موال شوق
شوق.. يا شوق.
حين تطلع شوق من الدار تصحو الدنيا, تنضو عنها رداء الليل. تخرج وعلى بدنها
اللين جلبابها المنسوج بألوان الفجر والزرع المندى بأنفاس الكون. تحبك
القمطة السماوية فتبرق أطرافها بنجوم متوارية خجلا من صبح حسنها النوار.
وتفتتح طيور القبة غناويها من أجل شوق.
أنت يا شوق تعرفين ولا تعرفين. توقيع خطوك المنغم يقول الأرض تذوب تحت
أقدامك. وطرفك الساهي سيوف مغمدة, لو استلت من مكنونها لحزت رقاب الخلق.
لكنك لا تريدين يا شوق, أو أنك تريدين ولا تفعلين.
ترضيك أحضان الخالات اللاتي ما هن بخالاتك. في دفء كل منهن نفحة من أمك
التي واراها التراب منذ ما لا تحسبين من سنين. ولماذا تحسبين وأنت نوارة
البلدة تتفتحين في نني العيون?
- شوق يا شوق.
- مين بينادي?
- العواف يا شوق
- يعافيك يا خاله.
- ابقي حودي حدانا النهاردة يا شوق... تاكليلك لقمة معانا ومع العيال.
- الخير كتير في الدار يا خاله.
- عارفة يا شوق.. أهو يا بنتي تبقي في وسطينا.
- حاضر يا خاله.
الكل عم لك أو خال, أو أخ لم تلده أمك. وحين تحلين بدار أحدهم تقابلين
بالترحاب, الغالية ابنة الغالى صاحب الأفضال. في عنق كل منهم دين لأبيك
يرده لابنة الراحل الكريم, بالود الصافي وبإوزة في العيد الصغير, ذكر بط,
أو صحن كعك, أو بوقّتين من اللحم الملبس في العيد الكبير. هذا نصيب شوق.
دارك عامرة بالخير. وزلعة الجبن القريش المملح أبدا لا تفرغ. والعيش
المرحرح يأتيك من حيث لا تعلمين.
عامرة هي الدار بعطايا قيراطين الأرض التي تفلحين بيديك هاتين العفيتين
الرخصتين. تجدين على الدوام, بغير طلب منك, جارا لك أو رفيق صبا باكر, يهرع
إلى معاونتك, في وقت عزيق الأرض وأيام البذار, وموسم الجني يأتي بعد طول
انتظار.
تلمحين إغضاءه أو تفزر وجهه بالأحمر القاني حين تقتربين. وقد يروق لك
منظره, وأنت مشفقة, كلما رأيت عروق رقبته نافرة, مكتظة بدمائها, ورجفة
ساعده إذا ما مد لك يدا بكيس تقاوي أو حمل برسيم. لكن أبدا لا تلمسك اليد.
وإذا ما لمستك عن غير قصد, يسارع فيقول:
- عنك يا شوق.. روحي أنت وأنا بدالك .
تقولين وأنت بين البغددة والخصام:
- ما اشتغلشي ليه? أنا زيي زيك تمام.. وزي بقية البنات!
- أنت حاجة تانية يا شوق.. أنت هانم يا شوق.. زي هوانم البندر.. أنت مش
عارفة غلاوتك أد إيه يا شوق!
فينبلج سنا فمك عن بسمة راضية.
راضية أنت بفراخك, تزدحم حولك في العصاري صاخبة في انتظار التقاط الحب من
راحتيك. تعرفينها فرخة فرخة وهي تبيت على عهدها لك فتمنحك كل صباح نعمها
التي لا تنقطع, ولا تخلف يوما ميعادها.
وأنت تحتفظين ببعض النعمة لحاجاتك القليلة, أقراص مضيئة بالشمس في المنتصف,
تطش في السمن البلدي المحمي الوفير, تطلبها نفسك من حين إلى حين. وبما
تبقّى من نعمة مكنونة في قشرتها الهشة تقايضين على تربيعة بأوية, مقطع قماش
قطن أو شنتيان, أو زجاجة مسك صغيرة, تأتي بها أم نرجس الدلالة في صرة
هائلة, وكأنها تحمل العالم فوق رأسها.
تفتح الصرة فترين العجب وكأنك أمام صندوق الدنيا. التُّلِّي المقصب, المفضض
والمذهب, والأطلس الزاهي بلون الزبرجد, مطوي رقائق فوق بعضها, إذا نفخت
فيها تطير, أتواب الحرير الهندي والكشمير والكريشة, توب واحد من كل نوع.
المراود أفنت جبال الكحل وعبأتها في مكاحل على أصناف. البرق والترتر في
حقاق صغيرة محكمة. وزجاجات المسك والعنبر لوحدها, مرصوصة في دستتين
كاملتين.
تفاصلك أم نرجس طوال النهار. تمصمص شفتيها تارة, وتارة تلملم أشياءها
وكأنها عازمة على الرحيل, ثم تقنع في نهاية المطاف بما تعطين, إكراما لعيون
الغالية ابنة الغالي.
وأنت تتبخترين بين البنات بجلبابك القطني الجديد, تزوقه الست فلة الخياطة
بأفانين الخرز المنمنم وشرائط الساتان الأبهة. تمنحينها ديكا, تنتزعينه من
بين أخواته. يتواثب أمامك وبين يديك, وما يلبث أن يستسلم لقبضتك الحانية
ويهدأ بعد عراكه القصير. تمسين صدره وعرفه النافر والدمعة تكاد تفر من
عينيك الكحيلتين بالكحل الرباني. تزعق الفراخ لحظة مذعورة لغياب وليفها, ثم
تنسى في الحال, وتعاود النبش في الأرض المرشوشة, لعلها تعثر على حبة قمح أو
فتات خبز سقط منك سهوا وأنت التي لا تفوتها نأمة.
نظيفة الدار والبدن والسريرة, مصقولة على الدوام بقطعة الصابون النابلسي.
تجلوك الرغاوي الفائرة كل عصر, ويتخلل زيت الزيتون مسام جلدك المتفتحة, قبل
أن ينساب عليها الماء الزلال, ناعما رقيقا. وتجففك المنشفة ذات الوبرة
الطرية, تألف أعطافك من طول ما هدهدتها.
لا تنسين قطعة الصابون في الكُنّ المسقوف حيث تستحمين, وإنما تأخذينها معك
إلى المطرح الوحيد, فتضعينها في طبق نحاسي قديم, ما تزال قشرة قصدير عهده
اللامع كاسية للخارج والداخل والأطراف, ما عدا القاع. تضعين مربع شاش على
الموضع الذي ناله الجنزار وفوقه الصابونة على رفّ خشبي, إلى جوار أدوات
زينتك, مشط بحجم الكف, أسنانه ضيقة, وزجاجة ريحة صغيرة.
وفي أماسي الصيف تجلسين بجانب الطاقة التي في حوش الدار. في ناحية قريبة
تقفيصة الفراخ الهاجعة تؤنسك, وفي الناحية الأخرى, تحت الطاقة, دكة عليها
حصيرة ملساء تتربعين فوقها, فتنسدل رخية من تحتك. والجميزة العتيقة لصق
الطاقة, فروعها دانية حانية, حتى إنك لو شئت ومددت لها يدا لأطعمتك من ثمار
ساقها.
تنفذ إليك ريح التمر حنة وزهر البرتقال وصوت المغنواتي على البعد, يأتي من
الوسعاية وسط البلد. ترين بعين الخيال الرجال وقد تربعوا على الأرض. الكتف
في الكتف والكفوف تضبط الإيقاع, أو تنشغل في إحكام السجائر اللف. يضع واحد
منهم ورقة البفرة على راحته وفيها من الدخان قدر معلوم. وبين السبابة
والإبهام يلف الورقة على نفسها بحرص ضنين, وبطرف اللسان يلصقها ويقلوظ
نهايتها حتى لا تسقط منها ذرة. يقدح شرارة اللهب فتومض الدنيا لحظة وتخبو
ويصاعد عبق الدخان. أدوار الشاي الغامق تتوالى كل حين. تأتي من دوار العمدة
في هذه الأيام المفترجة. أيام مولد سيدي غريب. والحناجر بين الآه وقول
كمان. " صلي على النبي ", " طويلة ممطوطة في طرفها رنين, و " زيد النبي
صلاة " عالية مجلجلة, " وحياة سيدك غريب لانت قايل كمان موال ".
أنا يا ليل غريب الدار في البلاد جوال
والأرض مهرة ولكل مهرة لا بد من خيال.
وأنا يا ليل لا عندي دهب ولا مال
أنا يا ليل بقول موال.
رأسك يا شوق يدور مع النسيم المعطر بنداء الصوت. تسندين رأسك على الجدار
الطيني الأملس وتتوهين مع الفكر. من أي أرض أتى ذلك المغنواتي, وإلى أي أرض
يعود? وما بال التمر حنة تستجمع روائحها المخزونة في مواسمها الماضية
وتنفثها دفعة واحدة فتخضب الهواء? وحتى زهر البرتقال يطارد عبيره كي يبثه
حنين الأرض والسماء. والكروان من علمه النغم فأخذ يصدح الليل بطوله? ولماذا
لم يحضر المغنواتي من قبل وجاء مولد هذا العام? وكيف تنامين يا شوق وقد سرق
منك الصوت راحة البال?
ها أنت يا شوق ساهرة في فرشتك تتقلبين على الحصيرة وبساط الريح القطني من
فوقها يطير بك. صوت الكروان في أذنيك ورأسك مشعشع بالنغم. أسراب نمل طائر
تحط على بدنك وتزحف في ثنايا الحنايا. تؤرقك لذعاتها غير المرئية وتستعذبين
اللدغ الرفيق.
وفي غبشة الصبح الباكر تسرعين إلى ذلك الكُنّ المسقوف في طرف الدار, وعلى
غير عادة لك تصبين على جسمك صفيحة ماء كاملة, فيشهق في حلقك الهواء وأنت
تقطرين بالعافية وتتأهبين ليوم جديد.
تبحثين في المطرح الفواح بسهد الليل عن المرآة المشطوفة, المدسوسة بين كومة
الملابس في الصندوق الخشبي الكبير, صندوق عرس أمك الذي ما زال في رونق
زهوته الأولى, رغما عن السنين. ما زالت ظهور المسامير النحاسية المقببة
تتقاطع على غطائه بأشكال نجوم ودوائر لماعة. تحبين ملمسها الناعم الصقيل,
كلما مرت يدك عليها, وكلما عنّ لك تحسس ملامسة قماش القطيفة الغالية,
المدخرة ليوم الوعد. واليوم أخذك حنين إلى المرآة القديمة. تستطلعين فيها
حلاوة وجهك فتوددت لك, أنت يا شوق ست الحسن والجمال. يداك تسبسبان الليل
المنسدل على ظهرك, يطول حتى الكعاب, تلملمينه في ضفيرتين معقوصتين على تاج
رأسك العالي.
أمامك اليوم كله يا شوق, زرعة الغيط طالت وطلعت معها حشائش شيطانية, تزاحم
الجذور في الأرض الطيبة; اليوم تنتزعين النبت الشيطاني. ما بالك يا شوق
تتزينين وكأنك ذاهبة إلى عرس? تختارين جلباب العيد تحت ردائك الأسود
الصافي. القمطة عايقة بالبرق والترتر والخرز الذهبي الملضوم في عناقيد,
يضوي من وراء نسيج الطرحة السمراء. تشف هي وتشف, في نور هذا الصبح, حتى
تكاد تكون هواء يكشف ويبين عن شموس دوارة ثابتة, تشع حول تاج الضفائر.
ما بالك يا شوق تفركين فرط الرمان, المتوهج في وجنتيك, فيزداد حمار الخدود,
تعضين على مبسم العقيق في شفتيك, فيكاد يتفجر منهما شربات الورد? وفي طريقك
إلى الغيط تتبخترين وكأنك في هودج أو تختروان فتتمايل معك الرؤوس.
ها هو المغنواتي يجلس في قهوة الحاج زيدان وكوب الشاي بالحليب في يده, لا
يصل إلى فمه ولا يعرف له موضعا على المنضدة الصغيرة الحائرة أمامه. قوائمها
الأربعة الحديدية الرفيعة لا تجد لها مستقرا على أرض أخذت تنفلت من تحتها.
تتدحرج الشمس على سطحها النحاسي اللامع, فترتد أشعة التبر متقدة موشاة
باللهيب. وهو كمن به مس, الوهج الخاطف في عينيه, تضيق منهما الأحداق,
ويتقطر الضياء الناري في بؤبؤ العين, فترتعش أوتار الجسم وتخفق ربابة
الفؤاد, وتضطرم آهة في حبة القلب تحبسها الشفاه.
وأنت يا شوق تضحكين في عبك ولا تظهرين. نشوة الليل تعاودك. تودين لو
تتوقفين, تسألين عن الأرض البعيدة, عن الحكاوي, عن المواويل, عن الوعد
والمكتوب على الجبين, لكنك تمضين في حال سبيلك والفرح يزغرد في صدرك.
وبعزم عشرة رجال تقتلعين النبت الشيطاني بيديك الرخصتين. تكومينه على حد
الغيط. لا تكلين وما بك من جوع أو عطش. الهواء يشبعك, وعيدان السيسبان
تتأود بين أحضانك, وتتفتق لك أكمام زهر, رحيقها يرويك.
تنوين العودة قبل الغروب. تتلهفين الوصول فتحملك سحابات عتر صيفية إلى ليل
آت, ينداح فيه النغم وكأنه ما ترنم إلا لك وحدك.
ها هي الجميزة تقف في موضعها على الباب حارسة. تتلهف مثلك ساعة الفراغ إلى
جوار الطاقة بعد أن تنفض عنها أحمال النهار. تنتظر صابرة رحيل غربان السوء
والحداوي الغادرة الرابضة فوقها, تتحين غفلة الانقضاض على فرخ صغير أو
عصفور تحمله مخالبها الحامية, كي تفر به مخترقة سماء الدار.
ما عاد بالك خاليا يا شوق, مثل الجميزة التي يطول انتظارها كل مساء لطيور
الألفة, تبيت في أحضانها وادعة. لكن سحابة العتر ما تزال معك, تصاحبك حتى
الباب, تلفك من فوقك ومن تحتك ومن حواليك. طيب شذاها منك وفي منافسك. وأنت
منها خفيفة, لا تحسين لأقدامك وقعا ولا لجسمك ثقلا, بل إنك تطيرين إلى ما
لا رأت عين, ولا سمعت أذن, ولا خطر لإنس أو جان. تطيرين إلى السماء السابعة
فتتفتح الطاقة وينطلق الغناء الحبيس.
التمر طاب يا عين وهو في العالي
طلب القطاف يا عين وهو في العالي
يا مين يقول للجميل النخل ده عالي
وأنا جملي يا عين حداه جرح تحت الحمل مداري
لا الجمل بيقول آه ولا الجمَّال بيه داري.
ويطول السهر ويطول والحناجر تقدح الآه. تباريح ونار خفية تزمزم تحت عباءة
الليل الحالك, فينسل الظلام خيطا فخيطا والجمر لا يفنى ولا السواد البهيم.
- شوق.. يا شوق.
يكون النداء في حلم أم علم يا شوق?
- شوق.. يا شوق!
- مين بينادي?
- افتحي يا شوق.
- آبا العمدة?.. يصبحك بالخير يابا العمدة!
- على فين العزم النهارده يا شوق?
- عالغيط يابا العمدة.
- لا يا شوق ما فيش شغل بعد اليوم.
- خير يابا العمدة... اللهم اجعله خير.
- كل خير يا شوق... أنا ليه معاكي كلام.
- اتفضل يابا العمدة... الدار نورت.
- شوفي يا بنت الحلال.. أنت كبرت وبقيتي زينة.. ولازمك الستر.
- مستورة والحمد لله.
- يا شوق أنت يتيمة ووحدانية.. وما حدش من الجدعان الخضر في البلد ينفعك..
لا بد ليكي من راجل ملو هدومه يصونك ويستتك بدل الشقا اللي انتي فيه كل
يوم.
- أنا ما اشتكتشي لحد.. رضا على كل حال.
- يا شوق أنا طالبك على سنة الله ورسوله.
- كلام إيه ده يابا العمدة?.. ده انته متجوز وبنتك ناعسة في عمري تمام!
- وماله يا شوق.. مادمت قادر يبقه ده حقي.. ده شرع الله.. قلتي إيه يا بنت
الناس?
... سكتي. يبقي خلاص.. على بركة الله.. كتب الكتاب الخميس الجاي بعد ما
ينفض مولد سيدي غريب.
وفي صباح الليلة الكبيرة كانت الدار على حالها, غير أن فراخ شوق أخلفت
الميعاد, انفرط عقدها في الحوش وكفت هذا الصباح عن عطاياها اليومية. وباتت
الجميزة محنية, كانت قد حلت ضفائرها مع الليل وأرختها على الأعتاب.
وآه يا ليل يا عين على اللي كان وياما كان
كان فيه صبية في العشق تسبي العقول
تمشي تهز بروج الفلك كما بنات الحور.
كان فيه صبية في يوم سمعت ندا
طلعت على سحابة تحلب نجوم السما
يا صبية يَمُّ الشعر خيلي والحسن بيلالي
إن كان أبوكي القمر والشمس مرسالي
لأشعل أنا القناديل من جمر موالي
وآه يا ليل يا عين على اللي بيتولد كل يوم في منام
على اللي ما ينتهي ويبتدي بكلام
شوق دخلت الحكاية
شوق دخلت الموال.
الصعود فى مدرج الوجد
وقفت فى مدرج الحساب روحى على كفى وكفى
تقبض جمرة, وملك على كتفى الأيمن يسطر النوايا وملك على
كتفى الأيسر يمحو الخطايا وفى السكون البهيم سمعت صوتا
آتيا من جبال المحال
قال: أنت قاتل قتيل
قلت: نعم, لكنى لم أقترف قتل أحد ولو
كان نملة أو من هوام البشر
قال: بل أنت قاتل
قلت: كيف؟
قال: كم شهوة وأدت؟
قلت: بعدد نجوم السماء, وذرات رمال
الصحاري, وقطرات مياه البحار
قال: تلك كبرى الخطايا, ثم انك لقتيل
قلت: أنا عابر فى الدنيا. مذ خرجت من
رحمة الرحم وعرفت حكمة الرحم عدمت المآوى والسند وصرت
غريب الدار كثير الصحاب. هم قتلونى كلمة فكلمة، ولاكونى
فكرة ففكرة ثم أتوا على اللحم والعظم مني, وها أنذا
صمت غادرة الكلام ولحمى وعظمى تثار فى هبوب الرياح.
قال: تلك ثانية الخطايا الجسام
قلت: أين النجاة, أين؟
قال: تشهى السر المكنون فى بذرة. تشهى
لمعة جبال الموج, وطلعة نجمة الصبح. واصبر فى كسوف
الشمس وزوال القمر. واسكن الكلمة واجعل منها جنات رحمة
وحكمة. وشوكة فى جنب حماقات النفوق الضعاف وفى حلق كل
من قرأ ولم يعتبر.
وكانت الشوكة فى جنبى وفى حلقى لهيب من
سعير السقر, واذا بى اقفز عاليا فانقطع قيدي, وتفجر منى
صخر دمعي, وحملنى موج المحبة الى كهوف العمق العميق,
وأقصى الأعالى كانت دانية. ووجدت اننى أصعد فى مدرج الوجد
مرتعش الوجنات، وبى خضرالشوق ووجل العشق واذا بلسانى قد
فارقه العى، ونطق بدر الكلم وحروف الدر أثداء تدر أنهار
عسل وخمر ما ذاقها انس ولا جان ولا طافت بخلد بشر.
الهبوط إلى صحراء التتار
وقفت على شعرة الصمت بين الصدى والصوت،
وكنت قد تخطيت الرطب واليابس، والمر والحارق، والدنيا من
حولى سوق بضاعة زاهية. ولما لم أستطع بيعا ولا شراء
طويت العمر الكاسد فى حبة القلب، وقلت أيمم وجهى شطر
الصحاري.
وفى عمق الصحارى عصرت نبيذ القلب وصنعت
خبز المحبة وناولته اياك، وحين مددت لى يدا، انتصب بينى
وبينك غول نصفه أنثى ونصفه ذكر. ثدى الأنثى لا يدر،
وسيف الذكر صدئ لا يقطع، وبطنه ملئ بنفايات البشر.
وأنا أعصر الضرع فلا يلين. وأهز السيف فينالنى غبار
الصدأ وعين الغول تطق بالشرر، والشرر لا يحرق، ولا تكف
العين عن قدح اللهب. ويده الرخوة تتحرك فى كل اتجاه،
وجوفه ينبعث عفنا لا يطاق والصحراء هى الصحراء على
امتداد البصر. والغول يطلب رأسى، ورأسى معلقة بخيط كشعاع
ضوء خبا.
وعلى خيمة القلب حط عقاب هرم أنفت
الريح أن تحمله منذ نسى عشق الأعالى، وأخذ يرقب سهام
الزمن ترشق الطير، وحين تهوى ينقض على جيفتها بمخلب فهم
ليس له رى أو شبع.
وأنا فى صحراء القلب لا أحد، أنادى
نجمة الصبح فيرتد الى الصدى، عميقا كما حبى ضائعا مبددا.
وأنت أيها القاضى تطعم عمرك الصديان نبيذ القلب وخبزه،
فلا الصوت يصلك ولا الصدى بمنثن.
وأنا على الشعرة الحرجة الفاصلة، سواد
الصحارى عن يمينى، وسواد الصحارى عن يسارى، ومن أمامى رؤوس
تحجرت عظامها، فوقها رؤوس تقف على أكتاف رؤوس خاوية.
وعلى القمة يقبع الزمن، رأسه ملكى، وجسمه وحشى وهرم
الرؤوس من تحته يئن ويتشقق، والموت آت من جهات الصحارى،
والملك الوحشى يرقب ويبسم أسيانا لمجهول يعرفه.
وفى عتمة الليل السرمدى غاب منى الوعى
فنمت، وكنت يقظة، وبين الصحو والمنام جائتنى يمامة بنية
وقفت على أم رأسى، وأشارت بمنقارها الذهبى الى رمل الصحارى،
وطارت. ولما مست ساقها الرهيفة أديم الأرض انزاحت الرمال
قيد أنملة. وفى المكان الذى مسته وضعت بيضة.
ولما مست البيضة المكان انزاحت الرمال
قيد أنملة. ونقر فرخ البيضة فتصدعت قشرة الصحارى وانزاحت
الرمال قيد أنملة. واذ تمت للفرخ قدرة الدفع فتق بساقه
السطح وخرج من رحمة الرحم، وأخذ ينقش الرمال باشارات
هينة، واليمامة تسير وراء الفرخ وترسم علامات تبين هونا
فهونا، وأنا أسير وراء اليمامة والفرخ وأدب قدمى فتنغرزان فى الرمال وتشقان
طريقا على صفحة الصحارى والريح من خلفى تذر الأثر .
والطريق طويل وفى كل خطوة تتلاشى من الغول عين، ثم
قدم ثم تنفثئ بطنه كفقاعة هائلة يخرج منها جيف لا حصر لها، ينهال عليها
العقاب قضما وتقطيعا، وكلما نهش منها جيفة سقطت من جسمه ريشة، ثم صار قطعة
لحم متغضنة نتنة، ما لبثت الشمس أن قددتها فخف وزنها، وجاءت الريح من ورائى
فحملتها كما الهباء ونثرتها على التلال والغول يتضاءل وينكمش ضرعه العاقر،
وسيفه الصدئ يتفتت دون أن تمسه يد والفرخ يسير واليمامة تسير وأنا أسير.
والطريق يمتد والريح تمحو الأثر.
وإذ ذاك صحوت على الصحراء، والزمن العارف يبسم لى
وعينه الحجرية جف منها الدمع ففاض القلب بسكينة كاليأس أو كبلوغ المنى.
ولم يكن هناك فرخ أو يمامة غير أن الطريق هناك
والصحراء هى الصحراء بدءا من هذى الصحراء والرمال تتار تهجم الآن وتأتى على
نبيذ القلب وخبزه المهرق المباح.
|