عزّو القاق
هذا هو اسمه الذي عرف به في أحياء دمشق القديمة في الأربعينات.. لم
أرو حكايته لأحد إلا واستملحها، بل أن أكثر من كاتب قال أنها تصلح مادة لأقصوصة
قصيرة، أو حتى لسهرة تلفزيونية إذا أضيفت إليها بعض التوابل، واستأذنني في ذلك
كأنني صاحبها في حين أنني أحد رواتها، وقفت عليها مصادفة من صديق عايش تفاصيل
القصة في الأربعينات.
لقد وجدت فيها، وخاصة في خاتمتها، نوعاً من المفارقة تقترب من
الكوميديا الرمادية، أكثر من أن تكون نوعاً من (القفلة) لطرفة تروى في سهرات
الشتاء.
أما سبب شهرة عزو القاق، فتعود إلى أنه كان عازفاً بارعاً على آلة
العود، وكان يدعى إلى الأعراس ليبدأ العزف في أول المساء ولا ينتهي منه قبل
منتصف الليل دون أن يصدر عنه أي نوع من أنواع التذمر أو ادعاء التعب وهو يلبي
طلبات الحضور المتواترة.
-عزو.. بدنا (طالعة من بيت أبوها)
-تكرم
-عزو.. (رقصة ستّي)
-أمرك
-عزو.. يلبقلك شك الألماس
-على عيني
-عزو.. اتمختري يا حلوة..
ويروح عزو يعزف المقطوعة وتردد الصبايا بعده: "اتمختري يا حلوة يا
زينة يا وردة جوا الجنينة" حتى إذا انفض العرس، وضع أصحابه في يد عزو (ما فيه
النصيب) مع صرة أو مطبقية الملبّس، فيدس ذلك في جيبه دون عد أو اعتراض، ويعود
إلى بيته الطيني الصغير المتواضع في حي القيمرية، حيث لا ينتظره أحد، ويتحايل
على نفسه وهو يتجه إلى فراشه القطني الممدود فوق السرير النحاسي وقد أخذ منه
التعب والنعاس كل مأخذ.. وينام كالقتيل.
وعزّو القاق تجاوز الستين، ومع هذا يرفض التقاعد من هذا السهر
الليلي.. فهو يجد فيه نوعاً من التسلية بدل الجلوس في البيت وحيداً بين أربعة
جدران، كما أن الأجر الذي يكسبه يعينه على العيش مهما كان متواضعاً، ويقول حول
هذا للذين يعاتبونه من المعارف والجيران لأنه لا يطلب أجراً عالياً يوازي
براعته في العزف وسهر الليالي:
-وماذا سأصنع بالدراهم؟. (لقمة تجوعني ولقمة تشبعني).
وهكذا مرت حياة عزو القاق على هذه الرتابة أربعين سنة، لم يفكر
خلالها بالزواج.. وعندما كان الجيران يسألونه عن سبب عزوفه عن الزواج يقول:
-لسّه ما إجا النصيب..
ويسأله جاره أبو دياب: هل هذا معقول يا عزو؟ أربعون سنة ولم يأت
النصيب… لعل فيك علة تمنعك من الزواج.. صارحني.. أنا جارك وصديقك وحبيبك.
-علة؟.. شلون يعني؟.
-يعني.. كما يقولون (يمكن إنك ما بتنفع للنسوان).. صارحني.. لكل علة
دواء.. هناك أطباء يعالجون مثل هذه الحالات ويعيدونك مثل الحصان.
ويختصر عزو الحديث لأنه لا يريد الدخول في مثل هذه التفاصيل التي
يثيرها أبو دياب ويرد باختصار:
-أخي.. أنا لا أريد الزواج… لا أريد امرأة تجلس أمامي مثل القاضي،
تحاسبني على كل كبيرة وصغيرة وتمنعني عن السهر. أريد أن أعيش بحريتي، ثم أن
دخلي لا يكاد يكفيني، فكيف تريدني أن أنفق على المرأة والأولاد؟.. بعدين.. راحت
علينا يا أبو دياب.. قلبنا الستين… ولم يبق في الكرم غير الحطب..
ويصمت أبو دياب مرغماً ليتحول بالحديث إلى شؤون أخرى، ويسأل عزو عن
رأيه في عرس بيت فلان وبيت علتان:
-هل صحيح يا عزو أنَّ بيت الأوضباشي وضعوا في مطبقية الملبس ليرة
ذهبية لكل مدعو إلى العرس؟.
-صحيح.. الجماعة أغنياء.. (ويللي عندو فلفل بيرش عالمخلوطة)
-وهل أخذت مطبقية فيها ليرة ذهبية؟.
-أجل وحفظتها للذكرى.
-ألم يفاجأ المدعوون بهذا الكرم في الضيافة؟
-طبعاً.. ولكن إرضاء الناس من رابع المستحيلات.
-كيف؟.
-علق بعضهم على هذا بقولهم: وشو بيصير لو حطوا بالمطبقية ليرتين
بدلاً من ليرة واحدة؟.
-يا لطيف.. كم هو الإنسان طماع..
-طبعاً.. هذا طمع.. أساساً عين الإنسان لا تشبع إلا من التراب.
وفي إحدى الليالي، وكانت ليلة شتوية ممطرة وباردة، حدث في حياة عزو
القاق ما لم يكن في الحسبان..
دعي لإحياء عرس في بيت النقشبندي، وامتد الحفل إلى ما بعد منتصف
الليل، حيث خرج عزو وهو في حالة بادية من الإعياء.
خرج حاملاً عوده وهو يقطع الأزقة المؤدية إلى بيته في حي القيمرية،
وحبات المطر تتسارع في الهطول فوق رأسه بعد أن بدأت رذاذاً في أول المساء..
وفجأة.. وفي إحدى الزوايا، سمع صوتاً خشناً وعريضاً يصرخ به: عزّو..
التفت إلى مصدر الصوت مذعوراً.. فإذا به أمام رجل ضخم الجثة، طويل
القامة يقف على شاربيه صقران بدلاً من صقر واحد.. وقبل أن يسأله عما يريد قال
الرجل:
-إلى أين أنت ذاهب؟.
-إلى بيتي.
-ما حزرت.. أنت لن تذهب إلى البيت.
-لماذا؟.
-لأنك ستذهب معي..
-إلى أين؟.
-قلت لك ستذهب معي..
-إلى أين تريد أن تأخذني في هذا الليل الماطر؟.
-لا أريد أن أسمع منك أسئلة.. تذهب معي دون أن تسأل إلى أين.
-دخيلك يا أبا الشباب.. أنا متعب.. كنت في عرس بيت النقشبندي..
وعزفت من أول المساء إلى الآن، وأنا أكاد أسقط على الأرض… وأريد أن أذهب إلى
بيتي لأنام.. ثم أن المطر بلل ثيابي وطربوشي..
-المطر ليس مشكلة… المطر خير وبركة.. هيا معي..
-ولكن إلى أين؟.
-إلى مقبرة الباب الصغير.
-لماذا تريد أن تأخذني في هذا الليل إلى المقبرة؟.
-لا أريد أن أسمع أي أسئلة.. هيا وإلا سحبتك خلفي من ياقة سترتك.
لم يجد عزو بداً من الانصياع.. فقامته التي لا تتجاوز قامة طفل في
العاشرة، ووزنه الذي لا يتجاوز الأربعين كيلو غراماً، وسنه التي تجاوزت
الستين.. أمور لا تؤهله لأي نوع من أنواع الرفض أو التمرد.. فسار مرغماً إلى
حيث يسوقه الرجل الضخم الذي ظهر كمارد من مردة القصص الخيالية..
دخل المقبرة، والرجل يقوده بين القبور، وهو يترنح حيث أدرك عزو أنه
مخمور.. وبعد نصف ساعة من التنقل بين القبور، وقف الرجل أمام أحدها وقال لعزو..
-هذا قبر أبي..
وتابع: كان أبي يحب الاستماع إلى أنغام عودك يا عزو.. هيا.. اجلس
على هذه البلاطة واعزف له..
وأخرج عزو العود من قميصه القماشي المبتل. وبدأ يعزف والمطر يهطل
غزيراً.. وبعد دقائق تراخت أوتار العود وأصبح العزف نوعاً من الحشرجة والنغم
الناشز. وكلما حاول التوقف صرخ به الرجل صرخة تهز فرائصه، فيروح يتابع العزف
وقد تغلغل البلل من ثيابه حتى عظامه، وأصبح العود في حالة يرثى لها.. ومع هذا
ظل يعزف وهو يمني نفسه بليرة ذهبية يدفعها له هذا الرجل المخمور مقابل هذه
الليلة الليلاء..
وبدأ الفجر يبزغ في الأفق الشرقي مع انقطاع المطر، وانقشع الغيم،
وبدأت أولى أشعة الشمس ترسل نورها، فإذا به يفاجأ بالرجل يقترب منه ويوجه إليه
صفعة قلبته مع العود على قفاه..
صرخ في الرجل محتجاً: لماذا تضربني؟.
فرد الرجل بعصبية: هذا القبر الذي كنت تعزف أمامه ليس قبر أبي.
أجراس الموكب الفضّي
تسحبه أقداره من مدارات حبها.. ترميه شلواً على هامش الدفاتر
العتيقة.. ويتبدد ندى الذكريات وهي تتخذ وضع (الخانم) في مخدع التقاليد
الزوجية.. ويتطامن صدرها العارم متناسياً لهفة الشوق والانتظار.
الآن.. يفتقد عينيها اللتين كانت رفيقاتها تقول عنهما أنهما (تحكيان
سيرة).
كانتا تحكيان سيرة الوجد، أو هكذا خيل إليه، وهو يشعر –أو يتخيل-
أنهما تفيضان عليه دفء الود وحنان التناغم.
الآن، يفتقد وعودها التي كانت تبشّر بمطر ربيعي لا ينتهي تهطاله على
مدى العمر.
الآن، يدرك ما هي خيبة العمر، منذ أن مرّ موكبها الفضيّ الذي زفّها
إلى فرحة العمر وخلّفه وحيداً على رصيف الانكسار.
كان على سفح الخريف عندما التقاها صبيّة، ناهداً، تعطّر الجواء
حولها وهي تدق الأرض بكعب حذائها- عرف فيما بعد أنه إيطالي الصنع. وتدخل مكتبه
لترمي بين يديه حزمة من الأوراق الزرق الأنيقة.
-هي مجرد خواطر… أقرأها.. أرجوك.. أريد رعايتك.. أريد إجابة صادقة
منك وأنت المسؤول الثقافي في الصحيفة والشاعر الذي تنام دواوينه على وسادتي..
هل أنا موهوبة؟ هل أصلح لأن أكون مشروع كاتبة؟ هل…
وينداح في داخله مونولوج التداعيات:
-من أين أتيت أيتها الغزالة! دعي عمك (الختيار) لا يقولها عادة أمام
أحد- مستريحاً في آخر عربات القطار، قطار العمر الذي يقترب من محطته الأخيرة..
لا تصدقي ما يكتب في دواوينه من قصائد العشق الشفيف.. هي مجرد صنعة، أما الهوى
الحارق الذي كان يتشظى لديه أبياتاً وكلمات، فقد خمدت جذوته منذ سنين، مع أول
طعنة وجهتها إليه كاعب مثلك، استجدت قصيدة يكتبها في جمال عينيها، ثم هجرته وهو
يستجديها نظرة حنان من تينك العينين..
لماذا جئتِ يا صاحبة الأوراق الزرق.. دعي أوراقك مدسوسة في كتبك
الجامعية التي تحملينها.. احرقيها في تنور جارتك إن كنت من بناتنا الريفيات أو
في (شيمينيه) فيلا والدك إن كنت من الذين في خانة الأثرياء.
-إذا لم تعجبك خواطري ارمها في سلة المهملات.. احرقها.. لكن أرجو أن
تقرأها.. لا تقسُ عليها كثيراً، فهي طرية العود مثل صاحبتها..
قالت هذا وتأوّد عودها أمامه بغنج ودلال..
-هل ستقرؤها؟
-أجل..
-إذن.. سأعود بعد يومين.
ولّوحت بيديها وهي تخرج هاتفة: (جاو)..
يومان؟
بل هما شهران.. عامان.. قرنان.. دهر كامل من الأزل إلى الأبد.. هل
يطول الزمن هكذا؟ هل ستخرجه دقات كعب حذائها على أرض المكتب من الركن الذي
انطوى فيه على نفسه كهلاً مهزوماً منذ سنين؟ منذ أيام صاحبة العينين الجميلتين
اللتين نظم فيهما قصيدة كان يستعيدها منه المستمعون كلما ضمته وأصدقاءه، شلة
المساء، جلسة أنس؟
لم يقرأ الوريقات الزرق..
ومن هنا كانت المفاجأة عندما عادت بعد يومين.
ـ ها… هل قرأت خواطري؟هل أعجبتك؟
تلعثم.. بماذا يجيب؟
ـ لابدَّ أنها لم تعجبك… رجوتك ألا تقسو عليها، فما تزال صاحبتها
ناشئة… وبحاجة لرعاية.. ليد حانية تحدب عليها.. تشجعها.. تطلقها إلى عالم
الأديبات الطموحات.. ها.. لم تقل لي رأيك..
ـ في الواقع.. إنها بداية مشجعة…. فقط.. أنت بحاجة إلى بعض
الملاحظات، وكتاباتك بحاجة إلى بعض الرتوش:
توقفت عند كلمة (رتوش)…
ـ أنت تكتب زاويتك في صفحة الثقافة بلغة فصيحة عالية المستوى، أليس
هناك كلمة في العربية مرادفة لكلمة رتوش؟
ـ ها؟ .. طبعاً هناك.. أكثر من كلمة… لغتنا العربية غنية يا آنسة..
ـ هالة…
تذكر أنها لم تعرفه على اسمها في الزيارة الأولى، ولم تكتبه على
الأوراق الزرق..
ـ هالة… اسم جميل..
ـ أطلق عليّ أهلي اسم (اعتدال)، ولكني عندما كبرت اخترت اسم ـ هالة…
فـ (اعتدال) اسم شعبي..
ـ هالة… اسم جميل..
ـ .واسمك فيه موسيقى.. بدر الدين الديراني.
ـ . لا أحب الأسماء المركبة..
ـ سأناديك باسمك المختصر: بدر.. عفواً.. الأستاذ بدر.. متى ستقوم
بإجراء الرتوش على خواطري؟
ـ . في أقرب وقت..
ـ. وهل ستنشرها في الصفحة الثقافية بعد الرتوش؟..
ـ طبعاً.. طبعاً..
ـ .لي عندك رجاء أخير.. أريد أن أكون إلى جانبك وأنت تجري عليها
الرتوش.. أريد أن أتعلم.. أرجوك..
وعاد المونولوج ينغل في صدره:
"تقولين أرجوك أيتها الحورية؟… مثلك يلقي الأوامر.. كما الملكات..
كما الأميرات.. وما علينا نحن الرعية المساكين إلا أن ننفذ الأوامر".
ـ لم تجبني.. هل توافق على إجراء الرتوش أمامي؟
ـ طبعاً.. طبعاً.. لتستفيدي من الملاحظات وتتعلمي.. أنت لديك بذور
أدبية واعدة.. سيكون لك شأن في المستقبل… سنعلن عن ميلاد أديبة جديدة موهوبة
في صفحتنا الثقافية.. وحتماً، سيكون هناك من يحاول أن يطلق دسيسة.. سيقول أننا
شجعناك لأنك شابة جميلة.. ولكننا سنتجاوز هذه الأمور الهامشية… متى تريدين أن
نجتمع لإجراء الرتوش؟
ـ . أنت مدعو إلى فنجان قهوة.. أعرف مقصفاً رومانسياً منزوياً، يؤمه
العشاق عادة، ولكننا سنكسر التقاليد هذه المرة.. وسنفاجئه بصفتنا المختلفة..
بماذا سنفاجئه؟ بأية صفة؟ هل نقول له: استقبلنا أيها المقصف نحن الأستاذ
وتلميذته؟
ـ لن نختلف على الصفة..
ـ لنقل أننا سنذهب إليه كصديقين.. موافق؟
…………….
في اليوم التالي.. وفي المكان المحدد، فاجأها بأنه أخرج من المغلف
الذي يحمله بعض الأوراق البيض..
ـ . أوراقك الزرق تحولت إلى أوراق بيض بعد إعادة الصياغة.. أجريت
الرتوش، وسنراجع الخواطر معاً.
ـ هذا يعني أن خواطري لم تعجبك.
ـ على العكس… ولكنها التجربة الأولى بالنسبة لك.. وقد أردت أن أعيد
صياغتها كنموذج تتعلمين منه، ويمكن نشره.. هذا في المرة الأولى فقط… في المرات
القادمة أنت التي ستكتبين. بعد أن تتعلمي من تجربة إعادة الصياغة..
ـ لم أقتنع بكلامك.. ولكن، حتى لو رفضت نشر خواطري، فلن أنسحب.. أنا
أقرؤك منذ أعوام، وأحفظ نصف ديوانك الأخير غيباً.. وهذه الأوراق كانت وسيلة
لدخول عالمك الذي بهرني في الخيال.. أعرف أنني لست موهوبة.. ولكني بحاجة إليك…
قد تستغرب صراحتي.. أنا بحاجة إلى رجل في مثل نضوجك، أسند رأسي إلى كتفه.. أفرش
أمامه همومي، فيربّت كتفي بيده الحانية….
"السكين في الخاصرة، وليس هناك أي أمل في الهروب من هذا القدر
الجميل.. إذن… محاولة أخيرة لدفع المقدور"…
ـ يا هالة.. يا صديقتي العزيزة لم يعد اليوم لدى الكهول والشيوخ
حِكَمٌ يضعونها أمام جيلكم، فلا تغرنك صفة النضوج… ليس واحدنا سوى مراهق مزمن
في إهاب عاشق مخدوع أتعبته الدنيا وهدته السنون.
"يبدو أن محاولة الهروب غير مجدية"…
ـ لن أقبل أعذارك.. ولن أنسحب..
ـ. هي ليست أعذاراً.. هي نبوءة مرصودة برسم المستقبل.. هل سمعت
يوماً أن الخريف والربيع قد التقيا؟
ـ أنا أرفض طيش الشباب ونزواته.. هل تستغرب كلامي؟
صدقني أنه ليس وليد نزوة أو مصادفة أو سعياً إلى مغامرة.. هو تراكم
معايشة مع أشعارك سنين طويلة حتى حدود المفاغمة.. أحفظ أبيات نصف ديوانك
غيباً.. هل تحفظها أنت؟
ـ هي حالة آنيّة أيتها الصبية.. فمثل هذا الحوار الحميم لا يمتد
إلا امداء المستقبل.. ومنذ أيام الكهوف كانت المرأة تنسى تاريخها بين ذراعين
قويتين لرجل يشدها من شعرها إلى أحد تلك الكهوف يثير فيها رعشة الانتشاء ويزرع
في رحمها بذرة الوليد المرتقب…
لا تبتئسي يا صديقتي لأنني أعلن هزيمتي.. فليس لدي سلاح ولا بيارق
أرفعها احتفاء بقدومك..
قد أختزن من لقائنا هذا أبياتاً أخيرة لجنازة القلب، فأنا لست فارس
اليوم.. أنا رجل الأيام الخوالي الذي مايزال ذبيح دقات حذاء مثل حذائك ـ هل قلت
لي أنه إيطالي الصنع؟ ـ على أرض مكتبه القديم…
……..
يوم قرأ في صفحة الاجتماعيات بإحدى المجلات نبأ زفافها، وتأمل في
الصورة المنشورة محيا الشاب الباسم الذي تتكئ برأسها على ذراعه سعيدة، أخرج من
درج المكتب حزمة من الأوراق الزرق، وخيّل إليه أنه يرميها في تنور جارته.. في
قريته التي لم يزرها منذ سنين…
جنازة إلى القرية
قبل أن يعتدل خليل في سريره الحديدي القديم، تثاءب، ثمّ تمطى.. ودار
بعينيه في أرجاء الغرفة المستطيلة التي تضمّ أفراد العائلة.
كان أبوه جالساً قرب النافذة الخشبية ببجيامته المخططة المهترئة عند
الركبة، وقرب الدكة كان أخوته الصغار قد تجمعوا بشكل غير منتظم حول صينية
الألمنيوم وعليها صحن كبير من الفول، وكانت أصواتهم خفيضة مخنوقة لا تتوافق
وضجيجهم المعهود.. أما أمه فكانت في أقصى الغرفة واقفة تصلي بخشوع.
وسعل أبوه، وكان ذلك كافياً ليذهب عن خليل آخر أثر للخمول الذي بدأ
يودع جفنيه بعد سبع ساعات، من النوم متخمة بأحلام سعيدة مختلطة ببعضها بعضاً في
دوامة دافئة..
ترك السرير إلى الحائط الأيسر حيث نزع ورقة من التقويم المعلق فبدا
أمامه رقمان أسودان يقفان بزهو واعتداد 24 تشرين أول.. هذا هو اليوم الموعود..
بعد شهر من هذا التاريخ سيقبض من المعارف راتباً محترماً يضمن لهذه
الأسرة المكومة في الغرفة المستطيلة عيشة أحسن..
وانفتل إلى الخزانة القديمة فأخرج منها بذلته اليتيمة وضعها على
الدكّة وراح يزيل عنها البقع بمحلول البنزين لتبدو لائقة بالوظيفة الجديدة..
وكان يفكر بالسعادة لقد عين معلماً في وزارة المعارف براتب يساوي ضعف الذي كان
يدفع له في المدرسة الأهلية التي علم فيها طيلة العام الدراسي الماضي.
كان يعلم تلاميذ أكثر الصفوف، ولا ساعة فراغ.. أما الآن، فلن يشكو
مثل ذلك الحرمان أن رواتب المعارف جيدة، خاصة بعد أن شملها (مشروع الترفيه)..
ومن يعلم.. ربما زادت عما هي عليه الآن...
وابتسم خليل من أعماقه بسعادة كبيرة.. لقد ظل طيلة الصيف يعمل في
(المصالح)، يعدُّ أكياس الحنطة والشعير ويركض خلف الحصادة ليل نهار، ولم يقبض
سوى ربع الأجر الموعود به، أما السبب فلأن الموسم لم يدر كما كان يتصور
المزارعون..
وقد حاول خليل بالاتفاق مع والدته أن يتحايلا على المبلغ الذي قبضه
بشتى طرق التقنين ليتدبرا بها أمور معيشتهم خاصة وأن (عبود)، الولد الأوسط
للأسرة، سيذهب إلى المدرسة بعد أيام وسيحرم البيت من الليرات التي يقبضها مساء
كل يوم من الفران الذي يشتغل عنده…
انقضى الصيف وظهر مع انقضائه أمل جديد.. فقد قرأ خليل في مديرية
المعارف إعلاناً عن حاجة المديرية إلى معلمين يحملون شهادة الدراسة الثانوية
على أن ينجحوا في فحص "الانتقاء" وطار يومئذٍ إلى البيت ينقل الخبر.. إنها فرصة
طيبة فلماذا لا يغتنمها؟ وأسرع بتقديم الأوراق الثبوتية ثمّ جاء موعد الفحص،
وكان عليه أن يسافر إلى مركز المحافظة ليقف أمام اللجنة الفاحصة التي تقرر
المصير.
وقد أجاد في الامتحان التحريري ثمّ تقدم إلى الامتحان الشفوي، ولم
يتوقع أبداً أن توجه إليه أسئلة ثلاثة سهلة بهذا الشكل، الأول كان عن عدد
أزرار قميصه، والثاني عن ألوان أحد الأعلام العربية.. والثالث عن الأسبقية في
الوجود بين دولتي سبأ وحمير.. ونجح في الإجابة على الجميع بدرجة جيدة ثمّ عاد
إلى بلدته ينتظر يوم 27 أيلول ليذهب إلى مديرية المعارف ويتسلم قرار تعيينه في
إحدى مدارس البلدة.. أجل، إنه لن يعين في غير البلدة نفسها، لقد كان أول
الناجحين ، ومدير المعارف سيقدر ذلك ويعينه في أحسن مدرسة بالبلدة، ثمّ أن
صديقه "نايف" الذي يعمل في مديرية المعارف، وعده بأن سيحكي في القصة.
كان خليل قد انتهى من تنظيف بذلته فطواها باعتناء ووضعها على الفراش
ريثما يزيل لحيته ثمّ أتى بماكنة الحلاقة وانهمك في (تنعيم) وجهه وصور من العام
الماضي تتراءى أما مخيلته، تذكر كيف أخطأ مرة في درس التاريخ، فقال للتلاميذ
عندما كان يشرح لهم احتلال فرنسا للمغرب بالعربي قال لهم أن الجزائر اشترت
قمحاً من فرنسة، وماطلت في دفع الثمن حتى ثار (الداي) وضرب السفير الفرنسي
بالمروحة مع أن فرنسا هي التي اشترت القمح من الجزائر.
وانداح بتفكيره يتصور حالته في تلك المدرسة الأهلية: تلاميذ كثيرون
في الباحة، أصوات، وصخب وضجيج… جرس يدق.. التلاميذ يدخلون الصفوف.. اللوح
الأسود غبار كثير يثيره مسح اللوح.. الحوار الأبيض والملون..درس احتلال
بريطانيا لطرابلس الغرب.. أصوات.. ضجة في الصف.. يصيح: سكوت.. لا أحد يسمع..
العصا تسكت الجميع.. ويبدأ الدرس حتى نهايته إذ يقول: .. وظل عمر المختار يحارب
الإيطاليين مدة طويلة، وكان عمره ثمانين عاماً ـ حتى وقع في أيديهم أخيراً
فأعدموه، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يصعدون الطرابلسيين الأحرار في الطائرات إلى
الجو ثمّ يرمون بهم في البحر.
وتشهق إحدى التلميذات مشفقة.. ويصيح تلميذ متحمس: وحوش.. وتثور ضجة
أخرى في الصف ثمّ يرن الجرس معلناً انتهاء حصة التاريخ..
أما في آخر الشهر فقد كان يتسلم مرتبه الهزيل من مدير المدرسة
العجوز، ويوقع بالاستلام ثمّ يخرج في العصر من المدرسة ويتوجه فوراً إلى غريمه
أبي حمدي بائع النوفوتيه ليعطيه بعض ماله ويعقد معه هدنة مؤقتة، ويعرج بعد ذلك
على موسى الخياط صاحب العينين الرطبتين اللتين بلون الوحل، فيعطيه قسط البذلة
التي خاطها له.. أما الحلاق ـ كان آنذاك يحلق في الصالون ـ فكان يدفع له الحساب
قبل أن يجلس على الكرسي خوفاً من أن تنقم يده فيسحب الموس على وجهه الناعم
بغضب… ويغادر خليل صالون الحلاقة إلى البيت ليرمي بما تبقى من الراتب بين يدي
والديه بعد أن يقدم لهما تقريراً شفوياً مفصلاً عن الكمية التي صرفها منها..
إلى هنا… انتهى خليل من إزالة لحيته.. فنهض إلى المغسلة وهو يخاطب
نفسه صامتاً: في هذه السنة لن تتكرر هذه الأشياء سأنتبه كثيراً عندما أشرح
للتلاميذ أسباب دخول فرنسا إلى الجزائر.. وفي نهاية الشهر سأذهب بنفسي إلى
مديرية المعارف وأقبض راتبي من المحاسب… وسيضمن لنا الراتب عيشة أحسن.
واغتسل جيداً، ثمّ عاد فوقف أمام المرأة الكبيرة المكسورة الطرفين،
فسرح شعره جيداُ، ثمّ ارتدى البذلة وراح ينظر في المرآة بارتياح.. وفجأة برق في
ذهنه خاطر لطيف جعل فمه يفتر عن ابتسامة وهو يحاول أن يحبس ضحكة سعيدة.
ولا يعرف خليل لماذا تذكر كلمات صديقه أحمد الذي كان معلماً من قبل
المعارف في قرية "طالعة"،.. حدثه عن السقوف المقعرة، والجدران المتآكلة،
والبيوت الطينية التي تشبه القبور، وعن انقطاع المواصلات بينها وبين المدينة
أكثر أيام الشتاء حتى أن مفتش المعارف لا يزورها إلا مرة أومرتين طيلة السنة
الدراسية ثمّ حدثه عن المدرسة التي هي غرفة واحدة ثمّ وصف له كيف تصبح هذه
الغرفة مستنقعاً في الشتاء بعد أن يدلف إليها من الشقوق كل ما تصبه السماء من
ماء على سطحها.. ثمّ البركة الطينية التي قرب المدرسة حيث تلعب فيها الجراثيم
دورها بكل إتقان وخاصة جراثيم الملاريا الخبيثة التي تهد جسم الإنسان.. وحدثه
أيضاً عن الضبع الذي يحوم حول البيوت ليلاً، وعن الذئاب الجائعة التي تهاجم
زرائب الأغنام، ولم ينس أن يشرح له بالتفصيل ما عانى من عادات أهل تلك القرية.
وتنبه خليل من أفكاره فتعوذ من الشيطان، ومن كل القرى وخاصة
"طالعة".. وبعد أن طرد هذه الأفكار السود من ذهنه عاد إلى حاضره الذي بدأ يستعد
لاستقبال السعادة.. ودعته أمه ليصب شيئاً من الفول فلم يفعل، لقد قاربت الساعة
الثامنة، ويجب أن يسارع إلىمديرية المعارف في الموعد المحدد ونظر نظرة أخيرة
إلى هندامه، وسوى رباط عنقه ثمّ خرج من الدار فتلقفه زقاق ضيق انتهى به إلى
الشارع العام، فسار وقلبه يرقص بسعادة في صدره حتى أنه أصبح يود أن يشرح فرحته
لكل هذه المخلوقات الآدمية التي يعج بها الشارع الكبير.
ومرّ به بعض التلاميذ الصغار بمراييلهم السود في طريقهم إلى
المدرسة، فنظر إليهم وابتسم بغبطة.. من يدري.. ربما سيكون هؤلاء الصغار من عداد
تلاميذ المدرسة التي سيعين فيها.
ووصل مديرية المعارف أخيراً فنظر نظرة أخيرة إلى ساعته وهندامه، ثمّ
طرق باب المدير ودخل يقدم نفسه، فقال المدير:
ـ أنت خليل خميس؟
ـ نعم..
ـ كنت أود أن أُعينك في المدينة، لكن إشعاراً جاءنا من الوزارة
يمنعنا أن نعين في المدن غير المتخرجين من دار المعلمين.. على كل حال لقد اخترت
لك قرية من أفضل قرى المحافظة ثمّ أنك في القرية لن تحتاج إلى مصاريف كثيرة،
وتستطيع بذلك أن توفر أكثر راتبك. وقدم له المدير قرار تعيينه، وعندما تناوله
خليل لطمت وجهه في "خانة" مكان التعيين كلمة كبيرة راحت تتراقص أمام عينيه
بتلاعب خبيث.
وبعد يومين، كان خليل يشيع جنازة أحلامه في سيارة شحن كبيرة إلى
قرية "طالعة"..
أهلاً معالي الوزير
ضجّت القرية بالنبأ الذي انتشر بين بيوتها انتشار النار في الهشيم،
علمتْ به فطوّش الصباغة من أم خليل، وسرعان ما نقله زوجها إلى ربعة المختار،
وخلال ساعات كان كل من في القرية يعرف أنّ (خليل بك) سيزور القرية.. وهذه هي
الزيارة الأولى له منذ أن أصبح وزيراً قبل سنوات.. وكلمة (بك) هي اللقب الجديد
لخليل الذي كان يعرف في القرية منذ طفولته باسم (ابن الأرملة)..
قضى أبوه تحت الردم عندما كان يحفر بئراً في حوش الدار حيث انهار
عليه جدار البئر. وكان خليل لا يزال جنيناً في أحشاء أمه، وشب في رعاية أمه
الأرملة التي رفضت الزواج بعد المرحوم زوجها لتتفرغ لتربية ولدها، فعُرف خليل
بين لداته باسم (خليل ابن الأرملة)، وكم كان يحز في نفسه، عندما بلغ سن اليفاع
وهو يرى أهل القرية يتناسون اسم المرحوم والده الحاج رشيد المناور، ولكن نزوحه
المبكر إلى المدينة.. إلى بيت خاله التاجر الكبير الذي يسكن فيها، أنهى هذه
المتاعب، وأصبح يعرف في المدينة باسم خليل الحاج رشيد، ولعلَّ القهر الذي حمله
من القرية إلى المدينة هو الذي جعله يتفوق في الدراسة، وفي العمل، وفي النضال
السياسي حتى وصل إلى مرتبة نائب في البرلمان، ثم إلى مرتبة وزير بدعم من خاله
الذي زوّجه ابنته، ودعم حملته الانتخابية بأمواله الطائلة. وأوصله إلى مرتبة
وزير بما يمتلك من علاقات على أعلى المستويات.
ومنذ أن أصبح خليل وزيراً، وأمّه، أم خليل (الأرملة سابقاً) محط
اهتمام واحترام أهل القرية.. الجميع يزورونها، ويسألون عن ابنها الوزير،
ويلتمسون منها وساطات مختلفة لديه حول مختلف قضاياهم المعلقة في المدينة، في
الجامعة والمحاكم ودوائر وزارة الزراعة، ومصارف التسليف والزراعة والعقارات،
وكانت تعدهم خيراً، وترسلهم إلى ابنها الذي نادراً ماكان يستقبلهم، وكان هناك
لديه دائماً من يعتذر لهم بأن معالي الوزير مشغول بالاجتماعات والمهمات، ويأخذ
منهم طلباتهم المدونة على الورق، ويعدهم خيراً، ولكن دون أن يروا بوادر هذا
الخير.
وتشعر أم خليل بنوع من الإحراج، وهي ترى ابنها يتنكر لأهل قريته،
ولا يقدم لهم أية خدمات، وعندما زارته مرة في المدينة كادت أن تضيع بين غرف
بيته، وفي حالة الغربة التي أحست بها حتى مع زوجته وولديه، وعندما عرض عليها
ابنها أن تسكن عنده في المدينة، اعتذرت بلباقة وقالت له: أنها لا تستطيع أن
تعيش خارج بيتها في القرية، ففيه جميع ذكريات حياتها السالفة، وفيه رائحة
المرحوم والده، كما أنها لا تريد أن تفرط بالحقل الذي ورثته عن المرحوم ويدر
عليها مايساعدها على العيش، فقط، طلبت إليه ألا ينسى قريته، وأهل قريته، وأن
يمد لهم يد المساعدة، فهم فقراء، كادحون، ويعانون من الإجحاف والإهمال، فرد
عليها رداً حاسماً: "أرجوك يا أمي.. لا تتدخلي في أمور عملي ولا ترسلي لي
هؤلاء الناس فأنا لا أنسى أنني كنت بالنسبة إليهم مجرد (خليل.. ابن الأرملة)..
ـ (هذه المرّة سيكون الأمر مختلفاً)..
هكذا حدثت أم خليل نفسها وتابعت: صحيح أن الزيارة خاصة ـ وليست
رسمية ولكنه سيفاجأ بالاستقبال الحافل الذي تعده له القرية.. فمنذ أن علموا
بقدومه أقاموا في أول القرية قوساً من أغصان الأشجار مزيناً بالأعلام يكون أول
ما يستقبل سيارته.. كما أوصى المختار جميع أهل القرية بأن يزينوا بوابات دورهم
وجدرانهم بالسجاد والبسط.. كما قرر الحاج رديف وجيه القرية المعروف أن يذبح
أمامه الخراف، وسيقام حفل في السرادق الذي نصبه المختار يلقي فيه معلم المدرسة
خطاباً ترحيبياً، ويقدم شبان وصبايا القرية الدبكات والأغاني، كما سيكون هناك
اجتماع مع معالي الوزير في ربعة المختار، يخصص لبحث أمور القرية ومطالبها، صحيح
أنه ليس وزيراً للكهرباء، ولكنه يستطيع التوسط لدى زميله وزير الكهرباء لتوسيع
شبكة الإنارة في القرية، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية المطالب: تزفيت الطريق
الفرعي الذي يصل القرية بالطريق العام، وبناء صفين جديدين في مدرسة القرية،
وتمديد شبكة لمياه الشرب، بدل نقل الماء على العربات والدواب من النهر ومطالب
أخرى كثيرة معلقة منذ سنين طويلة سيتم بحثها في الاجتماع ولاشك أن ابنها سيتأثر
بهذا الاستقبال الحافل، وينسى موضوع (ابن الأرملة) ويلبي أكثر طلبات أهل القرية
إن لم يكن كلها.
وكانت أم خليل قد قضت أسبوعاً كاملاً، تعاونها بعض الجارات في تجهيز
الغرفة التي سينام فيها ابنها الوزير مع زوجته، والغرفة الثانية التي ستنام
فيها هي مع ولديه، بل إنها لن تنام في تلك الليلة الموعودة، ستسهر مع الطفلين
وهي تروي لهما الحكايات كما تفعل جميع الجدات مع أحفادهن، ستروي لهما قصصاً لا
يعرفونها عن الريف، ستحدثهما عن جدهما (القبضاي) الذي كان يحمل سكة الفدان بيد
واحدة وستحدثهما عن بقرة أم عليوي التي تحلب كل يوم عدة سطول من الحليب،
وستحدثهما عن حمدان الشجاع الذي أنقذ القرية من الضبع الذي كان يهدد القادمين
إليها في الليل، فذهب إلى المغارة التي يجثم فيها الضبع، وقتله بالفأس وعاد به
إلى القرية يجره من ذيله.. وستحدثهما عن نايفة، الشابة النشيطة التي تحصد وحدها
من سنابل القمح مايعجز عن حصاده ثلاثة رجال، وقصص أخرى كثيرة ومثيرة لاشك أن
حفيديها لم يسمعا بمثلها وهما اللذان يعيشان في المدينة ولا يعرفان من الدنيا
إلا مايبثه التلفزيون.
ستحرص أم خليل على أن ينام ابنها وزوجته بحالة مريحة، صحيح أنها
لاتملك أسرة فاخرة كتلك التي في بيته بالعاصمة، ولكنهما سينامان على فراش وثير
من جز الصوف، أكثر راحة، من فراش الاسفنج الذي ينامان عليه في بيتهما، ومن أجل
هذا فرطت صوف الفرشات واشترت عدة جزات من صوف الغنم النظيف المغسول. وأضافتها
إلى ماعندها، وجهزت (فرشة ملوكية)، بالتعاون مع الجارات، كما استبدلت ستائر
البيت بستائر جديدة، وحرصت على أن تملأ خزان الماء، وأن تستحضر زجاجات مختومة
ومعبأة بمياه الشرب بالنظيفة، كما قررت أن تذبح الديك الرومي الوحيد لديها
لتطبخ عليه فريكة، وحرصت على أن يكون هناك أنواع أخرى من الطعام، كاللحم
المشوي، وغيره.. فقد تكون كنّتها لا تحب لحم الديك الرومي أو لا تحب الفريكة.
ولم تنسَ أن تستدعي (نوف الوقّاع) داية القرية التي قامت بتوليد
خليل لتؤمن لها مقابلة مع ابنها الوزير وتوصيه بأن يسعى لها لأن تدخل مشفى
العيون في العاصمة لتجرى لها عملية نزع الماء الأزرق من عينيها، فهي لم تعد
تبصر إلا بصعوبة، وسوف يلبي الطلب لأن نوف الوقاع دايته.. والداية مثل الأم…
وجاء اليوم الموعود..
ومنذ الصباح الباكر خرجت القرية عن بكرة أبيها لاستقبال ابنها
البار، خليل بك بن المرحوم الحاج خليل المناور الذي أصبح وزيراً في وزارتين
متتاليتين..
ومرت ثلاث ساعات والمستقبلون يقفون تحت الشمس الحارقة على امتداد
الطريق الذي يصل مدخل القرية بالساحة العامة، قبل أن تطل سيارة معالي الوزير..
وكانت المفاجأة الأولى أنه كان يجلس فيها وحيداً وراء السائق، حتى
سيارة المرافقة التي تضم عدداً من عناصر الحراسة والتي ترافق الوزراء عادة في
حلهم وترحالهم، لم يكن لها وجود… علّل البعض هذا بأن الزيارة خاصة وليست رسمية،
وأن الوزير سيقضي يوماً أو يومين في زيارة والدته، ولهذا لم يرغب أن يثقل على
أهل القرية بالمرافقين، ولا أن يعطي زيارته الطابع الرسمي..
وعند القوس الأخضر، ترجل من السيارة بتواضع جمّ، وقرأ اللافتات
المرفوعة مبتسماً، وصافح مستقبليه من أعيان القرية وأهلها حيث نحرت الخراف تحت
قدميه، ولم ينس الحاج رديف أن يوحي إليه بشكل أو بآخر أنه هو الذي دفع ثمن هذه
الخراف (لاشيء من قيمتكم معالي الوزير)… ودعاه المختار إلى المضافة فوعده بأنه
سيجتمع في المضافة برجال القرية بعد الظهر، أما الآن فهو يريد أن يزور العجوز
(يقصد أم خليل) فأكبر فيه الجميع هذا الشعور الطيب تجاه أمه.
وفي دار المرحوم أبيه حاول أن يعتذر لأمه عن عدم إحضاره زوجته
وطفليه.. "زوجتي عندها حفل استقبال لزوجات السفراء.. والطفلان لديهما مذاكرات..
في المرة القادمة إن شاء الله، سوف أحضرهم معي.. بسيطة يا أمي… (الجايات أكثر
من الرايحات)..
قبلت الأم اعتذاره، فهو وزير وله مهام وعليه مسؤوليات، وزوجته ،
زوجة وزير، وعليها استقبال زوجات السفراء.. لابأس.. في الزيارة القادمة
ستستبقيهم عدة أيام..
وعندما أحاط به الجيران في البيت رجتهم أم خليل أن يدعوه يرتاح،
ولكنه قال لها: "لا يا أمي.. دعيهم يدخلون، هؤلاء أهلي وجيراني"..
لم تصدق أم خليل ماتسمع.. أهذا هو ابنها الذي لم يلبّ من مطالب أهل
القرية الذين زاروه في المدينة شيئاً يذكر؟ لعل أعوانه هم الذين كانوا يحولون
بينه وبين أهل القرية الذين يزورونه..
وعندما قدمت الداية نوف الوقاع، هم بتقبيل يدها، فسحبتها مذعورة وهي
تقول: أعوذ بالله يا معالي الوزير
فرد عليها: أنا الآن لست معالي الوزير يا خالتي نوف… أنا ابنك خليل…
-الله يرضى عليك يا ابني…
وروت لـه معاناتها مع الماء الأزرق الذي أسدل غشاوة على عينيها،
فوعدها خيراً…
وعندما حان وقت الغداء اعتذر عن تناول الطعام، واكتفى بشرب اللبن:
"أنت تعرفين يا أمي أنني أعاني من نقص التروية، ومن الكولسترول… ومن السكر…
وهذه المآكل الدسمة لا تناسبني!!..
أحست العجوز بكثير من خيبة الأمل وهي تنظر إلى الديك الرومي يتربع
فوق منسف الفريكة.. ولكن ما العمل.. إنه –كما يقول، يعاني من عدة أمراض، ولا
تريد أن يلحق به الضرر…
وتمت بقية مراسم الاحتفال كما خطط لها… في السرادق وفي الربعة.
استمع خليل بك إلى مطالب أهل القرية باهتمام، وتناول منهم الطلبات والاسترحامات
والاستدعاءات التي قدموها إليه مكتوبة على الورق، ووعد بدراستها في العاصمة
وتحقيق مطالبهم كلها.. ثم سلمها إلى السائق الذي وضعها في كيس كبير، وخرج من
الربعة مودعاً…
وكانت المفاجأة الأخرى عندما اعتذر لوالدته عن قضاء الليلة في
القرية، وقال لها أنه مضطر للسفر إلى العاصمة لأن عنده اجتماعاً مهماً في
الصباح الباكر.
وفي طريق العودة، وعندما كانت السيارة تعبر الجسر على النهر الكبير،
أشار إلى السائق إشارة خاصة فتناول الكيس وفتحه، وألقى بمحتوياته إلى النهر.
العنق .. والأنشوطة
السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني أو في
الأفق المياسر، أي بشير للخلاص..
في هذه اللحظة، تنهي سفينة فضائية دورة جديدة في المدار، وتشحذ
سكرتيرة كاعب ابتسامة متجددة للمدير وتكشيرة للمراجعين.. ويستوي أحد أباطرة
المال فوق أريكة مصرفية وهو يلوي عنق الخط البياني للبورصة العالمية، ويموت طفل
في ساحل العاج من التجفاف.. ويحدق نيلسون مانديلا في تاريخ الصحيفة التي سرّبت
إلى سجنه في بريتوريا فيرتسم على وجهه الكابي شبح ابتسامة وهو يحسب زمن اعتقاله
الذي يقترب من أعوامه الثلاثين..
ها أنتم ترون أنني " متابع " و " مطّلع ".. اعرف امور الدنيا،
واستقرئ أحداث العالم، وأصحح أخطاء مذيعات التلفزيون.. يعتبرني اهل الحي
مثقفاً، وتعتبرني زوجتي رجلاً خائباً لأنني أقرأ أكثر مما أعمل، وأستمع إلى
الإذاعات حتى ( أصفّي ) آخر موجة على الأثير دون أن أكترث باعلانها اليومي عن
خيبتي المزعومة وهي ترمي ثيابها الداخلية فوق الشراشف لتوحي بأنها في حال العري
المستلقي والإنتظار الذي طال.
السكين في الخاصرة، والأمل حرون، وأنا في غرفة فسيحة لها باب
واحد مغلق، يقبع خلفه - هكذا أتخيل - الرجل المربوع المتين الذي يبدو وكأنه قد
صبّ من الرصاص.
لا شك في أن الدنيا قد تبدلت حتى في هذه الأماكن، فالغرفة التي
اقتادوني إليها فسيحة، عالية الجدران، جيدة الإضاءة وليست زنزانة ضيقة، كما
نقرأ في الروايات وفي قصص بعض الكتاب المتطرفين.. حتى الحارس، ليس ضخماً، ولا
طويلاً، ولا حاد النظرات، صحيح انه يبدو متيناً وكأنه قد صب من الرصاص لكنه ليس
شرساً، لم يحدجني بنظرة، ولم يصفعني، ولم يركلني.. ولم يقل لي " يا إبن ال...
".. حتى عندما قدم لي الشاي وضع الصينية أمامي بهدوء..
ها انذا أعزّي نفسي بشكل الحارس، وطريقته في تقديم الشاي ولكن
السكين ما تزال في الخاصرة.. أجل.. سكيّن.. ضربة غدر من يد مجهولة جعلتهم
يستدعوني ويضعوني في هذه الغرفة منذ ثلاث ساعات دون أن يستجوبني مستنطق أو يجيب
أحد عن سؤالي التقليدي: لماذا أنا هنا؟.
هل تظنون انني لم أسأل الحارس هذا السؤال؟. ستقولون أنه لم
يجبني ..
بل أجابني..
قلت له: أخي أرجوك لماذا استدعيتموني إلى هنا؟.
أجاب بهدوء: منشان نضيفك شاي..
ووضع أمامي فنجان الشاي وخرج.. يسخر مني (إبن ال.... ) هذه
المرة انا الذي سيشتم..أنا سأقول له ( يا إبن ال... )...
ولكن.. كيف يقدم لي الشاي في فنجان بلّوري؟.
عادة.. في السجون.. وفي غرف التحقيق ( هكذا قرأت في الروايات
وفي قصص الكتاب المتطرفين ) يقدمون للسجناء والمعتلقين أدوات من البلاستيك أو
الألمنيوم، فالأدوات البلورية يمكن أن تصبح - اذا كسرت- مدىً مناسبة للإنتحار...
يبدو أن تهمتي بسيطة، مجرد دسيسة رخيصة سرعان ما تنكشف، صحيح
أنني أشعر كأن سكيناً قد طعنت خاصرتي غدرأ، ولكني لا أتصور انها طعنة عميقة
يمكن أن تصل إلى القلب.
كان علي ان أخطر أحداً بأنني استدعيت إلى هذا المركز، مختار
الحي على الأقل، فليس هناك من يعلم بقصة استدعائي سوى زوجتي، وهذه لن تبادر إلى
السعي لإنقاذي، فما حاجتها لي وأنا إلى جانبها في الفراش قارئ للصحف أو مستمع
للإذاعة؟. وجاء الحارس بفنجان قهوة...
لا.. هذه حرب أعصاب.. انها الأنشوطة التي يبدؤون بلفها عادة حول
العنق.. صحيح أن بعض الكتاب يتطرفون أحياناً في رصد مثل هذه القصص، لكن موضوع
حرب الأعصاب حقيقي، ينقعون المعتقل في غرفة مغلقة لساعات او لأيام، دون أية
كلمة أو صفعة أو استجواب، يجلس في ظل الزمن الثقيل والأسئلة الملحة تحفر رأسه
وهو يتكهن حول أسباب اعتقاله دون ان يصل إلى جواب، حتى إذا انهارت أعصابه اخذوه
إلى المحقق شلواً متهالكاً، لا يصمد أمام " ضربات " الأسئلة الذكية المتواترة
من المحقق المحنّك سوى لحظات يتهاوى بعدها.. و ( يعترف )...
-. بماذا ساعترف؟.
أقسم لكم أنني أتمنى لو أن هناك بحقي تهمة حقيقية، وأفضّل أن
تكون سياسية، إذن لما خفت ولا توجّست شراً، بل كنت سأقابل المحقق بشجاعة ورباطة
جأش، فأنا صاحب موقف ومبدأ، واصحاب المواقف والمبادئ.. يرحّبون بالمشانق أراجيح
بطولة.. أراجيح بطولة؟.
أين قرأت هذا التعبير؟. أين قرأته؟.
أي.. تذكرت.. قاله احد شهداء أيار الذين شنقهم السفاح التركي
جمال باشا...
أراجيح بطولة.. يا له من تعبير رائع..
وجاء الحارس..
وقدم لي سيكارة..
سيكارة أيضاً؟. لقد أكتملت الأنشوطة.. الشاي والقهوة والسيكارة..
لم يبق إلا تلويحة واحدة ويصبح العنق داخل الأنشوطة وينتهي كل شيء..
ولكن.. لن استسلم.. لابدَّ من المدافعة قبل الإستسلام المحتوم،
لابدَّ من سؤال آخر أطرحه على الحارس:
-. اخي.. أرجوك.. أليس في هذا المكان رئيس؟.
-. طبعاً..
-. وهل هو الذي استدعاني؟.
-. أجل
-.-. وأين هو الآن؟.
-. في الإجتماع..
-. ومتى سينتهي الإجتماع؟.
-. لا أدري..
-. هل أستطيع أن أقابله؟.
-. قال انه سوف يطلبك..
-. متى؟.
-. لا أدري..
-. أخي أرجوك.. هل تعرف لماذا استدعيت إلى هنا؟.
-. منشان نضيفك شاي
وخرج الحارس، وتركني لهواجسي من جديد..
هل هو المختار؟. هل هو صاحب الدسيسة؟.
لا أظن ذلك، فالرجل بحاله.. آدمي.. محشوم، ويدعوني دائماً إلى
كأس من الشاي في دكانه، ويحب أن يستمع إلى ( آخر الأخبار ).. ولكن هل كان
يستدرجني في الكلام؟.هذا ليس معقولاً، فهو يعرف أنني أنقل أليه أخبار الإذاعة
والصحف المحلية، فهو لا يقرأ الصحف، ولايستمع إلى الإذاعة، ولهذا يكتفي بما
الخصه له من أخبار..
من أذن صاحب الدسيسة؟.
هل هو صاحب الزاوية اللغوية التي تقدم في التلفزيون؟ صحيح انني
انتقدته في المقهى، وقلت أنني سأسعى لأحتل مكانه على الشاشة، ولكن الأمر كله
كان مجرد مزاح، مّنْ أنا حتى أقدم برنامجاً علىشاشة التلفزيون.. انا رجل درويش،
أستاذ لغة عربية متقاعد.. لافي العير ولا في النفير..
إذن هي المذيعة...
أجل.. المذيعة التي تخطئ كثيراً وانتقدها كثيرا، علنا، لا شك أن
إنتقاداتي قد وصلتها. وانها هي التي أوقعت بي.. يقولون عنها أن ( إيدها طايلة )
وانها (مدعومة )..
ولكن.. لماذا توقع بي؟.
كنت أتوقع أن تشكرني، وان تتابع لدي دروساً خصوصية في اللغة حتى
يستقيم لسانها وتنتهي من عثراته..
لا.. لا.. لا أظن انها هي..
من إذن؟..
زوجتي.. ليس هناك أحد غيرها له مصلحة في سجني وتأديبي.. فوجودي
بالنسبة لها " مثل قلته ".. لعلها تحاول الإنتقام لليالي الذل التي تنشر أمامي
فيها ثيابها الداخلية على الشراشف لتعلن انها في حالة الإنتظار وهي تستلقي
عارية في حين انشغل عنها بالتنقل بين صفحات الصحف وإذاعات العالم..
ولكن.. ما نوع الدسيسة التي يمكن أن تدسها هذه المرأة الغبيّة
الجاهلة، وكيف استطاعت الوصول إلى مثل هذه الأجهزة؟.
ستقول لهم: أن زوجي يتحدث في السياسة؟.
ها.. جميع الناس يتحدثون في السياسة. والحديث في السياسة ليس
ممنوعاً.. ثم ان أرائي معروفة.. أنا - أولاً - ضد حلف الأطلسي بمكاتبه
وجنرالاته واساطيله وخططه ومناوراته العسكرية المشتركة وغير المشتركة التي
ينفذها هنا وهناك..
وانا ضد السياسة العنصرية في العالم.. كما انني أناقش
البيروسترويكا بموضوعية، على الرغم من انني لم أقل فيها الرأي الفيصل حتى الآن.
ماذا أيضاً؟.
أنا وحدوي من يوم يومي.. منذ أن كنت طفلاً أردد مع أقراني: ((
بلاد العرب اوطاني )).. صحيح أن لي بعض الملاحظات على بعض التجارب والإتحادات
والمحاور الوحدوية، ولكني أرى خلاص العرب في وحدتهم.. جميع الذين يجالسونني في
المقهى يعرفون رأيي..
وانا إشتراكي حتى العظم.. وانتقد أي مظهر بيروقراطي يمكن أن
يعرقل المسيرة الإشتراكية، وأدعم أرائي بما تنشره الصحف حول هذا.. كلنا مطالبون
بمثل هذا الموقف.. حتى بالنسبة للسينما، أنا مع سينما القطاع العام، وضد
السينما التجارية، وضد سينما المقاولين.. صحيح أن تعبير ( سينما المقاولين )
ليس من بنات أفكاري، وصحيح أنني قرأته في إحدى المجلات لناقد سينمائي يتحدث عن
السينما في مصر.. ولكنه تعبير دقيق وينطبق على سينما السبعينات والثمانينات
ما لدى زوجتي لتدس عليّ؟.
لن تكون دسيستها مقنعة إذا دخلت بها باب السياسة، لن يقبض أحد
كلامها، فهي تظن ان مارغريت تاتشر ممثلة سينمائية، وإن وكالة " ناسا " نوع من
البوظة، وإن " فليت ستريت " نوع من البطاطا المقلية المستوردة في علب أو
أكياس؟.
من هو صاحب الدسيسة إذن؟..
سأعترف بأنني عاجز عن اكتشاف غريمي، ولكن السكين لا تزال في
الخاصرة، والأمل حرون، وليس في المرتجى الداني او في الأفق المياسر أي بشير
للخلاص.. صحيح أنني لست في زنزانة، والحارس ليس قاسي الملامح او حاد النظرات،
ولكني أشعر بالإختناق، فهذه هي المرة الأولى التي اجد نفسي معها في مثل هذا
المأزق.. فهل سيطول برئيس المركز الإجتماع؟.
. . .
في مكتب رئيس المركز، كان الرجل جالساً على كرسي دّوار يتحدث
على الهاتف ويقهقه.. وعندما أدخلني الحارس عليه، أشار إلي بالجلوس وهو يتابع
المكالمة..
جلست متهيباً وانا أوحي بأنني لا أسترق السمع إلى ما يقول على
الرغم من انه كان يتحدث بصوت مرتفع...
أنهى المخابرة.. انكب على ورقة يقرؤها وقال دون ان ينظر إلي:
-. آسف.. لقد أخرناك.. كان لدي إجتماع طارئ..
-. سيدي بسيطة..
-. ما أخبار السياسة عندك هذه الأيام؟.
" بداية غير مشجعة.. عن أية سياسة يتحدث هذا الرجل؟."
-. سيدي.. أنا....
قاطعني وسأل:
-. ما رأيك في سياسة بوش؟ أفضل من سياسة ريغان.. أم أسوأ؟
-. سيدي أنا...
-. أنا أمازحك.. دعنا من بوش وريغان، وقل لي: ما آخر خطأ
التقطته على مذيعات التلفزيون؟.
" ها.. بدأنا نقترب من الأنشوطة.. الدسيسة إذن من المذيعة "..
وقبل ان اجيبه على سؤاله قال:
-. زوجتي، مثلك مدرسة لغة عربية.. هي ايضاً تسجل على المذيعات
والمذيعين أخطاء كثيرة..
-. على كل حال، هي ليست اخطاء قاتلة..
-. زوجتي ليست من رأيك، وفي رأيها أن جميع المذيعين والمذيعات
يجب أن يتبعوا دورة لغة قبل الظهور على الشاشة او الجلوس إلى المايكروفون..
(( لماذا لا تعتقل زوجتك إذن ))..
-. سيدي.. على كل حال.. هذه وجهات نظر..
-. نعود إلى موضوعنا الأول..
-. تقصد موضوع السياسة؟. يا سيدي أنا لا أتكلم في السياسة ...
أنا أتابع الأخبار من الصحف والإذاعات
-. هذا ليس مهماً.. ثم أن ما تنشره الصحف وتبثه الإذاعات ليس
دقيقاً في جميع الأحيان..
-. صحيح.. ولكني من خلال التجربة أستطيع أن...
-. على كل حال، ليس هذا موضوعنا..
-. حتى المذيعة سيدي.. أنا لا أعرفها شخصياً.. صدقني، وليس بيني
وبينها أي شيء.. ثم أن زوجتكم....
-. هذا ليس مهماً.. المهم.. لدينا نيّة لاستضافتك
-. أين؟..
-. في السجن المركزي
-. ولكني لم....
-. لا أقبل أي إعتذار..
-. اعتذار؟.
-. اسمع يا أستاذ.. في السجن المركزي عدد من السجناء الأميين،
وقد اتخذنا قراراً بفتح صف لمحو الأمية في السجن، وقد اخترناك معلماً لهذا
الصف.
السقوط
هذه هي المرة الثانية التي تتبدى فيها أمام عينيها صورة عنزتها
(هرجة) التي كانت تحلب ضرعها في المعمورة، قريتها الغافية بين صخور الجبل
الجنوبي في بلدها..
في المرة الأولى عندما كانت واقفة في شرفة برج (إيفيل) تطل منها
على باريس.. أما المرة الثانية فهي الان، ويدها تمسك بكأسٍ مليئة بعصير
الأناناس في (الامبايرستيت).. ناطحة السحاب الشهيرة في نيويورك..
عندما وقفت في شرفة برج إيفيل لم يكن قد مضى عليها منذ أن خلفت
وراءها مطار دمشق سوى شهر واحد.. ولهذا ضاع حنينها إلى العنزة والقرية والسهرة
مع القمر على السطح في غمرة لهفتها على استقراء مظاهر ودقائق الحياة الجديدة
التي انداحت في دوامتها، ولولا خاطر عابر في ذهنها وهي تزور كاتدرائية نوتردام
في الصباح راسماً صورة ( أزمير الدا وعنزتها ( التي قرأت عنها في رواية (احدب
نوترام) لما بدت أمامها صورة عنزتها في باريس..
اما هنا، في الامبايرستيت، فإن أصابع يدها الممسكة بالكأس، هي
التي تحدثت.. حدثتها عن نفسها يوم كانت الأصابع السمر القاسية، المصبوغة
بالحناء، تمسك بضرع العنزة وتحلبه بخبرة ونشاط
وضحكت نايفة وهي ترى نفسها محاطة بمقصورة تسبح في هالة ضبابية
حالمة تطل على ثلاث جزر يؤلف مجموعها هذه المدينة الأسطورية، عرفت الان مدى جهل
أستاذ الجغرافيا الذي كان يحدث التلاميذ عنها في القرية فلا يتصورونها إلا بحجم
ثلاث قرى متجاورة.
وعبثا حاولت نايفة أن تندمج بالموسيقى والضباب والجو الحالم،
فقد استيقظ حنينها إلى القرية دفعة واحدة، وعجبت من نفسها كيف انتقلت من القرية
إلى جامعة دمشق، ثم إلى جامعة طبية أخرى في مدينة الضجيج هذه لتدفع خمسين
دولاراً وترضي فضولها بارتياد هذا المقصف، وحيدة إلى مائدة غريبة بين المتحلقين
حول الموائد القليلة الأخرى.
ومرَّ نصف ساعة..
تقدم بعده من مائدتها شاب أشقر طويل يستأذن بالجلوس، فرفضت
السماح له بذلك.. كان في عيني الشاب جرأة وقحة.. وتذكرت الذئب..
مرة.. في الجبل.. هاجم ذئب عنزتها (هرجة).. هجمت عليه وضربته
بعصا غليظة ضربة جعلته يهرب وهو يرسل عواء متقطعاً، منذ ذلك اليوم وهي تواجه
الناس، والرجال بصورة خاصة، غير متوجسة ولا خائفة.. أما هذا الشاب، فلن يكون
أشرس من الذئب.. رأته يتقدم نحوها مرة ثانية.. بدا لها وكأنه ثمل.. وعاد يستأذن
بالجلوس.. فأذنت له..
قال لها: انت لست أمريكية.. ولست زنجية.. أليس كذلك؟. فأجابت
ببرود: هذا سؤال سخيف..
-. أوه.. آسف...
وضحكت فلمعت عيناه.. هي تعلم أن ضحكتها أعجبته.. ان زوجة خالها
(لطيفة) كانت تقول لها دائماً: ولك تقبريني يا نايفة على هالضحكة..
وسألته: أنت لست إبن صاحب مصنع للسيارات أليس كذلك؟.
-. أنا ممثل من الدرجة الثانية.. هل تعرفين أن سمرتك جذابة؟
-. اعرف هذا؟.
-. وما سر هذه الجاذبية؟.
-. هذا السؤال أيضاً سخيف..
فانتفض رأسه مع انتفاضة يده: أوه.. سخيف.. سخيف اعتذر إذن.. انا
لم أشرب كثيراً، ولكني لست سعيداً.. لقد سئمت الجلوس وحيداً
-. ماذا أتيت تفعل في هذا المكان وحيداً؟.
-. أشعر هنا أنني في مملكة الله..
-. لم أفهم قصدك
-. إن (جوان) تقول لي دائماً: فتش عن مملكة الله..
-. مرة ثانية لم أفهم ما تقول.. من هي جوان هذه.. وأين ستفتش عن
مملكة الله..
-. إن جوان بطلة مسرحية ( الحياة السرية).. ونحن نمثل هذه
المسرحية على مسرح شبه مجهول في الضاحية الشرقية من المدينة، وأنا لا أنصحك
بمشاهدتها.. فهي مسرحية محيرة، مربكة.. من مسرحيات ما بعد الحرب العالمية
الأولى، لست راضياً عنها، ولكن مدير الفرفة يقول أن لها زبائنها تبدو جوان في
أكثر مشاهدها وهي تكشف عن فخذيها.. وقد كتب أحد النقاد مقالاً عن المسرحية يقول
فيه: لا شيء فيها من التصاعد الدرامي.. وقال أشياء أخرى لا أتذكرها الآن،
فالشراب يضيع مني نصف ذاكرتي.. ولكني لا أسكر.. هل تصدقين هذا؟.
-. بدأت أصدقك..
-. أستطيع أن أعطيك موجزاً عن حوار المسرحية على لسان ( شتراوس)
الذي ألعب دوره.. وأسمي الحقيقي بلينكي.. إنني أقول لجوان وأنا أتقمص دور سياسي
متعثر يقابل بعد مدة فراق طويلة حبيبته التي انفصل عنها دون أن يتزوجا: ((
دعيني من ضلال السيطرة، فقد كانت لدي يوماً ما- وانني لأشكرك على ذلك- قوة مافي
داخلي.. إلا أن تلك القوة لم تستجب لأي دافع بعد رحيلك..
وتقول جوان: حتى ولا لدافع سبب معقول أو مثير؟
فأقول: هناك الكثير من الأسباب المعقولة التي يسهر عليها
الأدعياء البارزون الذين يغلب عليهم حب التظاهر بالقوة الفارغة، والذين يرقبون
بعقولهم الصغيرة ماذا سيحدث، فإذا بحثت عن قوتهم الحقيقية التي لا يمكن أن
تستعار أو يساوم عليها، وجدت انها تنبعث من الحياة السرية التي يعيشونها.
وتسألني جوان عما إذا كان من الأفضل لنا لو لم نلتق ما دمنا لم ننته إلى سعادة،
فأجيبها: كلا.. إن ذلك لتجديف.. على الأقل لا تجاري الذين يجحدون، فعجلات
الحياة عندئذ ستجري إلى الجهة التي لا نريد
وتقول جوان: ولكن فتش أولاً عن مملكة الله فتتجرد من الرغبة في
كل الأشياء الصغيرة ))
كان بلينكي يتكلم بسرعة وهو يحرك يديه وعينيه وكأنه على المسرح
في الضاحية الشرقية.. ولم تستطع نايفة أن تستوعب جميع ما قال، ولكنها ظلت
تتساءل: مادام هذا موضوع المسرحية، فما الداعي لأن تكشف جوان عن فخذيها في أكثر
مشاهد المسرحية؟.
وراحت نايفة تفكر، وهي تتأمل بلينكي، في هذا النموذج من أناس
الدنيا الجديدة، عندما قطع عليها حبل تفكيرها بقوله: انني افتش عن مملكة الله
لأ تجرد من الرغبة في الأشياء الصغيرة، وهذا ما لا أستطيع أن أفعله على المسرح،
فالجمهور والأضواء وصوت المدير خلف الكواليس، كلها أشياء تضعني في واقع متعب
لدرجة الإعياء.
-. ولكن لماذا تريد أن تتجرد من الأشياء الصغيرة؟.
-. لم أجد فيها سعادة.. حتى وجهك الأسمر الجميل أشعر أنه بعيد
عني.. لا.. لا تظني أنني أقول هذا بخبث.. أنا أحترمك لأنك تستمعين إلي..
-. ما الذي يتعسك على التحديد؟. لماذا لا تسعد نفسك؟.
-. لا أستطيع.. لا يستطيع أي إنسان في هذه المدينة كلها ان
يسعد.. إن صديقي الدكتور هومر، وهو طبيب نفساني يقول لي: في حياتك فراغ يجب أن
تملأه؟
-. ولماذا لا تحاول أن تملأه؟.
-. بماذا أملؤه؟.
-. الحياة في بلادكم غنية جداً بما يمكن أن يملأ به الإنسان
فراغ نهاره وليله
قال بلينكي ونبرة أسى تبدو جلية في صوته: لقد جربت كل شيء،
وعبثاً كنت افتش عن السعادة..
قالت نايفة: ما عليك إذن إلا أن تحلب العنزة..
تساءل دهشاً: ماذا تقولين!.
قالت نايفة وهي تضحك: لا شيء.. نصيحة سخيفة...
عندما ذهب بلينكي بدأت صور القرية تسرق نايفة من واقعها مجدداً،
وراحت معها في استقراء داخلي لمعنى السعادة التي كانت تعيشها، تشعر بها وهي
تحلب ضرع عنزتها ( هرجة ).. ولمعنى السعادة التي يفتقدها بلينكي في نيويورك في
أعلى ناطحات السحاب فيها..
وعندما كان المصعد يهبط بنايفة وببعض رواد المقصف إلى الطابق
الأرضي، كانت تشعر انها الوحيدة التي تتجه إلى أعلى.
الصلصال
قفز إلى ذهنه سؤال جديد:
-. ترى.. هل ستكون هذه أيضاً من القطيع؟. أليست متميزة؟. لقد
قرأ في عينيها البنيتين سيرة جديدة لم يقرأ مثلها في أية عينين مرتا به أو مرّ
بهما.. فهل يتابع الطريق ويدخل معها تجربة جديدة؟. أما يكتفي بما في صدره من
سهام؟.
كان يومئذ جالساً في مكتبه بإدارة الجريدة يدخن وحيداً ويتسلى
بقذف كرات ورقية صغيرة من بين أصابعه، عندما ارتفع رنين الهاتف وكأنه يلح
بإصرار:
-. أنت الأستاذ صبحي إذا لم يكذبني حدسي..
-. حدسك صادق
-. انا نجوى حلمي.. هل عرفتني؟.
-. أنت إحدى بطلات مسرحنا..
-. وهل لقب البطولة رخيص لديك إلى هذا الحد لتمنحه لأول هاتفة
-. لست أول هاتفة كما أعتقد..
-. معنى هذا انك تمنحني لقباً مكروراً
-. أعرفك ممثلة بارعة على المسرح، لكني أكتشفت الآن انك محاورة
ذكية
-. ما دمت بارعة على المسرح.. لماذا أهملني قلمك حتى الآن؟
-. لا تزالين في أول الطريق..
-. بل قل ان غيري يحتل الدور الآن
-. أحكامك جائرة.. مهما يكن، هل هتفت لي لهذا أم لسبب آخر؟..
-. سأكذب عليك إذا تعذرت بسبب آخر
-. تعجبني صراحتك..
-. هل اعتبر الموضوع في حكم المقرر؟.
-. أنا لا أقرر أموري بمثل هذه السرعة..
-. إذن لا بدً لنا من لقاء.. سأتصل بك مرة ثانية..
...
السؤال يلح عليه.. السؤال نفسه الذي كان يلح عليه كلما وجد نفسه
أمام تجربة مع واحدة من الباحثات عن الشهرة في الصفحة التي يشرف عليها
بالجريدة.. آخر واحدة في قطيع هؤلاء الصبايا كانت فتاة على المسرح أيضاً..
زميلة لنجوى هذه، جاهدت كثيراً حتى استطاعت أن تثبت قدميها على الخشبة، وتألقت
بين الأضواء التي وجهت إليها من هنا وهناك، ولكنها وجدت أن هالتها ناقصة إذا لم
يكتب عنها قلم صبحي.. دعته إلى عرض مسرحية كانت تمثل فيها دور البطولة، واعطت
يومها عطاء باهراً، وعندما دوّت الصالة بالتصفيق كان هو واحداً من المصفقين..
ودارت عيناها في الصالة تبحث عنه حتى وجدته، فانحنت قليلاً وابتسمت شاكرة، وكتب
عنها: (( انها الأولى بين الواقفات على خشبة المسرح في البلد )).
ومرّ عام، فإذا هي تدلي لإحدى الصحف بتصريح حول بعض الأمور
الفنية، وتأكد صبحي وهو يقرأ الحديث إن الغرور، ركب رأسها الصغير.. خاف عليها
من هذا الغرور، فاتصل بها يحذرها من نتائجه، وكم كانت الصدمة قاسية عندما قالت
له: (( أنا أعي ما أقول.. وأعرف حدود طريقي.. ثم لا تنسَ أنني لست ممثلة
ناشئة.. ولا تنسَ أن النقاد قالوا عني إنني الفتاة الأولى على خشبة المسرح..
وأصبحت في آخر القافلة.. سقطت.. تهاوت إلى الأدوار الثانوية..
أصبحت مقدمة اعلانات.. وهذه الجديدة هل ستكون مثلها.. مثل الأخريات؟. هل ستنتهي
بدورها إلى الغرور والضياع؟. هل يدخل معها التجربة؟.
رن الهاتف.. عرفها هذه المرة من صوتها..
-. أهلاً نجوى..
-. كيف عرفت صوتي؟.
-. أرجو ألا يضيع مني بعد اليوم
-. ألم تكن تنتظر مني مكالمة طيلة الأيام الماضية؟.
-. أصدقك القول؟. بلى..
-. إذن.. فنحن الآن في طريق التفاهم.. هل أستطيع أن أسرق من
وقتك ساعة نجلس فيها ونتحدث؟.
-. أين؟.
-. في بيتي.. في المقصف.. في الشارع.. على العشب في طريق ترابية
بإحدى مناطق الريف..
-. الإقتراح الأخير يوافق مزاجي..
-. مزاجك غريب..
-. إنني أبحث دائماً عن الأشياء المختلفة
...
-. في الطريق الترابية قالت له: حول المدينة مناطق كثيرة أجمل
من هذه المنطقة.. إنها فقيرة..
-. أنت اقترحت المكان
-. ولكني طرحت الإقتراح دون تفكير.. انه أول شيء مر بذهني..
-. ولهذا اخترته..
-. ولكنها منطقة فقيرة.. وسواقي الماء فيها ضحلة..
-. مرّة.. وكان ذلك في ريف الشمال، وكنا نحصد الشعير.. عطشنا..
ولم يكن هناك ماء سوى غدير تكومت فوق مياهه جثث الجراد التي سقطت بمبيدات دائرة
الزراعة. ازحنا جثث الجراد وشربنا..
-. إذن فعلي أن أقبل المكان ولو كان زريبة..
كان يدرك انها ممثلة بارعة، ولكنه لم يكن ليتصور أنها بارعة في
التمثيل على الطريق الترابية، كما هي بارعة على خشبة المسرح..
وسألته فجأة: هل أنا جميلة؟..
-. ما كياج المسرح يفسد جمالك الطبيعي..
-. ما هو أجمل ما فيّ؟.
-. عيناك..
-. أرجو ألا أكون بالنسبة لك مجرد عينين جميلتين
...
على المسرح..
هذه المرة بدت أكثر تألقاً.. أعطت عطاء باهراً، وعندما دوّت
القاعة بالتصفيق كان هو واحداً من هؤلاء المصفقين.. وتبدل المشهد.. وفي ذروة
تأزم إحداث المسرحية في المشهد الثاني، قدمت هي منولوجاً بديعاً من الأداء
الفردي، فالتهبت الاكف وهي تصفق لها.. وكان هو يصفق فرحاً، ورأته فرمقته بعينين
شاكرتين..
وعندما أسدل الستار هرع إلى الكواليس ورمى معطفها على كتفيها
العاريتين، ثم سحبها من يدها إلى أقرب سيارة.
-. كنتِ اليوم رائعة..
-. إنني مدينة بنجاحي لتشجيعك
-. يسعدني أن أراك متفوقة
-. هل لديك ملاحظات حول الدور؟.
-. ارتكبت مخالفة لاأريد أن تتكرر مرة ثانية..
-. وما هي؟.
-. نظرتك إلي وهزة رأسك
-. ولكني كنت أشكرك..
-. كنت تمثلين مشهداً على المسرح.. والممثل على المسرح يجب أن
يكون مع دوره فقط..
-. في المسرح الحديث لا يحدث هذا.. الممثل يجلس أحياناً مع
الجمهور.. مع هذا سآخذ بملاحظتك..
-. لم تطلبي إليّ ان اكتب عنك..
-. لم يعد يهمني أن تكتب عني للناس ما دمت انت راضياً عني
-. حديثك هذا يذكرني ببراعة طالبات المدارس في تملّق الأستاذ
قبل الفحص النهائي..
-. وهل أمامي إمتحان قادم؟.
-. الغرور.. آخر سهم في جعبة التجربة
...
وسقطت بدورها... بعد عامين فقط.. لم تستطع أن تقاوم إغراء
الشهرة.. خدعها بهرجها.. بدأ الغرور يحرق في عينيها ذلك التألق..
كانت تحمل (البوم) المقالات التي كتبها عنها صبحي.. وتتحدى به
زميلاتها، بل انها بدأت تطلق تصريحات غريبة: خشبة المسرح ضيقة.. إن المسرح
يخنقني.. يجب أن أنطلق إلى اجواء أخرى.. إلى السينما.. إلى العالمية ))
وعندما ضمتهما جلسة عرف أنها تلحق حثيثاُ بالقطيع، حتى طريقة
إشعالها السيكارة تغيرت..
لم يقل لها شيئاً.. كان يعني في أعماقه التمثال الأسطوري الذي
ظل ازميله يحدد ملامحه لتبدو واضحة.. نبيلة.. كبيرة.. فإذابه يتهاوى إلى كومة
من الصلصال الرخيص..
وبدأ الموسم المسرحي الجديد.. عرف انها ستكون بطلة المسرحية
الجديدة.. دخل الصالة ليلة الافتتاح وجلس في الصف الأخير..
على الخشبة كانت
الصبية تتعثر بأثواب الفشل.. وكانت في عينيه هو دموع مالحة.
محيط الدائرة
-. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..
ظلت هذه الكلمات تشغل ذهنه عدة شهور.. تتحدى محاكماته العقلانية
وأعصابه التي باتت مستنفرة باستمرار..
قال له صديقه القادم حديثاً من لندن حاملاً شيئاً من ثقافة
اهلها وكثيراُ من ضبابها: في المخابر يجري العلماء التجارب العضوية على الفئران
البيض. وأنت الآن فأر أبيض، ولكنك في الوقت ذاته العالم الذي يقوم بالتجرية،
فعليك أن تهتدي إلى نفسك بنفسك..
-. معنى هذا أنك تعارض فكرة الذهاب إلى طبيب نفسي؟.
-. أجل.. وأصر على ذلك.. سيعقد الطبيب المشكلة..
-. ولكن مشكلتي أنني بلا مشكلة حقيقية.. هلاّ فهمتني أكثر؟.
-. انني أفهمك جيداً..
-. لا أصدق هذا، فأنا برأيك لستُ سوى فأر أبيض قد أصلح للتجربة
أو قد لا أصلح.. إذهب إلى الشيطان أنت ولندن والعلماء..
...
مدّ سبابته إلى الأمام فكانت ترتجف.. إنفتل إلى المرآة ونظر إلى
وجهه.. لم يكن على صورته المعكوسة في صفحتها أية علامة من علامات الحزن أو
الفرح.. رشق المرآة بالماء وعاد فتمدد على السرير يتأمل صوراً مرشوقة على
الجدران لنسوة عاريات بأوضاع مغرية..
قبل ذلك، كانت صورة (حبيس الدائرة) تشغل ذهنه كثيراً فمنذ أن
حدثه صديقه الآخر القادم من الشمال عن ذلك الرجل وقبيلته وهو يسأل نفسه عما إذا
كان واحداً منهم تاه مع الأيام عن موطن القبيلة؟
قال له الصديق: في الجهة الشمالية الشرقية من بلدنا تعيش قبيلة
إذا كان أحد أفرادها واقفاً في مكان ما، وجاء أحدهم ورسم حول مكان وقوفه دائرة،
اما على التراب أو بقطعة فحم أو حوّار، فإنه يظل حبيس هذه الدائرة حتى يأتي
أحدهم ويمحو جزءاً من محيط الدائرة ليخرج منها، وإلا فإنه يبقى ضمن محيطها حتى
يوم القيامة.
كانت الدوائر التي وزع عليها الشاب اناس العالم أربع دوائر
متتالية بصورة عمودية، فالدنيا منها أسماها الدائرة القردية وطوّق بخط محيطها
فئة من البشر لا يدبُّ أفرادها إلا في المسالك الحيوانية البعيدة، متنكبين
ميادين العواطف والعطاءاءت الانسانية كلها..
اما التي تليها فدائرة التواطؤ، وهذه حشر فيها الذين حوله
جميعهم، والديه وأصدقاءه، وعاثرات الليل، وساقي المقهى، وبقية المخلوقات
البشرية التي تنتظمها خيوط الحياة الاجتماعية.
اما الدائرة الثالثة فيتخطاها رأساً إلى الرابعة ليقف أمام
محيطها عاجزاً عن حصر أي انسان فيه، فهذه دائرة الفارس وهذا الا نموذج مات في
دنياه وفي أذهان القطيع..
ويعود إلى الثالثة، إلى دائرته هو.. ليجد نفسه وحيداً فيها،
ويروح مع الأيام يحاول ان يجد نعتاً لها، وأخيراً يهتدي إلى تعريفها بدائرة
الوعي المشلول
أتعبه الوقوف ضمن محيطها.. تذكر حديث صديقه عن تلك القبيلة،
وبدأ يقنع نفسه بأنه واحد من رجالها تاه عن موطنها، وظل رهين دائرته ينتظر
قدراً يمحو أمامه شيئاً من محيط الدائرة يكون باباً للخلاص.
هنا.. يقفز إلى ساح شعوره سؤال جديد: ماذا بعد الخروج من
الدائرة الثالثة؟.
-. ليس أمامك إلا أن تقفز إلى الرابعة، وتكون الإنسان الفارس أو
تعود إلى الدائرة الثانية وتصبح واحداً من افراد القطيع المتواطئ.
-. أنت الفأر.. وأنت صاحب التجربة..
ماذا يريد هذا الصديق أن يقول؟. قبل أن يتكلف الحكمة ويستعرض
أمامي رصيده من الثقافة، عليه ان يخرج من الدائرة الثانية، أن يكون- على الأقل-
واحداً متميزاً في القطيع.. سأهزأ من الثقافة بطريقة جديدة، وأعرض حالتي على
طبيب نفسي.. أليست تجربة مثيرة؟.
...
كانت ساق سكرتيرة الطبيب أول ما لفت نظره وهو يدخل العيادة، ذلك
لنها كانت بارزة بوضع مغر من خلف الطاولة التي تجلس إليها.. أما الساق الثانية
فقد اختفت خلف المكتب..
قال لها: جلستك مغرية.. ورائعة..
قالت: ماذا تريد؟.
قال: كنت أرغب في مقابلة الطبيب.. أما الآن فلا بأس أن تكوني
أنت الهدف..
قالت بهدوء: باستطاعتي أن أحدد لك موعد المقابلة مع الطبيب في
الساعة السادسة من مساء الغد..
-. هل لي أن أسألك: لماذا لم تغضبي من طريقتي في الحديث معك
وأنا أراك للمرة الأولى؟.
-. من واجبي أن أكون طويلةالبال مع الذين يقصدون العيادة.
في اليوم التالي.. جاء في السادسة والنصف فمنعته سكرتيرة الطبيب
من الدخول، قالت أن وقته المحدد قد فات، فصاح في وجهها: وهل نحن في مدرسة
داخلية؟.
وقبل أن تجيب، ظهر الطبيب أمام باب غرفته مستفسراًً عن سبب
الصياح، فقالت السكرتيرة: إنه مريض الساعة السادسة..
فصاح الشاب: لست مريضاً.. لم أتقدم لأي فحص حتى الآن.. قال
الطبيب بهدوء وهو يبتسم: باستطاعتك أن تدخل لتواجه أول الفحوص..
وعندما دخل الغرفة أشار الطبيب إلى أريكة وقال له:
-. تستطيع أن تستلقي..
قال: لن أفعل هذا.. إلا يمكن للطبيب النفسي، أن يتحدث إلى زائره
دون أن يجعله في وضع المستلقي..
قال الطبيب: كما تريد.. احلس على هذا المقعد..
فرد الشاب بإصرار: بل سأظل واقفاً.. هل يزعجك هذا؟.
قال الطبيب وهو يجلس خلف مكتبه: بالعكس.. تستطيع أن تكون في
الوضع الذي تريد.. المهم أن ترد على أسئلتي..
قال متسائلاً: ولماذا لا ترد أنت على اسئلتي؟
رد الطبيب: ومن قال لك أنني أرفض الرد.. المهم أن يتحدث أحدنا
إلى الآخر.. فقد أكون أنا بحاجة إلى نصيحة منك، أنا أرجو أن تفيدني عن اسمك حتى
اعين لك خانة بين أصدقاء عيادتي..
-. اسمي زياد..
-. هذا الأسم الأول.. فما هو إسمك الكامل؟.
-. زياد ليس إسمي..
-. لماذا لا تقول لي إسمك الحقيقي؟.
-. نفرض أن اسمي زياد.. أو ممدوح.. او بطرس.. هل يبدّل هذا من
الموضوع شيئاً؟.
-. إنها شكليات.. على كل حال أرجو أن أعرف اسمك، وثق أن دفتري
بئر عميقة..
-. اسمي ذوقان سفل التلة..
-. هل تمزح ؟.
-. بل هذا هو اسمي الحقيقي.. هل تريد أن ترى هويتي الشخصية!
-. لا حاجة لذلك، لقد صدقتك
-. قبل أن تكتب الاسم تذكر أنه لا يشكل بالنسبة إليّ أية عقدة.
-. اعدك بأنني سأتذكر ذلك، والآن، هل أنت مصمم على توجيه
الأسئلة؟.
-. طبعاً..
-. تفضل.. وتذكر أن مريضاً آخر ينتظر الدور بعدك..
-. أنا لم أحضر إليك لأحلق ذقني.. سأدفع لك ما تشاء من المال
بشرط ألا تقيدّني بالوقت..
-. كما تريد.. والآن سل ما تشاء..
-. ما هو اسم والدتك يا دكتور؟.
-. رمزية..
-. منذ متى تخرجت من الكلية؟.
-. منذ ثلاثة أعوام..
-. هل تتبوّل في فراشك؟.
-.لا..
-. لماذا بدأ الغضب على وجهك..
-. لأنك.. آه.. عفواً.. انني لست غاضباً.. ولكنك تتخيل ذلك..
-. هل اتابع أسئلتي؟.
-. طبعاً.. تفضّل..
-. هل حاولت أن تقيم علاقة مع سكرتيرتك؟.
-. لا أسمح لك بهذا السؤال..
-. ولكنك سمحت لي بأن ألقي ما أشاء من الأسئلة..
-. إنك تتجاوز حدودك..
-. هل يغفر لي هذا إعترافي بأنني مريض؟.
-. الذي يعرف انه مريض، عليه أن يساعد الطبيب في تشخيص الداء.
-. إذن.. ادع السكرتيرة..
غضب الطبيب، وصاح بالشاب الواقف امامه: ولكن لماذا تحشر
السكرتيرة في الموضوع.. هل تعرفها قبل الان ؟.
-. لم أرها قبل الآن أبداً..
-. إذن لماذا تريدني أن استدعيها؟.
-. لتكون وسيلة ايضاح..
-. ماذا تقصد؟.
-. سأجعلها تجلس على هذا الكرسي، وسأرجوها أن تضع ساقاً فوق
اخرى، ثم أروح أروي لك ماساتي صادقاً.. وقد أبكي..
-. تصور أنها موجودة.. على الكرسي، وقد وضعت ساقاً على ساق..
وابكِ إن شئت..
-. مأساتي يا سيدي الطبيب هي هذه المسافة القليلة التي ينحسر
عنها ثوب المرأة.. أية امرأة، عن ركبتها عندما تجلس.. إن هذا البياض ينقر
عيني.. يتحداني.. يجعلني أرتكب حماقات سخيفة، وحادة، ومختلفة، فاحاول أن أجد
العزاء لدى العاثرات الأجيرات.. ويزداد اتساع المسافة البيضاء أحياناً، ولكني
أحس بالقيء.. أريد علاقة نظيفة، غير مأجورة ولا رخيصة، أريد أن اتخلص من عقدة
الركبة هذه..
قال الطبيب بهدوء: أنت بحاجة إلى الحب..
انفجر الشاب يضحك.. يقهقه.. كان يعلم أن الطبيب سيصل إلى هذه
النتيجة.. كم هو غبي هذا الرجل الذي يتسربل بالبياض ويضع على عينيه نظارة طبية،
ويكدس في غرفته الكتب الأجنبية..
وقام الطبيب عن كرسيه كأنه يوحي للشاب بانتهاء المقابلة، فمد
هذا يده إلى جنب بنطاله وأخرج ورقة نقدية كبيرة، رماها على مكتب الطبيب وقال:
أنت أيضاً في الدائرة الثانية
سأله الطبيب وهو يتقدم نحوه غاضباً: ماذا تقول؟.
فرد الشاب: أقول أنك من القطيع المتواطئ..
وهنا صاح الطبيب: اخرج من العيادة..
...
وفي اليوم التالي، دخل الشاب عيادة الطبيب قبل موعد حضوره،
وفوجئ بأن السكرتيرة ردت عليه التحية بابتسامة عذبة..
قال لها: سأطلب منك معروفاً..
قالت: اطلب..
قال: اريد أن أطلع على الملاحظة التي كتبها الطبيب بجانب اسمي
في سجله..
قالت: آسفة.. هذا من أسرار المهنة المقدسة، ومن واجبي أن أظل
أمينة عليها..
قال: ولكني أريد الاطلاع على الملاحظة من قبيل الفضول فقط..
قالت: آسفة.. لا أستطيع أن أطلعك على شيء.. ثم إنني لا أطلع
عادة على السجل الخاص بالمرضى..
قال: إذن.. سأطلب منك جميلاً ليس من أسرار المهنة..
قالت: اطلب..
قال: إخمشي ظاهر كفي بظفرك هذا الطويل..
...
في المساء، كان الشاب والسكرتيرة يجلسان في حنوة حالمة باحد
مقاصف المدينة..
وفي نهاية الجلسة، اكتشف الشاب أن دائرته الثالثة كانت بلا
محيط.
|