شبح الماضي
تمر الأيام خلسة، وينحسر العمر على قارعة
الحنين إلى أنوار الزمن المتشبث بالذكرى. فهذا صيف آخر يحمل وحدتي برفق إلى
مطافات المؤمنين بجدوى تأمل الأشياء الميتة. هذا صيف آخر أطل عليه من نوافذ
الرغبة، ويطل علي من أبواب الحكمة، فلا ألقاه ولا يلقاني. والأشياء التي أكتب
لها الأبدية لا تستجيب، لا تتحرك؛ تنعم في السكون الذي يرافق النهايات.
تمر الأيام محملة بنجوم لا تضيء دربي، وشمس لا تدفئ قلبي، وأحداث لا تلون
الأشياء في عيني، فكأنني محكوم بالغفلة من أمري؛ أمر الحياة. أمد يد الخيال
المسالمة كالضعفاء إلى الرابية التي عراها الزمن من ورود الحلم والفرح.
استنهضها عتاباً، استنهضها ملامة، استنهضها ثائراً، وأسوق لها مشاهداً من ليال
خوال تصلبت في ثغرات العمر كمرافئ تيه. لكنها لا تستجيب. لا تنهض من أحزان
البشر الذين كتبوا أحلامهم على صدرها ثم أضاعوا الطريق إليها، أو أنهم غضوا
النظر.
تمر الأيام وتمد مسافات في بادية الضباب الذي نفخه صدري في لحظة جنون، ولفظه
صدرها في لحظة انتقام فارتفع كهامات القدر؛ أضاعني وأضاعها على أطراف الوصال
المتقطعة. أرقب النيران التي أججتها على الدروب الطويلة المفضية إلى معالم
الفردوس على الأرض. إنها تنطفئ بلا شفقة، وتتحول الوعود المتراقصة على ألسنة
اللهب إلى بواخر من ورق تعوم في بحار بلا نهايات. أتطلع إلى الأضواء التي
أشعلتها في متاهات الروح بالسر وبالعلنية، في البداية وفي النهاية، في الحضور
وفي الغياب، فأنارت ليالي الشتاء وعلقت المصير خارج الزمن. يا الهي كيف يخف
النظر عندما يسقط الإنسان من فضاء منير بشدة إلى هاوية مظلمة بشدة!
ويمر خيالها أمام مساءي المحاصر بالهدوء شبحاً تعملقه الذكريات الطيبة المصلوبة
في وجهي كشاهد على بقايا عبورها من هاهنا. يقف على بعد كاف من الشِباك التي
أبنيها له. يتأملني كأطلال تفيد في لحظة الحسرة، وفي ساعة الاحتجاج، و يهز رأسه
عطفاً. يتمسك بالصمت حتى اللحظة الأخيرة. لا يقول وداعاً. لا يقول إلى اللقاء.
يقول:
- الرصاصة التي قتلت غصون دُفنت معها. تعال إلى أسفل الوادي، وجرب أن تلوي
ذراعي.
- ألست أنت غصون؟
سؤال لا يستحق الجواب. لا يستحق بسمة سخرية أو تكشيرة تأنيب. غبي، أو تافه، أو
مرتبك، أو خجول، لكنه على الأرجح مشبعاً بالجبن والبلادة كحضن ماء راكد. الشبح
العملاق يمضي، فتلحقه النجوم والقمر كمشاعل سيارة، وتحل العتمة التي تشل مفاصل
الحركة ومفاصلي. ثم تنتصب اللوحة السوداء منتعشة بالأضواء البعيدة، وبتلك
الجملة المكتوبة عليها بأحرف يد دامية: الأبعاد الضائعة تخفف الوزن بين الناس!
ضاقت جفوني على احتواء فاصل من نوم. كان ذلك في بداية الصيف في الذكرى السنوية
الخامسة لهمساتها الأخيرة التي وصلتني من لسان إلى لسان: أسدلوا ستار الأكاذيب
المارقة والنفاق المتجذر في كتبكم على وجهي كي لا تروا قبحكم. تب لكم يا قوم
يغسل الحاضر بزفرات التاريخ المبهم. سيأتي الصبح لا محال، وسأعرف كيف ألوي
ذراعك أيها الشبح المتربع على دقائق مساءي يوماً بعد يوم. سأعرف كيف أقتلع لعنة
إبليس من جلدي، وكيف أهتدي إلى الرتابة في التنفس والأكل والنوم والقراءة وشم
الأزهار البرية التي تنبت على رواب لم تشهد بعد ولادة حب أو موت حلم. الصبح
رحاب أمل؛ لكن يجب أن نراه صبحاً لا فراغاً نشازاً بين ليلة وليلة.
بدا لي فجر الهمة والإرادة دقيقة صمت امتدت حتى ساعة متأخرة من الضحى، وتجلت
فيها كوامن النفس التواقة إلى لوي ذراع. انتعلت حذاء سميكاً يقيني نتوءات
الصخور والأحجار وأشواك الغابة، ويشد من عزم الخطوات، ومضيت على الطريق الطويل
المؤدي صعوداً ونزولاً إلى شجرة الصنوبر المنفردة بالمكان في أسفل الوادي.
تسلحت بأقوال مأثورة تمنح المرء قوة وصلابة وتخلصه من الحسابات التي تؤدي إلى
التردد أو إلى الخوف، واندفعت نحو المتن الأكبر، أو التحدي الأعظم، أو بكلمة
بسيطة، نحو الحسم الموجع على نحو الخيارات المتوازنة الخاسرة في كل حال.
طويت المسافة بخطوات واسعة، سريعة، واثقة من أن تجريب لوي ذراع عملاق فيه من
الفضائل فضيلة المحاولة وأكثر. عبرت الغابة المكتظة بأشجار مسنة متشابكة الفروع
متلاحمة. خرجت من طرفها الآخر، وصار البحر الممتد في أفق النظر ينزعني من وحشة
التفرد الطويل مع الذكرى. وعندما كنت أنحدر نحو أسفل الوادي شاهدت على حين غرة
شبح "غصون" يمر بجانبي راكضاً، مجلجلاً، ويلقي عليّ نظرة ساخرة. أشار بيده
المنتهية بأظافر متآكلة الأطراف كسيوف من عهد بابل إلى موقع النزال، وسبقني
إليه. قال:
- الرصاصة التي قتلت غصون لازالت في جسدها. جرب ألا تنسى!
تجاوزني. سبقني. ظل يركض منحدراً إلى شجرة الصنوبر المتعالية في وحدتها. تلفت
إلى الخلف؛ إليِّ، من فينة إلى فينة، وتشدق بالضحك المتحد، الهازئ، الكافر
بجدوى الرأفة الإنسانية عندما تحين لحظة الفصل ولحظة الوقوف العاري أمام النفس
العارية. لاح لي بيده يحثني على السير السريع إلى محطة الحساب فكأنه يشجعني على
عمل المستحيل ضده. لكن ملامح الروح كانت تميل إلى توطين الحزن المتمرد بترقب
وصمت على حملات ماجنة لمنح الذكرى حياة أو حركة. ثمة قدسية مُحيرة تُصاحب
النوايا بالقطيعة مع الأشخاص الذين يمدون بعداً في أقدارنا ويمضون إلى العدم.
ثمة أسف مؤلم لا يحتمل العلاج عندما تكلح ألوان العيش التي علقناها على مشجب
يرتفع إلى أعالي السماء على جناحي حلم.
اقتربت من دائرة المصير التي طوقتني بالحيرة زمناً، ولونت مشاعري بالخيبة
والخذلان واحتجاج الضمير. صرت أشعر كالجندي الذي دخل المعركة. رجل متحرر من
الخوف لأن الخوف فوق طاقته، وأكبر من المكان، وخارج حدود الساعة. وصار "الشبح"
يلغي الفواصل بين أفكاري، فيشمر عن ساعده المنفوخ بمدارات الخيال المبالغ، ويشد
أسنانه النافرة كعيب في كمال إلى بعضها بقوة مهيبة ومجنونة. لمحته يتمطى كقط
قام لتوه من كبوة. كان في الحقيقة يستعد للنزال على طريقته الخاصة وضمن طقوسه
المربكة والمحيرة. أبصرته أيضا يرفع يديه إلى السماء فكأنه يلفت عناية الرب إلى
حاجته به. لكن الأمر لم يكن كذلك. الأشباح تتواصل مع حقائق الماضي من خلال
التوسل إلى ذوات الماضي المتدثرة بعباءة الغيب.
وعندما بلغت المكان؛ تحت شجرة الصنوبر الماثلة
للعيان كمآذن التقوى، حييت مَن لا يُجيب على التحية. لا ضرر؛ فالسلام لله عندما
ترفضه الأحياء وتتكبر مجبولة بالظرف أو مشحونة بالعقد. ثم أن الشبح هو على حال
لا يتغير؛ إما يكون متجهماً، أو يكون ساخراً، أو لا يكون.
- الرصاصة التي قتلت غصون لازالت في صدرها. حاول ألا تستكين!
هددني بلباقة لا تنفع؛ لا تزيد الإرادة الهائجة في صدري بالخروج من دوائر
الذكرى والموت المطبقة على أنفاسي كقدر خطه السلطان بجور وظلم، ولا تلطف قناعتي
بصواب الحسم كيفما المردود جاء.
استلقى الشبح على صدره فوق العشب الرطب الذي حماه فيء شجرة الصنوبر من الاحتراق
بأشعة الشمس. غرس كوعه في الأرض بثبات وحنى ساعده بزاوية ضيقة، وشزرني. ذراعه
ثقيل كرمال البحر المبللة، وسمين كبطن الخيل، ومشدود كحبال المراكب العملاقة؛
فمن يستطيع أن يثنيه؟ وكيف أثنيه أنا الخارج للتو من عزلة خانقة على هامش ضيق
من مجريات الحياة؟ وكيف أثنيه أنا الممزق كعش الفأر ما بين التمسك بالذكرى
المفرغة من الأمل، ومن الحلم، وحتى من الوهم، وما بين الوقوف اليومي على حقائق
الرصاصة التي انتزعت "غصون" من الحياة؛ من حياتي أنا وأطفأت المصابيح على
الدروب؟
كان لابد من الامتثال. لم آت إلى هنا من أجل أن أعود إلى دوائر العزلة
والانطواء على الذات المتطلعة بسذاجة جمة إلى إعادة بعث الحياة وتقليد الأبدية
لأشياء مرغوبة تسكن في الوجدان وحسب. فعندما خطوت على طريق المحاولة للوي ذراع
مهيب، حملت معي كل الأماني بأن أنتقل من عالم إلى عالم وبشكل نهائي؛ فإما لا
أعود أبداً، وإما أعود منعتقاً من زوايا الرصد المتواصل للحظة الوداع القسري.
إما أخرج من هامش الحياة إلى فضاء الله، وإما أخرج منه إلى فضاء الحرية الخالصة
من قيود الذكرى والمنبر الإجتماعي وإرادة ألا فعل. الجمود هو شيء لعمري، يُفسد
العيش وملذات الروح وتطلعات النفس.
استلقيت قبالة الشبح المحقون بالتحدي والجبروت والثقة بعضلات الساعد والنفس.
ثبت كوعي بالأرض على نحو ما فعل هو تقريباً، على مقربة منه، وحنيت الذراع. شبكت
كفي بكفه فأحسست حرارة اللقاء القديم معها على الرابية المطلة بفوقية وسمو على
منابع الشقاء والكدر والخشية والغدر المورث من جد إلى جد، ومن سلطان إلى سلطان،
ومن زمان إلى زمان، ومن أنانية إلى أنانية، ومن يوم إلى يوم. شددت كفي على كفه،
فأحسست أنني أقبض على رأس الحيوان الذي جمد حركتي وعقلي وعواطفي في جانب ميت من
وقائع الحياة والأحياء. وشعرت أن قيم القبيلة تتجمع وتتكاتف على أمري، وتدفعني
معصوب العينين إلى الانتقام الشرس من أعباء بدائية حملني إياها تقاليد ثقيلة
الفهم من الحس السليم، وحدث مفاجئ، واعتزاز بالنفس مبالغ، وانطواء مستسلم على
النفس التواقة إلى التفرد مع قيم البقاء في تلك الساعة التي شهدت غياب "غصون"
الأبدي من دلائل نهاري ومحتواه. ضغط الشبح يدي وسحبني من فضاء الخيال المنهزم
من الواقع، ومرغ أنفي بالتحدي الماثل. حقنت دمائي وقوتي في ساعدي وحاولت أن
ألوي ذراعه. لكن عبثاَ. ذراعه خازوق معدني ثخين مثبتاً في الأرض كجذور شجرة
الصنوبر التي تفرد أبعادها فوقنا. دفعت ساعده إلى اليسار، فبدا لي أنني أدفع
صنماً عظيماً من معتقدات دينية قديمة.
- الرصاصة التي قتلت غصون لا زالت في جسدها. حاول أن تحتج.
قال لي فاتضح من نبرته الهادئة وأنفاسه الرتيبة أنه لا يبذل جهداً كي يقاوم
حماسي للوي ذراعه. كما أنه لم يأتِ بفعل ما للوي ذراعي. إنه يمنحني الفرصة
وحسب. أنه متجمد في عراء الوجد المتجمد في تطلعاتي ليس إلا. شعرت بالعجز المخيب
للطموح، وكدت أن أسلم به وله وأرجع إلى تلك الزاوية الضيقة من تغليف حقائق
الحياة بدقائق الوقوف على الأطلال المكتنزة زخماً من الصمت الذي يشهد على نهاية
محزنة.
فجأة نهضت "غصون" من مدفن الذكريات، باسمة بحياد. تأملتني عن بعد فكأنها لا
تعرفني. لديها بعض الحق. غيرتني خمس سنوات من التواصل مع عوالمي المرسومة على
أوراق الحيرة والتردد والانزواء. كثرت السنوات في ملامحي وصرت شبيه بالفالتين
من حدود العمر المحتمل. الخيبة التي أرثها لي الرحيل المفاجئ لشخص يحمل أحلامي
ومنابع السرور فتكت بمظاهر التسلط على المصير. كانت أقداري بيدي، وصرتُ بيد
الأقدار التي تتهافت على مسالكي وفي ممراتي.
شبكت كفي بكفه من جديد. ثمة عصفور يغرد بين أغضان شجرة الصنوبر نفض شيئاً من
بطنه على قبضاتنا. لم يهتم، ولم أكترث. حثثت قواي وآثرت التركيز. صرخت بقوة
الألم المتأتي من العجز والرغبة في عمل المستحيل، فاهتز المكان والكيان. حقنت
دمائي في وجهي وحبست أنفاسي في صدري وضغطت ذراع الشبح في محاولة مستميتة للويه.
بيد أن ذلك لم يؤدِ إلى نتيجة أو حتى إلى زحزحة قد تشجعني على المواصلة.
- فكر بطريقة أخرى لفتح الأبواب الموصدة.
قالت "غصون" وذابت في الهواء. اعتبرتها تحكي هذياناً لا صلة له بالمعطيات.
أمامي مهمة لا تُنجز سوى بطريقة واحدة. ضغطت الساعد الصلب المنازل بقوتي
الممكنة الأخير وعضضته في آن، فنزفت أسناني وتوجعت، وخدرت عضلاتي، وارتقى
الشعور بالفشل إلى أعلى درجات الاعتراف والحكمة. سحبت كفي من قبضته المتينة،
ونهضت واقفاَ أمام لعنة إبليس المستمرة، ومسحت الخجل المتكاثف في سحنتي. نهض هو
أيضاَ، وتصنم قبالتي كمعبد قديم يحمل قدسية الماضي وينم عن سخرية الحاضر. حدقت
في مقلتيه الهادئتين والمقفرتين كليل الصحراء، وحملق في عينيّ المضطربتين كبحر
تحت عاصفة، وتوقف الزمن شاهداً على ما قد يحصل. والزمن في اللحظات الحرجة يقيس
تطورات النفس لا حركة الشمس. طال وقوفنا الصامت عن النوايا، المتوتر بالغموض
والانتظار. ثم، وعلى حين غرة، رأيته يشبك كفيه حول رأسي من الخلف، ويشدني نحوه
بسرعة خاطفة، وينطح وجهي بشدة. سقطت على الأرض مع الدماء الساقطة من أنفي وفمي،
وضاعت الرؤية في دوامة الألم. وعندما كان ينقشع دخان الصدمة وتتضح الأشياء أمام
ناظري من جديد، أنحنى عليّ، وأنهضني شداً من شعر رأسي. تفقد معالم عنفه البارزة
في وجهي بغضب يائس، وقال بمرارة لا يخفيها:
- الجندي المحصن بقلة الشرف، والذي غرس رصاصة في جسد غصون، لازال يملك المزيد
من الرصاص. حاول أن تجرده منها. ولتعلم، لا يستطيع أحد أن يلوي ذراع الماضي،
ولا يعفى أحد من محاولة لوي ذراع المستقبل.
21/02/2003
للأرواح صور، للصور أرواح
أشرف الفجر ، لكن الروح كانت لا تزال مبللة تنزف بين فكي النهاية . النهاية شيء
جلل قد لا يستسيغه الإنسان ولو كان ذا حكمة ، ولو كان ذا أيمان بأحكام القدر .
العودة إلى الوراء أمر دونه المستحيل . النظر إلى الخلف بذاته هو التواء في
النفس مخيف ، محزن ، لا يحتمل . المضي قدما في الحياة أضحى دربا مرهقا يفتقر
الأنيس ، ينقصه الأنس . عشرة طويلة، قوية ، عميقة ، أعطت لحياتي بعدا واحدا .
كانت ثمة حيرة تمتلكني وأفق من الفراغ يمتد أبعد من مسافات الرؤية الممكنة .
والليل ؟
الليل وحش موحش . الليل جردني من كل نزعات التمويه المكتسبة أو الموروثة .
عراني حتى زمن الطفولة الأول . عرى روحي حتى آخر رمق من التملق على أحوال الزمن
المتقلب على كف لا يستقر على حال . الليل كان عدو ثقيل . تمنيت عليه أن يرحل ،
أن يتركني على انفراد مع أحزاني الطازجة . أعرف أن الأيام تخفف من وطأة الحزن ؛
أعلم أنها تشترط علينا أن نعيشه ، وأن ندونه في سجل الذاكرة الأبدية . الليل
المتعالي يستكثر علي هذا ، يستنكره علي ، ويجول روحي في جزائر العراة . هناك ،
على الشواطئ المسكونة بألف شيطان ، يمزق آخر وريقات الأمل عن جسد أسيرته
ويعرضها على ناس بلا أرواح ، على أرواح بلا ناس . أنها خلوة الليل القاسية مع
النفس الميتمة للتو .
الفجر تأخر في ذلك اليوم الموصوم بعار النهاية المأساوية لمجد من الحب ، لحب
مجيد . تحالف مع الليل ضدي ، أنا المخلوق المروع أمام جحافل الماضي وقد أوصدت
الأبواب . أقول قولي هذا ولا أقصد بعث مشاعر الشفقة أبد . على العكس، لا تشفقوا
على رجل يتسكع في أروقة الحزن ، أشفقوا واطلبوا من الله الشفقة على رجل لم يعرف
الحزن إلا في وجوه الآخرين ، أو في عيونهم أو في دموعهم .
تأخر الفجر كثيرا ، لكنه أتى . كان محملا بصقيع الشمال . هكذا أكدت المذيعة
لأحوال الجو في المساء السابق . كانت صادقة . لكنها ، على ما يبدو ، لم تعرف
بعد غير الصقيع المنفوث من عباب الجليد والثلج . صقيع الوحدة بعد إدمان ، صقيع
الكارثة بعد الخلود إلى الأمان ، هل عرفته ؟ هل جربته ؟
في ساعة الفجر الأولى نهضت من فراشي البارد . فراشي كان رطبا فكأنني أمضيت
الوقت تحت سماء مشبعة بندى كثيف . المريض يتعرق ، إنما المفارق ينضح عرقا ولا
يكتفي ؛ يستجير بالدموع . كنت حائرا من أمري ومن أمر يومي . ماذا أفعل بالوقت
المشرع أمام الرؤية كنصب حجري بلا وعود ، بلا حياة ؟ بل ماذا يمكن لامرئ كبل
الوجد والحنين إرادته أن يفعل في متسع من فراغ لا يملأه حلم ؟
نظرت عبر النافذة . لا نرى دائما ما نشتهي ، بل قلما نختار ما نرى . سجايا
العيون تسجل وقع الخطوات في دروب الحركة . الرابية الناهضة قليلا ، على الطرف
الآخر من النهر ، هي التي فتحت ذراعيها لتحتضن رؤيتي . هناك ، ذات مرة ، وقفت
مع منعشة الفؤاد ، ورسمنا معا خطا في عالم الأمل . كنا يومها نكتب قدرا مشتركا
في سجل نظيف . كنا يومها قليلي الأيمان بغدر الأيام وتقلبات مزاج الزمن . لا
يضر . أليس الحب هو الإنعتاق من الضرورة ؟ أليس الحب هو ممارسة اللحظة ؟ أليس
الحب هو النشوة التي تأخذ الحلم إلى البعيد الممكن ؛ وإلى البعيد غير الممكن ؟
أليس الحب هو فن تلوين الليل بلون الذكرى الخالدة ؟
هو كل هذا . هو غير هذا أيضا . هو حي ننكر عليه حالة الضعف ، حالة الوهن ، حالة
المرض ، حالة الموت. الحب يجب أن يعيش أكثر من صاحبه بقليل . هكذا يقول المحبون
. لكن الأرواح قد تموت قبل الجسد. العكس ليس صحيح ؛ الجسد لا يموت قبل الروح
أبدا . لماذا إذن نستنكر على الحب قدره السيئ بينما نهيم في قدره ذي الرونق
الإلهي؟
ذات مرة ، فوق الرابية تلك ، على مقربة من أشجار السنديان الشامخة ، المغرورة
حتى ، وقفت مع نديمة الروح . وقفنا طويلا . كنا نشعر أننا جمدنا الزمن ، أننا
جمدنا العالم . عقارب الساعة آلة همجية تدوس على اللحظة النادرة ، السعيدة ،
وتحولها إلى بقايا محمية ، معلبة ، مرصوفة على رفوف الذاكرة . الأطلال قد تفيد
في السلوى ، قد تفيد للبكاء . الأطلال تشهد على موت معزوفة الحب الصاخبة ، وعلى
اندثار الحياة دون معالمها . كان الوقت عصرا . كان الوقت شيئا لا ندركه ، شيئا
لا يدركنا . كان الحنان يتمرد على قوالب الطفولة ، على معابد المراهقة ، ويحثنا
على اختراق اللامعقول المعقول . كانت القبلات عملاقة ، مخصبة ، حارة ، تتوالد
من بعضها البعض . حرقنا كل المصائب ببسمات سخرية يعلوها طلاء من الوداعة . كلا
، من البراءة . قالت لي :
- أخاف منك، فلحظة الحب لحظة جنون .
آه لو كنت من المجربين . آه لو كنت أدري . بداية الحب ونهايته شريكان يتقاسمان
العقل . آه لو كنت أعلم أن الحب صعود في إطار مغامرة خطيرة . الصعود يشبع
الغرور ؛ الصعود يكون مشمولا بعناية الإله والحظ السعيد . السقوط صعب . السقوط
من قمم الحب لا يصل نهايته أبدا ؛ يبقي المرء معلقا في الفراغ . الوادي السحيق
مفتوح كفم حيوان يصرخ جوعه. الخوف من النهاية يُبقي المحب معلقا إلى نجوم
السماء القريبة من الفجر . التعلق في الفراغ فيه بعض أنس يعرفه المحبون
المقتولون بالمفاجأة ، بالنهاية .
في ذاك الفجر ، حيث الحنين والنقمة تحشرانني في غلظة من أمري ، سحبت أخر
مدخراتي من الشجاعة. مضيت بغتة إلى المجرور والدمعة المعارضة تثور في عينيَّ .
سحبته . العجيب أن يدي لم تكن ترتجف ، لم تكن تتردد ، لم تكن تحتج ، بالرغم من
أنني كنت مشرفا على اختراق المحظور . يدي فضت غطاء العلبة بخشونة ، برعونة ،
وتناولت من بين الصور صورتين . اختطفت نظرة أو نظرتين سريعتين منهما . كانت
الروح تتمزق . هاأنا مجددا أمام الحبيب . الحبيب صورة . رؤية الحبيب المجحف
يعيدني إلى أشد حالة الضعف ، إلى فقدان الإرادة . لا أريد أن أراه فيعيدني إلى
بداية المشوار، إلى نقطة الافتراق . لا أحب أن أمشي في درب مرتين . لا أستطيع
أن أمشي في درب الفراق مرة أخرى أبدا . لكن النور يلفت النظر . صورة الحبيب
حضنا من النور والدفء يجذبني من مسافات النسيان ، من مسافات الحرمان ، من
دهاليز السفر . لكني أتحايل . أنا إنسان ، أنا أتحايل على مواطن الألم في حياة
تنذر بالكثير من التقلبات ؛ وبكثير من الألم أيضا . أغمضت عينيَّ المتعبتين من
حمل الليل ومن تحامل الحبيب . دسست الصورتين في جيبي وتنهدت من الأعماق . يكون
المرء بحاجة إلى نفس طويل ، عميق ، عندما يصبح الصراخ نوعا من الأمل ، نوعا من
المستحيل ، نوعا من غصة تخنق لكن لا تميت .
خرجت سريعا إلى الشارع . الحبيب المعلق في
الفراغ يتمسك بشعر رأسه ، ويأمل . الحب إدمان . عودة المدمنين إلى إدمانهم
يحتاج همسة ، أو هزة ، أو حتى لقاء . هربت من تأنيب الماضي المتعصب للحظة
الحلوة ، من عصا الذكرى ، من عنف الخسارة ، من مطالب تشحن صدى اللحظات الحلوة
إلى النفس المصلوبة على جدار الصمت ، على جدار الموت . انتابني الخوف من أن
أعيد الصورتين إلى مكانيهما . من لديه الجرأة في مواجهة ميت يحيا من جديد ؟ ألم
يخبرني الليل أن الحبيب قد مات ؟ ألم يقل لي أن الحبيب الذي فارق هو حبيب قد
مات ؟ ألم يؤكد لي الليل أن دفن الحبيب فيه من الفضائل فضيلة النسيان ؟ بيد
أنني رجلا معلق في الفراغ . الهروب يفيد في الحسم . ابتعدت عن البيت . مضيت نحو
الرابية التي شهدت ولادة عهود ووعود لا تحصى وموت حب واحد . أحسست أن العزيمة
تنهض من عباب الكساح المدمن وتشتد قوة . التسليم بالمصيبة نصف الطريق إلى هضمها
. وقفت في ذات المكان الذي تشرف بلقاءاتنا العديدة وبعهدنا الأول . أتذكر أنها
عضت يدي حتى نز الدم منها . أتذكر أنني عضضت يدها حتى نز الدم منها . وضعنا
الجرح على الجرح ، وقلنا عهدنا أن لا نفترق إلا بالموت . وجاءت قبلاتنا اللاحقة
ترانيم ساحرة لطقوس الحب الساخن .
وقفت في ذات المكان الذي يشغل حيزا واسعا في كياني . أخرجت الصورتين بقلق هادئ
. أغمضت العينيين بهدف استجماع القوة ورصد الإرادة . نظرت إليهما أخيرا ملء
العينين ، بحجم الأشواق في النفس . تأملتهما بحزن لا ضابط له . هذه المرة كنت
أكثر جرأة ، وأكثر إصرارا ربما ، فأطلت التبلق إليهما . يبدو أن التسليم
بالنهاية ينير الوجدان ويجعلنا نقف على أقدامنا ، على بقاياه . وداع الميت
يحتاج وقفة ونظرة متميزة بالصبر . صورة أجمل من صورة والشخص ذاته . هي الصدفة
ولا شك . هو حسن الحظ أيضا . حملت الصورة الجميلة على كتفي ، وترنحت في السير
نحو أشجار السنديان . كان الحزن ، في أثناء ذلك ، يتوسع في دائرة روحي ويكاد أن
يبلغ مبالغ خطيرة . لكن من يحزن أكثر مما يحتاج ؟ من يحزن وفق أرادته وكيله ؟
الحزن يأتي بقدر المصاب .
وصلت إلى شجرة السنديان الأكبر ، الأعتق ، الأجمل . كانت الشمس قد أشرقت ، لكن
الصبح لازال باردا . كانت الرؤية واضحة في الأفق فكأنما السماء أمطرت حتى فرغت
. الدموع كانت تنهمر من عينيَّ في الحقيقة، فكانت تجلي النفس وتشدها إلى معالم
الصفاء . البكاء يطهر الروح . تطهير الروح يشحذ الرؤية وينقي الجو . أنزلت
الصورة عن كتفي . تأنيت ما استطعت بالفعل المدعم بالخشية وبالخشوع . وضعتها على
الأرض ، على مقربة من جذع الشجرة ، ورحت أحفر لها قبرا . قبر الحبيب يجب أن
يكون عميقا ، على الأقل بعمق مقامه في النفس . الطبيعة كانت صامتة كصورة الحبيب
الميت الملقاة جانبا . حتى النهر القريب بدا كمن كتم هديره . الصمت أشتد إلى
حدود مهيبة لا تطاق ، وذلك حين وقفت عند رأس الصورة وتوجهت إلى وجه الله طالبا
الرحمة للميت . استغفرت لها حتى بح صوتي ثم أنزلتها إلى المثوى الأخير . نثرت
عليها التراب والرحمة والدموع ساعة أو يزيد . فعلت ذلك ببطء ، فعلت ذلك بثبات
كنت أظن أنه قد خرج من طباعي. نهض التراب فوقها . أضحى قبرا بفضل حزمة من
الورود القريبة وحجر مسطح نصبته ناحية الرأس وكتبت عليه:
الحبيب صورة
موت الحبيب موت صورة
دفن الميت نهاية الحزن
رحمك الله كم كنت مشرقا ، كم أشرقت في النفس
في طريق العودة جلست على ضفة النهر . غسلت اليدين وغسلت الوجه . كانت الشمس قد
ارتفعت مزيدا وصارت أكثر نورا وأشد دفئا . الناس خرجت من البيوت ، ودبت الحركة
في الطبيعة . أخرجت الصورة الأخرى من جيبي . صور الشخص ما شئت ، فلن تكون صورة
مثل صورة . الصور الأقل جمالا يجب أن تمزق . مزقتها بلا تأنيب ضمير ، بلا تردد
. رميت أشلاءها في النهر وليأخذها إلى البعيد ، إلى الضياع الأبدي . يكفي أن
تموت صورة الحبيب لنرمي بقاياه في النهر . بدا لي أن دفن صورة الحبيب هو دون
سواه نهاية الحب ، وهو دون غيره نهاية الحزن . وعلى كل ، شعرت ، وأنا إلى جانب
النهر ، أن النشوة تنتعش في الصدر ، وأن إرادة الحياة تنهض من فراشها ، من
مرضها ، من وهمها الكبير
قبلات تائهة
الهاجس الذي لفها كثوب تقوى وطالعها في ثنايا الساعة لا يتزحزح، لا يترنح، لا
يكف عن بعث الخشية في أوصالها. فهذا زمن وذاك زمن آخر، وكلاهما يحترق على أطراف
يومها وعنادها. وها هي شمعة الشباب تذوب في ظلمات روحها دون أن تشق درباً
للرؤية، ودون أن تُنير. فهي تريد الخلاص، أو الانطلاق، أو التحرر من القبلات
الباردة في نهاية يوم متعب. هي تريد أن تشيع زمناً من الوصايا، وزمناً من ليالي
السوق إلى الاستثمار بعصا الواجب. هي تعلم، وهم لا يعترفون: النهايات تتكون قبل
أن تُدون.
الهاجس الذي طالع "حُسنية" كضربة نحس، ينمو سريعاً في عراء الرغبة، يشدها نحو
مواجهات لا يُعرف عصيها، أو مدى دفقها، أو ملامح امتداداتها. انقضى نحو عامين
من التظلل في خيمة الكتمان والحرص ومحاولة النسيان. العاصفة المدوية في صدرها
تقوى وتشتد مع الأيام، وتكاد أن تمزق صبرها وحلمها. وحيلتها على حالها؛ متجمدة
من الخوف والشقاء في ركن ميت من الفعل. الصراخ ممنوع، والاحتجاج معصية، واغتصاب
القبلات من شفتيها المارقتين عن الشهوة فيه من الفضائل فضيلة السترة والطاعة
والعفة!
وهذا الرجل المشدوه بجرائد تفيح منها رائحة الدم والقتل والبارود لا يعبأ
بمعاناتها. يرجع إلى البيت من مكتبه مقلعاً عن الكلام والابتسام والسلام. يمشط
ذقنه في أريكته، ويفتح شهيته لكلمات المذيع في التلفاز وهو يهرب من خبر سيء إلى
خبر مؤلم. يكتئب على هدى هموم الساعة، فيرمق "حُسنية" شرراً، أو قهراً، أو
عجزاً، ويشفع من اللحظة بالنوم والشخير. يتركها فريسة لملل الليل الطويل. ليلها
صاخب بنداءات العوز في دائرة الشعور بالوحدة الضيقة. في الواقع، ليلها يتواصل
مع نهارها منذ أن ركب "شارون" خيل غروره وعنجهيته واستعلائه وتحدى الأطفال
والحجارة وقُراء الصحف والطالع والمصير في ساحاتهم المقدسة.
يوم ذاك، عاد زوجها من مقاهي الكلام الفارغ في ساعة متأخرة من السهرة. بدا
محتقناً بالغضب والانكسار. رمقها بفجور وامتعاض، وانكب على المائدة يعلك غيضه.
وبعد حين من اجترار المرارة بنهم، نهض متباطئاً وجرها من يدها كالخروف إلى
السرير. داعب جسدها البارد بعنف وعدوانية. قبل شفتيها الميتتين وهو شارد الذهن.
أحست "حُسنية" بقشعريرة وكادت أن تتقيأ. لكن زوجها لا ينتبه، لا يهتم، لا
يكترث. جيش الحجارة يجب أن يكبر ويتنوع. جيل جديد يجب أن يتكون على وقع العجز
ويمحو عار الآباء.
ومن حيث انتهى من احتقانه أغمض عينيه وتاه وراء الأحلام. نهضت "حُسنية" من
السرير بهدوء، وركضت إلى الحمام. بصقت على شفتيها. غسلت شفتيها، وطالعت بقايا
القهر في مقلتيها الحزينتين. ناجت ربها:
- أستعين بك وحدك. أرحمني من القبلات التائهة.
ومضى الزمن يرسم في أوراق أيامها نكبة في كل نكبة وهزيمة في كل هزيمة وخيبة في
كل خيبة. عيونها دائماً شاخصة إلى السماء بحثا عن أمل أو فراغ تُضيع وجودها في
أفاقه. لكن صور الموت والدمار والتحدي عن بعد والقبلات المتشنجة بالعجز تنتزع
منها كل بارقة أمل، تحرمها من الشعور بالطمأنينة، تقذفها إلى بربرية الوحدة
والقنوط. تسمع من حين إلى حين عن مظاهرات تخنق الشوارع. زوجها هو الذي يقود تلك
المظاهرات، وهو الذي يكتب الشعارات، وهو الذي يعد ويتوعد، وهو الذي يجعلها تبصق
على شفتيها. وفي مثل هذه الحالات، كانت "حُسنية" تنطوي على ذاتها وتبكي في
حجرتها المغلقة على همومها ومعاناتها، وتتذكر:
- وماذا ينفع الصراخ في ملعب كرة قدم؟
أسئلتها تكاثرت وتعقدت وثقلت مع تكاثر شعبية "شارون" بين أوساط اليهود. حرجها
كبر أمام جسدها المغتصب يوماً بعد يوم، وكذلك أمام الرجل المقاتل من خلال قراءة
الصحف والمسبة والإدانة. لجأت إلى الابتهال لله كي لا تكره نفسها. كانت "حُسنية"
متيقنة من أنها لا تملك مفاتيح الخروج من هذه الدائرة. يمكنها أن تمزقها وحسب،
ويمكنها أن تنجو من فعلتها هذه أو لا تنجو. وهاجس الخلاص لا يدعها لحظة واحدة.
قبل بضعة أيام، أيقظتها أنياب زوجها في ساعة مبكرة من الصباح. كان هلوعاً
وعيونه تلمع بالجنون. عجنها بقبضاتها وعصبيته. عضها بدل أن يقبلها. أنهكها ولم
يتركها. لم تفهم "حُسنية" شيئاً، وإن كان الظن قد راودها بأن إسرائيل أنجبت
شاروناً جديداً. قال في نهاية المطاف موضحاً:
- من المرجح أن يحتاج العراق أطفال حجارة، يجب أن نستعد.
نظرت إليه بأسى، بهدوء، برباطة جأش، وقالت كلمة قاطعة:
- الطلاق.
سويسرا
في 25/03/2003
|