أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

دراسات أدبية - أدب الطفل / الكاتب: د. طارق البكري

كامل الكيلاني رائداً لأدب الطفل العربي

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

منهج الكيلاني في قصصه

قصص الكيلاني  

  كامل كيلاني.. حياته وثقافته

مقدمة   ماهية أدب الطفل

شعر الكيلاني جزء من منهجه 

الفصل الأول 

 الفصل الثاني

 الفصل الثالث

 

كامل الكيلاني رائداً لأدب الطفل العربي

 

 

بقلم الكاتب: د. طارق البكري

 

مدخل

كامل كيلاني وأدب الطفل

 

مقدمة البحث

ارتبط اسم كامل كيلاني بأدب الطفل، فبات الطفل وأدبه نسيجاً منه، بكل ما يحفّ هذا الأدب الرفيع من هموم وشجون ومشاق، فأدب الأطفال – بكل أشكاله- أضحى اليوم مجالاً خصباً للورود والبحث والدراسة المتشعبة، وذلك لدور هذا الأدب الرفيع في تشكيل شخصية الطفل، والمساهمة في بنائها إنسانياً ودِينياَ وفكرياً وإبداعياً ونفسياً..

ونجد حالياً اهتماماً واسعاً مطرداً في هذا الجانب المهم في حياة الطفل ومستقبله، ونشهد في المكتبات ودور النشر ومعارض الكتب آلافاً من العناوين، كما نرى باستمرار دراسات جديدة في شتى الموضوعات التي تتصل بأدب الطفولة الخصب.

 

والحق يقال: إن أولياء الأمر، من آباء وأمهات ومدرسين ومدرسات وتربويين وتربويات.. باتوا جميعاً –خصوصاً المتعلمين منهم والعارفين بأهمية الأدب والقراءة والثقافة- يحرصون على توفير قراءات متنوعة للطفل؛ في البيت والمدرسة والأندية... فضلاً عما نجده على شبكة الإنترنت، من صفحات كثيرة جداً خاصة بالطفل، بجميع لغات الدنيا، بحيث يستطيع الطفل وبكل بساطة الولوج إلى عالم الصفحات الإلكترونية وتقليبها بنفسه واكتشاف المتع التعليمية فيها دون أن يكلِّف نفسه عناء الانتقال والتنقيب في المكتبات.

 

كما إن معارض كتب الأطفال التي نراها دائماً متنقلة بين المدارس والأندية والمعارض السنوية الكبرى، توفِّر مساحات شاسعة للاختيار، وتؤكد مدى اتساع ميدان أدب الطفولة، بعدما كان لسنوات قليلة خلت مجرد تجارب بسيطة.. على امتداد العالم العربي.

 

لكنّ هذا الاتساع يدعونا للتوقف والتثبت من مدى صلاحية هذا النوع من الأدب المعروض، ولا سيما أننا نجد كثيراً من القصص المترجمة، وربما يكون نشر بعضها –عن حسن نية أو عن غيرها- مسيئاً للطفل، مدمِّراً لقيمه الدينية وعاداته وتقاليده.. فضلاً عن وجود قصص كتبت بأقلام عربية لكنها تدسُّ أفكاراً قد تؤدي إلى الغلو والشطط.

 

لذا فإنه من الضروري أن نخضع هذه الإصدارات، بصفة دورية متتابعة، لفحوصات مخبرية تربوية، وكذلك دراستها لغوياً ونفسياً واجتماعياً، لمعرفة فوائدها وما قد ينتج عنها مما ليس في الحسبان؛ من سلوكيات منحرفة وعلوم خاطئة.

 

إن أدب الأطفال ليس شكلاً فنياً عاماً، فخيوطه متداخلة متشابكة لا يمكن فصلها ببساطة.. بل يستحيل، وعبارة "الفن للفن" قد لا تصلح لهذا "الفن"، لأننا نعلم معنى الطفولة ومقومات بنائها، وأي خطأ مهما كان بسيطاً، فإنه قد يهدد مصير إنسان أُوْكِلَ أمرُه إلينا، ليس هو بالكبير ليميز ويختار.. وليس هو بالجماد فلا يتأثر. من هنا تتضح خطورة أدب الأطفال، وارتباطاته المتشعبة؛ أولاً: بكل ما تتطلبه الأصول الفنية الأدبية، وثانياً: بكل ما تتوقعه القيم المجتمعية المختلفة بكل أسسها وبنودها وحياتها..

ونحن –كآباء وتربويين ولغويين وأدباء وباحثين.. – علينا أن ندرك قيمة هذا النوع من الأدب في حياة الأطفال، فنرى ازدياد أهمية القيمة بملاحظتنا البريق الذي يلمع في عيون الصغار عندما يقفون أمام واجهات المكتبات وأمام أرفف الكتب يحدِّقون بالأغلفة الملونة الجذابة، أو عندما يقلِّبون صفحاتها ويتمتعون بصورها المُعْجبَة وكلماتها المحببة.

 

ويأتي هذا البحث تحقيقاً لهذه الأهمية، وسعياً نحو دراسات معمقة في أدب الأطفال من حيث الشكل والمضمون، توصلاً إلى البناء التربوي المحكم.. وهذا النوع من الأدب شديد التوعر، تزداد وعورته كلما أوغلنا فيه أكثر وغصنا أعمق، ولا نحتاج هنا للتذكير بأهمية الطفولة ودورها في المستقبل... وما يشبه ذلك من كلام كثير يدور حول الطفولة وعالمها.

 

إن الباحث في أدب كامل كيلاني؛ لتفرحه كثرة المؤلفات التي كتبت حوله، لكن تحزنه ضآلة الفائدة التي توفرها معظم تلك المؤلفات، التي لا تدرس بعمق "فن" الكيلاني ولا تعطيه ما يستحقه من اهتمام. فنجد الأبحاث؛ معظمها ينقل عن بعضها الآخر، وغالبها مدح وتقريظ وإشادة، دون منهج علمي واضح، بل نجدها تكرر نفسها. فيما نحن بحاجة إلى دراسات أعمق، تلفت إلى مواطن القصور وتشير إلى أسباب النجاح والتفوق حتى تحقق الأبحاث هدفها وتتحول من مجرد نظريات جامدة، إلى وقائع يمكن رؤيتها وتحسسها، ثم تنعكس إيجاباً على الأدب الخاص بالطفل.

 

وهذا البحث: محاولة جادة على الطريق، نتيجة لمعايشة طويلة بين الباحث وموضوع البحث.. تَمَثَّل الباحث فيها شخصية الكيلاني حين يحتاج إلى ذلك، وانتقل إلى موقع الخصوم حينما يقتضي الخصام، وكان حوار بين الباحث من جهة والكيلاني من جهة ثانية.. بينهما أدب الكيلاني الخاص بالطفل، ولعل هذا البحث يطرق جوانب كثيرة ربما لم تُطرق سابقاً في دراسة أدب الأطفال عند كامل كيلاني، ويفتح الباب لدراسات أشمل، فكل قضية تم تناولها ربما تستحق دراسة مستقلة.. وقد حاول الباحث بجد أن يلفت الأنظار إلى هذه القضايا التي أثارها على أمل أن تكون وميضاً للباحث أولاً، ثم لغيره من الباحثين ثانياً، فنتبعه حيث نلقى الكنوز الخافية الدفينة في عمق أدب كامل كيلاني.. رحمه الله.  

 

 

كامل كيلاني وأدب الطفل

 

مقدمة:

الأطفال جمع طِفْلٍ وطفلة، والطِفْل في اللسان: "الصَّغير من كل شيء" ([1])، وشبيه ذلك في القاموس ([2])، وفي المختار هو "المولود، وولد كل وَحْشية أيضاً طفل([3])، وحدد الوسيط أنَّ الطفل هو: "المولود ما دام نعماً رَخْصاً ([4])، والولدُ حتى البلوغ" ([5]). وفي معجم اللغة العربية؛ "جئتُه والليل طفلٌ، أي في أولِه. إنَّه يسعى في أطفال الحوائج، [والطِّفْلُ] سقط النهار، أي الشرارة، [ويقال] تطايرت أطفال النار، [ويقال] عشبٌٌت طفْلٌ، أي لم يطل، والجمع أطفال" ([6])، وذكر معجم عين الفعل أن النبات إن لم يطل "فهو طفل" ([7]).

أما الطفل في الإسلام فهو الإنسان غير البالغ المكلَّف، وقد حدد الله تعالى مرحلة التكليف مع بداية البلوغ بقوله: (وإذا بَلَغَ الأطفالُ منكُم الحُلمَ فليستأذنوا كَمَا استأذنَ الذينَ مِنْ قَبْلِهم)([8]).

 

وهو في الاصطلاح "ذلك الشخص الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، وعلى ضوء هذا التعريف، فإن الطفولة تمتد من الميلاد حتى ما بعد سن العشرين، وهي السن الذتي يبلغ عندها معظم البشر نضجهم البدني الكامل"([9]).

 

والتعريف الأخير يعتبر النضج البدني الكامل فاصلاً ما بين الطفولة والرشد، بمعنى أنَّ النضج العقلي قد لا يكون لازماً، باعتبار أنَّ "طول مرحلة الطفولة يتفاوت من جيل إلى جيل

ومن ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، طبقاً لمتطلبات الحياة ونوعيتها (بدائية – ريفية – صناعية...) في بيئة الفرد وما يحيط به من ظروف خاصة"([10])، كما إن "الأفراد يختلفون فيما بينهم من حيث تكوين كل منهم، وأنه لا يوجد فردان متشابهان تشابهاً تاماً على الإطلاق، بل لكل شخص طابعه الفريد الذي يميزه عن غيره" ([11]).

 

ويَعْتَبِر كثير من الدارسين أنّ "مرحلة الطفولة من أهم مراحل الحياة عند الإنسان وأكثرها خطورة، فهي تتميز عن غيرها بصفات وخصائص واستعدادات، وهي أساس لمراحل الحياة التالية، وفيها جذور لمنابت التفتح الإنساني؛ ففيها تتفتق مواهب الإنسان وتبرز مؤهلاته وتنمو مداركه وتظهر مشاعره وتتبين إحساساته.. وفيها تأخذ شخصيته بالبناء والتكوّن، لتصبح فيما بعد متميزة عن غيرها من الشخصيات الأخرى".([12]).

 

وهناك اتجاهان أساسيان في عملية تقسيم مراحل نمو الطفل؛ الاتجاه الأول يعتمد الجانب العضوي، والآخر الجانب النفسي التربوي.

 

وفيما يتعلق بالجانب الأول فقد درج أكثر الباحثين على تقسيم مراحل نمو الطفل إلى أربع مراحل وهي. ([13]):

1- مرحلة ما قبل الولادة أو المرحلة الجنينية.

2- مرحلة الطفولة الأولى (من الولادة حتى السادسة أو السابعة).

3- مرحلة الطفولة الثانية (حتى الثانية عشرة).

4- مرحلة المراهقة (لغاية الثامنة عشرة).

 

ويحدد كثير من الباحثين بداية الجانب النفسي التربوي بالسنة الثالثة من عمر الإنسان، لأنَّ الطفل لا يكون عادة قادراً قبل هذا العمر على تلقي الثقافة بمفهومها البسيط، وتنقسم هذه المرحلة إلى أربع مراحل أساسية.

وهذه المراحل هي([14]):

1- مرحلة الواقعية والخيال المحدود، (من 3 إلى 5 سنوات).

2- مرحلة الخيال المنطلق (من 6 إلى 8 سنوات).

3- مرحلة البطولة (من 8 أو 9 إلى 12 سنة).

4- مرحلة المثالية (من 12 إلى 15 سنة).

وتتسم كل مرحلة بعدد من الخصائص، وترتبط بنمو خيال الطفل وأسلوب تعامله مع الأدب الخاص به([15]). ويحتاج الطفل في كل مرحلة فيها إلى أسلوب لغوي معين، ترتقي كتبه وقصصه وأشعاره وكل الأساليب الفنية المقدمة إليه مع تطور مراحل حياته المختلفة؛ مما فما يصلح المرحلة البطولية قد لا يناسب مرحلة المثالية، وما يناسب مرحلة الواقعية والخيال المحدود؛ يعتبر ساذجاً للمرحلة المثالية، أو ما يعرف بمرحلة اليقظة الجنسية.. وهكذا.

 

ماهية أدب الأطفال:

ترتبط كلمة أدب بالأخلاق والتربية، وعندما يقال: إنسان مؤدب؛ فهو بالتأكيد نقيض الإنسان صاحب الصفات المحترمة، والأدب كما عرَّفه القدماء "هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف"([16]).

 

أي كان الأدب عندهم بمعنى الثقافة، أما الأدب بمفهومه الفني الحديث فإنه "يختلف عن مفاهيم عديدة التصقت به عبر تاريخ الأدب العربي، لغة واصطلاحاً، مثل معاني التأديب والمأدبة وتهذيب الخصال وإصلاح السلوك واكتساب العادات الحميدة، وهو في النهاية مجال تعبيري مكتوب، له فنونه النثرية والشعرية، مجال رحب محبب إلى النفوس ويستأثر بالقلوب، ويستهدف تنمية الوعي والشعور والأحاسيس، وهو مع ذلك كله علم من العلوم الرئيسة التي لا غنى عنها في كل أمة في أعز ما لديها؛ اللغة وآدابها، وما يدور حولها من تأصيل وتحديث أو توجه" ([17]).

 

وأدب الأطفال يشبه أدب الكبار مع مراعاة حالة المستقبلين الأطفال ومستوياتهم الفكرية والنفسية، ولكنَّ "أدبَ الأطفال وإن اعتبرناه رافداً للأدب بعامة، إلا أنَّ له شخصيته وهويته، ورغم اتفاقه مع أدب الكبار في المبادئ العامة، إلا أنه يملك مقاييس جمالية خاصة".([18]) ، وهذا ما قد يجعله متفرداً في ذاته، وله مكانته العلمية المتجددة.

 

وبمطالعة عدد من التعريفات التي قدمتها الكتب والأبحاث التي عالجت "أدب الأطفال"؛ نجد في معانيها اتفاقاً، وفي ألفاظها بعض الاختلاف، وهو على العموم: "ذلك العمل الفني الإبداعي المكتوب أصلاً للأطفال حسب سنهم وخبراتهم، وكونه موجهاً للأطفال لا يحول دون تمتع النص بكفاءة فنية؛ متمثلة في جمال الأسلوب وسمو الفكرة، فثمة أعمال أدبية أنشئت في الأصل للصغار وأقبل عليها الكبار بمزيد من الدهشة والانبهار"([19]).

 

ويرى بعض الباحثين([20])، أنَّ أدب الأطفال بمعناه العام يعني الإنتاج العقلي المدوَّن في كتب موجهة لهؤلاء الأطفال في شتى فروع المعرفة، وبمعناه الخاص يعني الكلام الجيد الذي يحدث في نفوس الأطفال متعة فنية، سواء أكان شعراً أوم نثراً، وسواء أكان شفوياً بالكلام، أم تحريرياً بالكتابة.

 

وفي الغرب هناك من يرى أن أدب الأطفال لا يقتصر على الألوان الأدبية فقط، بل يتسع ليشمل ألوانا أخرى متعددة، وأن أدب الأطفال "مجموعة الكتابات التي يعتبرها الأطفال خاصة بهم، ولذلك فهو يضم كتب الأطفال بأنواعها المختلفة ومجلاتهم وصحفهم وما يكتب لهم في صحف الكبار ومجلاتهم، وغير ذلك"([21])،ويؤيد ذلك قولهم: إن أدب الأطفال "تصوير للحياة والفكر باستخدام اللغة على أن يكون ذلك بما يناسب مستوى الأطفال، وبذلك يحتوي على جميع ما يكتب للأطفال في مختلف المجالات"([22])، كما إن "أدب الأطفال هو كل ما يقرأه الأطفال بشرط أن يكون مناسبا لفهمهم وخبراتهم وانفعالاتهم"([23]).

 

 فالأطفال يختلفون عن الكبار في مستوى عرض النص وليس في مضمونه، وكذلك أدبهم، فهو يختلف عن أدب الكبار في المستوى لا في المضمون، ولذلك فإنه يمكن أن يعالج العديد من القضايا التي يعالجها أدب الكبر، وليست هناك أية حدود أو شروط سوى أن يكون هذا الأدب ملائما لمستوى الصغار"([24]).

وقد حدد أحد المتخصصين في أدب الأطفال مجموعة من الأهداف التي يؤديها هذا الأدب([25])؛ منها أنه يساعد في توفير أسباب النمو السليم المتكامل للأطفال وإعدادهم لتحمل المسؤولية مستقبلاً، وتعويدهم على النقد الهادف البناء، وزيادة معرفتهم، وتكوين الذوق الأدبي والفني لديهم، وتمكينهم في تقييم المجمال، والمساهمة في كشف هواياتهم وتنميتها.

 

ويحدده آخرون بأنه "كل خبرة لغوية، لها شكل فني، ممتعة وسارة، يمر بها الطفل ويتفاعل معها، فتساعده على إرهاف حسه الفني، والسمو بذوقه الأدبي ونموه المتكامل، فتسهم بذلك في بناء شخصيته وتحديد هويته وتعليمه فن الحياة". ([26]).

وهذه الأهداف، التي يمكن لأدب الأطفال الاضطلاع بها، قد لا تكون بالتأكيد كلها مجتمعة في عمل فني واحد، قد يكون واحد منها، أو بعضها، أو مجموعة منها، ولا تكون مباشرة، لأن العمل الأدبي يختلف عن العمل التعليمي،  -وإن اتفقنا على سمو العمل التعليمي، - منفهما يتفقان على الأهداف والغايات ويختلفان في الأسلوب، فأدب الأطفال ليس "سلسلة نلقي بها دون وعي كرة تخصصات العلوم الإنسانية أو الوسائط الفنية والإعلامية" ([27]). بل هو أولاً عمل فني ذوقي خيالي تجتمع فيه الأصول الأدبية المختلفة لتحقيق الأهداف.

 

كامل كيلاني.. حياته وثقافته:

أثار كامل كيلاني – ولم يزل- اهتمام الباحثين في التاريخ الأدبي المعاصر، وخصوصاً في الفترة الأدبية الخصبة التي قدر لـه العيش فيها مع مطلع القرن الماضي إلى العقد السادس منه، ومعايشته لكل الأحداث السياسية والأدبية والشعبية، ابتداءً من سقوط الدولة العثمانية، ومشاهداته للأحداث التي سادت خلال الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية، وما تخللهما من ثورة مصرية شهيرة علىن  الاحتلال الإنكليزي في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، وصولاً إلى ثورة الضباط الأحرار وسقوط الملكية في وطنه مصر ومن قبلها سقوط فلسطين والقدس بأيدي الغزاة. .

وفي هذه الأجواء المحتشدة، نشأ كامل كيلاني إبراهيم كيلاني "في شرق القاهرة، وفي حيّ القلعة الذي يتميز عن غيره بعطر التاريخ والآثار والمساجد الإسلامية الشهيرة.." ([28])، فقد ولد في "العشرين من شهر أكتوبر سنة (1897م)". ([29]).

وقضى الكيلاني طفولته في الحارات المصرية القديمة، في منزل يحب العلم والثقافة، في عائلة صغيرة، لديها مشكلاتها وخصوصياتها شأنها شأن العائلات المماثلة، إلى جانب إحساس بنبوغ مبكر، وإرهاصات هيأت لهذا الرجل نوافذ ومقومات، جعلته فيما بعد ينال عشرات الألقاب منحه إياها عدد كبير من الأدباء والشعراء والكتاب وكبار المسؤولين السياسيين. ([30]).

 

ودرس الكيلاني الثانوية في "مدرسة القاهرة" التي نال منها شهادة الثانوية، وعكف أثناء ذلك على دراسة الأدب الإنكليزي، ثم تعلم اللغة الفرنسية، ثم انتسب إلى الجامعة المصرية (1917– 1920م)، وكان متفوقاً في دراسته.

 

وبعد أن تخرج في الجامعة عمل مدرساً لللغة الإنكليزية والترجمة، فقد أتقنها الإنكليزية وكما أتقن الفرنسية وعرف مبادئ الإيطالية، وكانت بداية عمله في المدرسة التحضيرية، ثم نقل إلى مدرسة الأقباط الثانوية بدمنهور، وفي عام (1922م)، انتقل للعمل في وزارة الأوقاف، وظل فيها حتى يناير (1954م)، وكان آخر منصب شغله بالوزارة؛ منصب سكرتير مجلس الأوقاف الأعلى.

 

قصص الكيلاني:

قسم الكيلاني قصصه إلى أربع مراحل عمرية وهي:

أ- مرحلة رياض الأطفال.

ب- مرحلة الطفولة المتوسطة.

ج- مرحلة الطفولة المتأخرة.

د- المرحلة الثانوية ([31]).

 

ويذكر الباحثون أن للكيلاني "ألْف قصة" ([32]) للأطفال، لكننا لم نعثر على هذه الألف المذكورة، فيما ذُكر أنه طبع حوالي المئتين منها، وقد قام أحد الباحثين بإعداد قائمة لإنتاجه الفكري في مجال أدب الأطفال، فبلغت في مجموعها مائة وستاً وتسعين قصة ([33]).  

 

وقد صنَّف الباحثون قصصه بناءً على تصنيف الكيلاني نفسه، تحت (17) مجموعة وهي قصص:

1- رياض الأطفال.

2- حكايات الأطفال.

3- فكاهية، .

4- من ألف ليلة وليلة.

5- قالت شهرزاد.

6- جحا.

7- هندية.

8- عملمية.

9- تمثيلية.

10- شكسبير.

11- عربية.

12- مختارة.

13- أساطير العالم.

14- عجائب القصص.

15- جغرافية.

16 - من حياة الرسول.

17- الجيب.

 

ولعل نشأة الكيلاني -التي ذكرناها في الفصل السابق نبذاً منها- شكَّلت ثقافته ومصادره([34])،  وقرر كثير من الباحثين([35]) أن نشأته في بيئة تهتم بالثقافة والأدب كانت العامل الأول الموجه والمغذي لموهبته. 

 

 

منهج الكيلاني في قصصه:

حرص كامل كيلاني في بعض قصصه على وضع مقدمات متنوعة (*)؛ يشرح فيها جوانب أساسية تتعلق بمضمون القصة نفسها، أو السلسلة التي تتضمنها، أو يتحدث عن رؤيته لفن الكتابة للأطفال، ومنهجه في ذلك، وأي دارس للكيلاني وأدبه ومنهجه لا يستطيع تجاوز هذه المقدمات لأهميتها الشديدة في كشف فكر المؤلف ودوافع التأليف عنده ..، كونها نتاج خبرته، يكتبها بنفسه، وهو الأقدر على الإفصاح عما يريد من أدب الأطفال، وبخاصة أنه التزم بوضع مقدمات، على خلاف كثير من الأدباء الذين يكتبون للأطفال، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة بعد الاطلاع على نماذج عشوائية لقصص الأطفال العربية والأجنبية، حيث يندر وجود مقدمات فيها، وقد تصل النسبة إلى حدِّها الأدنى، لأسباب تتمحور حول أن الطفل يسعى لقراءة القصة مباشرة دون الوقوف عند هذه المقدمات، وفيما نجد مقدمات تتوجه إلى الراشدين، نرى الكيلاني يوجه خطابه للطفل؛ فيكرر العبارات التالية: أيها الطفل العزيز([36])، أيها الصبي العزيز([37])، ولدي مصطفى([38])، أيها القارئ الصغير([39])، ولدي رشاد([40])..

 

وفي كل مقدماته، يوجه كامل كيلاني خطابه مباشرة إمّا إلى ابنه مصطفى أو ابنه رشاد أو إلى طفل مفترض، ويحرص على أن يكون رقيقاً في ألفاظه، رفيقاً في تعبيراته، مفسراً لكلمات جديدة يرى أنها تحمل غموضاً أو أنها لا تتناسب مع قدراته اللغوية، فيشرحها بكلمات بسيطة، لأنه كما يقول: "حريص على تسهيل القراءة ليبهج القارئ ويمتعه من غير عناء"([41]).

 

وتمتاز مطالع المقدمات بأسلوب مباشر يستهدف جذب اهتمام الطفل، ودفعه لقراءة المقدمة قبل قراءة القصة نفسها، وتمتاز أيضاً بنوع من التحفيز المثير لعواطف الطفل وحواسه الإدراكية الواعية، فيقول مثلاً: هذه مجموعة مختارة ([42])- قرأت الرحلتين ([43])- أنت تحب القصص ([44])- شد ما آلمني وأحزنني([45]) - يسرني أن أهدي إليك([46]) - لقد أعجبك هذا اللون المشرق([47]) - حديثي إليك في هذه المقدمة حديث طويل([48]).

 

ويوزع المؤلف أهدافه التربوية البنائية والأسلوبية في كل المقدمات التي وضعها في مجموعة من قصصه للأطفال، ويمكن تصنيفها في منظومة متكاملة من الأهداف، متفرقة في شكلها متحدة في مضمونها، وذلك على النحو الآتي:

 

أولاً: الأهداف الفكرية:

يذكر كامل كيلاني أنه اختار بعض القصص لأنها من روائع التفكير العربي([49])، وتحوي أصالة في هذا التفكير([50])، تزيد من ثقافة الطفل الفكرية([51])، وتنظم تفكيره([52])، فلا يصطدم مع الأفكار القويمة([53])، وتبين لـه سمو الفكر العربي([54]).

ويرفض الكيلاني القول بأن بعض ما يقدمه "لا يلائم مدارك الصبي العادي، وربما عجز الشاب والفتى عن إدراك معانيها واستيعاب مراميها"([55])، لأنه يثق بذكاء الطفل ودقة فهمه([56])، وبخاصة الطفل الذي نشأ على قصصه منذ البدء، لأنه برأيه تقدَّم على غيره من الأطفال الذين تنكبوا طريقه([57])، فهو يريه "ألوان التفكير في الأمم"([58]), "ليطيل الروية، ويديم الفكر والتأمل فيما يقرأ، ويحسن الفهم، حتى يتوضح أمامه مغزاها العميق، ويتجلى لـه مرادها الدقيق وهدفها المجيد ومرماها البعيد"([59])، "ليجد من العظات ما ينير طريق الحياة ويكشف لـه أخلاق الناس وحقائقهم المستورة عنه"([60]).

 

ثانياً: الأهداف المعرفية العلمية:

يوضح الكيلاني أنه وضع برنامجاً لثقافة الطفل، أسماه "برنامج الدستور الجامع"([61])، ويشير إلى أنه بدأ البرنامج بالتسلية، ثم تدرج بعد ذلك خطوات، فمزج التسلية بالفائدة، فما زال بالطفل حتى أصبح يرى في المعارف وحدها متعة وتسلية لا يَعدِلها شيء من ضروب المتع وأفانين التسلية، ثم سار بالطفل مرحلة جديدة([62]) بعدما رآه يقبل على مكتبته "إقبال الظامئ العطشان على الماء"([63]).

وقد أفصح الكيلاني عن فكرته في تطور المعرفة والثقافة عند الطفل، بقولـه: إن رجلاً ذاعت شهرته في الآفاق وملأ صيته الدنيا.. كان يرفع بيديه ثوراً ضخم الجثة، ثم يحمله صاعداً به سلماً عالياً، وهابطاً من السلم، دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب أو أمارات الجهد، وقد حار الناس في تعليل هذه القدرة العجيبة، وذهبت ظنونهم في تأويلها كل مذهب، فلما سئل في ذلك أجاب مبتسماً: لقد تعودت حمل هذا الثور منذ ولادته، وأخذت نفسي بهذا التمرين دون أن أقصر في أدائه يوماً واحداً، وظللت أحمل الثور في كل صباح، صاعداً السلم العالي، وهابطاً به من حيث أصعد، وما زلت أكبر ويكبر الثور معي، وكان نموّنا في كل يوم يزداد زيادة بطيئة مطردة دائماً، حتى اكتمل نماؤنا، ولم أشعر أن وزن الثور قد زاد يوماً عما كان عليه في سابقه ولم أحس له ثقلاً إلى اليوم([64]).

 

ثالثاً: الأهداف التربوية الأخلاقية:

يؤكد الكيلاني أنَّ في قصصه عبراً يمكن للمعلم أن يستخلصها بسهولة لتلاميذه([65])، وهو يرى أنّ الهدف التربوي هو الأهم، فكل والد حريص على تربية أطفاله وفائدتهم، ويكابد مثلما يكابد الكيلاني، ويلقى من الحرج مثلما يلقى، فكان ذلك أقوى حافز له على الاضطلاع بحمل هذا العبء، وأكبر مشجع لـه للمضي في هذا الطريق بلا تردد([66]).

من أجل ذلك لقي تأييداً من كبار رجال التربية والمدرسين والآباء([67])، فهو يسعى إلى أن يشرح للطفل دقائق الحياة وأسرار النفوس لتستنير لـه السبل فيمشي على هدى([68]). ويريد أن يريه عاقبة الحسد، ومغبة الحقد، وآخرة الغدر، وكيف تنتهي هذه الخلال بالوبال على أصحابها وتنزلهم من أسمى درجات المجد إلى أحط دركات المهانة والشقاء وأسفل منازل الهوان، ويسعى إلى أن يُري الطفل مصداق هذا، ويعِّرفُهُ كيف ينتصر الحق آخر الأمر، ويخفق علمه، ثم يلقى الآثمون ما هم أهل لـه من العقاب والتنكيل، جزاءً وفاقاً لما اقترفوه من الإثم وارتكبوه من عدوان؟([69]). وهو يدعو إلى عدم الاستهانة بما تفرضه الأخلاق الفاضلة من أدب الخطاب وما إليه([70])، ويطالب بقصص "لا تصطدم والأخلاق الفاضلة القويمة"([71])، ويرى ذلك بمثابة "الحمل والثقل"([72])، ولعلَّ دافعه الأول للكتابة: الأهداف التربوية الأخلاقية، فقد كان يعتبر أن مؤلفي "كثير من القصص قد أسفّوا إسفافاً شديداً، لا يعدله إلا إسفافهم في لغتها وأسلوبها، وقد كتبوها لجمهرة العامة، فلم يراعوا فيها أي اعتبار أخلاقي ولم يتورعوا عن خوض كل موضوع"([73]) .

 

رابعاً: الأهداف اللغوية:

يعلن الكيلاني صراحة أن قصصه تكسب القارئ الصغير قدرة في البيان وتمكناً من فن الإنشاء([74])، وزيادة في الثقافة اللغوية([75])، ويرى أن خير ما يقوم به المدرس لتقوية الطالب المبتدئ في الإنشاء، أن يتخذ من القصص المشوقة وسيلة إلى المحادثات باللغة العربية، ولذلك فقد صاغ قصصه صياغة عربية، أصيلة في العروبة، لا تشوبها لكنة ولا تخالطها عجمة، ولا تفسدها تلك العامية التي يرى أنها متفشية في أغلب القصص التي يحاول بعض المنشئين تقديمها للطفل([76]).

 

خامساً: الأهداف الذوقية:

حرص الكيلاني أن تلتئم قصصه مع أذواق الأطفال([77])، فكان يختار أحسن القصص وأكثرها روعة وجمالاً ويدأب على الروية والتمهل والتدبر في صوغها وتنسيقها([78]) بأسلوب قصصي جذاب([79])، وأجمل صورة بيانية تلبس ثوباً أخاذاً([80]). وكان يبذل كل ما في وسعه لتكون قصصه نواةً صالحة لتثقيف الأطفال وتهيئة أذهانهم لتذُّوق الأدب العربي الزاخر وفهم أسلوبه العالي([81])، وقد كان يرفض البيان الركيك الضعيف، والألفاظ السوقية المستهجنة والمبتذلة المعيبة، والأسلوب الذي يجمع إلى ضعف التركيب؛ تفاهة المعنى والتواء التعبير([82])، فهو يسعى ليعجب الطفل بالقصص([83]).فالكيلاني يريد أن يحمي الجيل الجديد من البيان المشوّه المضطرب([84])، ومن الأساليب القصصية الركيكة والعبارات السقيمة، والأسلوب السوقي العامّي النازل الطبقة، الذي يزحم الأدمغة ويفسد الأسلوب([85]). من أجل ذلك فإنَّه يصوغ قصصاً أصيلة في العروبة لا تشوبها لكنة ولا تخالطها عجمة([86]).

 

سادساً:  الأهداف الترفيهية:

رأى الكيلاني ضرورة تسهيل القراءة ليبهج الطفل ويمتعه من غير أن يكلفه أي عناء([87])، ولكي يبعد الطفل عن العقبات المضجرة والمتاعب المملة([88])؛ ضمَّن قصصه كثيراً من الطرائف([89])، والمتع العقلية([90])، موجباً على نفسه تسلية الطفل([91])، بأبدع تسلية([92])، وبهجة([93])، ومتعة([94])، وسرور([95])، ليستفيد منها في مستقبل أيامه السعيدة([96])، ويستوعب طرفها المستملحة([97]).

 

شعر الكيلاني جزء من منهجه:

قيل للكيلاني يوماً([98]): إن كثيراً من أبناء الجيل الحاضر لا يعرفون أنه شاعر وأن له شعراً يستحق أن ينشر ويذاع على الناس، وإن كثيراً من أصدقائه ومحبي شعره قد سبق وطالبوه بنشر ديوانه لكنه لم يفعل، فلماذا؟ فأجاب: "إنني لا أؤمن بأنّ هذا الشعر يستحق النشر أو الجمع في ديوان، وكما قلت للذين أرغموني على فضل تكريمهم لي: أنا القصير.. ماكر لا ينخدع، كما تقول الأمثال، فلا سبيل إلى خداعي؛ فأنا أعرف الناس بقيمتي وأجدرهم بفهم حقيقتي، والواقع أن لي شعراً كثيراً، لو جُمع لملأ خمسة دواوين لا ديواناً واحداً، وكثير من هذا الشعر قد نشرته الصحف أو المجلات إبان إنشائه، وجميع الأشعار الموجودة في قصص الأطفال من شعري(*)، وقد ظللت سنتين في عهد الثورة المصرية الأولى (ثورة 1919م) أكتب قصيدة كل يوم تقريباً، وقد أُحرق كثير من هذا الشعر بسبب حملات التفتيش الباغية في ذلك العهد.

وذكر كثير من الباحثين أن "للكيلاني شعراً لم يظهر في صحيفة ولم يثبت في كتاب، ولكن ذاع صيته في الأندية الأدبية سريعاً سريعاً، كما تنتشر البشرى سريعاً سريعاً، فأصبح شعره حديث تلك الأندية، وأصبح المتأدبون بين رواة عنه أو رواة منه، على أنه يهرب من وصفه بالشاعرية هروب فاعل الخير من ذكر اسمه، ولكن الشاعرية تكمن في شعره كمون الري في الماء، والبرء في الدواء، بل الطرب في الكأس، ولقد لج هو في إنكار معنى الاعتراف، فلا يقول: لستُ بشاعر إلا قيل له: أجل، أسمعنا من شعرك أيها الشاعر، وسواء أنكر أنه شاعر أم لم ينكر، فشعره -بلا شك- صفحة تضاف إلى أنفس صفحات الشعر العصري، ففي سواد مدادها من بياض المعاني ما في سواد العيون من ضياء ونور.."([99])، كما يروون.

 

ولقد وصفوه بأن من أهم مزاياه "شاعريته الموهوبة التي تحلق في سماء الخلود والعبقرية.. ومن نواحي شاعريته الخصبة ما يبدعه من المحفوظات البديعة الساحرة في حكايات الأطفال، والقصص الجغرافية، والقصص العلمية، وما إليها من آثاره التي خصَّ بها مكتبة الأطفال"([100]).

 

 

فقد كان الكيلاني لا يكتفي بتقديم القصص للطفل "بل يعطيه زيادة على ذلك في نهاية كل قصة؛ قطعة من الشعر، غاية في السهولة والجمال، ليترنم بها في غدواته وروحاته، فكأن المؤلف يريد أن يملك على الطفل كل وقته، وأن يغذي نفسه حتى في أوقات لهوه ولعبه.. فيعطيه قطعة من الشعر، غاية في الجمال والعذوبة، تحمل من المعاني ما تسمو به نفس الطفل وتتسع مداركه"([101]).

ويتسع المجال في الحديث عن شعر الكيلاني وأغانيه وأناشيده التي ملأت قصصه، وسوف نتناول بعضاً منها في الجانب التطبيقي، حيث يتضح خطه ومنهجه وأسلوبه الشعري المتصل تماماً في خطه ومنهجه وأسلوبه القصصي، ومن الخطأ أن نفصل الأناشيد عن القصص التي وردت فيها، لأننا لاحظنا اتصالها شبه الكامل بها، وحتى تلك المحفوظات التي أوردها في نهاية بعض القصص تعتبر مكملة لها وإن كان يمكن قراءتها بمعزل عنها.

 

ومما لا شك فيه أنّ كامل كيلاني كان متميزاً في شعره للأطفال كما تميز في قصصه المتنوعة،وهو يستخدم الحيوانات أحياناً كشخوص لقصائده القصصية أو الحوارية، على غرار كثير من قصصه السردية والحوارية، فهو "ينطلق في مضامين قصصه من إيمانه بفكرة التماثل أو التناظر بين عالم البشر وعالم الحيوان، ويتخذ من مواقف الحيوانات والطيور رموزاً لما يحدث في عالم البشر. ومع ذلك فإن العبرة أو العظة ليست مقصده أو غايته الوحيدة، فهو يهدف إلى توعية الأطفال بسلوكيات معينة مثل الالتزام بالنظام أو التعاون أو بث القيم الخلقية النبيلة، فيعمد إلى عالم الحيوانات الأثير عند الأطفال فيستحضر المثال أو النموذج"([102])، ومنها قوله:

قد حدثنا أقدم الأمثالِ   بقصة تروى عن العصفورِ

فرخَ غراب    مشرفاً على التلفِ

فيما مضى من الزمان الخالي  أبصرَ في وكر من الوكورِ

فقال للفرخ "اطمئن لا تخف"([103])

 

 

الفصل الأول

المحاور الموضوعاتية في قصص الكيلاني

 

- مقدمة

الكيلاني يحدد أسلوبه

- المحاور الموضوعاتية 

- بساطة اللغة في سلامتها

- تكرار اللفظ

- البناء النفسي

 

الفصل الأول

المحاور الموضوعاتية في قصص الكيلاني

مقدمة:

يُعتبر الأسلوب "المرآة الحقيقية إزاء عملية التعبير، بوصفها دالة على الشخصية ومعياراً لها"([104])، وهو في الأصل([105]) السطرُ من النخيل وكل طريق ممتد، والوَجْهُ والمَذْهَبُ والفَنُّ وأَفَانينُ القَوْلِ، وقيل: إنَّ معنى الكلمة في الأصل اللاتيني هو "القلم"([106]).

ويرى الباحثون أننا "إذا عُدنا إلى القواميس فسنرى أنها تقترح علينا ما لا يقل عن (20) تعريفاً لهذه الكلمة، يذهب أهمها من طريقة التعبير عن الفكر إلى طريقة العيش، مروراً بالطريقة الخاصة لكاتب من الكتاب، أو لفنان، أو لفن، أو لثقافة، أو لجنس، أو لعصر. فالأسلوب يعرف ضمن حدوده بالسِّمة الخاصة لفعل من الأفعال، ويمكن أن نتصور –كما يرى هؤلاء- الأسلوبية العامة: دراسة للعلاقات بين الشكل وبين مجموع الأسباب الإخبارية"([107]). والأسلوب بالمفهوم البسيط وبعبارة مختصرة: "طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة"([108]).

فهو "وجه بسيط للملفوظ تارة، وهو فنٌّ واعٍ من فنون الكاتب تارة أخرى، وهو تعبير عن طبيعة الإنسان تارة ثالثة، ولذا فهو يتعدى دائماً الحدود التي يدعى بأنه انغلق عليها"([109]). وهو أيضاً "الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني، أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار، وعرض الخيال، أو هو العبارات اللفظية المنسقة لأداء المعاني"([110]).

وعلى ذلك، فإنّ الأسلوب رغم تعدد تعريفاته هو صورة تمثل طريقة التعبير الخاصة لدى الكاتب، المميزة لـه عن غيره، وهو نمط كتابي خاص يسير عليه المؤلف ويتعدى الشكل السردي إلى الشكل الفني والمحتوى والتركيب، ولعل اختلاف الباحثين في وضع تعريف موحد يعود لاتساع معنى الكلمة وأهميتها وربما غموضها في وقت واحد. ويقصد بالأسلوب هنا طريقة المؤلف في وضع قصصه ومميزاتها وخصائصها من حيث الشكل والمضمون.

 

 

الكيلاني يحدد أسلوبه:

لم يكن كامل كيلاني يسلك طريقه دون هدف، ولم يترك قلمه يسير على غير هدى، بل كان منذ أن قرر خوض غمار الكتابة للطفل، يسعى لاكتناه الطفولة وسبر خباياها، والتعاطي معها ليس على أساس أنّ الطفل مجرد وعاء نلقي فيه ما نشاء؛ بل من خلال إدراك واعٍ للطفولة وخصائصها واحتياجاتها وتنوعها..

والكيلاني لم يترك الباب مفتوحاً للتأويل، بل خطَّ لنفسه منذ البدء أسلوباً مميزاً، جعله يمثل هذه العلامة الفارقة، وينال تقدير النقاد في عصره، ويُسجل كرائد لأدب الأطفال في مصر والعالم العربي.

وليس عسيراً على الباحث في تراث الكيلاني أن يميِّز الملامح الكيلانية الخاصة، وأن يجسِّدها في إطار آرائه التي سطَّرها بنفسه، ليريح الباحثين من جهة، وليقدم للأدباء المتخصصين بأدب الطفل من بعده طريقاً واضحة تسهِّل لهم الصعاب، وتبين لهم الأفضل الذي رآه يتواءم ويتوافق مع عالم الطفولة.

وتشير معظم المصادر التي تناولت أدب الطفل عند الكيلاني إلى قصة –أو أسطورة- واحدة اعتبرها منهجاً لأسلوبه، حيث "بلور تصوراته الأساسية في الكتابة للطفل من خلال هذه القصة"([111])، التي وردت أساساً في مقدمة إحدى قصصه([112])، ثم تناقلها الباحثون لأهميتها في تحديد الأسلوب الكيلاني، وقد علق الكيلاني على هذه القصة في بعض كتاباته وأحاديثه([113])، التي يمكن من خلالها التوصل إلى جملة من المسائل التي تحقق هذا الأسلوب وتوضحه.

تقول القصة (أو الأسطورة) كما رواها الكيلاني([114]): إن ثلاثة أمراء، أشقاء، خرجوا يتنافسون في مهر بنت عمهم السلطان، بعد أن تواعدوا على الاجتماع في مكان بعينه ليروا من يظفر بأنفس هدية للأميرة، فلما التقوا كشف أحدهم أنه ظفر بمنظار سحري يرى فيه الناظر كل ما يدور بخلده ولو كان في أقاصي الدنيا، أمّا ثانيهم فقط ظفر ببساط سحري، يحمل راكبه محلقاً به في الأجواء، فيبلغه غايته في لحظات يسيرة. بينما ظفر ثالثهم بتفاحة شافية تبرئ من السم وتعيد الحياة إلى من أشرف على التلف. ونظروا في المنظار فرأوا الأميرة على فراش الموت تحتضر، فإذا بهم عندها في الحال بواسطة البساط السحري، وأدنوا التفاحة منها فشفيت على الفور، وحاولوا أن يعرفوا أيهم صاحب الفضل في شفائها؛ فلم يهتدوا إليه.

ويعتبر الكيلاني أن في هذه القصة مثلاً دقيقاً يوضح ما يجب على من يتصدى للكتابة للأطفال. ويضع لذلك جملة من الملاحظات:

أولاً: تحبيب الكتاب للطفل يظفره بالمنظار السحري.

ثانياً: الأسلوب القصصي الساحر هو بساط الريح الذي ينقل القارئ إلى أبعد الآفاق الفكرية، على أجنحة الخيال البديع، محلقة في سماء الحقيقة دون أن يلحق به كلال ولا جهد.

ثالثاً: التفاحة الشافية تتمثل فيما تتركه القراءة من آثار نفسية رائعة تشفي من سموم الجهالة، وتبرئ من النزعات العارمة التي تقذف بصاحبها إلى الهلاك.

 

وبذلك يقرر: أن تحبيب الكتاب، وتخيّر الأسلوب الصالح، وتثبيت الفضائل في نفس الطفل؛ هي الأهداف الثلاثة التي ترمي إليها تربية الأطفال بالقصص، ولا بد من اجتماعها لبلوغ الغاية المرجوة، كما اجتمعت هدايا الأمراء لشفاء الأميرة.

ولا يلقي الكيلاني كلامه دون وضع آلية محددة دقيقة للتعامل مع الأدب القصصي الخاص بالطفل، حيث يعتبر القصة أداة للتربية على وجه الخصوص، ويرى الكاتب مربياً قبل أن يكون أديباً، فهو ينتهج أسلوباً قائماً على توضيح حقيقة الحياة للأطفال، ولذا فإنه كان حريصاً على تجنيبهم الأخطاء المعنوية، وقد عُني بتنشئتهم في إطار أسلوب تربوي معين، فهو يعتقد أن على طالب الإصلاح تعبيد الطريق، فالمهندس يُعنى أولاً بمتانة الأساس، والطفل عنده أساس الأمة، وما يراه الطفل في بدء حياته من انتصار للخير دائماً؛ يصيبه بصدمة عندما يكتشف في صباه الخديعة، ولهذا وضع الكيلاني الشَّر بجوار الخير، مصوِّراً الصراع بينهما…، وفلسفته في ذلك ليغرس في أنفس الأطفال حقيقة الواقع، وأن النصر للخيّرين الشرفاء والهزيمة للأشرار الأغبياء.

هذا الواقع الذي آمن به الكيلاني، يقودنا إلى مسائل هامة، أرخت بظلالها على الأسلوب الكيلاني حتى غدا أسلوبه روح أهدافه، وغدت أهدافه روح أسلوبه(*)، ومن العسير حقيقة الفصل ما بين الكاتب وأسلوبه، فالأسلوب هو الرجل نفسه كما يقول عالم اللغة الفرنسي بوفون Buffon (1707م– 1788م)([115]).

 

المحاور الموضوعاتية:

قدم الكيلاني في نصوص متفرقة؛ خطوات عملية، وخطاً واضحاً محدداً للشكل والمضمون في الأسلوب الذي يرتئيه، من الظاهر إلى الباطن، ومن الإطار إلى الجوهر، وقد سارت خطته على خطين رئيسيين:

أولهماً: محاور تحدد القالب أو الهيئة التي يستقبل الطفل ويتلقى فيها قصته.

وثانيهما: محاور تحدد الأشكال المضمونية العامة للقصة.

ونجد في المحورين تداخلاً واضحاً، حيث تتوزع الموضوعات على الشكل التالي:

 

- تسلية، متعة، ترفيه.

- فصحى سليمة والارتقاء بالطفل لغوياً بالتدرج وتعويده على المضمون اللغوي الفصيح.

- النطق السليم للألفاظ والعبارات واستخدام ألفاظ قليلة تتكرر في الأسطر والصفحات.

- تخير الأسلوب الواضح والسهل البسيط الذي يحبب الكتاب للطفل.

- تجنب البيان المشوّه (العامية).

- الإكثار من الصور الجاذبة.

- تجنيب الطفل الخطأ المعنوي وتثبيت الفضائل والمعاني الحميدة.

- التركيز على الآثار النفسية التي تبرئ الطفل من النزعات وتشفيه من سموم الجاهلية.

- نزع الملل وتبسيط المعنى في الأسلوب.

- مراعاة سن الطفل ورغباته والنزول إلى مستوى مداركه.  

 

ولا يسرع الكيلاني لتحقيق كل ذلك دفعة واحدة، بل شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال، "ليجعل المربي همه في قصصه؛ قصة الرجل الذي يحمل الثور صاعداً وهابطاً دون أن يبدو عليه شيء من آثار التعب، فلما سُئل أجاب: تعوّدت حمل الثور منذ ولادته، وما زلت أكبر ويكبر ويزداد نمواً كل يوم زيادة قليلة، ولم أشعر بازدياد وزن الثور ولم أحسّ له ثقلاً حتى اليوم"([116]). ولا يخفى ما تهدف إليه القصة من تدرّج مطلوب ينقل الطفل خطوة خطوة ليصل في النهاية إلى تشييد البناء الشامخ من حيث الشكل و المضمون، فالإنسان بطبعه يحتاج إلى من يرشده في طفولته ويقوده بسلام وسكينة نحو حياة أفضل بكل ما فيها من نجاح وتألق.

وقد تحدثنا سابقاً عن الجانب الترفيهي، ويستمر هنا الحديث عنه كونه ركيزة هامة في أسلوب الكيلاني، حيث يقدم للأطفال "قصصاً خفيفة ظريفة"([117]). ولا يمضي الكيلاني بعيداً دون أن يشرح مقصده، بل إنه يضع منظومة متكاملة، شكلاً ومحتوى، تجعل عناصر القصة خادماً للترفيه عن الطفل، بل يدعو القاص المربي إلى "أن يبدأ بتسلية الطفل متدرجاً به كل يوم تدرجاً بطيئاً، لا يكاد يشعر أن لـه أثراً (*)، مستعيناً على ذلك: بالصور الملونة الجاذبة، والشكل الكامل، والألفاظ السهلة، حتى إذا اطمأن إلى الأسلوب السهل، وامتلأت نفسه ثقة بقدرة الطفل على القراءة، انتقل به إلى المرحلة التالية، فمزج لـه التسلية بالفائدة، ثم عليه أن ينتقل به خطوة بعد خطوة، حتى يرى في فنون المعرفة وحدها متعة وتسلية لا يعدلها شيء من فنون المتع وضروب التسلية"([118]). ساعياً من وراء هذا الجانب إلى "تحبيب الكتاب" لقلوب الأطفال.

ونستنتج هنا جملةً المضامين الشكلية يسعى الكيلاني إلى إثباتها، وقد يكون بعضها من مهمة الناشر أكثر من المؤلف، ومع ذلك كان الكيلاني مهتما بالتفاصيل، ومنها:

1- الصور الملونة الجاذبة.

2- الشكل الكامل.

3- الألفاظ السهلة المكررة.

4- الأسلوب السهل.

5- مزج التسلية بالفائدة.

6- التدرج بالطفل ليعشق القراءة وتصبح عادة ممتعة، لتظهر عليه بعد ذلك علامات الفصاحة.

7- الارتقاء بالطفل بأسلوب سهل بسيط يبعد عنه الملل والسأم.

 

ونجد من خلال تتبع قصص الكيلاني أنه حرص في معظمها على الفكاهة والبساطة، بل قدم سلسلة حكايات فكاهية([119]). وقد انطوت فكاهة الكيلاني على عناصر سارة ومشوقة ، إلى جانب الملابسات الباعثة على الضحك، "وإذا كان اللهو واللاواقعية من أخص خصائص العقول الصغيرة غير الناضجة؛ فإنهما - أي اللهو واللاواقعية - قلما ينفصلان عن الموقف الفكاهي الذي قدمه الكيلاني وبنجاح تام إلى الأطفال، وهذا يدل على وعي ومعرفة كاملين بخصائص الطفولة وبأصول منطق الضحك"([120])، كما يقول الباحثون. وهذا يشير إلى إحساس الكيلاني وإدراكه للعوامل النفسية التي تميل إلى اللعب أكثر من الجد، فيدخل إلى قلب الطفل من خلال هذا الجانب وهو الفكاهة ثم يتجه فوراً إلى عقله لتحقيق الغايات التي يسعى إليها.

وفيما يتصل باللّغة؛ فإن كامل كيلاني كان يهدف في قصصه إلى الارتقاء بالطفل منطقاً وأسلوباً وتمكينه من "الفصحى السليمة" عبر الشكل الكامل للألفاظ، وتكرارها، بعد تخيُّرها من محاسن الكلام وأسهله، وشرح ما يراه صعباً على الطفل بكلمة أو عبارة ضمن معكوفين.

وقد درس أحد الباحثين ([121]) قصص الكيلاني بهدف البحث عن الأسس التي قامت عليها، فخلص إلى أن أساسها الأول يقوم على "اللغة"، - وهذا ما يتفق مع الأهداف التي أوضحناها سابقاً من خلال المقدمات التي استهل بها الكيلاني بعض قصصه - فقد كان يرفض الأساليب الركيكة الضعيفة، ويَشِنُّ حرباً على العامية ودعاتها، وقد وصف أسلوب القصص التي كانت سائدة أيام نشأته بالأسلوب السقيم، وذلك في قوله: "كنا نقبل على قراءة الحكايات والقصص إقبالاً عجيباً، بالغة ما بلغت من الغثاثة والرداءة والفساد، وسقم الأسلوب وضعف العبارة… وقد كادت أساليبها الركيكة الضعيفة، وعباراتها السقيمة تزحم أدمغتنا وتفسد أسلوبنا"([122]).

وربما يكون ذلك من أبرز أسباب تركيز الكيلاني على اللغة وتخيّر الألفاظ والأسلوب، بل أكثر من ذلك، حيث كان مناصراً للعربية الفصيحة وجندياً من جنودها، لأنّ اللغة لبنة أولى وأساسية في الأمة، بل كان ينادي بأعلى الصوت إلى: تحبيب القراءة إلى الطفل وتمكين الفصحى من نفسه، وحمايته مما يغمره من البيان المشوّه المضطرب وتجنيبه - ما اعتقده - ذلك الشر المستطير من سيل العامية الجارف.. الذي يغمر الكثيرين من ناشئة اليوم ورجال الغد، فيقضي على مواهبهم الغنية، أو يكاد، في زمن حداثتهم، ويدعو لنؤمّن لهم بياناً عربياً خالصاً، يطبعهم على الفصحى منذ طفولتهم، حتى إذا كبروا صارت لهم الفصحى كما كانت لغيرهم، من أسلاف العرب سليقة وطبعاً، وأصبح البيان العربي متأصِّلاً في نفوسهم عادة وملكة، وتخلصوا من العجمة المتفشية بين شباب العصر وفتيته([123]).

ولا يطلق الكيلاني هذا النداء دون أن يشرح مقصده، فهو يحاور ويناور ويقتنص الطريق الذي يراه مناسباً فيقول([124]):إن الطريق إلى تحقيق "الحلم الجميل" –كما يسميه- ميسور غير مستحيل، داعياً إلى مراقبة كلام الطفل في مستهل طفولته، فهو يلجأ مثلاً إلى تكرار الجمل كأنما يتثبت من المعاني في ألفاظها المكررة، ويتساءل: "لماذا لا نكتب لـه محاكين أسلوبه الطبيعي في تكرار الجمل والألفاظ لنثبت المعاني في ذهنه تثبيتاً؟". ويعود ليتساءل: "ولماذا لا نكرر له الجمل برشاقة لنسهل عليه قراءتها؟".

ويقرر بعد كل هذا جازماً: "ذلك أجدر وأليق، فإن لكل مقام مقالاً"، "فلا يزال المؤلف ينتقل في فكرته ويتدرج رويداً رويداً أو درساً درساً، على النسبة التي ينمو بها الطفل يوماً بعد يوم، بل على النسبة التي ينمو بها عقله كلمة بعد كلمة، وجملة بعد جملة"([125]). ويبدو الكيلاني في كل ذلك حريصاً على اللغة الفصيحة، على أساس أنه مقاتل مدافع عن حصونها، ويعلن عن أسلوبه في حربه قائلاً: "أنا أحارب اللغة العامية التي يدعون إليها، أحاربها بكل ما أستطيع، ولكن أسلوبي في محاربتها: حرب البناء الذي يصنع التاريخ"([126]).

ويرفض الكيلاني بحزم الرأي القائل: إنّ كتابة الحوار القصصي بالعاميّة لا يضعف الأدب ولا يصبغه بصبغة محلية ضيقة، وحجته في ذلك: أن الكتابة وضعت لكي يفهمها الناس، وكلما استطاع الكاتب أن يُفهِم أكثر، كان نجاحه أكبر، والأمة العربية مختلفة اللهجات، ولكن تجمعها وتوحِّد بينها اللغة الفصحى الواحدة، وهي اللغة العربية، والصفوة المثقفة لا تفهم بغير الفصحى، ففي أي سبيل نضيع هذه الإمبراطورية الفكرية وبأي ثمن؟ لا شك أن حوار القصص يجب أن يكون باللغة العربية الفصحى، والذين يعمدون إلى جعل الحوار بالعامية الدارجة والمألوفة لكل شعب؛ لا يفعلون ذلك إلا عن ضعف وعدم إتقان اللغة، فلو أنهم كانوا متمكنين من لغتهم ما جاء حوارهم عامياً مبتذلاً([127]).

 

 

بساطة اللغة في سلامتها:

وبالعودة إلى قصص كامل كيلاني؛ نجده على العموم حريصاً كل الحرص على اللغة، وقد استطاع فعلاً أن يؤصل لنفسه طريقاً واضحة يمزج فيها ما بين اللغة والمعنى والهدف العام الذي يسعى إلى تحقيقه، لكن من الملاحظ عدم تحديده لسن معين للأطفال الذين تستهدفهم قصصه، لا على غلاف قصصه ولا في مقدماتها، باستثناء "قصص رياض الأطفال"، مما يحدث بلبلة حول لغة السنّ المراد مخاطبته، ويظهر أن الكيلاني اندفع وراء أهدافه اللغوية، حتى أصبحت "اللغة عنده، وبشكل مستمر، أعلى من مستوى الحكاية، التي قد تكون بسيطة جداً، ومن ثم أعلى من قدرة القارئ الطفل المتوقع على التحصيل"([128]). والدليل الذي نراه يبلغ حد الافتعال، هو ما نجده في نهاية بعض القصص من حشد لأسماء وكنى وألقاب لم تعد مستخدمة أو هي لا تناسب مستوى قارئ هذه القصص.

ويمكن ملاحظة ذلك في القصص العلمية([129])، حيث يقوم الكيلاني بتقديم معاجم صغيرة لطائفة من أسماء الحيوان وكناه وألقابه "ليرجع إليها المدرس عند الحاجة"([130]). ويعتبر الباحثون "أن التوجه إلى المدرس بتلك الأسماء والكنى والألقاب لا يبرر إيرادها بل قد يؤدي بالمدرس أو يغريه بالانحراف بتلك القصص العلمية عن غايتها، فيتحول تدريسها إلى تسابق لغمر الذاكرة وحفظ هذه الكلمات المهجورة في غير طائل، وماذا يفيد المدرس أو الطفل من معرفة(*) أن ابن عرس يسمى السرعوب وأن الأرنب يسمى أبا نبهان..، وأن الذئب أبو جعدة، وعسعس، وأنثاه تسمى جهيز؛ هذا ضياع للجهد وإغراء بالتحريف وإفساد للذوق"([131]).

ومع الاعتراف بقيمة هذه المعاجم ، إلاّ أن وضعها ملحقة داخل قصصه موجهة لأطفال في مرحلة تعليمية مبكرة؛ قد يصرف القارئ الصغير عن القصة نفسها، فتتحول من عمل أدبي إلى مجرد نمط تعليمي. وهذه القصة ربما تثير الجدل حول: هل يمكن تجاوز الهدف فيما يكتب للأطفال أم أن الهدف هو صلب وروح أدب الطفل؟ وعلى العموم فإنّ خلط الأوراق في هذه المسألة أو إعطاء نتائج مسبقة لا تفيد هذا الشكل القصصي، ولكن إغراق القصص الأدبية بالألوان التعليمية، يحرف القصة كعمل إبداعي عن أهدافها خصوصاً وأن الكيلاني لا يكتفي بذلك فقط، بل نراه يلحق بعض القصص(**) بمعلومات علمية بحتة، مثلما قدم في قصة "النحلة العاملة"([132]) قائلاً: "قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية ليكون مرجعاً للمدرس في تدريس قصة النحلة العاملة"، وفي المقال معلومات كثيرة قد لا يعرفها كثير من طلاب الجامعات والخريجين غير المتخصصين، فكيف بأطفال صغار أقحمت المعلومات العلمية المعمقة في قصة يريدون التمتع بها؟ ألا يذكّرهم هذا بمعاناة الواجبات المدرسية المرهقة؟ كما إن أسلوب المقال صعب ومعقَّد كقولـه: "ترى الفقرة الأولى من أجزاء النحلات العاملة الأمامية كبيرة جداً، وشكلها مربع أو مثلث مقلوب، وقد تتصل أحياناً بالزاوية الخارجية لقاعدتها فتشبه أذناً صغيرة، أما بطن النحل فهو مؤتلف من سبع عقد للذكور، وست عقد للإناث العاملات"([133]). ولا يخفى أن هذه المعلومات المقدمة بأسلوب علمي بحت؛ قد ينفر منها المدرس قبل التلميذ، وكان الأحرى بالكيلاني أن يفصل هذه المقالات في كتاب معجمي خاص، لا أن يفرضها على القارئ الصغير، وربما تجعله يبتعد عن القصة كلها، أو على الأقل عدم الالتفات إلى هذه المقالات والمعاجم وإهمالها واعتبارها زائدة لا أهمية لها..

ونشير أخيراً إلى أن الكيلاني كان يعمد أحياناً في ختام بعض قصصه إلى وضع قصائد لشعراء قدامى، نجد في ألفاظها ما يعجز الطفل على فهمها، فضلاً عن بعض معانيها الموحشة، التي ينفر منها الكبار قبل الصغار، ثم يقوم الكيلاني بعد ذلك بشرح معاني ألفاظها، ومثال ذلك قصيدة في وصف العنكب([134]):

وقانـص محتقـر  ذميـم        كُـدْرِيِّ  اللوّن أغبر  قَتِيمِ

مُشْتَبِكِ الأعجـاز بالحَيزوم        ومخرج  اللحظة بالخيشومِ

أضْيَقَ أرضاً من مقام المِيمِ                أو نقطةٍ  تحت جناحِ الجيمِ

ليـس بقعـديد ولا نـؤومِ       ولا -عن الحيلةِ- بالسَّؤُومِ

لا يخلط الهمَّة بالتَّنوِيم

ورغم ما وضعه الكيلاني من شروحات للمفردات على النص الشعري، يظل هذا النص، بمفرداته ومعانيه، شديد الصعوبة، ثقيلاً على النطق والسمع، فضلاً عن أن معظم الألفاظ التي استخدمها الشاعر قديمة ولا تستخدم في عصرنا إلا نادراً، كما إنها قد تكون مهجورة.. ولا فائدة للطفل من معرفتها في هذه السن المبكرة..

 

 

تكرار اللفظ :

إن تكرار اللفظ وتشكيله كاملاً كان واضحاً ومنطبقاً على جميع قصص الكيلاني فهو يعمد إلى هذا التكرار عمداً وبوعي.

ففي قصة "الغراب الطائر"([135]) مثلاً، يردد المؤلف مجموعة كلمات في صفحة واحدة فقط:([136]) (شائعة – شائعات) 5 مرات – (أنسى) مرتين – ثم يردد كلمات في صفحات متفرقة مثل: (غراب – الزوجة – طائر – الصامت ..) وفي قصة "جلفر"([137]) نجد تكراراً لكلمة (ربَّان) أربع مرات في صفحة واحدة([138])، كما يكرر كلمات عربية في صفحات متفرقة: بضائع – سفينة – لصوص – زورق – جزيرة..) وغيرها كثير.

ويحرص الكيلاني على تفسير بعض الكلمات التي يعتقد أنها أعلى من سن الأطفال الذين يكتب لهم القصة، وهو يقطع القصة عادة ويضع شرح الكلمات ضمن معكوفين، معتقداً أنه ييسرها على الطفل فيما لو وضع الشرح في هامش الصفحة، ونجد مثلاً في قصة "ابن جبير"([139]) كلمات عديدة يقدم لها شرحاً فهو يقول مثلاً([140]): "المراكب التي يصرفونها في هذا البحر الفرعوني ملفقة (متضامة) الإنشاء والتركيب". وهو أيضاً يشرح بعض الكلمات في الصفحة ذاتها: جوز النارجيل (الجوز الهندي).. يفتلون منه أمراساً (حبالاً). وفي القصة نفسها كلمات كثيرة مثل: النواتي (الملاحون)، ماء زعاق (مرُّ غليظ لا يُطاق شربهُ)، العفارتة (العفاريت)([141])، يضحل (يقل)([142])، جِبَاب (آبار)([143]).

 

وفي قصة "جبارة الغابةِ"([144]) نجد الكيلاني يشرح الكلمات بشكل أكثر تفصيلاً، مثل: أثناء خَطرتهِ (في خلال مروره)، النسيمُ البليلُ (المُحَمَّلُ بالنَّدىَ، المُبَلَّلُ به)([145])، تغرِّد على أفنانِها (تغني على أغصانها)، جمجم النسيم (تكلم خافت الصوت)([146])، أوينا إليك (اتخذناك لنا منزلاً)، تلوذ (تلجأ وتحتمي)، يتلمسها (يتطلبها مرّة بعد أخرى)، لا يظفر بطائل (لا يرجع بفائدة)([147])، صوته الأبح (الغليظ الذي فيه بحة)([148]).

 

وهذا الأمر كثير مطرد في جميع قصص الكيلاني، فقد قدم لغة أعلى من لغة الطفل المستهدف وإن حاول شرح بعض مفرداتها، بنية نبيلة من جهته، جُوبِه الكيلاني بسببها بنقد شديد، خصوصاً وأنّه لم يحدد المراحل العمرية التي يكتب لها على كل كتبه بشكل واضح، باستثناء مجموعة واحدة عنوانها "قصص رياض الأطفال" كما أشرنا من قبل، "أما كتاباته الأخرى فقد تركت دون توجيه، أو ليحددها القارئ بالنظر لحجمها أو عنوانها أو موضوعها، والنصُّ على المرحلة العمرية ليس لمصلحة الطفل المتلقي فحسب، إنه مطلوب المؤلف أصلاً"([149])، لهذا فقد جزم بعض الباحثين([150]) أنّ هذه المسألة لم تكن محسومة عند الكيلاني، وليس هذا فحسب بل اتهم الكيلاني بأنه لم يشعر بأهميتها، وأول دليل وجدوه في لغة السرد للاعتناء بالهدف التلقيني وتغليبه على الهدف التعليمي، في اعتبارها - أي لغته - أعلى من مستوى الحكاية ومستوى القارئ، وقد قادهم ذلك للتأكيد "أن الكيلاني لم يختلف في شيء عن أدباء جيله الذين كتبوا للكبار؛ في أنهم يربطون بين أدبية الأسلوب وحشده بالمفردات غير الشائعة أو الكلمات الصعبة والحرص على اصطناع إيقاع لا يتطلبه المعنى ويحصلون عليه بالترادف أو السجع مثلاً"([151]).

 

ويلاحظ ذلك في كثير من القصص، منها مثلاً في قصة عفاريت اللصوص([152]): "وكان الزارعُ يُحدِّثُ بَعضَ أصْدقائه –ذات يوم- بأنه عازم على قَتل حماره، فسَمِعَ الحِمارُ كلامَ سيِّدهِ –لحسن حظُه- فخاف على نفسه، وفكر في الهرب من بيت سيده إلى إحدى الغابات..".

 

ومثلها في "قصة لا تنتهي" وهي من سلسلة "جُحا قال يا أطفال": "حكاية حدثت في بلدٍ من البلدان، في زمن من الأزمان، كان يعيش ملك عظيم الجاه والشان، له جبروت وسلطان، ظل هذا الملك يرعى قومه في بلده البعيد في سلام وأمان.." "لم يكتف بما عنده من موهبة، وما أوتي من معرفة طيبة، لم يدخر وسعاً في المطالعة والمراجعة، وفي المحاورة والمشاورة، لَبِثَ يَمُدُّ عقله بمختلف الآراء الواسعة والمعلومات النافعة، أحاط في مجالات الحياة بالأخبار الدقيقة، والحقائق الوثيقة.." ([153]).

 

ونشير هنا إلى مسألة تتعلق أيضاً باللغة وهي أن المؤلف الذي كان حريصاً على شرح بعض المفردات؛ نراه كثيراً ما يغفل عن شرح كلمات تبدو أكثر صعوبة من الكلمات التي يقوم بشرحها، ففي قصة "بطولة سوسنة" التي تبدو من حيث شكلها وفكرتها موجهة لأطفال صغار السن – دون أن يحدد المؤلف جمهورها – نجد جملاً قد يتعذر فهمها على من هم في سن الشباب فما بالك بالناشئة، ونورد منها على سبيل المثال:

"أرض قاحلة غبراء..، جدبة جرداء".

 

"كلما أحسَّت الثعالب والذئاب عضة الجوع، لم تجد ما يسد جوعها، ويروي ظمأها، اشتد بها الحقد على أهل الوادي البهيج"([154]).

 

- "لا تغتروا بالقوة وحدَها، فربما كان لهذه الحيوانات الوادعة، الأنيسة، تفكير سليم، وتدبير هادئ، يُحيل انتصاركم الظاهر إلى هزيمة منكرة، على الرغم من القوة والبطش، يحسن أن تستعملوا الحيلة، وتصطنعوا المكيدة ومن الحيل والمكايد ما هو أنفع من القوة وأجدى"([155]).

 

ولا يخفى صعوبة هذه الجمل السابقة من حيث المبنى ومن حيث المعنى، ولو أردنا إحصاء مثل هذه العبارات لاحتجنا إلى سفر كبير، وذلك لتواردها في مواقع كثيرة في القصص، ومنها قصة "بطولة سوسنة"([156]).

 

ورغم ذلك، لا بد من التأكيد على أن المؤلف، ومنذ البدء، كان من بين أهدافه الارتقاء بلغة الطفل وزيادة حصيلته اللغوية، لكنه بالغ في كثير من قصصه حتى كاد ينحرف عن حبكة القصة نفسها فتحول من أثر أدبي إلى أثر تعليمي، أو بالأحرى تلقيني كما أشرنا سابقاً.

وكان الكيلاني مهتما بتقديم قصصه بثوب أنيق جاذب، كما كان حريصاً على ربط محتوى القصة بالصور المعبِّرة الموضحة، وخصوصاً في مراحل الطفولة المبكرة، ويوضح الكيلاني سبب اهتمامه بذلك في مقدمة قصة "الحمار القارئ" بقوله: "نستقبل هذه المجموعة المبدعة، أطفال الرياض في مطلع تعليمهم، فتفتنهم ألوانها الجاذبة وتعينهم صورها المعبِّرة على فهم خلاصة القصص، فيغريهم ذلك بالإسراع في تعلم القراءة، ليتعرفوا من الألفاظ تفصيل ما فهموه من التصاوير، فهي خير ما تزدان به رياض الأطفال من زهرات، وهي أسلوب مبتكر في تحبيب القراءة لأطفال الروضة، يقوم على أساس تربوي ناجح: في تعليم الأطفال القراءة وتكوين الجمل، مستعينة على تفهيم المعاني بالتصاوير المعبرة الفاتنة التي تسترعي الانتباه وتثير التطلع"([157]).

 

ونجد أن الكيلاني حرص في قصصه على هذا الأسلوب؛ وإن كان العثور على القصص التي طبعت في حياته وتحت إشرافه المباشر أمراً شديد الصعوبة، فما وصلنا كان من طبعات متأخرة(*)، بعضها تجاوز الطبعة رقم (20)، لكننا نجد معاصريه يشيدون بتلك الطبعات، فهي برأيهم "متقنة الطبع، جيدة الورق، جميلة الرسوم"([158]). كما كانت قصصه –كما يقول معاصروه أيضاً- من حيث الطباعة" في غاية الغايات من الرونق والإتقان"([159]).

 

 

البناء النفسي:

ربما يكون هذا المحور من أهم الأجزاء المميزة للأسلوب الكيلاني، وهو يتكامل مع السمات السابقة بشيء من الاتساع والرحابة.. وهو ذو أبعاد نفسية وتربوية واجتماعية وفكرية متصلة حيث يصعب الفصل فيما بينها، بل على الأصح؛ نجدها تتناغم وتتآلف وتتناصر في سبيل تنمية الإنسان –الطفل، وبنائه شيئاً فشيئاً إلى حد التمام والكمال بواسطة القصة المبتكرة والأسلوب الحيّ المزدحم بالنشاط.. وهنا نجد ثمانية جوانب رئيسية تظهر في البناء النفسي والمعنوي من حيث:

1-توفير مادة توضح للطفل الخطأ وعواقبه وتربِّيهِ على الابتعاد عن الخطأ..

2-وليس ذلك فقط، بل تعمل القصص على غرس المعاني الحميدة عبر مُثل وأحداث درامية معينة تساهم في تنقية ذهنية الطفل أولاً من الشوائب التي قد تعلق به في سني عمره الأولى والعمل على وضع مفاهيم عليا وجعلها جزءاً لا يتجزأ من ذاته.

3-ويرى الكيلاني أن ذلك يحتاج إلى الاهتمام بما تُحدث القصة من آثار نفسية إيجابية تبرئ الطفل من النزاعات وتشفيه من سموم الجهالة، وبذلك يخرج الكيلاني عن كونه أديباً وكاتباً فقط، بل عالماً وخبيراً بالطفولة وعالمها، مدركاً لنفسية الطفل وحاجاته. ويبدو ذلك واضحاً من خلال:

4-مراعاة سن الطفل ورغباته.

5-النزول إلى مستوى مداركه وتزويده بالعلوم.

6-تقديم كل ذلك بأسلوب يحبب الكتاب للطفل.

7-التركيز على اللغة كأداة توصيل هامة لتعويد الطفل على المضمون اللغوي السليم.

8-يبقى أن نشير إلى أن الجانب المضموني للأسلوب عند الكيلاني راعى فيه قضية جوهرية وهي ما يصيب الطفل عادة من ملل أثناء القراءة، ولذلك كان الكيلاني يأمل بنزع ملل الطفل القارئ من خلال تبسيط المعنى في الأسلوب..

لكنّ السؤال هو: هل نجح الكيلاني فعلاً في تضمين قصصه كل هذه الجوانب التي كان يرددها دائماً في كتابات وأحاديث كثيرة؟ أم أنه نجح في بعض القصص وأخفق في بعضها الآخر؟ وقد تكون هذه المسألة محوراً لمجالات دراسية أخرى إذ ليس ممكناً معالجتها دون فحص جميع قصص الكيلاني واستخراج القيم المستفادة منها من خلال استطلاع رأي عينة من الأطفال للكشف عن مدى ملاءمة هذه الإشارات لنفسية الطفل والتأكد من رجع الصدى الحادث..

وقد تعرض بحث مطوّل لجوانب من هذا المحور(*)، وجاءت نتائجه لتحدد مجموعة من الحاجات التي قام الكيلاني بتلبيتها من خلال قصصه على النحو التالي:([160])

 

جدول رقم (1)

حاجات الطفل من القصة

 

الحاجات

عدد التكرار

النسبة المئوية

1- العقلية

702

52.6%

2- الدينية

4

0.3%

3- الاجتماعية

239

17.9%

4- النفسية

373

28%

5- الفسيولوجية

16

1.2%

المجموع

1334

100%

 

 

ونجد الكيلاني حريصاً على هذا الجانب المضموني ، وكان يؤكد أهمية الجانب النفسي معتبراً بعض مجموعاته القصصية: "خلاصة رائعة لحقائق الحياة، ومعرضاً جميلاً تتجلى فيه نزعات النفس الإنسانية، وتظهر أخلاقها ورغباتها في الإساءة والإحسان"([161]).

ويؤكد الكيلاني على دور بعض قصصه في التركيز على الآثار النفسية وتثبيت الفضائل وذلك عندما يقول للطفل القارئ: ".. وأنت إذا تدبرت هذه الأقاصيص حق التدبر، وجدتها موافقة لما يظهر حولك من أخلاق الناس وغرائزهم، فهي إنما تصف طباعاً مكينة، وغرائز أصيلة ثابتة تلابس الناس، وتتصل بهم في كل عصر ومصر، وسترى في هذه المجموعة التي تخيرتها لك: أمثلة عليا تحبب إليك الفضيلة، وتبين لك – من مزاياها وحسن آثارها- ما يزيدك تمسكاً بما طُبعت عليه من نبيل الخِلال، وكريم الخِصال، وحميد السجايا، ومحمود الطبائع، ومَرضِّي الأخلاق"([162]).

 

ويلاحظ ذلك في جميع قصص الكيلاني التي اطلعنا عليها، وإن اختلفت النسبة فيها وتنوع الأسلوب من مباشر إلى معرِّض إلى خفي. وكثيراً ما نجد تعليقات من داخل النص أو من خارجه تشير إلى ذلك مثل قوله: "لقد دفعك الفضول إلى مثل ما دفعنا إليه ولقيت من الجزاء ما لقينا وهذه عاقبة كل من يتدخل فيما لا يعنيه"([163]).

 

وكان يحث الطفل على المثل العليا والأعمال المناسبة لسنه، ويشجعه على العلم والصداقة والتعاون، وقال في ذلك:

"إن طفلين صغيرين كانا في مثل سنك وذكائك، عاشا في مدينة "بغداد" في منزلين متقابلين على نهر "دجلة"، وقد جمعتهما مدرسة واحدة كما جمعهما حيٌّ واحد، وبلدٌ واحد وزمن واحد، وكان كلاهما محباً للدرس مقبلاً على العلم لا يقصر في أداء واجب مدرسي، ولا يقرُّ قراره حتى يسبق لداته أو أترابه، ويبذُّ أقرانه وأصحابه في طلب العلم وتحصيله، والاستزادة من فنون الثقافة وأفانين المعرفة، أي: أساليبها وأجناسها وطرقها"([164]).

 

واهتمام الكيلاني وحرصه على تزويد الطفل بالعلوم والمعارف لم يكن مقتصراً على بعض المعلومات التي يقدمها في قصص متفرقة، بل أدى حرصه هذا إلى وضع مجموعة خاصة من عشر قصص تحت عنوان قصص علمية*.

 

وقد لا يكتفي الكيلاني بالقصة نفسها، حتى يتبعها بمادة علمية خصبة، مثلما نجد في نهاية قصة "مخاطرات أم مازن" حيث يقدم "إلمامه بالنمل"([165]) يقول في مقدمتها: "قبسنا هذا المقال النفيس من دائرة المعارف الفرنسية ليكون مرجعاً للمدرس في تدريس قصة أم مازن"، وهي تحوي معلومات غزيرة جداً، ومن عناوينها: خواص النمل – أجسام النمل – طوائف النمل – مزايا النمل – مساكن النمل – تلاقح النمل – جماعات النمل – آراء بعض الباحثين – النمل والحرارة – نمال البرازيل – نمل العسل.

 

وهكذا نلاحظ مدى اهتمام الكيلاني من تنوع أهدافه في مضامين قصصه، وسعيه الحثيث لبناء جيل مثقف قوي متماسك. ومن قوله في هذا الإطار موجها كلامه لابنه "رشاد" كواحد من أطفال العرب:

".. آليت على نفسي أن أسليك وأثقفك، وأقرب لك – جهد ما أستطيع- تلك الثمار اليانعة…، أما جهد الابتكار والإبداع فقد ألقيته على عاتقك لتؤديه إلى أطفال جيلك القادم، متى كبرت سنك وكملت ثقافتك، وليس في قدرتي أن أزيد على وضع الأساس الصالح، أما البناء فقد وكلته إليك، وأنا على ثقة أنك محقق هذا الرجاء، ومؤدٍّ هذا الدَّين – متى أصبحت في عداد الرجال الراشدين – إلى أبنائك وحَفَدَتِك على أحسن وجه وأوفى غاية"([166]).

 

من أجل ذلك يقرر الباحثون "أن مجموعات الكيلاني تسعى في النهاية لتحقيق هدف تربوي وآخر تعليمي، حرص عليهما الكيلاني، أما الهدف التربوي فغايته غرس الفضائل والمثل العليا التي ارتضتها الجماعة، وتوجيه الطفل العربي نحو أنماط السلوك والقيم الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، والتمسك بكل ما هو إيجابي منها ونبذ كل ما هو سلبي، وذلك من خلال منظور وطني قومي وإسلامي.. أما الهدف التعليمي فغايته أن يصل الطفل بتراثه الأدبي من ناحية، وينمي ثروته اللغوية المضبوطة ضبطاً صحيحاً من ناحية أخرى بعد شرح ما يستحق منها"([167]).

ولا نريد التوسع كثيراً في هذا الجانب فمجاله خصب ورحب، وسوف نتناول بعض التفاصيل منه في الجانب التطبيقي من البحث.

 

لكن قبل الانتهاء من هذا الفصل نتوقف عند بعض النقاط التي نرى أهمية الوقوف عندها:

1-  لا نستطيع عموماً تحديد منهج معين سار عليه الكيلاني في كل قصصه وذلك لاختلاف المراحل العمرية وما يناسب كل مرحلة من أسلوب وخطة تناسب عقول أطفال المرحلة.

 

2-  لكن يمكن دراسة القصص بعد تقسيمها حسب المراحل العمرية مع العلم أن الكيلاني لم يحدد تماماً العمر المقصود بكل قصة، باستثناء مجموعة واحدة خاصة برياض الأطفال، لكن يمكن وضع خطوط تقريبية فيما بين قصصه بناء على ما رتبه بنفسه وبناء على اللغة المستخدمة.

3-  ولا بد من الاعتراف أن لغة الكيلاني وطريقة استخدامه للصور البيانية المتنوعة والجمل الرشيقة الخفيفة والأنغام المتجانسة في فواصل الجمل تجعل النصوص كتلة من الموسيقى المشحونة بالأسرار.

 

4-  وهذا لا يعني أن أسلوب الكيلاني يخلو من السلبيات التي قد ينقسم إزاءها الباحثون، وخصوصاً في اتهامه بأن لغته المستخدمة وأسلوبه الذي يعتمده، هما أعلى من مستوى الطفل المخاطب، ويشفع بذلك نية المؤلف في الارتقاء بمستوى الطفل اللغوي، كما إنه لا بد من ملاحظة مستوى لغة العصر الذي عاش فيه، حيث إن لغته أخذت حجمها الطبيعي.

 

5-  إن الجهود الحثيثة التي بذلها الكيلاني، مؤلفاً ومترجماً ومقتبساً، تصب في نهايتها في قالب تربوي تعليمي، مع وجود بعض الثغرات الدرامية التي تجعل القصة تسير عنوة في الطريق الذي يريده المؤلف، وهذا يخل حتماً بسياق النص ويعتبر من العيوب الرئيسية فيها – سنشير إلى هذه القضية في الجانب التطبيقي – مما يؤكد ما أشرنا إليه سابقاً في أن الكيلاني يصب اهتمامه على الجوانب التعليمية التربوية والقصة كعمل أدبي متكامل تعتمد على التطور الدرامي واللغة هي أداة لها، ولا ينبغي للقصة أن تؤسر في ما يريده المؤلف من أهداف تعليمية لغوية، لا سيما وأن دراسة النص يجب أن تكون دراسة من داخله دون اعتبارات خارجية.

 

6-  إن أسلوب التكرار الذي أتخم به المؤلف قصصه، إضافة إلى إكثاره من الكلمات الصعبة واضطراره إلى شرحها، وإزحامه النصوص بالظواهر البيانية واللفظية، يجعل الطفل يبتعد عن جوهر القصة ليغرق في بحر هذه الظواهر والبحث عن معانيها، مع ملاحظة إيجابياتها الكثيرة وإضفائها رونقاً على النص، وقد كان بالإمكان تفادي ذلك بترك النص يسير على سجيته دون أن يظهر تكلف المؤلف وإصراره على ذلك بشكل قد يبدو من ضرورات اللغة لا من متطلبات الدراما.

 

7-  وجود بعض الملاحق والتعريفات والمعلومات والحكم والأناشيد يزيد من فوائد القصة مع اعتبارنا لها من خارج النص، مع ملاحظة وجود أناشيد ومعلومات وحكم تتصل بالنص مباشرة وتعتبر جزءاً لا يتجزأ منه، مع التحفظ على بعض النصوص ذات المفردات الغريبة.

 

 

الفصل الثاني الاللجانب التطبيقي (1)

الجانب التطبيقي 1

قصص شكسبير

- مقدمة

- سبب اختيار الكيلاني لهذه المجموعة

- مضمون القصص:

1- العاصفة

2- تاجر البندقية

3- يوليوس قيصر

4- الملك لير

- محاور الدراسة

أولاً: منهج الكيلاني في قصص شكسبير:

أ-  من حيث الشكل أو المظهر العام للقصص

ب- من حيث المضمون

- الوصف الشكلي:

أ - حجم القصص

ب- تقسيم القصص

ج- الفصول والعناوين

ثانياً: لغة الكيلاني في قصص شكسبير:

1- التكرار

2- شرح المفردات

ثالثاً: أبرز الخصائص في قصص شكسبير:

1- الاقتباس القرآني   

2- الأمثال والعبر                

3- الأغاني والشعر

4- السجع  

5- التضاد اللفطي والمعنوي            

6- التشبيه والنعوت

7- الوصف والتصوير     

8- الجمل القصيرة الرشيقة

 

 

الفصل الثاني

الجانب التطبيقي (1)

قصص شكسبير

 

مقدمة2:

تعرضنا في الصفحات السابقة لقضايا تتصل بأدب الأطفال، وتناولنا حياة كامل كيلاني  وأدبه وما يتعلق به من سمات وخصائص، بشكل عام، ونصل الآن إلى الجانب التطبيقي, حيث ندرس بعض قصصه, وهي كثيرة متنوعة، وقد أشرنا إليها في صفحات سابقة، وهي من الكثرة بحيث يصعب على الباحث إجراء دراسة كاملة حول جميعها. وفي هذا الفصل التطبيقي نتناول "قصص شكسبير" ( 1564- 1616م)، كما قدمها الكيلاني مترجمة بأسلوبه، بعد أن قرَّبها للطفل العربي بلغة مبسطة هادفة، وقد أبدينا الرأي حولها، وفي هذا الفصل – وما يليه – سنقوم بدراسة عينة الجانب التطبيقي(*)؛ لغةً وأسلوباً ومنهجاً، بهدف كشف بعض الظواهر المهمة في أدب الكيلاني للأطفال.

 

أما سبب اختيارنا لهذه المجموعة فمرده إلى مجموعة عوامل تلتقي في محور رئيسي، منها كشف بعض ما تنطوي عليه كتابات الكيلاني من سمات مميزة جعلته في دائرة الضوء، حتى لفتت أنظار الباحثين إليه منذ سنين طويلة وحتى الآن. ويدلل على ذلك كثرة الأبحاث والدراسات التي تناولت حياة الكيلاني وأعماله، إضافة إلى بعض المحاور الفرعية المهمة، منها أن "قصص شكسبير" التي أعاد الكيلاني صياغتها بأسلوبه العربي البليغ؛ لم يتم تناولها – حسب علمي – بدراسة متعمقة، كما إننا نحتاج – حقيقة – إلى إماطة الظلال عن هذا العمل الأدبي – الإنكليزي الأصل- الذي يدل على وعي مبكر لدى الكيلاني لأهمية اطلاع الطفل العربي على روائع الأدب الغربي، وتزداد أهمية هذا العمل كون الكيلاني المتقن لعدة لغات أجنبية، كان قد قرأ النصوص بلغتها الأصلية، ولم تصل إليه مترجمة بغير لغتها، فضلاً عن طبع القصص بأسلوب الكيلاني الخاص الذي درج عليه في قصصه كلها، إضافة إلى الإقبال الكبير الذي شهدته هذه القصص من قبل الأطفال، حيث إن الطبعات الرسمية لهذه القصص ناهزت العشرين طبعة(**).

 

 

سبب اختيار الكيلاني لهذه المجموعة:

الكيلاني لا يختار القصص التي يقدمها للطفل بشكل عشوائي، بل هو يسير وفق منهجية واضحة رسمها منذ بداية الطريق، وقد تدرج فيها من قصص "رياض الأطفال" إلى "القصص الفكاهية" إلى "ألف ليلة وليلة" إلى "القصص الهندية" و "جحا قال يا أطفال" وغيرها من القصص، وصولاً إلى "قصص شكسبير".

ويوضح الكيلاني غرضه من ذلك قائلاً: "فإذا انتهيت [أيها الطفل] من قراءتها.. وأتممت ما يليها من قصص… أصبح في قدرتك أن ترتقي منها إلى مكتبة الشباب"([168]). ويُطَمْئِنُ الكيلاني الطفلَ الصغير بأنه لن يقدم له ما يجعل الملل يتسرب إلى نفسه، بل سيقدم له ما يبهجه "من أسمى ألوان الخيال العلمي التي جاد بها هذا الشاعر العظيم [شكسبير]، وبدائع الصور البيانية التي ابتدعتها طبيعة نفسه الفنية الشاعرة"([169]).

 

والكيلاني - بهذا القول - يبلغ قمة التواضع بنفيه أي دور لما قام به، مع أنه أعاد صياغة القصص التي قدمها "شكسبير" بلغة إنكليزية قديمة، ورَسَم معانيها من جديد، بعد أن ترجمها إلى العربية، ثم أعاد كتابتها بما يتفق مع عقلية الطفل العربي ولغته، ولا يخفى قيمة هذا الجهد الذي لا ينسبه الكيلاني إلى نفسه تواضعاً.

 

ومن الظلم أن نقصر مهمة الكيلاني في هذا العمل على الترجمة فقط، فهو يأخذ خلاصة القصص([170]) ويعيد تقديمها وفق خطة محكمة، وإن كان يوهم القارئ بأنه "يترك الحديث لشكسبير، لأنه خير من يحدثه بأطيب الحديث وأقدر من يقص عليه أبدع القصص"([171]).

 

ويسعى الكيلاني في هذه المجموعة – وغيرها – إلى الأهداف نفسها التي تعرضنا لها سابقاً، وهو يؤكد ذلك في مقدمة أولى قصص هذه المجموعة فيقول: "أخذت على نفسي أن أسهل عليك القراءة، فأبهجك وأمتع نفسك من غير أن أكلفك أي عناء، وأحسبني قد يسَّرت أمامك هذه الطريق الصعبة، ومهَّدت لك كل ما يعترض طريق غيرك من الأطفال من عقبات مضجرة ومتاعب مملة، مما عانيناه في طفولتنا وقاسيناه، ولعلَّك أيُّها الصديق الصغير تنتفع بما في هذه القصص من عظات وعبر، وهي اللب الذي اخترناه لك في طيِّها، ليكون غذاء رجولتك النبيلة، وإلهام روحك العالي في مستقبل أيامك السعيدة"([172]). ولا يسلك الكيلاني في ذلك درباً غير واضحة ولا مستقيمة، فهو يدأب على خطته وطريقته في العناية باختيار أحسن القصص وأكثرها روعة وجمالاً، كما يدأب على الروية والتمهل والتدبر في صوغها وتنسيقها، ليسير الطفل على سجيته في إمعان الفكر وتدقيق النظر فيما يقرأ، وإطالة الروية في فهم ما يقصه عليه، من قصص تشرح لـه من دقائق الحياة وأسرار النفوس، ما هو في أشد الحاجة إلى معرفته لتستنير له السبيل فيمشي على هدى([173]).

 

ونستطيع تلمس غيرة الكيلاني على العربية وحرصه على مستقبلها بين يدي أبنائها، فضلاً عن قدرته على الإمساك بمخيلة الطفل والارتقاء بها، وإعطائها فضاءً رحباً من التخيلات، تتولد من تنوع الشخصيات وكثرة الأحداث وتطور الوقائع الدرامية بوتيرة سريعة، مع إحساسنا بوجود بعض الثغرات أو القفزات، لا سيما في قصة "الملك لير"، وسنشير إلى ذلك لاحقاً.

 

 

مضمون القصص:

"قصص شكسبير" التي أعدها الكيلاني بالعربية للأطفال، تتكون من أربع قصص، وهـي:

1- العاصفة.

2- تاجر البندقية.

3- يوليوس قيصر.

4- الملك لير.

وفيما يلي تلخيص عام لكل قصة من هذه القصص:

1- العاصفة:

تروي هذه القصة حكاية أمير قديم يدعى "برسبيرو"، كان أميراً لـ"ميلان" في إيطاليا، ولـه ابنة وحيدة تدعى "ميرندا"، وقد نُفي الأمير من بلاده إلى جزيرة نائية حيث تآمر عليه أخوه "أنطنيو" واستولى على الحكم بعدما تحالف مع ملك نابولي، ثم وضع أخاه "برسبيرو" في زورق وقذفه في البحر، حتى وصل هو وابنته إلى جزيرة يملؤها الجن. ولما كان "برسبيرو" عالماً بالسحر عارفاً بأدواته تمكن من السيطرة على الجزيرة والجن الذين يسكنون فيها.

 

وبعد سنوات علم أنّ أخاه وملك نابولي وابن أخيه "فِردِنند" يقومون برحلة بحرية، عندها أمر "برسبيرو" جِنَّه المطيع "آريل" بإثارة عاصفة كبيرة تقود السفينة إلى الجزيرة، وأمره بأن يبعد "فردنند" عن باقي الركاب ويقوده إليه حتى يتعرف إلى ابنته "ميرندا". وقام "برسبيرو" باختبار أخلاق الشاب وشرفه ليتأكد أنه يصلح ليكون أميراً وزوجاً لأميرة.

بعد ذلك ارتدى "برسبيرو" ملابس الإمارة، وفاجأ باقي ركاب السفينة، فما أن أبصر هؤلاء "برسبيرو" أمامهم حتى تملكهم الرعب والفزع، وعلم الجميع أنهم قد أصبحوا رهن رحمة "برسبيرو"، فشعروا بالندم ووخز الضمير.

لكن "برسبيرو" لم يكن ينوي أن ينزل الشر بهم، فعرّفهم أنه قد عفا عنهم ما داموا نادمين معتذرين.

بعد ذلك أمر "برسبيرو" الجن بإصلاح السفينة، ثم عادوا جميعاً إلى بلادهم، وساد الوفاق بينهم وتم عرس "ميرندا" و"فردنند".

 

2- تاجر البندقية:

تدور أحداث هذه القصة في مدينة البندقية الإيطالية الشهيرة، وبطلاها شابان حميمان ثريان في مقتبل العمر، هما "أنطُنيو" و"باسنيو"، ظلا ينفقان المال لمساعدة الفقراء حتى أنفق "باسنيو" كل ثروته.

 

وكان "باسنيو" ينوي الزواج من فتاة تدعى "برشا"، فطلب من "أنطنيو" مساعدته وإقراضه ثلاثة آلاف دينار. لكن "أنطنيو" لم يكن يملك المبلغ، لأنه وضع ماله في التجارة، ومراكبه وبضائعه ستصل في غضون ثلاثة أشهر، ولما علم "أنطنيو" مقدار حاجة صديقه للمال، قرر استدانة المال من رجل يدعى "شيلوك"، وكان "أنطنيو" يكره الرجل ويشتمه لأنه يديّن الناس بالربا ويأخذ المال منهم أضعافاً..

وقد كان "شيلوك" حاقداً على "أنطنيو"، فأخبره أنه سيعطيه المبلغ كاملاً بشرط إن تأخر بالوفاء فإنه سيسترد دينه بمقابل عجيب، وهو عبارة عن رطل من لحم جسد "أنطنيو"، وقد قبل "أنطنيو".

 

وعلى الفور ذهب "باسنيو" إلى مكان إقامة "برشا" وطلبها للزواج، فشعرت بالرضا عن الزواج به، لكن هناك مشكلة واحدة، وهي أن أباها قبل موته أعطاها ثلاثة صناديق: ذهبي وفضي ورصاصي، وضع صورتها في واحد منها، وأمرها وهو على فراش الموت أن على من تختاره للزواج بها أن يكتشف مكان الصورة في محاولة واحدة وإذا فشل فلا تتزوجه.. ولذلك كانت "برشا" خائفة.

 

أمَّا "باسنيو" فقد أصر على اختيار واحد من هذه الصناديق، ووفِّق لاختيار الصندوق الرصاصي لأنه من أنفع المعادن ولم يخدعه بريق الذهب والفضة، وفاز بـ"برشا" عروساً له، فأعطته خاتمها الثمين وطلبت منه ألا يفرط به.

 

بعد أيام علم "باسنيو" أن "أنطنيو" فقد كل مراكبه في البحر، وأن "شيلوك" وضعه بالسجن مطالباً برطل اللحم، فانتقل "باسنيو" إلى المحكمة حيث يحاكم صديقه، وعرض أن يدفع دينه أضعافاً مضاعفة بعدما وضعت "برشا" كل مالها بخدمته لينقذ صديقه الوفي، لكن "شيلوك" لم يرضَ بديلاً عن رطل من لحم "أنطنيو".

فجأة يظهر محام شاب حاول ثني "شيلوك" عن مطلبه لكن ذلك لم ينفع، فقال لـه: خذ رطلاً واحداً، ولكن إياك أن تسقط نقطة دم واحدة.. فهذه جريمة تعاقب عليها.

 

فتراجع "شيلوك" عن مطلبه لكن القاضي عاقبه بأخذ كل ماله، ونكتشف في النهاية أن "برشا" كانت هي ذلك المحامي الذكي.

 

3- يوليوس قيصر:

ينقل الكيلاني عن "شكسبير" أن أحداث هذه القصة وقعت قبل الميلاد بأربع وأربعين سنة، وجرت في مدينة "رومة" أشهر بلاد في الزمان القديم، وتذكر القصة المكانة التي كان "يوليوس قيصر" يحتلها في قلوب الشعب الروماني، فتآمر عليه عدد من المقربين الذين يكرهونه ويحسدونه على ما هو فيه من سلطان ومن حب الشعب لـه، وكان على رأس هؤلاء القائد العسكري "كسياس"، الذي أغرى صديقه "بُرُوتَس" وزين لـه قتل "قيصر"، متهماً إياه بالتكبر والظلم وإن لم يظهر ذلك منه، وبعد أن أقنع "كسياس" "بروتس" بضرورة التخلص من القيصر، بدأت المؤامرات تحاك.

 

ويخرج القيصر إلى دار النيابة، فيحيط به الخائنون ويطعنونه، عندها يثور الناس ويشتد هياج المدينة، وكان للقيصر صديق مقرب بمثابة وزير أو مستشار يدعى "أنطنيوس"، فتظاهر بموافقة القتلة وطلب الصعود للمنبر حتى يهدئ الناس، وكانوا يعرفون مدى قربه من القيصر، وبدلاً من أن يهاجم القيصر، ذكَّر الشعب بمناقب قيصرهم المقتول، وأثارهم من جديد حتى كروا جميعاً ليفتكوا بالقتلة الذين هربوا خائفين من ثورة الشعب.

سار الجيش الموالي للقيصر المقتول لمحاربة "بروتس" و"كسياس" وفي خلال المعركة التي كاد أعداء القيصر يفوزون فيها، وصلت أخبار غير صحيحة إلى "كسياس" بهزيمة جيشه، فخشي أن يقع أسيراً عند "أنطنيوس"، فأمر خادمه بأن يقتله بسيفه الذي قتل به القيصر، وعندما علم "بروتس" بموت "كسياس"، سدد سيفه الذي قتل به القيصر إلى قلبه، فخر صريعاً في لحظته.

 

4- الملك لير:

هذه القصة التاريخية دارت أحداثها في "إنجلترا" منذ نحو ألفي عام – كما ينقل الكيلاني- وفحواها أن الملك "لير" بعدما كبر بالسن؛ اعتزم أن يقسم ملكه بين بناته الثلاث.

اختبر الملك بناته ليعرف مدى محبتهن لـه، فقامت الكبرى والوسطى "جُنريل" و"ريجان" بمداهنته وادعاء الحب لـه، أم الصغرى "كردليا" فرفضت المداهنة فغضب والدها عليها وطردها ثم قسم ملكه بين " جُنريل" و"ريجان"، وفي هذه الأثناء طلب ملك فرنسا الأميرة "كردليا" للزواج وأقامت مع زوجها الملك.

لم يَطُلْ الأمر حتى ضاقت ابنتا "لير" نفساً من أبيهما، فخرج غاضباً عليهما برفقة خادمه (الوزير "كنت") ونديمه "البهلول"، وكانت الليلة عاصفة، ولما اشتدت الريح لجأوا إلى كوخ في الطريق وجدوا فيه رجلاً يدعى "توم" تبدو عليه علامات الجنون.

وبعد مدة وجيزة التقوا شيخاً في ظلام الغابة عرف الوزير "كنت" أنه الأمير "جُلُستر" (من أمراء انكلترا). وكان الأمير "جلستر" مخلصاً لملكه ويحبه، وكان لـه ولدان: "إدجار" و"إدمند"، الأول مثال الوفاء والثاني مثال العقوق، تآمر على أخيه ليطرده أبوه، فهرب "إدجار" وأطلق على نفسه اسم "توم المسكين" وأوهم الناس أنه مجنون ثم عاش في الكوخ الذي ذكرناه قبل قليل. كما تقرب "إدمند" من الملكتين الشقيقتين حتى فاز بثقتهما وأصبح مستشار المملكة كلها.

وبعد أن آوى الأمير "جلستر" الملك "لير"؛ نقل "إدمُند" الخبَر إلى ابنتيه، فرأى "جلستر" ضرورة أن يغادر الملك إلى ابنته الصغرى "كردليا" زوجة ملك فرنسا، حتى لا يتعرض للأخطار، وما كاد الملك "لير" يغادر حتى قامت ابنتاه بالقبض على الأمير "جُلُستر"، وأعمتا عينيه، ثم طردتاه خارج القصر. ويهيم "جلستر" حتى صادف "توم المسكين"، الذي عرفنا أنه ابنه، لكنه لم يكشف هويته لأبيه ، وفي سيرهما التقيا صدفة بالملك "لير" وكان يهذي بجنون، فعرفه "جلستر" من صوته.

وبعد أن عرفت "كردليا" بما أصاب أبيها، قررت الانتقام لـه، لكن جيش "كردليا" انهزم وانتهت المعركة بأسرها وأبيها ووضعا في السجن. ثم دارت منازلة بالسيف بين "إدجار" (توم المسكين) وأخيه "إدمند" كان الفوز فيها لـ"إدجار"، فأصيبت "ريجان" بالفزع ووقعت من فورها جثة هامدة، فقد دست لها أختها " جُنريل" السم لتستأثر بالملك وحدها، لكنها عندما رأت ما حدث طعنت نفسها حتى الموت، وبعد ذلك أسرع "توم المسكين" لإنقاذ الملك وابنته "كردليا" من السجن، لكنه تفاجأ أن "كردليا" لاقت حتفها مصلوبة في السجن، وأن "لير" أصيب بهذيان ثم أغمي عليه فمات.

 

 

محاور الدراسة:

في الصفحات السابقة قدمنا تلخيصاً لقصص "شكسبير" التي قدمها الكيلاني إلى الطفل العربي بأسلوبه، منزلاً أديباً على مستوى "شكسبير" من عليائه، باعتبار أن ما قدمه "شكسبير" وأصبح من روائع الأدب العالمي، هو في الأصل معدٌّ للكبار لا للصغار، كما أنّ لغة "شكسبير" وأسلوبه يمتدان إلى عصره. فجاء كامل كيلاني ليجعل من هذا الأدب العالي، مادة أدبية تناسب الأطفال العرب، وبخاصة أطفال مرحلة الطفولة المتأخرة الذين وجه الكيلاني إليهم هذه القصص، حتى جاءت في مستواها اللغوي والنفسي والعقلي ومضمونها مناسبة لهذه المرحلة وقدراتها الفكرية إلى حد بعيد.. وسنعمل على إبراز خطة الكيلاني في هذه القصص، ودراستها في ثلاثة محاور أساسية، وهي المنهج واللغة والأسلوب.

 

كما ستكون هذه المحاور مدخلاً لبعض الجوانب الأخرى التي يلزم عرضها وتناولها.

أولاً: منهج الكيلاني في قصص شكسبير:

لم يسلك الكيلاني مسلكاً مغايراً لمنهجه العام الذي تناولناه في قصصه الأخرى، ولم يبتدع منهجاً جديداً، مع مزيد من العناية بألفاظه المختارة، وإن حرص على بعض التفاصيل التي تتطلبها هذه القصص بالنظر لشريحة القراء المستهدفة.

 

وقد راعى الكيلاني اعتباراته المنهجية المذكورة، من حيث الشكل والمضمون، ووظفها في خدمة أهدافه المحددة، وهذا كله يؤكد على أن المؤلِّف يسير وفق خطط واضحة جلية، وليس كما اتفق لـه، ويظهر ذلك في الجانب الشكلي والجانب المتعلق بالمضمون؛ ويُلاحظ:

أ - من حيث المظهر العام للقصص:

بدا الكيلاني حريصاً على الجانب الشكلي - وإن كان هذا ليس من مسؤوليات المؤلف بل الناشر - لمجموعة اعتبارات، منها:

أ - أن المظهر الخارجي عامل جذب رئيسي للطفل القارئ.

ب- يقوم وضوح الطباعة بدور فاعل في وصول الفكرة وتحقيق الغرض منها.

ج- سلامة الكلمات من الأخطاء المطبعية كيلا يقع الطفل في أخطاء كتابية تلازمه في المستقبل.

د- الحرص على الشكل الكامل للكلمات لتصحيح نطق الطفل وتعويده على اللفظ الصحيح.

هـ- حجم القصص محدود نسبياً وموحد من حيث الأبعاد، وكذلك من حيث عدد الصفحات تقريباً، وهذا يجعل المجموعة في شكل واحد.

ونلاحظ أن صور الغلاف والصفحات الداخلية جميلة وواضحة، لكن تنقصها الألوان البراقة والأوراق المصقولة اللماعة، أما الإخراج الفني فقد كان ضعيفاً، وهذه المسألة لا يتحمل الكيلاني مسؤوليتها، لأن معظم القصص المتوافرة الآن مطبوعة بعد وفاته، كما أن النسخ المطبوعة أخيراً ليست من حيث الطباعة والورق والإخراج والرسوم والألوان بمستوى القصص العصرية، غير أن ذلك لا يضير الكيلاني وقصصه، لكنها بالتأكيد لا تشكل عاملاً جاذباً للطفل، بل هي - كما أعتقد - من أبرز العوامل إن لم تكن أولها التي تجعل أطفال اليوم لا يقبلون عليها وعلى غيرها عندما تكون رديئة الطباعة، من حيث نوعية الورق والألوان والإخراج ونوع الحرف وحجمه وتوزيع الأسطر والمسافات وغيرها..

ب- من حيث المضمون:

يبرز اهتمام الكيلاني بشكل واضح في محتوى هذه القصص، فهو لم يقم باختيارها عن عبث لكنه أراد من خلال مضمونها تحقيق مجموعة من المبادئ، أهمها:

أ- تعريف الطفل القارئ في المرحلة العمرية المقصودة إلى هذا الأدب العالمي، وإلى شخصية المؤلف الإنكليزي الشهير "شكسبير"، من خلال تقديم مقال مطول عنه في مقدمة القصّة الأولى من المجموعة.

ب- لم يقدم الكيلاني قصص "شكسبير" بصيغتها الإنكليزية القديمة، بل أدخل عليها الكثير من التعديلات في اللغة والأسلوب لتبدو بروح عربية، مع احتفاظه بتفاصيل القصص الأصلية، وتوظيفه للقيم التربوية والإنسانية السامية.

ج- عمد المؤلف في جوانب كثيرة إلى لفت انتباه الطفل القارئ إلى المضامين السلوكية المقصودة وبخاصة في خاتمة كل قصة.

د- تميز مضمون القصص عامة بالبساطة التامة والبعد عن التعقيد المعنوي، بما يناسب الطفولة المتأخرة، غير أن الأحداث الكثيرة التي تصادف القارئ في مراحل متعددة في القصص؛ تجعل عقله نشطاً باستمرار، ويعيش تفاصيل القصة حتى يلابسه شعور خاص بأنه بطل من أبطالها..

يُذكر أننا نجد في بعض هذه القصص، وخصوصاً في قصة الملك "لير"، أحداثاً تتطور بطريقة غير مقنعة، حيث يقدم النص مواقف لا تتم في الحياة العادية إلا مصادفة، وهي بالتأكيد مصادفة نادرة، والحبكة القصصية يجب ألا تقوم على الصدفة كيلا يشعر القارئ بتدخل المؤلف وابتداع مواقف لا تتفق مع التطور الدرامي للأحداث، وما حصل هو أنه عمد إلى ترتيب الأحداث على نحو لا يتطابق مع الواقع دون أن يبرر ما يحدث للقارئ.

 

ففي قصة الملك "لير" يبدو الملك وكأنه أحمق أخرق، وهذا لا يتفق مع طبيعة الملوك الكبار، كما إننا لا نتبين كيف عاد الوزير "كنت" بعدما طرده الملك ليتزيا بزي الخادم، وكذلك التقاء الملك بالرجل المجنون "توم"، وعثور الأمير "جُلستر" عليهما بكل سهولة، بدلاً من أن يقوم بالمهمة جند الأمير، كما إننا لم نفهم ما هو دور "إدمند" في إبعاد الملك "لير"، وقمة الغرابة التي حدثت عن طريق الصدفة؛ هي التقاء الملك "لير" والأمير "جلستر" و"توم" المجنون وهم يهربون جميعاً من المملكة؟!

 

 

الوصف الشكلي:

1- حجم القصص: جاءت القصص في حجم واحد تقريباً (21 × 14.5)  وبعدد صفحات متقارب (العاصفة: 70 صفحة – تاجر البندقية: 64 صفحة – يوليوس قيصر: 80 صفحة – الملك لير: 78 صفحة). ويبدو أن الكيلاني كان حريصاً على وضع صفحات قليلة متساوية تقريباً، حتى يشعر الطفل بوحدة المجموعة، وصغر حجمها، لأنه يريد تحقيق أهدافه العامة بصفحات قليلة، بدلاً من التطويل الذي يدفع الطفل للابتعاد عن القراءة.

 

2- تقسيم القصص: حرص المؤلف على وضع تقسيمات متقاربة، لكنه أخل لسبب غير واضح في بعض التقسيمات، ولا سيما المقدمات، حيث وجدناه قد وضع مقدمة في القصتين الأولى والثالثة، وأغفل هذا الأمر في الثانية والرابعة، دون أن يوضح الأسباب، كما إنه يخلط ما بين المقدمة والتمهيد، وأحياناً يضع تمهيداً يعرِّف القارئ على المكان الذي تجري فيه أحداث القصة، وأحياناً أخرى يتجاوز التمهيد كلياً.

 

لكنه التزم في جميع قصص "شكسبير" بتقسيم كل قصة إلى مجموعة فصول، وكل فصل احتوى على عدد من العناوين بكلمات قليلة يوضح فيها الفكرة ويختصر الفقرة. وفي ذلك – لا شك - تبسيط وتشويق، حيث إن هذه الوقفات ليست عاملاً لحفز الطفل على مواصلة القراءة فحسب، وإنما هي بمثابة أساليب فنية تمثل عاملاً من عوامل الجذب والتشويق. ولا تخفى فوائد ذلك في تشجيع الطفل وحثه على القراءة، فضلاً عما تمثله العناوين الداخلية الفرعية من وقفات أو محطات للاستراحة والتقاط الأنفاس، والطفل عادة يتوقف عن القراءة مرات ومرات أثناء المطالعة، فتكون العناوين محطة للوقوف وحافزاً للمتابعة، وبذلك يحقق المؤلف الهدفين معاً، كما إن الطفل القارئ بإمكانه استخدام العناوين كمؤشرٍ للتوقف وللمتابعة.

 

وقد حرص الكيلاني في ختام كل قصة على وضع خاتمة قصيرة يتناول فيها ما يستفاد من القصة من فوائد أخلاقية وتربوية، ولم يكن يطيل في الشرح والتعليل وإلقاء المواعظ، بل كانت لا تتعدى الأسطر المعدودات، حتى تكون مؤثرة وواضحة ومباشرة.

 

3- الفصول والعناوين: حافظ الكيلاني على تقسيم متقارب للفصول، فجاء عدد الفصول على شكل واحد (أربعة فصول) باستثناء قصة "تاجر البندقية" التي زادت فصلاً واحداً فقط. وقد اكتفى الكيلاني بذكر رقم الفصل دون أن يضع عنواناً محدداً لـه، فيما وضع عناوين فرعية داخلية.

 

ولم يلتزم الكيلاني بمنهج واحد في "الفصل الأول" و"المقدمة" و"التمهيد"، مما أحدث نوعاً من الخلط فيما بينها.. فهو –كما ذكرنا- لم يلتزم بوضع مقدمة في كل القصص، غير أنه وضع عنواناً في بداية قصة "العاصفة" يشبه المقدمة وهو "فاتحة القصة"، ووضع تحت هذا العنوان الرئيسي مباشرة عنواناً فرعياً (تمهيد)، دون أن يراعي التقسيم الذي اعتمده في القصص الأخرى. كما إنه لم يذكر للقصص كلها تمهيداً، فيما نجده في قصة "تاجر البندقية"، يبدأ قصته بالفصل الأول الذي يمكن اعتباره تمهيداً لمشابهته تمهيد "العاصفة"، حيث قدم تعريفاً لمدينة "البندقية" كما قدم تعريفاً للبحر الأبيض المتوسط.

 

ونجد في قصة "يوليوس قيصر" خلطاً فيما بين "الفصل الأول" و"التمهيد" و"فاتحة القصة"، حيث جاء الترتيب مختلفاً عن "العاصفة" و"الملك لير"، مما يشير إلى عدم وجود منهج موحد في تقسيم الفصول والعناوين بين هذه القصص، لكن هذا الخلط لم يؤثر على جوهر القصة، فهو خلل في الشكل الموحد فقط، حيث يفضل - عادة - في الأعمال المسلسلة أن تكون مرتبة ترتيباً واحداً لتتحقق فيها الوحدة والتجانس. وفيما يلي أربعة جداول تبين تقسيمات الكيلاني لفصول قصصه وعناوينها:

 

الجدول رقم (2)

 

قصة: العاصفة                                                                                         عدد صفحاتها: 70

مقدمة

فاتحة القصة

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

خاتمة القصة

شكسبير:

1- تمهيد

1- هبوب العاصفة

1- بين برسبيرو وآريل

1- حيلة آريل

1- عطف ميرندا على فردنند

1- عودة آريل

1- وداع الجزيرة

1- نشأته

2- برسبيرو وميرندا

2- حزن ميرندا

2- آريل يلتمس الحرية

2- نشيد آريل

2- مفاجأة برسبيرو

2- بشرى الخلاص

2- أغنية آريل

2- في دكان أبيه

3- بيت برسبيرو

3- حوار عجيب

3- برسبيرو يهدد آريل

3- أمام الكهف

3- شكر فردنند

3- بين برسبيرو وأصحابه

3- في مدينة ميلان

3- هربه من لندن

4- الساحرة سكورتس

4- ذكريات محزنة

4- يقظة ميرندا

4- حوار فردنند وميرندا

4- انتقام آريل

4- حوار برسبيرو وألنزو

4- ثمرة الصفح

4- في مسرح لندن

5- آريل

5- قصة برسبيرو

5- بين برسبيرو وكليبان

5- بين فردنند وبرسبيرو

 

5- بين برسبيرو وجنزلو

 

5- في ذروة المجد

6- كليبان

6- نوم ميرندا

6- برسبيرو يتوعد كليبان

6- خضوع فردنند

 

6- بين برسبيرو وأنطونيو

 

 

7- بين آريل وكليبان

 

 

7- فردنند في الأسر

 

7- دعاء ألنزو

 

 

8- مزايا آريل

 

 

 

 

8- عقد الزواج

 

 

 

 

 

 

 

9- صفح برسبيرو

 

 

الجدول رقم (3)

 

قصة : تاجر البندقية                                                                           عدد صفحاتها: 64

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

خاتمة القصة

1- البندقية

1- شيلوك

1- برشا الحسناء

1- في قصر برشا

1- في قاعة المحكمة

1- في قصر برشا

2- الصديقان

2- في بيت شيلوك

2- آلام برشا

2- ساعة الاختيار

2- قسوة شيلوك

2- غضب برشا

3- مزايا الصديقين

3- حيلة شيلوك

3- بين برشا ونرسيا

3- أمام الصناديق

3- مقدم باسنيو

3- محامي أنطنيو

4- حديث الصديقين

4- شريطة شيلوك

4- شكاية برشا

4- نجوى باسنيو

4- حوار شيلوك

4- مفاجأة سارة

5- ختام الحديث

5- حوار مع الصديقين والشيخ

5- صورة برشا

5- الجَدُّ السعيد

5- بين المحامي وشيلوك

 

 

6- نجاح شيلوك

6- نصيحة نرسيا

6- خاتم الزواج

6- براعة المحامي

 

 

 

7- كتاب باسنيو

7- مفاجأة محزنة

7- خاتم العرس

 


 

الجدول رقم (4)

 

قصة: يوليوس قيصر                                                                                  عدد صفحاتها: 80

مقدمة

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

خاتمة القصة

موجهة للطفل القارئ بلا عناوين

1- فاتحة القصة

1- وساوس بروتس

1- النذير الأول

1- لقاء الصديقين

1- قبيل المعركة

2- بهجة العيدين

2- مسوغات الجريمة

2- النذير الثاني

2- بين بروتس وكسياس

2- هزيمة أكتوفيوس

3- خصوم قيصر

3- بطاقة المؤامرة

3- ضراعة المؤتمرين

3- حوار صاخب

3- مصرع كسياس

4- الحاسدان

4- اقتراح كسياس

4- الأغنية الأخيرة

4- صلح الصديقين

4- مصرع بروتس

5- جواب النجار

5- في الساعة الثالثة

5- مصرع قيصر

5- طيف قيصر

5- مرثية أنطنيوس

6- حوار الإسكاف

6- حوار برشا

6- شناعة الهول

 

 

7- خطاب مرلاس

7- رسول الشر

7- مقدم أنطنيوس

 

 

8- عقاب الحاسدين

8- في بيت قيصر

8- خطبة بروتس

 

 

9- نداء العراف

9- حلم كَلُبْرنِيا

9- خطبة أنطنيوس

 

 

10- حوار الصديقين

10- تأويل الرؤيا

10- وصية قيصر

 

 

11- شكوى كسياس

11- حيلة كسياس

11- مقدم أكتوفيوس

 

 

12- حقد كسياس

12- جزع برشا

 

 

 

13- عودة قيصر

 

 

 

 

14- حديث كَسْكا

 

 

 

 

15- ليلة هادئة

 

 

 

 

 

الجدول رقم (5)

 

قصة: الملك لير                                                                                        عدد صفحاتها: 78

تمهيد

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

1- قصة عجوز

1- عهد الشيخوخة

1- في قصر جنريل

1- هبوب العاصفة

1- الأمير جُلستر
1- هزيمة كردليا

2- مهرجان الملك

2- بنات الملك لير

2- خبث جنريل

2- الأعاصير والرعود

2- ولدا الأمير

2- الخبثاء الثلاثة

 

3- حديث جنريل

3- وفاء الوزير

3- نشيد العاصفة

3- فرار إدجار

3- بين ألباني وإدمند

 

4- حديث ريجان

4- البهلول

4- آلام الشيخ

4- مستشار المملكة

4- بين إدمند وإدجار

 

5- حديث كردليا

5- ذكاء البهلول

5- أنشودة البهلول

5- الجاسوس

5- مصارع الخبثاء الثلاثة

 

6- نبل كردليا

6- قصة العصفور والغراب

6- شيطان الغابة

6- نصيحة الأمير

6- توبة الهالك

 

7- غضب لير

7- حاشية الملك

7- الأمير الوفي

7- نكبة الأمير

7- مصرع كردليا

 

8- مهرجان الملك

8- دعوة لير

8- في بيت الأمير

8- الزارع والأمير

8- لوعة الثاكل

 

9- وداع كردليا

9- دعابة بهلول

 

9- الأمير والمجنون

9- خاتمة لير

 

 

10- عند ريجان

 

10- حوار الأمير وولده

 

 

 

11- حبس الوزير

 

11- في الحقول

 

 

 

12- مقدم لير

 

12- عودة المُخْلِصة

 

 

 

13- حقوق الوالدين

 

13- نصيحة الطبيب

 

 

 

14- مقدم جنريل

 

14- مناجاة كردليا

 

 

 

15- غضبة الشيخ

 

15- يقظة الشيخ

 

 

 

 

 

16- حواره مع كردليا

 

 

 

 

 

17- اعتذار النادم

 

 

 

 

ثانياً: لغة الكيلاني في قصص "شكسبير":

إنّ البحث في لغة الكيلاني في هذه المجموعة القصصية؛ يقود الباحث إلى أن المستوى اللغوي العام المستخدم يتجاوز مرحلة الطفولة المتأخرة، بل هنالك كلمات تتجاوز مستوى بعض البالغين غير المتخصصين، مثلاً: جمهرة البلاد، سواد الشعب، لا تقرُّ([174])، أوغر صدره([175])، مؤرق([176])، مرأى من النظارة ([177])، المقت، يزدرونه، كان مُريباً([178])، إزراء، الامتهان، الخنَّوص، وسمت ([179])، ومثل هذا كثير مطّرد. ولولا قيام الكيلاني بشرح هذه الألفاظ لنفر منها الكبار قبل الصغار، خصوصاً أن هنالك كلمات استخدمها الكيلاني مع ندرة استخدامها في مفردات العصر الحالي، وحرص على ذكرها إحياءً لها، ونجد لها أمثلة كثيرة منها كلمات: المُحْنِق([180])، الحاتل([181])، سراة الناس([182])، الرِّياش([183])، أصيخُ([184])، يؤسِّيه([185])، التَّعِلاَّت([186])، أَثَمة([187])، بلبال([188])، دخلته([189]).

ولو تتبعنا مثل هذه الكلمات لوجدناها كثيرة مفرطة، فيما نرى كتَّاب الأطفال المعاصرين يعزفون عن استخدام مثل هذه الكلمات لصعوبتها ووعورتها، لكن غاية الكيلاني كانت الارتقاء بالتحصيل اللغوي للطفل في المقام الأول، والقصة بين يديه ليست إلاّ وسيلة لتحقيق هذا الهدف دون أن يهمل أهدافه الأخرى، ويتضح هذا الأمر جلياً في مقدمة قصة "يوليوس قيصر"، حيث يقول مخاطباً الطفل القارئ:

"دأبت على خطتي معك (سرت على طريقتي)، في العناية باختيار أحسن القصص وأكثرها روعةً وجمالاً، كما دأبت على الروية والتمهل والتدبر في صوغها وتنسيقها، وكلي ثقة في أن تجري معي على سجيتك (طبيعتك) في إمعان الفكر وتدقيق النظر فيما تقرأ، وإطالة الروية في فهم ما أقصه عليك"([190]).

 

وما يطلبه الكيلاني ويتوقعه من الطفل القارئ، لا يتم إلا بعد تدبره للكلمات، وفهم العبارات، التي قد يراها البعض أعلى من قاموس الطفل اللغوي، لكن الكيلاني يفترض أن الطفل القارئ لهذه المجموعة لا بدَّ وأن يكون قد قرأ مجموعاته السابقة، فيصبح – بعد ذلك – قادراً على قراءة وفهم وإدراك لغة قصص "شكسبير" ومحتواها([191]).

 

لكن هذا الافتراض ليس حتمياً بالضرورة، وحتى لو وافقنا الكيلاني جدلاً على اعتقاده هذا، ففي هذه الحال تكون هذه المجموعة موجهة فقط إلى أطفال محددين، أي الذين قرأوا للكيلاني من قبل واستوعبوا ما قرأوه، ومن ثم فإن الأطفال الآخرين الذين لم يطلعوا على قصص الكيلاني في مراحل حياتهم السابقة هم غير مؤهلين لقراءة هذه المجموعة من القصص. فهو في هذه الحال يحصر قراءة هذه المجموعة في فئة من الأطفال دون غيرهم من الذين لم يتسنَّ لهم سابقاً الاطلاع على كل قصص الكيلاني، وحتى بعضها.

 

ويعمد الكيلاني إلى طريقتين أساسيتين مباشرتين لتثبيت اللغة التي يخاطب بها الطفل القارئ ومساعدته على فهمها وحفظها واستيعابها، لاستخدامها في المستقبل، وهاتان الطريقتان هما: التكرار وشرح المفردات، إلى جانب طرق أخرى سنذكرها لاحقاً تحت عناوين مختلفة.

 

1- التكرار:

يلتزم كامل كيلاني باستخدام أسلوب تكرار الكلمات والنعوت كعادته في قصصه الأخرى، بهدف غرس هذه الكلمات وطرق استخدامها في ذهن الطفل وضمها إلى قاموسه اللغوي بصورها المختلفة، خصوصاً الكلمات التي يراها الكيلاني غير متداولة في حياة الطفل، بهدف تنمية ذخيرة الطفل اللغوية، وتأهيله لاستخدام هذه الألفاظ في أساليبها المتنوعة، ومعانيها المختلفة حسب ورودها في السياق.

ونرى أن الكيلاني سخَّر عدة وسائل لتحقيق غايته، منها:

أ- تكرار الكلمة في الشكل والمعنى، مثل: وقعت تكررت ثلاث مرات في صفحة واحدة([192]).

ب- تكرار الكلمة في شكل جديد، "تبتهجون"، "ابتهاج"([193]).

ج- تكرار الكلمة في معنى جديد، مثل: "أصلح النعال كما يصلح الطبيب الأجسام([194]).

د- تكرار الكلمة الواحدة في معان متعددة، مثل: " لا أقترض منك المال كما يقترض الصديق من صديقه، ولكني أقترضه كما يقترضه العدو اللدود من عدوِّه اللدود"([195]).

 

ونذكر أن تكرار الكلمات عند الكيلاني يأتي بسياقات مختلفة أو بمضامين مختلفة، وربما يكررها وإن كانت بالمعنى نفسه، والمضمون نفسه، لتحقيق هدفه الذي صرح به، ويتركز حول تنمية ثروة الطفل اللغوية.

وهنالك أمثلة كثيرة على تكرار المفردات؛ مثلاً كلمة "نعال"، حيث وردت في صفحة واحدة ثلاث مرات أيضاً([196]). ونجد كلمة "صديق" تكررت في قصة واحدة مرات كثيرة وفي أكثر من موقع وأكثر من استخدام([197]). ومثلها كلمة "صديقة"([198]). ونجده أيضاً يكرر كلمة "زوج" و"زوجة" في قصة واحدة أكثر من (عشرين) مرة في عشر صفحات فقط([199])، ثم يعود لتكرارها مرات متعددة في صفحات تالية متفرقة.

 

وفي قصة "الملك لير" نجد كلمة "ثناء" تتكرر في صفحات متتالية([200])، وفي صفحة واحدة نجد كلمة "نصح" تتردد أربع مرات([201])، وكلمة خدمة وخدم سبع مرات([202])، ثم يعود ليكرر الكلمة نفسها مرتين بعد صفحتين فقط([203]).

وقد نجح الكيلاني باستخدام أسلوب التكرار بالدمج ما بين عنصرين مهمين، وهما التكرار الذي يتطلبه النص، والتكرار الذي يحقق هدفه التعليمي.

 

ونستدل على سبيل المثال بفقرة كرر فيها كلمة "جمال" وما يتصل بجذر هذه الكلمة من تغييرات في سياقات مختلفة وبمعنى واحد، دون أن يخل ذلك بجمال العبارات، ودون أن نشعر بأن الكلمة قد أقحمت في الجمل.. يقول الكيلاني:

"البندقية مدينة جميلة فاتنة، هل سمعت بجمال البندقية أيها القارئ الصغير؟ إن كنت لم تزرها في حياتك، أو لم تسمع بجمال موقعها وروعة مناظرها، فما أظنك نسيت ما قرأته عنها.. بأن مدينة البندقية من أجمل مدن إيطاليا.. وليس يعنيني أن أصف لك جمال هذه المدينة الآن.."([204]).

 

وهكذا نلاحظ أنه كرر الكلمة بصيغ متعددة: جميلة – جمال – أجمل.

كما إنه كرر الكلمات التالية: البندقية (ثلاث مرات)، مدينة (ثلاث مرات)، سمعت، تسمع... وهذا الأسلوب مطّرد في هذه المجموعة بشكل ظاهر.

 

يبقى القول إن من هذه الظاهرة ذكر الكلمة بمعناها مكررة ومثال ذلك:

"هاوية الشقاء وحفرة الإفلاس"([205])، "إصغاراً لشأني وتحقيراً لأمري"([206])، "الكوارث والمحن"([207])، "لقد تألبت.. واجتمعت"([208])، "الحسرة والأسف"([209])، "المديح والثناء"([210])، "زهواً وكِبراً وتعالياً وغطرسةً"([211])، "التهديد والوعيد"([212])، "أدرك حقائق الأشياء التي كان الرياء والنفاق يسترانها عن ناظريه ويحجبانها عن عينيه"([213])، "لا يعاملونه بغير الإهمال والاحتقار وقلة الاكتراث"([214])، "البحر الكبير.. البحر العظيم.. البحر الواسع العميق"([215])، "سلوته وعزاؤه وسعادته"([216])، "الشتم والسباب"([217])، "ملأت قلبك فزعاً وخوفاً وهلعاً"([218])، "الجحيم مأواك والنار مثواك"([219])

وهذا التكرار في المعنى الذي يصاحبه تبادل في المبنى، لا يأتي المؤلف به عفواً، بل هو قائم على حسن اختيار للكلمة في موضعها، فلننظر مثلاً إلى هذه المقابلة العجيبة التي تحدثها الجملة:

 

هاوية          =      حفرة

الشقاء          =      الإفلاس

 

أي يمكن للجملة أن تحمل شكلين على الشكل التالي:

هاوية          الشقاء

                الإفلاس

=     

الشقاء

حفرة           الإفلاس

وهكذا يمكن للطفل أن يستوعب الصورتين، من خلال تقارب المعنى وتبادل الأمكنة، ومثلها جملة:

                الكبير

البحر           العظيم

                الواسع

                العميق

 

 

فهو يكرر لفظة البحر مع صفة مشابهة في المعنى لصفات أخرى، ليؤكد هذا المعنى للطفل، ويرسخ المفردات والمترادفات، وإن كان بينها فروق دقيقة قد لا تدركها أعمار الطفولة في مراحلها المتأخرة.

 

وهذا التكرار المعنوي يشبه إلى حد بعيد ظاهرة التكرار اللفظي من حيث الأهداف والتوقعات والنتائج.. وله من المزايا ما لا يقل عن مزايا "اللفظي"، ويحقق نمواً في تنوع الحصيلة اللغوية وفاعليتها في آن معاً، كونها تركز على المعنى قبل تركيزها على اللفظة وشروحها، حيث إن هذه الطريقة تمثل -في اعتقادي- مرحلة متقدمة تفوق التعليم المباشر عبر شرح الكلمات ضمن معكوفين كيلا تتحول القصة والأدب إلى كتاب مدرسي ممل..

2- شرح المفردات:

علمنا سابقاً أنّ من أهداف الكيلاني الأساسية؛ تنمية ثروة الطفل اللغوية، وتعليمه مفردات جديدة، وتقديمها لـه بقوالب مختلفة يعرف طرق استخدامها ومعانيها في سياقها. وهذه ظاهرة قد تكون الأبرز في هذه المجموعة القصصية، حيث نلاحظ اهتمامه الشديد بشرح كم هائل من المفردات، ووضع الشرح بين معكوفين، مما يشكل كثافة عالية لشرح المفردات ولهذه الظاهرة أمثلة كثيرة جداً، نكتفي بذكر بعضها:

 

أ- في قصة "العاصفة":

مقفرة (خالية من الناس)([220])، جميلة الخَلق والخُلق (حسناء الصورة، كريمة الفعال)([221])، لم يدر بخلده (لم يمر بخاطره)، كما اتفق (مصادفة)، المقادير (ما يقدره الله من الحوادث)([222])، قوي البأس (عظيم الشجاعة، شديد البطش والفتك)([223])، يصرخ ويهدد (يردد صوته في حنجرته كما يفعل الجمل)([224])، عاصفة هوجاء (زوبعة تهب في نواح مختلفة)([225])، ارتفاع الأمواج واصطخابها (تخبطها وشدة اختلاط أصواتها)([226])، أوشكت (قربت)([227])، يشفي الأصم من صممه (يعيد حاسة السمع إلى من فقدها)([228])، صاغرين (أذلاء خاضعين)، يعرجون علينا (يميلون إلينا)([229])، الغاشية (المصيبة النازلة)، عرتهم الحمى (أصابتهم)، اليم (البحر)، مؤثرين (مفضلين)، المستعر (الملتهب)، الملاحون (النوتيون)([230]).

 

ب- في قصة "تاجر البندقية":

في أصيل يوم من الأيام (في وقت العصر منه)([231])، الحميمان (المخلصان)، الشفيق الحدب (الكثير الشفقة)، أصدقهم إخاء (صداقة ومودة)([232])، مولع (شديد الرغبة والاهتمام)([233])، يلوذ به (يلجأ إليه)، المعوزون (الفقراء والمحتاجون)([234])، المخالب (أظفار المفترس من الحيوان والطير)، لا تحفل (لا تهتم)([235])، الطِّلبة العزيزة المنال (الرغبة التي يصعب إدراكها)([236])، الرياش (متاع المنزل وفراشه)([237]).

 

ج- في قصة "يوليوس قيصر":

عودوا أدرَاجكم (ارجعوا من حيث أتيتم)([238])، الخرقاء (الحمقاء)، النيابة (العضوية في البرلمان)([239])، حفزتني تلك الخلال الكريمة (دفعتني تلك الأخلاق النبيلة)([240])، أوغر صدره (أشعله غيظاً)([241])، العواصف الهُوج (الرياح التي تهب يميناً وشمالاً)([242])، تفضي إليَّ بِدِخلتك (تبوح لي بخفي أمرك)، تتنفس الصُّعَداء (تتنفس طويلاً من شدَّة الهم)، خاشنتني (أغلظت عليّ في الكلام)([243]).

 

د-  ومثال ذلك في قصة "الملك لير":

خطوب (مصائب)، نيَّفت (زادت)، الحرث (الزرع)، النسل (الأولاد)([244])، تألبت (تجمعت)، ضروب (أصناف)، أنانية (حب الذات)([245])، خطل الرأي (فساد التفكير)([246])، امرأة سوء (خبيثة)([247])، ادخرت (احتفظت)([248])، تمادى (استمر)([249]).

وقد عمدنا إلى عرض هذا الكم من الكلمات التي تم شرحها – وهي نماذج قليلة بالنسبة لما وجدناه في هذه القصص – لتكشف لنا الجوانب الآتية:

أولاً: ازدحمت الصفحات بالشروحات داخل المتن، حتى ظهرت القصص وكأنها قاموس في اللغة والمفردات أو معجم بسيط للأطفال، مما قد يحدث إرباكاً لدى الطفل، حيث يضطر إما لإغفال ما بعض الكلمات والقفز فوقها وإهمال الشروحات، وإما يتوقف لقراءة الشرح مما يقطع عليه متعة تذوق جمال النص، فيشعر أن النص تعليمي بالمرتبة الأولى. كما إن ذلك يزعج الطفل الذي يدرك معاني الكلمات، وخصوصاً ما شرحه المؤلف سابقاً وأعاد شرحه في صفحات تالية، لكن رغبة الكيلاني الشديدة في تنمية ذخيرة الطفل اللغوية دفعت به إلى هذا التكرار الذي حرم الطفل من فرصة إعمال فكره في اكتشاف معاني الكلمات بنفسه ومن خلال السياق. ولا يخفى مقدار المتعة التي يحققها الطفل جراء الاكتشاف الذي يحققه بنفسه، كما إنه بالإمكان عند الضرورة شرح الكلمات الصعبة والجديدة في الهامش دون المتن.

 

لكن لا بد من ملاحظة أن الكيلاني كان مدركاً أيضاً أن الطفل لا يحبذ قراءة شروح الكلمات في الهوامش ويريد الانتهاء من القصة بشكل سريع، فلو قام المؤلف بشرح الكلمات في الهامش لأغفلها القارئ، كما أن التكرار بنظره – أي تكرار الشروح- يشابه تكرار الكلمات في القصة نفسها؛ مما يساعد في تثبيت الكلمة ومعانيها في عقول النشء.. ورغم كل هذه المبررات نجد أنّ ازدحام المتن بكل هذه الشروح يثقل على القارئ، وكان الأولى تخفيف جرعة المفردات الصعبة وشرحها، وترك القارئ يكتشف المعنى بنفسه.

 

ثانياً: شرح المؤلف مجموعة كبيرة من الكلمات مرات متكررة، كما نجد مثلاً في قصة "العاصفة"، حيث شرح معنى "العاصفة الهوجاء" في الصفحة رقم (6) ثم عاد وشرحها في الصفحة رقم (29)، وكذلك أعاد شرحها في قصة "يوليوس قيصر" في الصفحة رقم (12)، كما أنه يشرح الكلمة في عدة أشكال مثل: مداعباً (ممازحاً) ودعابته (مزاحه)، في الصفحتين (25 و27) من قصة "الملِك لير"، ولا ضير في هذا التكرار إذا لم يكن متكلفاً، لأن الكيلاني يرغب بتعليم الطفل استخدامات متفرقة للمفردة الواحدة، ويسعى لترسيخها وتثبيتها في ذهن الطفل عبر تكرارها وتكرار شرحها أيضاً، وهذا التكرار في استخدامات متعددة يحقق أيضاً فائدة تعليمية مهمة؛ حيث يدرك الطفل رحابة اللغة العربية وطواعية المفردة الواحدة للتنوع والتشكل، وإمكانية استبدال كلمة مكان أخرى بالمعنى ذاته لكن بشكل مختلف.

 

ثالثاً: من الملاحظ أن الكيلاني كان يشرح مفردة ويترك غيرها مع أنها قد تكون أشد صعوبة منها، فلا ندري كيف حدد الكيلاني مستوى قاموس الطفل اللغوي، ولا نجد تبريراً لذلك؟

فالكيلاني يشرح كلمات مثل: أعباء([250])، فناء([251])، أمنية([252])، لوح([253])، وهي كلمات بسيطة وليست بمستوى صعوبة كلمات كثيرة أغفل شرحها مثل: تضمر، الحنو([254])، خلابة([255])، آلت([256])، سَرِيٌّ عظيم([257])، متبرمة([258])، رغيدة([259])، وهذا أمر يمكن ملاحظته بسهولة، ولا يكفي الافتراض بأن هذه الكلمات وردت في قصص سابقة للمؤلف ولا يحتاج إلى شرحها مجدداً، خاصة أنه يشرح كلمة معينة مرات عدة في القصة الواحدة.. مما يشير إلى أن منهج الكيلاني في شرح بعض المفردات لا يقوم على أساس واضح محدد.

رابعاً: ما يقوم به الكيلاني من شرح للمفردات قد يؤدي أحياناً إلى زيادة الغموض عند القارئ، حيث يشرح بعض الكلمات بكلمات أكثر تعقيداً، تحتاج هي نفسها لشرح، ومع أنه يقصد تقريبها للأفهام فإنه يزيدها إبهاماً، ومثال ذلك نجده في كثير من الصفحات، فهو مثلاً يشرح كلمة "اللب" بـ"الخلاصة والصميم"([260])، وكلمة "يدينون" بـ"يذعنون"([261])، ولا يخفى أن الثانية أصعب من الأولى، ومثل ذلك:

أشتط (أغالي)([262])، عليَّة الناس (أعيان)([263])، جدير (حقيق)([264])، غريمك (مدينك)([265])، تُخلد (تركن)([266])، ساهداً (مؤرقاً)([267])، تعداد مناقبه (التمدُّح بخِلاله)([268])، تتغاضى (تتسمَّح)([269]).

 

 

ثالثاً: أبرز الخصائص في قصص "شكسبير":

يتميز أسلوب كامل كيلاني في مجموعة "قصص شكسبير" – كسائر قصصه – بالقدرة الفائقة على انتقاء الألفاظ، وسبك المعاني، بأسلوب بسيط سهل يمكن وصفه بالسهل الممتنع، فالجمل التي يستخدمها بسيطة رشيقة، مكثفة التصاوير والمعاني، وهذا ما يتفق بالتأكيد مع ماهية قصص الأطفال من حيث إذكاء خيال الطفل وشحذ قدراته التصويرية التي تفتح ذهنه وتجعله يحلق في فضاء النص، وما وراء النص، ثم يستطيع أن يستفيد فيما بعد من كل ما حصده من صور تخيلية تجعله ينطلق إلى عالم الاكتشاف والإبداع.

ونجد في هذه القصص انسجاماً شبه تام، من حيث تناسق الأبعاد المختلفة في استخدام المفردة أولاً، ثم ملصقاتها، ثم الجملة والفقرة والفصول، والقصة ككل.

 

ويبدو أن الكيلاني قد استفاد من ثقافته الواسعة وقام باستثمارها داخل النص القصصي، وتضمينها في الدراما حتى يمكن اعتبارها جزءاً أصيلاً من النص، يدور في فلكه ويتجلى في تجلياته..

وهناك خصائص أساسية يمكن ملاحظتها وهي:

الاقتباس القرآني، الأمثال والعبر، الأغاني والشعر، السجع، التضاد اللفظي والمعنوي، التشبيه والنعوت، وأخيراً الوصف والتصوير.

ولعل فرض مثل هذه الظواهر الخارجية وجعلها موضوعية وأصيلة في النص تحلق في أفقه، من العوامل الطيبة التي تجعل الطفل قريباً من هذه المثل التي يقدمها القرآن الكريم باعتباره دستور الأمة ونبراسها، وما تمثله الأمثال من تجارب سابقة حكيمة، وما يقدمه الشعر من فوائد لغوية وذوقية وفنية إضافة إلى الخصائص الأخرى:

 

1- الاقتباس القرآني:

لا نجد غرابة من تضمين بعض صفحات القصص كلمات وآيات مقتبسة من القرآن الكريم، خصوصاً بعدما عرفنا ميول الكيلاني الدينية، وثقافته الأزهرية.

ونجد أمثلة عديدة لاقتباساته من القرآن الكريم في مواضع متفرقة منها:

- "قست قلوب الناس"([270]).

وإضفاء القسوة على القلوب وصف ورد في القرآن الكريم عدة مرات منها:

(ثُمَّ قَسَتْ قُلوبُكم مِنْ بَعدِ ذَلك فَهِي كالحجارة أَوْ أَشدُّ قَسْوَة)([271])، (.. ولكنْ قَسَتْ قُلوبُهم..)([272])، (.. فَطَالَ عَليهم الأمدُ فَقَستْ قُلوبُهم)([273]).

وَلْننظر أيضاً إلى قوله:

"خيّل للناس أن البراكين انفجرت، وأن الكواكب انتثرت وأن الجحيم سعرت"([274]).

وهذا الوصف يتفق مع الآيات: (وإذا البحارُ سُجِّرتْ * وإذا النُّفوسُ زوّجَت * وإذا الموؤدَةُ سُئلت * بأي ذنب قُتِلَتْ * وإذا الصحفُ نُشِرتْ * وإذا السَّمَاء كُشطتْ * وإذا الجَحيم سُعِّرت...)([275]).

ومثل ذلك قول الكيلاني:  "كل إنسان يعمل على شاكلته"([276]).

يقابله:  (قُلْ كلٌّ يَعْمَل على شَاكلته)([277]).

ومنها قوله: "يكاد سناه يخطف الأبصار"([278]).

يقابله قوله تعالى: (يكادُ البرقُ يخطَفُ أبصارَهم)([279])، (يكادُ سنا بَرقِه يَذهبُ بالأبصَار)([280]).

ومنها: "الدنيا زلزلت زلزالها"([281]).

يقابلهُ: (إذا زُلْزِلت الأرضُ زِلزَالها)([282]).

ومنها قوله: "ليس لي أن آمر بما ليس لي به علم"([283]).

وتقابله الآية: (فلِمَ تُحاجون فيما ليس لكم به علم)([284])، (ما ليس لي به علم)([285]).. وغير ذلك من الآيات.

ومنها قوله:  "وقد نبذ بالعراء"([286]).

يقابله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم)([287]).

ومنها قوله:  "دارت به الأرض وضاقت به السبل"([288]).

يقابله: (وَضَاقَتْ عليكُم الأرضُ بِمَا رَحُبَتْ)([289])، (حتى إذَا ضَاقتْ عليهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أَنْفُسُهم)([290]).

ومنها قوله: "أنى لك القدرة"([291])؟

يقابله: (أنىّ لَكِ هذا)([292])، (أنّى يكونُ لي غُلام)([293])؟

وهذا الاقتباس يكشف لنا سراً من أسرار بلاغة الكيلاني، وسمو لغته، وقدرته الفائقة على تشكيل النصوص وتنويعها، فضلاً عن تمكنه من اللغة، وإمكاناته العالية في ضبط النصوص والمفردات وسبكها في قالب لغوي راق ومميز. فالتأثير القرآني ظاهر بوضوح، وإن لم يكن هناك تناص مباشر في بعض الأحيان، ولنستمع إلى هذا الوصف الدقيق الذي يشبه الطوفان الذي حدث في زمن النبي "نوح" عليه السلام، يقول الكيلاني على لسان الملك "لير":

"هبي أيتها الرياح القاسية العنيفة، التي تهلك المدائن وتفسد الأرضين المنبسطة منها، والمملوءة أحجاراً ورمالاً، والتي لا زرع فيها ولا نبات، ثم أنزلي مطرك يغطي الأبنية العالية ويغرق الأراضي المزروعة"([294]).

فهذا النص تقابله حادثة الطوفان التي جاء ذكرها في سورة "هود"، وكانت خاتمة قصة الطوفان الذي أغرق الأرض ونجاة "نوح" ومن معه:

(وقِيلَ يا أرضُ ابلعي مَاءَكِ ويا سماءُ أقلعي وَغِيضَ الماءُ وَقُضيَ الأمرُ واستوتْ على الجودي، وقِيل بُعداً للقوم الظالمين)([295]).

 

2- الأمثال والعبر:

وظّف الكيلاني كثيراً من الأمثال والعبر والحكم في قصصه لتكون عبرة للطفل بطريقة غير مباشرة، وأحياناً يستخدم القصة، أو الآراء الشخصية على لسان شخصياته المختلفة أو على لسان الراوي.

ومن العبر المفيدة التي جاءت على شكل قصة، ما رواه "البهلول" للملك "لير" قائلاً:

"إن عصفوراً أبصر غراباً وليداً في عُشه، يكاد يهلك، فقرب منه ما يبعث في جسمه الدفء، وسقاه ما يشفيه، فلما نشط الغراب الصغير وتقدمت به الأيام، وبلغ مبلغ الشباب، دفعته نفسه الشريرة إلى أن يقتل العصفور الذي قدم لـه فضلاً وأسدى إليه جميلاً، وذلك سوء الجزاء"([296]).

 

ولا يكتفي الكيلاني بذكر هذه القصة – العبرة، بل يعمل في الصفحة نفسها على تقديمها بشكل أنشودة ومطلعها:

قد حدثنا أصـدق الأمثـالِ       فيما مضى من الزمان الخالي

ومن الحكم المعبرة التي يذكرها على لسان "لير": "إن أحقر الأشياء ليصبح عظيم القدر جليل الخطر متى اشتدت إليه الحاجة"([297]).

ويورد الكيلاني على لسان "بروتس":

"إن بيضة الأفعى لا بدَّ أن تفرخ بعد حين، ثم تصبح حية خبيثة مؤذية تفتك بكل ما تلقاه في طريقها وما أجدرنا أن نحطم البيضة قبل أن تخرج منها الحية.. والحياة حذرتنا أن نخدع بالمظاهر.."([298]).

ومن العبر أيضاً: "إنّ عين الحب عمياء لا تنظر إلى المساوئ والعيوب"([299])، "إن عين الرياء والنفاق هي وحدها التي تعمى عن الغلط ولا ترى العيوب، ولو عظمت حتى أصبحت مثل الجبل"([300]).

ومنها أيضاً: السيف كفيل بالقضاء بيننا جميعاً، وهو قاضٍ عادل لا يُرَدُّ له حُكمُ ولا ينقض له أمر"([301]).

ومنها أيضاً: "إنّ الصديق لن يكون جديراً بهذا الاسم إلا إذا بذل لصاحبه كل ما يستطيع أن يبذله من جاه ومال"([302])، "المضطر يركب الصَّعب ولا يبالي عاقبة الأمور"([303])، "متى عُرِفَ السبب بطل العجب"([304])، إن النفس قد تضجر من الراحة كما تضجر من العناء، وليس أشق على النفس من أن تحيا حياة متشابهة، وتقضي عمرها كله على وتيرة واحدة، فتمر بها الأيام الحلوة، وكأنها – لتماثُلها – يوم واحد يتكرر"([305])، "طالما رأينا طوائف من صغار النفوس يساعفهم الحظ، ويتيح لهم الزمن أثمن الفرص التي لا يظفر بها كرام الناس وأخيارهم"([306])، "اليأس إحدى الراحتين"([307])، "الشتم والسباب أضعف حيلة يلجأ إليها العاجز الضعيف، وهما دليلان على سوء الأدب وخُبث النَّفسِ"([308])، "لكل شيء أجل وميقات"([309])، "الندم دليل الإخلاص"([310]).

وعلى هذا المنوال يحوك الكيلاني قصصه، فهو لا يسعى من خلالها إلى مجرد إطلاع الطفل على الآداب العالمية، بل يسعى – من ضمن ما يسعى إليه– إلى غرس القيم الإيجابية البنّاءة في نفس القارئ الصغير, والاستفادة من القصة للوصول إلى عقله وقلبه، وتعديل سلوكه، وحثه على الخلق القويم وتجنّب الأخلاق المعوجة والعادات السيئة.

 

3- الأغاني والشعر:

يرى بعض الباحثين أن "الأغنية هي لغة الطفل منذ المرحلة الأولى في حياته، ولها أهمية كبيرة في إشباع الميل الفطري لدى الأطفال إلى الإنشاد والتغني، ومن خلالها يستطيع الشاعر توصيل أصعب المعلومات والحقائق وأنبل المثل والقيم، وتحبيب العلم والتعليم إليهم، وفي تعويد آذانهم سماع اللغة الصحيحة، وتطويع ألسنتهم وتنمية حصيلتهم من مفرداتها وتراكيبها السليمة"([311]).

وقد أدرك الكيلاني أهمية الأغاني والأناشيد والأشعار للأطفال فملأ بها قصصه، والأغاني التي وردت في سياق هذه القصص تعتبر جزءاً منها، لا يمكن نزعها من القصة، كما إنها لا تفهم إلا في السياق الذي وردت فيه. وقد جاء في مجموعة "شكسبير"(13) أغنية ونشيداً موزعة على الجدول التالي:

الجدول رقم (6)

 

 

 

القصة

عدد الأغاني

عدد الأبيات

العاصفة

2

22

تاجر البندقية

1

6

يوليوس قيصر

3

29

الملك لير

7

57

المجموع

13

114

 

 

ونلاحظ من خلال الجدول السابق وجود تفاوت كبير بالأرقام ما بين قصة وأخرى، دون أن يظهر سبب واضح في سلوك هذا المنهج.

في قصة "العاصفة"، ذكر المؤلف أغنيتين، على لسان الجن "آريل"، الأولى استخدمها لاستدراج "فردنند"، والثانية أنشدها عندما أطلق "برسبيرو" حريته.

يقول مطلع النشيد الأول وهو من تسعة أبيات([312]):

أبـوك  يـا فـردنند           قد مات وهو غريق

طـواه بحـرٌ  خَضَمٌ           نائي الشطوط عميق

والبحـر – منذ قديمٍ-         إلـى الهلاك طريق

وفي قصة تاجر البندقية أنشودة واحدة، وجدها "باسنيو" داخل الصندوق الرصاصي إلى جانب صورة "برشا"، ومطلعها([313]):

يـا أيهـا الموفـق السعـيـد      رأيك  – فيما اخترته –  سديد

وأنـت فـيـمـا جئتـه رشيد      وكـل  مـا  فعلتـه  حمـيد

ونجد في قصة "يوليوس قيصر" ثلاثة أناشيد، الأول والثاني على لسان "قيصر" والثالث على لسان "أنطنيوس" في رثاء "بروتس"؛ يقول "قيصر" في القصيدة الأولى لزوجته في كلمة مليئة بالحكمة([314]):

يحيـا الجبـان بقلـب والـهٍ  فزعٍ

                           يخشى الردى ويهاب الموتَ مُرتاعاً

يمـوت ألفـاً ويخشى – من مهانته-

                           شـرَّ الحِمـامِ، ويبقى الدهر مُلتاعا

وفي القصيدة الثانية المكونة من ثلاثة مقاطع يقول "قيصر" في المقطع الثاني مزهواً بنفسه([315]):

لكـن قيصـر روما            ذا الهمَّــةِ الشمَّـاءِ

يسمـو عليهم جميعاً           في رفعـةٍ واعتـلاءِ

أما القصيدة الثانية فيقول في مطلعها([316]):

إن يخدع الأشرار أنبل من  وفّى         وأبرّ من عادى وأكرم من مَجَدْ

أو يقتل الأشرار قيصر  رومـا                  بغيـاً  وقد أضنى قلوبهم الكمد

أما قصة "الملك لير" فقد جاء فيها أكبر عدد من الأناشيد، وتحوي أسلوباً حوارياً شائقاً، ومعانٍ حكمية رائعة.

ومنها قول وزير "لير" "كنت" الذي ينشد([317]):

إن ينطلق سهم الردى من الوتر

إلـى فؤادي مُصْمياً  فينفطـر

فلسـتُ هياباً تصاريـف  القدر

ويستخدم الكيلاني الأناشيد القصصية، حيث ينشد على لسان البهلول([318]):

قـد حدثتنـا أصـدق الأمثالِ          فيمـا مضى من الزمان الخالي

بقصـةٍ تـروَى عن العصفورِ          أبصر – في وكر من الوكور-

فرخ غراب مُشرفاً على التلف           فقال للفَرخِ:  اطمئن، ولا تخف

وأدفـأ الفـرخ وداواه  ولـمْ          يـزل بـه،  حتى شفاه من ألمْ

وكـان عِنـده العزيزَ  الغالي           وأكــرم الأبنــاء والعِيـالِ

حتـى إذا الفـرخ  غدا غرابا          لـم يـر غيـر قتلـه  ثوابـا

وأهلـك الغـراب مـن  ربَّاهُ           جـزاءَ مـا قـدَّم مـن حسناهُ

ملاحظات عامة على الأناشيد والأشعار:

نشير إلى أن معظم هذه القصائد السابقة لا ترتبط ارتباطاً حتمياً بسياق النص، ولو تم نزعها من القصص فلن نجد فجوات، ويمكن إجراء بعض الترميمات البسيطة، ولكن الكيلاني يحرص على تضمين قصصه بعض النصوص الشعرية – كما أشرنا سابقاً– اعترافاً منه بقيمة النص الشعري الفنية والأدبية واللغوية، وحرصاً على تعويد الطفل على قراءة الشعر وتحبيبه به وبحفظه، ويلاحظ في هذه النصوص مجموعة من المسائل التي تجدر الإشارة إليها:

1- نوّع الكيلاني في النمط الشعري الذي استخدمه في مجموعة "شكسبير"، واستخدم الإيقاعات المحببة المناسبة للطفل.

2- لم نجد في أكثر الأناشيد الشعرية صوراً فنية بارزة، كما إن الأفكار تبدو ساذجة عموماً ولا تتفق مع مستوى القصة التي ترد النصوص الشعرية فيها.

ونجد مثلاً هذا البيت:

أبوك يا فـردنند           قد مات وهو غريق

ولو عزلنا الأنشودة عن السياق لكانت دون معنى، كما إنها لا تحظى بالخيال الشعري والصور الفنية الأخاذة.

3- كما إن الألفاظ المختارة تبدو بسيطة، ليس فيها ما يمكن أن تتداعى المعاني معها.. ومنها:

يا أيهـا الموفق السعيد       رأيك – فيما اخترته – سديد

وأنت فيمـا جئته رشيد                وكـل مـا فعلـتـه حميـد

4- يقدم المؤلف قصيدة مليئة بالحكمة مطلعها:

قـد حدثتنا أصدق الأمثالِ              فيما مضى من الزمان الخالي

وهي قصيدة بارعة الفكرة، ومن المشاهد القصصية المنظومة، التي تكسر الملل وتعطي فرصة لحفظها وتمثيلها حين تقرأ في الفصول الدراسية.

5- ولا يبدو أن الكيلاني أراد بهذه النصوص أن يقدم نفسه كشاعر، ولكنه يريد تنبيه الأطفال إلى أهمية تذوق الشعر، وكذلك توفير المتعة النفسية والعقلية التي توفرها الأناشيد لدى الطفل حين يقرأها أو يسمعها.

 

4- السجع:

يمكن ملاحظة اهتمام الكيلاني بالسجع في معظم صفحات قصص "شكسبير"، حتى إن بعضها يظهر بشكل فيه شيء من التكلف فيما يظهر البعض الآخر بشكل عفوي تلقائي.

 

ومن أمثلة السجع العفوي:

"كريم النفس قوي البأس"([319]) - "أشبه بعواء الذئب أو نبح الكلب"([320])، "الشرِّ والضرَرِ"([321])، "أنسيت ما أسلفته من إحسان وما غمزتك به من عطف وحنان"([322])، "يخادعه ويداهنه"([323])، "لا أفهم له معنى ولا أدرك له مغزىً"([324]).

ومن أمثلة السجع المتكلف:

"أذيقهم من ضروب الأهوال ما لا يمر لهم على بال"([325])، "لا يهولنك ما ترينه ولا يفزعنك ما تبصرينه"([326])، "أبعدوك وجردوك"([327])، "هذه القصة حزنتك ونهكت قواك وأضعفتك"([328])، "ما أجدرك أن توليني ثقتك وأن تفضي إليَّ بدخلتك"([329])، "أعدها للفتك بك والثأر منك"([330])، "لما أقبل المساء حضر باسنيو إلى قصر برشا الحسناء"([331])، "هذا ما قصته عجوز ذلك الزمان ورأته رؤية العيان"([332])، "أعمدة القصر الذهبية وتصاويره المبدعة الفنية"([333])، "فرحين مسرورين .. بطاقات الأزهار والرياحين .. فغصت الميادين بوفود المستقبلين المبتهجين"([334]) .

وعلى كل حال يجدر الانتباه إلى كون الطفل تغويه الكلمات المسجوعة لما تحويه من أنغام يطرب لها، وتجعل أذنه تميل للسماع والإنصات، وكذلك تسهل عليه عملية قبول اللفظة وحفظها وفهمها، مما يبهج قلبه ويحفزه لمواصلة القراءة على مستوى واحد من النشاط الذهني، فكأن الكيلاني استخدم هذا النمط ليكون بمثابة أجراس منبهة تجعل مشاعر الطفل القارئ متوقدة متشوقة لمعرفة المزيد، وللتلذذ بالألفاظ المسجوعة المنغمة.

وأحسب أن المؤلف نجح في هذا الجانب، وقد أكثر في استخدام السجع بما لا يخل بالمضمون، رغم ما اعترى ذلك من إحساسنا بالتكلف والتصنع لكنه على العموم لا يخرج عن حده المقبول.

 

3- التضاد اللفظي والمعنوي:

يكثر كامل كيلاني من استخدام اللفظ وضده، وخاصة عندما يريد توضيح الصورة وإبراز المعنى.. ومن ذلك:

 "حلَّ الخصام محل الوئام"([335])، "تكافئه إساءة بإحسان وعقوقاً ببر وغدراً بوفاء"([336])، "وودوا أن يبدلوا الصفو كدراً والأعراس المعقودة مآتم ومناحات"([337])، "إنك لتكبر من أمري ما صغر وتعظم من شأني ما حقر"([338])، "عاجز ضعيف.. شديد النشاط"([339])، "حزنت لـه وفرحت برؤيته"([340])، "يملأ نفسه أملاً بعد يأس"([341])، "لن يكون الصديق إلا مثالاً لمن يصاحبه، خيّراً كان أم شريراً"([342])، "لا أقترض منك المال كما يقترض الصديق من صديقه ولكن كما يقترضه العدو اللدود من عدوه اللدود"([343])، "لم تكن سعيدة بل ساخطة متبرمة.."([344])، "النفس قد تضجر من الراحة كما تضجر من العناء"([345])، "الراحة تضني الجسم أكثر من العمل المتواصل"([346])، "أسباب شقائك وتعاستك رجحت أسباب سعادتك وهنائك"([347]).

ونلاحظ أن ظاهرة "التضاد" المنتشرة في قصص الكيلاني عامة، تعتبر من الظواهر الشديدة التأثير، تحتاج – ربما- إلى دراسات تطبيقية خاصة على الأطفال لمعرفة مدى الأثر الذي يحصل لديهم، إزاء تنافر اللفظ والمعنى..

والكيلاني يعمد إلى هذا الأسلوب لتثبيت الفكرة وإظهار المعنى، وإحداث هزة لدى القارئ، وقد يستخدم التضاد مرات متتابعة في جملة واحدة، وتقابلها معانٍ متكررة مثلاً:

"تكافئه إساءة بإحسان وعقوقاً ببر وغدراً بوفاء"، على الشكل التالي:

إساءة                  #      إحسان

عقوق          #      بــر

غـدر          #      وفـاء

وبذلك ينوّع أيضاً حصيلة الطفل اللغوية، ويصل بالمعنى المقصود إلى أعماقه حتى يحدث الأثر النفسي المطلوب، من خلال المشهد المتكرر على صورة متضادة، بالإضافة إلى ما يرنو إليه من إنماء قاموس الطفل اللغوي وتعليمه بطريقة غير مباشرة، أي ليس عن طريق الشرح ضمن معكوفين..

 

6- التشبيه والنعوت:

لا تكاد صفحة واحدة في قصص "شكسبير" تخلو من النعوت التي تجعل الموصوف أكثر دنواً من ذهن الطفل، فالصفات توضح الأمر وتجعله أكثر وضوحاً في حالة غموضه، وبعيداً عن اللبس، خصوصاً عند تكرار الصفات والنعوت لشيء واحد.. ونلاحِظ هذه الظاهرة كثيرة مطردة في جميع هذه القصص، ومن أمثلة ذلك:

"شيخ طيب القلب صافي النفس ومعه فتاة وديعة هادئة كريمة النفس"([348])، "ميرندا لطيفة جميلة الخَلْق والخُلُق، أما شعرها فمرسل على كتفيها، وأما صوتها فمنسجم موسيقي"([349])، "إن نجوم السماء تظهر مؤتلفات، ولكن بينها نجماً قطبياً يهدي الحائرين.."([350])، "كان "قيصر" نعم الصديق الوفي العادل الرحيم، ولكن "بروتس" يقول: إن قيصر رجل طماع وبروتس رجلٌ شريف"([351])، "كانت الأنوار ساطعة في كل مكان من قصر الملك، تنعكس أضواؤها البهيجة على أعمدة القصر الذهبية وتصاويره المبدعة الفنية، وهي تمثل انتصار الملك "لير" على أعدائه في زمن صباه"([352])، إن الألفاظ المعسولة، والمدائح المنمقة الزائفة، لا تغني عن الحق شيئاً"([353]).

وبالإمكان تلمس هذه الظاهرة أينما وقع بصرنا على صفحات مجموعة "شكسبير"، وجملة واحدة قد تتضمن مجموعة كبيرة من الصفات حتى يصبح الموصوف ماثلاً للعيان لا يمكن للناظر أن يخطئه، فانظر مثلاً إلى صفات "قيصر" المعنوية:

 

                                            الوفي

كان قيصر نِعْمَ الصديق                 العادل

                                            الرحيم

 

وهذه الكلمات تمثل قمة الأخلاق والمثل، فيرسمها المؤلف كصفات لترسخ في نفس الطفل.

 

7- الوصف والتصوير:

يبدو لنا الكيلاني في قصصه فناناً بارع التصوير، يعمد إلى تشكيل مسرح القصة أو شخصياتها أو أحداثها بصور بديعة حيَّة، تجعل قارئها يشعر بأنه يعيش القصة مع أحداثها وشخوصها، بل ينتقل تاريخياً وزمنياً ومكانياً واجتماعياً، مستشعراً أحداث القصة ووقائعها كأنه يرى ويسمع ويفرح ويتألم، وتصيبه أحداثها كما يصاب الأبطال..

ومن الصور البديعة التي يقدمها ببراعة: "عرفه الناس شحيحاً قاسي القلب شريراً.. شكلاً بشعاً كريهاً.. ظهره مقوس، أصابعه يابسة مشوهة، تشبه المخالب، وابتسامته الخبيثة تنم عن مكر ودهاء.."([354]).

وهذه الصور المتتابعة تجعل القارئ قادراً على رسم ملامح هذه الشخصية البغيضة بكل تفاصيلها، فيتسلل إلى قلبه ما أراد المؤلف من غرض من وراء هذا التصوير، وهو كراهية هذا الشخص الممثل للصورة.. فينال المؤلف مأربه ويحقق غايته.

وقدم الكيلاني مجموعة من الصور التي تشبه المشهد المباشر للرؤية، حتى يمكن للقارئ أن يلمس الحدث ويراه ويسمعه، ومثل ذلك تصويره للعاصفة في البحر فيقول: "يرى الإنسان.. ارتفاع الأمواج واصطخابها، ويشهد اضطراب البحر وهياجه، حتى ليخيل إليه أن الأمواج تريد أن ترتفع لتبلغ عنان السماء، فتشتبك معها في حرب طاحنة، وقد أربَدَّ لون السَّماء واغبر وأصبح كالرصاص، واستحال ضوء النهار إلى ظلام حالك، ولاحت من بعيد سفينة ملتهبة ترقصها الأمواج، وتلعب بها، وتتقاذفها كالكرة"([355]).

إن هذه الصور المتعاقبة المتسارعة بوتيرة عالية؛ تجعل القارئ متحفزاً لمعرفة إلى أين سينتهي المشهد؟ فتتراءى لـه صورة السفينة في هذه الثورة البحرية، عندها يشعر بالخوف والهلع على مصير السفينة ومن عليها، فصورة العاصفة أو ما يشبه الإعصار قد توضحت بشكل ليس فيه غموض، فيتلقف القارئ مأساة السفينة التي تصارع الموت.. فيتساءل عن مصيرها في ظل اليأس والرعب الذي أصابه كما أصاب ركابها..

عندها يقول القارئ كما قالت "ميرندا" لأبيها:  

"انظر يا أبت إلى هذه السفينة الحائرة، واستمع إلى صرخات من فيها، واستغاثاتهم المتصاعدة في الفضاء، وقد أشرفوا على الغرق، إن قلبي ليكاد ينفطر حزناً على من فيها من الناس وما أحسب هؤلاء المساكين إلا هالكين الآن"([356]).

ومن التصوير البارع أيضاً:

"لست بالواله الملتاع، ولست بالجبان الذي يموت ألف مرة لأنه يخاف الموت دائماً، وإنما أنا حرٌ لا يخشى شيئاً، ولا يخدعه ضوء النهار الذي يلمع به الرمل في الصحراء، فيظنه الناظر من بعيد ماءً، وهو سراب خداع، والحُرُّ المقدام لا يموت إلا مرة واحدة حين يحضر أجله"([357]).

وبهذا نرى أن الكيلاني لا يعمد إلى التصوير ليبين براعته التصويرية وليتباهى بمقدرته على التجسيد وتحويل ما هو غير مرئي إلى منظر واضح في المخيلة، بل يعمل على تنمية قدرة الطفل على تصوير الوقائع، ويعلمه قيماً ويرشده إلى ما هو خير له، وينفِّره مما هو ضار بمستقبله وحياته، فضلاً عن تنمية قدرة الطفل القارئ اللغوية والتعبيرية والارتقاء بإحساسه وتفاعلاته الإبداعية مع النص.

 

7- الجمل القصيرة الرشيقة:

تظهر براعة الكيلاني الفائقة في سبك الجمل الرشيقة حيث ينأى عن الجمل الطويلة التي قد يمل الطفل منها، ويجعل جُمَلَهُ مؤلفة من كلمات محدودة مباشرة، ولو حاولنا تتبع ذلك لوجدنا كل جمله تقريباً تسير على هذا المنوال، ومن العسير إحصاؤها.

 

وفيما يلي مقطع من قصص "شكسبير" كنموذج لجمله الرشيقة التي لا يحسن اقتطاعها من مكانها، يقول الكيلاني:

"كانت الليلة عاصفة قارصة، وأدرك الشيخ "لير" أن بنتيه الغادِرتين قد أسلمتاه إلى تلك الزوابع الثائرة والأعاصير الهائجة، دون أن تأخذهما فيه رحمة، فأسلم لجواده العنان، وقد كان اليأس يذهله، وبدا عليه الخبال، فلم يبال الزمهرير، ولم يشفق على شيخوخته المهدمة، مؤثراً أن يهلكه البرد على أن تذلّه بنتاه، وظل يلوِّح بذراعيه في الفضاء كأنما يتوعدهما، ويميل رأسه إلى الخلف ويصيح مغضباً حانقاً، حتى ليحسب من يراه أن به مساً من الجنون، ولم يبق مع الشيخ "لير" في محنته، غير صاحبيه المخلصين: "كنت" و"البهلول"، واشتدت الزوبعة عنفاً، وتحدر المطر، ثم همى كأنه السيل الجارف، وجلجلت الرعود القاصفة، ودوت الرياح العاتية.."([358]).

ويظهر هنا وبوضوح مدى اعتناء الكيلاني بجمله القصيرة الرشيقة، ولا يخفى أن للجمل الرشيقة دوراً في تميز الكاتب المتخصص بالكبار، فما بالنا بأهميتها ولزوم التمكن بها لدى الكاتب المتخصص بالأطفال.

 

الفصل الثالث

الجانب التطبيقي (2)

القصص العلمية

-مقدمة

-سبب تأليف الكيلاني لهذه المجموعة

-مضمون القصص

-محاور الدراسة:

أولاً: منهج الكيلاني في القصص العلمية:

أ - من حيث الشكل أو المظهر العام للقصص

ب- من حيث المضمون

 

-الوصف الشكلي:

أ - حجم القصص

ب- تقسيم القصص

ج- الفصول والعناوين

ثانياً: لغة الكيلاني في القصص العلمية

ثالثاً: أبرز الخصائص في القصص العلمية:

1- الاقتباس القرآني     

2- الأمثال والعبر

3- الأغاني والشعر       

4- السجع

5- التضاد اللفظي والمعنوي 

6- التشبيه والنعوت

7- الوصف والتصوير          

8- الأسلوب الحواري والتساؤل

9- الملاحق

 

الفصل الثالث

الجانب التطبيقي (2)

القصص العلمية

مقدمة3:

لم يقصر الكيلاني اهتمامه على الجانب الأدبي فيما كتبه من قصص، بل كان حريصاً على الجوانب التربوية والأخلاقية والنفسية، فضلاً عن الجانب التعليمي الذي وجدناه ثرياً من قبل في تعليم اللغة العربية وترسيخ معاني مفرداتها، والسعي لتحبيب الطفل بلغته الفصيحة بأسلوب بياني سليم وجميل. وتأتي هذه السلسلة(*) لترسم في تاريخ الفن القصصي العلمي علامة مميزة، بل إن الباحثين يعتبرونها خطوة رائدة في تاريخ الأدب الخاص بالطفل في الزمن المعاصر، "ومن العلامات المميزة التي لم يسبق الكيلاني إليها أحد في عصره"([359]).

ويعدون الكيلاني "من أوائل كتَّاب الأطفال الذين تمت على أيديهم المزاوجة بين العلم والأدب في قصة الأطفال، [ويَرَوْنَ] أن القصة العلمية عند الكيلاني لم تتخذ شكل الكتاب العلمي المدرسي، بل تعدته إلى إعداد المادة العلمية التي قبسها في بعض كتبه من دائرة المعارف الفرنسية وأعاد صياغتها بما يناسب الأطفال، مع الاهتمام بالصور والرسوم العلمية كعنصر موضح للأحداث ومبسط لها ومشوق لقراءتها، مع انتقاء للعناوين الشائقة التي تشد الأطفال، وعرض للأغاني والأناشيد ذات المعاني والإيقاعات الطريفة التي انتشرت في أغلب قصصه العلمية، في أسلوب جيد وألفاظ في مستوى لغة الطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة، مع الحرص قدر الإمكان على مقومات التكنيك الأدبي لقصص الأطفال من حيث البداية المشوقة، التي تجذب الطفل وتدفعه إلى الاستمرار في القراءة، مع وضوح المغزى وجدة الفكرة وطرافة المعالجة ومراعاة الطول المناسب واستخدام الخيال بالقدر المناسب"([360]).

ولعل من أهم أسباب اختيارنا لهذه المجموعة في الجانب التطبيقي الثاني طبيعة المادة نفسها من حيث امتزاج الفن القصصي بالنمط العلمي، وكذلك اختلافها عن الجانب التطبيقي الأول باعتبار هذه المجموعة من تأليف الكيلاني ومن أفكاره دون اعتماد على نصوص سابقة كقصص "شكسبير"، باستثناء اعتماده على المصادر العلمية.

 

 

سبب تأليف الكيلاني لهذه المجموعة:

عرفنا في السابق مدى غيرة كامل كيلاني على مستقبل الطفل العربي، حيث كرَّس نفسه من أجله حتى وفاته، وكان يؤمن أن مهمته لا تقتصر "على تنمية الخيال وحده، ولا تنمية الثروة اللغوية وحدها، وإنما امتد هدفه إلى مقاصد أخرى، منها إمداد الطفل بالمعلومات العلمية والتاريخية والجغرافية، وتعويده التفكير العلمي المنظم، ووصله بركب الثقافة والحضارة من حوله، في إطار قصصي يشوّق، وأسلوب سهل يستهويه ويروقه"([361]).

 

ويبدو أن الكيلاني قد استشعر مدى حاجة الطفل العربي إلى كتب علمية شيقة، معتبراً أن ما بين يديه جاف منفر، وأوّل ملاحظاته كانت مع ابنه "رشاد" الذي يقول له: "لقد كنت أرى نفورك من تلك الكتب العلمية الجافة، التي طالما زهدنا في قراءتها حين كنّا أطفالاً، فلا ألومك في هذا النفور، بل أقرّك على رأيك وألتمس لك المعاذير، فإنها لم تكتب -على الحقيقة- لك، ولم تؤلف ليقرأها أمثالك، فهي تعرض أمامك جمهرة مضطربة مهوّشة من أخلاط المعارف وأشتات العلوم، وتزحم رأسك الغض بها من غير تشويق ولا ترغيب، فتبغض إليك الثقافة وتنفّر من المعرفة"([362]).

 

ومن هنا ندرك أن الكيلاني لم يتجه نحو الكتابة العلمية القصصية - كعادته دائماً - دون هدف، بل كانت الدواعي والأسباب واضحة تماماً أمام ناظريه، فقد تأمل أوضاع كتب الأطفال العرب العلمية المتوافرة لهم في عصره فوجدها لا تخرج عن هذه الصفات:

1-منفرة جافة، لا تشويق فيها ولا ترغيب.

2-لم تكتب في الأصل ليقرأها الأطفال.

3-مضطربة مشتتة المعارف والعلوم.

4-تزحم الرأس دون فائدة.

5-تبغض الثقافة عند الطفل وتنفره من المعرفة.

 

وفي الوقت نفسه نظر الكيلاني إلى ما تنتجه البلاد المتقدمة للطفل، مقارناً ذلك مع ما بين يديه من إنتاج العرب؛ فأصابه الكمد، وقرر أن يضيء شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام، فسار على خطته القديمة المليئة بالتسلية والثقافة والمتعة والفائدة.. وأخرجها على شكل قصص علمية.

ويوضح ذلك بقوله مخاطباً ابنه "رشاد":

"شدّ ما آلمني وأحزنني أن تحرم تلك المتع العقلية التي يَنْعَمُ بها في البلاد المتحضرة أترابك.. وقد آليت على نفسي أن أسليك وأثقفك وأقرب لك - جهد ما أستطيع - تلك الثمار اليانعة"([363]).

 

فالكيلاني يرى في العلوم "متعاً عقلية" إذا أحسن الكاتب توظيفها للطفل في أسلوب معين يراه مناسباً ولائقاً به، لذا ألزم نفسه بتحقيق رجاء الطفل وتوخِّي رغباته وتحبيب المعارف إليه، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وهو يظن بعمله تحقيق غاياته؛ فقد تجلت لابنه رشاد الحقائق العلمية في أجمل صورة بيانية وأبرع أسلوب قصصي، ولبست ثوباً خيالياً أخّاذاً، يملأ نفسه بهجة وحبوراً، فلا عجب إذا أقبل على قراءتها وفهمها، وراح يتعجل والده في طلب المزيد وإنجاز الوعد في إلحاح شديد([364]).

 

ويقول الكيلاني لابنه:

"لقد أعجبك هذا اللون المشرق من القصص العلمي الرائع السهل، وأعجبني أنني وفقت إلى إعجابك وإرضائك وتحبيب العلم إلى نفسك وتبديل زهدك فيه؛ حباً له وشغفاً به. وقد رأيت كيف رحبت بتلك القصص التي قبستها لك في الأجزاء السابقة من هذه المجموعة المختارة، وسرَّني أنك أقبلت على قراءتها ودرسها وتلخيصها، ولم تترك منها شاردة ولا واردة إلا تعرَّفتها وأحطتَ بها علماً؛ فحمدت هذه النتيجة السارة التي كنت أقدِّرها لهذه القصص الشائقة"([365])، "بما قدمتهُ من سديد الرأي، وبارع الملاحظة وصادق التوجيه وعميق التفكير"([366]).

ومع تميز الكيلاني الواضح في هذه المجموعة، يسير على عادته متواضعاً رافضاً نسبة هذا العمل إلى نفسه، حيث يكرر كما يقول دائماً: "ليس لي في هذه القصص إلا جهد الاختيار والترجمة والاقتباس، أما جهد الابتكار والإبداع، فقد ألقيته على عاتقك لتؤديه إلى أطفال جيلك القادم، متى كبرت سنك وكملت ثقافتك"([367]).

 

لقد بذَل الكيلاني في القصص العلمية -كما سنتبين بعد قليل- جهوداً بالغة الدقة، فضلاً عن البذل من النفس والوقت، فهو كما تبينا من قصصه السابقة؛ لا يسعى إلى تحقيق غايات خاصة أو شهرة جديدة.

 

فالكيلاني اشتهر من قبل أن يشرع بالكتابة للطفل؛ من خلال النقد والبحث والتأليف وإحياء التراث، ولو أراد الوصول السريع إلى غرض شخصي لما تنكب هذا الطريق الوعر الصعب، الذي لا يحقق لصاحبه التقدير في فترة وجيزة، كما إنه لجأ إلى الكتابة للطفل بعد تجربة كبيرة في الكتابة للباحثين والمتخصصين، وأسباب تأليفه للمجموعة العلمية تندرج ضمن الأسباب العامة التي ذكرناها سابقاً، وهدف إلى ترسيخ بعض جوانبها العلمية التعليمية في هذه المجموعة، فلم يلجأ إلى طرق هذا العمل الصعب، والخوض في غمار أمواجه العاتية عن غير قصد ووعي، وهو إن قصر في بعض الجوانب، فإنه فتح لأدب الطفل العربي باب "القصص العلمية" من أوسع أبوابها، فترك بصمات راسخة في هذا المجال، على غرار البصمات الكثيرة التي ميزت حياته وأسفرت عن هذا الإرث الحي الذي يزداد توهجاً وإشراقاً كلما مرَّ عليه الزمن؛ فهو كالذهب بل أشد بريقاً.

 

ومن هنا يمكن القول باطمئنان؛ إن الأسباب الحقيقية التي دفعت الكيلاني لكتابة القصص العلمية -وغيرها- كانت لأجل الارتقاء بالعقل العربي، وبالمستقبل العربي، وبالجيل العربي. ولا شك أن رجلاً هكذا إيمانه، وهكذا معتقده وتفكيره؛ يسعى إلى البناء الجاد المحكم.. وهذا ما تؤيده القصص مجتمعة، ومنها مجموعة "القصص العلمية" التي نحن بصددها الآن.

 

 

مضمون القصص:

1- أصدقاء الربيع: تبدأ محاور القصة بظهور "أبو بريص" الذي يلتقي صديقته الضفدعة بعد سبات شتوي طويل، ويطرح "أبو بريص" تساؤلات حول طبيعة حياة الضفادع، والتغيرات التي تطرأ عليها منذ أن كانت بيضة حتى تكبر، وعن الفرق ما بين ضفدع الماء وضفدع البر، ويقدم الكيلاني البيئة الحيوانية بشكل بسيط جذاب، حتى يكاد القارئ يسمع صوت نقيق الضفادع وصوت حفيف الأغصان والأوراق، وصوت الماء المتدفق على ضفاف الغدير..

2- زهرة البرسيم: بطلة هذه القصة أرنبة تدعى "زهرة البرسيم" تعيش مع أبويها وأخوتها، وكانت الأم مريضة والأب يقوم برعاية أبنائه، وفي يوم خرج الأب مع أولاده نحو حقل برسيم، وفضلت "زهرة البرسيم" البقاء مع أمها المريضة وراحت الأم تروي لابنتها قصة قديمة لابنها البكر "أبو نبهان" حيث خرج دون أن يستشير أحداً، فقبضت عليه البومة وافترسته، ثم يقدم المؤلف تعريفاً للبومة وخطرها، ثم تدخل قصة جديدة في سياق النص عن أرنبين صغيرين قويين "قانع ومانع".

 

3- في الاصطبل: تنقسم هذه القصة إلى قسمين: أ- مسلاة (كومديا) في الاصطبل.

 

ب- عالم الاصطبل.

تجري أحداث المسلاة في "الاصطبل" بين مجموعة من الحيوانات يستيقظون على صوت جرس عنز تدعى "أم الأشعث"، فيلومها الجميع على إيقاظها لهم ثم يدور حوار طويل بين الحيوانات، ويذكرون الإنسان ويتحدثون عن غدره وأنانيته، لكن بعض الحيوانات اعترض على هذا الكلام، فيما دعا آخرون إلى الاتحاد والتضافر لقهر الإنسان واستعادة الحرية، ويستمر الحوار الذي يجعله المؤلف وسيلة لاستدرار المعلومات العلمية المفيدة.

أما القسم الثاني فيتحدث عن فرس تدعى "قسامة" وهي تحكي قصة حمار أنهكه التعب والجوع وصعوبة الجو، فاستقبله السائس "شفيق" وأحسن استقباله. وتبدأ قسامه بتذكر ما كانت تلقاه في الماضي من معاملة سيئة من مالكها القديم، وكيف التقت حصاناً هرماً له خبرة طويلة، طلبت منه أن يعلمها ويقدم لها من خبرته. وفي الصباح، تلتقي "قسامة" مع الحمار الضيف بعد أن استعاد نشاطه فيدور حوار فيه كثير من المعلومات عن فصيلة الأحصنة وأنواعها وأجسامها، وكذلك عن عالم الحمير وأهمية الدواب في حياة الإنسان. وينقلنا الحمار من مكان إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى، في أحداث كثيرة متتالية، تجعل القارئ في تعطش مستمر لمعرفة المزيد. وفي القصة معلومات يستفيد منها القارئ بشكل غير تلقيني مباشر.

 

4- جبارة الغابة: هبت عاصفة عنيفة، اقتلعت شجرة بلوط عتيقة من جذورها فحزنت حيوانات الغابة، وخاصة طيورها التي كانت تأوي إليها وتنقذها من الأخطار، وراح غراب عجوز يروي قصة الشجرة العتيقة. ويبدأ المؤلف بشرح حياة شجر البلوط، ومعاناته في بدء نموه حتى يتحول إلى أشجار كبيرة عظيمة.

5- أسرة السناجيب: أسرة مكونة من ثلاثة سناجيب صغار يعيشون في عش أعلى شجرة شوح برفقة أبيهم، هبت ريح عاتية وكاد الصغار تتقطع قلوبهم من الخوف حتى انتهت العاصفة، ثم تظهر فأرة من أصدقاء السنجاب الأب، وصارت تروي لصغار السناجيب قصة أمهم وكيف أنقذتهم من حيوان يشبه القط.. ثم روت لصغار السناجيب قصة جديدة عن "القرقذانُ والقَرقَذون" وهما سنجابان شقيقان.

 

6- أم سند وأم هند: بطلتا القصة خطافتان (أم هند وأم سند) التقتا على مخزن غلال قديم كل منهما تدعي أنه عش لها، يظهر زوج أم سند، فيطلب من زوجته تركه وراح الخطافان يبنيان عشاً قوياً جديداً، ثم وضعت "أم سند" أربع بيضات خرج منها أربعة مناقير صغيرة، وفي يوم عادت الأم وروت كيف أنقذت "أم هند" رغم ما فعلت بها ونسيت غضبها منها وما فعلته نحوها وتوثقت أواصر الصداقة بين "أم هند" و"أم سند" ولم تتفرقا لحظة واحدة.

7- الصديقتان: بطلتا القصة؛ كلبة صغيرة اسمها "أم يَعفُور"، وصديقتها قطة كبيرة تدعى "أم خداش". وفي يوم اختفت القطة، فوجدتها الكلبة في صندوق على رفّ عالٍ وقد وضعت خمس قطط صغيرة، وأظهرت الأم غضبها من الكلبة. ومرة شاهدت الكلبة القطة الأم وقد خرجت فأسرعت إلى مكان القطط الصغيرة، وفجأة وقع قط صغير وسقط في إناء مملوء بالماء، وكاد يموت لولا إنقاذ "أم يعفور" لـه من الغرق. وفي يوم جاء رجل وأخذ القطط الصغار في غياب الأم، فغضبت لكنها علمت أن القطط ستوضع في مكان مليء بالفئران لتقضي عليها وأنها ستلقى عناية طبية فاطمأنت على صغارها.

 

وبعد أيام ولدت "أم يعفور" ثلاثة كلاب، فكان فرح "أم خداش" كبيراً مثلما فرحت بولادة صغارها. ومرضت الكلبة مرضاً شديداً، فجاء البيطري وأبعدها عن أولادها.. بانتظار موتها، وشعرت "أم خداش" أنها أصبحت أماً للكلاب الثلاثة، وصارت القطة ترضعهم، ومرَّ على غياب "أم يعفور" خمسة عشر يوماً، ثم عادت ورأت صغارها قد كبروا وأصبحوا أقوياء أصحاء، فأخبرتهم أنها لم تكن مصابة بداء مميت بل كان مرضاً عادياً.

 

8- مخاطرات أم مازن: تدور أحداث القصة في قرية حافلة بالنمل الأسود الرمادي، تصعد النملة "أم مازن" غصن شجرة لتأكل برقوقة، وفيما هي تأكل منها سقطت وأغمي عليها ثم وجدت نفسها وسط فطيرة مصنوعة من البرقوق، وقد كان الطفل "فاضل" قد عثر على البرقوقة فصنعت لـه أمه فطيرة منها، وقبل أن توضع الفطيرة بالفرن شاهد فاضل النملة فرق قلبه لها فأخرجها ووضعها على الطاولة، فانتهز أبوه الواقعة وراح يحدثه عن النمل ومزاياه.. ثم هربت "أم مازن" وعادت إلى قريتها، وعلمت أن النمال الشقر دهمت بيوتها وطردتها منها. فقالت "أم مازن" إنها تعرف واديا مناسباً لبناء بيوت جديدة قوية فهاجر الجميع إلى ذلك المكان.

9- العنكب الحزين: هذه القصة تدور على ألسنة ثلاثة أبناء صفاء وسعاد ورشاد، (وهي أسماء أبناء المؤلف)، حيث يرى "صفاء" عنكبة وبيتها الجميل، وتتداخل القصص في ثناياها عن فوائد التعلم من العناكب، ويذكر "صفاء" قصة الصياد الذي تعلم صنع الشباك من العناكب، وقصة العنكبة والملك الذي تعلم منها الصبر، ثم يدور حديث بين الأخوة الثلاثة مع العنكبة، فتخبرهم أنها أنقذت "رشاد" من لسعة حشرة سامة، ثم راحت تخبرهم عن حياتها وطبيعة حياة العناكب وعندما يعود الأخوة إلى بيتهم، يخبرون الأب بما جرى بينهم وبين العنكبة، فيحضر كتاباً ويطلب من "صفاء" قراءة فصلٍ منه عن بيت العنكبوت.

10- النحلة العاملة: يذهب "صفاء" و"سعاد" إلى مزرعة والدهما، ويتعرفان على عالم النحل ونشاطه، ويدور حوار بينهما وبين ملكة النحل، فتحدثهما عن فوائد العسل وعمل النحلة الدؤوب، وأنواعها وأجنحتها وأقسام جسمها وقوانين النحل في الخلية.

 

 

محاور الدراسة:

تتركز محاور دراسة الجانب التطبيقي الثاني في ثلاث نقاط أساسية؛ وهي منهج الكيلاني في القصص العلمية، ولغتها، وخصائصها، وتتعرض لبعض الجوانب الرئيسية تحت هذه العناوين المتصلة بالمنهج واللغة والأسلوب، وذلك على النحو التالي:

أولاً: منهج الكيلاني في القصص العلمية:

التزم كامل كيلاني في هذه المجموعة بمنهجه العام، مع ارتقاء بالخطاب القصصي من ناحية اللغة والأسلوب والعمق العلمي التعليمي(*)، وذلك لسببين:

أولهما: حرص الكيلاني على صبغ هذه المجموعة بالطابع العلمي، وبالطبع دون أن يغفل أهدافهُ الأساسية التي نسجها منذ بداية عمله في التأليف.

ثانيهما: طبيعة المجموعة المخصصة لمرحلة عمرية متأخرة، بما تحتاجه من مزيد من الثقافة، ومزيد من الرقي الفكري.

ويلاحظ أن الكيلاني أثبت قدرته الفائقة على التمسك بكل اعتباراته المنهجية من حيث الشكل والمضمون، ويمكن تحسس ذلك من خلال الجانب الشكلي والمضموني، وفق خطة ثابتة، وهذا يؤكد مدى حرص الكيلاني على طريقه المنهجي المرسوم بعناية، لا يتساهل بهذا الطريق ولا يتنازل عنه، ويسعى إلى تسخير الأصول الفنية من أجل تحقيق أهدافه العامة، لكن حرص الكيلاني لم يكن كاملاً مثل أي عمل بشري، ويمكن ملاحظة ذلك في مسألتين أساسيتين: الشكل والمضمون.

 

أ - فمن حيث الشكل أو المظهر العام للقصص نلاحظ:

1- تباين حجم القصص من حيث عدد الصفحات، مع اختلاف بسيط في الأبعاد.

2- تميزت الأغلفة برسوم متنوعة وإخراج غير ثابت بين المجموعة، وهذا يجعلها غير موحدة في مظهرها.

3- الرسوم الداخلية كانت بالأبيض والأسود فقط.

4- خطوط القصص مناسبة، وحجومها كبيرة، والمسافات بين الأسطر مريحة.

5- إخراج المقالات المرفقة كان ضعيفاً ولا يناسب الأطفال لأنها في الأصل ليست معدة لهم، وكذلك المعاجم المرفقة صغيرة الحروف، ولا يمكن للطفل أن يقرأها بسهولة.

6- أما بشأن طباعة القصص وعوامل الجذب الفنية، فما خلصنا إليه في الجانب التطبيقي الأول يصلح أيضاً لتكراره في تعليقنا على شكل هذه المجموعة.

 

ب- ومن حيث المضمون نلاحظ:

1- حرص الكيلاني على حشد كثير من المعلومات في مجالات علمية متعددة.

2- تناول جوانباً من عالم الحيوان ولم يقتصر على صنف واحد من الحيوانات.

3- استطاع أن يجعل من عوالم الحيوانات المختلفة مجتمعاً يشبه المجتمعات الإنسانية، وبذلك قام بفعل "الأنسنة" وجعل الحيوانات تفكر وتتكلم وتتحاور، بل يكاد القارئ يشعر أن أبطال هذه القصص من الحيوان ترقى على الإنسان في ذكائها(*).

4-قام الكيلاني بإسقاط بعض السلوكيات الذميمة على الحيوانات، وذلك لتحقيق أهدافه التربوية في تقويم سلوك الطفل، وغرس الفضائل في نفسه، وهذه ظاهرة نراها سائدة في المجموعة العلمية، مما يؤكد أن اهتمام المؤلف بالجانب العلمي لم يصرفه عن الجوانب التربوية.

5- ابتعد المؤلف عن التعقيد المعنوي إلى حد بعيد والتزم خطاً واحداً في جميع هذه القصص، ولم يزحمها بالعقد والمفاجآت.

6- تميز المضمون أيضاً بتعدد القصص داخل القصة الواحدة، بحيث نجد قصصاً منفصلة لا علاقة لها بالقصة الأصيلة مباشرة ولكن الهدف منها زيادة معلومات الطفل العلمية.

7- استعان الكيلاني بالكتب العلمية والموسوعات واستشهد ببعضها في سياق بعض القصص كما أشار إلى بعض قصصه السابقة.

8- رغم توجه الكيلاني بشكل رئيسي نحو الجانب العلمي والتعليمي، لم تخلُ قصصه من تقرير وتوجيه نحو القيم الاجتماعية من خلال علاقة الحيوانات بأندادها، وعلاقتها بأسرها وأقاربها وجيرانها.

9-  ومن المضامين البارزة تنمية المشاعر الوطنية وأبرز مثال على ذلك قصة "أم سند وأم هند"، حيث تدور معظم أحداث القصة عن حب الوطن والإخلاص له، ومن الفقرات التي تشير إلى ذلك قول زوج "أم سند" لها:

"أتذكرين يا أم سند كيف كانت حياتنا موحشة كئيبة في غربتنا عن وطننا المحبوب، وكيف اشتد حنيننا إلى رؤية هذه الجبال العالية والتمتع بالنظر إلى هذه البحيرة الزرقاء، لقد ولدنا هنا، وتعارفنا.. وامتلأت نفوسنا بذكريات هذا البلد الحبيب.."([368]).

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن الكيلاني قدَّم ثلاثة أخطاء معنوية رغم أنه -كما قلنا سابقاً- يحرص على تجنيب الطفل أي خطأ معنوي، فقد وجدناه في قصة "في الاصطبل" يذكر بعض الفقرات والجمل التي قد تقع في نفس الطفل ويخطئ في تقديره لها، ومنها:

أ - وضع الخنزير بين حيوانات أليفة دون سبب وجيه، كما إنه يوهم القارئ (في صفحة 21) أن صاحب الاصطبل سوف يذبحه مثل النعاج والبقر، وما دام يذبح فمعنى ذلك أن يؤكل، وفي هذه الإشارة مخالفة لما جاء في الشريعة الإسلامية من تحريم أكل لحم الخنزير(*).

ب- أظهر الكيلاني أن ذبح الحيوانات فيه ظلم لها وإن لم يقل ذلك صراحة، إشارة إلى أن ما يفعله الإنسان بالحيوان مشحون بالعنف والقسوة والإساءة.. ومن ذلك ما جاء في قصة "في الاصطبل": "آه له، وواه منه، أتحسبونه يؤوينا في داره إشفاقاً علينا وبراً بناً؟ شد ما أحسنتم به الظن الكذوب، وشد ما خدعتكم أوهامكم وكذبتكم أحلامكم، إني جد خبير بمصيري، ولست أجهل كيف تكون خاتمة حياتي التاعسة على يد هذا الغادر المنكر للجميل، فإنه متى أقبل فصل الشتاء وبرد الجو، ورآني سميناً ممتلئ الجسم، متكنز اللحم، لم يتردد في ذبحي.."([369]).

ج- تصف بعض حوارات الحيوانات الإنسان بالبلاهة، وقد وضع المؤلف عنواناً خاصاً بذلك وهو "غباوة الناس"([370])، وينقل مثلاً على لسان الحمار: أن الناس لم يبلغوا من التعقل والفهم المرتبة التي يتخيلونها، ويزعمونها لأنفسهم، إنهم لقصر عقولهم وضعف إدراكهم يتهمون الحمير بالبلاهة والغباوة وإن كان الناس يصلون -أحياناً- في هاتين الصفتين إلى أبعد مما بلغ الحمير، كما جاء في القصة. ومن أبشع الأوصاف التي تسقط الطفل بالتأكيد في خطأ معنوي ما ورد في قصة (الصديقتان) من وصف كلبة لابنها أنه أخبث من قرد، فتقول لها قطة تحادثها: "شدّ ما ظلمت القرد، فهلا قلت: إنه أخبث من إنسان"([371]).

 

 

الوصف الشكلي:

أ- حجم القصص: بدت المجموعة في حجم واحد تقريباً (21 × 15سم)، مع تفاوت بين عدد صفحات كل قصة وأخرى، لكنها بشكل عام تبدو متجانسة، فيما أضاف الكاتب لبعض القصص موضوعات متفرقة، وذلك على الشكل التالي:

 

الجدول رقم (7)

 

القصة

صفحات المقدمة

صفحات القصة

الصفحات المرفقة

1- أصدقاء الربيع

2

36

-

2- زهرة البرسيم

-

61

11

3- في الاصطبل

3

117

8

4- جبارة الغابة

2

39

-

5- أسرة السناجيب

-

50

3

6- أم سند وأم هند

-

52

3

7- الصديقتان

-

42

-

8- مخاطرات أم مازن

-

58

10

9- العنكب الحزين

-

46

2

10- النحلة العاملة

-

41

15

المجموع

7

542

52

 

ب- تقسيم القصص: لم يسلم تقسيم هذه المجموعة من اختلال في بنائها الشكلي كما اختل سابقاً بناؤها "الرقمي" الموحد، على عكس ما وجدناه في قصص "شكسبير" التي جاءت على نمط واحد إلى حد بعيد من حيث عدد الصفحات وتقسيم المحتوى إلى فصول.. مع ملاحظة وجود تقارب بين معظم القصص، مع اختلال ذلك بشكل كبير جداً في قصة "في الاصطبل"، التي قام المؤلف بتقسيمها إلى قسمين كبيرين، جعل القسم الأول "كمديا"، ثم جعل في القسم الثاني قصة ثانية "في الاصطبل"، وهو يشير إلى ذلك في المقدمة وفي منتصف القصة الثانية تقريباً ويخبرنا أن القصة الأولى جزء من القصة الثانية لكن المؤلف أعجب بها، فقام ووضعها في جزء خاص دون أن ترتبط بالثانية؛ ولولا إشارة صغيرة كشفت عن هذا الأمر كان يمكن فصل هذه القصة وجعلها مستقلة، لكن المؤلف رغب إلى ذلك دون أن يقنعنا بسبب تفرضه طبيعة القصة، فضلاً عن أنه أتخم حجم القصة، وضاعف من عدد أوراقها، وجعل القصص الأخرى في السلسلة تبدو هزيلة ضعيفة، بينما هي متخمة، ونلاحظ أن الكيلاني لم يفد النص كثيراً بعملية الفصل هذه، أو قد نسميها البتر.

 

ونجد أيضاً أن المؤلف لم يحرص كثيراً على وضع مقدمات لقصصه العلمية باستثناء ثلاث قصص، ووصل عدد صفحات المقدمات إلى سبع صفحات فقط، من أصل العدد الإجمالي لصفحات القصص، وهو (601)، أي ما نسبته واحد بالمئة تقريباً من عدد الصفحات الإجمالي. فيما نجده يضع مرفقات أو ملاحق في معظم القصص -سبع قصص من أصل عشر قصص- بلغ عدد صفحاتها 52 صفحة، أي ما نسبته 8.6% من عدد الصفحات الإجمالي، ونلاحظ أن هذه النسبة لم تظهر في قصص "شكسبير"، كما أنه اعتنى بمقدمات قصص "شكسبير" وزاد حجمها عن القصص العلمية، كما إن تقسيم الملاحق وأنواعها لم يراع منهجاً علمياً واضحاً، فجاءت الملاحق مختلفة متباينة.

ج- الفصول والعناوين: ظهر تقسيم الفصول والعناوين مضطرباً وليس في ترتيبها ما يوحي بالوحدة العامة للمجموعة؛ فهنالك قصص وضع الكيلاني فيها تمهيداً وأخرى لم يضع، وهنالك قصص احتوت على خاتمة وقصص لم يكن فيها خاتمة،    وهنالك قصص سار فيها على طريقة الفصول والعناوين، بينما وجدنا قصصاً أخرى اقتصر فيها على وضع العناوين دون الفصول، مما أحدث خللاً فيما بينهما من الناحية الشكلية، وأظهر ذلك أن المؤلف لم يتبع منهجاً واحداً في كل قصة من هذه المجموعة، فضلاً عن عدم التوازن بين الفصول في القصص التي وضع فيها فصولاً، فجاء بعضها في أربعة فصول وأخرى في خمسة فصول وأخرى في ستة فصول.

ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن ذلك لا يعيب النص من حيث قيمته الأدبية، ولكن يشير إلى عدم التزام الكاتب بمنهج موحد، ربما لأنه كتب هذه القصص على فترات متباعدة، أو كتبها على مراحل ثم عاد وجمعها في سلسلة واحدة، لأنه - أي الكيلاني - لا يعوزه المنهج العلمي الواضح، ولا تخفى عليه هذه المسألة.

 

الخـاتمـة

درس هذا البحث جوانب محددة من تراث كامل كيلاني، وركز على جوانب خاصة بالشكل والمضمون من حيث اللغة والمنهج والأسلوب، وتحدث عن السمات العامة لأدب الكيلاني، وقدم دراسة تطبيقية على نموذجين من أعماله الكبرى، وهما ترجمته لقصص "شكسبير"، وسلسلة "القصص العلمية"، وخلص البحث إلى جملة مسائل نستعرض بعضها في هذه النتائج، وتفصيلاتها في ثنايا البحث:

أولاً: وضع الكيلاني منهجاً محدداً قائماً على رؤية نقدية تربوية أخلاقية علمية شاملة، ولم يكن عمله مجرداً مائلاً إلى الهوى، بل كان مركزاً وفاعلاً.

ثانياً: قسم الكيلاني أعماله بحسب مراحل الطفولة، وإن لم يحدد سناً معينة في جميع كتبه باستثناء مجموعة واحدة.

ثالثاً:   تمكن الكيلاني من لفت اهتمام الباحثين قديماً وحاضراً إلى أهمية أدب الأطفال، وهذا دليل على مكانته في زمانه وما بعده.

رابعاً:  توجه الكيلاني في كثير من كتاباته إلى أطفاله، ومنهم إلى الأطفال العرب كافة، وفي ذلك صفاء في النية، واهتمام بالشكل والمضمون.

خامساً: وعى الكيلاني أهمية تشكيل جميع حروف الكلمات في القصص لما في ذلك من تقويم للسان الطفل، وتعويده على  النطق السليم في وقت فشت فيه العامية وضعف مستوى تحصيل الأطفال للغة.

سادساً: حرص الكيلاني على تقديم أنماط عديدة من القصص، استخدم فيها مستويات لغوية مختلفة، بحسب السن التي توجه إليها كل قصة.

سابعاً:  كانت الناحية الترفيهية الترويحية تسير جنباً إلى جنب مع النواحي العلمية، بحيث لم تطغ واحدة على أخرى، حتى في القصص العلمية التي كان يستخدم فيها الكلمات المنغمة، والجمل الرشيقة والتعابير الأخاذة.

ثامناً:   قدم الكيلاني مثالاً واقعياً لمن يريد الارتقاء بمستوى الطفل لغوياً، فقد كان حريصاً على استخدام كلمات ومفردات وأساليب متطورة، وهي في الوقت نفسه متأصلة في اللغة، وكان يحرص على تقديم مفردات جديدة في كل قصصه، ويحرص على تكرارها، وشرحها، واستعمالها في حالات مختلفة حتى يطمئن إلى رسوخ الكلمة ومعناها في عقل القارئ الصغير وقلبه، مع تحفظنا على طريقة الشرح ووجود بعض المفردات الصعبة.

تاسعاً:  احتشدت القصص التي تناولها الجانب التطبيقي بكثير من الظواهر اللغوية والفنية، وقد تناولنا كثيراً منها مع إيماننا بإمكانية التوسع بهذه الظواهر من ناحية، واكتشاف ظواهر أخرى.

عاشراً: مع كل أهداف المؤلف العلمية والتربوية كان حضور الخيال فاعلاً، ولم يتأثر الجانب الدرامي باستثناء حالات بسيطة، وقد كانت الصور الخيالية المتتابعة تسحر القارئ، لما يتميز به المؤلف من قدرة تصويرية فائقة تجعله رائداً في هذا المجال أيضاً، وهذا يجعل قضية الصورة في قصص الكيلاني مجالاً خصباً مفتوحاً للدراسة.

الحادي عشر: حرص المؤلف على تجنيب الطفل الأخطاء المعنوية، لكنه أحياناً يستخدم بعض الجمل التي توهم الطفل بأشياء لا يجدر إيهامه بها، كما وجدنا في قصة "في الاصطبل" وقصة "الملك لير"، وكذلك ذكره للخنزير داخل زريبة خاصة بالحيوانات الأليفة، التي يذبح بعضها للأكل، وكذلك اتهام بعض الحيوانات للإنسان بشكل عام بالغباء والبلاهة والظلم؟!

الثاني عشر: أغرق المؤلف قصصه بالاقتباس القرآني، وكان الأسلوب القرآني طاغياً، وقد أشرنا إلى مجموعة كبيرة من الأمثلة، وهي عديدة لا تحصى.

الثالث عشر: وظف الكيلاني بعض العبر والأمثال لتحقيق أهدافه التربوية.

الرابع عشر: لجأ الكيلاني إلى النصوص الشعرية من ناحيتين، باعتبارها جزءاً من النص السردي نفسه، أو بوضعها كملحق على شكل محفوظات وتكون متصلة تمام الاتصال بموضوع القصة، مع استعانته ببعض النصوص الشعرية القديمة.

وليست هذه النقاط السابقة بجامعة لكل تفاصيل البحث، ولكنها تلقي الضوء على كثير من الجوانب التي تطرقنا إليها وعالجناها بالبحث والتحليل.

ولا أظن أن الكيلاني قد بالغ كثيراً بهذا الاهتمام الذي أولاه لعالم الأطفال، ولعله لو عاد للحياة مرة جديدة لتابع طريقته الأولى وتحدى ما يلقاه من نسيان وتجاهل وقلة اهتمام رغم كل الدراسات وندوات التكريم…

من هنا نرى أهمية إيلاء الأدب الكيلاني حقه أولاً، لا أن نكتفي بتكريم صاحبه، لأن التكريم الحقيقي له يكون بنشر أعماله ورعايتها.. فمن المعيب حقيقة أن تظل بعض كتاباته في الأدراج مخطوطة، وأن تظل قصصه المطبوعة بهذا المستوى الفني البسيط، ولا يقام للأدب الكيلاني على الأقل موقع على الإنترنت.

وقد يكون مناسباً لو أنشأنا جامعة تحمل اسم كامل كيلاني، وهذا من الوفاء، بحيث تكون كليات الجامعة كلها متخصصة بالطفولة وآدابها، وكل ما يتعلق بها من تربية وأدب، وفنون جميلة، وإخراج تلفزيوني وإذاعي، وإعلام وصحافة... فتكون جامعة متميزة على امتداد العالم، حيث تخرج باحثين وأدباء وإعلاميين وفنيين ومخرجين وفنانين وشعراء ومفكرين ونقاداً ومدرسين..إلخ، متخصصين بأدب الأطفال..

ولا أطالب بما تطالب به بعض الدراسات؛ بإقامة كرسي للأدب العربي باسم الكيلاني، ولا الاحتفاء به في الإذاعة والتلفزيون، ولا إقامة المهرجانات للاحتفاء بميلاده، أو إقامة التماثيل لـه.. فلا أظن أن الكيلاني أفنى عمره من أجل ذلك؛ كأن ينتهي حجراً أو كرسياً أو قطعة من برونز.. وأبلغ تكريم يمكن أن يلقاه الكيلاني، - بالإضافة إلى إقامة جامعة كبرى باسمه- أن تعتمد وزارات التعليم في العالم العربي قصصه أو بعضها في مناهجها الدراسية، وأن يعاد طبع هذه القصص بأسلوب عصري وكميات كبيرة.

وفي الختام، أسأل الله رب العالمين، أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم، وأن يسدد خطانا، ويكلل مسعانا بالعمل الصالح الدؤوب والثواب الجزيل، ونسأله أن يُكرم أديبنا الراحل كامل كيلاني وأن يرفع من درجته لما تركه من علم يُنتفع به، فهو في ميزان أعماله صدقة جارية إن شاء الله.. ولا يسعني إلا أن أتقدم أخيراً بالشكر الجزيل لكل الجنود المجهولين الذين كانوا خير مُعين ومساعد، ويشهد الله أني حافظ لفضلهم، ممتنّ لكرمهم، مقدر لجهدهم، ولهم عند الله الأجر والثواب.. وأسأل الله الكريم أن يغمرهم بعطفه وعطائه ورحمته، وأخص إدارة جامعة الكويت العريقة، وكل السادة المدرسين والإداريين والموظفين العاملين في كلية الآداب قسم اللغة العربية وفي مكتبات الجامعة، وأدعو الله لهم بالخير والعافية والسلامة والسداد على الدوام، ولهم مني جميعاً كل الود.

 

قائمة المصادر والمراجع الأساسية

أولاً: المصادر العربية:

  - القرآن الكريم.

1- آمال إمام داود: المضمون التربوي في أدب الطفل لكامل كيلاني، رسالة ماجستير، جامعة عين شمس، كلية التربية، قسم أصول التربية، (مخطوط)، 1417هـ- 1996م.

2- ابن خلدون: المقدمة، ط1، دار المعارف، تونس، 1411هـ، 1991م.

3- ابن سينا (الحسين بن عبدالله): القانون في الطب، ج1، مصور بالأوفست عن نسخة بولاق، دار صادر، بيروت.

4- ابن منظور (أبو الحسين أحمد): لسان العرب، ج11، دار صادر، بيروت.

5- أبي الفضل النيسابوري: مجمع الأمثال، ط1، دار المعرفة، بيروت، تحقيق محمد عبدالحميد.

6- أحمد الشايب: الأسلوب.. دراسة بلاغية تحليلية، ط2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1998م.

7- أحمد زلط: أدب الطفولة.. أصوله ومفاهيمة، رؤى تراثية، ط4، الشركة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 1997م.

8- ........: أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي، ط1، دار المعارف، القاهرة، 1994م.

9- .........: الطفل وأدب الأطفال مكتب الأنجلو المصرية، القاهرة، 1994م.

10- أحمد نجيب: أدب الأطفال علم وفن، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، 1411هـ-1991م.

11- ...........: القصة في أدب الأطفال، ط1، دار الحدائق، بيروت، 2000م.

12- أنور الجندي: مفكرون وأدباء من خلال آثارهم، ط1، دار الإرشاد، بيروت، 1967م.

13- ............: صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر، ط1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1979م.

14- ..........: كامل كيلاني في مرآة التاريخ، ط1، مطبعة الكيلاني، القاهرة، 1962م.

15- بيير جيرو: الأسلوبية، ترجمة منذر عياش، ط2، مركز الإنماء الحضاري، حلب، 1994م.

16- جوزيف إلياس وجرجس ناصيف: معجم عين الفعل، ط1، دار العلم للملايين، بيروت، 1416هـ - 1995م.

17- حسن ملا عثمان: الطفولة في الإسلام، دار المريخ، الرياض، 1402هـ- 1982م.

18- الرازي (محمد بن أبي بكر): مختار الصحاح، مكتبة لبنان، بيروت، 1408هـ - 1988م.

19- سعيد باداود: أدب الطفل العربي، ط1، دار سعاد الصباح، الكويت، 2003م.

20- شفيع السيد: الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي، دار الفكر العربي، القاهرة ، 1986م.

21- صالح ذياب الهندي: صورة الطفل في التربية الإسلامية، ط1، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 1410هـ - 1990م.

22- طارق البكري: مجلات الأطفال ودورها في بناء شخصية الطفل العربي، ط1، دار العلم والإيمان، مصر، 1422هـ - 2001م.

23- عبدالتواب يوسف: ديوان كامل كيلاني للأطفال، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م.

24- ..................: الطفل العربي والأدب الشعبي، ط1، الدار المصرية، 1992م.

25- عبدالرحمن بدوي: كامل كيلاني وسيرته الذاتية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999م.

26- عبدالرحيم محمد عبدالرحيم: كامل كيلاني حياته وأدبه، رسالة ماجستير، جامعة الأزهر، أسيوط، (مخطوط)، 1979م.

27- عبدالعاطي كيوان: الأسلوبية في الخطاب العربي، ط1، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 2000م.

28- عبدالفتاح أبو معال: أدب الأطفال، دراسة وتطبيق، ط2، دار الشروق، الأردن، 1988م.

29- علي الحديدي: في أدب الأطفال، ط6، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1992م.

30- فتوح أحمد فرج: كامل كيلاني وأدب الأطفال في مصر، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، (مخطوط)، مايو 1989م.

31- فوزي عيسى: أدب الأطفال، ط1، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1998م.

32- الفيروز آبادي (مجد الدين محمد): القاموس المحيط، ج4، دار الجيل، بيروت.

33- كافية رمضان وفيولا الببلاوي: الإثراء الثقافي للأطفال، مطبعة حكومة الكويت، 1408هـ - 1989م.

34- مجدي وهبة: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ط2، مكتبة لبنان، بيروت، 1984م.

35- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، ط2، ج2، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

36- مجموعة مؤلفين: دائرة المعارف العالمية World Book Encyclopedia، بيروت، 1984م.

37- ..............: الطفل والمجتمع، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الكويت، 1412هـ - 1993م.

38- ...............: معجم اللغة العربية، ط1، ج1، دار المحيط، بيروت، 1415هـ - 1995م.

39- محمد أبو العلا: علم النفس، مكتب عين شمس، القاهرة، 1409هـ - 1989م.

40- محمد جميل محمد يوسف وفاروق عبدالسلام: النمو من الطفولة إلى المراهقة، مكتبة تهامة، جدة، 1410هـ - 1981م.

41- محمد حسن بريغش: أدب الأطفال أهدافة وسماته، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1418هـ- 1997م.

42- محمد حسن عبدالله: قصص الأطفال ومسرحهم، ط1، دار قباء، القاهرة، 2001م.

43- محمد رجب النجار: جحا العربي، ط2، مكتبة ذات السلاسل، الكويت، 1989م.

44- محمد عبدالعليم مرسي: الطفل المسلم بين منافع التلفزيون ومضاره، ط1، مكتبة العبيكان، الرياض، 1418هـ - 1997م.

45- مفتاح محمد دياب: مقدمة في ثقافة وأدب الأطفال، ط1، الدار الدولية، القاهرة، 1415هـ - 1995م.

46- ممدوح القديري: أدب الطفل العربي بين الواقع والمستقبل، ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 1999م.

47- هادي نعمان الهيتي:  أدب الأطفال... فلسفته، فنونه، وسائطه، دار الحرية، بغداد، 1398هـ- 1987م.

48- هدى محمد قناوي: الطفل وأدب الأطفال، مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1994م.

49- يحيى خاطر: قصة الطفل... كامل كيلاني نموذجاً، ط1، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2001م.

 

 ثانياً: المصادر الأجنبية:

1-      Anderson, William and Groff, Patrick, 1972, A New Look at Children’s Literature. California: Belmont Wadsworth Publishing Company.

2-    Betzner, Sean, 1956. Exploring Literature With Children, New York. Teachers College, Columbia University.

3-    Huch, Charllots, 1976, Children’s Literature in the Elementary School. New York: Holt, Rinhart and Winston.

4-    Lukens, Rebecca.J.1976. Article Hand book Of Children’s Literature, Illinois: Glenview, Scott Fosemon and Company.

5-    The New Encyclopedia Britannica, 1993, vol.3.

6-    The Encyclopedia of Education, 1971, vol.6.

بالإضافة إلى قصص كامل كيلاني للأطفال التي وردت في سياق البحث وغيرها من المراجع الفرعية

أضيفت في 08/10/2007/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية