انطـلاقه رجـل
حملته أقدامه المرتعشة خارج البوابة ..كان فارع الطول .. بدا ذابل
الوجه حاسر الرأس كليل النظرات وقد أنهكه الشوق للأحفاد .. لم يجد أحدا في
انتظاره حتي ابنته ابتسام ..
تسارعت أنفاسه وهمساتهم تقول الكثير عن المال والبنون ..
.. إنك لا تدري ماذا أحدثوا من بعدك .. ؟
..صدقهم لحظة فلعن الحياة ..
.. وكيف ستعيش الآن ..؟
أدار رأسه وحاولت عيناه تخطي الأكتاف العريضة لذلك الرجل الرابض علي
يمين البوابة ،بينما منعته بقوة تكشيرة واضحة من الحارس الآخر..
تشكك في وساوسه برهة فشعر بخيوط الماضي تشده والجدران تناديه .. تراجع
.. نصف استدارة ثم حرك رأسه ببـطء وهو يرفع يده ليداري أشعة الشمس المنطلقة بلا
قيـود ..أعاد فتح عينيه ليتأكد أنها الشمس التي افتقدها طويلا وقد شعر بتغير
رائحة الهواء من حوله ..
هز رأسه ثم تابع أشعتها الممتدة وقد ساد السكون ..
من خلف نظرات الحراس الفاحصة تسللت نظراته تستكشف المكان ، كان العصفور
هناك يرفرف بجناحيه فوق البوابة ..
حاول إخراج الدهشة ..
أرخي يديه فسقطت أشياء كثيرة من بينها ..
كتم صفير يراوده .. حرك شفتيه ولم يسمع همسا ..
تجاهل نظرات الحراس ، وطرقع أصابعه ، وأصاخ السمع عبر الفضاء الرحب ،
واستنشق الهواء بقوة ..
تابع نبضات القلب ، والتقط أنفاسه بسرعة مع حركة الحارس ..
أدار ظهره وسري النبض حتي أخمص قدميه ، والصق شوقه بخفقات القلب التي
تهتف ..
.. أنطلق وراء العصفور ..
أضيفت في29/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
طرقات خفيفة
أحست بما يشبه الطرقات علي باب منزلها الجـديد ببوسطن الهـادئة .. توقفت مكانها
.. كانت قـد افتقـدت الزيارات الأسـرية ولقـاء الأصدقاء منذ غادرت بلادها بعد
الزواج .. الناس هنـا في عجلة من أمرهـم .. وزوجها يعمل لساعات متأخرة .. نظرت
من العين الزجاجية ..لم تر أحـدا .. عادت أدراجها للمطبخ..كانت في حاجة إلي كوب
شاي ساخن !
سمعت مواء القط ..نظرت حولها ثم راحت تفتش في الغـرف ..إنها تكره أصوات القطـط
..حمدت اللـه يبـدو أنها إحـدى القطط بالخارج ..أسرعت تجلس كالمعتاد أمـام شاشة
التلفاز، وخيالها يزداد دفئا مع الأبخرة المتصاعدة من الشـاي ، من صخب الصغـار
إلي دفء العائلة ودموع أمها التي لم تصدقها وهي تهتف بفرح .. إنني ذاهبة للعالم
الجديد يا أمي .. قطع أفكارها صـوت طـرقات خفيفـة علي البـاب الخارجي ..أسرعت
تنظر من العين الزجاجية ..صاحت بفرحـة طاغية .. لابد أنها إحدى الجارات تريد
الثرثرة معي.. أزاحت المزلاج ثم توقفت برهـة .. تمتمت لكن الأحـوال هنا متغـيرة
والمعاملات مختلفة .. زادت سرعة أنفاسها وطـاف بذهنها تحذيرات البوليس المتكررة
..زادت قبضتها تشبثا بمقبض الباب وقد واربته قليلا ..أطلت برأسها ببطء.... قالت
تبدد السكون المرتعش داخلها
ـ مساء الخير يا سيدتي .. مرحبا
قالت المـرأة ..مساء الخير ..لا وقت عنـدي .. لكن كيـف تجرئين علي ترك قطتك
المسكينة في هذا الجو البارد ..؟
ـ إنها ليست قطتي ..
واغلقت الباب وعادت للجلوس امام الشاشة وقلبها يرتجف من صور ضحايا الغارات
الجوية ... والصور تتدافع امامها تذكرها بصديقاتها ورنين الهاتف الذي لاينقطع...
تطوف بشفتيها ابتسامة واسعة ونسمات النزهة علي شط النيـل في العصا ري الجميلة
مع خطيبها حسين تداعبها مختلطة مـع رائحـة الذرة المشوي والسلام يسود صفحة
النيل وكم كان المساء ينقضي سريعا مع الحكايات وحلاوة ثرثرة الجيران ....كانت
الطرقات علي الباب هذه المرة أكثر وضوحا ..أسرعت بالنظر من العـين الزجاجية
..كان هناك رجل شرطة .. فتحت الباب ..ابتسم الشرطي ..
ـ سيدتي هـذه شكوى من الجيران بسبب طردك لهـذه القطة الجميلة ..التقطت أنفاسها
وهي تبتسم ..
ـ لقد أخبرتهم يا سيدي إنها ليست قطتي ..وأنا لا أحب القطط .. وفي بلادنا لا
نربي القطط ..إنها دائما هكذا في الشوارع ..
ـ هنا أمريكا يا سيدتي النظام والقـانون وحقوق الحيوان ..من فضلك وقعي علي هذه
الورقة ..
ـ وما الأمر ..؟
ـ لا شئ لكنه اعتراف بأنها ليست قطتك .. وليس من حقك تقديم أي شكوى بفقـدك لقـط
..
ـ نعم .. نعم .. ووضعت توقيعها علي الورقة وقـد شعرت بالارتياح قليلا .. أسرعت
للتلفاز وطاف بخاطرها أن تتصل بحسين ..نظرت للساعة ..ربما يكون في طريقه للمنزل
..
دقائق وسمعت صوت سيارة بالخـارج .. شعرت بالاطمئنان يسري في عروقها ..لابد أنه
حسين ..نهضت .. توقفت مكانها ..لماذا الطـرقات علي الباب ..هل ضـاع مفتاحه ..؟
ازدادت الطرقات وضوحا علي الباب..مع دقات قلبها المسموعة أسرعت بالنظر من العين
الزجاجية ....كان هناك شرطيان ..فتحت الباب ..
كان مع أحدهم قفـص جميل داخله تلك القطة اللعينة تجلس علي قطعة كبيرة من الصوف
،وزجاجة من اللبن بجانبها ،وهي تلعق بلسانها فروتها البيضاء وقد ارتفع صوتها
بالمـواء ..بينما مـد الشرطي الآخـر يده بإيصال استلام وورقة تعليمات وبسمته
الخاصة تتسع .. وفي اليـد الأخرى كانت هناك فاتورة حساب ..!!
تطـور
رمقته بنظرات نارية وهو ممدد علي الأريكة ..
ـ ما هذه الملابس الغريبة يا شيخ ..؟
إعتدل .. تثاءب .. تحرك خلف كرشه .. الغدا كان
قاطعته .. لقد تأخرنا علي موعد الجماعة ..
إنتفض وراح يصلح من هندامه .. اقترب من المرآة ..
شهق .. أعاد وضع النظارة ذات العدسات السميكة علي وجهه ..
لم ير شيئا ..!
عندما أرهف أذنيه كانت هناك خطوات تبتعد ..!
***
عاد إلي المنزل عصرا .. تحسس نعومة ذقنه الحليقه .. أرسل قبلة في
الهواء لزوجته .. أشاحت بيدها .. رفع المرآة لأعلي قليلا .. شعر بالجزع .. كانت
العدسات السميكة تملأ المساحة ..
***
كلماتها ما زالت تطن في أذنيه ..
ـ العدسات اللاصقة والمضغوطة موضة العصر يا رجل اختار اللون
الفيروزي اللامع بعد تردد .. ستكون مفاجأة لأمينة .. استدار للمرآة .. أصابت
الدهشة بريق عينيه
ـ من هو هذا الرجل الأصلع ..؟
****
كان لون الباروكة الذي اختاره فاحم السواد.. حرك عضلاته .. أخذ نفسا
عميقا ..استدار من حوله .. أطلق صفيرا عاليا .. رائحة البارفان الرجالي كانت
تملأ المكان .. ابتعد عن المرآة قليلا .. دارت رأسه وعلامات الاستغراب تسبقه
وهو يتفحص المرأة الواقفة بجواره ..
ـ أنت مين ..؟!
مال وبنـون
توقفت قناعة الأسرة عند مشاهدة الأفلام العربية أبيض وأسود بينما
كانت نسمة تتسلل إلي القصر الأبيض الكبير لمشاهدتها بالألوان .. وقـد يمتد
الأمر فتشاهد القنوات الفضائية العربية والأوربية أيضا .. مالت الشمس إلي
الغروب ، أزاح عم عبده شجيرات الصبار جانبا وقـد جلس مذهولا عند مدخل الطرف
الشرقي من حديقة البستان ..أمسك بجبهته .. هز رأسه لا يصدق أذنيه وقد جحظت
عيناه أمام بطـن أبنته المنتفخ وهو يضرب كفا بكف ..
ـ يا أولاد الكلب .. مين اللي عملها ..؟ .. انفتح الباب وتقدم
الأستاذ ناصح سكرتير الباشا خطوة ثم تراجع مشيرا بيده لتغادر الأسرة المكان ..
عطس ثم ألقي بحزمة الأوراق المالية في الهواء .... عندما ضج السكون انحني عبده
والتقط النقـود في طريقه لشراء المسدس ..
جنازة حاره
وحدوووه
لا إلاه الا اللـه
توقف يسأل : هو مين ..؟
هز الرجل الجالس كتفه .. الجرايد بتكتب كل يوم عن وفاة الأستاذ
سمير الكبير .... سمير مين ..؟ ما أنا سمير كمان .. يا خبر بفلوس ..ومضي سمير
في طريقه خطوات ثم استدار عائدا والشك يراوده ، وهو يكرر السؤال .. متي حدث ذلك
..؟ نهض الرجل وهو ينظر في ساعته ..
صاح : النصاب .. فين العقارب .؟
حملق سمير مذهولا والآخر يندفع مبتعدا .. التقط الجريدة .. لقد ترك
زوجته تعاني من صداع مزمن .. ست أميرة صابرة وراضية ، دايما تسأل عن عمارة مصر
الجـديدة المرهونة .. تنهد مهما حدث فهي أم الأولاد .. طافت بذهنه صورة ابنه
الكبير ، والذي قطع اتصالاته بعد تفجير مبني التجارة بنيويورك .. تنهد .. فرصة
لهـذا الوغد ليتهرب من إرسال الدولارات ..كان استمرار مشروع المزرعة يحتاج لهـا
.. تمتم يابني كل حاجة علشانكم .. خليك جنب الحيط فأمريكا مالهاش كبير.. قطعت
حكاية ابنته مع زوجها العربي أفكاره ، لقد أغلق المصنع بعد انسحاب زوج الإبنة
وشريكه .. لكن أن يكون قد .. هل يقطع مأموريته ويعود للمنزل .. وماذا سيقول
لعروسه ..؟
طوي الجريدة تحت إبطه .. أزاح كيس التفـاح إلي الجانب الآخر، وواصل
طريقه يحلم بساعات تجديد الشباب .. توقف ....يمكن يكون الخبر في صفحة الحوادث
.. طوي نصف الصفحة العلوي ..الحمد للـه كل المصايب بعيدة عن العائلة ..!
شعر بالجوع فأخرج تفاحة وراح يلتهمها بتلذذ وهو يتابع سطور الجريدة
.. توقف عن المضغ وقد تصلبت يده ، وتحجـرت نظراته أمام صورته المنشوره .. تحي
الأسره الذكري السنوية مساء الخميس القادم ..
باب صغـير
..وكأنه حديث اليـوم عبر الأثير، ومفاتيح (الريموت كنترول ) تئن تحت
ضغط الأصـابع المتبلدة وتنهـدات الرجل المسموعة ..
صاح الصغير : عايز أتفرج علي الكرتون يا جـدو..
ـ يا للكرتون المزعج ..انتظر هـذه صور جميلة ..
..إنه التاريخ يا بني ..
ـ ياه الكلام ده في المدرسة يا جدو
كانت الصورة لحلب الشهباء وحكاية التـتار التاريخية وكأنهم جراد
جائع ينتشر حول المدينة.. هل تعرفها يا عفريت ..؟
ـ دريم بارك أحسن منها وفيها مراجيح تطلع لفوق وتتشقلب ..
ـ ولكنني أخشي هـذه الشقلبة يا ولد ..
ووضع إصبعه علي فمه ليسكت الغـلام بينما تنقل الفضائيات بالصوت
والصورة كيف وقـف القاضي (إبن مفلح ) ـ عاشق المفاوضات والتتار كما يراه
التاريخ ـ وراء الأسوار يحاول حـل اللغـز التاريخي ..
كانت المدينة معزولة خلف الأسوار تنتظر عساكر السلطان وقد عسكرت
أمامها القـوة الهمجية العظمي .. كانوا يستعرضون الخيل والفرسان في خيلاء وسط
ملابسهم الزاهية وأشعة الشمس الحمـراء تنعكس علي السيوف والرماح وراء السنة
اللهب المشتعلة ، بينما القـرون المدببة مشرعة فوق الرءوس ..
متخبطا في هموم اللحظة يبدو .. أخذ القاضي يردد بصـوت هامـس حيثيات
القـرار الذي يراوده وقـد تصدعت رأسـه بحكايات الصراع بين الأسد والنحلة أو
النملة .. والوفاق بين الزيدية والحنابلة والأروام والعجـم والسلاجقة
والكنعانيين والأتراك والإسماعيلية ..
هز رأسه يحاول التذكر وقد زاحمتها صدمات حكايات التتار الهمجية
وصـور سقوط بغداد وحرق مكتبتها بعـد الأخضر واليابس ومهانة الرجال ودماء
الأطفال تتدحرج أمامه ..
..تزداد تنهداته في قلب واقع كئيب وكيف لم يأخذ الحاكم بالعظة مما
حدث .. وهـو ما زال يتحسر علي أرواح الأطفال الأبرياء وأعراض النساء وتخاذل
الرجال والجيران قد تفرقوا من حولهم ومصير مشئوم في انتظارهم ، بينما العالم
يلهو ..
سار في شوارع المدينة الغافلة وقـد انسابت الموسيقي والكئوس تصدح في
الحوانيت بتمويل من اليعقوبيين ورقصات الأتراك والأحباش علي نغمات الجـواري
وقصص الحب في الأفواه وقصائد الغزل الملتهبة، والكل يتناسي ما وراء الأسوار ..
تحركت الكاميرا ببطء لتلصق أكبر مشاهد للهـو بالذاكـرة ، وصرخ الرجل
في نائب السلطان .
ـ لماذا لم ترسل في طلب النجدة من السلطان ..؟
ـ أرسلت لهم الرسول العاشر ..!
وهمس له ليحترس من العسس والدساسين ..
وتغير الإيقاع مع هبوب ريح كريهة الرائحة ، وبدا كل شىء وكأنه قابل
للسقوط بعد أيام الحصار الطويلة ..
واختمرت الفكرة في ذهن القاضي (جبان يعيش خير من شجاع تحت التراب
والأيام دول ) ..
وتوالت ردود الأفعـال بين اليـأس والأمل والكرامة والحيلة .. وانفض
الناس من حول الشيوخ بعد اتساع شقة الخلافات وتكرار الأحاديث ..
حضر السلطان علي غير المتوقع .. وكان حديث السن في نظـر القاضي
..تحوطه هالة من القصص والمغامرات ..
وبدأت المناوشات وسط مخاوف القاضي من الهزيمة النكراء ..
وأرسل السلطان الشطار خلف صفوف الأعداء ..
وشن التتار هجوم المنجنيق .. لكنـه استطاع إيقاف هجوم التتار والحق
بهم الخسائر..
وقتل الشطار إبن تيمور لنك السكران ..
وتجرأ عبده الغلبان وطلب يد بنت القاضي ..
واشتعلت نيران الغـيرة والخوف في قلب القاضي الحيران ..
كان القاضي يظن أنه سيدخل التاريخ من باب السلام ..
تمتم وهو يتلفت حوله وكأنه لا يصدق الأحـداث :
هل ستنجح المفاوضات مع الهزيمة المتوقعة ..؟
..ودارت كئوس النصر وغنت الجـواري علي دقات الدفوف وقرع الطبول
وليـالي الأنس حتى صحت المدينة ذات صباح علي هدوء قاتل بعد ليلة الاحتفال
الطويلة بالنصر ..
كان السلطان قد رحل مع جنـوده عندما وصلته الأنباء بتمرد واسع
للأمراء في الأمصار الأخرى ومحاولة خلعه من السلطنة ..
صاح القاضي : ودمشق وحلب ..
أجاب النائب :لها اللـه يا أبو سارة ..!!
هتف الغلام :وأين طائرات الشبح ..؟ خلصونا يا ناس ..
اقترب أكثر من الجد ..
ـ لو شفت الكرتون معانا يمكن سوبرمان يطير وينقذهم ..
ـ كيف سيدخل سوبرمان التليفزيون يا ذكي ..؟
ـ ها..ها ..سوبرمان جوه التليفزيون من زمان ..
ـ انتظر ربما يكون للمخرج رأي آخر ..
ـ يا ماما ..ماما وذهب الغلام غاضبا ..
وبدأت أيام الانكسار مع اعتصام نائب السلطان بقصره المنيع في انتظار
عودة السلطان والمـدد .. وحاول القاضي جمع السنة والشيعة من حوله وفرض منطقه
ملوحا بالحكمة في يد ، وغصن الزيتون في الأخـرى ، وشعاع أمل يقترب ..
وافق التتار علي التفـاوض ..وطلب تيمور لنك أن يتركوا له السلطان
وجنوده ليأخذ بثأره منهم وهو يبكي ولده الحبيب ..
وتضاربت الآراء مع ظلال الخوف بين مؤيد ومعارض ..
وأعتصر القاضي فرص السلام مع بريق السيوف المرفوعة والإحساس بعدم
الحيلة يزداد ..وسادت البلاغة والجدل العقيم وسط مخاوف سوق عكاظ المفتوح ، وكيف
أرهقهم السلطان ونائبه بالصكوك والضرائب وتغلب منطـق استحقاق نائب السلطان
للعقـوبة ، حتى يسود السلام المنطقة
وهمس القاضي:كل ذي عاهة جبار..أتركوه لهذا التتري الأعرج .. وطلب
القاضي من نائب السلطان الرحيل .. لكنه رفض وتحصن بالقصر والرجال من الأتراك
والحمدانيين وسط المدينة .
واختار التتار أن يكون القاضي فصيح اللسـان المتحرر الأفكار هو
الحاكـم الشرعي لحلب ..
وعندها وافق القاضي وبسمته الخاصة تتسع ، وقلبه يرقص طربا لمناوراته
الذكية .. ولكنه استدرك وجعل موافقته بشرط عـدم اشتراكه معهم في القتال وعدم
تعرض الناس للاعتداء ..
وليكن السلطان مقابل السلام ..
في بداية المفاوضات طلب تيمور لنك فتح باب صغير في سور المدينة
علامة المحبة ودخول أفراد قلائل من جنوده مع الهدايا للقاضي وأصحابه ..مع
التوصية باعتقال من كانوا يتعاونون من العشائر المختلفة مع نائب السلطان في
معتقل خاص ..
ووافق القاضي قائلا .. لا ضير من باب صغير ..!
وتكاثر جنـود التتار بالمدينة مع الأيام ..ونصبوا الخيـام وتكدسوا
في الحوانيت المطلة علي النواصي .. وزادت حركتهم ذهابا وإيابا وأصبح من الصعب
إغلاق البـاب الصغير ..
وعندما طـال الحصار التتري للقصر قـرروا جمع سلاح العسكر والقوات
الخاصة وبخاصة النبال والرماح في مخازن تحت حراسة مشتركة لضمان حياد هـذه
القـوات ، وعـدم مساعدتها لنائب السلطان المحاصر ..
وأنتهي أمر السلطنة في المدينة باقتلاع خيال المآته السلطاني ومقتل
النائب وجنوده وهرب الأكراد إلي الجبال .
وطلب التتار الجزية حتى يرحلوا عن المدينة ..
وجمع القاضي الأعيان عمـلا بمبـدأ الشورى وقرروا جمع الأموال لدفع
الجزية للتتار وضمان رحيلهم عن البلاد ..
ووافق القاضي في سبيل السلام وتحرير البلاد ..
..كانت الأموال التي جمعوها أقل مما يطلبه التتار في كل مرة ..
وطالت المحادثات حول التعويضات المناسبة .. وعادوا يجمعون الأموال من الناس رغم
تذمرهم ..
كانت الهمسات عن الوعود المزعومة للسلام تملأ الدنيا ..
وازدادت حيرة القاضي بحثا عن شعارات جديدة يطرحها علي الناس
..وأنقذه وزير المكر والحيلة بنظراته المخادعة ..
كانت تلك وعود المرحلة السابقة يا صاحب الفضيلة ..
..والرأي لرجال الشورى وهم رجالنا وليس للعامة ومنحنيات السياسة هي
اتخاذ مواقف مختلفة وتبريرها للناس حتى يصابوا بالإحباط ، وتتلاشي آمال
الإصلاح..ويتم جمع الأموال بلا جدال ..
ومع الفرقة نأمن مطامعهم في السلطة أيضا ..
وانتصرت حجج القـوة علي بلاغة المنطق ..
ـ لسه يا جـدو ..
ـ خلاص يا سيدي ..لقد قرر التتار نهب مخازن السلاح وجمع كل دابة
وفرس حتى لا يطاردهم أحـد بعد الرحيل .. وتعيين حاكم تتري وحراسة تترية علي
حدائق المشمش حتى يتمكن القاضي من جمع الأموال ولو بالقوة ودون مقاومة من أحد
..
وقبل أن يتنفس أهالي المدينة الصعداء كان التتار قد نهبوا الحوانيت
.وطاردوا الشباب حتى هرب الدروز والمسلحون منهم إلي الجبال .. وأغلقت البيوت
علي من فيها .. وتكاثر الناس حول القاضي يسألون عن فصاحته والأفكار الجديدة
..ولم يجد إلا الهروب إلي منزله ..
ودارت الكاميرا تسجل الطرقات الخفيفة علي الباب ثم صدمة القاضي
عندما وجد المنزل مقلوبا رأسا علي عقب ، والجارية مذبوحة ..وسارة أبنته الوحيدة
الممزقة الثياب تحدق فيه بعيون جامدة .. كعيون المدينة التي ضاعت هباء ..
وأغمض الجد عينيه ليجد نهاية أخري
وتسارع الإيقاع وتوقفت مفاتيح جهاز التحكم في القنوات عن الحركة
والقاضي يتلفت حوله ليري من خلال دموعه الأشباح وتيمورلنك يهتف وراية الحساب
تزداد بريقا في يمينه ..
أيها القاضي : هل تعرف من أنا..؟
فغر القاضي فاهه وأضاف تيمورلنك ..
ـ أنا غضب اللـه في أرضه الممزقة ..!
|