يدور حولي ؟ كيف ؟؟؟

هاأنذا ممدد على أرض القاعة الخاصة بالمآتم ، إنها قاعة النساء ، أرى جثتي ، أرى الناس، هاهم أخوتي ، أعمامي ، أصدقائي ، الجيران ، جدي ، وآه ، هاهي ذي أمي  وجهها مُزرقٌّ ، أسمع صوتها المتحشرج فوق رأسي ، إنها تبكي بوقار ، تناديني ، تفرك يدي برفق ،تمسح جبيني بفوطتها المبللة بالدموع ، ثم تُقبّلَ وجنتي الباردة ، آه لو أنني أستطيع مناداتها،كيف يحدث هذا،لا شيء حولي سوى فضاءٍ شاسعٍ ، وصمت، يا لهذا العالم الواسع الذي أراه !! يا لهذا الكون الفسيح اللامتناهي، أشعر بأنيّ أطير ، أرى نفسي طفلاً يرضع ، أرى نفسي في المدرسة ، بين زملائي ، أرى أبي الذي مات منذ سنوات ، كل هؤلاء يسبحون في لون وردي بديع،كل شيء لونه وردي،ويطير في الفضاء ، و كلهم يبتسمون! لكنهم يقولون شيئاً واحداً ، إنني اسمع أصواتهم ، كلهم يهمسون بصوت واحد "لا نريدك  ارحل من هنا ، هيا ، ارحل الآن .. الآن .."

يا لهذا النفق الطويل  الطويل ، يالهذا النور الساطع ، يا لهذه القدرة ؟! كم أشعر بالصفاء ، بالسعادة ينتابني شعور بأن أحُكَّ رأسي ،لكن أين يداي ؟؟ لا يدان لي ؟! لا قدمان ، لا وجه،لاجاذبية  لاشيء سوى عينين تبصران كل شيء و لا تستطيعان فعل شيء، لا شيء سوى السباحة في هذا اللون الوردي نحو ذلك الضوء الساطع جداً في نهاية النفق .

انظر خلفي ، هاأنذا مسجى في وسط المحفل ، و الناس تأتي جماعات ، و أسرتي تتقبّل التعازي بوفاتي  وجدّي المُسنّ يقف مُتّكئاً على عصاه بين أخوتي و أعمامي ، و الكل ينشج بصمت .

لقد ألبسوني ثياباً سوداء ، وربطة عنقٍ حمراء كنت أحبها كثيراً ، هاهم أصدقائي يتقدّمون نحوي،يلفّونني بكفنٍ ناصع البياض ، ثم يضعونني في تابوت خشبي مُزخرف !! إنهم يحاولون حمل نعشي !ينجحون ، ثم يتوجهون نحو الباب الرئيسي ، إلى المقبرة و تتعالى الأصوات و الصرخات ويزداد النحيب .

لم تكن المقبرة بعيدة ، أنظر إليهم ، َجمعٌ من الناس يمشون بصمت وخشوعٍ أمام رهبة الموت و فوق أكتافهم تابوت ، بعضهم يحمل أزهارا ، ويقفون بين الفينة و الفينة يتقبّلون التعازي من المارة .

بينما كنت أطير نحو نهاية النفق الوردي ، وذلك الضوء الساطع ، وقفت فجأة وسط تلك الأشكال الوردية البديعة !! لا أدري ما الذي أوقفني ، أية قوة ؟؟ ثم بدأت أنسحب إلى الخلف بسرعة لا مقاييس بشرية تستطيع التحكم بها،إنها سرعة قدرية!! لقد تراجعت المناظر كلها و الوجوه والأشياء  و الألوان المختلفة ، كل هذه الملاحم تتباعد عني  و أنا انسحب إلى الوراء .. إلى الوراء  ، إلى أن أصبحتُ  فوق الجمع،فوق جسدي كيف يحدث هذا ؟ تأمّلتُ وجوه الجميع ،كلهم عُبُوسٌ، ثم وكمن يقع من ارتفاعٍ بسيط اصطدمت بالتابوت ، ثم بجسدي .

كانت الصدمة قوية،وبدأت أشعر بالخدر في يدي ، أحسست بأصابع قدمي،برأسي، تحركت رئتاي امتلأتا بالهواء المعطر الصاعد من ثيابي الجديدة ، لقد بدأت أمتلك جسدي !! حاولت أن أتنفس ثانيةً  نجحت بصعوبة ، لكن سرعان ما انتابني شعور بالهلع ،كيف سأخرج من هذا التابوت ؟ كل شيء حولي مظلم ، و هاهم قد وصلوا إلى المقبرة ، لا بد لي من أن أنتهز الفرصة حين يفتحون باب التابوت واصرخ ، يجب أن اخرج من هنا ، يجب أن أتخلّص من هذا الكفن الملتف على جسدي والذي يحجب عني الرؤية.

لقد أصبح التابوت على الأرض الآن ، كل شيء جاهز، القبرُ محفورٌ و مفتوح كما يجب لاستقبالي  أشعر بوقع خطواتهم نحوي ، يحاولون فتح التابوت ، هاهو الغطاء الخشبي يرتفع ، رئتاي تمتلآن بالهواء البارد المنعش ، يحاولون حملي ، سأنتفض ، ثم انكمشت على نفسي و لملمتُ قواي  وقذفت بجسدي كي أفلت من بين أيديهم ووقعت على الأرض .

صُعِقَ الجميع،ركض جدي نحوي ملهوفاً،وهو يبكي،ويفكّ أربطة الكفن عن وجهي، فتحتُ عيني، آه  إنه وجه جدّي المُغتسل بالدموع، و المسكونِ بالدّهشة،ضمّني إلى صدره بشدة،و راح ينتحب ولكن بسعادة هذه المرّة.

عودتي كانت مفاجأة ، وأية مفاجأة ، حملوني على ذات الأكتاف، وراحوا يزغردون بانفعال عائدين بي إلى القرية ، إنني الميت الوحيد الذي عاد ، وقبره معه  إنني الميت الوحيد الذي لم يمت  

 

 

 مأساة محاسب

  

كان مكان عملي يبعد عن بيتي مسير عشر دقائق اقطعها يومياً على دراجة هوائية عتيقة استعرتها من أحد أصدقائي ، كنت سعيداً  بعملي إلى حدٍ بعيد لأنه وقاني شرّ الفاقةخصوصاً و أنني متزوج

 ولدي طفلة ، و لم أعد عاطلًا عن العمل بعد إنهائي لدراستي الجامعية .

أنصاعُ لقيود الروتين اليومي بملء إرادتي ، و في المساء ، أودّع زوجتي _ التي كانت في الماضي زميلتي في الدراسة – وابنتي ثم امتطي دراجتي شاقاً الطريق الزراعي الوعر إلى مكان عملي وهو "مطعم كبير و ناد ليلي فخم فئة الخمس نجوم ."

حين أصل إلى النادي ، أعاني كثيراً من عدم استجابة أطرافي لإرادتي ، وبخاصةٍ أناملي التي تكون قد تجمّدت من شدة الصقيع، و بعد أن أشحن جسدي ببعض الدفء من أحد المكيفات ، ألج الصالة

وأجلس خلف كرسيَّ المخصص ، ذلك أنني كنت أعمل محاسبًا لصالة المطعم .

كان البرنامج الفني يبدأ في العاشرة و النصف ليلًا ، و ينتهي في الثالثة صباحا – بعض الأيام يمتد أكثر من ذلك – و طبيعة عملي سهلة إلى حد ما ، حيث كنت أقوم بجمع طلبات الزبائن على فواتير خاصة ، ثم أجمع النقود ، و أسُلّمها لصاحب النادي – كثيرًا ما كنت أُصاب بالدهشة للمبالغ الطائلة التي كان الزبائن يدفعونها بسخاء و علامات الرضا و السُّكر باديةً على وجوههم المنتفخة،بل

 ويكرمون النادل الذي استعبدوه ليخدم نزواتهم و ينفذ أوامرهم الغريبة .

في كل يوم خميس ، يستبشر الجميع خيراً ، بما فيهم صاحب النادي و مديرها و"ميتر الخدمة "، قال لي أحد النُدَّلِ ذات مرة :

-" في يوم الخميس يا أستاذ ، لا تعرف من أين تأتيك النقود ، إنه يوم تفرج فيه الكُرَب ، كأنه ليلة القدر ." لكنني كنت أكره هذا اليوم لكثرة ما كانت ترهقني الفواتير المنهمرة ، والمبالغ الخيالية التي تصلني من الزبائن .

تعدّت الساعة الحادية عشر ليلاً ، و لم يكن في الصالة سوى قلة جدا من الزبائن لا يتجاوز عددهم أصابع اليد ، رغم أنه يوم خميس .

بدأ البرنامج الفني في موعده ، وكان ثمة مطرب شاب يزعق تارة، و يعوي حيناً ومن خلفه أعضاء فرقته الموسيقية  يعزفون كالمجانين ، والحضور يتمايلون طرباً و قد لعبت الخمرة في رؤوسهم .

كان السّأم قد بدأ يدبُّ في نفوس العاملين،حينما اندفع أحد الُندّل فجأة إلى داخل الصالة، والبشاشة تغمر وجهه،هرول بين الطاولات بخفّةٍ،وهمس بأذن"الميتر" ثم تابع نحو زملائه المتجمعين حول البار وتمتم بضع كلمات فهمت منها أن أحد"أرباب المال"قد وصل،ومعه ثُلّةٌ من أصحابه و"جواريه ".

لحظات قليلة ، ثم تحولت الصالة إلى خلية نحل ، لا أكاد ألمحُ نادلاً ، إلا و قد امتلأت يداه حاملًا شتى أنواع الأطباق ، وكلها متوجهة نحو طاولة البيك المحاط بالغواني  واحدة تمسح كرشه ، و أخرى تضع حبة عنب بين فكيه ، و ما أن يصفق بيديه ، حتى يتكوم كل من في الصالة لتنفيذ أوامره .

في الواحدة صباحا ، بدأت فقرة الرقص الشرقي ، و اعتلت المنصة راقصة عرَّت أكثر مما سترت وراحت تهز نهديها و ردفيها وكأن جسدها قد أصيب بمسّ ، كنت أحدق بالقطع النقدية الكبيرة التي ينثرها الحضور باتجاهها ، وبقدميها العاريتين،تدوس تلك الأوراق التي تحمل تذكارات لأوغاريت

وصلاح الدين وزنوبيا، وآلهة الينبوع .

صحوت من دهشتي ،فوجئت بنادل يناولني كمية كبيرة من النقود – كلها من فئة الخمسمائة ليرة – وقال لي زاعقاً :

_" البيك يريدنا أن نصنع من هذه النقود طوقا كبيراً !!".

نفّذنا الأمر بسرعة ، وعاد النادل إلى البيك الذي وقف،و ترنَّح ، ثم توجّه إلى الراقصة التي طأطأت رأسها بغنج،قلَّدها الطوق بفخرٍ،ثم قبَّلها، وجلس بهدوء ليفرغ كأس وسكي آخر في كرشه المتُخم .

استمر البرنامج الفني حتى السادسة صباحا ، تذكّرتُ ديوني الكثيرة ، وابنتي التي ستكمل عامها الرابع بعد غد ، وكم طلبت مني أن اشتري لها دراجة صغيرة  كدراجة ابنة الجيران ، دمعت عيناي وسط هذا الصخب المجنون ،ترى ، ما قيمة الدموع في مكان كهذا ؟؟

أيقظني نادل آخر من شرودي ثانية ، أخذ فاتورة البيك ، وذهب مسرعاً ، ثم عادومعه كمية من المال ، رماها على الطاولة و انصرف .

عددت النقود ، ألف ، اثنان ، خمسة ، سبعة ، أحد عشر ، وكانت الصدمة ، أربعة عشر ألفا

وخمسمائة ليرة ، و المبلغ المطلوب يزيد بثلاثمائة ليرة ، أخذت النقود  وتوجهت إلى عمق الصالة

فلم أجده ، فقد غادر في غمرة انشغالي،رن جرس الهاتف وجاءني صوت صاحب النادي عصبيا :

_ " ماذا تفعل حتى الآن ، اجلب لي النقود ، و تعال فورا . "

جمعت كافة النقود  وأخذتها له ، عدّها مرة ، مرتين ، دققها مع الفواتير ، توقف عند فاتورة البيك  حدَّق فيَّ دونما تركيز ، فأدركت أنه سكران ، وقف على قدميه ، ثم صرخ بوجهي :

"– أين باقي النقود أيها المحاسب ؟؟".

ارتبكت ، تلعثم لساني ، حاولت أن أشرح الأمر ، لكنه اقترب مني مُترنّحاً، ثم صفعني بشدة ، وقال

-" أنت مطرود ؟؟؟"

 ثم استقلَّ سيارته و ذهب …

 

 

الحلّاب

 

 

" تازة يا حليب ، تازة الحليب "، كان صباحنا يبدأ بهذه العبارة ، بهذه الجملة ، بهذه الأغنية اليومية التي يتفنّن الحاج " أبو يوسف"بغنائها لأهل الحي مُعلِناً بذلك بدء صباح جديد .

كنت أضبطُ ساعتي يومياً على نغمة هذا الصوت ، " تازة الحليب "يعني أن الساعة الآن السادسة

والربع بالضبط .

منذ عشرين عاما ، كان والدي – الحي آنذاك و الشهيد الآن – يضبط ساعته أيضاً على صوت الرجل كما يفعل معظم رجال الحي ،كان لصوته نغمة مميزة ، حنونة ، تدخل بيوتنا و آذاننا و قلوبنا كل صباح ودونما استئذان فصوت الحلاب الذي صقلته الخبرة بالإضافة لفنجان القهوةوصوت فيروز  ُيشكّلون زاداً معنوياً لنفوسنا القلقة .

كنا نمُيّز صوته فوراً ، رغم أنه يختلط في بعض الأحيان بأصوات الأطفال الذين تركوا المدرسة  وراحوا يجوبون الشوارع ، يشترون الخبز اليابس من الأهلين لكسب لقمة العيش ، و أحياناً يخلطون كسرات الخبز الجافة بالماء ليصنعوا منها عجينة  للصق الأكياس الورقية ،و بيعها للبقاليات من أجل كسب إضافي – ودائما نتعاطف معهم ، فنعطيهم الخبز اليابس الذي يكون قد تجمّع على مدار الأسبوع دون مقابل ،كانوا يفرحون بذلك كمن وجد ثروة ،أبو يوسف أيضاً ، الرجل الستيني  المحدودب الظهر ، الفلاح الفقير الذي أفنى حيا ته بين  المواشي،وبيع الحليب،يتعاطف معهم، يأسف لأجلهم ، و يجود عليهم ببعض الحليب ليكون إفطارهم الوحيد .

حلَّ الشتاء سريعاً هذا العام و دونما إنذار ، استيقظنا في ذلك الصباح المعطر برائحة المطر ، و رائحة التراب الرطب المنُعشة،أفقنا لوحدنا،لم يدغدغ صوت الحلاب آذاننا،شعرنا بأن شيئاًما ناقصاً ، إنه كوب الحليب اليومي الطازج الذي لم يكن على مائدة الفطور .

تجاوزت الساعة السابعة صباحاً،والحلاب العجوز لم يأت بعد ، ارتديت معطفي و خرجت إلى الشرفة ، جلت بنظراتي على طول الشارع ، لم أره ، رأيت بعض رجال الحي ممن افتقدوه أيضا واقفين على شرفات منازلهم ، يتساءلون فيما بينهم عن تأخر الرجل و هو الحريص على توزيع الحليب كل صباح وفي أقسى الظروف دون تأخيركان يفتخر بدقته،ويردد باشّاً"أنامثل ساعةبيغ بن"

فتح أحد الجيران باب شرفته،وآثارالنوم بادية على وجهه،ألقى علينا تحية الصباح ، ثم فاجأنا جميعا :

- لا تنتظروا الحلاب هذا الصباح فهو لن يأت لأنه طريح الفراش لا يستطيع حراكا!!..  المسكين  تعرض بالأمس لحادث سير رهيب كاد أن يودي بحياته .

صَدَمَنا الخبروأَسِفنا له، ثم تابع الرجل حديثه :

-كما تعلمون ، فنحن نشتري الحليب منه منذ عشرين عاما ، لا أذكر أنه تخلف يوما لكنه اعتاد أن يقود حماره إلى السوق  القريب كل يوم بعد انتهائه من بيع الحليب  ليجمع بقايا الخضار من أجل  المواشي،وبالأمس،بينما كان يحاول عبور الشارع صدمته سيارة سوداء،فأغمي على الشيخ ونفق الحمار،شاهدت الحادث بأم عيني ،يا لطيف كان حادثاً  رهيباً، و لو لم يكن أبو يوسف بجانب الحمار لمات أيضا  لكن الحيوان امتصّ الصدمةَ و انقلب جسده إلى حجرة القيادة ، فتكسّر زجاج السيارة الأمامي ، و سقط الحمار على السائق فاختنق الأخير ، وحين  أسعفنا الرجلين بإحدى شاحنات الخضار إلى المشفى ،  تبيّن أنّ ظهر الحلاب مكسور  و لديه بعض النزف في أحشائه ، ما رأيكم لو نزوره  فلرّجل فضل علينا و على أطفالنا .

وافق الجميع بدون تردد ، و اتفقنا على عيادته في منزله ، فكلنا نعرف أين يعيش .

في مساء ذات اليوم ، ذهبت مع رجال الحي لزيارة الحلاب ، كان البستان الذي يعيش فيه جميلاً  واسعاً ، و أشجار الزيتون و الورد تُغطّي المكان ، و تلك الرائحة المميزة للخضرة أشعرتنا بأريحيّة .

لم يكن في  البستان الفسيح إلا بيت الحلاب الطيني بالإضافة لزريبة المواشي الملاصقة،دخلنا المنزل المتواضع ، أذهلتنا رؤيته مُكفَّناً بالجّبس ، و ما إن رآنا ، حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، لم يستطع تحريك مفاصله ، واسيناه ببضع كلمات رقيقة ، وبأن يحمد الله و يصبر ، جلست بقربه وبدأ يشرح لنا الحادث بصوتٍ واهن ، و قد اختفت تلك النغمة العذبة :

-لا أدري يا جماعة إن كان الحمار هو السبب في موت الرجل أم سرعته ، لقد رآني و أنا أعبر الشارع لكنه لم يقف ، كأنه يريد أن يمَُرَّ فوقنا ، لقد كان مُستعجلاً جداً ، ولم أستطع رؤيته لأن نوافذ سيارته سوداء ، لكن، ألم يرني هو ؟؟ ألم ير الحمار؟؟ لقد كان هذا البهيم رفيقي منذ عشر سنوات ، يفهم علي و أفهم عليه."

تعوَّدنا بعد ذلك على شراء الحليب المبستر من البقالية ، لم يعد له تلك النكهة ، لم يعد للفطور أهمية  و أصبحنا نستيقظ متأخرين .

في ذلك الصباح التشريني الرطب ، أفاق أهل الحي على صوت مختلف ، قوي النبرة  صوت شاب صغير ، دفعنا الفضول لمعرفة صاحب الصوت،إنه يوسف،ابن الحلاب"تازة الحليب،تازة الحليب " تحلّقنا حوله ، سألنا ه عن أحوال أبيه ، صمت قليلا  ثم قال بأسى :

" – لقد أعطاكم عمره  منذ عشرين يوماً بعدما أُصيب بنزيفٍ حاد ، و دفنّاهُ في البستان كما أوصى وأنا تركت المدرسة لأنه لا يوجد من يعيل الأسرة غيري ويجب أن يكمل أخوتي تعليمهم ."

ثم مسح دموعه بكمّ قميصه ، و أمسك برسن حماره الصغير و قال باسماً :

_ " ماذا ؟ ألا تريدون حليباً هذا الصباح ؟؟؟."

 

 

المزهرية

 

 

تسلّلت شعاعات الشمس الأولى بخجل على أروقة دمشق القديمة مخترقةً أغصان شجر الصفصاف

والنارنج المحُيطة و مُعلنة انبلاج فجرٍ جديد .

بدأت المآذن في أرجاء المدينة النائمة تدعوا الناس للقيام ، للصلاة ، للسعي ، لذكر الخالق و اختلطت أصوات المؤذنين بتغريد طيور السنونو التي افتتحت صباحها بتحليقٍ استعراضيٍ ، سريعٍ ، و نشيط .

إنه يوم جديد ، كل فرد يَعُدُّ العُدَّة لاستقباله على طريقته ، روائح الخبز الشهية المنبعثة من الأفران القريبة تعلن بدء إنتاجها،وغناء فيروز القادم من إحدى الدكاكين ينعش في النفس أريحيّةٍ محُبّبة. أصحاب المطاعم القريبة من"باب الجابية"يتبادلون تحيات الصباح بذات الطقس الروتيني اليومي وبعواطف بلا حرارة ، باعة الألبسة المستعملة بدؤوا بنشر بضاعتهم والمُقعدون الذين يبيعون الدخان المُهرَّب احتّلوا أماكنهم المعهودة و قد سجّل كل واحدٍ منهم  اسمه تحت كرسيه المتحرك وراسما مربعا على الإ سفلت مُعلناً بذلك أنَ هذا المربع مملكته ، عالمه ، مصدر رزقه ، حدوده التي يدافع عنها بكل تحدٍّ و قوة ضد أي متطفل،وأي كرسي متحركٍ آخر يحاول احتلال المكان،وعلى الرصيف المقابل المتُسخ ، كانوا هناك ، ُثلّة من أشباه الرجال ، الأكثرية كانوا من الجنود المتقاعدين وكبار السن يفترشون الرصيف،وإلى جانبهم معاولهم الصدئة و أدوات أخرى،يسترقون السمع لصوت فيروز  الذي يرسل طمأنينة خادعة و مؤلمة في نفوسهم .

الجميع يحدقون بالإسفلت البارد فتنعكس النظرات التائهة الضائعة بحبيبات الرمل إلى وجوههم المصفرة  الجائعة .

إنه يوم جديد ، و هؤلاء الناس يأملون بالحصول على عمل يسدُ رمقهم ورمق عيالهم.

تعدَّت الساعة التاسعة صباحاً،وإذاعة لندن تبدأ ببثّ أخبار العالم العربي،معظمها أخبار عن القتل والذّبح و الاغتيالات، والانشقاقات العربية العربية .

بدأ الضجر يتسلل إلى النفوس ، والعيون التي فقدت بريقها ، و فقدت الدهشة .

لحظات تمرُ ، وفجأة ، تنعطف سيارةٌ سوداء بسرعة كبيرة ثم تتجمّد في مكانها بعد أن صدر صوت حادّ من دواليبها الجديدة،كان بداخلها رجل بدينٌ،بارد النظرات،مزركش الثياب،وما ان أنزل زجاج النافذة حتى تجمهر الجمع حولها،وبدأ الكفاح من أجل الوصول إلى نافذة الرزق لإنجاز العمل الشاق مهما كان نوعه.

ثوانٍ معدودة اتفق خلالها صاحب السيارة مع أنيس ، الرجل المُسنّ الأشيب الشعر،وحين همَّ بركوب السيارة الفخمة،ناوله الرجل كيساً من النايلون ليفترشه تحته خوفاً على مقعد السيارة المخملي من أن يتسخ،كانت ثياب أنيس مهترئة رغم محاولاته الكثيرة لمعالجتها بالرقع الملونة .

لم يستغرق الطريق طويلاً للوصول ، كان المنزل قصراً مبنياً من الرخام الأبيض ومسقوفاً بقرميد أحمر على الطراز الفرنسي ، والحديقة المحيطة بدت وكأنها قطعة من الجنة ،و أفهم أنيس أن مهمته هي إصلاح بعض التمديدات الصحية في المطبخ .

دلف الرجلان من الباب الخلفي للمطبخ ، تأمل أنيس ما حوله ، تساءل في قرارة ذاته  أمطبخٌ هذا أم جزء من متحف ، ما هذه الأجهزة الموزعة في كل مكان يا ترى ؟ إلا أنه كثيراً ما تعجّب عندما وقع بصره على جهاز تلفاز كبير الحجم،هل يعقل أن يوجد تلفاز في المطبخ ؟وتذكر كم يتوسّل له أطفاله يومياً لشراء جهاز ولو صغيراً،امتقع وجه أنيس حين تذكر أطفاله ، تحسَّر، بلع ريقه ثم استغفر ربه وبدأ العمل بصمت .

ثماني ساعات أمضاها في عمل دؤوب ، لم يُقدَّم له خلالها شيء من الطعام ، ولا حتى كوب شاي إلاّأن الخادمة حنَّت عليه أخيراً وجلبت له طبقاً فيه أرز من يوم فائت  ثم قالت له بشيء من الخوف: "- كله بسرعة يا أخ،لأن ستي إذا رأتك تأكل في المطبخ ستطردني ، أرجوك ، كله بسرعة ".

احتار أنيس بادئ الأمر ، فكَر ، حاول أن يعيد الطبق للخادمة ، شعر ولسبب ما أنه يُهان ، كيف يأكل خلسة ، هل يسرق حين يأكل ثمن تعبه ؟ لكن لا بد من الاختيار الآن بين المشاعر النبيلة وبين المعدة الفارغة ،ثم شرع بتناول الطعام رغم صعوبة ابتلاع الأرز الناشف و البارد .

انتهى أنيس من عمله في الساعة الثامنة مساء،و بينما كان ينظف المكان،حدثت الكارثة ، فقد سقطت إحدى المزهريات القريبة بدون قصد منه، فتحطمت، وتناثرت أجزاؤها على البلاط الفاخر هرعت صاحبة المنزل ، شاهدت المنظر ، جُنَّ جنونها، نعتته بصفات كثيرة ، أهانته ،  بصقت في وجهه ، لحق بها زوجها ، ارتجفت مفاصل أنيس لما رأى الزوج السمين الذي وبَخه بدوره ، صفعه  لم يحترم سنه ، ثم التفت إلى زوجته وطمأنها بكلماتٍ رقيقة مؤكدا لها أنَ أنيسا سيدفع قيمة التحفة  و أن لا تقلق بشأن ذلك ، ثم توجَه إلى هاتفه الخليوي و اتصل بقسم الشرطة .

اقتيد أنيس إلى مخفر الشرطة،كانت هناك توصيات كثيرةلتأديبه،وتعليمه كيف يتعامل ويحافظ على الأشياء عند الناس الأكابر،طلب رئيس المخفرمن أنيس أن يدفع قيمةالتحفة،ارتبك أنيس،تلعثم،صمت وقد لفَّهُ الذهول. دوَّنَ الشرطي في محضر التحقيق أن أنيسا امتنع عن دفع قيمة الأضرار التي سببها فأمر بحبسه .

بعد يومين ، جاء الرجل السمين إلى المخفر ، دخل مكتب رئيس المخفر الذي صافحه بحرارةٍ داعياً إياه للتفضل بالجلوس ، لكن الرجل اعتذر لانشغاله وكذلك لأنه لم يتسنَّ له الاتصال من أجل الإفراج عن العامل الموقوف،قال مازحا:

" – لقد أردت أن أُلقِّنَه درساً صغيراً ، و أردتُ أيضا أن أُهدّئ من عصبية زوجتي  فقد كانت التحفة نادرة لكنني نسيت الموضوع لذا أرجو أن تخرجوه من النظارة فوراً  وأن تعطيه هذه المائة ليرة  إنه رجل مسكين على أية حال ، أبلغ الشباب تحياتي "، ثم رمى قطعة النقود على الطاولة و انصرف.

خرج أنيس من التوقيف ، كان منهاراً ، يائساً ، مقهوراً ، و علامات الحز ن واضحة على سحنة وجهه المُصفرّ ، أخذ المائة ليرة  و مشى باتجاه المطعم المجاور،  اشترى دجاجةً مشويةً ، ثم دخل إلى الصيدلية ، و حين خرج ، استقلّ الباص إلى بيته .

كان أنيس مُنهكاً لدرجة الإعياء ، وكان واقفاً وسط الزحام ، يحمل في يده كيساًويتحسّس في جيبه قارورةً صغيرةً فيها سُمُّ فئران ..!!

 

 

 

ربيع

 

لملم الدكتور المحاضر أوراقه المتناثرة على الطاولة ، وصفق بيديه محاولا إزالة ما تبقّى من آثار أقلام الكلس التي استخدمها في الكتابة على السبّورة ، ثم أغلق محفظته الجلدية السوداء الكبيرة ، و قبل أن يغادر القاعة ، تحلّقَ حوله بعض الطلاب مُستفسرين عن أفكار عالقة،سيما وان مادة الشعر الإنكليزي الكلاسيكي كانت عصية على الفهم وبخاصة قصائد الشاعر الوجودي المرهف "جون كيتس" .

تدافعنا نحو الخارج بشقاوة تلاميذ مدرسة ابتدائية، متُلهّفين للوصول إلى مطعم الجامعة،انفردنا عن بقية الطلاب،وجلسنا على طاولة في زاوية المطعم،كنا ُثلّة من زملاء السنة الأخيرة تجمعنا سنين دراسة طويلة،وتربطنا ذكريات مشتركة،منها المؤلم و منها السعيد،نعيش كشخصٍ واحد، نفكّر معاً،ندرس معاًوقد تآلفنا لدرجة أن أمهاتنا تعوَّدنَ على المضايقات الدائمة التي نحُدِثها حين كانت تجمعُنا مناسبة ما،لم نكن نكترث لنظافة السجاد أو لترتيب الأثاث أو لمطبخ زميلنا المضيف حيث نعبث فيه بكلّ ودّ  نفتح الثلاجة،نصنع الشاي، نُقشّر البصل، نطهوا،وأحيانا،نأكل على أرض المطبخ،دون مبالاة، نحيا بفرح ، بسعادة ، نمضغ ساعات أيامنا بلذة شديدة  ونستمتع حتى بأدق التفاصيل .

كان "ربيع " هو المميز بيننا ، هو الاستثناء اللافت للنظر ، فارع الطول ، جذّاباّ ووجهه السمح الطفولي يُضفي عليه براءة واضحة و عيناه الزرقاوان الواسعتان كلون البحر في يوم مشمس ،كم كنت أتأملهما ،كأن للعيون هوية تعطي لكل إنسان طبيعة خاصة ،كان أكثرنا حرية ، و مرحاً ودِعَةً  متسامحاً لدرجة البساطة ، و تصرّفاته العفوية تجعل خدّيه دائمتي التورّد،وعلى الأخصّ حين يقرأ شيئاً من محاولاته الشعرية، إلا أنه أوفرنا حظاً فقد استحوذ على انتباه زميلتنا الجميلة " سندريللا ".

عندما زرناه للمرة الأولى ، عرفنا أنه وحيد وله خمس أخوات،لم تبدُ والدته كبيرةً في السنّ وعائلته من الطبقة الميسورة ، لكنهم بسطاء ، فوالده يملك مصنعاّ صغيراً للأدوات البلاستيكية يمضي به جُلَّ وقته كانت زيارة لا تُنسى ، بذل جميع أفراد العائلة قصارى جهودهم لإضفاء جوٍّ من المرح الذي تعودوا عليه دون تكليف ، أحسسنا وكأننا نعرف هذه الأسرة منذ زمن بعيد ، وحين غادرنا تعلّقت قلوبنا على جدران المنزل ، تماماكاللوحات الأنيقة المنتقاة بعناية ،أصبحنا ننادي أمه فيما بعد "بماما روز"  وكم أعجبت بجمال زميلتنا "مها " التي اعتدنا أن نلقّبها بسندريللا "،كنا  نتسابق للفوز بدعوتها لتناول فنجان قهوة ، أو قطعة حلوى ، دائما كانت لطيفة باعتذاراتها وبخفّة ظلها ، تبتسم لنا صباحاً ، فنشعر بنشوةٍ غريبة طيلة اليوم ،لكن ربيعاً فاز بها  فقد كانت تحُبّه دون أن تبوح بذلك،حسدناه باديء الأمر حين علمنا، ثم ما لبثنا أن هنّأناه و باركنا علاقتهما وشجعناهما على الارتباط ، وبعد انتهاء الفصل الدراسي الأخير دعينا إلى حفلة الخطوبة .

كانا كعصفورين في الحفلة ، قالت لي أمه أن فرحتها تلك لا تعادلها إلا فرحة يوم ميلاده ،رقصنا حتى الفجر ، ثم أوصلنا والده بسيارته إلى بيوتنا ، سألته و نحن في الطريق عن مستقبل ربيع العملي فأجاب بصوت أبوي :

-" يابني ،  لقد انتهى دوري الآن ، إنه دور الشباب ، سأسلمه المصنع ، وسأعاونه ان احتاج لذلك ، صحتي لم تعد كالسابق و لا بد لي من الراحة ، لهذا فأنا انتظره بفارغ الصبر".

بعد أشهر قليلة على نهاية الدراسة عدت من القرية وقد تعاقدت مع شركة خاصة للعمل فيها كمترجم ، رأيت شقيقته بالصدفة في إحدى الصيدليات ، و ما ان  لمحتني  حتى أجهشت بالبكاء  كانت شاحبةًهزيلةً ، تقف بانحناءة بسيطة وقد أهملت زينتها، سألتها عن ربيع ، وعن مها، أجهشت ثانية بحُرقة ، وبعد أن هدأت ، همست بصوتٍ مفعمٍ بالحزن :

-ربيع يموت ببطء ،  فقد تبين أنه مريض بسرطان الدم و المرض في مرحلته الأخيرة  يستحيل علاجها و هو الآن يرقد في المشفى و قد غدا أشبه بالمومياء .

هزّني الخبر ،امتقع وجهي، انتابني دوار خفيف فاسندتُ رأسي للجدار، أجبتها بصوت مُتهدّج لا يخلو من الشكّ :

-مستحيل ؟ يا للصدفة ؟ يا للخبر ؟ يا للأقدار ؟ كيف ؟ متى ؟…

-إنه يسأل عنكم دائما ، الجميع أتوا ، لكننا لا نعرف عنوانك في الريف، و هو دائم الرعب الآن يخاف أن ينام ، يخاف أن يغفو.

-لماذا ؟؟

-لأنه يخشى أن لا يستيقظ ثانية ، يخشى أن يموت و هو نائم ؟

بلعتُ ريقي المُرّ بصعوبة ، تمالكتُ أعصابي كي لا أبكي أمامها،سألتها عن مها فلم تجُب، تناولت ورقة صغيرة من حقيبتها اليدوية و كتبت لي عنوان المشفى ، ثم مضت .

دخلت مبنى المشفى قلقاً،رائحة الكحول والأدوية تفوح من جميع الأرجاء وأشخاص يتجوّلون بألبستهم البيض الناصعة .

صعدت الدرج الدائري إلى قسم أمراض الدم ، ثم توجّهتُ إلى العنبر الذي يقيم به صديقي ، كان الممرّ نظيفا ، أبيض الجدران،والبلاط اللامع كان أبيض أيضاً،استوقفت إحدى الممرضات و سألتها عن الغرفة رقم"8" فأشارت لي بحركة آلية من إصبع يدها المُكفّنة بقفازٍ أبيض ُثم همست :

-" إنها في نهاية الممر على اليمين ، لكن رجاء عدم إطالة الزيارة ، فالمريض بحالة خطرة  ثم طلبت مني أن أمشي و أتكلم بهدوء .

وقفت أمام باب الغرفة الأبيض ، كان الرقم "8" منقوشا على لوحة نحاسية مثبتة في الوسط ، انتابتني قشعريرة مفاجئة و أنا أطرق الباب ، أحسست بخفقان قلبي المتوتر،كانت صدى ضرباته ترتفع إلى أذني ، سمعت صوتاً نسائياً يهمس من الداخل :

-تفضل .

أدرتُ مقبض الباب بهدوء ، فاجأتني أمه بدمعتين لما رأتني ، ثم أشارت بحركةٍ يائسة من يدها نحو ربيع المُمَدّد على السرير و إلى جانبه طاقة كبيرة من الورود ، و العديد من علب الأدوية المتناثرة تقدّمتُ بهدوء، هالني  وجهه المنتفخ،و رأسه التي  أصبحت  صلعاء تماما بفعل العقاقير المهدئة- لطالما تباهى بشعره الجميل أمامنا- نظرتُ إلى والدته بأسى ، لكن مشاعري فاضت حين رأيت صورة خطيبته بجوار السرير فبكيت، لقد كان يحُبّ صورتها تلك بالتحديد،و أذكر حين طلب من أحد الأصدقاء الذي كان يدرس  فنّ الديكور أن يصنع له إطاراً مناسباً ، ففاجأه الأخير بأن نحت له صَدَفةً بحرية على شكل قلب ، ثم ثبَّتَ الصورة بداخلها فأصبحت كالعلبة . 

كان جسده مغطى بشرشف أبيض ، سألت أمه عن حالته ، فقلبت شفتيها و أشارت بعينيها للأعلى و تمتمت :

 -" إنه تحت ألطاف الله "، ثم صمتت من جديد ، غارقةً في جوّها الجّنائزي .

تحرك ربيع قليلا ، و كأنه شعر بوجود شخصٍ ما ، أخرج يده ببطء شديد من تحت الشرشف كانت صفراء ، ناحلة ، فتح عينيه و نظر باتجاه أمه ، فتحهما أكثر لما رآني واقفاً بقربه كالصّنم.

حاولت جاهداً أن ابتسم ، اقتربت منه أكثر لملامسة يده التي َمدَّها نحوي بعجز واضح،كانت أظافره زرقاء ، حضنت يده الباردة بيدي ،َأخرج لسانه المصفرَّ و بلل شفتيه الناشفتين،حاول أن يتكلم ثم ما لبث أن عضَّ شفته السفلى فأدركتُ أنه يواجه نوبة ألمٍ جديدة ، أردتُ تهدئته ، فأشاح بصره نحو الصورة و قد شقّت دمعة كبيرة طريقها باتجاه الوسادة .

أفاق ثانية بعد دقائق ، قالت لي والدته أنه حين يستيقظ يتّجه بنظراته نحو تلك الصورة ويُعلّقهما هناك إلى أن يفقد وعيه ثانية .

نظر إليَّ و قد صمّم على الكلام هذه المرة،جاء صوته مرتجفاً،سألني عن صحتي ، ثم طلب مني قطعة "شوكولاتة " من العلبة التي جلبتها معي – لا يزال مولعاً بالشوكولاته رغم مرضه فقد كانت القاسم المشترك بينه وبين مها،لم يكن يتناول شيئا في الجامعة سوى أصابع الشوكولا التي تجلبهاله يومياً- فتحت العلبة بارتباك،فاجأتني والدته حين رفعت حاجبيها للأعلى بحركة رفض،كرر طلبه ثانية تجاهلتُ رفض والدته و ناولته قطعة بعد أن أزلتُ عنها غلافها الورقي .

تَلمَّسَها بأصابعه المُرتعشة ، تنهَّد عميقاً ، ثم قضم قطعةً صغيرةً محاولاً مَضغها ، نبَّهَتهُ والدته بلهجةٍلا تخلو من الحزم :

-ألم تسمع ما قاله الطبيب ، إنها تَضُرُّ بصحتك كثيراً يا حبيبي ، لا تأكلها أرجوك .

َتمَلَّكهُ إحساسٌ بالإهانة عند ذاك فانفجر بوجه أمه  :

-إلى متى يا أمي ، إلى متى ستكابرين ؟ ألا تعملين بأنني إنسان ميت ؟ ألا تعلمين ذلك؟

 ثم أشاح بوجهه و قد تسمَّرت عيناه على الصورة وجاءني صوته واهنا :

-اسمع يا صديقي ، لقد فسختُ خطوبتي من مها ، أرجوك اذهب إليها و قل لها بأن لا تحزن فالحياة كلها أمامها لأنني إنسان ميت ، أتفهم ؟؟ ثم عضَّ  شفته السفلى ثانية و قد تشنَّج جسده لشدة الألم.

غادرت المشفى مجرجرا قدمي ، تهزّني نسمات شباط الباردة ، لم أجرؤ على زيارته ثانيةً،لم أجرؤ حتى على الاتصال ، كنت أتابع أخباره من الأصدقاء و علمت أن خطيبته أصيبت بانهيار عصبي إثر تلقيها خاتم الخطوبة .

حاولتُ تهدئتها حين زُرتها مساء ذلك اليوم الشتائي الماطر ، شرحت لي باكيةً مقدار حبها له ،وأنها مقتنعةً بشفائه و ستبقى مخلصة لروحه،ورجتني أن أزوره لأخبره بذلك  لأنه لم يسمح لها بزيارته بعد أن ساءت حالته في الأيام الأخيرة .

 توجهت نحو منزل أهله ، و قد صمّمتُ أن أشرح الموقف ، مشيت بخطى وئيدة محاولاً ترتيب أفكاري وكلماتي ، قرعت جرس الباب،كان الجو ساكناً ، رطباً، و ثَمَّة رائحة ورود قوية تنبعث من أرجاء المكان ،فتحت امرأة لا أعرفها باب المنزل ، نظرت إلى عينيها ، كانتا محمرتان ،سألتها :

_ عفواً سيدتي ، أريد أن أرى ربيعاً إن أمكن ،أناصديقه، وقد علمت أنه عاد من المشفى .

طفرت دمعتان كبيرتان من عيني المرأة ، ثم انخرطت في موجة بكاءٍ حارّة ، و بعد أن التقطت أنفاسها بصعوبة ، أجابتني بصوت مرتجف :

لقد تأخّرتَ يا بُني ، إذهب لرؤيته هناك ، إنهم في المقبرة "

 

 

 

 شهيد

 

 

أعلن جرس مدرسة اسكندرون الابتدائية انتهاء الدرس الخامس و الأخير من ذلك اليوم الموتور المليء بالقلق الذي بدا واضحاً على تقاسيم وجوه الأساتذة ، ذلك القلق الذي لم يكترث له التلاميذ كثيراً  فحين فتحتُ أبواب المدرسة ،خرج الأطفال كعادتهم دفعة واحدة ، يتزاحمون وكأنهم كانوا في سجن  سيما ، و أن الجوع قد احتلّ بطونهم الصغيرة الخاوية بعد ذلك اليوم الطويل ، وانتشروا في الطرقات شبه الخالية.

كان ثمة آباء ينتظرون أطفالهم على باب المدرسة بلهفةٍ بادية،وخصوصاً أولئك التلاميذ الصغار الذين يدخلون المدرسة لأول مرة ، و لأول مرة ينسلخون عن جحور أمهاتهم .

إنه زمن الحرب، زمن النّفير العام،ذلك أن الجيوش العربية كانت تخوض غمار حرب ضروس طاحنة  حرب وجود أو لا وجود ،حرب خريفية ، اسمها حرب أكتوبر ، هذه الحرب التي غيرت نمط عيش الكثير من العائلات ، و رسمت فيما بعد مستقبل أولادها .

كان أدهم حينذاك في الحادية عشر من عمره ، طفل يحمل كل مقومات النبوغ المبكر ذاك الطفل الأسمر النحيل،الذي غالبا ما يقتسم"ساندويتشاته"مع زملائه الجائعين و الذين يأتون إلى المدرسة بلا زاد .

هذا الطفل المدلل،الحساس،و التي تخشى عليه والدته كثيراً من الانفعال لأنه مصاب بالربو الطفولي مما  يجعله نزقاً ومزاجياً أحياناً، فحين تنتابه إحدى نوبات المرض المفاجئة، يعاني والداه كثيراً و يشعر أفراد الأسرة جميعاً بضيق النفس وكأنهم مصابون بذات المرض، يتكهرب جو البيت ، تنفعل العائلة برمُّتها مع ذلك الكائن الذي يتنفس بصعوبة،تضيق صدورهم معه ، و كثيراً ما يضطرّ والده لحمله على كتفيه ، متنقلا به  في ليالي الشتاء ، من طبيبٍ لآخر ، و هؤلاء لم يرحمو مُرتّب ذلك الجندي المتواضع الحال ذي العائلة المؤلفة من خمسة أفواه ، كانوا يقتصّون ُجلَّ راتبه  فيلعن الساعة التي ولِدَ فيها هذا الشقي الصغير أحيانا ، لكن حبه له كان فوق التصوُرفهولم يأسف أبدا حين باع السجادة الوحيدة من أجل علاجه ، كان يقول له دائما بأنه رجل البيت ، فهو البِكر وهو عماد الأسرة في غياب الوالد وهذه الكلمات على بساطتها ، زرعت في أدهم الصغير روح المسؤولية المبكرة ، فدأب يدير شؤون الأسرة  يشتري الخبز ، يُبدّل جرّة الغاز ، يذهب للسوق وحده ، يأمر و ينهي كما يريد  فوالده في الحرب منذ مدة . 

في الأيام العادية ، يتحول إلى كتلة نشاط و فرح ، فهو الاستثناء بين زملائه ،ذكياً في كتابة التعبير الإنشائي و يساعد المعلمين في شرح بعض الدروس أحيانا لدرجة أن أحد أساتذته تنّبأ له بأنه سيصبح كاتباً ذات يوم .

عاد أدهم إلى البيت من ذات الطريق الذي اعتاد عليها منذ أن أخذه والده عليها إلى المدرسة لأول مرة قبل ست سنوات ، لم يُغيرّ طريقه يوماً، و يتباهى دائماً أمام زملاءه بأنه يستطيع أن يمشي إلى البيت و هو مغمض العينين . 

في ذلك المساء،عاد أدهم وحده من المدرسة ، كانت قطرات المطر تداعب وجنتيه،وما أ ن اقترب من أ ول الحي،حتى شاهد جماهير غفيرة في الوسط ، تماماً أمام منزل أهله ، وقف قليلاً يتأمّل ذلك الجمع من الناس ، ماذا يفعل هؤلاء أمام ببيتنا ؟؟

كان بينهم الكثير من الجنود بملابسهم العسكرية الحربية المميزة والتي كانت مُعفَّرةً بالغبار والتراب اقترب منهم قليلا ليستوضح الأمر ،فوجئ بهم يضعون أيديهم على وجوههم ، كانوا يبكون.

 لم يفهم الصغير ماذا يجري ، فبوابة المنزل مفتوحة على مصرا عيها ، نساءٌ  تخرج وأخريات يدخلن  الكل يبكي ، و الفوضى تعمُّ المكان ، في تلك اللحظة مرَّ بجانب الطفل المذهول رجل ، ما لبث أن توقف  أمامه ، ضرب كفّاً بكفّ و صاح :

" يا باطل ياأدهم  ، يا باطل".. ثم مضى على عجلٍ و الدموع تغسل وجنتيه،إنه يعرف هذا الرجل تماماً ، فهو صديق والده  .

اقترب التلميذ الصغير بحذر ، اقترب أكثر ، فوجئ ببعض الرجال يسندون فيما بينهم رجلاً خارت قواه ، ويخرجونه من المنزل ، دقق فيه ، عرفه ، إنه عمه ، لكن لماذا يحمله هؤلاء من كتفيه ؟ إلى أين يأخذونه ؟ .

كان شبه مغمىً عليه ، يُلِّوح برأسه دونما إدراك ، ينادي بصوت مخنوق" ياخيِّ،ياخيّ"!!

لم ينتبه للطفل أحد من هذه الجوقة المنُشغلة ، أدرك بحسّه الطفو لي أنّ شيئاً ما سيئاً يحدث في بيت أهله ، شعر بالخوف ، خطا نحو الداخل ، كان الجو هستيرياً ، النساءُ ينتحبن بصوت منتظم ، الأنين يعمُّ المكان وروائح الورود تنبعث من تلك الغرفة الكبيرة التي اكتظّت بالناس .

اندسَّ بينهم ، يحاول معرفة ما يجري ، لماذا كلُ هذه الأكاليل في وسط الغرفة ؟ لماذا كلُ هذه الورود، ما أن وصل إلى منتصف الغرفة ، حتى رأى كل شيء .كانت والدته جالسة هناك في الوسط  محلولة الشعر ، تنظر ولا ترى ، و لاتسمع ، تحدق شاردة في المجهول ، صافنة بذاك المُسجّى الذي لم يكن سوى والده ؟.

انتبهت لوجود الصغير، رأته، صَدمها وجهه،إذ ذاك صرخت صرخةً زلزلت كيانه الصغير، صرخت معها النسوة ، و بدأن  ينتحبن من جديد .

ضمَّتهُ إلى صدرها ، ذهله الموقف ، لم يبكِ ، سمَّرَ بصره بأبيه المغمض العينين،لم يفهم الطفل معنى هذا النوم الأبدي ، أمعقول أنه لن يفتح عينيه ثانية ؟؟؟ أمعقولٌ أنه لن يتكلّم معنا ، ألن يصحو ؟ سيصحو ، لابد أن يصحو .

 دخل الرجال المدجّجون بالسلاح ، و علاماتِ الإعياء و الحزن باديةً على وجوههم  ولحِاهم غير الحليقة، أشهر أحدهم بندقيته ،و راح يطلق النار في الهواء تحيةً للشهيد

 لفيفاً آخر منهم بدءوا يهزجون،كفَنوه بالعلم،غمروه بأكاليل الورود،ثم حملوه على أكتافهم وخرجوا  لم يفهم الصغير معنى أن يكون والده شهيداً ، كان شُغله الشاغل هو ذلك الحذاء الجديد الذي أعاره إياه رفيقه الثري لينتعله أثناء مراسم الدفن ، و كذلك  القفاز الجلدي البني َ.

هطل المطر في المقبرة على الناس ، و على والده الذي تركوه هناك وحيدا مع أكاليل الزهور و عادوا  لم  يدر الصغير لماذا تذكر والده حين قال له ذات مرة :

– اعتمد على نفسك و لا تعتمد على أحد  هكذا الرجال يا أدهم .

نظر حينذاك إلى الحذاء ، ثم إلى القفازين ، و ما لبث أن خلعهما، ثم عاد إلى منزل أهله عاري القدمين

أضيفت في01/07/2005 / خاص القصة السورية

 

 

 

 

الإرهابي..

 

 

فجأة ، ودون سابق إنذار، أو أية إشارات تحذيرية، ينفجر شيء في داخلي، في دماغي، في كياني في محيطي، هكذا، بكل بساطة وسخرية ، وسذاجة، ينفجر ذلك السؤال القنبلة؟..

سمعت من تجمهر حولي يهمسون فيما بينهم بعد أن رأوني وأنا أتهاوى، بأن الذي زرعها في رأسي إنما هو " ذلك الإرهابي " المحترف الذي يهوى زرع الأسئلة المفخخة في رؤوس بعض الناس.

تناثرت أجزاء أفكاري، وتطايرت فوق الأرصفة، على أعمدة النور، والتصقت  بحجارة الجدران الأثرية، هرع أصحاب المحلات المتخمين نحوي ليروا كيف ينتفض جسدي على الرصيف وكيف يتحول نزيف رأسي إلى مادة بيضاء  تنساب فوق الإسفلت وتذوب في بالوعة الصرف الصحي للمدينة.

أحاول فيما تبقى لي من تمسك بالحياة أن أرى هؤلاء الناس الشامتين ، و الذين أصبحت أ شكا لهم

رخوية، وبدأت أرى وجوههم مطاطية عجيبة التفاصيل، وآذانهم طويلة، وعيونهم بلهاء وأجسادهم انتفخت كالخنازير ، وذيولها القصيرة ، أستطيع تمييزها بوضوح ، و أسنانهم كأسنان الجرذان ، لكنهم كانوا بلا أدمغة ، يحدقون في ببلاهة ، وأنا أنتفض ، وأتلاشى ، وأتعجب؟‍‍ هاهو ذا الإرهابي الذي فجر رأسي يقترب، يقف بين الجمع، ينظر إلي ساخرا، وعيناه تقدحان شررا، يمسح يديه الملطختين بالسائل الأبيض، ثم يغادر ني بهدوء عجيب، بعد أن تأكد  بأنه قد أفلح في فتح رأسي، ويدهشني أنه لا أحد يعتقله، لماذا لا يلقون القبض عليه ؟؟ لماذا يتركونه حرا، يمشي الخيلاء بين الشوارع الراقية ، والتي بدأت تكتظ بشتى أنواع الناس من الذين انتفخت أجسادهم ، وتطاولت آذانهم ، وقرونهم ليروا الضحية الجديدة بلا مبالاة ، يبدو أنهم قد اعتادوا على رؤية بعض الذين ينفجرون فجأة في وسط الشارع، لكن ، لماذا لا يأتيهم الدور؟؟ لماذا بعض الناس فقط من تضيق عليهم أجسادهم فجأة، وينفجرون إما جنونا، أو انتحارا ؟؟ هل لأن أدمغتهم فارغة أم لأن تلك الأدمغة لا يؤثر بها سلاح الإرهابي الذي يعرف كيف ينتقي ضحاياه، وكيف يضع سؤاله القنبلة، وكيف ومتى يبدأ الانفجار ..

تحلق حولي رجال الشرطة، والإسعاف، يحاولون نجدتي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يا للرعب كيف سأستطيع إعادة أفكاري التي ساحت في بلاليع المدينة ؟؟ كيف أعيد التقاطها ، وجمعها ؟؟       

هل يستطيع الأطباء ذلك ؟؟ هل يستطيع الطب الحديث أن يزرع لي أفكارا جديدة ؟؟ كيف ؟؟ وممن ؟؟ وهل ستنطبق على حجمي، ومقدار تفاعلي ؟؟ وهل إذا نجحوا في ذلك سأبقى أنا،أنا ؟؟ أم سأصبح إنسانا آخر ؟؟ أم ، أم ؟؟

يرفعونني على نقالة الإسعاف، أحاول تمييز رجل البوليس الواقف بقربي، وهو يهم بالتقاط بصمات، أو أدلة، أدقق في وجه الرجل، أدقق أكثر، يا للهول ، فلهذا الرجل نفس تفاصيل وجهي ؟؟ لقد تقمص وجهي ؟؟ كيف يحدث هذا ؟؟

يدخلونني سيارة الإسعاف ، تبدو طويلة ، طويلة ، كنفق بلا نهاية ، و يتابع الطبيب لف الأربطة  حول رأسي محاولا وقف نزيف ذلك السيل من الأفكار البيضاء ، أنتفض بألم ، أصرخ ، أتمتم بكلمات غير مفهومة ، أشعر بها تخرج من فوهة ما في وجهي ، ولها صوت غريب، كصوت بوق مكسور في قبو تحت الأرض، أو كصفارة إنذار حادة الصوت ومرعبة، فوق بناء عال، ماذا أحاول أن أقول ؟؟.

أحدق في ذلك الطبيب ، رغم أن عيني كانتا مغمضتين ، إلا أنني و منذ أن انفجر رأسي بذلك السؤال القنبلة أصبحت أرى من خلال جفوني ، وأستطيع رؤية أدمغة الناس وأفكارهم شفافة كأحواض الأسماك ؟؟.

يا لهذا الذي يحدث، الطبيب أيضا له وجهي، وتقاسيمه المتطابقة، لكنه لم يلحظ ذلك لأن وجهي قد تغيرت تضاريسه .

تزعق صافرة الإنذار بداخلي ثانية، وذلك الإرهابي يطل بوجهه الغريب عبر نافذة سيارة الإسعاف التي انطلقت بسرعة لمحاولة إنقاذ رأسي المنفجرة ، أراه من خلال عيني المغمضتين ، يقترب مني  كيف دخل السيارة المسرعة ؟؟ يقترب أكثر ، كيف لا يشعر الطبيب بوجوده ؟؟ هل هو غير مرئي ؟ يتسلل نحوي، ويقَرب فمه الذي يشبه جرس الكنيسة، ويهمس في أذني، لكن سرعان ما يتحول صوته إلى صفير حاد، وكأنه تقمص كل صافرات القطارات في العالم :

-" إني أضع أسئلتي القنابل في رؤوس من أحبهم ؟؟ لأنهم بعد الانفجار سيدركون الحقيقة الكبرى

 ثم انسل بهدوء عبر النافذة المغلقة للسيارة المسرعة ، وتلاشى .

 لم يلحظ الطبيب ذلك، وضع سماعته على رأسي النازف، لكنه سرعان ما نزعها عن أذنيه كمن أصابته صدمة قوية ، تراه سمع صفير القطارات المتعالي داخل رأسي؟ تراه سمع صوت بوق الإنذار الأجش الذي يبعث على القشعريرة ، ولا يزال ينعق في ذلك النفق المظلم ؟؟

لقد اختلطت الأمور على هذا الطبيب الذي يتقمصه وجهي، التفت سائق الإسعاف إلى الرجل ليعلمه بوصولنا للمشفى ، يا للغرابة ، حتى سائق سيارة الإسعاف له وجهي تماما ، ولم يفاجئني  الأمر بقدر ما أثار استغرابي .

نظرت إلى أرصفة الشوارع ، كانت كل بلاليع المدينة قد طافت بسائل أبيض غريب له رائحة الربيع ، ولم يعرف عمال البلدية من أين جاء ، وكيف كلما حاولوا شفطه، وضخه بالآلات  كلما ازداد .

عمال البلدية كلهم، كانت لهم وجوه كوجهي ، غريب حقا ما يحدث ، حتى داخل المشفى وفي السراديب الطويلة التي أخذوني خلالها ، كان كل من يعبر بجانبي ويراني، يتقمصه وجهي هل هذه هلوسة النهاية ؟؟ أم ماذا ؟؟ .

لا يزال صفير القطارات يتزاحم داخل رأسي المنفجر ، ولا تزال آثار السؤال القنبلة تملأ تلافيف دماغي الذي لم يتوقف نزيفه الأبيض بعد ، حتى أنه بدأ يتسرب على بلاط المشفى ، والمعدات الطبية القريبة ، هذا السائل الربيعي الرائحة ، أتعجب ، أين كنت أحتفظ بتلك الكمية الهائلة التي تتكاثر تلقائيا كلما رآها إنسان بعينيه ؟؟ وانتابني شعور جديد ، سرعان ما تحول إلى سؤال منفجر آخر ، " ماذا لو طافت المدينة بهذا السائل ؟؟" إذ لا يعقل أن يمشي الناس بعيون مغمضة ؟؟ لكنني أتعجب من تلك المخلوقات التي تشبه البشر ، والتي لها أشكال غريبة وأجساد خنازير وترتدي الثياب الحريرية ، والفرو ، والجواهر ، كيف لم تتغير ؟؟ يبدو أنها تمتلك نوعا من المناعة ضد هذه المادة ، فهم وحدهم من يسير في الشوارع بعيون مفتوحة غير آبهين بطوفان ذلك السائل الأبيض، بل وينتعلون أحذية عالية الساق ، تشبه الأحذية العسكرية الثقيلة ، ويهزون  ذيولهم القصيرة وآذانهم المفلطحة مفتخرين بأنهم قد وجدوا الحل الأمثل للتخلص من ذلك السائل الذي يصيب من يراه بعدوى الانفجار .

وضعوني في المصعد الكبير ليتم نقلي إلى غرفة العمليات ، بجانبي أيضا سرير عليه بقايا رجل ، وقد انفجر رأسه مثلي ، ولم تزل تتدفق منه نفس المادة البيضاء ، قالوا إنه طالب جامعي .

حدقت فيه عبر نظرات متراقصة من عيني المغلقتين ، لديه وجهي أيضا ؟؟ لم أكترث هذه المرة بقدر ما دهشت حين نظرت إلى الممرضة الواقفة بقربي ،والتي تضغط بيدها على مكان النزيف الأبيض إنها تحمل وجهي أيضا ؟؟ واكتشفت أمرا مثيرا، "إن كل من ينظر إلي ، تتغير ملامحه فورا وبتقمصه وجهي دون أن يدري هو ذلك " ؟؟

صافرات الإنذار تزداد قوة ،والأبواق المكسورة التي لا تزال تنعق تحت أنفاق المدينة ، تتمرد على السكون أكثر ، و تمزق هدوء الرؤوس الراكدة ، أشباه البشر، أبدوا انزعاجهم ، رغم أن لديهم مناعة ضد هذه الأصوات ، فهم وحتى بوجود آذانهم الطويلة المفلطحة ، إلا أنهم صم كالأفاعي

واعتقدوا بأن زلزالا ما وشيك الحدوث جراء اهتزازات غامضة تحدث تحت أنفاق  المدينة .

أعلنت الطوارئ في المشفى ، فقد ازدادت حالات الإسعاف المماثلة في الغرف المجاورة، وفي المشافي القريبة، واختلط الأمر بين المصابين بانفجارات في رؤوسهم ، وبين الأطباء والممرضات فكلهم يتقمصون نفس الوجه،وجهي،ولا تزال رؤوس أولئك المصابين تنزف مادة بيضاء لها رائحة الربيع  يتغير وجه كل من يراها ، أو يلمسها ، أو يشم رائحتها ، ولا تزال في ازدياد .

تم عرض الحدث الغريب على شاشات التلفاز، وعقدت ندوات ومحاضرات في شتى أرجاء المدينة،بعضها يحذر، وبعضها يصف ويطمئن، والمدهش في الأمر، أنه لا أحد قد طالب با لقبض على ذلك الإرهابي الذي كان يحضر كل تلك المؤتمرات ، وفي أحدها وقف يحاضروا يفلسف

ويدافع عما يقوم به ، شارحا أنه قد ينتقي عاملا في فرن ، أو مطعم ، أو مقهى ليمنحه شرف أن يكون أحد ضحاياه على أن يختار أستاذا في الجامعة، أو تاجرا كبيرا، أو صاحب فندق ، لأنه يعرف تماما البشر الحقيقيين من أشباه البشر الخنازير، وأعلن أنه سيستمر في عمله هذا حتى ساعة الحقيقة الكبرى التي لن يحظى بها إلا ضحايا قنابله الخالدون ، ثم انسل بهدوء مثير كعادته تاركا القاعات كلها تضج بتصفيق حاد من أناس كانوا ضحاياه ، وجميعهم يحملون وجوها مطابقة لوجهي أما من أسماهم بأشباه البشر، فكانوا يكتفون بالاختباء في ظل مقاعد الضحايا، وقد حلوا ربطات أعناقهم الثخينة ، ونكسوا آذانهم الطويلة ، وأخفوا قرونهم تحت قبعاتهم الفاخرة المستوردة .

في غرفة عمليات المشفى، مددوني، بعد أن  قيدوا جسدي المرتعش، وأوردتي إلى أجهزة معقدة كثيرة وأزاحوا الأربطة الجلدية التي تشبه السياط ، والتي كانت تثبت رأسي الذي لما يزل ينزف سائلا أبيض، دخل جراح كبير، رهيب الهيئة، ملثم الوجه، ثم فتح النوافذ، وأضاء الأنوارعلى غير العادة الطبية في غرف العمليات، وخاطب بلهجة صارمة أعضاء الفريق الطبي الذين يتقمصون نسخا من وجهي :

-" يجب أن يسمع أهل المدينة هذا الصفير الصادر من هذه الرأس المفتوحة ، يجب أن تدخل صافرات الإنذار كل نوافذ البيوت "، ثم اقترب مني وحدق مليا بوجهي ، وهمس بصوت يشبه تراتيل الكنائس :

-" أنا الذي سأشفيك الآن ، بأن أضع في رأسك قنبلة جديدة ليتعمد من نزيفها أهل المدينة ثانية"

لقد عرفته ، إنه ذلك الإرهابي الصارم ، فلديه قدرة عجيبة على تغيير صوته كما يريد ؟؟ ثم و قبل أن يذوب في فراغ المكان ، همس في أذني نغمتي اعتراف من فمه الجرس ، وتناثر وسط اندهاش الحضور .

-لم يكن ذلك الإرهابي سوى "الزمن "؟؟

-ولم يكن السؤال القنبلة إلا " ماذا أنا" ؟؟

-والقنبلة الجديدة التي بت أترقب بشوق لحظة انفجارها في رأسي ثانية " حرية .. حرية ".

 

أضيفت في 14/06/2005/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية