ثوب من حجر
في الزمان القديم القديم ، كان يحكم إحدى الممالك ملك قويٌّ وعادل، اشتهر
بالذكاء ورجاحة العقل ، وكان يحب الأذكياء ويقربهم إليه ويناقشهم في أمور
الفلسفة والعلم والدين والفلك ، وكل مامن شأنه أن يزيد المعارف ويشحذ الذهن
ويغذي الروح .
وطبيعي ، والحالة هذه ، أن يكون خاصة الملك والمقرَّبون منه أذكياء وأذكياء
جدَّاً ،
وكان يحلو للملك ، في مرَّات كثيرة ، أن يمتحنهم ويختبر ذكاءهم ، وقد يقسو في
الاختبار أحياناً إلى حدٍّ مُعجز ومستحيل .
مرَّة أراد الملك أن يختبر وزيره ، فاستدعاه ، وقال له : أريد أن تصنع لي ثوباً
من حجر ! سأمهلك ثلاثين يوماً فقط لتنجز لي هذا الثوب ، وإن فشلت فسيكون عقابك
عسيراً !
عاد الوزير إلى بيته حزيناً مهموماً ، ولزم غرفته .. وبدلاً من أن يحاول فهم
قصد الملك من وراء هذا الطلب المعجز ويفكر بطريقة تخرجه من هذا المأزق ، راح
يندب حظَّه العاثر ويبكي وقد حُرم من النوم والطعام والشراب .
أحسَّت ابنة
الوزير بحالة أبيها ، واستغربت جلوسه في البيت وانقطاعه عن مجلس الملك ،
فاقتربت منه ، وقالت بحب : مالكَ يا
أبي ؟ لِمَ
أنتَ حزين وكئيب ؟
قال الوزير :
- وكيف لا
حزن ، ولم
يتبقَّ من المهلة إلاَّ أيام معدودة !
قالت الابنة :
- مهلة ! عن أيَّة
مهلة تتحدث يا
أبي ؟!
قال الوزير :
- المهلة التي حددها لي الملك لأنجز له طلباً مستحيلاً .
قالت الابنة :
- طلب مستحيل ! ما
هو هذا
الطلب يا
أبي ؟
قال الوزير :
- تصوَّري .. طلب مني أن أصنع له ثوباً من حجر ، وأمهلني ثلاثين يوماً لأنجز له
ذلك !
قالت الابنة وهي تضحك :
- إنَّ الملك
يختبر ذكاءك يا
أبي .. فهو
لا
يريد ثوباً !
صاح الوزير :
- لا
يريد ثوباً
! ماذا يريد إذن ؟!
قالت الابنة :
- خذني معك غداً إلى الملك ، وسأنقذك من هذه الورطة .
لم يكن أمام الوزير سوى أن يفعل ذلك ، فالغريق يتعلَّق بقَشَّة كما يقولون ،
لذا خاطب ابنته :
- ستكونين معي غداً في حضرة الملك .. فعسى أن يكون ظنك صحيحاً ، وتنجحي في
إنقاذي مما ينتظرني من عقاب .
في صباح اليوم التالي ، اصطحب الوزير ابنته ، ومثلا معاً بين يديّ الملك . قال
الملك للوزير :
- أراك عدت قبل
انتهاء المهلة ! هل نجحت في إنجاز ما
طلبته منك
؟
أجاب الوزير :
- يمكنك أن توجه
هذا السؤال إلى ابنتي يا
مولاي ،
فقد تعهدت بإنجاز هذه المهمة عني .
ابتسم الملك ، وسأل الفتاة :
- هل أنجزتِ خياطة الثوب الذي طلبته من والدك ؟
أجابت الفتاة :
- ما
طلبته ليس
صعباً يا
مولاي ،
ولكنني أريد منك شيئاً واحداً وهو أن تعطيني خيوط رمل لأنسج لك أجمل ثوب حجريٍّ
في الوجود ..
ذهل الملك لجواب الفتاة ، وأعجبه ذكاؤها ، فصاح :
- أحسنت أيتها
الفتاة ! أنتِ ذكية جدَّاً ، فما قلتِهِ هو الرد
المنطقي
لطلبي المستحيل ثم التفت إلى الوزير قائلاً :
- إنني أطلب الزواج من ابنتك ، فهل توافق أيها الوزير ؟
فغر الوزير فاه فرحاً ، وقال :
- وهل يمكنني أن
أرفض طلباً جميلاً كهذا يا
مولاي ؟!
الكسولان
حلَّ موعد الحرث والبذار . تمدد الفلاحان الكسولان تحت شجرة التوت ، وراحا
يرقبان أرضهما الواسعة، ويمنيَّان النفس بمحصول وفير لهذا العام. قال أحدهما :
- لا شك أن محصولنا سيكون وفيراً هذا العام، وسيدرّ علينا الكثير من الأرباح.
قال الفلاح الثاني :
- هذا صحيح .. وسننفذ المشروع الذي كنا نحلم به سوية..سننشىء مزرعة كبيرة نربي
فيها الأغنام والدواجن.. ونزرع فيها مختلف أنواع الفاكهة.
قال الفلاح الأول :
- وستزداد أرباحنا عاماً بعد عام.. فنشتري الأراضي المجاورة لأراضي المختار..
عندها يغدو سلطاننا أقوى من سلطانه.
قال الثاني :
- وسيطمع المختار بأموالي ، ويزوجني ابنته (خولة) فهي رغم سوء طباعها جميلة
جداً.
قال الأول :
- أما أنا فسأتزوج بنتاً متعلِّمة من بنات المدينة ، وسأبني لها بيتاً واسعاً
ومريحاً .
قال الثاني :
- أما أنا ، وبعد أن أتزوج ابنة المختار، فسأعمل جاهداًعلىتنحيته عن منصبه، فهو
عجوز ، ولم يعد قادراًعلى تدبير شؤون القرية.
ابتسمت شجرة التوت وهي تستمع إلى هذا الحوار، وقالت في سرها : كل عام وفي مثل
هذا الوقت ، يرددان هذا الكلام! .. ثم تابعت : تباً لهما.. ألم يتعبا من
الأحلام؟!
رحلة الغيمة الصغيرة
قال البحر بصوته الأجش الوقور وهو يودع بناته الغيمات :
- اذهبن نحو الشرق ، وستحملكن صديقتي الريح ، وإياكن أن تبددن ماءكن هباء.. في
الشرق أراض كثيرة بحاجة إلى الماء .. هيا يا صغيراتي .
اعتلت الغيمات متن الريح السريعة ، ويممن صوب الشرق وفي منتصف الطريق، قالت
غيمة صغيرة لأخواتها:
- من أين لأبينا البحرأن يعرف كل هذا.. لعل أراضي الشمال بحاجة إلينا أكثر ؟
ردت غيمة عاقلة :
- ما زلت صغيرة .. فلا تخالفي أوامر البحر الحكيم.
قالت الغيمة :
- بل سأذهب إلى الشمال ، وأمنح مائي أول بقعة تطلبه ، انفردت الغيمة عن
رفيقاتها ، واتجهت صوب الشمال . سارت كثيراً ، وقطعت مسافات شاسعة ، لكنها لم
تجد سوى حقول خضراء تجري في وسطهاالأنهار وغابات ووديان تطفح بالورود.
اقتربت ، الغيمة من سهل أخضر تتوزع على جانبيه الأشجار ، ويقطعه نهر رقراق يغني
بصوت عذب. قالت الغيمة :
- ألا تريد مائي أيها السهل؟
أجاب السهل :
- يا لَكِ من غيمة حمقاء !..لعلكِ ضللتِ الطريقَ.. ألا ترين هذا النهر الذي
يمنحني الماء باستمرار؟!
ابتلعت الغيمة الإهانة ، وتابعت سيرها إلى أن وصلت إلى حقل صغير نما نبته ،
وازيَّنت أطرافه بأشجار الورد الصغيرة . قالت الغيمة:
- جئت من البحر البعيد لأمنحك مائي أيها الحقل.. فافتح ذراعيك لي.
ابتسم لحقل ، وقال ساخراً :
- وهل ترين أنني بحاجة لمائك؟!.. إن صاحبي يسقيني كل مساء، ويعتني بتربتي ، ولا
يدعني بحاجة لشيء .. اذهبي لغيري.
ابتلعت الغيمة الإهانة الثانية ، وأكملت سيرها في أراضي الشمال ، فما وجدت
أحداً بحاجة إليها. عندها أطرقت، وندمت على مخالفة أوامر أبيها البحر.. فأغضمت
عينيها، واستسلمت للرياح.
ولم تلبث أن مرت بها ريح سريعة، لمست الريحُ الحزن والندم مرتسمين على وجه
الغيمة ، فلم تشأ إيقاظها ، وحملتها برفق على ظهرها، وسارت باتجاه الشرق. أفاقت
الغيمة على صوت حزين متوسل :
- أيتها الغيمة .. أيتها الغيمة.. أين كنت.. لقد تأخرت كثيراً . أنا بحاجة
إليك.
نظرت الغيمة إلى أسفل ، فرأت ( سيلة) قد تشقق وجهها من العطش ، ولوت سنابلها
الصغيرة أعناقها . فركت الغيمة عينيها غير مصدقة، ودفعها الفرح إلى أن تبكي
بغزارة، فتساقطت دموعها لتعانق الأرض العطشى، ولمحت قبل أن تتلاشى في أعماق
التربة السنابل الصغيرة ترفع أعناقها وتبتسم للشمس.
الصياد والسمكة
كان يا ما كان في قديم الزمان، صياد سمك فقير.. وكان يعاني كثيراً من مهنة
الصيد هذه . كان يحضر إلى شاطئ النهر في الصباح الباكر ، ولا يغادره إلا عندما
تشرف الشمس على المغيب.. يحمل رزقه القليل إلى السوق .. يبيعه، ويشتري بثمنه
بعض الطعام الرخيص يسد به جوع أولاده وزوجه. وحين يعانده الحظ، ويبخلُ النهر
عليه بسمكة واحدة من أسماكه الكثيرة ، كان صيادنا يعود حزينا إلى البيت وينام
أولاده بلا طعام جائعين باكين.
* * *
وذات صباح ،
أعلن المنادي في سوق المملكة عن مسابقة لاصطياد أجمل سمكة ، والفائز الأول
سيحصل على مكافأة ملكية قدرها مائة قطعة ذهبية فرك الصياد كفيه ، وقال لنفسه :
( يالها من جائزة!.. لو حصلت عليها فسأتخلص من الفقر إلى الأبد.. اشتري أرضاً ،
وأبني بيتاً جديداً وقوياً وانشئ مزرعة أكون أنا سيدها .. يا له من حلم لا
يتطلب تحقيقه أكثر من ضربة حظ!)
* * *
ولم ينم
الصياد تلك الليلة .كان فكره مشغولاً بالجائزة والسمكة والبيت والمزرعة وأشياء
أخرى كثيرة.
ومع خيوط الفجر الأولى ، تسلل الصياد من بيته حاملاً عدة الصيد، ويمم صوب
النهر، وهناك ألقى صنارته وترقب . مرت ساعة وساعتان وثلاث.. والماء راكد..وفجأة
اهتزت القطعة الخشبية الطافية على السطح هزات سريعة متلاحقة. ابتسم الصياد..
وبسرعة ، جذب عصاه بحركة شاقولية مائلة، وردَّهاإلى الخلف ، واستدار ملتفتاً
إلى غنيمته . كانت سمكة ذهبية رائعة تلمع حراشفها تحت أشعة الشمس.
دهش الصياد.. فهو لم ير في حياته كلها سمكة بهذا اللون وهذا السحر . افقدته
المفاجأة صوابه، فقفز صارخاً: ( أنا صاحب الجائزة!.. أنا صاحب الجائزة .. لقد
أصبحت غنياً !)
... واقترب من السمكة، وراح يحاول إخراج الشص من فمها، كان جسم السمكة دافئاً
ونابضاً ، ولمح الصياد دموعاً تترقرق في عينيها. همس لنفسه: ( يا للعجب.. إنها
تبكي!!) . ومرت لحظة، حدس خلالها الصياد أشياء كثيرة : لا شك أنها أمُّ خرجت
تبحث عن قوت لصغارها، تماماً كما يفعل هو كل صباح وتساءل: (هل يعيد السمكة إلى
النهر ويفرّط بالجائزة ، أم يترك العواطف جانباً ، ويمضي بها إلى حيث ينتظره
الجاه والثروة والسعادة؟؟). ولم يطل به التفكير .. فقذف بالسمكة إلى الماء
قائلاً : ( عودي لصغارك أيتها الرائعة.. ولتذهب الجائزة إلى الجحيم !) ولمحها
بعد قليل ترفه رأسها من الماء وتهزّه وكأنه تشكره على جميل صنعه.
* * *
يقال ان الجميل الذي صنعه الصياد للسمكة لم يذهب سدى.. إذ سرعان ما ظهر الثراء
على الصياد.. فاشترى مزرعة وبيتاً وعربة جميلة.
ولا أحد يعرف ، إلى اليوم من الذي كافأ الصياد..
هل هو القدر دلّه على كنز ما حين كان يحفر بئراً خلف كوخه القديم، أم أنها
السمكة الذهبية التي لم تكن في الحقيقة سوى ابنة سلطان مملكة الأسماك ، أهدته ،
وكما تروي الأساطير دائماً ، الطاسة العجيبة التي لا تفرغ ابداً من الذهب؟؟.
لا أحد يدري!
حكاية حبة القمح
-1-
أذكر عندما فتحت عينيَّ ذات صباح ، أنني أبصرت نهراً أصفرَ من السنابل ينساب
باتجاه الشرق، كان المنظر ساحراً جداً ، لذلك رفعت رأسي لأرى أكثر ، إلا أن
الريح هبت بقوة في تلك اللحظة، فحملتني على ظهرها وطارت بعيداً .
شعرت بفرح غامر يتملكني وأنا على ظهر الريح. قلت في سرّي : ( سأزور البلدان ،
وأتعرف على كثير من الأصدقاء ). ونمت على كتف الريح.
-2-
رمتني الريح في وسط سهل واسع ، فابتسمت. قلتُ : ( سأظل هنا أتمتع بدفء الشمس ،
وأسامر النجوم في الليل ، وعندما أشتاق للرحيل ، ستحملني صديقتي الريح إلى حيث
أشاء ) .
قالت لي شجرة كانت تتوسط السهل :
- ليس هذا مكانك أيتها الحبة!
وقال لي غدير صغير :
- اغرسي نفسك في التربة .. وستتحولين بعد شهور إلى سنبلة تحبها الطيور
والعصافير .
وقالت لي الأرض :
- انغرسي فيَّ ، تجدي الدفء والغذاء والأمان.
وطبعاً لم استجب لطلب أحد ، فقد قررت أن أظل كما أنا . حبة حنطة ذهبية .. أزور
البلدان، وأتعرَّف على الناس ، واكتسب خلال تجوالي الكثير من الأصدقاء.. وربما
يحالفني الحظ فيما بعد.. فاجمع مشاهداتي كلها في كتاب يحمل اسمي .
فأصبح أديبة مشهورة . ونمت بانتظار عودة صديقتي الريح.
-3-
ومرت الأيام والشهور.. وجاء الشتاء. فتحت عيني ذات يوم فشعرت بالبرد يسري في
جسدي
قالت الشجرة :
- يا للحبة المسكينة!
وقال الغدير :
- ستندم بعد أيام.
وقالت الأرض :
- لم يفت الأوان بعد.. هيا انغرسي في جسدي لكنني ، وبدافع من كبرياء عنيدة
متأصلة فيَّ ، تحاملت ، وتصنعت اللامبالاة.. إلا أن الخوف بدأ يساورني ..
فلربما تأخرت الريح ، ورحت أعد الدقائق في انتظارها. وفي غمرة الحزن والأمل
والخوف جاءت الريح. حملتني على ظهرها ، وطارت بي ، قلت في نفسي : (ستحملني ولا
شك إلى مكان أكثر أمنا ودفئاً .. ونمت. )
-4-
فتحت عيني ، فإذا بي على ظهر تلَّة ، نظرت حولي فرأيت شجيرات برية ، كان المكان
موحشاً.. لا ناس فيه ولا أصدقاء. قلت في سرّي ( لقد خذلتني الريح).. وبدون أن
أشعر ، وجدتني أحفر في التربة وأتغلغل حتى وصلت إلى عمق شعرت معه بالدفء والأمن
والحنان.
-5-
ومرَّت الأيام.. وأفقتُ ذات صباح على حركة تنبعث من داخلي : كان جسدي ينشق عن
برعم أخضر طريّ نظرت من خلاله إلى الشمس فوجدتها تبتسم.. فابتسمت لها.. ورحت
أتابع مع الأيام نمو ساقي التي توجت نهايتها بسنبلة تحمل الكثير من الحبوب
الخضر وعندما حل الصيف بدفئه الساحر.. واكتسبت حبوبي لونها الذهبي، حدثتها عن
حكايتي ، وأسهبت في وصف وطني هناك.. حيث السهول تنداح معجبة بلألائها .. فشعرت
بالشوق بتدفق من عيونهن.. وبإصرارهن على انتظار ذلك اليوم الذي تجيئ فيه الريح
وتحملهن إلى حيث يضحك الوطن.
أغنية الحقول
فجأة ، ودون سبب واضح ، قرر النهر الذي يمر بقريتنا أن يحبس ماءه، ويمتنع عن
سقاية الحقول.
قال النهر بعجرفة:
- ما لي وللحقول؟! .. منذ زمن وأنا أمنحها الماء كي تعيش .. ولكن هل قابلت كرمي
بكرم مماثل؟.. هل منحتني شيئاً؟.
لا .. لن أمنحها الماء ابداً .. أبداً .
وتابع النهر سيره وهو يغني بتكبر واستعلاء.
ومرت الأيام ، وشعرت الحقول التي انقطع عنها الماء بالعطش ، ولوت أشجارها
الصغيرة أعناقها ، وراحت تنتحب بصمت.
قال حقل صغير للنهر :
- أنا عطش أيها النهر.. هلا منحتني قليلاً من الماء؟
قال النهر :
- لا .. الماء ملكي ، ولن أبدده عليك وعلى أصحابك .
قال الحقل باستغراب :
- ومن قال أنك تبدد ماءك؟! أنت تمنحنا الحياة التي نمنحها نحن ايضاً للناس بما
نقدمه لهم من ثمار وخيرات . قال النهر:
- تمنحون خيراتكم للناس!.. وأنا .. أنا ألا أستحق شيئاً من هذه الخيرات؟!
- تستحق !.. ماذا تقول ؟!.. هل تريد ان تأكل تفاحاً .. أم ماذا ؟!
قال النهر بغضب:
- انظر ! .. ها أنت تسخر مني !!
- ولكن كلامك غريب .. غريب جداً !
- وما وجه الغرابة فيه؟
قال الحقل :
- الحياة يا صاحبي أخذ وعطاء.. ومن الحكمة أن تعطي بقدر ما تأخذ.. هذه سنة
الحياة .
قال النهر باستخفاف :
- وماذا أخذت حتى أعطي لغيري؟
قال الحقل :
- الا تمنحك الثلوج ماءها عندما تذوب في نيسان من كل عام .. ألا تمدُّك الأمطار
دائماً بالمياه العذبة في فصل الشتاء..
أليس هذا عطاء؟
قال النهر :
- هراء .. أنا قوّي وغزير بدون مياه الثلوج والأمطار.
كانت الشمس تبتسم ، وهي تنصت لما يدون من حوار بين الحقل والنهر ، فتدخلت قائلة
:
- تعقّل أيها النهر.. وإلا هلكت الحقول ،رفع النهر رأسه إلى الشمس ، وقال :
- وما دخلك أنت؟
قالت الشمس :
- ستموت الحقول .
قال النهر :
- ما لي وللحقول ؟! .. ثم ألا أكون عاقلاً إلا إذا بدّدت مائي؟!
قالت الشمس :
- ولكن ماءك سيتبدد في النهاية ويذهب إلى حيث لا يُستفاد منه ، قال النهر :
- ماذا تعنين ؟
قالت الشمس :
- ألنْ تصبَّ في البحر؟
- بلى .
- إذن سيذهب ماؤك هباء، وستموت الحقول ، فكَّر النهر لحظات ، ثم هزَّ رأسه ،
وقال بتعنت:
- أن أصبَّ في البحر خير لي من أن أمنحَ مائي لهذه الحقول الكسولة البخيلة.
قالت الشمس :
- لا فائدة من الجدل معك.. أنت نهر غبيّ ومتكبر..
سآخذ منك الماء بالقوة لأمنحه لهذه الحقول المسكينة قبل أن تموت.
قال النهر بتحد :
- تسبينني .. وتهينينني !! . هه.. ماذا يمكنك أن تفعلي؟
قالت الشمس :
- سترى .
وسرعان ما ضاعفت الشمس من حرارة أشعتها ، وسلطتها على مياه النهر، فبدأ البخار
يتصاعد ويتجمع في السماء غيوماً بيضاء ناصعة ، ثم ما لبثت أن تحولت إلى مطر راح
يهطل بغزارة فوق الحقول العطشى.
رفعت الحقول عيونها على الأعلى ، فرأت الشمس تبتسم قبل أن تتوارى خلف تلال
الغيوم .. فاهتزت أشجارها الصغيرة ، وراحت تغني للشمس والمطر والحياة.
فراش الذئب
في أحد الأيام ، خرج الأرنب من مخبئه ، وتوجَّه إلى بيت الذِّئب . لقد قرَّر
أخيراً أن يعقد صُلْحاً مع الذئب ... فهو لم يعد يثق ببقية الأرانب . إنهم
دائماً على خلاف ، وندر أن يجتمعوا على رأي ، أو يتحدوا أمام خطر .
كان الذئب جالساً أمام البيت . اقترب منه الأرنب وحيَّاه ، ثم قال :
- لقد جئتك لأمر
يا
أبا
ُمامة ،
وأرجو ألا
تردني
خائباً .
قال الذئب :
- أهلاً بكَ
أوَّلاً .. ما
هو الأمر
الذي يحملك على المجيىء إليَّ بقدميك .. لعلَّه أمر بالغ الأهمية ؟!
قال الأرنب :
- هو كذلك . لقد يئست من عناد اخوتي ، وجئت أعرض عليك الصلح ، فماذا تقول ؟
أطرق الذئب .. وبعد صمت قصير، رفع رأسه وقال :
- موافق، ولكن هل ستوافق على شرطي ؟
قال الأرنب :
- شرط !! .. إذا كان ممكناً ، فلن أعارض .
قال الذئب :
- لقد تقدمت بيَ السن ، وداهمتني الأوجاع .. وأنا بحاجة إلى فراش يقيني من
حصباء الأرض.. أنا بحاجة إلى فرائك الناعم أيها العزيز .. فهل تعيرني إيَّاه؟
فوجىء الأرنب بهذا الطلب الغريب، ولكنه قال :
- لابأس .. فالوقت
صيف ، وأنا لا
أحتاج
لفرائي الآن .. سأقدمه هدية لك عربوناً للصداقة الجديدة .
خلع الأرنب فراءه الجميل ، وقدَّمه للذئب الذي قال :
- شكراً لك أيها الصديق الرائع .. شكراً لك .
ومرَّت الأيَّام سراعاً ، وجاء الشتاء ببرده وثلجه ، وشعر الأرنب بحاجته إلى
فرائه الدافىء، وأدرك كم كان غبيَّاً عندما تخلَّى عنه للذئب .. وبعد تفكير
طويل ،
قررأن يستعيد الفراء ، وإلاَّ مات من البرد .
سار الأرنب
متحاملاً على نفسه ، يقاوم لسعات البرد قدر ما
استطاع ،
حتى وصل إلى بيت الذئب .
وبعد طرق متواصل على الباب ، فُتح ، وأطلَّ منه الذئب برأسه الرمادي .. وما إن
رأى الأرنب حتى صاح :
- أهلاً .. أهلاً بالأرنب العزيز .. هل من خدمة أستطيع أن أقدمها لك ؟
قال الأرنب وهو يرتجف :
- جئتك من أجل الفراء . أنا بحاجة إليه اليوم ، وسوف أعيده لك بعد أن ينقضي
الشتاء .
ضرب الذئب كفَّاً بكف ، وقال بحزن مفتعل :
- يالتعاستي .. يالشقائي !!
صاح الأرنب :
- ماذا .. ماذا حصل؟!
قال الذئب :
- لن أقدر على تلبية طلبك اليوم . لقد مزَّقت الفئران بعض جوانب الفرو .. وكنت
أعتزم إصلاحه الليلة لِعِلْمِي أنك ستحتاج إليه .
صمت الذئب لحظات ، ثم تابع كلامه :
- يُسعدني أن
أستضيفكَ الليلة أيها العزيز .. وسوف أسهر الليل كله حتى أنجز لك فروكَ .. آهٍ
كم أنا خجل منك .. تفضل يا
أخي ..
تفضل .
ودخل الأرنب بيت
الذئب . ولا
تسألوا
ماذا حدث بعد ذلك . كل ما
أعرفه أن
أحداً لم يعد يرى الأرنب والذئب يسيران معاً . كما أن الأرنب لم يظهر له أثر
منذ ذلك اليوم .
وسادتان
قال الوسادة الكبيرة للوسادة الصغيرة :
- كم أنتِ صغيرةٌ وتافهة ! .. مَنْ تُرى يقبل أن يضعك تحت رأسه ؟!
تألَّمت الوسادة الصغيرة ، وتألَّمت أكثر عندما دخل رجلٌ الغرفة ، وسحب الوسادة
الكبيرة ، ثمَّ وضعها بعناية على الفراش ، واستلقى مريحاً رأسه عليها .
بكت الوسادة الصغيرة بصمت . حسدت الوسادة
الكبيرة ، وقالت لنفسها : " لقد صَدَقَت الوسادة الكبيرة .. فكم أنا صغيرة
وتافهة " . فجأةً ، فُتِحَ باب الغرفة ، ودخلت امرأة تحمل بين ذراعيها طفلاً
يغطُّ في نوم هادىء . اقتربت المرأة من الوسادة الصغيرة . تناولتها ، ووضعتها
بعناية على سرير الطفل ، ثمَّ أراحت رأسه الصغير عليها . نظرت المرأة إلى طفلها
النائم ، وابتسمت ، فابتسمت الوسادة الصغيرة
.
|