أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

دراسات أدبية - الأدب الفلسطيني / نماذج قصصية وشعرية 3

الأدب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي المهجر

 

 

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

 

 

 

ومختاراه 

 في انتظار بربارون

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا الكوكب الأرضي 

 كان حمزة

 برقوق نيسان 

 البنت المقدسة

 

 

رجاء لا تمت

إلى أين 

  إنه اللحن الأخير

رجوع إلى البحر 

 لن أبكي

 منشورات فدائية

 

في انتظار بربارون

بقلم الكاتب: أحمد يعقوب

 

(وقائع وسيرة) 

 

الإهداء:

إلى حسين جميل البرغوثي... طبعا

 

I

سيجارة أخيرة هي ما تبقى في علبة السجائر. لا أذكر إن كان هناك فيلم سينمائي بعنوان  "الرصاصة التي بقيت في الجيب" .. أو: الدينار الأخير في البيت !!  لكنني, أعرف ذاك السؤال : ماذا بعد الأشياء الأخيرة !!

انظر إلى زوجتي2، وهي تنظر إلى علبة السجائر، تبتسم وتقول لي: " دخنّها لا عليك بي". وأتساءل:لماذا "يعتبر الناس المرآة عميقة ? أ لأنهم لا يلمسون العمق لديها أبداً ؟" .

لا أذكر من قال:" حتى تنتصر خارجياً عليك أن تنتصر على دواخلك أولاً ". وأحاول تذكر اسم أحد أبناء الخلفاء العباسيين ،أحدهم كان مولعاً "برمّ" التراب، وقد أحضر والده الخليفة كلّ أطباء الخلافة علّهم يبرؤوه من "المتعة القاتلة" ولم يفلحوا. لكن   شاعراً قال له :" أين منك همة الرجال "؟ .. وبعد مدة ،عندما، رأى من كان مريضاً الشاعر قال له:"روضت نفسي ولو أمرتها أن تمتنع عن الهواء لفعلت".

 

أنا أيضاً أستطيع محاربة أهوائي و متعاتي   و عاداتي وغرائزي, لكن  بشرطٍ واحد : أن أقرر أنا ذلك ، لا أن يقرر لي ذلك أحد ، ولا أنفذ ذلك تحت وطأة ظروف لست أنا من يتحكم بها ..

ربما كان هيغل من قال:" لم يتحقق أي شيء كبير دون أهواء ".. ولا أذكر إن كان نيتشة هو الذي قال: "الذي لا يعرف كيف يوظف إرادته في الأشياء فليضفِ عليها معنى ما على الأقل.. فذلك يوهم بأن فيها إرادة مسبقاً " ...ماذا سأفعل كاستباقٍ لما قد يأتي ؟.

أنا الذي يأسرني " مالك الحزين " أو قل: طائر اللقلق !!و لهذا الطير خاصيته الاستشعارية تجاه الرياح ..فهو يستشعر قدوم العاصفة,  وفي الحال يستكشف منطقة لا تمسها العاصفة ، فيبني عشاً جديداً, ويبدأ بنقل أفراخه إليه,  فتمر العاصفة دون أن تدمر عش اللقلق.

فكيف لي أن أقاوم الحزن والقهر ؟!.

في بيتونيا إلى الجنوب من رام الله، حيث سكنت في "شقة أقرب إلى السماء" ، وعندما كانت التطورات تشير إلى إنهم سيحتلون بيتونيا ، فلقد فرحت لذهاب زوجتي إلى غزة كي تنجب وليدنا، الأول بين أهلها,وإن كان ذلك طبيعيا, فإن الأمر الأهم بالنسبة لي هو أنها لن تراني إن هم أذلوني أو ساقوني كعبد.عندها كنت أسآئلني:

هل سأقول لهم

"خذاني فجرّاني ببردي إليكما  

فقد كان قبل اليوم صعبا قياديا"!

أنهضُ,  صامتاً, أحاول إظهار توازني وقوة إرادتي, بل وكبريائي أمام زوجتي. لهذا تركت السيجارة في مكانها وذهبت باتجاه الشرفة.

لقد اعتدت أن أقول للبحر: سلاماً أيها الأزرق.  لكنني أراه الآن باهت اللون. كل ما يبدو لي هو لون يمتزج فيه الرمادي المطفأ بالأزرق المطفأ أيضاً. ليست عيوني هي التي تراه هكذا، وليست السيجارة الأخيرة وما بعدها، ما يجعلاني أرى البحر هكذا.. هل أصيب البحر بالقلق أيضاً !!

أذكر أنه في تحليل النفس السريري لفرويد يُسأل المريض عن البحر:صف البحر!! ماذا يعني لك البحر؟ هل تجيد السباحة؟إلى أي مدى تسبح ? في الأعماق أم على الشاطئ فقط ?. على هذه الأسئلة يجيب اللاوعي عن موقف المريض من الحياة ورؤيته لها.

"هل تسممت حياتي"!!

لماذا "روحي توجعني"؟؟

للسماء أيضاً ألوان تبعث على الكآبة. ثمة غيوم تسبح بين الأبيض المتسخ والرمادي المستهلك والأسود المطفأ.. هل أرى قلقي شبحاً يتخفى بين الألوان ما بين البحر والسماء !!?

من هذه الشرفة كنت شاهداً على وقائع حية لانقضاض طائرات الـ(أف 16) على الشاطئ الذي أراه على بعد فراسخ قليلة.

أكاد أجزم أنني سمعت صرخات بعضهم - المقصوفين- قريباً من فندق ماريوت غزة (طور الإنشاء) شاهدت سيارات الإسعاف تصل إلى المكان. لكنني لم أتمكن من متابعة المشهد, وكان مشهداً يوحي بالسيادة المطلقة. الطائرات أغارت ثانية في اللحظة التي بدأ فيها رجال الإسعاف مهامهم. وقبل أسبوع من تلك الغارة العربيدة ، وفي عين المكان (كما يقول التوانسة)  لم يكن الصيادون قد أناروا قناديلهم ، كان فجراً,  وكان ذلك نذير شؤم .

أصوات زنين مزعج كانت تملأ الفضاء,  خلتها للطائرة "الزنانة" كما يسميها أطفال غزة , وهي ذاتها التي أطلق عليها أطفال لبنان "أم كامل" .لكنها كانت أصوات الزوارق الحربية التي يسميها الإسرائيليون "الدبور" !!

"دبور" و"زنانة" !!

قصفت "الدبابير" قريباً من الفندق طور الإنشاء.  وكنت أعدّ عدد الإطلاقات منذ لحظة خروجها من فوهات المدافع ، حتى لحظة انفجارها قريباً من ماريوت غزة, الذي ربما تسكنه الأشباح فقط .

 كل انفجار كانت ترافقه صيحات أطفال جيراني، كانت صيحات ممزوجة بالهلع وبالنشيج.

 

لا أدري إن كانت السيجارة الأخيرة تجعلني أسمع الآن الصرخات تلك ! وكذلك أصوات سيارات الإسعاف التي تعرضت للقصف أيضاً.

الآن، تقتحم مخيلتي مناظر جنود وكأنهم يأتون من البحر ..ويعودون بشباب الحي مقيدي الأيدي ومعصوبي العيون كأنهم عبيد !!

(شيء خفي يطالبني بإعادة قراءة سبارتاكوس وعنترة) عند ذلك كيف سيكون منظري أمام زوجتي ?!! وكيف سأظهر توازني وكبريائي !!

 أغلقُ النافذة كما أغلق ديوان شعر لا شعر فيه, وأجلس أرضاً كالذي ركلته تلك الصور.

كانت نظرات زوجتي ترافق حركتي وها هي الآن توجه نظراتها إلى علبة السجائر, كأنها توحي وتومئ لي بأن أدخن السيجارة الأخيرة, هل حقاً تكون المرأة الملاك والشيطان في آنٍ واحد ?!

اللعنة !!

اللعنة

أين أنت أيتها الطمأنينة الآن ?!

حقا ما يقوله حسين، في "ذاكرة عادية في زمن غير عادي ":  "الاحتلال يترك إحساساً بالعجز والتوتر" ...

ربما لهذا السبب انتحر خليل حاوي3, و ربما لهذا السبب أيضا احتفظ محمود درويش بمسدس عندما رفض الخروج من بيروت 1982

أنظر إلى البحر.. وأبتسم .. أطرد تهيؤاتي عن الجنود..  وأتوهم خضير ميري4 يرسو في مركبٍ فينيقي ..تحمل اسم "آتيه" إله الجنون ومعه كل فلاسفة التاريخ وعظام المجانين .. وأراه بلحيته من السرخسيات وشعر من المرجان..في يده اليمنى "الجنون عند نيتشة5" ..وفي اليسرى "صحراء بوذا6" ..وعلى صدره يافطة تقول: "الفكر المشتت7" !!

أذهب إلى مكتبتي لأبحث عن خضير ميري، أو  "معدان" 8 وارد بدر سالم. أنظر إلى كتبي القليلة.. وأحنّ إلى مكتباتي التي تركتها أينما حللت.،

 

قال لي  مهيب البرغوثي9 : " إن درزياً كان مع الجنود الذين اقتحموا شقته على "روف رام الله" .. وانتقى " أمهات الكتب"..!!

هل افتدى مهيب حياته بالكتب ؟أم بحكمة الجنون ؟أم بجنون الحكمة ؟

أقلب قنوات التلفزيون كأنني أبحث عن قناة تقول خبراً درامياً ..يحل عقدة هذه التراجيديا  التي ربما هي عصية على "اسخلوس" المؤلف الخالد للتراجيديات الإغريقية. الأمر هنا لم يعد بيد "أفروديت" ..ولا "زيوس" ..ولا "أبولون" أو أي من تلك الألهة بما في ذلك "آتيه" . الأمر هنا متعلق "ببروميثيوس" آخر سلب المعرفة والأفكار والحكمة, وقدم نار الحرب..

 

اقلب قنوات التلفزيون أبحث عن أي شيء...

 ثمة مسرحية كوميدية ..فأقلب

..فيلم مصري ممجوج !!فأقلب..

 أغنية من أغنيات الموضة المتشابهة في كل شيء حتى بأصوات المغنيين!!

أخرج من القنوات الفضائية إلى المحلية..

تلفزيون الأمل الذي يبث من الخليل يعرض مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يجرّون فلسطينياً في شوارع المدينة..

 تلفزيون النورس يعرض مشهد المواطن الخليلي الذي أصابه الجنود في رجله.. وأبقوه في الشارع يلوح برجله التي "انقصفت رقبتها "؟؟

التلفزيون الفلسطيني الرسمي يقدم نشرة الأخبار وهي مليئة بالمشاهد الكارثية..  التلفزيون الإسرائيلي في إحدى قنواته يقدم حواراً مع ملتحين يضعون ( الكبّة ) على الرؤوس. أقلب..

في القناة الثانية ثمة دعايات إعلانية تقدم  مزيجاً من الفنتازيا الممزوجة بالشبق, و سرعان ما تطل المذيعة ذات الوجه الطفو لي تتحدث بغنج خفي ودلع واضح, في صوتها رنة موسيقية تزيدها رقة وشفافة , شيء ما يشبه صناعة البهجة المزعومة للتأثير في المتلقي في حالات عدم الرضى الشعبي في الحروب .أشعر أنها تنظر إلى المشاهد بعينين ساحرتين وكأنها تراوده عن نفسه .

 تنتقل الكاميرا إلى أعداد كبيرة من الجنود والمجندات فأفهم أنه برنامج ترفيهي للجيش !!

يصفق الجنود الحضور ويهتفون مبتسمين .. وأتساءل هل أحد هؤلاء الجنود هو من أطلق الرصاص عليّ؟؟ وهل هؤلاء الجنود هم الذين يقتلون ويدمرون ويستبيحون كلّ شيء ؟!! هل هم من يقتحمون البيوت الفلسطينية ويملؤنها بالرعب! والسحل! والاعتقال! والتيتيم! والثكل !!

 

إنهم يبتسمون !! ويغنون !! ويتمايلون!!

تظهر الكاميرا  وجوه المجندات الجميلات جداً.. شيء ما  يشبه نجوم هوليود .

أذكر أنه في العهد القديم عند الحديث عن الحرب المقدسة ثمة وصايا للمحاربين اليهود , أذكر منها : "أنه إذا بنى أحدكم بيتاً جديداً ولم يدشّنه فليرجع إلى بيته لئلا يموت  في الحرب فيدشّنه سواه, وإذا غرس أحدكم كرماً ولم يقطف  ثمره فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيقطف ثمره سواه. وأي واحد منكم خطب امرأة ولم يتزوجها , فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيتزوجها رجل آخر "...وأتساءل كيف يخوضون هذه الحرب القذرة ? فأتذكر أنهم لا يبنون!! ولا يزرعون!! وقد تركوا ذلك لـ"العبيد الكنعانيين "..

في الحال يدخل "موفاز"10 إلى الاستديو الطبيعي.. فتتعالى الهتافات والتصفيق ..ويزداد صوت المذيعة شبقاً وهو يتداخل مع موسيقى خاصة ..

  شيء  ما يذكر بموسيقى فاغنر والأنوار الكشافة المركزة على الزعيم .. حيث المشية البطيئة للفوهرر باتجاه المنبر وسيل كلامه العنيف والموقع .. وهي تنمي وتمجد الهذيان الجماعي للحضور !!

يتبادل "موفاز" القبل مع المذيعة التي تكشف عن عري ظهرها ، تبدأ الحديث مع موفاز ، التقط بعض الكلمات العبرية ذات الأصل العربي  واللاتيني,

لا أذكر إن كان الحاخام "ابن ميمون الأندلسي"  هو الذي وضع قواعد اللغة العبرية وفق قواعد اللغة العربية.. اسمع "موفاز" يقول : "ملخماة نيكد تيرور " فأفهم ملخماة من ملحمة أي: لحم /حرب/تلحيم..

وأظن " نيكد" من

 negation

بمعنى نفي أو ضد ..ولا أدري لماذا تذكرني  بالنكد !! ألأن كلاهما تضاد!!

ولأن تيررور واضحة المصدر من

 terrorism

فأفهم أنه يتحدث عن تلحيم الإرهاب..

ويقول أيضاً فغوا .. فأعتقد أنه يقول فقع / انفجر.. فأظن أنه يتحدث عن العمليات .

 يتجه نحو جنده الحضور بالكلام .الأمر الذي يجعلهم يهيجون ويرفعون قبضاتهم ويصرخون فتخلو وجوههم من كل العلامات التي كانت تعلوهم في بداية البرنامج ..

لا أدري لماذا تخيلته يتلو عليهم خطبة عن الحرب المقدسة من العهد القديم : " وأما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها الرب إلهكم ملكاً فلا تبقوا أحداً منها حياً بل تحللون إبادتهم وهم الحيثيون والأموريون والكنعانيون كما أمركم الرب"

حقاً "إن وحي الحرب هو أخوة الحشد الفوضوي المستسلم إلى المذبحة في نشوة مماثلة للرغبة الجنسية" . ( فان سلون في كتابة المنبوذون)

فالنوازع الغرائزية تتخذ صفة مقدسة , وبذلك تحديداً تصبح انفعالية , حينذاك , كل شيء ينحني أمام هذا الخير المطلق , وكل شيء يكون مسموحاً به , الحيلة والكذب والنية السيئة والاغتصاب والنهب والتعذيب , ويظهر شكل  جديد من التقدير إزاء الخصم  ...لأن الاحتقار إزاء عدو معين يؤدي  إلى الازدراء بالكذب عليه.. ويقتصر تبجيل التضليل على الذين يعتبرون مساوين ..

لا أدري لماذا أخضع " كلازوفيتز  " الحرب للسياسة؟

 

عند موفاز أرى شغفاً وحيداً  ومتعة وحيدة في رياضته "التدمير الحقيقي" ..

أظنه يقول:" الحرب هي صحة الدولة .. الاكتفاء الذاتي .. التخطيط .. هي صحة الاقتصاد .. فالإنتاج العالي الوتيرة يجب أن يعتمد في نجاحه على التدمير العالي الوتيرة "!!

ثمة من يعتبر الحرب مثل العيد أو الكرنفال ..ويبرر ذلك بأن الدولة تؤكد نفسها وتبررها وتمجدها عبر مجابهتها لكلية أخرى ..لذلك فإن الحرب تشبه الكرنفال وتشكل ذروة مساوية  له, ويبرر ذلك بأنه عندما لم تكن الدول قد فقدت بنيتها المقدسة ، كانت تعيش على الطقوس السحرية الدينية، لكنها، عندما أصبحت دولة عنصرية باتت محكومة بالقوة والبطش في الحرب التي تضعها في مواجهة الدول الأخرى, وليس في الكرنفالات التي تتطلب المشاركة الجماعية بين الناس والمجموعات..

 لو كانت إسرائيل دولة دينية لليهود لفعلت ما تفعله دولة الفاتيكان .. واكتفت بطقوسها .

اللعنة!!

انقطعت الكهرباء في الشقة !

اللعنة !!

قالت زوجتي : "إنه الموعد الروتيني لانقطاع الكهرباء" ...

كأنها بذلك تقول لم يقطعوا الكهرباء إيذاناً ببدء الاجتياح، وتشعل شمعة .

قدحة النار قدحت رائحة السيجارة في أنفي  فأنظر إلى علبة السجائر الزرقاء وقد منحتها ظلال الشمعة توهجاً خاصاً .. أتذكر أن الحرب الحقيقية بالنسبة لزوجتي هي العتمة لأنها مسرح للآخرين: .

(The others)

المسلسل الأمريكي عن الأشباح والرعب .

 

أنظر إلى السيجارة بحقد .. وأتذكر كم تشاجرت مع خضير ميري كلّما قضى على سجائري بشراهة تدخينه المترافق مع جدالاتنا الطويلة جداً في ليالي "الأيام النحيلة"11 !! أذكر أننا ناقشنا ذلك ..ولا أذكر إن كان "سارتر" أم "ميري" هو القائل: "من خلال التبغ الذي أدخنه  كان العالم هو الذي يحترق  هو الذي يدخن  وهو الذي يتم ابتلاعه كالبخار ليدخل إليّ" .

 

ربما أراد أن يتحدث بذلك عن ردة فعل الامتلاك التدميري للتبغ، والتي ربما كانت تساوي عنده" رمزاً تدميرياً امتلاكياً للعالم بأسره ".

في اتصالاتي مع الشاعر الصديق خالد درويش12 وقد وقع عليه حظر التجوال في رام الله/بيتونيا قال لي : "لقد كانوا -(الجنود)- جزءاً من التفكير  كيف نؤمن السجائر"

لا بأس يا "خضير" أنا الآن بلا سجائر لكنني سأبحث عنك سأقرأ" صحراء بوذا " ثانية وثالثة وألف  وأنا اذكر  تلك الليلة من العاشرة مساء حتى الرابعة فجرا !! عندما قرأتها لي وهي مخطوطة,

"أبو العيون " كيف أسطرت حياتك؟!! وحياتنا هكذا !!

أعود إلى الشرفة ...

قناديل الصيادين قد بدأت تتماوج كهودج مائي..  شيء ما يعطي انطباعاً بأن الصيادين مطمئنون أو غير آبهين. أحس بالرغبة في أن أكون بينهم.. ليس لأصطاد.. إنما أن أكون مستلقياً على لوح خشبي مثل قوم "المعدان" في أهوار العراق..

تقترب مني زوجتي .. وتقترح عليّ الذهاب إلى بيت أهلها المجاور لنا !! يجبُ استخدام الدرج .. ثمة رياضة قسرية أيضاً !!

كنت قد حفظت عدد الدرجات من وإلى الطابق السادس.. وكنت قد تعلمت ذلك من أصدقائي "العميان" .. ومن لاعبي الجودو الذين يقولون : "عندما يفقد البصر أهميته فعليك بالذاكرة " .

يا إلهي

ماذا حلّ بذاكرتي !! من يعصف بها !! من  يحاول غسل دماغي !!

لم يعد لي ذاكرة من رقم طينية يا "شوكت الربيعي12"!!

عندما كنت صغيراً كنت أظن أنهم يفتحون الرأس ويغسلون الدماغ كما تغسل أمي الصحون !! لكنني فيما بعد عرفت أن تعرض الإنسان إلى ظروف شديدة القسوة وعصية على التحمل الإنساني  وفي الوقت ذاته تُقدم له أفكارٌ أخرى نقيضةٌ لأفكاره وهذا هو اختصار لعملية غسل الدماغ ?

اللعنة!!

يا إلهي

من يطبعني !?!

أظن أنني قرأت في كتاب العين أو الصحاح أو مختار الصحاح ما يلي :

طبع الدابة أي روضّها !!

تقول زوجتي إنّ الزهايمر يصيب الذاكرة القريبة !! وأسألها أي مرضٍ يعني بالذاكرة البعيدة !!

تقول : ربما أصبت بمرض "لعنة العراق" إثر زياراتك الكثيرة إلى جنوب العراق الذي تعشق . وأقول لها : ليس فقط لعنة العراق  إنما لعنة بيروت ولعنة دمشق  ولعنة كوبا  ولعنة إسبانيا، ولعنة رأس الخيمة  ولعنة تونس ولعنة عمان... وأخيراً لعنة حيفا..وعن هذا تدور مخطوطة كتابي "اللعنات".

تقول زوجتي : اقصد استخدام اليورانيوم المنضب ونتائجه في العراق وفي البالوع رام الله !!

وأقول لها : ربما.. وربما فارقتني ذاكرتي البعيدة عند جسر اللبني بعد مروري تحت نجمة داوود الكبيرة جداً !! ربما نسيتها في زيارتي اليتيمة إلى طيرة حيفا !! هناك حيث قبر جدي تحت الحديقة العامة !!

"للذاكرة صفة عملية .. تتم عندما يأتيها المنبه المطلوب" تقول زوجتي  وتتابع "إنها مجرد ضغوط" ليس أكثر .. وأقول : ربما ..وأغلق باب الشقة ..ونتجه في العتمة صوب الأدراج .

بين أدراج العمارة تحفظ زوجتي أماكن الشقق الفارغة التي لا تزال "على العظم".. فهي بالنسبة لها مأوى "الآخرون".. وأنا أحفظ عدد الدرجات غيباً كي لا أتعثر !!

عند باب العمارة  ونحن نحاول التقاط لهاثنا  قالت زوجتي : "لو لم نكن مدخنين لما تقطعت أنفاسنا" .. أطرد تلك الفكرة عندي .. كي لا تكون تبريراً سفسطائياً لترويضي كما يشاء الآخرون .

أريد أن أكون نفسي  لا أريد أن أكون كما يبغي الآخر !! أَخْرَجَتْ علبة السجائر ذات السيجارة الوحيدة ومدتها لي، وطبعا قلت لها : دعيها لك ..ونلتقي في بيت أهلك.

II

كان الظلام يخيّم على هذه المنطقة من غزة ! أنا أسكن في غزة.. لكنني لا أعيشها ! لا أعرفها ! لا أراها !!

أعود إلى غزة بعد غيابٍ عنها دام عامين تقريباً قضيتها في رام الله . جئت غزة لأول مرة في حياتي مطلع العام 2000 بعد عودتي إلى ما تيسر من وطن .. آنذاك انشغلت بالركض وراء تأمين وظيفتي .. آنذاك كنت مشغولاً "بالإفلاس وبالمحبة" ما جعلا الشاعر سركون بولص13 "يجنّ ويدخل جمرة" .

تزوجت في غزة .. وفي اليوم العشرين لزواجنا ذهبت إلى رام الله .. أسبوع فقط على اندلاع الانتفاضة . ولم أتمكن من العودة إلى غزة .

بعد سبعة شهور تمكنت زوجتي من الحضور إلى رام الله ..بعد أن "سافرت" من غزة إلى رفح إلى مصر إلى عمان إلى رام الله.. طبعاً وحدث لها ما يحدث للفلسطينيين  من إهانات وإذلال في النومٍ على المعابر وتأخر على الحواجز .ولقد عادت إلى غزة قبل أربعة شهور لتضع وليدنا الأول في رعاية أهلها

 

في الشهر السابع للحمل . أطل الجنين السبعاوي  ..عاش سبعة أيام .. ومات في السابعة مساءً  ..أسميته نمر على اسم والدي ..والنمر يقترب من السبع!!

كان ذلك سبباً كافياً لأجئ إلى غزة ..التي  تحتضن في ترابها جنيني .وغزة الآن ليست أكثر من سجن كبير..  حتى البحر الصديق العتيق يتواطأ على هذا السجن.. كأنه جلاد يبكي بصمت .

الدكاكين الآن  تشعل شموعاً أو قناديل زيتية وبعضهم أنار مصابيح كهربائية .

السيارات تطلق "زماميرها" بافتراض من السائق أنه سيقلّني قبل أن يقلني سائق آخر .

لم أتمكن من ممارسة المشي بسبب مطاردة السواق "بزماميرهم" ..لهذا أمشي بالاتجاه المعاكس لحركة السير !! لقد جعل الاحتلال حياة المواطن الفلسطيني موثقة إلى الشيكل .. بالشكل الذي فرض عليه أن يقضي حياته في الركض وراء الشيكل .

 

أذكر وأنا أشتري كعكة وزعتر من أحد بائعيها في رام الله ..كيف وقع الشيكل الذي أعطيته إياه .. وتدحرج الشيكل إلى الشارع.. وركض البائع وراءه.. فكادت إحدى السيارات تخطف حياته منه..

لهذا أتمعن طويلاً بالآية القرآنية "فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" ..ربما لهذا السبب قال ماركس : على المرء أن يأكل ويشرب ويلبس ويحتذي (من حذاء) ويأوي تحت سقف قبل أن يبدأ بصنع التاريخ والسياسة !! فبالسوط وبالشيكل أسست إسرائيل استعمارها !! فهل بالسوط وبالشيكل نرد لإسرائيل استعمارها ?!(لا يعجبني استخدام مفردة استعمار لأنها مفردة استشراقية توحي بان الغزاة جاءوا ليعمروا العمران .. افضل استخدام مصطلح كولونيالية)

ذهبت إلى الدكان الذي اعتدت أن أشتري منه احتياجاتي. عند دخولي اعتقدت أنني لم أرَ جيداً بسبب العتمة.. لقد أدهشني البائع عندما أشار إلى المكان الذي يضع فيه السجائر .. كان خالياً تماماً  ومن كل الأنواع.

"مش معقول" قلت له:

= لا يوجد سجائر في السوق . أجابني

الكثير من الدكاكين في غزة تمتنع عن بيع السجائر على خلفية دينية .. لهذا سألته سؤالاً آخر : إن كانت بعض التنظيمات قد فعلت ذلك تنفيذاً لمقاطعة المنتجات الأمريكية !! لكنه أجاب بالنفي..

فأفسر لنفسي : ربما قام المدخنون بشراء كميات كبيرة من السجائر كتموين للأيام القادمة أو للاجتياح الإسرائيلي القادم .

في المحل الثاني كان هناك جمع من الرجال يتجادلون على الطريقة الفلسطينية عن احتمالات أو عدم احتمالات غزو إسرائيلي قادم.. اكتفى البائع بتحريك كف يده اليمنى لي بما يعني "ما فيش" .وعاد يصرخ وهو يقول : " طيب ! الخواجات ما بيكذبوا : لقد قالوا إنهم سيأتون !! شو رأيك يا أستاذ ؟! " لم أجب .

تذكرت صراع الخيميائيين على صناعة السم ..وكيف مات أحدهم من سماعه لدقات الهاون كل يوم ، وتذكرت الوهم الذي قتله..

تابعت المسير.. بدأت أقوم بتمارين استرخاء .. أتنفس بعمق مع المشي .. أركز عيني في شيء يشبه النجمة قد بدأ يلمع الآن !! أعتقد أنه ليس نجمة !! ربما كان "قمراً" اصطناعياً .. وذلك لقربه الشديد ولمعانه القوي!! فتبسمت له حتى تظهر صورتي مبتسماً !!

أتمشى وأشعر أن دمي يقول لي أنني حرمته من النيكوتين .. ثمة حرقة في العيون وطنين في الآذان .. وجميع المحلات لا يوجد فيها سجائر .في الطريق رأيت أكياساً رملية وُضعت لتكون سواتر وحواجز لمقاومة الاجتياح المفترض..  شيئاً ما يشبه الشراك التي كان يقيمها الهنود الحمر في الأدغال لاصطياد الغازي الأبيض ..الشباب  منهمكون "بتضبيط" الساتر !! إنها المقاومة بسلاح الحد الأدنى !!

تغزوني الآن مشاهد من الفيلم السينمائي (البؤساء) يحكي عن الثورة الفرنسية  وعن المتاريس في الشوارع .

ربما كان ماركس من قال عن الذين صنعوا كومونة باريس : إِنهم "هبّوا لاقتحام السماء" . لقد أسماهم بالفوضويين الثوريين.. ولهذا نحت مصطلح "ديكتاتورية".

لا أدري لماذا سمّى ماركس أيضا المؤمنين بالحرية المطلقة للفرد بالفوضوية "الأنا ركية" ? فأنا أفهم ديكتاتورية من "ديكتا" التي تعني لي "إملاء".

عندما  كتبت عن مشهد الصراع اليومي في المدخل الشمالي لمدينة البيرة (البالوع) قلت :إن الشباب أيضاً "هبّوا لاقتحام الفضاء" . لأن المشهد أخذني إلى وقائع الصيّاد مع الغزلان أو إلى وقائع مصارعة الثيران !!

في أول مرة شاهدت فيها مصارعة ثيران في إِسبانيا  وكان المصارع من أصل فلسطيني - أذكر أنه من عائلة قزق-  ..

وأنا أشاهد المصارعة تقمصت حالة الثور .. لقد كان فيّ الكثير من الهيجان .. والكثير من العناد أو قل الإصرار بلغة الأنسنة  ..كان فيّ من القوة ليقال عني "ثور حراثة" .

كنت أتأوه كلما طعن الفلسطيني القزق الثور.. وكنت أهيج بين الجمهور.. لكن بهياج آخر عنهم .. ربما كنت الوحيد المؤيد لفريق الثور !!

لا أدري لماذا رأيت الإسرائيلي في دور المصارع وأنا الفلسطيني في حالة الثور ؟؟

 

كانت جدتي المفتونة بحكايات "كليلة ودمنة" - كافتتانها بسيرة بني هلال وعنترة والزير السالم- وكانت تحفظهما كأي حكواتي من عصر العصملي رغم أنها كانت تحمل ختماً تدمغ فيه شهادات الولادة التي تمنحها للأطفال الذين تسحبهم إلى الحياة بوصفها قابلة / داية .

كانت تقول لي وراء كل هيجاناتي الثورية (من ثور) : "فلسطين راحت بالسياسة يا ستي". ولطالما طالبتني باتخاذ الذكاء عن الثعلب  والصبر والتحمل من الحمار  والعناد من الثور والشجاعة من الأسد .

عندها في نهاية أيلول 1982 وكنت عائداً "كسيراً حسيراً ظمي" من لبنان ثم دمشق  إلى كوبا مروراً بمدريد  عندها فكرت بطريقة تشكل فيّ حيواناً جديداً فيه من الأسد  والثعلب والحمار والثور، وإلى الآن لا أزال أحاول تشكيله لأن اللقلق قد أسرني..

اللعنة !!

لا يمكن لنقص النيكوتين في دمي أن يجعلني أفكر بطريقة حيوانية .

اللعنة !!

آه لقد تذكرت !

إنها الحرب

III

اللعنة !!

الذاكرة !!

الحرب!!

الحرب تشكل حالة استيقاظ للغرائز  للحيوانية  ودون كوابح ربما في شكلها الأكثر بدائية والأكثر فظاظة !! النوازع الغريزية ـ وربما ـ تتخذ صفة "مقدسة" ولذلك تصبح انفعالية ،

فالحرب تفتن وترهب والغرائز التي تستثيرها يبدوا أنها تحوم حول الإنسان مثل سلطة مجهولة، فكلما كانت الحرب أكثر إجرامية، كلما اتخذت الغرائز التي تكشفها -الحرب- صفات غير إنسانية وقاتلة. إنها" الغريزة التي تنحط وتنقلب ضد الحياة بحقد جوفي"

أجدني الآن عند تقاطع شارع النصر، شارع عمر المختار لقد قطعت مسافة طويلة جدا !! في هذه الأجواء "الاستنفارية" !! أجواء تشبه إلى حدٍ كبير الليلة الأخيرة من المهلة التي منحها جورج بوش للعراق قبل الحرب 1991 .

كنت آنذاك عائداً من زيارة الفنان الكويتي مسافر عبد الكريم الذي قرر في تلك الليلة أن يرجع إلى الكويت حتى ولو مات هناك  وهذا بالضبط ما لاقاه .

كانت بغداد المدينة كعادتها تماماً  تمارس حياتها الليلية..  ضجيجها , أنوارها,  محلات بيع اللحمة المشوية,  البارات التي تضاعفت آلاف المرات منذ أن أحصاها التوحيدي، وكذلك حزنها العتيق الباطن والظاهر. كل شيء على حاله, بل, ربما كان له بريق آخر .

 

السائق كان صامتاً لا يتحدث  ربما كان يخشاني كما أخشاه أنا  كنت أتأمل المدينة كالذي كان في غيبوبة واستفقت على سؤال السائق لي

:" شنو " ( أي ماذا )

= " شاكو " أجبته ( وأيضا تعني ماذا )

قال : كأنني سمعتك تقول "مش معقول كأن شيئاً لن يحدث غداً "

عندها كانت كلمات الشاعر خيري منصور14 تجول في رأسي من ذلك النقاش الذي خضناه في مكتب سميح سمارة15 في مقر سفارة فلسطين في بغداد .

كان سميح  يعتقد أنَّ الحرب لن تقوم لأنها بالنسبة له قد خيضت إعلامياً وسياسياً  وعلى سبيل النكتة قال خيري منصور إنّ يوم 16/1/1991 لن يأتي لأننا منذ 31/12 بدأنا نعدّ الأيام بـ 32/12  ... 33/12 ...  34/12  ...........

السائق ينطلق بالحديث  وقال لا تغرنك اللا أبالية هذه، لقد أَمَّن غالبية سكان بغداد مآوى لهم في ريف بغداد  ولقد ملؤوها بالتموين .. وأخذ يتحدث بحرقة ويضرب على مقود السيارة بقبضته "إنّ هذه الشوارع الجميلة سوف تدمر وهذه المساكن وهذه الجسور"  - وكنا نصعد الجسر المعلق- وبدأ السائق يبكي كما يفعل غيلان الشاعر عندما يهيج بحب العراق والعراقيين !! ويبدأ يهزج : " هذا بيتنا ونلعب فيه     شلها غرظ بينا الناس "*

في الصباح اكتشفت صحة ما قاله السائق .

غيلان الذي لم نفترق إلاّ في ساعات نوم ما تبقى من ليل.  كان قد أمن مأوى لزوجته الكردية الرسامة  في شمال العراق وعاد في اليوم الثاني ,

والشاعر عمر رشراش قد ذهب مع عائلته وعائلات فلسطينية أخرى إلى منطقة تسمى (طوزخورماتو) يسكنها غالبية من التركمان والمسيحيين العراقيين .

كان (الفيلسوف) خضير ميري لا يزال في مشفى المجانين , والشاعر حسن النواب قد التحق كسائق دبابة في البصرة ولم أعرف شيئاً عن الشاعر خليل الأسدي

لم أقلق كثيراً على جان دمو الذي أمعن في تقمص القط. فكلما وجدوه نائماً على أعشاب الحدائق العامة  كان يقول لهم: "اعتبروني قطة نائمة".

ولم أكن قلقاً أيضاً على ضياء سالم والشاعر نصيف الناصري الذين أمعنا في الفرار من الجيش.  لكنني كنت قلقاً على المخرج المسرحي ناجي عبد الأمير وأين سيكون مأواه ? كنت قد استفسرت الدكتور عوني كرومي عنه عندما حضر إلى موعدنا صباح 16/1/1991 كي نرتب فيلماً سينمائياً عن فلسطين .

بعد يومين على بدء الحرب عاد الذين خرجوا من بغداد إليها بعد أن اكتشفوا أنه لا يوجد مكاناً آمناً لا تطاله الحرب !!

إحدى العائلات الفلسطينية التي كانت تسكن قريبا من ملجأ العامرية, قررت الرحيل إلى عمان. لكنهم لم يتمكنوا من عبور الحدود. حكاية وثيقة السفر الفلسطينية.. عادوا إلى الملجأ في الليلة نفسها التي حدثت الكارثة..

IV

أجد الآن صديقا قديما عرفته في بيروت ,كان محاربا ثوريا يسمي نفسه (غيفارا),الآن يطلق لحيته واتخذ له لقب "الغيفاري" فلقد اصبح اقرب إلى الصوفيين منه إلى السياسيين ..أفكر بالذي ينجو من ميتات محتمة,فإما ينحى اتجاه التصوف  ومجاهدة النفس وأهوائها, أو يزداد تعلقا بمتع الدنيا.

تعانقنا بما يليق بالأصدقاء ,كان يبحث عن سجائر أيضا. بدأنا نتمشى ووجدنا أنفسنا نتحادث في دائرة الهموم ذاتها .وبوصفه ضابطا قياديا سابقا ,كانت تسكنه حسرة خاصة ربما كانت حسرة الضابط الذي لا قوة له أمام عربدة الجيش الإسرائيلي وقال :

"لقد فجرت عبوة ناسفة في غزة الدبابة الأكثر تطوراً في العالم. لكن !! هل كانت تلك العبوة هي اليتيمة ?! وهل الذي فعلها احتكر ذلك لنفسه !! فأتساءل مع نفسي: من أين يأتي الإحساس بالتوتر ? أو الإحساس بالارتباك !! هل يأتي من وحشية استباحة الجيش الإسرائيلي للإنسان قبل الأرض أم أنه يأتي من الهوة التكنولوجية بين الهندي الأحمر والغازي الأبيض ?

وأساله:"كيف شايفها"?

فيقول: لم نتخلص بعد من  "روح العبودية" وعاداتها وأخلاقها ?

فأقول له كيف؟

يقول ألم تقرأ نيتشة أبو السوبرمان؟

قلت ماذا بالتحديد؟

قال:أخلاق العبيد في أساسها أخلاق منفعة.  وفي أخلاق العبيد ينظر إلى الإنسان الخّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّيّر نظرة فيها لون من الاستخفاف. وحينما تسود أخلاق العبيد تصبح كلمة طيب مرادف للأبله. ويصدر ذلك عن نية حسنة.. الخيّر في طريقة تفكير العبيد هو ذلك الشخص المأمون الجانب, ففيه طيبة وغفلة, وربما قدر من  البله, إنه الرجل المغفل ".

.فإذا تصورنا أن المغلوبين على أمورهم والمظلومين والمعذبين والمقيدين وغير الواثقين من أنفسهم والذين يحسون بالعناء من أنفسهم إذا تصورنا أن هؤلاء قد وضعوا نظاماً أخلاقياً !!فعلى أي نحو يكون العنصر المشترك بين تقييماتهم الأخلاقية؟؟

الأغلب أنهم سوف يعبّرون عن تحد متشائم لموقف الإنسان بوجه عام ..وربما حملوا على الإنسان ذاته في حملتهم على موقفه .لهذا يلقى ضوء ساطع على كل الصفات التي تصلح لتخفيف أعباء الحياة عن عاتق المعذبين. فتمجد الشفقة واليد المعينة المنقذة والقلب الرؤوف والصبر والجد والتواضع والتزلف ... وأخذ يسال وهو محتد: "هل نحتاج لمن يقول لنا كر فأنت حر" !! أم نبقى نردد وين الملايين نفوساً وفلوساً وننتظرهم وفي ذلك إتكالية ما "? ويصرخ بصوت عال إلى درجة أنه اسمع كلّ من كان في الشارع :

"ما هذه الما فوق الليبرالية والتشوهات التي خلقها وخلّفها الاحتلال !! هل تتوافق الحرب مع الليبرالية "?!

أهدّىء من روعه, لكنه وبعصبية أقل يتساءل: أليس حريّ بالذي يقف وراء عمليات المقاومة أن يقوم بمواجهة رد فعل الآخر ولو بالحد الأدنى؟!

:"هدأ من روعك يا رجل".. أقولها له وكأنني بذلك أشعلت نيران غضبه فثار وهو يقول:" أحدهم قال لي إن الذين يصفحون المدرعات والآليات الإسرائيلية هم عمال فلسطينيون يعملون في إيرز" ..اللعنةٍ

هل عدم التدخين يغذي الأجواء هذه !

اللعنة !!

سأطرد هذه الفكرة الأخيرة  إنها محاولة تبريرية أخرى !! إنها إذعان لرغبة الآخر وليس لرغبتي .. وأمشي . مع العتمة والزمامير  التي تختلط بصياح المؤذن وهو يعلن صلاة العشاء رغم انقطاع الكهرباء !!ذهب صاحبي إلى المسجد .ٍ

لقد مضى علي وقت طويل جداً !! من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء دون تدخين !!

أجدني الآن في النقطة التي انطلقت منها عند أبراج العودة والتي يسميها الناس " أبراج المقوسي "  وأعود بلا سجائر ..لكن بكثير من القلق والحسرة

أدخل إلى سوبر ماركت ورغم العتمة التي تبدد منها الشمعة الكثير  فلقد ذعرت من حملقته في وجهي,  كدت أذعر من ذعره مني وأدهشني صمته وهو يمد يده إلى درج الطاولة ويخرج لي علبة السجائر قائلاً: إنه يحتفظ بها لنفسه .. وقال لي تفضل..

أريد أن أعرف كيف كانت ملامح وجهي ? كيف كان لون وجهي وحجم عيوني وطبيعة نظراتي..

 

وضعت علبة السجائر في جيبي ورحت أنتقي معلبات سردين  فول ,حمص , كيس من الشموع, كيس من العدس,  بطاريات صغيرة, وأخرى كبيرة,  زجاجة زيت,  طبعاً لا يوجد خبز ولا بيرة,,  واشتريت زجاجات ماء،  دواء للصداع  ونارجيلة مع كل توابعها.

قال البائع : التجار يصنعون أزمات في الحرب  فعلوا ذلك بالطحين والخبز والآن بالسجائر.. "قرصته" بعوضة,  وبدأ يحكّ مكانها قلت له :"هكذا هم" !!

وطلبت من الرجل أن يحسب قيمة المشتريات ولما فعل : قلت له أضف المبلغ على حساب ديوني إذا سمحت !! وعدت أدراجي لن أصعد إلى الشقة , العتمة لا تزال سيدة الموقف .قررت أن أتمشى ريثما تعود الكهرباء

لهذا تركت الأغراض عند حارس العمارة أوصيته بها  وانطلقت...

V

العتمة الآن تجعل المكان مثـل مقبرة..  حقاً إن العتمة هي مسكن التأمل والتخيّل .. وهي مبعث الطمأنينة والهلع من المجهول في آن.. في العتمة تأوي التهيؤات و الإسقاطات النفسية !! ربما كانت العتمة الأولى هي التي خلقت الغولة لأجدادنا, وربما هي التي خلقت العفاريت للنواطير وللعشاق الليليين !!

لهذا أرى في العتمة غاراً للحكمة وأغواراً للجنون..  وأتذكر " بروميثيوس " الذي علم الناس سرّ النار .. وكيف أنزل " زيوس " به أقصى العقوبات , وأتذكر العتمة والنور اللتين قامت المانوية عليهما ..

وأخيراً أتساءل عن سبب انقطاع التيار الكهربائي هنا في غزة ?! ولماذا بقيت كهرباء فلسطين تحت رحمة شركة الكهرباء الإسرائيلية !!

وقع حصان يشد عربة يلفت انتباهي .. أنا أعشق هذا الحيوان الجميل .. وأظن أنه يكاد يتكلم لو كانت له حبال صوتية .. وعندما تمر العربة بجانبي أرى الحصان رغم العتمة.. وأشعر أنه " يتقمّز " مثل "لوّيح " دبكة , لكن وربما بأشعة ما فوق حمراء في عينيه تجعله يشق هذه العتمة وكأنه سيدها !!سائق العربة يبدأ بتجويد القرآن بصوت رائع..

علبة السجائر لا تزال في جيبي .. لم أفتحها بعد,  لا يعجبني التدخين وأنا أمشي, أفضل الاستمتاع بفعل التدخين مع فنجان قهوة !! كذلك لا أريد للتدخين أن يعكر عليّ هذه النسمات  الشأن البحري في كسر هدوء المقابر .

آخذ نفساً عميقاً .. أرفع رأسي..   وأمشي ببطء شديد باتجاه البحر

البحر الذي كتبت إليه في بغداد :

اشتري علبة سردين "

لأشم البحر !! "

VI

عرفت البحر أول ما عرفته من روايات الأهل, ومن تندرات الآخرين على أبناء بلدة طيرة حيفا , الذين ينسب إليهم أنهم أطلقوا الرصاص على البحر لأنه هاج وماج بينما كان بعضهم يشرب الخمر قريبا من الشاطئ فعكر سكرتهم!!, ويقولون وفق لهجة أهل الطيرة : " قرقع البحر قوّصه "!!

سبّحني والدي في بحر اللاذقية وأنا ابن ست سنوات, كان همي الوحيد أن أعود بالبحر إلى أمي , فأخذتُ قنينة من ماء البحر.. وكذلك عدت بأكبر هدية..عدت بكيس مليء بالسلطعونات الصغيرة جدا, وقلت لها: هذا ما تتحسرين عليه منذ إخراجكم من البلاد.. لم تفعل شيئا اكثر من البكاء...

أبي وأمي أمضيا حياتهما يتحسران على رائحة البحر !! كانا يقولان يا ريحة البلاد .

في زيارتي اليتيمة إلى طيرة حيفا (أيار 2000) عرفت أن للبلاد رائحة حقاً .. وعرفت أنها لا يشمها إلا الذي يحيا غريباً عنها أو غريباً فيها. فذاكرة البلاد في المنفى وطن..

الإسرائيليون الذين يعيدون احتلال المدن الفلسطينية هم أيضاً يتحدثون عن منفى وعن وطن. الإسرائيليون الذين يشهرون سيف داوود , نعم داوود هل يعلمون أنّ داوود كان لاجئا سياسيا عند الفلسطينيين عام(1000)قبل الميلاد,فقد لجأ مع (600) من رجاله خوفاً من أن يهلك على يد شاؤول  ." وأقام داوود عند أخيش بن معوك ملك جيت".كما تقول الرواية التوراتية.

شيء ما بين الملهاة والمأساة!!لقد كان في قيام الوطن الإسرائيلي في القرن العشرين تحطيما للوطن الفلسطيني المقام منذ أكثر من  عشرين قرناً.. وعندما تخلصوا من المنفى أوجدوا مناف للفلسطيني .. وعندما يحطم الفلسطيني منفاه فإنه سيحطم بذلك وطنهم .. شيء ما  مثل أنبوب مليء بالهواء  إذا تم ملؤه بالماء فإنه سيطرد الهواء, وإذا أعيد إدخال الهواء إليه فإنه سيطرد الماء.!!.

 اللعنة ..

 وآية لعنة !!؟

لعنة وطن ؟.. أم وطن لعنة ..؟ وطن خرافة ؟ أم خرافة وطن ؟.. خرافة ? خريف ? خرّاف ? وأحدهم خرّ  و راف .. وطن ? وثن ? وذاك الذي وطئ ثم طنّ ،ربما وتداً فصار وطّان الأوطان والاستيطان ?..

في اللغة العبرية فإن ها آرتس تعني أرض وتعطي دلالة وطن, وفي اللاتينية فإن كلمة وطن تعني " باتريا "  لا أدري ما هي علاقتها بـ " بتراء ", وباتريا هي مصدر فاثر في الإنجليزية ومنها جاءت البطريركية / الأبوية..

عند ما زرت موطئ رأس أبي عند سفوح الكرمل وهاتفته من هناك قريباً من أنقاض بيته وبيت أجداده, فإن أول شيء قاله بعد أن كف عن البكاء : اذهب إلى قبر أبوي / جدك .. أغسله وأقراً له سورة الفاتحة .

عائلة الحاجة أم حسين هي العائلة الوحيدة المتبقية في طيرة حيفا,طلبت مني أن اسأل والدي أين كان بيته بالتحديد.. واخذ يصف لي بأدق التفاصيل وأنا أقوم بنقل ذلك تباعا أردد ما يقوله كلمة كلمة وأم حسين تهز برأسها. وتقول لابنها :يا الله يمّا" وانطلقنا بالسيارة توجهنا أم حسين, بينما أنا وابنيها نتبادل النظرات وفي العيون شيء من الريبة حول العثور على المكان.

 تقول أم حسين :" إن الإسرائيليين هدّموا الطيرة بعد زيارة السادات إلى القدس ولم يبق سوى ثلاثة بيوت.

أمّا ما هو قائم الآن من أبنية  مجمعات سكنية فلقد تمّ إنشاؤه بعد مؤتمر مدريد 1991".

ما أثار استغرابي هو تطابق الوصف القادم  عبر الهاتف من مخيم اليرموك مع الذاكرة الموجودة في الطيرة.

بعد تجوال لا بأس به أمرت أم حسين ابنها بالتوقف, وقالت هنا كان بيت أهلك بالقرب من مقام الشيخ خليل الذي يقف بأحجاره القديمة قريبا من تلة يسكنها الصبّار والعوسج.

 

في 1948 كان في الطيرة أكثر من ثلاث مقابر . في أيار 2000 كانت المقبرة الرئيسة قد حولها الإسرائيليون إلى حديقة عامة وعند المقبرة الصغيرة قرب مقام الشيخ خليل فلقد احتجنا إلى اختراق الصبار والعوسج كي نقرأ أسماء الموتى .

" أبو أبوي " لم يخرج من فلسطين  بقي مع ابنة أخيه  كانت البلماخ قد اعتقلت ابنه / عمي  واعتقلت  أخيه وابن أخيه.. عندها قال للذين أخرجوا في العام 1948

" قبر أبوي وأبو أبوي وجدّ جدّي هنا, وسأموت هنا .. لن أخرج "

كان يعقوب أبو الإسرائيليين قد أوصى بني إسرائيل قائلاً : " أموت الآن وانضم إلى آبائي  ادفنوني مع آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي " .

لكن جدي أحمد يعقوب مات في سبعينات القرن العشرين بعد أن أعطاه الإسرائيليون الجدد هوية مواطن إسرائيلي.

. هكذا ببساطة أصبح مواطناً إسرائيليا نعم بتلك البساطة التي حول فيها البريطاني  بلفور الوعد الإلهي إلى وعد سياسي .

لا أدري لماذا كنت أرى في الانتماء الحقيقي لفارس غلوب باشا إلى صفوف الثورة الفلسطينية الكثير من التكفير عن ذنوب بل عن خطايا البريطانيين بحق الفلسطينيين والعالم

أثناء إقامتنا المشتركة في تونس  اشتاط فارس غضباً عندما قدمته إلى أصدقاء آخرين بوصفه  إنكليزيا  وبعد أن أحمر وجهه الأبيض أخرج جواز سفره وبلهجة فلسطينية سليمة جداً قال لي أمام الأصدقاء : إقرأ هنا  وقرأت : مواليد القدس ..

مسح فارس  بيده على ذقـنه الحمراء وقال بهدوء "إنكليزي " : لقد تنازلت عن جواز سفري البريطاني وحصلت على جواز سفر ايرلندي  وما أن رحل الأصدقاء  وقد أدى فارس صلاة العشاء  آخذ يحدثني عن السياسة البريطانية في تعيين الايرلنديين والأقليات الأخرى في الجيش الإنكليزي  بل وتحميلهم مسؤوليات كبيرة في بلدان المستعمرات كالهند مثلاً, طبعاً كان يقصد الحديث عن والده الجنرال أبو حنيك الذي غيرّ الخطة العسكرية للجيوش العربية في 1948 من خطة هجومية إلى دفاعية ثم انسحابية , آنذاك  صاح أحد الجنرالات العرب إنها حرب عروش وليست حرب جيوش !

 انتهى حديثناً أنا والصديق فارس بأنني طلبت منه أن يقرأ قصائده التي كتبها في حصار بيروت 1982 الذي استبسل فيه كأي فلسطيني أصيل, عندها كتب:

" سنلقي قمصاننا في نور الفجر

لأن أجسادنا ليست إلا قمصاناً

ولن نموت " ..

...

نموت أو لن نموت !! تلك هي المسألة !! ذلك هو الحديث الشائع والفعل المضارع دائم الحركة !! فالموت والحياة تساويا !!

هكذا يردد الكثيرون من الشباب الفلسطيني.. وعندما سألت الكثيرين وكيف يستوي النقيضان ?! عرفت  أن العلاقة بين هذا التساوي هي علاقة رفض لهذا الزمن  ورفض للغد, لأن القبول بالغد هو قبول بالمجهول , بينما اليقين الوحيد هو يقين  الماضي  فلقد تم تحديده وهو التاريخ  لهذا يمكن العودة إليه عبر الموت  دون بذل الجهد الذي يتطلبه الذهاب إلى المستقبل !!

 

ربما كان الموت الشيء الأكثر صفاء وهدوء بالنسبة للكثيرين من الشباب الذين نفد صبرهم إزاء الحاضر المليء بالمهانة الشخصية والوطنية, ومع ذلك لا توجد حالات انتحار كفعل عصابي مرضي!! لأن الفارق عندهم كبير بين الشهادة والانتحار,و أتتساءل

: هل حقا كان دوستوفسكي قد مدح الحرب؟" بسبب الفضائل الخلقية التي تتطلبها: روح التضحية,الأخوّة, ولأنها تؤسس للعزّة والفن والثقافة!

لكن, الحرب التي تدور رحاها هنا.. فثمة من  حوّلها إلى غاية في ذاتها, إذ لم يعد تمجيدها أخلاقيا إنما غيبيا, ربما بسبب "الوحي" الذي تأتي به مثل ألوهية يتلقى الإنسان وحيها من ذاته الفردية!!!

VII

الحرب!!

اللعنة إنها الحرب!!

الطائرة الزنانة يسبقها زنينها .. هل قدوم الطائرة هو إشارة للهجوم؟!

تمنيت لو أنني أستطيل وأستطيل بما يكفي لأمدّ يدي إلى السماء ..و ألتقف هذه الطائرة الخبيثة.. لألقيها في البحر ..كي يغسل آثامها فتكون مأوى للأخطبوط أو للمرجان .. وأن أقول للبحر:

أيها البحر

أيها الأزرق العظيم

يا مـن ترد الأشيـاء دائماً كأيّ معطاء عظيم

إذا أعدت هذه الزنانة ذات يـوم إلى الشاطئ فلتكن بلا زنين وبلا عيون سحرية !!

في كثير من الليالي أحتاج إلى أكوام من القطن لأضعها في أذني كي أنام قليلاً .. فلا أحد يمكنـه النوم في غرفة تقاسمه إياها ذبابة زرقاء أو بعوضة غير مرئية !! 

هاتفي الخليوي يرن  كنت قد وضعت له موسيقى السيمباثي

"Sympathy  "

لهذا أدعه الآن يرن طويلاً ..كي تقوم هذه السوفت ميوزك بإعطاء المشهد موسيقى تصويرية ..

أفضل على من يتصل بي أن يستمر في اتصاله لتتواصل الموسيقى ..

أتذكرني عندما تعلمت هذه الموسيقى على آلة الترومبيت هناك في مخيم اليرموك قبل ما يقارب من ثلاثين سنة . وكيف كن طالبات الثانوية يلححن بإعادتها .

لكن الطائرة "الزنانة " تقترب وتنشر الزنين والطنين في الأجواء  فيتداخل زنينها مع السيمباتي تداخل الزيت بالماء ..

يستمر رنين الهاتف وتستمر السمباثي مختلطة مع الزنين المثير للقرف , ربما لو كان في يدي الآن " ترومبيت سحري " لرفعته باتجاه الطائرة " كحسام ضاحك " ونفثت كل ما بي ضد هذا الزنين القبيح .... لكني أتذكر أنه عليّ بالاسترخاء  ..وعليّ بالابتسامة فهي سر الاسترخاء, لأن الحرب بالمحصلة هي حرب أعصاب طالما كانت صراعاً بين فكرتين وبين حالتي وعي منها حالة السيادة وحالة العبودية .

كأن الطائرة الزنانة تقف فوق رأسي  بل كأن غزوة دبابير تدور حولي، ارفع الجهاز عالياً كأنني أكشّ به غزوة الدبابير وابتسم كي تظهر ابتسامتي إلى جانب " نور" الهاتف في التصوير الذي تقوم به الزنانة . هل تصور موسيقى السيمباثي أيضاً ?.. فأبدأ بغناء السيمباثي بصوت خفيف وأمشي باتجاه البحر. توقف الهاتف عن الرنين,كلانا أنا و الزنانة نمشي باتجاه البحر.. ينضم هدير البحر إلى الموسيقى التصويرية .. أرى أمواجه في العتمة متحركة منفعلة وربما متفجرة مثل بركان. لكن بحمم من رغوة ثلجية وليست كـ"قارب رامبو السكران"

أجلس قريباً جداً من الشاطئ بالشكل الذي يجعلني ألمس ما يوصله المد إليّ من ماء.

زنين الطائرة الخبيثة يبدأ بالابتعاد.ربما أزاحته السيمباثي عن مسامعي..!!

أخرج علبة السجائر من جيبي برفق وحنان, وكذلك افتحها, وبذلك أسحب سيجارة ،

 

أشعر أن السيجارة هي "حبيبتي " التي ستقاسمني هذه اللحظات  والتي عليّ أن أتبادل معها القبل فالمرأة والسيجارة كلاهما تنعشان القلب وتضرانه أيضاً .. وكلاهما نبدأ معهما بالدلع وننتهي بهما بالولع .. والسيجارة والمرأة كلاهما تحترقان وكلاهما تحرقان ..

أبدأ بالبحث عن " علبة الكبريت " في السترة المليئة بالجيوب " سترة الصحفيين التي تشبه أيضاً السترة الواقية للرصاص, ثمة سحّابات كثيرة, فتحت ثلاثة منها وأغلقتها حتى وصلت إلى علبة الكبريت .. ينقطع زنينها تماما, ربما اندحر لبرهة ليعود بجعير طائرات الأباتشي و(اف16)

في الأثناء يرن جهاز الهاتف كان مهيب البرغوثي وفوراً وجدتني أقول له:

ما هي أخبار حسين ?

تلعثم مهيب وكاد صوته يختنق.  عندها صرخت لا تقل لي ..

ارتفع هدير البحر وهاجت أمواجه وأجدني وقد ارتميت على ظهري والماء يبللني .

ـ ألو مهيب

= نعم أحمد

الوضع خطير,  ولقد أرسل له أحد أصدقائه دواءً من عمان, لكن اعتقله الجنود عند الجسر

ـ هل أستطيع الحديث مع حسين ?

= إنه نائم

ـ قبّله عني قبلة طويلة  قل له هناك فصل آخر سيكتبه بين اللوز

في بغداد (1998 ) عرفت حسين البرغوثي لأول مرة من خلال " حجر الورد" المنشور في مجلة عشتار

حسين :

أيها الصديق الصدوق

أنت تعلم أن من يتجاوز الأربعين من العمر.. يصعب عليه تكوين صداقات كالتي كونها في شبابه

حسين :

أيها الشفيع الأشقر

العالم يهلك  والصداقة هي أقصر الدروب للوصول إلى وطن .

حسين :

هل الخسارات ميراثنا الأزلي ?!?.

اللعنة

لقد تبللت علبة الكبريت.. أخذت السيجارة من فمي ثم عضضت عليها بنواجذي ووجدتني أقول :

أستأذن الجمر ؟

كفى ?....

أينبغي الجميل ?

أعرف أن حسين معجب بالقط الذي يسقط واقفاً في كل الأحوال.. هل ستقف ثانية يا حسين ? أم أن القط استنفد أرواحه السبعة ?

لا ..

لا..

القط من سلالة النمر أيضاً

آه .

يا حسين .....

واقفا على حرقة البلاد

والبلاد متلبّدة ببلادة الغزاة والحوذيين

ثمة من ينتعل الخرافة ويتقافز في الجرل ولا يعرف:" ماذا قالت الغجرية " لـ"المرايا السائلة "

ثمة هنود زرق أيضا

 

وأمام"حجر الورد" ثمة سؤال أزرق:

يا لهذه "الشمعة تبكي وتنسبك"!!!

حسين

الموت مثل جندب مجنون على كرسي هزّاز

لكنه

يقفز من أعلى إلى أسفل وذات اليمين وذات الشمال

ويطيب له الاسترخاء في فراش دافئ

وقد يفتح كتابا باردا عن أسطورة جحيم بلا صواب

حسين

هل ثمة وقت لديك لنبحث في مخلفات المماليك؟ الكلاب التي جرّت العربات على ثلج من زهور اللوز!!

وماذا عن حصان السباق؟ عن لغة العلف التي تسبقه مسافة إصبع! هل ينالها أخيراّّّ

ثمة نرد بعد نلقيه بين المعنى والمعنى

ثمة صباحات زرق تُنهض كوارتز البحر لاستقبال المدن الثملى والثكلى

ثمة وقت بعد لسيزيف

وثمة وقت لي لأرجوزة أخيرة

ربما أحتفل ببطاقة وجهك وهي تطالعني من خلف زجاج البحر

استأذن الجمر

كفى

أينبغي الجميل؟؟

VIII

طائرات الأباتشي تجعر من بعيد وزوارق الدبور كذلك

السيجارة في فمي.. العتمة لا تزال تتجول في المدينة, مضى عليّ وقت طويل دون أن أدخن  ولقد ازداد احتراقي الداخلي

الطائرة الزنّانة تجعر.. وزوارق "الدبّور" أيضا ...في الحال, أضيء شاشة جهازي الخليوي !! وأبدأ أقلب خصائصه الفنية إلى أن أصل إلى خاصة العزف الموسيقي (Edit Music)

وأضغط على

" Play "

فتعود موسيقى السيمباثي ..وهذه المرة كأنها تخرج من نور الجهاز.. لتصل إلى" نور" الجمر الذي بي وبين   بحر العتمة وبحر غزة ..

الموت .

إنه الموت في كل مكان ..

تنطلق موسيقى السيمباثي من جهاز الهاتف الخيلوي.. علّني أواجه بهما الزنين والطنين.. فأتذكرني ثانية أعزفها على البوق / الترومبيت .

في" بهاء الأيام النحيلة" كتبت:

" وأنا أعانق الساكسفون كامرأة حميمة

أنفث -أشعاري/جوعي/حزني/قلقي/منفاي-

لحناً

لحنًا تنتشي له أشدّ الحيوانات افتراسا

يجمع اللقالق حول رأسي

والنوارس على كتفي

يأمر الفقمات: أن اتركي البحور القديمة

يجعل أشجار الأرز تتبعني أينما مشيت

أيتها الأفراح السمراء

كم أنتظرك؟

كنت قد رحلت

لكن المطر ما عاد في حقائب أذار

وأنا نحيل كخيط من ماس"

الآن عند بحر غزّة.. في الأيام النحيلة أيضا

أقف على بلوى البلاد كالذي من بلاءٍ لاذ

أتلو" رسائل المنفى" إلى أفول الأصنام

أحاول أن أرى بحراً في البحر...

البحر في غزّة ليس جميلا يا حمزاتوف!!! قد بشّعته الحرب وجعلته أجرباً..

من رأى بحرا لا تؤمّه الناس ليلا نهارا؟؟

من رأى بحرا تعتقله الزوارق الحربية؟

الصيادون سكنة البحر الدائمون لا يفعلون شيئا سوى تقليب ساعات الرمل على الشاطئ!!!

عرفت البحر في غابات الفرلنق في مدينة جبلة السورية القريبة من لواء إسكندرون, وكذلك شواطئ اللاذقية وبانياس وطرطوس على الساحل السوري,,

وجونيه وبيروت وصيدا وصور وطرابلس وتونس والإمارات وشط العرب في البصرة , وكذلك المحيط الهادئ والبحر الكاريبي وقناة بنما...

وفي كلّ بحر عرفته كانت زوارق خفر السواحل تؤمن الراحة والطمأنينة إلى رواد البحر.

لكن زوارق"الدبور" الإسرائيلية تؤمن الجحيم للفلسطيني!! تعتقل حقه بالمتعة في البحر!!والبحر هو الحياة..

لهذا بالضبط يتحدث موفاز عن سعيه لهزيمة الوعي الفلسطيني لأن" الهزيمة العسكرية ليست كافية" بالنسبة له. لهذا أوجدوا الإحباط, واليأس, الشعور بالعجز,الإرباك, التخبط,فقدان الثقة بالنفس, فقدان الطمأنينة..

اللعنة!!

أين أنت أيتها الطمأنينة؟

ربما خضير ميري من يقول : " العدو  إنه يغرس فيك الحياة نزقاً  ثم يساعدك على أن تصدق بأنها حياتك .. هو  من ينهال عليك بالأخلاق والدسائس  ثم يفتح لك جحراً في الأرض لتدخل وحدك عارياً .. وهو الذي يحضنك طويلاً لتكون سلّماً لا طائرا... وهو من يطعمك لتنام وإذا نمت نقص عقلك" !

في 1982  وربما اعتقدنا نحن الطلبة الدارسين في الجامعات الكوبية إن الحرب التي أعلنها بيغن وشارون على لبنان متوقف حسمها علينا !! أوقفنا دراستنا الجامعية وأتينا للدفاع عن لبنان بكل الطمأنينة والثقة بالنفس .

وعندما قصفتنا الطائرات الإسرائيلية في الجبل ولم يزل غبار السفر عالقاً على ملابسنا الجامعية التي أتينا بها تطايرنا بكل ثقة بالنفس .

انتقلنا إلى شمال لبنان..حيث كان هناك تحسباً لغزو إسرائيلي من الشمال..كان موقعاً قريباً من ميناء طرابلس .. على الساحل تماماً في منطقة تسمى " الفرير" قريبا من جزيرة الأرانب, منطقة كثيفة الشجيرات..

كانت مهمتنا تتلخص بحراسة الشاطئ تخوفاً من أي إنزال بحري وبالتحديد هجوم ضفادع بشرية إسرائيلية.. فنخرج عند حلول المغيب إلى الشاطئ مباشرة.. ونتمترس خلف تلال صغيرة من الرمل أقامتها الجرافات

...كان يحظر علينا التدخين ... وكنّ ندخن و ليس من قبيل رفض الأوامر ..إنما بسبب المغالاة بالثقة في النفس..أذكر عندما شاهدت شابا وشابة يتبادلان القبل   على شرفة الطابق العاشر من عمارة مجاورة.. ففرحت أقصى درجات الفرح لأنني أشارك في حراسة المدينة وكي يتبادل العشاق القبل...

في 15/1/2002 احتلوا بيتونيا وكان فجراً في فلسطين..كنت وحدي في الشقة...أصوات طائرات الهليوكوبتر في كل مكان من الشقة ... حتى خلت أن إحداهن تقف على الشرفة ..  كانت أصوات المدافع الرشاشة تقتل الصمت والعتمة..وأصوات انفجارات قريبة تهز العمارة كتلك الهزة الأرضية التي عشتها في سانتياجو دي كوبا ..

كانت عتمة ليست للتأمل .. خرجت إلى البلكونة  التي اعتدت الجلوس عليها ليلاً حتى الصباح لأرى أضواء مدينة اللد من خلف الوادي الأخاذ.. نعم فلسطين هناك ..

 لم أر في السماء طائرات مع أن هديرها يصم الآذان وصوت سرفات جنازير الدبابات في كل مكان..

وعندما أضاء حسني الطيراوي صديقي العتيق شمعة في شقته المقابلة لشقتي جاء من السماء نور قوي.. عندها شاهدت الطائرة مثل رخ فقد الصواب..

وعندما سمعت صوت انطلاق الصاروخ تراجعت إلى خلف باب البلكونة..كان الصاروخ يمضي.. لكن باتجاه رام الله .

في بغداد لم أر في السماء أية طائرات أمريكية كانت أم عراقية طيلة (45) يوم الحرب ...كنت أسمع أصوات بـ "52"... وأعيش ما يتلو ذلك من زلازل تأتي من السماء !! ورأيت صواريخ توماهوك..وكروز .. وسيماهوك   تعبر الظلام . وتتصدى لها الدفاعات الأرضية العراقية فكانت السماء تشتعل..

ولطالما سقط أكثر من صاروخ قريبا جدا منا .. ومع ذلك كانت هناك الطمأنينة  . حتى  عندما اشتعلت الأحداث الداخلية في العراق كنت مطمئناً .

وعندما أصبت في منطقة البالوع البيرة بأكثر من رصاصة مطاطية كنت هناك بكل الثقة والطمأنينة ..

وعندما وصلت مع المتظاهرين إلى سيارة الجيب الإسرائيلية التي يطلق منها الجنود الرصاص.. كنت أزهو بالثقة والطمأنينة ..كذلك كانوا القادة: الشهيد أبو علي مصطفى وأبو ليلي وصالح رأفت ومروان ود.مصطفى البرغوثي وآخرين ..عندها أوصلنا للجنود اليافطة التي تقول :" أخرجوا من أرضنا " !! فأشبعونا بالغاز وبالرصاص المطاطي بل والحي من فوق الرؤوس .

وعندما أصابتني رصاصتهم الحية(من حيّة/أفعى) الآتية من (بساغوت الكولونيا) .. واخترقت بطني وكنت أترجم قصائد عن اللغة الإسبانية للشاعر التشيلي فلسطيني الأصل محفوظ مصيص وراء مكتبي في الطابق الثاني من بيت الشعر الفلسطيني .نزلت الأدراج إلى الطابق الأول بكل طمأنينة وبها ذهبت إلى المشفى.. وبها كتبت " البقاء على قيد الوطن "

وعندما ذهبت إلى مكتب الشؤون المدنية في السلطة الوطنية للحصول على تصريح لحضور دفن جنيني في غزة .. كانت الدبابات تقف عند أبواب مقر الرئيس الفلسطيني المسمى "المقاطعة".. وكان المكتب قد انتقل إلى عمارة تقع في شارع الإرسال أي وراء الدبابات .

كان عليّ أن أمر بين الدبابات, في الأثناء وصلت مظاهرة الاحتجاج على الاحتلال من جهة "المقاطعة", وبدأت الدبابات بإطلاق النار, وأصبحت أنتظر اللحظة التي أرتمي فيها أرضاً ,أنتظر شيئاً دافئاً سيندلق من رأسي,

وعندما قلت لنفسي:" إنه في الحال التي تخترق فيه رصاصة رأسي لن أتمكن من رؤيتي كيف أسقط !!".. عندها تابعت المسير بوصفي ميتاً, لكن واقفاً وماشياً بكل ثقة !!

وعندما ذهبت إلى الخليل كي أتمكن من المجيء إلى غزة في الباص الذي يخرج من ترقوميا عبر الممر الآمن كي أحضر إلى غزة ولقد منعوني .

أوقفنا الجنود عند حاجز منطقة"أبو جورج".. كان أحدهم متمرسا وراء أكياس الرمل ويصوب البندقية على الركاب بما يعطي الشعور أنه يوجهها على كل واحد منا..عندها تذكرت أحدهم في بيروت عندما شهر عليّ مسدسه, كان تحت تأثير المخدر الذي يعطيه العدوانية .

ولما استنفدت معه كل أساليب الثعلبة وهو لم يرعوي !! قلت له من يشهر مسدساً عليه أن يطلق .. فأطلق فوق رأسي تماماً.. ولما شعرت أن رأسي لم تنفلق قلت له: من يطلق يصيب.. فارتبك.. وبعد لحظة انهار باكياً حبيبته التي أكلتها طاحونة الحرب.. فعرفت أن تجوالي ليلاً مع الفتاة التي كانت رفقتي قد استفزه !!.

في 1967 كنَّا أطفالاً نتقافز على أسوار المدارس والملاجئ في مخيم اليرموك ، بينما كانت الطائرات تحدث اختراقاً لجدار الصوت ورجال الحيّ يتحلقون حول خطابات أحمد سعيد . كنا نبكي لبكاء أمهاتنا وجداتنا !!

لقد بدأت حياتنا بالحروب والعويل!!!

في 1971 وكانت حرب الاستنزاف وشاعت أسطورة الطيارين السوريين فايز منصور ، بسام حمشو ، والفلسطيني محمود عزام في تصديهم للطيران الإسرائيلي ، وكانت قد شاعت أيضاً أغاني عالرباعية ، كنا نمتطي الجدران كأن كلّ منا هو زير سالم !!

في 1973 وقد صرت في الأول الثانوي ، كنّا قد ذهبنا إلى سوق الحميدية لتناول بوظة بكداش بعد أن حضرنا فيلماً سياسياً في صالة الكندي احتجنا لذلك أن نبيع بعضا من كتبنا المدرسية في السوق ، في السوق لفت انتباهنا جميعاً كثرة المسلحين المدنيين ، وعند الثانية ظهراً من 6 تشرين ..عندما انطلقت صافرات الإنذار ، وكذلك أصوات الطائرات الحربية في السماء ، واستنفر المسلحون فوراً !! ! عندها عدنا إلى المخيم مشيا على الأقدام.. وكدنا "نموت" من شدة القهقهة في الطريق التي لازمتنا مع كل قصف ومع كل صاروخ ومع كل سرب طائرات عسكرية..عدنا إلى مخيم اليرموك بكل الطمأنينة.

في اليوم التالي تلقينا ذكورا وإناثا في ثانوية اليرموك تدريبات أولية في الإسعاف المدني ، وكان علينا أن نرابط عند مداخل الملاجئ في المخيم لا أن ندخلها ، وأن نمنع السكان من إشعال أي ضوء في الليل ، بل وحثهم على طلاء زجاج بيوتهم "بالنيلة الزرقاء" . وفي النهار كنّا نقف ونتابع سير صواريخ السام وهي تطارد الطائرات الإسرائيلية ،وتصطادها.. نقفز.. ونصرخ كالذي يشاهد مباراة كرة قدم ..

 مرةً قفز طيار بمظلته.. فهرع كل سكان مخيم اليرموك تقريباً ..وهم يضحكون ويمزحون.. كان كل واحد وواحدة يعتقد أن المظلة ستهبط في المكان الذي يقف فيه.. وعندما ركضنا مسافة أكثر من 5 كلم..وجدنا سكان المناطق المجاورة قد خرجوا لإلتقافه ، فالتقفته الشرطة العسكرية !!

حتى عندما انقلبت الحرب لصالح إسرائيل.. وقال دايان أنه سيتناول طعام الغداء في دمشق ، كانت الطمأنينة في النفوس!!

وفي 1978 عندما اجتزنا الحدود السورية اللبنانية على أقدامنا باتجاه جنوب لبنان اجتياح آذار 1978 ، فعلنا ذلك بكل الطمأنينة والثقة في النفس

في بيروت وكان لكل يوم سيرة ووقائع من الحرب مع الخارج والداخل ، وكانت موضة السيارات المفخخة والاغتيالات وتصفية الحسابات ، كانت الطمأنينة سيدة الموقف .

في 1988 وقد وصلت بعض الصواريخ الإيرانية إلى بغداد، كنت وغيلان وجان دمو في المطعم الذي عصف الصاروخ قريبا منه، وعندما قصف ملجأ العامرية الذي يبعد 100 متر عن مأواي وعندما اهتزت الأرض وربما السماء لم يكن هناك أي شعور بالارتباك أو بالعجز.

..كانت الطمأنينة سيدة الموقف .

اللعنة

ماذا يجري الآن؟

IX

أنا لا أعرف الاحتلال المباشر من قبل ،عرفته بالفكرة وبتأثيراته ونتائجه البعيدة !!

لم أكن واهماً يوماً من الأيام من أننا نستطيع أن نهزم الجيش الإسرائيلي عسكرياً.. بمعنى المواجهة المباشرة التي تشبه النزال بين ملاكم وزن ثقيل ومحترف مع ملاكم وزن الريشة وغير محترف.

كنت أقول دائماً :" يجب عدم الذهاب إلى نقاط قوة العدو.. إنما إلى نقاط ضعفه من أجل الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية !!

ولطالما رددت حكمة: "ملعون من يخوض حرباً يمكن تفاديها وملعون من لا يخوض حرباً لا يمكن تفاديها !!

أعرف جيداً أنهم فرضوا الحرب منذ مؤتمر "بال" في سويسرا ..وأجبروا شعوب المنطقة على خوض حروب كان بالإمكان تفاديها طيلة قرن مضى.

في حربهم الأخيرة عندما احتلوا رام الله ومخيم بلاطة و مخيم الأمعري وتحدثوا عن " نمورٍ من ورق"!! تذكرت قلعة شقيف !! أسطورة ما سادا حقيقية!!

احتلني إحساس بالتوتر وبالارتباك، تساءلت :" أما كان بالإمكان أكثر مما كان ؟؟ وهل تمّ الدفاع كما يليق بالدفاع عن مدينة هي بمثابة عاصمة ?!!وهل يتمّ الإعداد للدفاع والمقاومة في الحد الأدنى ?".

السيجارة لا تزال تراوح بين فمي وأصابع يدي..

وأكرر:

أستأذن الجمر

كفى

أينبغي الجميل؟؟؟

أغادر الشاطئ...

وأنا أقترب من العمارات السكنية أجد مجموعة من الشباب يحملون البنادق, وبالقرب منهم ثمة سيارتان تسدان الشارع , لكن كلا منهما تقف في الاتجاه المعاكس للثانية .

ولما اقترب منهما أجد السائقين يتحدثان بصوت عال  يقول أحدهما للأخر

: " ببالك تعود هديك الأيام و نرجع نشتغل بتل أبيب !!

فيرد عليه السائق الثاني :

" منين يا حسرة !! باينتها رح نضل عبيد للسلطة و زلامها !!"..

إنها المفاضلة بين عبوديّتين ..ذكرتني بأحد ملوك طوائف الأندلس وكان يستشير مجلسه الوزاري عن كيفية التصدي للجيش الإسباني, اقترح أحدهم الاستنجاد بالمرابطين من المغرب, فردّ آخر

: لكن المرابطين سوف يستعبدوننا بعد أن يهزموا جيش الفرنجة,

فقال الملك جملته الشهيرة:

" رعي الجمال ولا رعي الخنازير "

في العراق القديم ثمة حوار مذهل بين السيد وعبده  , إذ يقول السيد لعبده::

 :" يا خادمي هل توافقني الرأي=

: نعم ،  سيدي، نعم-

يا خادمي سأعشق امرأة=

-:اعشق يا سيدي اعشق فالرجل الذي يعشق امرأة ينسى الفاقة والبؤس!!

:لا، أيها العبد! لن اعشق امرأة=

-:لا تعشق يا سيدي ، لا تعشق ! المرأة باب مسحور ، مكيدة ،خطر خافق, المرأة سيف فولاذي حاد قادر على قطع عنق رجل شاب!!

=:يا عبدي هل توافقني الرأي

-:نعم يا سيدي نعم!

=:اجلب لي ماء لليدين  وصبّها فوقها ، سأذبح قربانا لآلهتي

-:اذبح يا سيدي ّ اذبح لأن الرجل الذي يضحي لألهته يريح قلبه وينال خيرا مضاعفا

= :لا يا عبدي ، لن أذبح قربانا لآلهتي

- :لا تذبح يا سيدي لا تذبح!!!  دع الهتك تتبعك كالكلاب

= :يا خادمي هل توافقني الرأي

- :نعم يا سيدي نعم

 :لقد قررت أن أوزع الصدقات=

- :وزع يا سيدي وزّع فالذي يوزع الصدقات كأنه يضع الخيرات في يد مردوك

:لا أيها العبد لن أوزع الصدقات=

-:لا توزع يا سيدي لا توزع!! لو أنك صعدت إلى التلال البعيدة ونظرت إلى  القبور الغابرة الزمان هل  بمقدورك أن تميز بين من كان خيّرا ومن كان شريراّّّّّ !!!"..

 

لا أدري إن كان ذلك بمثابة  التقية الأولى في التاريخ؟؟ تقية المظلوم خشية التنكيل!!!! و أتذكر البطش والحديد والنار.. وقمع الإنسان للإنسان.....

تفترق السيارتان, فاسمع أحدهما يقول, بل يصرخ,:"روح حط راسك ونام أحسن لك.. حط راسك بين الرووس وقول :يا قطاع الروس"..

نعم إنها الحالة الرابعة للوعي التي يتحدث عنها نيتشة.. الاصطفاف بين ومع المجموعة,لكن كيف وفي أي مكان...

يناديني أحد الشباب المسلحين

:" مرحبا أستاذ أحمد"

لم أتمكن من تمييز صوته..  فترددت بالإجابة . وتابعت متجاهلا ذلك ..فجاءني  الصوت ثانية:

"إيش يا شاعرنا مش عارفنا ولا إيش, سلامة نظرك"!!

الحقيقة ترددت في الإجابة ...

 بدأ رفاقه يبررون تجاهلي بأنني ربما لم أسمع ولا أستطيع التمييز ليلا.. لكنه أصر في مناداتي باسمي الكامل وبصوت قوي, عندها توقفت وألقيت السلام.

المشكلة أنني لم أكن على استعداد للحديث مع أحد.. أريد الذهاب إلى الشقة وتحضير النارجيلة وأجلس على النافذة في انتظار البرابرة. وليكن ما يكون.

اتجه الشباب المسلحون نحوي. كانوا يتفاوتون بالأعمار..ما بين 19 إلى 30 سنة.. أما الذي ناداني. فهو مهتم بالشعر, ومتابع جيد للشعر وللشعراء, وبدأ يحدثني عن   الكثير مما نشرت وقلت في التلفزيون.. ويصر على أن يسمعني شيئا من أشعاره التي يحفظها غيبا

وبدأ يقرأ شيئا كأنه لمظفر النواب من حيث الشتائم . حتى في طريقة الإلقاء.

لقد سرحت مع أشعار مظفر  باللهجة العراقية والتي يغنيها ملايين العراقيين

 "حن وآنا أحن" والتي يقول فيها:

 جفنك جنح فراشة غض      وحجر جفني ما غمض

يالتسري بي وا لنبض       روحي على روحك تنصحن"

يرن جهاز الهاتف مع السوفت ميوزيك.كانت زوجتي تسأل: وينك؟

فأجيبها: عند "عبد الودود.."

فترد:

"آه يا رابض عل الحدود ".. كيفك و كيف البحر..

= " البحر دبلان مابيضحكش "

_: شو رأيك أبعتلك عمر يحكي حكاية للبحر... عمر  عم بيسأل عنك, بدو يشوفك قبل ما ينام

فأقول : عمر ولاّّّّّّّّ السجائر؟ فتضحك .. وأقول طيب أنا في الطريق

 

" الشاعر" المقاتل يتحدث عن أزمة نشر الكتب.. وأنه أرسل عدة قصائد إلى جميع الصحف الفلسطينية ولم ينشروا له.. فينتقل الحديث بين المجموعة عن السلبيات والمساوئ في البلد.. وأن الانتفاضة ستستمر ويجب أن تحاسب وتعاقب ووووو

وأسال أين قصفت الطائرات قبل قليل

+: بيت لاهية وبيت حانون وجنب جباليا..

*: تمهيد للاجتياح.. في دبابات عند حاجز ايرز وعند نيتساريم ولازم نقاومهم

أقول طبعا

فيقول كيف يقاوم الشعراء؟

كيف أجيبه؟

فيرد أحدهم عليه: "أن يبقوا مخلصين للشعب. للحقوق وان لا يتنازلوا عنها أبدا. وأن لا ينهزموا في أعماقهم"

استأذن منهم متمنيا أن تتواصل الحياة وأن نلتقي ثانية,, فيجيبني أحدهم "الجنة أفضل مكان نلتقي فيه" لم أعلق...

أواصل السير ,اشعر أن رأسي ينفجر

X

اللعنة

السجائر

الحرب

المقاومة

الموت

الجنّة

النار

العتمة

الظلام

الامام

الحسام

الكلام

يرن جهاز الهاتف

ادعه

لا أريد التحدث.. لا أريد الاستماع

تبدأ القنابل المضيئة  في غزو سماء المنطقة

الهاتف يرن

تصفر الأجواء ..

السيجارة في فمي

الضوء الأصفر يحول الليل إلى ما يشبه خسوف القمر

ساعة الصفر تقترب؟؟

الهاتف يرن

أرد

إنه  الطفل عمر يقول:

"معنوية عالية

بدنا نحارب

بدنا نصالح

بدنا نطيّز...

تعال

بدي الكشاف تبعك( يقصد مصباح البطارية الصغير)

أنا بخاف من العتمة

تعال"

وعمر هذا طفل لم يكمل الثالثة من عمره بعد.. له وجه ملك كنعاني.. يجعلني أجهد كثيراً لأرتقي بمخيلتي إلى مستوى تخيلاته وأسئلته العذراء.. كثيراً ما أطلب منه أن يحكي لي حكاية ..وعندما يبدأ بترداد فيلم كارتوني.. آخذُ من الحكاية بطلها وأطرح عليه أسئلة بما يجعله يبدأ برواية جديدة ..والأجمل فيه أنه يفعل ذلك بمخيلة ساحرة..

في كل زيارة لي لأهل زوجتي ..وما أن أصافح الأهل وأجلس حتى يبدأ عمر فورا بحكاية : 

-- عمر: العصفور عسّجلة ( على الشجرة ).. بيطلّع علبحل والسمش (على البحر _والشمس ). بيستنى السمش تؤل تسيس !! ينتظر الشمس أن تقول تشيش .

ـ شو يعني تسيس يا عمر؟

ـ هي السمش حامية !! متل في المئلاية ( الشمس حامية كما هي الأشياء في المقلاة ).. بس تنزل المية البالدة بتؤول تسيس !! عندما تنزل في المياه الباردة تقول تشيش "

- وبعدين؟

عمر : بيجي حوت كبيل كبيل !! بيفتح تمه منشان العصفور يتخبا في بطنه !!  وبروح عند السمس ! السمس بتلوح عند عمو في أمريكا !! بيسير عنا ليل وأمريكا نهار "

يذكرني عمر هذا  بـ"آثر بن حسين البرغوثي" الذي جنّن حسين!! سألت حسين ذات مرة عن المشاعر التي  يثيرها الابن  فقال :" لم أكن أعرفها !! ولقد اكتشفها لي آثر هذا" !!

في آخر زيارة قمت فيها لحسين في منزله في قرية     "كوبر".. وكنت رفقة حسن البطل وخالد درويش.. أطلعنا حسين على ما زرعه آثر من خضروات وبقوليات ..وأكثر ما كانت تقلق آثر حيوانات النيص التي يخشى أن تأكل له زرعاته !!

فيقول له حسين :" إذا النيص  أكل الزرعات شو بتساوي يا آثر"؟ ..

فيقول آثر:" أزرعه-( أي النيص )- في الأرض.. وعندما ينبت بيطلعوا الزرعات مرة ثانية !!

عندما اتصلت مع حسين قبل دخوله المشفى بيوم سألته : ما هي أخبار آثر ?

قال:" جنّني !! بدو يعرف أبو ظبي وين ساكن."" وأخذ حسين يقهقه بفرح.. تخيلت دموعه , تلك الدمـوع التي يذرفها كلما قهقه من أعماقه !!

بالأمس كنت أشاهد أخبار التلفزيون مع العائلة وكان يجلس عمر وشقيقه عبد الله  (عمره 5 سنوات ) ..وكانت النشرة الأخبارية كنشرة الأمس والغد: الموت !! الدماء!! القصف!! الاغتيال!! تدمير البيوت..!! وموفاز وشارون وتصاريح سياسية و.....

يقول عبد اله: "يهود كلبين ? أما الثاني عمر فيقول : هذا فاز ?.. فينزعج عبد الله ويقول :لا ترد عليه هدول ما بفوزوا علينا هدول كلبين.. فأسأله : ليش كلبين ? يرد عمر : هدول كلبين لأني بخاف منهم زي ما بخاف من الكلب.. ويبدأ  عمر بالعواء على التلفزيون ..بينما  يقول لي عبد الله :

" عمر ما بيعرف لأنه ما بروح على الروضة.. أنا بعرف بروح عالروضة ..عمر لأ ...

ويسألني :

" مش عزرائيل هو اللي يقبض أرواحنا ? "

قلت له : ليش

قال : هل الجندي الإسرائيلي هو عزرائيل ?

يقول عمر: يعني اليعازر ?

أصمت طويلاً طويلا

ًنهرني الطفل وقال : ليش ساكت !! رد عليّ !!مش إنت كبير وبتعرف كل شيء "

عندها قلت له :

طيب شو رأيك إنت ..

قال : " مش الملائكة بّّّّّّّّّّّّساعدوا ربنا سبحانه وتعالى "   قلت : طيب ! قال : " يمكن الملائكة بتخانقوا  مين يساعد ربنا أكثر .. ومين بيشتغل أحسن من شان ما يزعلوا ربنا .."

قلت : طيب ?!

قال : "جبريل ما عنده شغل لأنه النبي محمد مات ... لكن إيش اسمه اللي بينفخ  في قرن الخروف الكبير يوم القيامة ".

قلت : اسرافيل ?

قال عمر : إسرائيل !!.

قال :" أيوه اسرافيل بترجّى ربنا إنه يخليه ينفخ.. فعزرائيل  بيغار وبيقول : لأ .. أنا بدي اشتغل لإنه إذا نفخ  اسرابيل.. ما بضل في عندي شغل "

قلت : وبعدين ?

قال لي : " يمكن عزرائيل بيوقف مع اليهود ..واسرافيل معنا " عندها  تدخل شقيقه الأصغر وأراد أن يتحدث  فقال له الأخ الأكبر : " بس أنا بحكي إنت بتسكت " ...ودار شجار بينهما

في "البقاء على قيد الوطن" شظيّت مفردة عزرائيل فأصبحت عزرا + إيل .. وإذا كانت إيل تعني الرب فإن عزرا عنت لي : آزر = عاضد = ساعد = ناصر ... وفي مفردة اسرافيل وجدت فيها إسراف +إيل !! فهل تعني أنها لحظة الإسراف الإلهي في العقاب عندما ينفخ اسرافيل البوق

لقد أسرف الموت هنا في قتل الطفولة رمز كل شئ  عذري وخلاّق .

 

في الطريق إلى العمارة التي يسكن بها أهل زوجتي..  عدد من المسلحين.. نتبادل التحية... أحدهم يطلب مني سيجارة...ولما أردت إعطاءه لاحظت سيجارة في يد أحد رفاقه.. فعرفت أنه يريد الحديث معي ليتأكد من شخصيتي.. قال: الحق على العتمة !!  قلت: وعلى المستعربين والملثمين.. فضحك وقال الحذر واجب  .. قلت طبعا!! وقلت بسري :اللعنة!! أين رحلت الطمأنينة؟

قال أحد المسلحين لطالب السيجارة: ما بتعرف الشاعر.. ما شفته على التلفزيون؟ فأجابه: "أنا لا أفتح على تلفزيون فلسطين... وما بحب الشعر؟؟ قلت له شكرا ومضيت

صعدت الطوابق

قبلت عمر.. أعطيته" قنديلي"

لاحظت زوجتي أن ملابسي مليئة بالرمل والطين .. طلبت منها أن تبقى عند أهلها.. رفضت وعدنا إلى شقتنا..

أضاءت هي الشموع..... وعمرت أنا النارجيلة.. وضعت الفحمات على الغاز.. وذهبت لأخذ حمام ماء فاتر.. تذكرت إصابتي بالرئة وكيف قال لي الأطباء الكوبيين :"إن احتمالات بقائي على قيد الحياة مفتوحة إلى سبع سنوات فقط!!! وأمروني أن أقلع عن التدخين فورا.."".. وبعد عام من تلك النصيحة عادت رئتي وبنشرت ..وأعادوا عليّ النصيحة ..كان ذلك في 1983،

في بغداد 1993، أصبت بمرض السل وأمروني أن أقلع عن التدخين. تذكرت غابرييل غارسيا ماركيس في"مذكرات مدخن متقاعد" وكيف أصيب بذبحة صدرية عندما اقلع عن السيجارة..

لقد مضت عشرون سنة تقريبا عل تحذيرات الأطباء الكوبيين ،ولقد دخلت فيها ميتات محتمة..

 صنعت زوجتي قهوة.. وجلسنا عند الشرفة أدخن  النارجيلة..

أصوات القصف المدفعي ترتفع من مكان قريب.. ثمة ومضات انفجارات بعيدة.

وأقول لزوجتي:

= ثمة احتمالات أربع

ما هي?

= أن يبقوننا في البيوت تحت حظر التجول

=أن يقتادونني مع شباب الحي إلى معسكرات الاعتقال

=أن أتعرض لإصابة

=أن أموت

وببرودة أعصاب وبعد أن وضعت جانباً أوراق "الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي تقول::

هناك احتمال خامس

= ما هو؟

أن لا يأتوا

اللعنة !!

لقد أحدثت كتابات حسين البرغوثي نقلة جهنمية في تفكيرها لقد نسفت كلّ احتمالاتي.

لا أذكر إن كان نيتشة هو الذي قال "الرجل هو الذي خلق المرأة. من ضلع إلهه من مثله". عندما درست نيتشة لأول مرة في الجامعة الكوبية تمايزت غيظاً لموقفه  من الاشتراكية التي يعتبرها حالة حسد تسكن الضعفاء,  ولموقفه من النساء  اللواتي يراهن على الطريقة الشرقية على "أنها    - المرأة- شيء يمتلك  وقد كتب عليها أن تُستعمل في الخدمة المنزلية وبذلك تحقق ذاتها"  بل "على الرجل أن يحمل السوط كلّما ذهب إلى المرأة" !!

ربما فكرت آنذاك في دراسة العقد النفسية التي كانت عند نيتشة وأقارنه مع عالم النفس الألماني الذي يستبعد النساء من حظيرة العبقرية إلاّ في الحالات التي تتصف فيها بعضهن ببعض صفات الرجل مثل "الملكات الرجال بزي النساء" .

وأذكر أنني قرأت شيئاً من هذا القبيل لنيتشة: "الروح الحرة لا تعيش مع المرأة, وإنما تحلق وحدها"

 ربما لأن "الإنسان كي يعيش وحيداً عليه أن يكون حيواناً أو إلهاً أو أن يكون حيواناً وإلهاً معاً أي فيلسوفاً"

ربما لهذا السبب عندما طلّق"الفيلسوف" خضير ميري زوجته قال

لها: اقرئي نيتشة ثانية !

XI

الساعة السادسة .. بنفسج الصباح يتنفس الأزرق تمنيت لو كنت ظلاًلا. لولادة هذا الصباح .

أرى طيراً أخاذا لم أره من قبل .. من بعيد اعتقدت أنه " هدهد "..

في بغداد اشتريت هدهداً بسعر يمكن من شراء20 دجاجة محشية  أردت أن أتأمل الهدهد مدلل سليمان وسارق قصر بلقيس .كادت رائحته تقتلني فأطلقته في الحال

بعض العراقيين الذين طحنهم الجوع بدؤوا يستعينون بالسحر والشعوذة لمواجهة طاحونة الحياة كانوا يشترون الهدهد  وقيمته تعادل أربعة أضعاف راتب معلم مدرسي ويأخذون منه عظمة ما  ويزرعونها في عضد الساعد كي يأخذ القوة عدا عن استخدامات أخرى لدم الهدهد ?..

الطير  يقف على شجيرة  أراه يفر..ّ

 كان نصفه الأعلى أسود بينما صدره ونصفه الداخلي يمتزج باللون البني والقرمزي وتحت إبطيه ثمة برتقالي ناصع !!

لكنه وهو يطير أصدر صوتا  كان ما بين النعيب والنعيق!! ربما كان غراباً .. لا أعتقد أنه كان غراب "ادغار ألن بو "

لكني بدأت أضحك وأنا أتذكر حكاية نير ودا مع الشاعر الإسباني  ميغييل ارناندث عن ذلك الطير الذي استغرق ارناندث طويلاً في شرح صفاته ومواصفاته لنير ودا ولم يستطع نير ودا التعرف عليه لأن المناخ التشيلي لا يلائم هكذا طيور !

عندها صعد ميغيل إلى الشجرة التي كانا يقفان تحتها وبدأ يقلد أصوات ذلك الطير ويحرك رأسه ويديه كما يفعل ذلك الطائر ..

وأعود أقطب الحاجبين وأنا أتذكر بقية الحكاية عندما تحدث نيرودا_ ( سفير تشيلي في مدريد آنذاك ) _ مع مدير عام وزارة الخارجية الأسبانية مقترحاً تعيين ميغييل ارناندث في وظيفة لائقة باعتباره شاعراً مهماً لا يقل أهمية عن لوركا .

فما كان من مدير الخارجية إلا أن أصدر فوراً كتابا يمنح إرناندث منصب مدير في الوزارة مبقياً الكتاب مفتوحا كي يختار إرناندث المكان الذي يعجبه ليداوم فيه حتى ولو كان في أي سفارة خارج أسبانيا ..لم ينبس ميغيل عندما سلمه نيرودا الكتاب ..وكل ما فعله أنه غادر  ولم يعد إلا بمرور أسبوع ..

وعندما سأله نيرودا  عما إذا كان قد اتخذ قراراً بخصوص التعين كان إرناندث بغاية العصبية وهو يقول لنيرودا: ليت مدير عام الخارجية يؤمن لي قطيعاً من الأغنام لأرعاه في مدريد...( قتله الكتائبيون لاحقاً كما فعلو بلوركا).

تبسمت زوجتي:

لم يأت البرابرة!!

قلت لها:

البرابرة قادمون في أي وقت وإلا فلن يكونوا برابرة..

وهم بربارون ففي اللغة الإسبانية تستعمل" ون" للتضخيم فيصبحون برابرة جدا جداً

بعد ساعتين من النوم .. وبعد تردد كبير أمام رنات جهاز الهاتف .. صحوت :

كان من يقول لي :

ـ إحمد

( يا فتاح يا عليم كان اسمي أحمد)

- إحمد:

ـ حسين  مات .

XII

مرة قال لي حسين تأمل هذا لنيتشة :

إن التشاؤم من علامات الانحطاط والتفاؤل من علامات السطحية ! ليكن التفاؤل المأساوي هو الحل ! وهو حال الرجل القوي الذي يطلب الشدة وسعة الخبرة ! حتى ولو دفع ثمنها الويل والكرب ? ويبتهج إذ يجد أن الصراع هو قانون الحياة "

إن ما يجعلني أتغلب على كآبة خيبة الأمل هو أنني أرى العالم كموضوع للتأمل !! فالرعب .. والإرباك ..والعجز . والإحباط يجب معاملتهم فنياً على الأقل ولتكن دراما .

غزة 21/ايار2002

هوامش

 1- حسين البرغوثي الشاعر والمفكر الفلسطيني الذي ذهب في رحلة طويلة إلى قلب الجبل ربما ليحاور المكان أو الموت

2 الصحافية سهام أبو شباب

3 الشاعر اللبناني المعروف الذي انتحر عند رؤيته الجنود الإسرائيليين يتجولون في بيروت

4-مفكر وناقد عراقي شاب دخل مصح المجانين مدة عامين

7 مؤلفات لخضير ميري

8 عنوان رواية للروائي العراقي "وارد بدر سالم" ومعدان اسم لمجموعة من العراقيين الذين يسكنون في أهوار جنوبي العراق

9 خالد درويش شاعر فلسطيني مقيم في رام الله

10  وزير الحرب الإسرائيلي

11  عنوان نص شعري كتبته عن أيام الحصار في العراق  كسيرة ووقائع شعرية

12 شاعر فلسطيني مقيم في رام الله

12  فنان تشكيلي عراقي

13 سركون بولص :شاعر عراقي من أهم الأسماء في  قصيدة النثر يقيم في أمريكا ..أسس مع الشعراء: جان دمو و صلاح فائق و فاضل العزاوي و مؤيد الراوي وأنور الغساني جماعة كركوك الشعرية في ستينات القرن العشرين

14  الشاعر والكاتب الفلسطيني المعروف

15 كاتب وباحث فلسطيني توفي بعد عودته إلى الوطن 1996

"أي غرض للناس بنا " والشاعر غيلان : من شعراء قصيدة النثر المهمين ومن أكثرهم تمردا من اجل الحرية المطلقة للإنسان

البياض مقصود أسميه فصل البياض*

أضيفت في16/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدرالكاتب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

ومختاراه

بقلم الكاتب: علاء الدين حسو

 

قبض مختارنا على لحيته شدها بقوة – وكانت هذه عادته حين يداهمه هم عظيم- ولسانه يردد:

-لا بد من حل.

حين عرض عليه الشيخ عوض فكرته ،رمقه المختار نظرة أرجفتنا في أرضنا ، ولكن الشيخ عوض أصر على فكرته قائلا:

-لا حل ثالث..

انتفض مختارنا غاضبا ، وكاد يرفس المجمر النحاسي الذي يتوسط (أوضته) وامسك بأنف الشيخ عوض – وهذه عادته إن غضب من احد ما - وقال:

-شيخ عوض..لو غارت مياه لعالم فلن اطلب منهم قطرة واحدة.

كأن قبضة المختار أمسكت أنوفنا جميعا ،فأحسسنا بألم شديد لم نقدرأن نعبر عنه إلا بتنكيس رؤوسنا،مفكرين:"لولا إصراره، وعناده لتمكنا من حل المشكلة ، ولكنه يأبى ولو هلكنا جميعا.."

 

الحقيقة ، سنموت جميعا ولن نخرج عن طاعته فهو كبيرنا وسيدنا ..وها صديق عمره الشيخ عوض ،الوحيد القادر على طرح أرائه ،.وصاحب الفضل في مبايعة المخترة بعد جده الراحل.. ها هو يقف صامتا،خاضعا للفرمان..

سدت علينا جميع المنافذ .وامتد المجلس المنعقد بعد صلاة العشاء حتى منتصف الليل ،ولكننا لم نهتدي إلى حل .فأخر الآبار قد جف منذ أسبوع..ولم يبقى لدينا سوى بئر المسجد والذي بمعجزة إلهية يجود علينا بمائه العذب..فتهرول نساؤنا وأطفالنا لأخذ كمية كبيرة من الماء حتى مختارنا تغاضى عن تلك الفوضى في جر المياه ..ولإحساسنا بان الماء سينفد ..بدأنا نستجر أضعاف ما نستهلكه ..ولم تبقى في منازلنا أوعية يمكن أن تستوعب الماء الذي نجلبه.وربما فكر الباقون مثلي بحفر حفرة في ارض المنزل وتكليسها لتخزين الماء فيها...

 

انتشلنا المختار من بحر أفكارنا ..وسمعناه يقول:

-سنحفر بئرا أخر.

مرة أخرى تجرأ الشيخ عوض وقال:

-لكننا حفرنا أربعة أبار هذا الشهر، وبعمق عشرون ذراعا ،ولم نحصل على قطرة واحدة.

خيل إلينا بان المختار سيقتلع انف الشيخ عوض مثلما نقتلع نبتة الحليان الضارة بالقمح ، ولكنه خذلنا  إذ تطلع في وجه صديق عمره وابتسم - وهذه عادته حين يصر على أمر ما - :

-سنحفر ..سنحفر ..حتى تمل الأرض من حفرنا.

.قطع مختارنا حديثه ،  وانتصب واقفا. كأنه يستقبل ضيفا .. ثم جلس صامتا منكسا رأسه  و هذه- عادته حين يأذن بالانصراف-..انفض المجلس ..وعدنا إلى بيوتنا ..ومشكلة الماء تسبح في عقولنا فتطوف الأفكار ..كان لدنيا ستة آبار جميعها تطفح في الربيع ولم يخطر على بال أحد بأن الماء سيكون مشكلتنا الكبرى  إلا هذه السنة  فقد حدث أمر غريب ..بدأت الآبار تجف واحدة تلو الأخرى ..كأن الأرض ثقبت من طرفها الأخر، فتسرب الماء  ولم يبقى سوى بئر المسجد..وهذا ما جعلنا نفكر بتفسير الدرويش صحن. خادم جامع القرية .حين اسر بان نفر من الجن مروا بالقرية فشربوا من آبارها ورحلوا..ولنساؤنا دور رئيسي في نشر وتطوير المبررات ،حتى كان أخرها بان مختار القرية المعادية استأجر احد العرافين الكبار ممن يتعامل مع الجن فسخر أعوانه لجلب مياه الآبار وصبها في نبعهم ،الذي تحول إلى بحيرة. ستروها خوفا من العين. وابقوا على ثقب صغير يدر الماء بلا توقف .ولن تحل المشكلة إلا برضوخ المختار لتزويج ابنته الوحيدة إلى ابن المختار المعادي وهو ما يرفضه مختارنا لان ذلك يعني تسليم القرية لهم .

-إلى متى سنصمد؟! .

ذلك هو السؤال.. القرية المعادية تتمتع بالماء الوفير ..خصها الله ببركته ، فتفجر من أرضها نبعا اغرق جميع القرى ..ومنها قريتنا ، ولكن حين نشب الخلاف .. وحدث ما حدث.. قطعوا الخط الذي يمدنا بالماء ..صحيح بأننا منعناهم عن طاحونتنا ، ولكن ما النتيجة... هم استطاعوا بناء طاحونتين  ونحن فشلنا  في الحصول على قطرة واحدة..وقبل الدخول إلى بيتي لمحت شبحا يعرج إلى الاوضة  وتفأجت بالدرويش أمامي:

-انه كبير الشياطين الله يستر ويسلم البلد ..

وقبل إن اسأله تركني ولسانه يردد :

-نم يابني حتى لاتتأخر عن صلاة الفجر.

 

لما أذن الدرويش لصلاة الفجر ..سمعنا صوت خادم المختار ينادي..الاجتماع ..الاجتماع..فهرولنا إلى الأوضة وكلنا أمل بأنه اقتنع أخيرا بفكرة الشيخ عوض المسالمة.دخلنا عليه .فوجدناه كما فارقناه ..قابض على لحيته، منكسا رأسه ، وكأن الساعات التي مرت دقيقة واحدة ..مع فارق رهيب بالرائحة وكان الآلاف الأشخاص  باتوا هنا.. وربما كان الدرويش على حق .. إبليس كان هنا ..

أشار علينا بالجلوس ..أمر خادمه فادر علينا القهوة نطرد ما تبقى من نعاسنا ..  منتظرين الشيخ عوض الذي وصل متأخرا، فأتخذ مجلسه بالقرب من المختار وسأل:

-خير إن شاء الله.

وضع مختارنا راحته على كتف الشيخ – وهذه عادته حين يود احد ما  – وقال:

-لقد خطرت لي فكرة ...

.تتطلع بوجهنا فلمحنا بريقا غريبا في عينيه وكأنها ليست عينيه ..نهض على غير عادته ، ومشى وقد حنى ظهره.. كحمال عجوز يحمل كيس الطحين فوق ظهره ..نظر إلى القرية المعادية من الشباك الغربي للمضافة:

-سنحفر نفقا يوصلنا إلى نبعهم.

وكالسهم رأينا شبحا يقفز فوق المختار يضربه ..عرفناه من صوته الجاهر:

-اخرج يا ملعون اخرج

واجتمعنا لنفرق الدرويش عن المختار الذي ابتسم وقال:

-لا صلاة هذا اليوم ..استعدوا انه يوم طويل ..

 

مع بزوغ الضوء كنا خلف المختار نحمل الفؤوس والمعاول باتجاه نقطة البدء أسفل الوادي..ورفع مختارنا الفأس . ليعلن ساعة البدء.. وضرب الأرض.. فهجم شبابنا يحفرون بسرعة الخلد.. وجلس مختارنا يلف سيجارة قدمها إلى الشيخ عوض  ،الذي مد يده المرتجفة وتقبلها يبطئ ,وقبل أن يدسها في فمه.. صفعه الدرويش الذي هبط علينا فجأة وصرخ:

-انه ليس صديقك ..

وخطف معول من احد الشبان وهم بضرب المختار صارخا:

-اخرج يا ملعون اخرج..

مرة أخرى منعنا الدرويش ولكن المختار أمر بطرده من القرية وأهدر دمه..فخرج الدرويش باكيا ورافعا رأسه إلى السماء معاتبا:

-الهي  الم توعدني بضيافتك ... الم يحن الوقت بعد.. لا اقدر على تحمل الجيف ..لا اقدر..

وفجأة قطع صمته وانتشل حجرة وقذفها فشجت رأس المختار وهرب ..شغلنا وقوع المختار عن الدرويش وأسرعنا إلى ضماد رأسه الدامي وصوته يحث على متابعة الحفر وكان ريحا كريهة خرجت من انفه وكدنا نمسك بالدرويش لولا صرخ احد الحفارين :

-صخرة كبيرة لا يمكن  حفرها ..

أسرعنا نحو الصخرة فاجفلتنا شكلها وحطت من عزمنا ونظرنا إلى الشيخ عوض فرأيناه يبلع دخانه بصمت ..التفتنا إلى صوت المختار.. الذي تغير فجأة ، وكأنه مختارنا الذي نعرفه مراقبا الصخرة..

-ما الذي تفعلونه

-نحفر النفق كما أمرت.. أجاب الشيخ عوض

-أي نفق ؟

-النفق الذي سيوصلنا إلى نبعهم

امسك المختار مكان الفج

-ومن فجني ؟

-الدرويش صحن الذي طردته..

وكأن المختار في غير عالم وكأن امرأتي تقول:

-ارايت انه عمل العراف ..

والتفتت المختار إلى الشيخ عوض مبتسما:

-يبدو لا حل إلا حلك.

-فتت الصخرة ..فتتها

أذهلنا يعقوب بحضوره متى وكيف وصل وأدهشنا بحله  وتابع مقتربا من المختار

- كنت اعرف بأنك ستستمع إلى مشورتي وستحفر النفق وعرفت بأنه ستكون صخور لذا أحضرت لكم أصابع ديناميت ستفجر الصخرة ستفتتها .. 

 وكساحر سحرنا يعقوب التاجر الذي يزورنا كل شهر.. وساعدناه في وضع الأصابع حول الصخرة وطفقنا نستمع إلى تعليماته

-أعدت ثانية يا ملعون.

كمن أيقظنا من حلمنا التفتنا إلى صوت  الدرويش .

-اقبضوا على ضارب المختار .

صرخ يعقوب ولكننا كنا نخاف درويش أكثر من المختار ولكن لا نصغي إليه.وكذلك مختارنا  الذي أمر يعقوب بالتنفيذ .

-من يتطوع . هتف يعقوب

-أنا  ..كنا نتوقع ذلك انه احمد بطل قريتنا وفارسها.

ابتعدنا ألف فرسخ عن المكان، وبقي يعقوب واحمد يتلقى التعليمات ..ثم لمحنا يعقوب يبتعد الى الجهة المقابلة.. وسمعنا المختار يردد قول يعقوب سيحدث زلزال كبير علينا أن نحمي أنفسنا.. فتمددنا على الأرض، نترقب بنفاد صبر..وما أن وصلت الشمس إلى كبد السماء حتى دوى انفجار كبير رجت الأرض من تحتنا ولمحنا حجارة تتطاير من مكان الحفرة ..وحين هدأ الصوت  أسرعنا نحو الحفرة فلمحنا احمد دون رأس وبلا ذراع ..

 

وقبل أن نفيق من الصدمة سمعنا راعي القرية يصرخ:

-يا مختار يا مختار لقد نهب أعداؤنا الخرفان..لقد نهبوا القطعان ..

 والتفت الشيخ عوض يسأل :

-أين يعقوب؟

أجاب الراعي وقد اذهلته الجثة:

- شاهدته باتجاه القرية المعادية.

نيسان 2006علاء الدين حسو

أضيفت في30/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدرالكاتب (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية