المنفى عند درجة الصفر
بعد أن تكرر الفعل عدة مرات، قرر أخيرا أن
يستكشف غرض هؤلاء الشباب الصغار من توقيفهم للمارة.
كان في عجلة من أمره، البرد قارس في ليالي كانون اللندنية ، قبل أعياد
الميلاد، والساعة تجاوزت الثامنة مساء. لا وقت لديه لأسئلة لا تنتهي من مؤسسات
إستطلاع الرأي العديدة في هذه المدينة. لكن تكرار الطلب جعله يشك في الأمر.
فلربما كان للأسئلة علاقة بالحرب التي تلوح آفاقها فوق منطقة الخليج ؟. لم يسمع
الأخبار منذ عدة ساعات. هل قررت أمريك اقصف العراق مع حليفتها بريطانيا؟.
أوقفته الفتاة الأخيرة قرب محطة النفق. إستجاب هذه المرة، وهيأ نفسه لأن يقول
لها أنه ضد الحصار المفروض على الشعب العراقي، وضد الضربة وضد صدام في الوقت
نفسه.فليخرج صوته رقما إضافيا في الإستفتاء.
"هل أنت راض ٍ عن حياتك الماضية أيها السيد"؟..
اقتحمه السؤال الانجليزي متداخلا مع لهجات عربية يعج بها الشارع من حوله.
تأّمل الفتاة السمراء النحيلة، وود أن يسألها إن كانت خرجت له من قصص الخيال !.
كررت السؤال. علق بأنه "سؤال غريب"، بل فضّل ان يقول أنه تافه ولا يبرر توقيفها
له وإضاعة وقته في هذه الليلة الباردة. أجابت أن مؤسستها معنية بهذه الأسئلة
الغريبة، قالتها وهي تبتسم ولم يشعر ان صوتها يشي بالسخرية. ولاحظ انها تمسك
قلمها في حالة إستعداد للكتابة، بصرها معلق به مترقبة حركة شفاهه.
"لا لست راضيا عن حياتي الماضية ".ردّ متهكما منتظرا ماستفاجئه به من تعقيب،
ثم سحب نفسا عميقا من سيجارته التي اوشكت على الانتهاء، فتأجج وهجها للمرة
الاخيرة .
شخطت الفتاة، متحمسة، بقلمها على مربع صغير فوق الورق.
" أضيفي إسمي للملايين الآخرين في العالم"..
ابتسم وانسحب بسرعة. كانت بوادر موجة انفعال غريبة قد بدأت تسري في جسده، لا
تشبه على اية حال قشعريرة البرودة.
"سؤال آخر أيها السيد ".
استوقفته مرة أخرى بعد أن لحقت به، وبدا عليها الاصرار:
"ماذا لو أن هناك من يساعدك في تصحيح هذا الماضي؟"..
بادره خاطر سريع أن هذه البنت ذات اللكنة الانجليزية الفصيحة والعينين
الصينيتين ، تلعب مع زملائها الآخرين من ذوي البشرة البيضاء لعبة فانتازية.. "
ربما كانوايحتفلون بطريقتهم الشبابية الحديثة !". ألقى نظرة سريعة حوله حيث
الاضاءة الشديدة زينت المدينة المقبلة على اعياد الميلاد ورأس السنة، فوجد أحد
رفاقها مهموما مثلها مع عابر آخر. هل يزجرها وهو الذي يحاول قدر الامكان ان
يثبت لأهل البلد منذ وصوله أنه غريب ومهذب، ولا داعي لأن يشعرون تجاهه بمشاعر
العداء!.. لكن أسئلة الفتاة ذات الملامح الاسيوية تجاوزت سذاجة العديد من أسئلة
استفتاءات المؤسسات التجارية التي واجهته من قبل.
" ومن هو هذا المتطوع لتصحيح مسار حياتي أيتها الآنسة ! " ..
سألها وابتسم لمرارة ساخرة بدأت تنتشر بين أضلاعه ضاغطة على رئتيه، بينما
راح يلف الشال الصوفي حول رقبته ليرد عنها هواء الليل البارد. أراد ان يشارك
الفتاة لعبتها بفضول كي يحكيها فقط لاصدقائه، المغتربين مثله في هذه المدينة
الكبيرة. "هناك". . قالت الفتاة ثم مشت أمامه عدة خطوات لتقوده نحو المكان
المفترض. "في المكتب فوق يا سيدي".
لم يزعق بوجهها. لجم غضبه واكتفى بأن أشار بيده حركة وداع.
بعد عشر دقائق، داخل قطار الانفاق، وفوق أحد المقاعد المصفوفة بشكل مستطيل
ليكون ظهر الراكب باتجاه النافذة، كان قد رمى بجسده المنهك من نهار طويل، وراح
يتابع أجساد الركاب الآخرين المستسلمة لاهتزاز العربة. كم واحد منهم ينطبق عليه
السؤال.. الرضا عن الماضي؟.. قبل ساعتين، غادر عمله بمنطقة هامرسميث متوجها إلى
شارع كوينزواي، ولم يكن لديه من مهام سوى تحويل المبلغ الشهري لأهله. فمن أين
خرجت له تلك الجنية بأسئلتها الغريبة، التي ستظل على ما يبدو لغزا طريفا يحّوم
في ذهنه. لم يسألها عن شركتها التي أرادت أن تصحبه إليها. أي عمل في الثامنة
مساء؟.. قالت له " فوق "، فاستعاد حذره من مخاطر مخبوءة في هذا البلد الغريب.
لكن هل إبتعد عنها لهذا السبب !.. لا. ما كان سيتبعها حتى لو كان موقع المكتب
على الشارع العام. ربما أنها تعمل لصالح شركة تأمين !. خمّن بعيون ناعسة، أو ان
شركة إستثمار تشغّلها ورفاقها لالتقاط رواد شارع يكثر فيه السيّاح العرب. " هل
أنت راض ٍعن ماضيك ؟".. سألت البنت النحيلة. ما أغربه من سؤال في الصميم لا
يطرح عادة سوى بين أطراف حميمة تعرف بعضها البعض، منذ زمن على الاقل!..
توقف القطار
عند محطات عديدة فردد الصوت التقليدي الصادر عبر الميكروفون محذرا: "
mind the gab
"
"انتبه للفجوة".. عبارة مسجلة تنطلق في الانفاق عادة لتنبيه الراكب الى
مساحة الفراغ ما بين القطار والرصيف عندما يهمون بالنزول. "انتبه للفجوة " . .
وشعر ان حياته هي المعنية بهذا النداء المتضامن لحظتها مع "حشرية" فتاة شارع
كوينزواي.
بعد ثلاثين دقيقة، وكان القطار قد أفرغ غالبية ركابه، لفت انتباهه خيال
عجوز منعكس في الزجاج المعتم أمامه. " أهذا أنا؟".. ونظر حوله ليتأكد من أن ظل
الأكتاف المحنية والرقبة الغارقة مع الرأس فوقهما، يتطابقان مع جسده. ثم لاحظ،
أن الصحيفة التي كان قد أخرجها من حقيبته ليقطع بها ملل الطريق، لا تزال مطوية
بين يديه. في الحقيقة كان ذهنه قد شطح به عشرين سنة إلى الوراء، حيث مطلع
الشباب والأحلام المتحرقة للتحقق. هاهو بعد أن قطع كل هذا المشوار الزمني:
تشردَ بين بلاد الله الواسعة، عمل في أكثر من بلد، انتهاءً إلى هذه المدينة
الكوزموبوليتانية، ها هو يبدأ من درجة الصفر. أهو قدر الغرباء؟.. "بعضهم فقط
"..صحح لنفسه المعلومة وتذكر غنائم كثيرة حققها غيره بأساليب لا يقوى عليها
بطبيعته. ألقى نظرة ثانية على الخيال الجالس أمامه، ثم نهض إستعدادا لمحطته
القادمة.
بعد اثنتين وثلاثين دقيقة على رحلته، كان يصعد السلم الكهربائي ويغادر محطة الانفاق القريبة من بيته.
لفحه هواء الليل البارد، فانتبه الى أنه نسى شاله الصوف في القطار. اشعل
سيجارته وسار بإيقاع أكثر بطئا مما اعتاد عليه، لا يلف رقبته المرتجفة سوى سؤال
حارق ألقي أمامه قبل قليل، ومن مؤسسة معنية بإجراء إستفتاءات ذات أسئلة غريبة.
لندن/ ديسمبر1997
مريم تهزّ جذع النخلة
كان جسدها مسجّى مثل حوض زهور عطش للماء. جسد أشبه بالجثة، ولم يكن سوى جسد
إمرأة تدعى مريم، ولدت في يوم ربيعي قبل ثلاثين عاما.
لم أصدق الخبر لما أعلنوا عن مراسم جنازتها " انتحرت" .. هكذا أذاعوا الخبر،
لكن كيف لمريم ان ترحل قبل ان تحس بطعم الحياة !..إستدرجتها القبيلة للموت،
وهيأت لها كل ظروف الذبول. استلقت هي في الحوض، تيممت بالتراب، فنمت كنبتة برية
تحميها الاشواك من اقتراب اصابع اللهفة .
أسرّت لي مرّة : " يرهقني هذا الخلل في علاقتنا، ان تكوني الوجه الآخر لقمري
".
وكنت أنا منذ سنوات حياتي المبكرة قد غسلت عن جسدي جفاف التراب، وهربت الى مجرة
شمسية أخرى، تاركة لمريم مشاغلها بفرش سجادة صلاة لأبي، وستر بقعة قصيّة من
جسدها معرّضة للسعة الحرق. تمردت عليها، هي المنتشية رضى واستسلاما لانسكابات
الثناء ترفدها القبيلة في روحها، لتراب ينهال على حوضها فيزيدها جفافا . "
لمَ لمْ تهزي جزع النخلة يا مريم "؟..
كانت الحياة تسير بإيقاعها اليومي، لا حزن علي تلك الشابة، كما لو ان موتها
الآن نبوءة رافقت لحظة الميلاد . اصطفوا حولها، كثيرون ، أمي، أبي، بعض أقارب،
وبعض غرباء. عيونهم جميعا تبحلق بانطفاءة حياة، وتشيّعها بسلام.
مدّت أمي يدها الى صدر مريم، وانتزعت وردة حمراء قانية. ابتسمت بارتياح وهي
تتلمس طزاجتها وسلمتها لأيد أخرى، متيقنة من أمر عظيم: "الوردة لم يشمها أحد".
" أنت أيتها المرأة هناك. لم تضغطين على ورق غض بهذه القسوة؟.. أنت أيتها
المرأة لم تقتلين معهم مريم !". لكن المرأة هناك تتماهى مع الوردة وتنتشي
بأيلولة عطرها الى الحجر!. تتنفس الصعداء: ليست وحدها المختنقة بهواء فسد داخل
الخيمة.
أخطف الوردة من المرأة. أقبلها وأركض الى جسد مريم، أعيد لها قلبا طريا كان
ينتفض في كفي. ملمسه يشبه ارتجافة طائر جريح. "
لا تلمسيها فتسرى إليها عدوى الحياة".
تنغرس أظافر رجل ما في لحم ساعدي وهي تشدني بعيدا عن حوض زرع تضاريسه تشبه جسد
مريم، وقد توزعت فوقه الثمار البرية. " أصرخي يا مريم.. أزيحي تلك الازهار
الذابلة من فوق شفتيك. أسمعيني صوتا، دليل إثبات على حياتك ".
تتكاثر الأكف التي تغرس أظافرها في لحمي، وترطم خدي صفعة ساخنة من كف أبي، تلك
التي كانت طيبة وحانية في الطفولة ، كف توشك ان تهيل التراب فوق روح مريم الآن.
وحدي كنت أبكيها وجمع نسوة توارين في لجوة خيمة بعيدة، أرثي لمواسم مطر هطلت
هباء علي أرضها، لنهر جرى فوق احتمالات الجفاف. " لمَ لم تلتقطي الثمر اليانع
يا مريم؟.. لمَ لم تهزي جذع النخلة؟". " أمي ساعديني في ريّ جسدها بالماء.
عيناها تتوسلان فرصة أخيرة .. وفمها ينتظر قبلة حياة مختلفة.. أمي من
أين جئت بكل هذا السلام المتمدد فوق ملامحك؟"
لكن أمي لا تكف عن التمتمة والأدعية، تمنح مباركتها لكل هؤلاء المشيعين وتسلخ
جسدي بنظرات عينيها الغاضبة، نظرات أذكرها رافقتني طويلا مثل كابوس يستلب مني
هدأة النوم. وأمي وعدت القبيلة أن تزوج أجساد بناتها للموت منذ أن تلوح على
الغصن بوادر الثمر. ويا مريم .. يا زينة بنات العائلة، ترحلين تاركة وراءك
ثمراً فسد، وما تذوقت طعمه بعد !.بعد ان شغلت أيامك بصلوات علها تحمي خصوبتك
المتآكلة !!
يتحرك بؤبؤ عينيها، يجول في وجوه جامدة. أسألها :
"هل تذكرين رغبة سرّية همست بها مرة؟."
" أن ينبت لي جسد جديد."
" كي ترعينه بشكل مغاير. يومها قلت لك تحتاجين تغيير رأسك أولا ".
"جزعتُ وتلمست رقبتي الفتية ".
"أردت جسدا جديدا لا تلوثه بقعة دم؟. لكنهم يقتلونك الآن بذات الرأس. يقفون
بثبات الأنبياء، يشيّعون حياة أطفأووها فيك "..
قال أبي مقاطعا حوارنا الصامت: " عسى أن يكون موتها درسا لك. من التراب
جئنا وإليه نعود ". ثم فتح صندوقا عتيقا وأطلق منه دودا كثيرا راح يتلمس طريقه
باتجاه حوض الزرع ويتشمم رائحة جسد أنثى.
صرختُ : " مريم لن تموت".
ربّت أبي علي ظهري حاسما أمرا مقضيا، بينما استعد رجال العائلة بمعاولهم لبدء
لحظة الدفن: " ألقي نظرتك الأخيرة".
وحدقت بوجه أعرف ملامحه جيدا. وجه يشبهني، وعينان مؤهلتان لاحتضان عوالم
شاسعة. وحين يبدأ انهيال التراب تتسلل حبّاته الى رئتيّ. أكاد أختنق. موتها
موتي !
"هاتي كفك يا مريم ولنخترق صلاتهم علي روحك. تشبثي بكفي، بقوة، إصعدي معي
الدرج الموصل الى سماوات رحبة. أطلقي شهقة حياة ".
كان جسد مريم يستعيد قوته.. يتفتح نوارا ويتلون مع كل درجة صعود.
" اصعدي ، فتخضرّ أعشاب يابسة، تتفجر ينابيع جفّت، وينضج ثمر ".
كانت القبيلة لا تزال تحيط بحوض الزرع، تبحلق الى أرض تشققت بحجم حفرة جسدها.
وعند واحة حجبتها الطيور، راحت مريم تهز جذع النخلة، فيسّاقط عليها رطبا جنيّا.
ديسمبرالكويت آذار/مارس 1989
فنجان شاي مع مسز روبنسون
رسمت السيناريو في ذهني، وكنت استرجع المشهد المتخيل مرات عدة. كيف ستفتح لي
الباب فأرتمي في حضنك، وقد تنفلت الحرقة من مقدرتي على التحكم بها فأشهق، ثم
سأحكي لك عن الحادثة. او ربما في سيناريو بديل، يجب ان اتماسك وأسرد تفاصيل
الحادثة اولاً، ثم أبكي ذلك البكاء المؤجل في حلقي، منذ اكثر من ساعة.
كان يجب ان اتخيل التفاصيل المقبلة للقائنا، لأنها هي التي سندتني من السقوط في
الطريق العام. حبست دمعتي لئلا استثير شفقة المارة في الطريق، او ألفت انتباه
ركاب الحافلة بعد الصدمة التي تلقيتها.
تخيلت كيف سأدخل الى البيت بعد ان اضغط على زر الجرس، لن افتح بالمفتاح قلت
لنفسي، سأدق، ولن اضغط طويلاً على زر الجرس، لئلا اثير فزعك. وعندما تفتح
ستراني اغطي خدي الايمن بكفي وسأبدأ في قص الحكاية التي جرحت كبريائي مساء
اليوم. سأقول لك بعد ان اهدأ انني ما كنت قادرة على ترك نصف وجهي المصاب
مكشوفاً للعيان، مثل عورة. صحيح انني كنت ضحية للعنف، لكنك تعرفني جيداً وتعرف
كم اكره التصرف بسيكولوجية الضحية.
تذكر عندما لجأنا الى هذا البلد هرباً من قمعين: ارهاب السلطة وارهاب الاصوليين؟
وتذكر اليوم الذي قدمنا فيه اللجوء هنا، يومها تحدثت بقوة مع الموظف البريطاني
المكلف ملفنا، قلت له: "أنا وزوجي وابنتي لن نبقى هنا بعد زوال الاسباب التي
تهدد حياتنا بالخطر. نحن لا نحلم ببلادكم كجنة بديلة، بل كملجأ يمنحنا الحياة
الآمنة الى حين. لم يبد عليك الارتياح من ردودي وانتقدتني بعد ان خرجنا، انني
خاطبت الموظف البريطاني كما لو ان وجودنا في بلاده منّة، لا طلباً للأمان".
"كان يجب ان تكون نبرة صوتك اخف حدة وأنت تتحدثين اليه". قلت من دون ان تنظر في
وجهي ونحن نسير باتجاه محطة القطار القريبة من وزارة الداخلية في منطقة كرويدن.
أزعجت من الهواء البارد ومن تحاملك عليّ، ورددت بنبرتي اياها التي لم تعجبك:
"لكن موظف دائرة الهجرة استجوبنا استجواب المجرمين المتسللين الى حدود بلاده".
تصمت عندما لا يروق لك كلامي، تتركني احكي وأنفعل، وتلتزم انت الصمت، تكبّراً.
يغضبني صمتك في لحظة مفتوحة على الحوار، فأبدو في حضرة تجاهلك إمرأة ثرثارة.
على اي حال سيناريو اليوم باحتمالاته المتعددة لم ينجح، فعندما ضغطت على جرس
الباب، كان قلبي يدق توجساً من اللحظة التالية التي ستصدمك وتجعلك تشاركني
الحال المؤجلة. كيف حدث ما لم نتوقعه، هذا الذي هربنا منه في بلاد قست علينا
كثيراً في السنوات الاخيرة؟ حدث سيجعلنا نعيد التفكير بفكرة المنفى والامان، ان
هو تكرر معنا. الا انك عندما واجهتني كنت تحمل بكلتا يديك كأساً وسيجارة.
انشغلت الكفان عن اي فعل آخر، كأن تحتضنني مطمئناً وماسحاً على رأسي. لم تكن
انت الذي فتحت لي الباب. دخلت انا بمفتاحي، لأنك لم تسمع رنين الجرس. كنت
وصديقاك، تتناقشون بصوت عال في القضية الوطنية، جلوساً في شرفة الشقة المطلة
على منحدر جميل في حي هامستيد. لا بد من انك لمحت طيفي ينسحب بسرعة من الصالة،
فلحقت بي. لم تسألني عن سرّ خدي الايمن الذي استرخت عليه كفي "ما بك؟" وأردفت
بسؤال آخر: "لم اتمكن من احضار البنت، انشغلت بضيوفي، هل تذهبين انت؟".
هكذا اذاً رششت الملح على الألم ليستعر اكثر، كنت لحظتها اجلس على حافة السرير
واجمة من صفعة الاسئلة الباردة، على كلا الخدين هذه المرة. خمنت متسائلاً: "هل
هو ضرسك؟".
"لا. تعرضت للعنف في الشارع".
لا تزال يداك منشغلتين بما تحمل، وطالت مساحة الرماد المحروق من السيجارة
فتحركت صوب النافذة ونفضتها في الهواء الخارجي. كأنك لم تستوعب الحدث، ام انك
استوعبته وكنت تحلله منطقياً يا استاذ الفلسفة، عندما سرحت قليلاً!
سألتني عن مواصفات المرأة المعتدية وإن كانت معروفة لديّ. تحولت الى محقق شرطة
وكنت لحظتها احتاج الى صدر حبيب. جهامتك وشعرك الذي غزاه شيب مبكر، يطلان عليّ
مثل تمثال مهيب، فاشعر بقزامتي فوق حافة السرير. كائن قزم ينتظر لفتة من الشفقة
والحنوّ. تنظر الي من عل وتدقق عن بعد في آثار ارتطام خدي بالجدار، الذي لولا
انني حميته بكفي... و...
باخت الحكاية وانفلش السيناريو الذي كان سيخفف عني وقع الصدمة/ الاهانة. قبل
ساعة واثناء سيري في شارع مزدحم اقتربت مني امرأة ضخمة الجثة، لاحظت توجهها
السريع نحوي قبل وصولها بأمتار عدة، خانني ذكائي واستبعدت اي نية سيئة، لكنها
فاجأتني بدفعة من كتفها الممتلئة، ورمت بجسدي النحيل يميناً. فعلت ذلك وهي تصرخ
بهستيرية: "اذهبي الى الجحيم". ولولا انني حميت وجهي بكفي لتعرض رأسي لما هو
اخطر.
لم اروِ لك الحادثة كما اشتهيت ان تروى، حوّلت انت التفاصيل الى مجرد اجابات عن
اسئلة: كيف ومتى، ولماذا تعتقدين انه موقف عنصري؟ لم تكن في جلسة حوار فكري
ايها السياسي اللاجئ، كنت في غرفة النوم مع امرأتك التي لم تصحُ بعد من هول
الصدمة!
ان لم تتعمد المرأة المعتدية ما فعلته، كانت توقفت بعد شهقة الالم وبعد ان تجمع
المارة حولي. لكنها اكملت السير منتصرة. لماذا انا؟... هذا ما اردت ان تقوله
لي. حسناً لا بد من ان الاعتداء كان رد فعل سريعاً على احداث العنف التي شهدتها
مدينة مانشستر قبل اسابيع بين آسيويين وإنكليز. ربما ان بشرتي السمراء استفزت
تلك المرأة، وهنا يصنفون الافراد بحسب لون بشرتهم: ابيض اوروبي، ابيض غير
اوروبي، وأبيض من اصول اخرى (حدد). اسود افريقي، اسود كاريبي، او اسود من اصول
اخرى (حدد). هكذا تتكرر الاسئلة في الاستمارات لتطاول كل الالوان، فإلى اي
الالوان انتمي انا في الشارع؟ الى سمرة شمال افريقية، الى سمرة عربية، ام ان
علي ان اكون اكثر تحديداً؟ هل تراه كان عنفاً مجانياً من النوع الذي يحدث كل
يوم: عجوز يضرب في بيته من مراهقين، وعجوز اخرى تسرق في الطريق بعد ان رماها
احدهم ارضاً ليسرق منها مبلغ تقاعدها الرسمي بعد ان تسلمته للتو من مركز
البريد. ربما ان المرأة المعتدية عصابية، وكنت انا ضحيتها، ربما ان هناك دوافع
اخرى. لم تكن اللحظة مفتوحة للاحتمالات. كانت لحظة لا تحتمل اكثر من التعاطف.
برد الغضب في داخلي ولم يهدأ. وأنت، يداك مشغولتان بسيجارة وكأس. والصديقان
ينتظران على الشرفة في ليلة صيفية لطيفة قلّ ان تحدث في ليالي مدينة لندن. هل
هي غلطتي انني تعرضت للأذى في الوقت الخطأ، هل كنت ستتصرف بحساسية اكبر لو كنت
وحيداً في البيت، او لو لم يكن الجو صحواً!
بدأ المطر بالنث، فمنح زجاج الحافلة انعكاس
المرايا. تتداخل المشاهد المضيئة من داخل الباص وخارجه مع مشاهد من عمري: الحب،
الزواج، النشاط السياسي لكلينا، الملاحقة، قرار مغادرة البلاد بعد تهديدات
الاغتيال التي وصلتنا، الانتقال الى هنا. متابعتي دراسة الهندسة الالكترونية،
ابنتي التي اتركها عند جليسة اطفال حين يكون ابوها خارج البيت. عملي في اوقات
الفراغ في المقاهي وتوزيع المنشورات الدعائية الخاصة بمطاعم البيتزا والسوبر
ماركت، في مقابل اجر زهيد يدعم مصاريفنا. كم دارت معي ابنتنا نادية ولم تكن
تجاوزت الرابعة من عمرها، تسابقني لتضع اوراق الاعلانات الملونة في فتحات
الابواب المخصصة للبريد. اننا نحوّل التعب الى لعب ونضحك، فيخف تأنيب الضمير
بداخلي لأنني اشغل طفلتي معي في تحصيل لقمة العيش.
تمر المشاهد امامي مسرعة وأنا احدق الى يميني، الى زجاج النافذة المغبش قليلاً
برطوبة مطر انهى صحو يوم صيفي في لندن، ام تراها غبشة عينيّ وقد تسربت رطوبة
دمع جهدت ان اتحكم فيه!... لا اريد شفقة عامة من حولي، من اشخاص منهكين بعد يوم
عمل طويل وتفاصيل حياة مرهقة.
لكن لماذا لا اتذكر اللحظات السعيدة؟ نجاحي في الجامعة البريطانية الذي جلب لي
عرضين للعمل بشروط ممتازة. لماذا لم تبد مبتهجاً مثلي عندما قرأت عليك رسالة
شركة الهواتف، تلك التي ابدت حماسة للبحث الذي قدمته في الماجستير عن تكنولوجيا
الاتصالات، الرسالة التي عرضت علي العمل بامتيازات لا تقاوم؟
"مبروك"... قلت
على مضض. كأنك استكثرت تفوقي في البلد الغريب، كأنك غضبت من رفيقة درب لم تخفف
عنك وحدتك وتمنح نفسها خالصة للمنفى. هل هذا هو سرّ وجومك قبل قليل؟ ارتحت
لصفعة اعادت التوازن الى صورتي في ذهنك، زوجة سياسي منفي، غريبة في بلد غريب،
وليست لاجئة تتمتع بحق النجاح والثناء، منفردة؟ رفيقة ليس بالضرورة ان يحمل
تقديرها درجات
PLUS.
ولم لا تحمل تقديرMINUS
في نشاطها، درجات سلبية في مواصفاتها، كي تتوازن شخصيتها مع واقع وجودها في
المنفى!
عندما فتحت الباب ونزلت، لحقت بي وصحت من اعلى السلَّم: الى اين انت ذاهبة؟
عرضت ان تذهب بنفسك لاحضار الطفلة، لم اجبك، خرجت من المبنى وأنا افكر بمسز
روبنسون، السيدة الانكليزية التي نترك عندها صغيرتنا نادية حين يكون كلانا خارج
البيت. قبل ساعات عدت انت لتلحق بموعدك مع الصديقين، وتجاهلت حقيقة ان هذه
السيدة دقيقة في مواعيدها وترفض ان يترك الاطفال عندها الى ما بعد الساعة
السادسة. امرأة انكليزية بامتياز، وموسوسة بالانضباط. سأضطر لمواجهة تقريعها
الذي تصدره بصوتها الرفيع وهي تفتح لي الباب، زامة شفتيها الرفيعتين فتنكشف
خطوط التجاعيد التي بدأت تكثر حولهما.
لكن احزر ماذا حصل؟ صرخت عندما رأتني: "يا إلهي من فعل بك هذا؟". انفرطت دموعي،
فنست مسز روبنسون تأنيبي لأن الطفلة غفت في الداخل، وأمسكت بكفي طويلاً بين
يديها وهي تربت عليهما، بعد ان اجلستني على اريكة كانت فاخرة يوماً وبهت لونها
مع الزمن. راحت تواسيني وأنا احدق في وجهها محاولة اكتشافها من جديد، أهي ذاتها
المرأة التي كنا نشبّهها بالمسز ثاتشر محيلين الى تسريحة شعرها، وحزمها؟...
احضرت من الداخل
كمّادة مبلولة بمياه باردة، وضعتها فوق خدي المتورم. قالت: "يجب ان نسجل محضراً
عند الشرطة غداً. الوقت تأخر الآن. لا يمكن ان يمر فعل تلك المرأة الشريرة من
دون عقاب. اما الآن يا عزيزتي، استرخي قليلاً، وسأعد لك
a nice cup of tea
الشاي سيعيد الدفء الى كفيّك الباردتين".
( لندن 2002 )
|