صباحات لم يغنّها
الملك داوود
نحن الآن ثلاثة فقط . أمامي شابان ،التشابه بينهما يصل حَدَّ
التوأمة ، ورغم السنوات العشرين التي تبدو لكل منهما ، فهما يجهدان في نقل
حقائبهما ، بين مواسير معبر "إيرز" ، "مواسير" الحديد .
كلما اضطر
للمرور بين هذه المواسير وبين هؤلاء الجنود، تنتابني حالة من الكآبة
والشعور بالدونية والنقص .. تبدأ هذه الحالة تغزوني قبل يومٍ أو يومين من
"السفر" . أنا لا أزال عاجزاً عن استيعاب ضرورة الحصول على "تصريح
إسرائيلي" من أجل السفر أو التجوال في بلادي !! ولم أتمكن من التعامل مع
الحواجز بصفتها حدوداً بين غزة ورام الله .
يقول "شارون" أمام عدسات التلفزيون : " إن القصد من زيارته للقدس
قبل أربعة أيام ، هو إظهار عدم حاجة أي إسرائيلي إلى الحصول على ترخيص
لزيارة أية بقعة في إسرائيل " .. يذكرني هذا الكلام بالحكاية المعروفة ،
"عندما يصبح القرد قاضياً ويقطّع قالب الجبن...!" .
عندما عدت إلى ما تيسر من وطن ، وقد جئت إلى غزة، ظننت معبر "إيرز"
شبكة أنابيب نفط ، أو غاز ، أو مياه ،أو مصنعاً كيماوياً ..
حال اقترابي منها ومروري بينها اكتشفت أنها أقرب إلى منظومة الحواجز
الحديدية ،التي يتم وضعها في مزارع تربية المواشي لتنظيم علفها ومائها ،
وكذلك دخولها وخروجها بشكل فردي .
"بقرة" كادت
تتقمصني عندما مررت بين هذه المواسير التي أقف الآن بينها عدا مواسير
البنادق في أكثر من اتجاه .
الحقائب ليست سبباً في ارتباك الشابين ، إنه ضيق المسافة بين
المواسير/ الممر ، إذ لا يمكن لأصحاب الكروش أن يمروا بينها إلاّ إذا كانت
لديهم ليونة أجساد القطط .
ينتهي الممر بمثلث مصنوعٍ من المواسير لكنه ليس كالأبواب الدوارة
في مداخل الفنادق أو محطات المترو ، إنه ثقيل الوزن جداً بما يثقل الحركة
في داخله ، يجعلني مثل كتلة حديدية مثبتة فيه. إلى جوار هذا المثلث نافذة
زجاجية لحجرة خشبية
تشكل مكتباً ميدانياً للتدقيق ليس بأوراق الفلسطيني إنما بمشاعره
وذاته .
داخل الحجرة ،
مجندتان في العشرين من العمر بالملابس العسكرية ترتديان الستر الواقية
للرصاص كأنهما توحيان بأن أجسادهما عرضة للرصاص في أي لحظة !! تجلس
المجندتان بشكل يتقابل فيه ظهراهما ، كُل منهما خلف النافذة الزجاجية
والمشبكة بالحديد … ثمة جهاز كمبيوتر لكلٍ منهما ، وجهازان آخران للتدقيق
في البطاقات الممغنطة عدا عن جهاز التكييف .
تبدو المجندة
الثانية – هكذا وبلا تخمين- أنها من إثيوبيا بملامحها وشعرها المجدول
بنعومة بالغة تذكرني بزميلاتي الإثيوبيات اللواتي كان يروق لي أن يشرحن
ويطبقن كيف يجدلن شعورهن في ممر السكن الجامعي في سانتياغو دي كوبا،كُنَّ
يقلن إن الإمبراطور هيلا سلاسي هو من سلالة أسد يهوذا وإن حكاية سليمان
وبلقيس جرت وقائعها على " أرض الميعاد " بين الحبشة واليمن ، لم يكن قد
قرأن فرضية كمال صليبي و لا تلك الصديقة الجمايكية التي تعتز بجذورها
الأفريقية وتنتمي إلى جماعة " بوب مارلي " في سياق اتباع الإمبراطور سليل
يهوذا . وكن يغنين "صهيون قطار يعود إلى دربنا" .
أنا الآن لا أتمكن من التحرك بين المواسير ، كي أتجاوب مع الحركة
المرتبكة للشابين ويصعب عليّ مد يد العون لهم في نقل حقائبهم .
أكتفي بحركة رأسي نحو الجزء المخصص لعبور "مواطني دولة إسرائيل
والأجانب" .. لا مواسير هناك ، ولا شباك حديدية تؤطر المكان .. يبدو أنهم
ليسوا عرضة هناك لشبح القتل الفلسطيني ?!
كثيراً ما كان أصدقائي الجنوب أفريقيين يمسحون دموعهم أثناء شرحهم
لأشكال التمييز وأنهم لا يستطيعون المرور من الطرقات والممرات المخصصة
لعنصريي "جوهانسبرغ" .
أين أنت يا "عدي رشيد" السينمائي العراقي ? لتقرأ بكاميرتك الشابة "تعابير"
الزمان والمكان هنا .. !! ثمة ميتات كثيرة لم تصلها الكاميرات في هذا
الخريف الفجّ ، وحكاية الفناء الفلسطيني ?!
ترفع المجندة الآن بندقية (أم-16) عن فخذيها ، وتنهض، تحمل بيدها
جوازات سفر الشابين وأحمل ارتباكهما في أعماقي ، يزداد ارتباكهما بين
المواسير التي لا تسمح بمرور أي شيء عدا الارتباك وأصحابه،من خلف النافذة
تتكلم المجندةٍ بالعبرية وبصوتٍ عال ، يوجه الشابان إليّ نظرات لم أفهمها ،
ربما أصبت بعدوى الارتباك والذهول !! لا أفهم ماذا يجري !! وما هو سبب
صراخها ? وماذا تقول هذه المجندة ?!
أحاول تهدئة نفسي وضبط أعصابي فأذهب إلى التحليل النفسي الاجتماعي
بديلاً للأيديولوجي والسياسي في تفسير صراخ المجندة الذي يتراوح بين النزق
والهستيريا .
ربما تكون
مضطرة اليوم لأن تقبع في هذا المكعب بدلاً من فضاء آخر تقضي فيه موعداً
غرامياً ?! ربما تكون "الأمور النسائية" وما يسبقها من نزقٍ كل شهر!! ربما
تكون قد تعرضت لاغتصابٍ في طفولتها ?!! ربما …!!
لكن الشابين يدوران إلى الوراء،ويبدأان ، بالرجوع يحملان الحقائب
فوق رؤوسهما وارتباكاتهما !! اضطر إلى الرجوع مسافة خمسة أمتار أو أكثر بين
المواسير كي يتمكنا من المرور!! أتشبث بنفسي !! أوازن بين هجوم "الثور" فيّ
و "تقمص البقرة" فأكظم غيظي… أتابع مضغ "علكة اللبان" وأمضغ معها أشياء
كثيرة … لقد اهتديت إلى مضغ العلكة كوسيلة ناجحة كلما مررت من بين هذه
المواسير،فالمضغ يخفي تعابير وجهي ، ويمنع تلونها بالأحمر أو بالأصفر .
نظرات الشابين لا تنقطع في محاكاة عيني .
تقف الآن المجندة أمامي بعد أن خرجت من الحجرة إنها قصيرة جداً .
السترة الواقية للرصاص تجعلها منتفخة كلاعبي "الرغبي" شعرها أشقر طويل
وأملس ، ليس مصبوغاً بالأصفر كغالبية المجندات.. عيناها دائريتان صغيرتان
بلونٍ أزرق ورغم بياض بشرتها، إلا أن وجهها أصفر أو قد اصفرّ ..
لا أفهم من العبرية إلاّ بعض المفردات اللاتينية والعربية بقليل من
المعالجة … لكنني أفهم حركة إصبع الجندية الممدودة ،نحوي كماسورة مضافة !
ماذا بين المواسير وبيني ؟! وبحركة منفعلة تخطف من يدي تصريح الدخول إلى
إسرائيل ?! وتبقي بطاقة هويتي تهتز في يدي .
كانت "كوكو" صديقتي الجنوب أفريقية تحدثني عن السجانات في سجون
جوهانسبرغ : "كن يقمن بضخ الماء في قناة فالوب للنساء، كن يوجهن الصدمات
الكهربائية إلى حلمات الأثداء"!! وكنت أقول لها : كانت الجنديات في ألمانيا
النازية يقمن بضرب النساء المعتقلات ويقمن بتجويعهن حتى الموت !! بل
وباختيار من تقع عليها القرعة من أجل الموت .
تصوب الجندية الآن إصبعها وصراخها نحو الشابين !! وأراهما يعودان من
جديد إلى الحقائب والأمتعة والارتباكات …
صمت ..
صمت …
اصفرار وجوه …
امضغ العلكة …
ونظرات …
لا أفهم شيئاً !! لكن حزناً عميقاً .. يجرف أعماقي عندما يسألني أحد
الشباب :
ماذا تقول هذه ?! وأشار برأسه إليها بحركة من يخشى أن تفضح إيماءاته
خوفه وارتباكه … وأضاف :
- :أنا لا أفهم
!!
= : وأنا أيضاً
!!
تخطف المجندة بطاقة هويتي من يدي وتوجه صراخها نحوي، آخذ شهيقاً
عميقاً أتذكر "التقيّة" الشيعية بأن أظهر عكس ما أبطن اتقاء للتنكيل وأقول
لها :
You speak
English?
يأتيني زعيق بالعبرية أعتقد أنني أفهمه بـ"اخرس" !!
Take it
easyهو
ردّي
ربما لم تقل لي "إخرس" يبدو أن "زعقتها" هي صفارة إنذار!! أو كلمة
سرّ !!
نحن، الشابان وأنا والحقائب ، محاطون الآن بالمواسير، مواسير الممر
، ومواسير بنادق (M16) أحمل بيدي "ابتسامة الجدي" رواية الإسرائيلي "ديفيد غروسمان" وبين
أقدامي حقيبتي الظهرية الصغيرة لأن المواسير لا تسمح لها أن تكون على ظهري
أو إلى جانبي !! فإما أن تكون فوق رأسي أو بين أقدامي.
أوصتني عروسي أن أحافظ على ترتيب القمصان و"البناطيل" لقد وضعتهما
بعناية كي لا تذهب "كويتهما" ولا رائحة أهلي التي أرسلوها مع حقيبة هدية
العرس . الجنود يتقدمون نحونا، منتفخين بستراتهم الواقية للرصاص !! أمضغ
العلكة وأشياء كثيرة !! أسمع عبرية تتأرجح على حبالٍ صوتية روسية !! إنها
للرقيب وهو يتحدث مع الجندية !! يوقف الحركة "الرامبوية" لجنوده ويقول :
"ما في مشكلة" ويشير إلى الشابين أن يعبرا .
"نحن لا نحيا ،
نحن نحيا موتاً يومياً أخرس" أتذكر عبارة أدونيس هذه . وأتابع المضغ بصمت
... المكان فارغ إلاّ من الجنود والمواسير والصمت .. أنا الآن وحدي بين
المواسير ... أسمع أصوات رصاصٍ شبه قريب ... ربما يكون من "المعسكر
الإسرائيلي القريب من حاجز إيرز" .
اليوم هو الرابع من المواجهات بين فلسطين وإسرائيل منذ أن اقتحم
"شارون" المسجد يرافقه ثلاثة آلاف مسلح (لواء مشاة خاصة) .
لقد تخصص "شارون" بإبادة الفلسطينيين منذ أن كان آمراً للوحدة رقم
101 التي نفذت بقيادته مذبحة قبية هكذا يقول "بيني موريس" المؤرخ
الإسرائيلي عن مذبحة قبية .
يبدو شارون في
مشيته مثل "فيل الماموث" الذي يسحق كل شيء –عدا العشب- في دبيبه . لقد تخصص
في انتهاك مشاعر الفلسطينيين بمن فيهم أولئك الذين لا تربطهم علاقات خاصة
مع السماء أو التابوات ... أي "مونولوج" يردده شارون مع نفسه ?! القتلة في
الأفلام الأمريكية لا يندمون . مع أن سبر أغوار شخصياتهم غير السوية يكشف
عن تأصل الجريمة في نموذج "السايكوباث" الذي لا يرعوي ، ولا يندم، وتأخذه
العزة بالجريمـة ..
أنا الآن بين المواسير أقف قبالة الشبك الحديدي الذي يلف نافذة
الحجرة الخشبية (ربما يكون طول النافذة"1م" وعرضها "نصف متر") تدخل الجندية
الحجرة ، تدير ظهرها وتبدأ بحديث هادئ مع الجندية الأثيوبية :
- الساعة الآن
التاسعة من صباح يوم الثلاثاء 3/10/2000. أطيل النظر في الساعة .. أشعر أن
التركيز في الميناء الأزرق للساعة يغنيني عن مضغ اللبان ..
كانت عروسي قد أهدتني ساعة الـCalvin)
Klein)التي يتبدل لون
مينائها حسب الظل والنور .
قبل قليل ودعت زوجتي بوعدٍ قاطعٍ بالعودة حال اختتام الملتقى الشعري
وخرجت إلى الشارع أنتظر سيارة لتقلني إلى حي الشجاعية كمحطة نحو معبر إيرز
.
لغزة أسرار في حيويتها ، في هدوئها ، في غضبها وحنوها . كانت
شوارعها خالية تقريباً وببرودة الأعصاب المعهودة عند سائقي تاكسيات غزة !!
أذن لي سائق السيارة بالركوب باتجاه حي الشجاعية...
- : صباح الخير
..
= : صباح الخير
وأسأله هل معبر إيرز مفتوح اليوم ويجيبني :
- لقد "سرح" بعض
العمال .
يبدو أنه قدّر جيداً أنني على علاقة بالثقافة وبدأ حديثاً دقيقاً
جداً في وصفه لحادثة قتل الطفل محمد الدرة : "لقد قدم الشاعر مايكوفسكي في
وصفه لمشاعر من تهوي مقصلة الإعدام على رأسه ، إنجازاً هاماً للتحليل
النفسي". ويقارن ذلك في مشهد "إعدام محمد الدرة على الملأ" كما يقول "لقد
رأى العالم حالة موت بطيئة بوقائع حية وبالتدريج !! وتابع حديثه ليس عن
سكرات موت محمد الدرة بل عن الحالة النفسية التي مرّ بها والد الطفل
المعدوم" لقد أصيب الوالد بحالة شبه إغماء وربما مات للحظة ...!"
قهقهات الجنديات الآن تقطع عليّ تركيزي على ميناء الساعة. أرى فيهما
الاستعلاء البارد الذي أعدم محمد الدرة...
أمضغ العلكة ببطء ومرارة . وفيما تتابعان حديثهما أتذكر نصائح
أصدقائي بضرورة أن لا أستعجل الجنود كي لا يمددوا فترة التأخير في إعطاء
الإذن بالمرور عند الحواجز .
أبدأ بالنظر في ملابسي ومحاولة تخيل مشاعر الأبوة إزاء محمد الدرة
... فلا أفلح لأنني ترددت كثيراً في إنجاب أطفال لي، لقناعتي أن الأطفال هم
الاستعمار الجميل في العالم والذي ندعه يستمر بلا مقاومة !!
أتذكر حالة شبه هستيرية ألمت بي عندما رأيت أخي الأصغر في حالة
غيبوبة مرضية . أنظر إلى "الجاكيت" التي أرتديها وكان قد أرسلها لي "ميلاد"
أخي الأصغر الذي لا أستطيع تذكره الآن إلاّ ببنطاله الأحمر القصير و(البلوفر)
الأبيض وهو يمسك بيدي متلعثماً بنطق الكلمات . وبتوسلٍ طفولي ينظر إليّ من
أسفل إلى أعلى كالذي ينظر إلى شجرة سرو .
"خذني معاك"
يقصد أن أصطحبه في تجوالي بين شوارع وأزقة مخيم اليرموك للاجئين
الفلسطينيين جنوبي دمشق.
عشرون عاماً وأكثر مضت على آخر مرة رأيته فيها . لم أتحمل "اعتصار
روحي" عندما أعطاه الدكتور إبرة في العضل بعد استفاقته من الغيبوبة . أي
اعتصار عصف "بروح" والد محمد الدرة أو الأبوة الإنسانية ؟؟
"أتأوّه ، كأنني
أسحب سلكاً طويلاً من أحشائي" "يصبح الزمن الذي ينز من ثقوب الظلم !مثل
السم الذي يشل الجسد ويتلف الدماغ" .
تقع عيناي على هذا الكلام بعد أن فتحت "ابتسامة جدي" ديفيد غروسمان
. كان علي أن أتظاهر بالقراءة أمام مواصلة الجنديتين حديثهما الهادئ
يبدو أن منظري وأنا أقرأ كان سبباً لهما لتكفَّا عن الحديث فتقدمت
الجندية نحو الشبّاك الذي أقف قبالته جلستْ على كرسيها الدوّار خلف جهاز
الكمبيوتر ، وبطاقتي الشخصية والتصريح مشدودان في قبضة يدها الصغيرة .
أغلقت الرواية وبدأت أنظر إلى لوحة "الرجل والمرأة" التي وضعها
صديقي الفنان التشكيلي كتصميم لغلاف الرواية ، وأقرأ ترجمة حسن خضر وأتذكر
أحاديث "معرفة الآخر ، والحوار مع الآخر" .
يصلني الآن حديث الجندية بالعبرية ... لا أدري من قال إن اللغة
مرادف للأيديولوجيا ... لكنني أتذكر أن صفات كالحضارة هي مصطلحات ثقافية
وليست وراثية . فقلت للجندية:
English,
French, Spanish
أرى الآن ملامح وجهها وهي تأخذ بالتغيير .
تتقلص العضلات فوق الفم !! ترافقها حركة تنفسية !! ارتفاع للحاجبين
!! اتساع للعينين !! يتسع اللون الأصفر في الوجه فتصل ملامحها إلى حالة
"التكشير عن الأنياب" .
وحال اكتمال "الميتامورفوز" عندها تأخذ نفساً عميقاً ، تركز عيناها
في عينيّ فأرى زرقتهما تقترب إلى الرمادية !! وبلكنة أمريكية أكثر من طليقة
أطلقت جملاً ممزوجة بالزفير !! وهذه ترجمتها :
"أنا هنا من
يقول ، أنا هنا من يفعل ، أنا أعرف ماذا عليّ أن أفعل" .
قلت لها بالإنكليزية : ماذا حدث ... ؟؟
وبصوت قويّ ردت علي:ّ
Don't tell
me what I have to do.
لم أقل لها أي شيء تفعله .. فأتذكر أنني قلت لها أثناء صراخها
السابق:
Take
it easy
، نهضت عن
كرسيها بانفعال واضح... ألقت بطاقتي وتصريحي فوق جهاز تدقيق البطاقات
الممغنطة الموجود أسفل النافذة ويبرز جزءٌ منه إلى الخارج كي يتمكن العمال
من وضع البطاقات فيه!! اتجهت الجندية نحو الأثيوبية وطلبت منها سيجارة !!
أحاول الآن أخذ بطاقتي والتصريح لكنني لا أستطيع لأن يدي لا يمكنها أن تدخل
بين الفراغ القائم بين نهاية الزجاج وبداية سطح جهاز البطاقات الممغنطة !!
أقوم الآن بتمرير أصابعي التي لامست البطاقة !! أحاول مناداة الجندية كي
تعطيني أوراقي فتأتيني لسعة كهرباء قوية مصدرها موصلات الجهاز الخارجة من
النافذة عندها خرجت مني (No)
كبيرة !!
أراهما "تنقزان"
وتتغير ملامحهما !! فالأثيوبية لا يمكن قراءة ملامحها !! تشدان سترات
الفايبر غلاس على صدورهما أكثر . نظرت هي إلى بندقيتها واقتربت من النافذة
!! دفعت البطاقة برؤوس أصابعها وهي تقول:
OK .. OK
إن روحي توجعني ... الآن ...
أسمع أصوات رصاص شبه بعيد .
أتقدم أمتاراً خمسة باتجاه جهاز التفتيش ، جندي يجلس على كرسي ،
ويجلس معه انتفاخ سترته
الواقية وبندقيته
M16)) على ساقيه الممدودتين باتجاه المواسير..
منذ أول مرة عبرت فيها جهاز التفتيش هذا الذي يأخذ شكل إطار باب
عليه أجهزة ترسل إشارات وإضاءات ... منذئذٍ قررت أن لا أضع حزاماً في
بنطالي !! وأن لا أحمل مفاتيح !! وأن لا يكون في جيوبي قطع نقود ! معدنية !
وأن لا يكون في ملابسي أي شيء معدني كسحاب البنطال أو الأزرار .
كثيراً ما قالت لي جدتي : "إن الذي يضع حزاماً في بنطاله لا توجد
لديه ثقة فيه" لكن ليس لهذا السبب ، أبقيت حزامي خلف باب غرفة نومي (لقد
صار عندي غرفة نوم) إنما كي لا أعطي فرصة للجندي أن يأمرني بنزعه عدا عن
نزع السترة وإفراغ الجيوب ...في المرة الأولى .. ولولا إبداء انزعاجي
السافر وتأكد الجندي أن سحاب وأزرار بنطال الجينز هي سبب انبعاث صفير
وإشارات ذلك الإطار ، لكان عليّ أن أنزع البنطال وأوضح ماذا تحت البنطال ،
رغم بطاقتي الصحافية ...
الآن إنه يتحدث معي بالعبرية ..؟! هل على الفلسطينيين إتقان لغة
محتليه ?!
ولما حدثته بالإنكليزية ردّ عليّ بعربية ثقيلة
- : وين بروخ ?
= : رام الله
وضعت جهاز التلفون والحقيبة الظهرية "وابتسامة الجدي" إلى جانب
الإطار وبروحي التي توجعني مررت .. قال: روخ ماكينة (يقصد بها جهاز فحص
الحقائب)
افتحها هنا .. بانزعاج واضح قلتها له .
في مرة سابقة وأنا قادم من رام الله حاملاً معي حقيبة كبيرة مليئة
بكتبي .. كنت أجرها على الأرض ... وكانت تصدر صوتاً مزعجاً ، وعندما اقتربت
من هذا الإطار سألني أحد الجنود بالعبرية !! ولما لم أفهمه عاد وسألني
بالإنكليزية :
-:هل أنت ياباني
?
Why:
=
الحقيبة تتكلم ياباني زززززززززز ز?... ?... ?... ?.... ?... !!
قلت له : "لا يوجد عربات تسهل نقلها"
أجابني بعربية مضحكة :
"كُله بيشتغل
عتال ، ليش بيجيب عراباي ، روخ ماكينة...!!"
وأمام السخرية الثقيلة كثقل الحقيبة التي أنهكتني وكادت تقطع أنفاسي
، فتحتها أمامه فوراً ، وبدأت أهدئ أنفاسي المتسارعة وأنا أتأمل دهشة
الجنود وهم يرونها مليئة بالكتب فقط..
لا أنسى علامات الفرحة والتعجب التي ارتسمت على وجه أحد الجنود !!
عندما وقعت عيناه على قاموس صغير (جيب روسي فرنسي ، هدية صديق جزائري يقيم
في موسكو) وبطفولة حقيقية كالتي للنساء الروسيات في حالات فرحهن القصوى أخذ
القاموس كالذي يأخذ كتاباً مقدساً بين يديه وسألني : "تي غفاريش بر وسكي؟!"
= : أتكلم
الروسية قليلاً أجبته ، فتابع سؤاله :
: بفرنسوسكي ?
= : قليلاً
أيضاً ! قلتها وأنا أنظر في رقرقة عينيه والبهجة المشوبة بحزن خفي على وجهه
. كان كأنه عثر على ذكرى حبيب إلى قلبه وبغاية "اللطف السوفياتي" قال :
أغلق الحقيبة... تفضل من هنا وأشار إلى الممر الذي ليس مخصصاً للعمال لكنه
مشابه من حيث المواسير ويختلف بغياب الازدحام .
قال تفضل فيما بقيت عيناه نحو القاموس .. عندها قلت له هل تحتاجه ?!
وتبادل مع الجنود نظرات لم أفهمها .
أخرج الآن ما في الحقيبة للجندي الذي كان سارحاً قبل قليل ويبدأ
بإظهار استغرابه ودهشته أمام زجاجة العطر ومعجون الأسنان والفرشاة وربطة
العنق وعلبة سجائر "مالبورو" التي طلب إحداها وقال:
"أنت بروخ رام
الله ...!! في طخ طخ عالطريق" .
قلت هل كل شيء:
OK ،
أقصد إن كان قد
أنهى إجراءات التفتيش!!
قال:
(OK)
.
وبروحي التي توجعني انطلقت في ممر المعبر باتجاه السيّارات التي
تذهب إلى رام الله .
"أدعو إلى إضراب
تتوقف فيه الرموش العصافير عن الزقزقة
أدعو إلى إضراب تتوقف الرموش فيه عن الرفيف
أدعو إلى إضراب يتوقف فيه العشاق عن تبادل القبل
أدعو إلى إضراب تتوقف فيه القلوب عن الخفقان
لأسمع وقع خطوات الجنرال وهو يرحل عن المدينة..."
سماعي لوقع أقدامي جعلني أتذكر ذاك المقطع من قصيدة الشاعرة
النيكاراغوية جولاندا التي قيل أن قصيدتها أسقطت الجنرال "سوموزا" .
الآن وحيداً أمشي ...
الصمت يعيد أصداء أقدامي وربما زفراتي !! حقيبتي على كتفي و "روحي
توجعني" و لا أدري ماذا تقول تعابير وجهي ?
أشعلت سيجارة
سحبت منها بشدة ... أطلقت دخانها باتجاه مستنقع (المجاري) المكشوف تحت
الممر الذي أمشي عليه وحيداً .
وبصوت يكاد يكون مسموعاً وجدتني أردد مطلع أغنية إسبانية:
ESTAS
SON
LAS MANIANAS ... QUE
CANTABA
EL
REY
DAVID...
وترجمتها : هي ذي الصباحات التي غنّاها الملك داود
أرى الجنود الإسرائيليين وضباطهم في حالة استنفار وأسرح مع
الجنرالات بين الخريف والخرافة ...
ما كتبه (بيساريو بيتنكور) بعد إقالته من رئاسة كولومبيا عن
(الجنرال في متاهته) رواية ماركيز الشهيرة . جعلني أدرك وبتلمس شفاف معاني
ما قاله الجنرال في رسالته الأخيرة : "يبدو أن الشيطان يسيرّ شؤوني" ومضى
هائماً رفقة ممرضته وسكرتيره الخاص وبعض مرافقين . بعضهم يظن أنه مضى
لتأسيس جيش جديد بينما يقول سكرتيره : "كان ينتظر قوة خفية تهبط من السماء
تحمله وتعيده إلى مكتبه الذي كان يحكم من خلاله ما تعرف اليوم بخمس دول في
أمريكا اللاتينية ، كان البريطانيون قد عاملوها بـ"فرق تسد" فصارت فنزويلا
وبوليفيا وكولومبيا وكوستاريكا وبنما ...
لا يعقل أن يستوي الذين يُحررون والذين يحتلون (يدعي جنرالات
إسرائيل أنّهم يحررونها من الاحتلال الفلسطيني) ! لهذا ربما عقدوا صفقاتهم
كل مع شيطانه حتى لا تزف نهاية "الكولونيل الذي لم يعد من يكاتبه" بل إنهم
يطلقون الرصاص على فصول السنة كي لا يكمل "خريف البطريك" دورته!! ..
في خريف (1982) - نحن الآن في الخريف أيضاًـ وقبل أن يدخل "بيغن"
خريفه الأخير،كان قد أدخل جنرالات "غولاني" إلى خريفهم المحتوم ليتسنى
لمصور الخرافة أن يلتقط صورة الخريف الأخير لـ"بيغن" مظهراً أسنانه كلها
وهو يقف إلى جانب جثامين حفنة من المقاتلين الفلسطينيين في "ماسادا" الشقيف
...
مدعي عام جيش "الخرافة" وقبل فترة قصيرة ينصح حكومته بعدم الانضمام
إلى المحكمة الجنائية الدولية تحت التأسيس في روما لأنه كما يقول :
"جنرالات إسرائيل سيكونون أول مجرمي حرب يتلقون أحكامها" . أما الخرافة
فلها حكاية مع الخريف . لم يبق لـ"بيغن" إلاّ أن يطلق شعر وجهه وربما كمسلٍ
وحيد في عزلته الأخيرة منتظراً تساقط آخر أوراقه ... وتنقلب صفحة أخرى في
لفائف الخرافة.
(كان"سيمون
بوليفار" مثل جبل .. قاعدته شاسعة وقمته مدببة حادة ... ربما ليمرق إلى
سماء المجد بسهولة أكثر) الشاعر والمفكّر خوسي مارتي في رثاء بوليفار .
الحبّ في زمن الانتفاضة
إهداء: إلى أمي
صباح الخير يا حلوة
كل صباح تؤدي الفراشات رقصات شكر لك .. يفرح حتى الندى ... فالأعشاب
تكون عطشى قبلما تلقين بسمتك على الزهور الأليفة والبرية .
صباح الخير
يا امرأة لها
ظلها على الأرض:
وردة جديدة
في السماء اسمها
"أم" وفي جنائن الأرض اسمها
: "أمي" ....
كل صباح يكتوي الباحث عن أم ويقول:
صباح الخير يا أمي
صباح الخير للعيون السود ..
عيون لو علمت الفصول بها لأضافت إلى الفصول الأربعة فصلاً جديداً
اسمه : عيون أمي
صباح الخير للثغر عندما ينبلج عن ثلج وأسرار ...
صباح الخير للقامة التي تغار منها حوريات الماء وساندريلا الفقراء
...
صباح الخير : فيروز الأرض
: مريم السماء
صباح الخير يا حلوة
ماذا أرسل لك ?
: قلبي الصغير
بحجم يد الطفل ?
عينيَّ
السوداوين وقد زادهما الليل سواداً وأنا أسأله الطريق إليـك?!
: صدري الذي
أنَّ وقال للروح : أين الوسادة ?! فانفجر في غياب الإجابات فراشات بيض تقف
على زجاج نافذتك وتقول لك :
صباح الخير
ماذا أرسل لك ?
ريحاً تخترق الأسوار والجدران والحواجز علَّها تداعب شعرك!! وتضع
أريج الصباح همساً وتقول :
صباح الخير يا
شفيعتي الخضراء !!
: صوتي وصداه
علّه يسري مثل الكهرباء ? يضيء ويطرد ما تركه الظلام إلى مقبرة الأيام .
ليتني كنت مرآتك الصباحية .. علّني أكون أول من يراك... وأقول :
أيتها الأم
صباح الخير يا بسمة الله على الأرض
لك الروح عشاً حنوناً ودافئاً ..
لك الروح فضاء رحباً يتسع لكل جنائن الأرض وفراديس السماء
لك الروح برقاً يزيح كل الغيوم ... مطراً ناعماً
يغسل الدروب والأشجار ليمر موكبك بين أفراح طائر البجع ورائحة
البلاد .
لك الروح بلسماً !! شموعاً !! "عشرة ... عشرين سبعين ... ألف" .
لك الأشعار والحروف البيض ..
القلم الجريح وهو يكتب :
أحبك والوطن شاهدي الوحيد
أحبك والمنفى جمر رعديد
وقائع الحياة والموت
البالوع ( 1 )
(......ولأن
الاحتلال ، ليس من اختصاصه إقامَة مسرح ، ولو ليمسرح زمن مكوثه الثقيل .
فلقد حوّل الأرض الفلسطينية إلى مسارح شاسعة تدور عليها وقائع تراجيديا
اقتلاع الموت بالموت ودراما الحياة مع اللا حياة ... )
(1)
كتل مصفحة بثقوب الفكرة الهاربة من التزييف إلى التنزيف...!! هيئات
بلا ملامح ..!! كان لتدجيجها أن يوحد تشابهها في "قاماتٍ" من فلزات التحريف
والتخريف ...!!
كتل وهيئات
كأنها تعقد تزاوجاً مطلقاً بين الفولاذ والفايبر كـلاس..
(2)
بُمْ ... بُمْ .. دَمْ
دخانٌ ... غبارٌ ... دَمْ
بريقٌ ... بصلٌ ... دَمْ
كاميراتٌ ... إطاراتٌ ... دَمْ
تْـرَكٌ ... تـْرَكْ (صوت حجارة) ... دَم
رائحةٌ ذئبيةٌ ... رعدٌ ... دَم
قرفٌ .. نارٌ .. دَمْ
صحافة ... سيارات الرحمة ... دَمْ
فتيانٌ "يحاولون اقتحام السماء" ... دَمْ
آهٌ طويلةٌ ... قهقهاتٌ صفراء ... دَمْ
حشرجاتٌ ... نحيبٌ أخضوضر ... دَمْ
والفضاء ستارٌ مفضوضٌ نحو الأفق الذي بدأ يتثاءب.
(3)
مشهد الذئاب والآيائل ... ومشهد الصيادين وأسراب الحجل لن يتعارض مع
مشهد مصارع الثيران ... الفتية بكامل الذكورة والأنوثة يتابعون رقصة الموت
ضد الموت ...
(4)
ماذا بين الذئاب والأيائل ...?!
ماذا بين الرخ والسنونو...?!
لا حاجة للغة "سليمان" لتفكيك رموز خطاب الطير والنمل أو فقه
الجوارح والكواسر:
دَمْ .. دَمْ .. دُمْ .. دُمْ .. هي ذي دمدمة "أدوميم" ...
وفي كهف كفيف ثمة ملتح يلّح بالملح ملامح مليحاته من مملحات
الورق... ويقرأ ملائحه أو مدائحه :
"اصنع سيفك من
عظام عدوك" دُمْ .. دَمْ .. دُمْ .. دَمْ ... هي ذي مجرد أصداء الملوحة ...
(5)
تستمر الكتل المصنوعة من حديد وحرير تدمدم قبالة لحم دافئ
وخرير أحمر ..
لماذا كل هذا الاحتراف في الأحمر ?! لماذا كل أدوات الحرفة
القانية ...؟!
أقفاص الحديد ، ولفرط ما ضغطت على الرؤوس ذأّبَتْ الكتلة الرمادية
في جماجم مكنوناتها ...
(6)
...وعلى هذه
الأرض التي اندلعت الحياة منها وإليها وكلما اكتملت حياة صباح زعتري
اكتملت الذئبية وأكملت غريزتها المسعورة في الصعود إلى أعلى درجات سلم
شبقها ...
عندها لا شيء سوى بحثها عن دماء عذرية
دَمْ .. دُمْ .. دَمْ .. دُمْ ..
(7)
ماذا يبقى للقاتل "المدمدم" إلا الإيغال في (دَمْ دُمْ) الجريمة
كهروب إلى الأمام وربما بعيداً في جحور بواطنه المدججة بملح قان...!!
ويزداد دبيبه الذئبي البني... ولا نبيّ...
(8)
صمت ...
صمت ...
صمت ابن لحظته
لتصعد أرواح شفافة نحو الأعالي ... شفافة مثل موشور ماسي ينثر ألوان
العدالة في مطر الجور ...
قهقهات بنية ...
حشرجات ...
نحيب أخضوضر
...
دَمْ ..
دَمْ ..
دُمْ ..
دُمْ
الأيائل البرية تضيف إلى قاموس البرية حكمة برية :
(9)
مجرم من يخوض حرباً يمكن تفاديها ...
مجرم من لا يخوض حرباً لا يمكن تفاديها ...
(10)
بلادي
هي ذي أيائلك
السمراء
الرشيقة
بلادي
هم ليسوا قرابين لزرقتك
فقط
بلادي
هم شجيرات مطاط
تذرف : دماً
البالوع...
أيضاًًًّّّّّّّّّ
كان شارون قد عثر أخيراً على قبر جدته في "جورجيا". فأضاف رماداً
آخر لمقبرة ا لخزر"!!
لكني عندما ذهبت إلى طيرة حيفا في أيار 2000 أحمل عشبة آس لأضعها
على قبر جدي الذي لم أعرفه . لم أره ومات في الطيرة (1970) ،فقط أضفت إلى
أعشاب الحديقة ، خضرة يانعة ، لم ترق لذات الملامح القوقازية مربية لأطفال
.
قلت لها بخمس لغات منها الروسية : "اسمحي لي" أن أزرع هذه العشبة ..
قبر جدي أسفل الحديقة !! ولمّا ارتبكت !! أعطيتها لطفل شفاف كدمعتي .
(ما الأعداء يا
أمي ?
- إنهم أولئك
الأشباح الذين يقفون خلف الخط موجهين بنادقهم إلى القمر .
- لكن القمر
مشترك بيننا وبينهم فهل يضربون الجزء الذي يخصنا ?
- أجل ..
أحياناً يصيبون الهدف فيسقط القمر !! أو أكثر ، فيصير هلالاً !! أحياناً
يختفي..)
يحضرني مقطع الصديقة الشاعرة "دنيا ميخائيل" التي هاجرت إلى أمريكا
وأرسلت تقول : "هيغل كاذب . أمريكا ليست المستقبل" لكن الأمريكية
BERKLY.D
راق لها شمّ البصل !! كي تتقي من الغازات عند المدخل الشمالي لمدينة البيرة
، وبدموع إجبارية جعلت زرقة عينيها تخضوضر ، وبعذوبة إسبانية سألتني عن سر
صمتي
= : "أتذكر الآن
فيلم غاندي . هل شاهدته ?"
(في الأثناء
يتقدم الفتيان الفلسطينيون إزاء رصاص الجنود)
وبشيء من الانفعال أخرجت تليفونها المحمول وضربت الأرقام بسرعة ..
وبسرعة أكثر تحدثت بالإنجليزية الأمريكية ، لتتركني مع مخيلتي استرجع فيلم
"غاندي" ببطء حيث حركة الهنود وهم يتقدمون ويتساقطون أمام زخات الرصاص
البريطاني
تسألني بذهول : "كيف تهجّي كلمة "البالوع"؟؟ وذهولها يشبه ذاك
الذهول الذي لفّ الصحفي الأمريكي عام 1945 ، وجعله يهزّ تلفون "الترنك"
بعصبية فاقد الصبر ، متلعثماً يقول:
"ألو ألو ..
انهزمت بريطانيا الآن .. الهند تستقل" .. ويمر وقت بعد ذلك لينتزع الهندي
"صك" الاستقلال
BERKLY.D
تحاول الانبطاح مع من أخذ الأرض .. دبابات بيت الرب إيل ، بدأت تطلق
القذائف ..
ونحن ننفض الغبار والغاز،تخرج عطرها النسائي بدلاً من "تقنية" البصل
.
"عندما تبلغ
القذيفة الذروة تكون قد وصلت سرعتها القصوى النهائية ... أي السرعة ذاتها
التي تأخذ القذيفة فيها مسار هبوطها على مدرج قوس ، لتتلاشى سرعتها حتى
الوصول إلى نقطة الصفر/الموت" .
هذا ما تذكرته من دراستي للفيزياء لأقول لها : "إن زمن وجود
الاحتلال المبني على قاعدة المخروط / القذيفة يدخل الآن سرعته النهائية !!
وبالزمن : إنها ربع الساعة الأخيرة .
افتح جريدة القدس 21/11/2000
"أي قوة في
العالم لن تستأصلنا من هذه الأرض ولن تفرض علينا حلولاً لا تناسبنا.. "
–هذا التصريح
ليس لياسر عرفات !! وليس لحبش !! أو أبو العباس أو حيدر عبد الشافي أو
مروان البرغوثي أَوْ لي أنا !!
إنه الوجه الآخر للعملة التي يتداولها الاحتلال ليحصد "أرواحاً"
ويزرع "موتاً" أسود عند المتوسط .. ويتابع التصريح "سنستمر في السعي بكل
قوانا لوقف العنف" وجعل السلطة الفلسطينية تفهم أنها لن تحصل على شئ بواسطة
العنف"..
إنه تصريح باراك أترجمه للأمريكية ثم أقول لها : "ماذا لو بدلت
السلطة الفلسطينية بالاحتلال ? الضحية بالجلاد ? عندها سأتبنى تصريح باراك
وأرده عليه وأقول : "أية قوة في العالم لن تستأصلنا من هذه الأرض ولن تفرض
علينا حلولاً لا تناسبنا" و"سنستمر في السعي بكل قوانا لوقف العنف وجعل
سلطة الاحتلال تفهم أنها لن تحصل على شئ بواسطة العنف ".
وبين الأمريكية والأسبانية قالت : الفرنسيون أكدوا كثيراً: الجزائر
أرض فرنسية ?!! وأفرغوا كل ترسانات أسلحتهم ليؤكدوا ذلك.. لكن أوركسترا "الأليزيه"
عزفت النشيد الوطني الجزائري ضمن التشريفات التي أعدتها حكومة ميتران –
الوزير السابق في سلطة احتلال الجزائر- ليستقبل رئيس جمهورية الجزائر
الديمقراطية .
كان "غاندي" في مخيلتي خلفية صورية لحديثها الذي امتزجت فيه الحماسة
والجدّية . كانت أقدام "غاندي" تنزل من موج البحر الذي أقل سفينة الاستقلال
إلى أمواج بشرية تحتضنه وتملأ جسده النحيل وشبه العاري بأكاليل الأرجوان
... بينما جنرالات الحلفاء المكللون بنشوة هزيمة النازية أطالوا البحث عن
جنرال نازي ليأخذوه إلى مقصورة القطار ذاتها التي أعلن منها "هتلر" البدء
بالإبادة الجماعية كتطبيق للسوبرمان !!!
وبأنفة الجنرال
المهزوم أخرج النازي قلمه وسأل الجنرالات المنتشين : "أين أوقع..؟؟؟"
- اقرأ صكوك
الاستسلام أولا
= لماذا ؟؟ لقد
انهزمت ألمانيا
كرنفالات التراب
الرماة فوق تلال "سردا" . تمكن أحدهم من إيصال قذيفته الغازية إلى
جوف "مشط" الجرّافة ... وهذه تحسب له كقناص محترف.
كان لابد من حماية سائق الجرّافة ، والجرّافة أيضاً . ولا شيء سوى
التراب !! والحجارة والأعشاب والأغصان .
ماذا بين
الجرّافة والخرافة ..؟؟
=: .Eres
surda? أي :هل أنت سوردا؟
كنت أقولها لصديقتي الهندية الحمراء (بوليفيا) . وسوردا تعني : ما
قُدَّ من صخر . الآن أعرف أن (سردا) مفردة عربية، لم يحضرها سكان (سوردا)
من أمريكا اللاتينية موطن الهنود الحمر .
لكن هنا في متن الرواية للهندي الأحمر مناخ طاغ ورائحة قوية مثل
التي لبارود الغازي الأبيض قبالة أغصان وغصات ...
لسائق الجرافة عيون حمر .. هكذا يشح بريق العين هنا ويفيض الدمع
الأحمر ... لم يكن سائقاً محترفاً يتقن قيادة المركبة هذه... أنه يطوي صفحة
من الرواية فيضحك مرة ويبكي ثانية ... والتاريخ يكرر نفسه أيضاً !! مقهقهاً
مرة وناحباً مرة أخرى .
الرماة يطلقون القذائف الغازِية والغازيّة .
فتاة ، ربما قُدّت بشفافية من عسل وقرفة قد نفذت إلى "قمرة"
الجرّافة ، وتمسح دموع "العيون الحمر" .كان على السائق العشريني أن يبصر
كيف يكيل حفنة تراب أخرى .
أرى العديد من المثقفين .. أرى العديد من طلاب بيرزيت ..أرى صديقات
وأصدقاء جاءوا من حيفا والناصرة وترشيحا والقدس.
أرى عشرات الأجانب ، منهم تلك الألمانية الطالبة في بيرزيت تحمل
يافطة كتب عليها بالإنكليزية : أيها العنصريون أخرجوا من فلسطين ..
:"الحياة
مستحيلة هنا" هكذا يقول مراسل صحفي بالإيطالية عبر الهاتف ...
وأقول لـ "حسني" صديق أسفار كثيرة في أمريكا اللاتينية ولبنان ودمشق
وتونس وفيما تيسر من وطن :
- ما أجمل بنات
بلادي !! مشيرا إلى التي في "قمرة" الجرّافة تمسح الغاز عن عيون "السائق".
يرفع "حسني" يده التي أكلت الشظايا في(1982) عدداً من أصابعها !! وكي لا
يفضح انفعاله يرد بالإِسبانية :
"شعبنا فوق
النص... " سَمّهِ "الحب في زمن الانتفاضة" ...
كان الرماة يطلقون .. ولابد من حماية الجرّافة.. انظر إلى "القمرة"
بعينين أيائلية السلالة ...
لا منديل عندي
كي أمسح غاز الرماة عن عيوني ... أسعل مثل غريق .. أتعلق بعشبة ظننتها "خبيزة"
فركت بها عينيّ ..
كانت العشبة "خورفيش" !! فلم أجد بداً أمام "العوسج" الذي في عيوني
إلا أن أمضغها !! وكانت سيارات الرحمة تقذف زعيقها : قسراً وحسرة..
هذا الصباح ذهبت إلى مكتبي الذي تتلصص عليه "بسغوت" !! هنا على
الجبل الطويل الذي يزنر وسط المدينة التوأم "البيرام الله"
هنا أجلس . أنا الذي لا يزال قلبي عند المتوسط !! وهو يحرس جبل
الكرمل . أشم زرقته بنصف أنف .. وأرتّق الأنامل بالأسنان علّها تكمل حياكة
الحكاية على نول أزرق ..
و"بسغوت" يسمونها "مستعمرة" فأُسمي ذلك افتتان الترجمان العصملي ...
"المغلوب بالغالب المنجذب إليه" .
.وأسأل : ماذا
بين العمران والخراب ?! ويقولون "مستوطنة" وأسمي ذلك رطنا في الخرافة
!!ثمة التباس
خرافي ما بين خرافة اللغة ولغة الخرافة وبين خرافة وطن ووطن خرافة ..
والرماة يقذفون من "بسغوت" أيضاً !!
مرة دخلت "قذائفهم" إلى أروقة "بيت الشعر" ... استقرت على درجات
السلم وماتت كخفافيش تائهة ..
وعلى عادته الزرقاء ... نهض الشعر صباحاً ... غسل وجهه .. وعاد يسكب
الحياة ...
والرماة قناصون محترفون ..
كان التراب ينتظر الضيف الأبيض .. ربما الثلج الدافئ.. وأنا أكتب
قصيدتي بالأبيض .. لكن ماذا أفعل بدمع الأرض الأحمر ?!
أتذكر عروسي التي جمعتني بها أيام عشرة فقط !! وغادرتها من غزة إلى
رام الله في مطلع أكتوبر !! شهور مرت على الوداع ذلك
الرماة يطلقون ..
والحورية التي
من عسل وقرفة تمسح دموع العيون الحمر .. ربما هو أديم "الحب في زمن
الانتفاضة"?!
لطالما اجتهدت في تفسير كلمة حب في الإسبانية
AMORأمور..وكثيراً
ما تراءت إلى سمعي مفردات موازية مثل "عمر" !! "أَمْر" بل "أَمُرُّ" !!
"أَمَرُّ"
ليس لأن الحب هو لحمة نسيجنا الشفاف !! لقيس وليلى أو رابعة العدوية!!
لم تكن الحورية في قمرة الجرافة كخليلات سائقي الحافلات في عواصم لا
تحصى .. يقهقهن ... يتمايلن بكل الغواية ..
ثمة وجدٌ هنا .. ثمة توحُّد وانتشاء ..
الرماة هنا يعشقون الرماية أيضاً ..
كأن التي في القمرة تحب اللحظة بعمرها .. وكأنها تقول : أو ليس الحب
"عمرٌ وأَمْرُ ?!
كأنها تقول وهي تمسح دموع سائق الجرافة : لا عليك بعيوني أنا!! ابصر
أنت جيداً ...!! كي يلتئم التراب بالتراب فنلتئم ..
هل كان التراب هو البدء ?!
والتراب هواء !! والتراب ماء .. والتراب نار .. والتراب إنسان ...
وزمان ..
وللتراب يوبيل مخضب بنجيع الإنسان .. والتراب أرض وإنسان وتوحد
وانتشاء ..
ويئن التراب بأصدائه الثقيلة مأساة وملهاة ..
والتراب يورث كما البريق في العيون ... وكما الملح في مياه المتوسطي
أو كما الأزرق في الأعالي .. وكما الزيت في حبات الزيتون ..
والتراب لم ينسه "الأرضيون" المخضّبون بسر الحياة من اللاحياة ...
لم يتركوه أمام الأُرضة الغازية
وكم حملوا
قدورهم وأوانيهم طبولاً ليقرعوا في وجه غزوات الجراد !! وقرعوا بمدقات
طيبتهم ومذاق ترابهم وقرعوا للثور الذي أراد أن يرتاح من دوامه الأزلي
فأراح الأرض عن أحد قرنيه فكسف ليلتهم مرة أو خسف عصرهم لساعات ..
والرماة في سوردا أو بسغوت يطلقون ? يقذفون ? لا أدري لماذا أخال "بسغوت"
مشتقة من
(Basic)ويقول الألسنيون:
(Basic)
تعني "أسس" ?
"قواعد" وربما منطلقات لا أدري لماذا تتراءى "بسغوت" لي : "سُنّة" ? "فقه"
يقودان الحياة نحو المتاحف !! وأقصد المقابر ..
اليوم 2/3/2001 .. وبعد أن اختار مستجمع الرماة وفق "بسغوت" / قمة
الخرافة "شارون" ملكاً مضافاً "لملوك الخرافة" قطع شارون أوصال المدن
والقرى الفلسطينية كي يصل إلى وطن الخرافة قادماً من خرافة وطن .
كان هتلر وفق "بسغوت" الغزاة قد استخدم أسلوب التقطيع كي يحاصر
ستالينغراد ..
في 5/6/1982 قام شارون وفق "بسغوت هتلر" بتقطيع أوصال صيدا عن صور
عن بيروت ليصل إلى صبرا وشاتيلا. ثمة من خضّب مزبلة الأوزاعي بدمه وهو يصد
الرماة ... الرماة هنا في جبال "سوردا" يقذفون ..
وأرى الثقافة والمثقفين يعبّون كل الغاز الأسود
ليس غرامشي وحده من عظايا ضوئية في عضوية الثقافة والمثقف العضوي .
هكذا يقول الذي رحّل الكلام إلى السهام بعدما صار الإيماء يعظ في
السوق ثقافة عليا ... وبعدما صار الجسد "في رقصة الموت يقتلع الموت" تقنية
النص الأسمى والعضوية الألقة.
والعضوية في مصدرها الإحيائي "فحم" والماس أعلى تجلياته، والفحم في
منشئه الطبيعي بشر وشجر !! هل كان الفحم هو البدء ?!
والفحم ماء
وهواء ونار وتراب :
قال الترابي الذي تربى التراب في ترائبه فتراءى التراب تَرباً وآبَ
ربّا
: ليس أراغونَ
وحده من تصدى للهتلرية وهو يكتب عيون "إلزا"..
وليس بول أيلور وحده من كتب الحرية على مريلة الأطفال وأشجار البلوط
.
كان "هيدجر" يراود النازيين عن السوبرمان !!
هكذا يقول الناري الذي أنار البارود وأضاف : النار لا تطفئها إلا
النار ..
كان الرماة يتسابقون في إيصال نيرانهم !!
ثمة مهنة قانية
أسعل مثل غريق ..
أتعلق بعشبة
ظننتها "خبيزة" ..!!
كانت سيارات الرحمة تقذف زعيقها قسراً وحسرة ..!!
وكانت الحورية في القمرة تمسح الدمع الأحمر ..!!
كأنني سمعتها تقول :
"هنا أرض فلسطين
.. فيها .. وعليها .. يدور صراع الحكاية"
مرةً في باطنها كأي بركان أو زلزال ...
مرة عليها كأي إعصار أو طوفان
وكأني سمعت سائق الجرافة يقول :
"هكذا هي معادلة
التراب":
حفنة منه = شلالات من إكسير الحياة
وكال حفنة من التراب على الطريق حتى تمر فلسطين إلى فلسطين !! كأني
سمعت راعياً قرب سوردا يردد
"وطني بردان
وبيلبس ثياب عجوز قديمة
وطني جوعان وينام من غير هوا مصلوب كل ليلة
وطني بيرجف مثل النجمة" .
ـــــــــ
سوردا قرية إلى الشمال من رام الله .
إن راح المغني*
بتضل الأغاني
تجمع القلوب المكسورة ولـ بتعاني**
"متواضعاً مثل
بحر … أليفاً كنخلة .. وشفافاً كسماء … لكن: البحر يغرق أشدّ المتغطرسين.
والنخلة يصعب على أشد المفترسين صعودها .. والسماء تطّل على الرعود والبروق
وهي تبتسم .."
هكذا كتبت عن الشيخ إمام بعدما التقيته في تونس (1990) وأنا الذي
عرفته وتآلفت مع صوته وأغانيه منذ أوائل السبعينات في أزقة مخيم اليرموك
للاجئين ، عندما كنا نفترش "المنفى" ونلتحف "اللجوء".
إذ ذاك كان يجيش بنا "الوطن الضائع" ونقصقصه ونكرّزه "كحبات البطيخ
في أمسياتنا الطويلات .. كان الشيخ أمام أنيساً أليفاً ومقيماً دائماً ..
ولطالما استحال خيلاً من نسيم نمتطيه مثل "الزير سالم" نحو الحلم الوطن ..
بل ربما كان "بساط ريح" حملنا إلى "الشعب الزين في عمان وفي البحرين وإلى
سايغون التي سقطت فرفعوا العلم" وهافانا وبوليفيا .. كذلك أدخلنا "القلعة
في باب الخلق" وأقرأنا على أسوار الزنازين "سهام بكلام إنسان عن مصر وعن
عمال حلوان" .. وسحبنا من أيادينا مع حاملة القلل وهي تتدلع وتسأل : "البحر
بيضحك ليه" …
عندها عرفنا أن
الحكاية ما تضحّـكش "لأن منطق العصر هو عصر الزنوج والأمريكان" ..
في يوم ماطر من شتاء تونس الدافئ .. صحوت فجراً على غير عادة ، كانت
"قيدوا شمعة ، أو قدوا شمعة" لا تزال تتملكني فلم أشعل النور .. كان بحر
تونس وادعاً يرسل رذاذ وهمسات موجه… فذهبت إليه علنّي أقضي الساعات برفقته
، ريثما، يحن وقت لقائي مع الشيخ إمام الذي رتبه لي الشاعر التونسي "آدم
فتحي" …. وحملت مسجلة صغيرة ، وكل ما أملك من أشرطة غنائية للشيخ إمام
حشوتها في جيوبي ..
في الطريق رأيت
العمال يسرحون .. وكذلك الصيادين .. كان صوت الشيخ إمام يردد .. نصحى
والناس نعسانين … موعودين بالفرح احنا .. لهذا ربما عندما ألقيت السلام على
البحر وجدته "غضبان ما بيضحكش" ..
لم يكن الشيخ إمام يقيم في أحد فنادق العاصمة .. لقد نزل في حيّ
المنار .. في شقة سكنية لأحد المدافعين عن حقوق الإنسان، حيث كان مدعوا من
رابطة حقوق الإنسان وأقام حفلاً غنائياً في الصالة الرياضية المغلقة !!
لكنها لم تبق كذلك !! حقاً إنَّ "التوانسة ذواقون" لم يمنعهم المطر أو أية
معيقات أخرى من الحضور من جنوب تونس ومن شمالها ومن غربها وشرقها .. ولم
يمنعهم امتلاء القاعة من أن يسمعوا الشيخ إمام وهم في الشارع وتحت المطر ..
لم يسمعوه فقط ، إنما ، دخلوا معه في عالم وجد وانتشاءٍ وهم يتوحدون مع
الإنشاد والكلام ...
ما أثار الدهشة
أن الشيخ إمام غنى "دور يا كلام على كيفك دور … خلي بلدنا تعوم بالنور" من
غير ميكروفون .. لقد بدت قدراته الصوتية "خرافية" من حيث القوة ومساحة
الصوت .. كذلك براعته في الانتقال من طبقة صوتية إلى أخرى إلى نقيضها ..من
أقصى القرار إلى أقصى الجواب !! "على المسطرة" … -كما يقول- دون أدنى نشاز
- بل وتفننه في تقلبات وتموجات خامة صوته ودفئها.. آنذاك كان عمره (73) سنة
!!
وآنذاك سمعه آخر "مريد له" في الشارع على بعد عشرات الأمتار!! كانوا
يستمعون بكل خلايا أجسادهم ..
وضعت ذلك ملاحظة على أوراقي من بين الأسئلة التي سأحاوره بها ..
ووضعت مقارنة مع أغنية "من غير ليه" التي كان قد أطلقها محمد عبد الوهاب
لتوه وصارت أغنية الموسم .. واتضح أن عبد الوهاب قد غنّاها وسجلها قبل أن
يصل إلى عمر السبعين..
استقبلني وهو يلبس البيجامة .. ربما أراد القول : "الحقيقة لا تحتاج
إلى ماكياج" . قبلني وهو يقول : "يا ريحة فلسطين" "ده ريحة التين والزيتون"
.. كأنني شاهدت دمعة تطفر من جفنيه المطبقين على نور البصيرة .. أخذني من
يدي كشيخ جليل وأجلسني قبالته … كان مثل أي طفلٍ أفرطت "أخيات المسيح" في
تربيته الهادئة !! كأنني أمام جبل من الهدوء أو أمام غابة زهور خجل .
كان النوم قد أخذ الصديق الشاعر "آدم فتحي" واضطررت للذهاب إلى "أوس
داوود" الطالب الفلسطيني في السنة الأولى / صحافة. كي يساعدني في الوصول
إلى الشقة التي يقيم فيها الشيخ وكذلك لحضور الحوار والتقاط الصور .
قال لي : "كان للموسيقى في الصين القديمة دور تاريخي في تغيير
البنية الاجتماعية – الاقتصادية وصل حدِّ الثورة في قلب نظام الحكم" "لأن
الموسيقى هي الوسيلة المثلى لغسل "الروح" بل وتطهيرها والارتقاء بالنفس
البشرية إلى تجلياتها الأسمى"
لهذا كان الشعب مصدر إلهامه الموسيقي وكذلك الشعر الذي يعبر عن
أحاسيس الشعب بفنيةٍ تليق بهذه الأحاسيس ... فصارت السر الذي "يعشش في
نغاغيشه" -كما قال لي- .
(لقد نزل سيد
درويش إلى الشارع واستمع لما يقوله السقا في الصباح .. وهو ما ألهمه .. صبح
الصباح فتاح يا عليم .. في "الشمس طلعت") . لهذا التحم الشيخ إمام بالشعب
بهمومه وآلامه، بأحاسيسه وأحلامه وغنى ذلك ..
كان الشاعر "أحمد فؤاد نجم" قد قبل متطوعاً أن يتناسخ فيه "بيرم
التونسي" وحط له الآمان : " آمان آمان بيرم أفندي" بل وعلى منواله صاغ
أشعاره ، السهلة ،الممتنعة ، البسيطة ، المركبة التي تغرف من العادي من
الكلام ، تحملها روح الدعابة المصرية التي تعبق بالشجن والحسرة.
لقد وحدت هزيمة حزيران بين "إمام" و"نجم" !! فوجدت مواهبهما الطفرة
مناخاً متبادلاً للإبداع في الرد على الهزيمة فتوحد الشعر والموسيقى في
خندق إعادة الاعتبار للذات التي حزَّ فيها : "خباطتنا تحت باطنا يا محلى
رجعة ضباطنا من خط النار" .
بالكوميديا السوداء اختصر مشهد الهزيمة ، عندما قدَّم لنا الضابط
العربي وهو يضع حذاءه تحت إبطه ويفرّ من المواجهة.
في الجانب الآخر، اختار الشيخ إمام مقاماً موسيقياً سهلاً وصعباً في
آن .. حتى "يموسق" الهزيمة في انتقالات نغمية تلبي العلاقة بين المأساة
والملهاة بإيقاعات شعبية وبسيطة ..
ورغم الهزيمة يلح الثنائي "إمام ونجم" على استنهاض الشعب من خلال
عمق مأساته وحكايته ... ويبعثان برسالة إلى عبد الودود المصري الصعيدي أي
الجندي المصري / العربي "الرابض على الحدود" .
لقد اهتم الشيخ إمام والشاعر نجم بمحاربة الآفات الاجتماعية التي
كان لها دور أساسْ في تهميش دور الإنسان الذي لم يأخذ دوره الصحيح في
المعركة ..
فلقد حارب السحر والشعوذة في "القرداتي" الذي يلعب القرد البهلوان
والسيرك .. كما سلط الضوء على الصراع الطبقي وانعكاساته، "هم بياكلوا حمام
وفراخ واحنا الفول دوّخنا وداخ".
ووقف طويلاً أمام الغناء الذي يستثير الغرائز ويكرس الآفات
الاجتماعية والسياسية.
ولم ينس الشيخ إمام تسليط الضوء على الانتهازيين وأصحاب الجمل
المنمقة وتجار "الثورية" .
"بصراحة يا
أستاذ ميكي أنك رجعي وتشكيكي" وكذلك "الثوري النوري الكلمنجي".
في الوقت الذي كان يؤكد فيه وجوب تكريم الشعب الزين "تكرم عين الشعب
الزين في عمان وفي البحرين" بل يجب سماع كلمة الشعب لأنه صاحب القول الفصل
"شعب عنيد يقول
ما يريد
شو ما يقول على الراس والعين"
ولا ننسى الاستياء الرهيب من زيارة نيكسون وديستان في إشارة إلى
الضغوط التي كانت تتعرض لها مصر في معركة المصير وعندما قرر "السادات"
تأسيس حزب جديد .. أطلقوا زغرودة "للحزب الجديد حيدمر الحزب اللي مات
مع أنه في
الحزب الوليد أعضاء من الحزب اللي فات" .
كانت المقامات الموسيقية السبعة تمثل المجال الواسع لإبداع الشيخ
أمام الموسيقى ومنها اشتق النغمات اللامنتهية .
قلت للشيخ إمام : إنَّ هناك إعادة وتكراراً للمقامات وللإيقاعات بما
يعطي الانطباع بأن الشيخ يكرر نفسه مع التأكيد على البصمة الشخصية المبدعة
للشيخ كملحن ومؤد لأعماله ..
وببصيرته التي
اكتشفت الخفي في السؤال وبصوت بالكاد أسمعه لشدة هدوئه قال :
"زياد الرحباني
عرض عليّ إعادة توزيع أعمالي..وزياد مبدع كبير وأستطيع أن أسميه "عبقري
الموسيقى العربية ومستقبلها " وأنا شديد الاستماع إليه وإلى مارسيل خليفة
.. ويعجبني إبداعهم وتوليفهم للآلات الشرقية والغربية .. لكنني وأنا لست ضد
التجديد والتحديث أصر على مقامات الموسيقى العربية وعلى "التخت الشرقي" ..
كآلات العزف ، ولأن إيقاع حياتنا العربية لم يتغير!! فإن إيقاعاتي
الموسيقية تتكرر.. في "جيفارا مات" كان لابد من استخدام إيقاع كربلائي
يأخذنا إلى "اللطم والندب" على الافتقاد لشخص مثل جيفارا .. وفي يا
"فلسطينية والبندقية" كان لابد من استخدام مقام خاص بفلسطين والبندقية ،
وكذلك الإيقاع الموازي في تل الزعتر "أكبر جرح وأشرف جرح وأطهر جرح في قلوب
الناس!! " كان لابد من المقام الحسيني "الكربلائي" .
وعندما لفقت تهمة "الحشيش" لإمام ونجم !! وتم اعتقالهما أضرب طلاب
الجامعة، ولّموا الكفالة من أثمان سندويتشاتهم عندها ارتجل أحمد فؤاد نجم :
رجعوا التلامذة يا عمي حمزة للجد تاني" وأبدع الشيخ إمام في الارتجال أيضاً
لم يقتصر الشيخ إمام على أداء الطقطوقات والأطوار والموشحات والنشيد
تلحيناً وأداءً ، بل ، تجلى في التطريب في "قيدوا شمعة يا أحبة" والتي قال
لي إنها "خرجت من نغاغيشي" .. استخدم فيها أكثر من مقام وأكثر من إيقاع
يبدو الانتقال بينهما سهلاً لكن عند عزفه تكمن الصعوبة !! وتكمن تجليات
ومهارة الشيخ إمام .
لم يفاجئني الشيخ إمام عندما قال : إن سيد مكاوي هو أحد تلامذته مع
أنه اختار طريقاً آخر وقصد الطريق الذي لا يخاطب العقل ولا يهتم بمتطلبات
الإنسان الحيوية ..
ومع افتقاد الغناء والموسيقى للمقومات الأساسية للأغنية مثل:
الكلمات .. اللحن .. الصوت .. يحافظ الشيخ إمام على وجوده وانتشاره بين
الأوساط الشابة وله من السحر ما يجعل فرقة جامعة بيرزيت تقدم وصلات فنية
خاصة لأغاني الشيخ إمام وبأداء مبدع.
ومع أنه كان يأمر بالثورة وينهي عن الخنوع ..ويعظ الناس بأن
"يخرجوا" إلى الحق وألاّ "يقعدوا" أمام الباطل .. فإن لقب "شيخ" عند "إمام
عيسى" لم يكن له طابع ديني .. فثمة "شيخ الفلاسفة" .. "شيخ الكلام" .. "شيخ
الأطباء"و.....
الشيخ هنا هي "المنزلة" الأعلى لدى الموسيقيين وفرق "المناجيين" كما
هي مرتبة "سيد" عند سيد درويش و"سيد مكاوي" .. لقد اكتسب "إمام عيسى" لقب
شيخ الموسيقيين بجدارة فهو صاحب موهبة استثنائية فنياً . هذه الموهبة
تحتضنها رؤية فلسفية تنظم مواقفها الحياتية بالشكل الذي لا تهادن القبح فيه
أو تتصالح معه أو تكون توفيقية قبالته ..
الموهبة .. والرؤية نشرتا على حبالٍ صوتية ، ربما ، كانت "كربونية"
..فكلما احترقت أخرجت ماساً شفافاً جميلاً وقاسياً ،بل، حميماً ومطواعاً
عند أنامل أثقلها القهر بالشجن فتنسكب "مثل شمعة تبكي وتنسبك" . هو ذا
"إمام عيسى" الذي انبعث في ريف مصر عندما كان الغزاة "سايكس" الإنكليزي و "بيكو"
الفرنسي يقتسمان الوطن العربي.
ولأن من تجليات الاستعمار الجوع والحرمان والأوبئة وسمات أخرى
مشابهة وأكثر مأساوية، فإن المرض أطفأ بصر الطفل "إمام" بعد أربعة شهور من
مولده – لكن مياه النيل التي تجري منذ بدء التاريخ أشعلت فيه "البصيرة"
التي وصلت قبسات نورها إلى ما بصرّ زرياب والحسن البصري في بصرة العراق ،
وإلى بصرى الشام ودلمون بل إلى "ابن يقظان" .
الشيخ إمام موهبة استثنائية تحتضنها رؤية فلسفية لا تهادن القبح أو
تتصالح معه..على استعداد لدفع ثمن مواقفها .. موهبة خاصة وخالصة انتشرت على
حبال صوتية خاصة ! طالت سعتها وطناً يمتد من محيطٍ إلى خليج .. وبأنامل
أثقلها القهر بالشجن انسكبت أنغاماً وألحاناً لتصبح أحد مكونات الشخصية
الثورية المعاصرة في الوطن العربي .
نعم .. لا أعرف
البالوع ثانية
وكمخرج للنقاش الطويل .. اقترحت على(انخليس) مسؤولة قسم الشرق
الأوسط في(
El - pais)الصحيفة
الرسمية الإسبانية أن يكون (البالوع) وجهتنا .
في المدخل الشمالي لمدينة البيرة، والذي حال إطلالتنا أسمته "أنخيلس
إسبينوسا" : "الأرض المحروقة".
البرد الجبلي بلسعاته الحميمة يعطي لرائحة كاو تشوك الإطارات
إيقاعاً خفيفاً. ربمالمعركة قد دارت هنا قبل قليل .
خمسة أطفال فقط .. هم الذين يمنحون المكان حركته .يشغلون كامل فضائه
من خلف ما "يعتقد" أنه متراس، ربما كان ذلك أمنية المظلوم في أن تمنع "ريشة
من قصدير" القذائف عنه . لهذا يجثم الأطفال الخمسة وراء ما يؤتى به من
مقابر السيارات .
- أي أطفال هم
هؤلاء الذين يشاغلون الجنود منكشفين مثل زرافات، ويتقافزون كأيائل في يوم
ربيعي ?! هكذا سألتني "أنخليس" .
لقصر قاماتهم الفيزيائية .. أكاد لا أرى حركات إنحناءاتهم وهم
يلتقطون الحجارة من "الأرض المحروقة" ، كأنهم حصادون مخضرمون، وبحركات
سريعة "يلقمون" المقلاع بما قطفت أياديهم.. ويقذفونها باتجاه "الغرب" ، حيث
الجنود يتمترسون على مشارف مستعمرة "بيت إيل" أي "بيت الرب" بالعبرية .
كانت سرعة "المقلاع" في يد أحدهم تحاول جذب جسده معها، لكنه وهو
يتشبث بالمكان ، يبذل قصارى جهده ، لتبقى أقدامه راسخة رغم ردود الفعل التي
يحدثها الدوران على جسده الغض، فيبدو مثل راقص صوفي على إيقاع النوبة..
قلت لهم :
- مرحبا شباب
...
لكنهم افرنقعوا ... وبعيون كتلك التي لديكة _(ليست ديكة ماركيز) -
أخذوا ينظرون إلينا .. فيما تنظر الإسبانية "انخيلس" إليّ والوجل يملؤها .
كانوا كأنهم عمال مناجم وقد " تكربنت " وجوههم وقبضاتهم. ومثل
أعراف الديكة كانت آذانهم المحمرة ترتعش، ليس من برد البلاد الحميم فقط
..فقد بدت كمجسات أو "رادارات" أيائل برية تدور في كل اتجاه..ماذا بين
الأيل والإيل...?! تساءلتُ .
ربع ساعة أو أكثر احتجت لطمأنتهم .. أخرجت كل أوراقي الثبوتية !!
وكذلك وثائق الصحفية "اسبينوسا" !! ولم يهدأ "الزئبق الأحمر" في عيونهم .
بخطوات "جنرال" لكن حذرة تقدم أحدهم نحونا ، وبدأ يعدد شروطه لقبول
إجراء اللقاء الصحافي :
أولاً : شرط أن لا يتم تصويرنا ..
OK
ثنى بُنصر أصابعه التي يرتبط المقلاع بخنصرها .. ثم ثنى الوسطى ،
وأضاف شرطاً ثانياً :
- لا نعطي
أسماءنا الصريحة ...
OK
ثنى السبابة ، وقال : لا يوجد لدينا وقت نطيله في الوقوف معكم في
المكان نفسه، وأشار إلى جهة الغرب باتجاه فندق(City--in)هناك حيث خمسة جيبات عسكرية مصفحة يتمترس فيها الجنود المدججون..
OK
اتفقنا:
"أنا اسمي محمد
علي كلاي" .. "أنا اسمي عادل إمام" أما الثالث فقال : "أنا اسمي حبّ
الرمان" - فيما الشهيد "محمود العمواسي" الذي استشهد في اليوم الرابع
لزفافه "تقمص" الرابع فيهم اسمه .. أما الخامس فقد اتخذ اسم "عمر" الطفل
صديق دراسته، وقد أصابه الجنود بطلقاتهم قبل يومين .
قصر قامة أكبرهم تذكرني بهامة "علي بن أبي طالب" وكذلك قبساته
وأصغرهم يردد:
"الحق !! نريد
استرجاع الحق" وتابع :
-أريد معاقبتهم"
(كأنها قضية شخصية بينه وبينهم)!!
"نريد العودة
إلى أوطاننا" (أنه لا يعترف إلا باللّد وطناً له) !!
مرة قال "فوستردالس" وزير خارجية أمريكا عن كارثة 1948: "دعوا قضية
فلسطين للزمن ... فالكبار سوف يموتون والصغار سوف ينسون"!!
أدار "الصغير" رأسه الكبيرة باتجاه الجنود،وأخرج زفرة عنيدة ، سألت
"انخيلس" :
"هل يوجد جندي
محدد كهدف لحجارتكم" ؟؟
نريد الحق:
من أيٍ فيهم؟
منهم جميعا....:
في أي صف أنت يا "عمواسي"؟
السادس ابتدائي .:
- وأنت يا حب
الرمان؟
:في السابع
ويصوت مشترك أجاب "محمد علي كلاي" و "عادل إمام" و "عمر":
- نحن في الثامن
وفي صف واحد .
"والد "محمد علي
كلاي" استشهد قبل سنوات تاركاً "أمه" تعمل في التدريس كي تعيل الأطفال
الستة، حيث "كلاي" يحمل الرقم الخامس بينهم ..و "عادل إمام" كان يحبو عندما
اعتقل "الجنود" والده، "فمشت" إلى أمه مسؤولية شجيرات الزيتون على تلال
قرية بجوار رام الله .. وليكون المحصول الموسمي مصدراً وحيداً لستة أشخاص
هي العائلة التي أصغرها "عادل" .
أما "عمر" فلقد
رأى نور الحياة الأول في مدينة القدس فيما كان والده منشغلاً في تصليح
مواسير المياه ،علَّ أمه في البيت تربي خمس شقيقات جاءهم "عمر" كطفل أمنية
" .
ما الذي يجمع بين كوميديا "عادل إمام" وتراجيديا الشهادة في "العمواسي"
(الذي وجد فيه أحدهم جعفر طيار آخر)
الملاكم العالمي ..والزنجي الذي رفض الخدمة في حرب فيتنام ، واعتنق
الديانة الإسلامية ، وهو الآن رسول لشفاء مرضى الشلل الارتعاشي الذي أنهكه
...
هذا الـ "محمد علي كلاي" ..هل ربط "الأطفال" بين قوة لكماته الخارقة
وسيف الخليفة "عمر" ؟؟! وهل لكل ذلك .. للكوميديا .. للتراجيديا .. وللقوة
علاقة بجمالية "اللؤلؤة" في حبات الرمان واصطفافها العادل ؟؟
هل العبقرية طفولة في جوهرها ... ؟؟!
أتذكر ما قاله لي صديقي الجنرال العراقي "سيف الدين الجراح" (وهو
شاعر وقاص وناقد) عن تقنيات المعارك وإبداعات "القائد" التي تصل "حد
الجنون" في تقدير الموقف .
عندها قلت له : "الجنون طفولة دائمة تتلبس صاحبها" .
ضحك "الجنرال" بطفولة بالغة وتابع حديثه : عندما كان نابليون برتبة
نقيب آمراً لبطارية مدفعية .. وقد خرج عن القوانين والأعراف العسكرية ..
كان لزاماً عليه أن يضع المدفعية في بقعة مكشوفة لنيران العدو يقال لها
منطقة ساقطة عسكرياً .. كان مضطراً لتأمين الكثافة النيرانية للقوات
الفرنسية المحاصرة من قبل "البروسيين" آنذاك . لكن أفراد طاقم البطارية لم
ينفذوا أوامره بالالتحاق بالمكان الجديد .. لقد ظنوا أن آمرهم قد مسَّهُ
الجنون .
قلنا الجنون طفولة ... ونقول الجنون هو تهمة المألوف الجاهزة للخارج
عن الموقف المألوف !! وكانت الضحكات الطويلة جداً بيننا .
"أخذ نابليون
قلماً وورقة وكتب : هذه مدفعية الرجال الذين لا يهابون الموت" ...
وبحنق طفولي وضع نابليون العبارة على المدفع وبدء بتنفيذ ما أبدعه
.. (لقد بدأ صديقي الجنرال الشاعر يستعير تعابير الطفولة)... ويتابع بعد أن
تجعله القهقهات يقطع تواصله لإكمال الحديث .
"لم يجد رجال
نابليون خياراً آخر سوى الالتحاق بالمدفعية الخارجة عن القانون بـ "تقدير
الموقف الميداني" .. لتكون تلك "اليافطة" حجة لترقية "نابليون" من "نقيب"
إلى "جنرال المدفعية الفرنسية" !! قافزاً درج الرتب .
هل كان "جنونه" أو"طفولته" سبباً في غزوه العالم ؟؟!
عليّ أن أحافظ على دور الببغاء ، لكن بأكثر من لغة !! فكثيراً ما
يضطر المضطهدون أن يؤدوا أدوارا كثيرة في "تعايشهم المؤقت" مع الاضطهاد
مرة لهم القرد مثالاً للتهريج .. وثانية الحمار في تحمل الأسفار ..
والآخر كالثور في الهيجان والمناطحة ..ومرة الحوت أو الأسد كملوك للبحر أو
للغابة .. وأحياناً كثيرة كالثعلب في الدهاء .. لكن أبداً ما كانوا كالذئب
في الغدر ...
ينتابني شعور خفي بالنحيب على طفولتنا المغدورة في أزقة مخيم
اليرموك للاجئين ما بين الطين والطين !! في الشوارع وفي أشباه البيوت ..
أتذكر كيف ذهبنا في العاشرة من العمر إلى معسكرات الأشبال ، وكأن
البلاد المفقودة قد تكورت في سرائرنا، فصار كل منا جبلاً منها !! لهذا
بالضبط عجز "الضباط" عن ضبطنا ...!! أتذكر الطفل الذي يقف أمام الدبابة
الصهيونية ، ويهش عليها بحجره !! هل كان يظنها دابة ضالة -(دابة ? دبابة ?
ذبابة !!) أو سيارة كبيرة ?! أم أن طفولته كانت مثل جبل يشل تقدمها !!
أي أطفال هم هؤلاء العصيون على الفهم حتى من قبل ملكة ؟ أومن جنرال
من "ملوك إسرائيل"
يبدو أن الببغاء قد "شرد ذهنه" بعيداً ، فتسألني الإسبانية : ما بك
أحمد ?!
أعفيها من إجابتي .. وأطلب منها أن تتابع الحوار..وبلطف "طفولي"
تعتذر "أنخيلس" ، وتبدي استعدادها للمغادرة إن كنت على ما لا يرام ...
وأتابع الحوار بدلاً منها كتأكيد على ما يرام عندي :
- من أين أحضرتم
هذا ?! وأشرت إلى المقلاع ...
وبأصوات "رجولية" وحازمة قالوا جميعهم :
- صنعناها
بأيدينا.. قطعة من جلد نقصُّها بالمقص أو بالسكين خارج المنزل .. نفتح بها
ثقبين .. ونضع هذه الخيوط أو أحبال المرسى الصغيرة في فتحتي قطعتي الجلد
بشكل متوازن .
ألم يكن "ذو الفقارين" هو الاسم الحركي لسيف علي بن أبي طالب?!
- أي المقاليع
يوصل أكثر .
أخرجت المنافسة منهم كل شفافية الطفولة ، وعادوا تلاميذ على مقاعد
الدرس قبالة مدرسهم ، يرفعون سباباتهم ، ويتسابقون في قول: "أنا ... أنا
... أنا .... أنا ... أنا ... أستاذ" .
ولماذا اخترتم هذا الطول للخيوط ؟؟
1كلما كانت
الخيوط أطول .. كلما وصلت الحجارة إلى مسافة أبعد.. ماذا بينهم وبين
الفيزياء !!
وأسألهم : هل
درستم نيوتن ؟!!
يقول كبيرهم : "صاحب التفاحة " أم "ذاك الذي غطس في "بانيو" الحمام
?! لتعود ضحكاتهم الحلوة التي تكشف عن أسنان كأنها ضفاف ثلج وأسرار .
ألم يكن التفاح يسّاقط منذ أن نبت التفاح لأول مرة ?! في الجنة؟؟؟
وعلى الأرض ؟؟ ألم يشاهد تساقطه عشاق كثيرون للتفاح ؟مزارعون ؟ومتبادلو
قبل ؟
وحدها براءة الطفولة وسذاجة الإبداع عند نيوتن التقفت سقوط التفاحة
!! أو حتى غطس أرخميدس ..لابد لكليهما أن قهقها بطفولة حقيقية ... أحدهما
وهو يطير مع فكرة الجاذبية .. وثانيهما مع الماء المزاح المعادل لوزن الجسم
المغموس فيه ..
أي أطفال هؤلاء "كلاي" ? "عادل إمام" ? ? "عمر" (جعفر الطيار
العمواسي) ? "حبّ الرمان"؟
المدينة تواصل دوامها الصباحي في مؤسسة الحياة ، يكتب فيها صديقي
الشاعر "محمود هشهش" عن "الحب في زمن الانتفاضة" ، وهو يردد "للحب وقت
وللموت وقت" ، بينما ينتظر الشيخ" أذان الظهر ليصلي قبل انضمامه إلى "البالوع"
كساحة مواجهة وحيدة لتواءم المدائن بين رام الله / البيرة ...
ثمة أصدقاء آخرون ... ثمة مدن صديقة وشقيقة يتعاطون الحياة فيها ...
فيما الطفولة هنا .. يدلقون حياة جديدة ..
ألم يخرج الطفل
علي بن أبي طالب إلى ضفة الخندق لـ "عمر بن وُدّ العامري" الذي كان "يتمختر"
على الضفة الأخرى !!
أية طفولة هذه ?! - هكذا تسألني الإسبانية -
كانت إجابتي بالإسبانية:
No se
أي لا أعرف
نعم لا أعرف
حياة القوة .. وقوة
الحياة
البالوع.... كذلك
عندما تصل النار إلى أقوى لحظات توهجها تكون تلك اللحظات في الوقت
نفسه هي لحظات بداية انطفاء النار ...
لا أدري إن كان "باشلار" قد عالج ذلك في "فلسفة النار"? لكنني قلت
ذلك إلى مراسل التلفزيون التشيلي في الطريق إلى ميدان متراس !! شمال مدينة
البيرة . أردت القول : إن أوج القوة هو بداية نهايتها ... وإن استعراض
الاحتلال جبروت قوته وممارستها على أوسع نطاق !! ما هو إلا محاولة للفرار
من التآكل الداخلي إلى الخارج "بتمظهرات" القوة التي دخلت العد العكسي وتلك
هي ربع الساعة الأخيرة من الزمن الاحتلالي ...
صديقتي (سارا) الأرجنتينية المحامية ضد العسكرتارية الديكتاتورية
البائدة في (بونيس إيرس) قالت لي :
" إنها تقبل
تقمص جنرالات إسرائيل دور الضحية فقط عندما يعترفون أنهم ضحية غطرستهم
وجهلهم لهزيمة حياة القوة أمام قوة الحياة ...
في جنيف 1971 ، سأل صحفي أمريكي كبير مفاوضي بلاده عن الموقف في
المفاوضات الأمريكية الفيتنامية فجاءته "نغمة" : "نحن الأقوى" كإجابة
مقتضبة ووحيدة ... لكنها أغنت مقالة تاريخية بدأها الصحفي بسؤال ساخر : إذا
كنا نحن الأقوى، فلماذا أتينا إلى جنيف؟؟! ويختتم مقالته بـ "يبدو صحيحاً
ما يقوله الجنرال الفيتنامي "جياب" : إن الاستعمار يشبه الدابة الغبية التي
لا تعود إلى إسطبلها إلا بالضرب وأحياناً المبرح منه" .
البقرة
_:ألو دكتور
=: نعم
_:البقرة يا دكتور
=:أي بقرة؟سألت
_: لقد فرّ الطبيب البيطري, وبقيت الأبقار من غير دكتور..
ومع أنني ومنذ أن دخل شارون إلى المسجد الأقصى إلى اليوم وأنا عاطل
عن العمل, لهذا وجدتني أسأله:
=: ماذا تريد مني أن أفعل؟
_:أن تشوف البقرة يا سيدي
=: وأين هي البقرة؟ من أين تتكلم؟
_:أنا هنا في البلد
=: في أي مكان من البلد؟
_: يعني مش بالتحديد بالبلد, بجانب البلد
اذكر مرة عندما كنت في طريقي من البلدة إلى المدينة حيث تنتشر
المستوطنات على جانبي الطريق, رأيت بقرة بجوار الطريق تنتفض ويخرج الزبد
من"بوزها". فاستفزتني مهنتي كطبيب بيطري.. أوقفت سيارتي إلى جانبها, وأنزلت
حقيبة العلاج وذهبت باتجاه البقرة.
وفي الأثناء جاءني شخص كأنه كتلة من الشعر, بصعوبة بالغة أمكنني
رؤية عينيه وسط كثافة الشعر الطويل, ولم أر فمه أو مصدر صوته, انه يشبه
كثيرا الصوت الذي اسمعه الآن
وأقول لنفسي: هل يعقل أن يكون محدثي أحد المستوطنين؟.. فأغلق الهاتف
يعاود الاتصال و فأغلق الهاتف
فيعاود الاتصال, فأغلق الجهاز الخليوي, لكنه يتصل على الهاتف الثابت
في البيت
اللعنة ما انفك يطاردني
وبانفعال يقترب من النزق أرد عليه:
ماذا تريد؟
_: البقرة يا سيدي
لكن ذلك الشّعور كان فظا وقاسيا وكاد أن يفرغ مسدسه برأسي وأنا
أعالج البقرة على جانب الطريق سابقا..
_:سأدفع لك الكثير من المال, فبقرتي "معشرة" وستعطيني توأما من
العجول سيعطيانني فبما بعد توائم كثيرة.. فأغلقت الهاتف..
لم أصدق ما أسمع..فبعد كل الأرواح التي أزهقها المستوطنون بدم بارد,
وبعد أن قطعوا أرزاقنا, يطل علي الآن واحد منهم ويريدني أن أذهب لأعالج
بقرته...
سألتني والدتي:" خير يمّا"؟ فردت عليها زوجتي:"انشا الله خير ونشتري
حليب للولد"
الهاتف يرن ثانية
كم هو ملحاح؟؟؟
إنه يكاد يبكي وهو يقول:" سأدفع لك أموالا كثيرة يا دكتور, وسأحضر
بسيارتي لآخذك من منتصف الطريق, لا تنس أننا جيران..
قلت له: كومة حجار ولا هالجار" وسحبت خط الهاتف. .
كيف سأذهب إلى المستوطنة؟ ماذا سيقول عني جيراني ؟سوف يذاع ذلك في
المسجد...
كان وجه زوجتي مليئا بالمرارة وهي تنظر إلى طفلنا. أما أنا فأخذت
أنظر إلى الصورة المعلقة على الجدار إلى عيني والدي... وأراهما كأنهما
تدمعان.
كانت رصاصات المستوطنين قد فقأت إحدى عينيه عام 1996, وهي الرصاصات
التي قتلته, أتذكر كم كان والدي ممتلئا بالمحبة والحكمة والشجاعة رغم أنه
كان أميا لا يقرأ ولا يكتب, ولقد بذل كل جهده في سبيل أن أكون طبيبا" يرفع
رأسه بين الناس"..
نظرت إلى أمي فقالت:"يقطع دابر هم همّ وبقراتهم وشيكلاتهم لجهنم"
قالت زوجتي بامتعاض:" عندنا زعتر وعندنا زيت" وحملت يوسف طفلنا
ودخلت به إلى غرفة نومنا وسرعان ما بدأ بالبكاء.
عادت زوجتي وهي حانقة تقول: الولد راح يروح من بين أيدينا..
وتابعت:" أنا أيضا دكتورة بيطرية وقد أقسمت يمينا أن أعالج كلّ الحيوانات
على اختلاف شكلها ولونها ونوعها وصوتها.. وعليك أن لا تنسى ذلك في أي ظرف..
اعقل وتوكل أو اعقل أنا" وأعادت وصل خط الهاتف..
قالت أمي لا تذهب سيقتلونك ولقد وصلنا رصاصهم إلى غرفتنا (وأشارت
إلى الزجاج المكسور والى خزانة الثياب المصابة بالثقوب..
قالت زوجتي:" سـ
رن الهاتف
فتابعت زوجتي: سيدرككم الموت ولو كنتم في أبراج محصنة" يرن الهاتف
قالت أمي:" ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة"
الو نعم إيش بدك"
_:" دكتور سأدفع 1000 شيكل وسأعطيك كيس حليب للبيبيي ! جيران"
=: كومة حجار ولا هالجار
_:" المشكلة إنه إحنا وإنتو منحب حجار البلد!!!
=: عن أي بلد وعن أي حجار بتحكي!!! عليكم لعنة الحجار والبلاد يا
لصوص الأوطان!!!
_:"طيب خلينا بالبقرة يا دكتور طيب! سأزيد المبلغ 5 شيكل"
قالت زوجتي التي كانت قد وضعت أذنها على سماعة الهاتف:" أنا بروح..
قلت:2000 شيكل
قال:ألف وعشرة شيكل
قلت: لا
قال:"وكيسين حليب للبيبي
حملت زوجتي حقيبتها
فوجدتني أحمل حقيبتي التي لا يوجد فيها أكثر من إبرة وبعض الأدوية
وأخرج من البيت.
صوت أمي وزوجتي وبكاء طفلي وصورة أبي ولسان الجيران.. كل هذا
يطاردني .. لكنني صعدت سيارته وكل ذلك يطاردني..وبقي يطاردني إلى مدخل
المستوطنة,
اثنان من الشّعوريين كانا يستقبلاني, وأقلاني بسيارة ثانية إلى مكان
يشبه القصر.لم أجد بجواره إسطبلا أو مزرعة أبقار, ولم أشم رائحة تدل على
ذلك و لا أدري إن كان حدس أمي سيصيب!!!
كان الشّعور يبتسم ويقول لي تفضل تفضل
خرج أربعة آخرون كأنهم توائمه وقالوا لي: تفضل يا دكتور.. وخرج فيما
بعد اثنان..
قلت في داخلي" أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله"
اقتادوني من يدي وبدأت أدخل القصر المذهل.. كلّ شيء كان محطما:
الأثاث, الزجاج والفوضى في كلّ مكان
تذكرت عيني والدي ووجدت أمامي أثنين يشبهان الآخرين الذين استقبلاني
عند الباب ولم أتمكن من التفريق بينهم.
أخذ أحدهم الحقيبة وامسك الآخر بيدي اليمنى وقال: أدخل من هذا الباب
سمعت خوارا شديدا وصوت تحطم زجاج ..
اهتزت الغرفة ثم صمت كلّ شيء.
عندما فتح الملتحي الباب, دخلت فوجدت كائنا مستلقيا على ظهره نصفه
الأسفل بقرة ونصفه الأعلى على هيئة جنرال يخرج الزبد من فمه.
عدت إلى الوراء من شدة الهلع.. فأطبق جميعهم عليّ: قالوا نريدك أن
تنظف الزبد..
في المشفى التي لا أعرف كيف وصلتها وأنا مضرجا بالعضات والركلات..
في المشفى رأيت زوجتي مضرجة بالدماء وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة...
كان القصف اليومي قد طال بيتنا.
رام الله20\12\2000
|