مرثية للكبار
العمود
قال سامر يوماً لأمه: أريد أن أسافر يا أمي.
فأفهمته أمه أن السفر خلق للكبار وأنه سيسافر حين يكبر.
حينئذ سكت سامر، ولكنه بقي يحب السفر وتمنى أن يكون عصفوراً ليطير ويرى
البحر والغابات وبلاد الهنود الحمر.
في يوم ثان قال سامر لأمه: أخبرنا المعلم في المدرسة أن السفر مفيد وأن
بإمكان الصغار أن يسافروا أيضاً.
فأفهمته أمه أن معلماً يقول مثل هذا لابد وأنه مجنون لأن السفر محفوف
بالمخاطر ولا يجوز أن يعرض الصغار لهذه المخاطر.
في يوم ثالث ذهب سامر إلى الساحة حيث تنطلق السيارات المسافرة وأخبر رجلاً
ينادي على المسافرين أنه يرغب أن يسافر وحين سأله أين؟ أجابه بأنه لا يعلم
ولكنه فقط يريد أن يسافر.
نظر الرجل إليه باستغراب ثم مد يده يطلب نقوداً فأخبره سامر أنه لا يملك
نقوداً. عندئذ نهره الرجل قائلاً عنه أنه ولد مخبول.
في الأيام التالية صار سامر يذهب إلى الساحة يراقب السيارات والحقائب
والمسافرين، وحين تنطلق إحدى السيارات يرافقها ببصره ولا يعود إلا حين
تنطلق أخرى فيرافق هذه من جديد، وحين ينتهي رتل السيارات يعود إلى بيته
فتلقاه أمه غاضبة، وأحياناً تضربه وفي المرة الأخيرة هددته بأن تحبسه،
ويومها بكى وأوى إلى الفراش من غير طعام.
استيقظ في الصباح فوجد نفسه عموداً منتصباً على طريق طويل مغسولاً بماء
المطر يلمع تحت أشعة الشمس الصباحية. نظر حوله لم يكن ثمة غير طريق طويل
وأراضي شاسعة لا حدود لها مغبرة زرقاء ورمادية. ورأى أعمدة أخرى كثيرة
منتصبة على جانبي الطريق تشده إليها أسلاك دقيقة. نظر إليها بحنان ومودة
بالغتين وقال في نفسه: كثيرون هم الأطفال الذين يضربون ويحبسون لأنهم يحبون
السفر.
وعلى الطريق الطويل انطلقت أعداد كبيرة من السيارات ذاهبة آيبة وكان بإمكان
أن يشرف عليها ويعدها وينطلق معها.
البحر
كان من عادة البحر أن يراقب الأطفال على الشواطئ وكان يشعر بكثير من
السعادة حين يعبثون برماله ويجمعون أصدافه الصغيرة، ويتراشقون بمائه، وكان
يحزنه بشدة بكاء بعض الصغار خوفاً من مياهه ويتمنى لو يقدر على الكلام
ليقول لهؤلاء الصغار الخائفين بأنه يحتضن أجسامهم بلطف بالغ وأن طباعه
رقيقة جداً وأنه لا يثور دون سبب كما يزعم الكبار.
في أحد الأيام أراد أن يدخل المتعة إلى قلوب أحبائه الصغار فتراجع قليلاً
إلى الوراء ليسمح للأطفال أن يمرحوا في مساحات كبيرة من الرمال وليجمعوا
أصدافه التي كانت مختبئة في الماء. ولكنه لم يكد يتراجع حتى اندفع الكبار
بآلات حديدية خدشت رماله وتدحرجت الأحجار الكبيرة تنتقل فوق شاطئه فتأوهت
الرمال والأصداف وبكى الأطفال وابتعدوا مذعورين.
ثار البحر وغضب فارتفعت أمواجه وعادت مياهه جارفة هادرة. غرقت الآلات وماتت
الحجارة، وعاد الأطفال يلعبون آمنين على شاطئه.
الفزّاعة
في زمن مضى، جاع الأطفال في أول الصيف، فذهبوا إلى آبائهم الذين يحصدون
القمح في الحقول، وطلبوا منهم أن يطعموهم خبزاً. ورجا الآباء أطفالهم أن
يصبروا على الجوع حتى آخر الموسم. وأصر الأطفال على طلب الخبز وبدأوا
يصرخون.
حينئذ تقدم أشخاص ضخام، ثيابهم نظيفة، لهم كروش، وبيد كل منهم عصا مدهونة
تلمع تحت أشعة الشمس. قالوا للأطفال:
ـ ليس من حقكم أن تأكلوا، فأنتم لم تعملوا.
واحتج الصغار بأن الأطفال الذين في سنهم يلعبون ويذهبون إلى المدرسة، وأن
آباءهم اشتغلوا أياماً طوالاً حتى سال عرفهم وبلل التراب. وأن الأشخاص ذوي
الكروش وحدهم الذين يستريحون طوال العام ويبتلعون جميع المواسم.
هز الأشخاص الضخام عصيهم وضربوا الأطفال، وحينئذ هربوا وجلسوا تحت ظل شجرة
وبكوا، ثم ناموا جائعين.
في الليل جفت أجسام الأطفال وتحولت سيقانهم وسواعدهم إلى عيدان يابسة. وفي
الصباح أخذهم الرجال الضخام ووضعوهم فوق البيادر الكبيرة فزاعات للعصافير.
فوجئت جماعات العصافير بشخص يقف فوق كل بيدر فاتحاً يديه وساقيه، يرتدي
ثياباً فضفاضة يعبث بها الهواء. ووقفت العصافير بعيدة وخشيت أن تقترب. وحين
استبد الجوع بالعصافير، غامر بعضها وتقدم والتقط بعض الحبّات وطار بسرعة.
لم تحرك الفزّاعات ساقيها أو ساعديها، بقيت ثابتة، وقررت أن تترك العصافير
تأكل فقد خافت عليها إن جاعت أن تجف في الليل، ولا يعود بإمكان أحد أن يسمع
صوتها.
عاودت العصافير الكرة، وحين لم تتحرك الفزاعات تقدمت مطمئنة من البيدر
تلتقط الحب بهدوء. وخطر لعصفور جريء أن يقف على يد الفزاعة فلم تقبض عليه،
وتجرأ آخر ووقف فوق رأسها وغرد.
ومنذ ذلك الوقت تحب العصافير الفزاعات بعضها بعضاً.
العصفور والطائرة
طلع
الصباح.. اهتزت أوراق الشجرة وأفاق العصفور. فتح عينيه وصفق بجناحيه وطار.
كان نشيطاً تغمره البهجة.. حط على الأرض وتمرغ بالعشب الأخضر، ابتل ريشه
بالندى فنفضه وطار. استمع إلى زقزقات العصافير البعيدة، كان يفهم ما تقول.
أجابها بزقزقة ممطوطة، واستنشق هواء الصباح بعمق.. كان الصباح جميلاً
والعصفور مسروراً.
فجأة
سمع صوتاً غريباً.. كان صوتاً قوياً مزمجراً لم يسبق له أن سمع مثله من قبل
خفق قلبه. اهتزت الشجرة.. صمتت العصافير وتوقفت الصراصير عن الغناء، وركضت
الحشرات تختبئ في شقوق الأرض.. صمت كل شيء. رفع العصفور رأسه نحو السماء..
كانت زرقاء صافية، وشاهد فيها طائراً كبيراً يمرق بسرعة من غير أن تخفق
أجنحته.
كان
يهدر بشدة. تعجب العصفور من أمر هذا الطائر وتساءل في سره: أي طائر غريب
هو. قد يكون أكبر من شجرة التوت الكبيرة التي اعتاد أن يقف عليها في بيت
صديقه غسان. ولكن لماذا يبدو غاضباً إلى هذا الحد؟ وكيف يستطيع أن يطير من
غير أن يرف بأجنحته أو يحركها؟ ودفعه فضوله إلى أن يسأله عنه، فطار مسرعاً
إلى بيت صديقه غسان.
كانت
الجدة في الحديقة تنزع بعض الأعشاب اليابسة. زقزق العصفور قائلاً:
-صباح
الخير أيتها الجدة.
-صباح
الخير أيها الجميل.
-هل
رأيت يا جدتي ذاك الطائر الكبير المزمجر؟ إنه يلتمع تحت أشعة الشمس، ويطير
ثابتاً وكأنه لا يخشى السقوط.
-إنه
ليس بطائر أيها العصفور.. إنه طائرة.. ألم تر أو تسمع بالطائرة؟
-لا.
وما هي الطائرة؟
-هي
حوت ضخم من الحديد.. جوفه كبير.. يبتلع الناس وأمتهم ويطير بهم ويأخذهم إلى
أماكن بعيدة حيث يخرجهم ثانية من جوفه.
فكر
العصفور في نفسه: لا شك أن الطائرة أفضل مني فأنا لا أستطيع أن أحمل سوى
القش بمنقاري.
ثم سأل
الجدة:
-وهل
تطير مسرعة.. أسرع مما أطير؟
ضحكت
الجدة وقالت:
-أسرع
بكثير.
-وماذا
تحمل في جوفها أيضاً؟
-تحمل
أشياء تشبه الكرات. هل تعرف الكرات؟. إنها تلك الأجسام المستديرة الملونة
التي يلعب الصغار بها، وحين ترمي تلك الأشياء تزرع الموت والدمار.
خاف
العصفور وارتعش. سأل الجدة:
-وهل
يحب الأطفال الطائرة يا جدتي؟
-إنهم
يخرجون حين يسمعون صوتها، يرفعون رؤوسهم نحو السماء، ويصفقون لها بأيديهم
وتعلوا ضحكاتهم وهي تمرق بسرعة فوق رؤوسهم.
حزن
العصفور وقال في نفسه: لا شك سيأتي يوم ينصرف فيه الأطفال عن الطيور
ويتعلقون بالطائرات.
ترك
العصفور الجدة واقترب من النافذة. كان غسان الصغير يحبو وهو يضرب بيديه
لعبة صغيرة.
عادت
الطائرة يسبقها صوتها المزمجر.. اهتزت جدران المنزل.. صرخ غسان.. بدأ يبكي
بشدة، كان الرعب يهز جسمه الصغير.
نقر
العصفور زجاج النافذة.. نظر إليه الطفل سكت ثم ضحك وبانت أسنانه الصغيرة.
صفق العصفور بجناحيه منتصراً. قال في نفسه: لن تكون الطائرة أفضل طالما هي
تبكي الأطفال وأنا أجعلهم يضحكون.
(للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
|