مطار شارل ديغول- باريس
يوميات
18سبتمبر 2004
يا إلهي كم أكره المطارات !
الحقيقة، أنا لا أحبّ السفر. حياءً، كنتُ أمثل وأدّعي أني من محبّي
الترحال، اكتشاف أمكنة جديدة، التعرّف إلى بقاع وثقافات وشعوب أخرى. لو لم
ترفسني الحربُ في مؤخرتي لما خرجت، لما غادرت بيروت إلى باريس...
ما عدتُ أذكر بالضبط متى جاءني هذا الكشفُ فرأيتُ كما يرى الرائي في
لحظة تجلٍّ، أني لستّ من أهل التجوّل والتجوال. وقد احتاجني الأمر شجاعة لا
توصف لكي أتقبّل في نفسي علّتَها هذه، وشجاعة أخرى أكبر منها لكي أجرؤ ذات يوم
على الاعتراف بإعاقتي تلك أمام آخرين، فأجاهر بأن السفر ليس هواية لديّ.
الواقع، باستطاعتي الجلوس في مكانٍ بعينه، إذا خاطب قلبي، إذا أنست
إليه روحي، مئات السنين. هذا ربما لأني لا أرى من الأمكنة سوى ما يروق لي من
التفاصيل. ما يزعجني، أمحوه بسهولة عجيبة، أسهو عنه، أحيّده فيختفي من أمام
ناظري. أحفر أنفاقا وهمية، أشيّد ديكورات وهمية، وأسير حيث لا يسير الناس، أرى
ما لا يراه الآخرون. لو قمت بعملية حسابية لقلتُ إن نصف حياتي على الأقل مضى
وأنا في حالة غياب.
في طفولتي ـ تروي أمّي ـ كنت أمضي ساعات طوال أمام المرآة أخاطب
شخصا فيها. ثم غادرتُ المرآة إلى زاوية بين كنبتين في الدار، أختفي فيها إلى أن
يفتقدوني فينادون عليّ لأخرج من جحري وأعودَ إلى الحياة. وحين صار ممنوعا عليّ
الاختفاء، رحتُ أجلس إلى النافذة أتأمّل أنتينات التلفزيونات التي كانت تنبت
بفوضى عجيبة على سطوح البنايات المجاورة، أتنقل فوقها كي أقفز منها إلى
السماء... اليوم، أقصى أمنيتي هو أن أشيخ أمام نافذة تطلّ على البعيد، على مدىً
مأهول بخضرة شاسعة تحملني إلى الموت بهدوء، أو تحمل الموتَ إليّ بغبطة من جاء
لاصطحاب صديق عزيز...
هذا لا يعني أني لا أسافر، بل أني، وبالتحديد مؤخرا، صرتُ كلما دخلت
مطارا، شعرتُ بندم عظيم تبعه سؤالٌ يتردد صداه في جنبات نفسي إلى ما لا نهاية:
ما حاجتكِ إلى السفر وأنتِ تسافرين في رأسك ما طاب لك ؟ ولأني أعرف خطرَ
الاستغراق في مثل تلك الأفكار، تراني أحارب ذاتي وأجبرها على الخروج والتنقل من
حين إلى حين. أقول لها سافري، فالسفر يفتح العقول، يوسّع الرئتين، يعمّق النظر.
سافري وتفاءلي، فهذا هو ملحُ الحياة ! وإن عاندتْ ومانعتْ وأصرّتْ، شهرتُ سلاحي
في الدمار الشامل وقلتُ لها بلؤم قاتلٍ لئيم : ألستِ تعلمين أن كاره السفر
والترحال والاكتشاف في عصر العولمة هذا، هو كاره للحداثة، للتنوّع الثقافي،
لفكرة القرية الكونية، لمبدأ المواطنة في العالم، لمساواة الأجناس والأعراق،
كاره للأجانب والأغراب والسود والعرب واليهود والـ... ؟
هكذا أراني، من حين إلى حين، أحيا وأتصرّف كالآخرين. أوضّب حقيبتي،
أقطع تذكرة سفر أو أقبل دعوة إلى مؤتمر أدبي. إلى أن ألج مبنى المطارَ، إلى أن
يحضرني "بسّوا" قادما من البرتغال خصيصا لأجلي. إلى أن يغمزني بعينه تحت قبعته
الرمادية، يميل برأسه فوق قامته الفارعة النحيلة مبتسما، عاتبا، كأنما يقول لي:
إلى أين ؟ قومي، هيا بنا نعود !
نجوى ! أنهر ذاتي مقطبة الجبين. إنسي بسّوا والتفتي إلى الآخرين !
أنظري كم هم سعداء وقد ارتدوا ثياب الأحد وكأنهم مقبلين على أجمل الأعياد ! ما
زال أمامنا ساعة ونطير، ستون دقيقة وتدخلين الطائرة وتنتهي كل هذه الأفكار. لن
تفعلي بي الفعلة نفسها مرتين. لن تعودي من المطار كما فعلتِ ذات مرة بعد أن
أعددتِ مداخلتك وودّعتِ أصدقاءك. لا تقولي لي إنه ذنب الموظفة التي تلكّأت في
منحك بطاقة السفر. خمس دقائق، هل تسمّين هذا تلكؤا ! كان السينمائي "م. س."
واقفا بجانبك.رآكِ تتراجعين. لم يصدّق. لم يفهم. ظنّها نكتة. إلى أن ودّعته
طالبة منه الاعتذار من المنظّمين... تذكري أنك التزمتِ مع أهل فرنكفورت ومع أهل
غوته، وأنك ابنة أصل وصاحبة أخلاق ! ثم أنك هناك للكتابة، وباستطاعتك البقاء
وحيدة ما شئت... هيا، أغلقي هذا الدفتر اللعين وتذكّري التفاؤل ! إبتسمي وقومي
بنا نتفرّج على واجهات المحلات في هذا المطار القبيح...
لا أحب الأمكنة بشكل عام، وإن أحببتُ بعضَها فلأنه من النوع الذي
يسمح لي بالغياب، بالذوبان فيه، بالتبخّر والاختفاء. مَنْ كان على ضفّة الحياة،
لا تعنيه الأمكنة كثيرا، لأنها، مهما تنوّعت واختلفت وتباينت، تبقى بالنسبة
إليه، هو الجالسٌ على الضفة أبدا، المقيم على تخوم الهامش حتى القيامة،
واحدة... لا أدري من أين يأتي كسلي هذا أو ما يخفيه. لا أدري إن كان كسلا أم
خوفا، أقصد الخوفَ العاطفي من التعلّق بالأشياء. لذا تراني ربما أهرب أكثر مما
أسافر، والمعنى أني ارى السفرَ مغادرةً لمكان أكثر منه توجّها إلى آخر...
يخرج صوت "مذيعة المطار" من مكبّرات الصوت: يرجى من السيدة "ن.ب."
التوجه فورا إلى الطائرة... تركض "ن.ب." داخل الأنابيب الزجاجية العملاقة
المعلّقة في الهواء ويكاد قلبها يقفز من صدرها رغبة باستباقها قبل فوات الأوان
!
"لوفتانزا" - في الطريق إلى فرنكفورت
أوّل ما لاحظته لدى دخولي الطائرة، لاهثةً سابحةً في عرقي، هو
المقاعد الرمادية الجلدية (برافو لوفتانزا) وما عليها، أي الركّاب. أقسم
بالعليّ العظيم أنها ليست نكتة وأني لست أبالغ حين أقول إن 90 % منهم على الأقل
كانوا آسيويين (أنتِ من آسيا أيضا، لا؟). آسيويون من الشرق الأقصى كي لا أقول
من اليابان، ذلك أنه غالبا ما يصعب عليّ التمييز بين الكوريين مثلا
واليابانيين. وخطر لي فيما أنا أعبر أسراب الركاب أنهم مجموعة متجانسة أو ما
يشبه وفدا، غير أن ظني جاء في غير محله إذ لحظت من ثم أنهم قّلما تخاطبوا أو
بدت عليهم أماراتُ ألفة ومودّة وسابق معرفة. ها أنذا إذاً في باص، أعني في
طائرة، متوجهةً مع رفاقي من أهل اليابان إلى المدينة نفسها، فما عساها تحويه
فرنكفورت هذه مّما يجمعنا على اختلافنا أو يهمّنا، أنا وهم ؟
صوت المضيفة يلغو بالألمانية والفرنسية والإنكليزية. الركاب يتحدثون
بلغاتهم المتنوّعة(هنالك 10 % ممن أجهل جنسياتهم مع تقديري أن يكون 7 % منهم
ألمان). وأنا أفكّر بالعربية (أعتقد أني الوحيدة). حمداً لله أن التكنولوجيا لم
تتوصل بعد إلى قراءة الأفكار، وإلا لكنتُ الآن حتما موضع شبهة أو استغراب أو
استنكار: عربية، في طائرة يابانية (!)، وفي هذه الأيام ؟ لا هذا كثيرٌ مما يفوق
كل احتمال !
تضحك المرأة التي بجانبي. المقعد الذي بيننا فارغ ـ يا لحظي الرائع
أنا التي تكره حتى الموت احتكاك الأجساد بين غرباء ـ وضعتُ فيه حقيبة يدي،
سترتي وشالي الأخضر الصغير. أرتديتُ أخضر اليوم. أجل، أخضر للتفاؤل. وأخضر كي
يحلو المشوار. تلتفت المرأة إليٌ مجددا. ما زالت تضحك. ما الذي يضحكها هكذا ؟
هنالك ابتسامات تخيفني، ضحك يصيبني بالهلع... عيناها زرقاوان. يكفي أن يكون
هناك فراغ صغير بين سنيّها الأماميين لكي تكون ممن يُصيبون بالعين. هذا
مايعتبره الناس عندنا دليلا قاطعا على "عين حاسدة شريرة" : "عيون زرق وسنان
فرق" ! علامَ تراها تحسدني وهل فيّ ما يستحقّ حسدا ؟ في يدها كتاب. تقرأ وتبتسم
وتلتفت إليّ. مثلي أخرجت ورقة وراحت تكتب. هل تعلم أني أكتب عنها وأنها للحظة
أخافتني ؟
ها نحن نطير على ارتفاع لا يبدو أنه سيزداد، ارتفاع يبقينا على
مقربة من الأرض. أعتقد أنه قصر المسافة: ساعة وعشرون دقيقة ما بين فرنكفورت
وباريس. إنها المرة الأولى التي أطير فيها على هذا العلوّ "الإنساني"، والأرض
تمضي في الأسفل مفروشة بلوحة تكعيبية عملاقة. أحشر وجهي في زجاج الكوة الصغيرة.
يكفي أن أغلق عينيّ قليلا حتى يختفي الإطارُ مع تفاصيل أخرى في الطائرة وحتى
يتبدّى لي أني في كرسي طافٍ في السماء وأنا عليه أنظر من عليائي إلى الأرض.
كالربّ !
أفكّر أني والأرض ـ في تنوّعات الأخضر على اختلافها يجاورها
القرميدي والأصفر الترابي والقمحيّ ـ نليق ببعضنا، وأنهم لو ألقوني الآن من
الطائرة، لاندمجتُ تماما في ألوان الطبيعة... تلك هي لعبة التمويه... أقول هذا
فإذا بالأرض تكتسي فجأة قماشا مرقّطا كذاك الذي تُصنع منه ثياب أهل الظلمة،
أعني بذلات المقاتلين...
ألبط هذه الفكرة ـ تفاؤلا ـ وأميل برأسي يمينا وقد أتت المضيفة
الشقراء لنجدتي وهي تسألني بعينيها الزرقاوين: كوفي أور تي ؟
في الأسفل، نهر صغير يتعرّج ويتلوّى كجسد ثعبان، أو كعود فحم تجرّه
يدُ طفلٍ على الورق أمام عتبة بيت يعلوه قرميد وتحيط به أشجار. هكذا يرسم
الأطفال بيوتهم، حتى ولو كانوا من سكّان الأكواخ أو من المتشرّدين ونزلاء
الأرصفة... وذاك رأس حصان مقطوع مقلوب على قفاه... ياه، يد ! لكن، اين
الذراع... ها أنا أرى "غرنيكا" عملاقة مبعثرة على الأرض... ألا تكون فكرة هذه
اللوحة قد جاءت بيكاسو ذات يوم في الطائرة، وهو في لحظة شوق مُحرِقة إلى بلاد
مستحيلة، إلى وطنٍ بعيد ؟
فرنكفورت، ها إني
في حضرتك أخيرا !
19
سبتمبر 2004
الواحدة والنصف ليلاً
ولمَ لا أقول: ها أنتِ في حضرتي أخيرا !
ألا يحقّ لي وأنا منذ أشهر أهيَئ نفسي وأستعدّ ؟ أشحذ أسلحتي
وأتأهّب وأكرر: ينبغي لي أن أباشر حمية، أن أبيد عدداً محترما من الكيلوغرامات
لكي أكوّن في ذهنك الصورة الأقرب إلى روحي. أريد للقائنا أن يكون... لنقل أني
لا أريده سلبيا أو مخيّبا أو مؤسفا. إذاً، ها إني أعتذر سلفاً عن مظهرٍ لا يليق
بك. فات الأوان ولم أتخلّص من فائضي من الوزن. الانقطاع عن التدخين ذريعتي وما
أتناوله من حبوب "كورتيزون". لكن لا بأس، لا ريب أن فيكِ أنتِ أيضاعيوباً
تعتذرين عنها ولا أخفيك أني لم أسمع عنكِ ما يبهج القلب أو ما يثير الرغبة في
التعرّف إليك أو يبعث الشوقَ إلى لقائك. لنقل إنّ أحدا لم يتغنَّ بوصفك، لا من
قريب ولا من بعيد، كما لم يحسدني مخلوقٌ على قدومي للعيش معك لوقت. هذا كي لا
أقول إن العكس هو الصحيح.
أعذريني. لكن ما همّ، فأنت أيضا لا بدّ وأنك تتوقعين أن أكون ما
لستُه. ربما. حتما. ما أدراني ما خطر في ذهنك مثلا حين حدّثوك عن امرأة قادمة
من البعيد، من المكان "المشوّش" من العالم، كاتبة وعربية ومقيمة في باريس
ومدعوة للحديث عنك ! أعتقد أنك قطبت حاجبيك مدّعية الاهتمام، فيما كنت تتبسمين
في دخيلتك، حشرية أو سخرية... أعرف، ليس الأمر سهلا علينا نحن الاثنتين. لكن
دعينا من المجاملات ولنكن صريحتين منذ البداية هكذا نتفادى سوء الفهم وإن لم
نتفق، علّنا على الأقلّ نفترق بسلام. أربعة أسابيع كأنها الأبدية نخرج منها
عدوّتين حتى الموت أو ربما صديقتين.لا بدّ وأن هناك ما يجمعنا. لا بدّ. يكفيني
مثلا أن يجري فيك نهر. لا يمكن لمدينة تجري في عروقها مياه أنهار، إلاّ أن
تمتلك روحا. المدن ذوات الأرواح بها دوما سحرٌ ما. أين تختبئ روحك يا فرنكفورت
وهل تراها ستنكشف عليّ ؟ يكفيني أيضا أن أتذكّر أنك دُمّرت ذات يومِ وأنه قد
أسيء إليك وأنزل بك ذل وهوان ؟ أرأيتِ، هوذا جسرٌ يصل ما بيننا، نقطة مشتركة
أولى أرجو أن تليها عشراتُ الجسور...
فرنكفورت، أهلا، تشرّفنا. قد تقدّم الليلُ بنا فدعينا ننام الآن
وغدا لنا كلام.
التاسعة والنصف صباحا
ينتظرون مني أن أروي مدينة. لكن، هل نروي مدينة في بضعة
أسابيع ؟ وهل تُروى المدن أصلا ؟ أعني ألا نروي في أغلب الأحيان
أنفسَنا فيها، انطباعَنا عنها، أكثر مما نروي المكان؟ هل كنت لأرى فرنكفورت
مثلا بالعين نفسها لو قدمتُ إليها وأنا في سنّ العشرين، أو في سن الستين ؟ وما
هو يا ترى رأيُ هيراقليت في الموضوع وحكمُ نظريته حول الدخول في مياه النهر
ومشكلته المزمنة مع مرور الزمن ؟
هيراقليت يا نجوى دفعة واحدة عند هذا الصباح ؟! رأيي أن تكتفي بسؤال
من نوع: ما الذي يمكن أن أضيفه إلى كاتالوغات السياحة ؟ لا شيء في الواقع، إن
لم يكن نكتة جهلي بالمكان. باستطاعتي مثلا أن أكتب دليلا بعنوان: تعلّم أن تألف
مكانا غريبا، أن تروّض مكانا وحشيا، في عشرة دروس... ألم أقل أني لا آمن
للأمكنة وأن طبعها المكيدة والغدر والتعذيب حتى القتل...
مهلا، فلنعد إلى الوراء، نعيد الشريط من أوّله، فالنهار ما زال في
بدايته والتفاؤل ملح الحياة...
- لدى وصولي إلى المطار البارحة، استقبلني وجهان بشوشان (سوزان وآن)
يتكلّمان الفرنسية (والانكليزية). إذاً لا أستطيع القول إني عانيت (حتى الآن)
مشكلة تواصل مع الألمان !
- لدى دخولي غرفة الفندق حيث سأنزل، طالعتني رائحة زهور. أمر جميل
دوما أن نُستقبل بباقة ورد، أليس كذلك ؟ خاصة إذا ما رافقت الباقةَ تلك شقةٌ
مكوّنةٌ من غرفتين ومطبخ صغير. على عكس ما توقعت، ها أنا في ما يشبه دارا نقيم
فيها، وهو ما أشعرني بأمان كنت في أمسّ الحاجة إليه، أنساني لبرهة أن النافذتين
ـ البابين اللتين سارعتُ ألصق وجهي بهما، تطلان على شارع عام تحفّه من الجهة
المقابلة بنايات تخفّف من وطء وجودها قبالتي أغصانُ شجرة كبيرة تنحني فوق
الرصيف الذي لجهتي كأنما لتتفرّج عليّ، أنا نزيلة الطابق الأول في هذا النزل ذي
المظهر القديم بأعمدته الرومانية الأربعة التي تزّين المدخل. هذا وقد أنساني
شعوري الخاطف بالأمان ايضا الانتباهَ إلى عامود الكهرباء بقناديله الكروية
الثلاثة، ينتصب أمام نافذة غرفة النوم ولا يقيني منه سوى ستائر شفافة بيضاء،
كأنّ النافذة عين لا أهداب لها، عين لا تنام كعيني التي لا تغفو إن لم تتكدّس
فوقها طبقة سميكة من عتمة حالكة، لا بل طبقات.
- الدعوة إلى العشاء كانت لطيفة في مكان لطيف ألطف ما فيه أنه كان
مطلا على... النهر ! ناهيك عن العطل "اللطيف" الذي أصاب الآلة الحاسبة التي
ينبغي أن توافينا بالحساب، وقد استدعى في ذهني صورة أحمد مظهر "الباش مهندس"
(كنتُ قد رأيته ليلة سفري صدفة) واقفا مع ناديا لطفي على شاشة التلفزيون، وهي
تسأله بدلال أن يحدّثها عن ألمانيا حيث أمضى شهورا، وهو يقول بجدية بالغة: "
التكنولوجيا قوية جدا في ألمانيا " !
- في طريق العودة، لمحتُ القمرَ هلالا معلقا بين برجين من أبراج
فرنكفورت، أعني بين ناطحتي سحاب، ولا أدري إن كان هو (أم أنه خلوّ الشوارع في
ليلة سبت) ما جعلني أشعر أني في مدينة سوبرمان (نسيت اسمها) وقد غادرها البطلُ
الجبّار فخلت من أهلها قبل وقوع الكارثة بلحظات. ما شعرته لا يتلاءم بالضرورة
مع ما أخبرتني إياه سوزان حين أطلعتني أننا هنا في حيّ المصارف والأعمال. لكن
مع ذلك، تبدو فرنكفورت مدينة فارغة. كأنها في عيد. أو في حِداد...
الرابعة والنصف من بعد الظهيرة
في الحيّ حيث أنزل، لا أثر لناطحات سحاب، بل لمبانٍ واطئة متواضعة،
وهي إن علت، فبما لا يتجاوز عدة طوابق. ومع ذلك، لا وجود لحياة. أعني لا وجود
لحركة تشي بوجود إنسٍ أو جان، في هذه المربعات الزجاجية التي تصطف أمامي كأنها
رسم في واجهات أبنية وهمية ستُرفع ما أن ينتهي التصوير. تصوير ماذا وفي أي فيلم
أنا الآن ؟ على الرصيف المقابل، مطعم "بيتزيريّا دا روميو". منذ يومين وهو
مقفل. ما به روميو ليغيب عن محلّه يومين كاملين ؟ عساه يكون بخير ! فإن لم تفتح
المطاعم في عطلة نهاية الأسبوع، فمتى تراها تفتح وتربّي الزبائن وتربح ؟ حسنا،
وإن كان روميو مريضا، فأين هم الناس ؟ إن لم يجبني أحدٌ عن هذا السؤال فورا،
فقعتُ، طققتُ، متُُ...
السادسة مساء
المساء على وشك الهبوط. أنا أيضا...
أفكّر بالاستلقاء لكثرة ما تحرقني عيناي. فأنا لم أنم جيدا ليل أمس،
والنهار بدأ ماطرا، ظهري يؤلمني من الجلوس على هذا الكرسي الغريب، والكومبيوتر
"حرق ديني" لأنه لا يحكي غير الألمانية و يكتب العربية من اليسار إلى اليمين...
التفاؤل ! لا يجب أن أنساه. حسنا. ماذا يفعل شخص متفائل في وضعي ؟ يقوم ويخرج
في الحال ؟ حسنا، سأخرج في الحال...
سرتُ في خط مستقيم. هكذا أضمن ألا أضيع. فأنا أضيع "في أرضي" كما
يقال، أو "في كوب ماء"... لا، كوب الماء مخصّص للغرق، لا للضياع، ألا يقال: "
يغرق في شبر ماء " ؟ المهم. أسير في خط مستقيم لا أحيد عنه. هكذا أضمن طريق
العودة. فأنا مهما كان، ما زلت في يومي الأول، في مدينة غير مسكونة حتى من أهل
الجان.
أقطع الطريق وإذا بي في مواجهة طريق أخرى مقفلة بسيارة "بوليزي"
ومقصورة على المشاة. أبتسم وآخذها. منذ متى تبتسمين لسيارات الشرطة يا سيدة "ب"
؟ منذ الآن. فهي شرطة ألمانية وهي خضراء ! حسنا. ألتفت إلى الوراء. لقد اختفى
الفندق. لكن لا جزع، لا هلع، ما دمت أسير في خط مستقيم. أرفع رأسي فإذا ببناء
قديم جميل كبير ينهض على يساري. أقرأ : "بالمن غارتن". هذه فهمتها ومعناها
حديقة النخيل ! أحدّق مزيدا، فإذا بها مكوّنة من عدة صالات زجاجية بهيكل من
الحديد، تعلو جدرانها عددا محترما من الأمتار. ها هي أشجار النخيل. يا الله !
نخلات داخل قفص عملاق من زجاج. لا بأس، الدفء أفضل من الموت بردا في صقيع
الشمال. لكن، ماذا لو نمت شجرة أكثر من أخواتها ؟ ماذا لو كانت أطول قامة
وأرادت فوق هذا أن تطال السماء ؟ هل تراها تكسر الزجاج وتخرج رأسها إلى الهواء
؟ لا. أعتقد أنها ستصاب بانحناء، أو أنهم سيقطعونها، فلا تتمادى على الزجاج.
تنتهي الطريق إلى حديقة عامة أخرى، ومن الجهة الخرى، إلى حديقة
نباتية أخرى. يكفي. أعود وقد ابترد الهواء وقد بدأت معدتي تطالبني بالعشاء.
ينقصني الملح. "إن فسد الملح فبمَ يملّح " ؟ لا يُملّح بشيء ! خاصة وأن الملح
من ألدّ أعداء "الكورتيزون". حسنا، إن وجدتُ محلا مفتوحا (أهذا من باب التفاؤل
أيضا، أم من باب الغباء ؟)، اشتريتُ ملحا. وإلاّ، فلا.
يقفز من أمامي سنجاب... سنجاب ! بحياتي لم أر سنجابا. يا للروعة.
يحمل بين قائمتيه الأماميتين شيئا أخضر مستديرا. إنه كما في الصور المتحركة،
لكنه أصغر بكثير...
كشك جرائد وفي داخله شاب. بينغو ! أسأله عن ملح. "نو سالت"، يقول
بلكنته الباكستانية خائبا بعد أن هب واقفاّ لاستقبالي متيّقنا أني من
السيّاح...
الثانية عشرة ليلا
أدخل الفراش مرغمة. يجب أن أنام. غدا نهار حافل (حقا، بماذا ؟). أضع
يدي على هدبيّ أحميهما من ضوء الشارع العام، ثم أنزلق فوق أولى درجات الغياب.
تفاجئني ابتسامة وأنا أودّع نفسي على عتبة النوم: اليوم، استبدلتُ الملحَ بعلكة
وتعرّفت إلى سنجاب !
منطقة "ويستند"
20 سبتمبر 2004
يعبث الهواء بقوة بأغصان الشجرة المجاورة التي، منذ وصولي، تنحني
لتطلّ عليّ.
صباح الخير أيتها الشجرة. هه، ما جديدنا اليوم ؟ أرأيتِ، ها هو
جارنا روميو قد عاد إلى مطعمه وهو بألف خير. حمدا لله أن أهله لا يعرفونني
وأنهم لا يقرأون العربية، وإلا لكانوا جنّوا قلقا عليه. وما أدراني أن روميو
هذا إيطالي. 90 % (أعرف أني أبالغ) من مطاعم البيتزا في باريس أصحابها عرب !
المهم إني قد حللتُ أخيرا اللغزَ العجيب وفهمت أن غياب الناس ليس
غيابا فعليا، بما أن كل تلك البنايات المحيطة بنا أو على الأقل معظمها، مكاتب
تمتلئ في النهار وتفرغ مساءً وفي نهاية الأسبوع.
وممّا علمته أيتها الشجرة أن "ويستند" هذه التي هي اليوم بمثابة رئة
المدينة الخضراء بفضل حدائقها (غرونبورغ بارك، بالمن غارتن وحديقة النبات) ـ
مررتُ بها سهوا البارحة، أتذكرين ؟ وأعتقد أني سأعود إليها بالتأكيد ـ كانت في
ما مضى (ولم تزل) منطقة ثرية وجميلة وخضراء، وأن عددا من أهل الانتليجنسيا
اليهودية كانت تعيش فيها حتى الحرب. ومع مجيء الستينيات، قلبت التجارة مرة أخرى
نسيجَها الاجتماعي، فإذا بالمصارف والشركات ودور النشر تستولي على أجمل
بيوتها...
"بيت الأدب" أو ليتراتورهاوس
ما أن ولجتُ العتبة حتى شعرتُ أنها داري.
لا أعني أن إحساسا بالدفء غمرني، أو أني شعرت أني في ديكور أليف ،
أو أن الثقافة والكتب هي عنصري الطبيعي. لا ! هناك أمكنة أتبنّاها مباشرة. منذ
اللحظة الأولى. في ظرف ثوان.
دخلتُ، فانفصلت عني روحي. ناديتُها فما أعارتني انتباها.
صعدتُ الدرج الخشبي إلى الطابق الأول حيث المكتب الذي سأرسل منه
رسائلي اليومية. اصطحبتني آن.
حييتُ لاورا، وزيلكه، وجلستُ إلى مكتب في الزاوية. جاءت سوزان
وعرّفتني بمديرة الدار ماريا غازيتي... أطلّت روحي من الباب وجعلت تشير إليّ أن
آتي معها. لم أفهم كيف تجرّأتْ فخلعتْ خفّيها وسارت مرخية الشعر حافية القدمين
على البلاط. نهرتُها وعدت إلى مضيفتي.. أهلا. ابتسمنا طويلا. كلهن تحدثن إليّ
بالفرنسية. لم يطل الكلام ولم يتعدَّ جملَ التعارف الأولى ولم يخلُ من ودّ.
فكّرتُ: كلهن نساء. ثم أضفتُ :ومَن أفضل من النساء كي يعتنين بالدار ؟
إيطاليتان وألمانيتان. فكّرتُ: لو عشت في فرنكفورت، لكان لي حظ، أنا العربية،
في العمل معهن. (!). وأضفتُ: أعرف أعرف، لكن يحلو لي أن أتصوّر جنسيتي من
كالجنسيات "المحترمة" الأخرى. لا بأس بالوهم بين فينة وأخرى. أليس هو غوته من
قال: "أحب من يحلم المستحيل ؟"
خرجت من المكتب بعد أن أتممت مهمتي. قلت أجول بين الطوابق الثلاثة
بانتظار انتهاء آن... سمعت روحي من ورائي تغرغر بالضحك. انكفأت بنظري ووقفت
أمام واجهة خزائن ملأى بكتب مفتوحة على الصفحات الأولى تزيّنها إهداءاتٌ بجميع
اللغات. قالت روحي: كلهم رفاقي ! فابتسمتُ. قالت: كلهم كانوا ضيوفي ذات يوم.
فضحكتُ. قالت: كلهم أهلي. فانفجرتُ بالضحك.
حنقت روحي مني فاختفت. دخلتُ غرفة على حدة، أنتظر رجوعها. كيف أغادر
وحيدة وقد جئنا سوية ولا رفيق لي سواها. أي مسّ أصابها فجأة ؟ حسنا، المكان
جميل لكننا رأينا في السابق ما هو أجمل منه. طال بي الانتظار وشعرت بإحراج.
خرجتُ إلى الصالة الرئيسية فإذا بها هناك. نزلت آن. قالت: نذهب ؟ قلت لروحي:
نذهب ؟ فقطبت حاجبيها وحدّقت في الأرض حَرناً. نظرتُ إلى الأعلى وسألتُ: ما هذه
الجملة في أعلى الجدار فقالت آن: "داي زيت فيرغيت" ومعناه: الوقت يمرّ...
قفزت روحي وراح تصفق ثم قالت: أرأيت ؟ أجبتها: أجل، الآن فهمتُ.
فانفرجت أساريرها وانتقلت إلى جانبي وخرجنا سوية من الدار.
في طريق العودة وفيما كنا سائرتين جنبا إلى جنب، استرقتُ النظر
إليها فإذا هي شاحبة منهكة تثير الشفقة. المسكينة، همستُ في سرّي، لا بدّ وأنها
تفتقد البيت. ليس بيتي في باريس وليس بيتنا في لبنان، وإنما ببساطة البيت.
أفكارٌ ليلية
21 سبتمبر 2004
مضى الليلُ تقريبا وأنا لم يغمض لي جفن. لا أدري لمَ تذكّرني كلمة
جفن بعبد الوهاب. بلى! بسبب "جفنه علّم الغزل". المسكين، كم كان يخاف على
عينيه.أمضى حياته تقريبا عند طبيب العيون...
حين اقتنعتُ أن القلق استقرّ نهائيا بسبب وقاحة ضوء البلدية في
الشارع العام، قمت ووقفتُ إلى النافذة ـ الباب أفكّر في حلّ. لو كان معي بندقية
الآن، لصوّبتُ على المصابيح الكروية الثلاثة ولأرديتُها، الواحدَ تلو الآخر،
قتيلة ! لو... لو خطر في بال ألمانية في مثل حالي، فكرة من هذا النوع ـ وهو أمر
محال ـ أفلن يعتبروها مختلّة عقليا، مرشّحة للإقامة في مصحّ مجانين ؟
لكني لستُ تلك الألمانية ولستُ مختلّة على ما أعتقد. كل ما في الأمر
هو أن العنف فقد بالنسبة لي، بالنسبة لنا نحن أبناء الحروب بشكل عام، كل سطوة،
كل هيبة، كل هالة، وبات سخيفا، عاديا، يخالط التفاصيلَ اليومية للحياة. في
ذاكرتي عددٌ لا يُحصى من الذكريات عن أناس قتلوا لأتفه الأسباب أو حتى من دون
أسباب. هؤلاء لم يقعوا ضحايا الخطف والتعذيب والقتل قنصاً والقصف والتفجير.
هؤلاء كانوا ضحايا توترٍ عصبي وأمزجة مكدّرة وواشمئزازٍ من العيش وتعنّتٍ
وكبرياء وأمراض نفسية وتشوّهات أخلاقية.. و...
لا أدري ماذا فعلتُ بالعنف الذي عايشتُه في بيروت خلال عشر سنوات.
لا أعرف كيف لم أختنق به كما يغصّ مريضٌ بقيئه فينقطع نفَسُه ويموت. حين هربتُ
إلى باريس، خلتُ أني خلفتُه ورائي. لكني أخطأتُ الظنّ. إلى أن خرج من بطني ذات
يوم، كثعبان عاش فيّ مختبئا زمنا، كثفلٍ ركد دهرا في القاع. أدركتُ ذلك حين
كتبتُ روايتي "يا سلام". اشتعلت الحرب عام 1975 و"يا سلام" وضعتُها عام 1998.
إنها أقبح وأقسى ما كتبتُه على الإطلاق. خرج الثعبانُ مني أخيرا وبقيتُ ساعات
بحالها أرتعد وأبكي وأتمخّط، لا خوفا، بل ذعراً ممّا كان قابعا فيّ من غير
درايتي...
أفكّر بما عساني أفعل الآن والساعة قاربت الرابعة فجرا. فأنا لا جلد
لي على مشاهدة التلفزيون، ولا طاقة لي على القراءة، والكومبيوتر لم يزل معطلا،
أعني أن يونس المسؤول عن التقنيات في "بيت الأدب" ما زال في بطن الحوت يتصارع
وإياه علّه يُنطقه بلغتي أخيرا فيجبره على أن يكتب بالعربية جملا مفيدة، وليس
أحرف منفصلة متجاورة لا رأس لها ولا كعب. لا بأس، أعالجُ القلقَ بالكتابة،
وأستبدلُ التكنولوجيا بقلم رصاص...
السوبرماركت
أمام زاوية المياه المعدنية، وقفتُ نصف ساعة أحاول إيجاد كلمتين:
الأولى "غاز" و الثانية "بلا" أو "بدون". وحين لم أوفق، قلتُ لا بأس أشتري
المياه الفرنسية "فولفيك" أو "إفيان". ولكن، لمَ أشتري مياها فرنسية غالية
الثمن وفي ألمانيا مياه بسعر أدنى على ما أرى ؟ استنجدتُ برجلٍ واقف بقربي فراح
هو أيضا، مع أنه ألماني، يتفحّص القناني على اختلافها. قاطعتُه بعد أن نفد صبري
وسألتُ: ما معنى "ويذاوت" فأجاب "أوين". قلت شكرا، واخترتُ من القناني ما وجدتُ
مكتوبا عليه "أوين". "أوين" ماذا، لا أدري. ولكن، منطقيا، مما سيخلو الماء إن
لم يكن من الغاز؟
لا أدري ما هي هذه العادة في عدم استخدام لغة ثانية، في ما عدا
الألمانية، على الشروحات الملصقة على السلع استهلاكية (وغير الاستهلاكية). في
النهاية، لمَ لا ؟ ألا أغضب أنا لاضطراري دوما إلى مكالمة الآخرين بلغتهم ؟ ألا
أقول في دخيلتي مستاءة: ولمَ لا يتكلّمون هم لغتي ؟ ألا يكون من فرض لغتَه على
الآخرين قد فرض احترامَه وثقافته وهيمنته على العالم أيضا ؟ ها أنذا مثلا قد
تعلمتُ اليوم ثلاث كلمات: "فاسر" وتعني الماء، "كوهلينساور" وتعني الغاز،
و"أوين" وتعني "من دون". لكن، بقي عليّ أن أتعلّم كيف أدخل إلى عقل البائعة
الجالسة إلى الصندوق كي أفهمها بأن سعر القنينة ازداد فجأة 25 سنتيما. المهم،
بعد قيل وقال وأخذ وردّ شارك فيه جميعُ الحضور، فهمتُ أخيرا أنه نوع من الرهن
نستعيده حين نعيد الفراغ.
برافو للاعتناء بالبيئة والاقتصاد. لكن، لا بأس من تعلّم لغاتٍ
أخرى، فهو مما يقال إنه ينير العقول ويشحذ الأذهان !
الأصيل
في مثل هذه الساعة تصعد أمي في منزلنا الصيفي القائم في قريتنا
البعيدة المنبسطة على كتف الجبل، إلى السطح. تنظر إلى الوادي عن يمينها أو إلى
سفح جبل الأرز، فيما هي تدخّن سيجارة أو تتلو مسبحة تحت العريشة التي زرعتها
بيدها الخضراء في متر مكعّب، فنمت وعربشت وامتدّت لتغطي السطح. في مثل هذه
الساعة، تكون قد أنهت أعمالها اليومية ورأت أنها، مكافأةً، تستحقّ لحظات هدأة
ووحدة وسكوت. دائما تخترع أمي لنفسها أعمالا. ويوم تتوقف أعمالها، أعتقد أنها
ستموت... يا الله، يجب أن أتصّل بأمي. فها أنا الآن على حافة البكاء !
ماري ـ آن !
22 سبتمبر2004
سيداتي، سادتي،
نحن، رئيسة جمهورية "بركـاتـان"، نسمّي هذا اليوم الواقع في 22
سبتمبر من العام أربعة من القرن الواحد والعشرين، يومَ ماري ـ آن ! ونعلنه
عيداً وطنياً إحتفاءً بدخولنا للمرة الأولى مدينة فرانكفورت وتقديراً للسيدة
الفرانكفورتية على ما بذلته من جهود لشدّ أواصر الثقة والمودّة التي نرجوها
دائمة بين شعبينا !
لم أبدِ حماساً في البداية حين قالت لي آن إن "بيت الأدب" طلب من
دليلٍ اصطحابي في جولة على المنطقة المحيطة بي خلال ساعتين أو ثلاث. وحين فهمت
أن السيدة متطوّعة، قبلتُ مرغمة. وحسنا فعلت.
لم يكن وسط البلد بعيدا عن منطقة "فيستإند" (حيث أسكن) بأكثر من
محطتي مترو، إنما تملّكني شعورٌ وكأنني أقطع أميالاً وأميالاً لكثرة ما اختلف
الجوّ عليّ، وهو ما ذكّرني بأن فرانكفورت مدينة صغيرة نسبياً (660 ألف نسمة)،
مقارنةًً مع المدن الأوروبية الكبرى كبرلين، لندن أو باريس.
أمام دار الأوبرا القديمة (Alte
Oper) التي ليست داراً
للأوبرا وإنما مسرحاً تقام فيه حفلات غنائية، انتظرتنا ماري آن. سبعينية على ما
أعتقد، الشعر أشقر قصير والقامة مستقيمة والنظرة زرقاء عميقة كأنها لمحيط،
وتعبير الوجه هادئ، ودود، لطيف. تعارفنا واعتذرتْ هي سلفاً عن كونها لا تتكلم
الفرنسية. طمأنتها إلى أني أفهم الانكليزية وإن صَعُبَ علي التحدث بها بطلاقة.
لم تدلق عليّ ماري آن معلوماتها ولم تتكلم بلغة تقريرية عن تاريخ
هذا البناء أو ذاك، وإنما أجابت على أسئلتي وحدثتني بخبرة الراوي الأصيل، يجيد
مدينتَه بقدر ما يملك منها المسافة التي تريه عيوبَها. قالت إن أثرياء ما قبل
الحرب، ومعظمهم من اليهود، اهتموا بالمدينة وبنوا فيها ما يخدم أهلها من
الفنانين والطلاب والفقراء. أما أثرياء اليوم (ومن بينهم يهود وغير يهود)، فهم
لا يفكرون إلا في ملء جيوبهم بالمال. وهم، إن رعوا أعمالاً ومؤسسات ثقافية،
فرغبة منهم بالبروز، بمزيد من السيطرة، ودائما لقاء مقابل ما. قلت لماري ـ آن
كي أعزّيها: هذا ليس حكراً على فرانكفورت، بل هو هذا العصر بأكمله. وودت لو
أحكي لها عمّا يجري في بلادنا وكيف يتحوّل أصحاب الرساميل ورجال الأعمال مثلا
فجأة إلى رؤساء ووزراء، أو كيف يدخل بعضُ السياسيين في صفقات مع أعداء لهم
فيساهمون في بناء جدران تخنق شعوبهم، أو كيف يسرق زعماءُ دول أموالَ دول
ليحوّلوها إلى مصارف في سويسرا، في حين تمضي زوجاتهم في عقد صفقات تجارية هنا
وهناك...
أشارت ماري ـ آن إلى برج (Eschenheim)، الوحيد الذي ما زال قائما من ضمن الأبراج التي كانت تحيط
بالمدينة والتي كان يفترض على القادمين من خارج المدينة، عبورها لقاء ضريبة
ما... هكذا أنا أحلم المدنَ دوما. بأبواب ! وأحبّ الدخول إليها من زاوية تكتمل
فيها لعينيّ، كفارس يطلّ على المدينة من علٍ، يمسحها بعينيه بحثا عن مداخلها،
عن بابها من حيث يمكنه الولوج، إذ ليس أهمّ من لحظة الولوج الأولى تلك، عبور
الباب والدخول إلى عالم مليء بالمفاجآت... غير أن المفاجأة لم تكن سارة أبدا،
إذ احتلّ أسفلَ البرج مقهى حديث لا خاصية فيه كي لا أقول إنه قبيح، وهو ما يمنع
على الزائر العبور وتصوّر ما كان عليه قديما هذا الباب... وأضافت ماري ـ آن أن
فرانكفورت كانت منذ القدم مدينة تجارية، يأتون إليها من الخارج لإقامة الأسواق،
للعرض والمقايضة، للبيع والشراء... فتذكرتُ ما كتبه شيللر عنها: " هنا يسود
المال، إله الأرض "...
في ساحة "هاوبت فاخه" (Hauptwache) وبعد جولة على أحياء المدينة القديمة، قالت ماري ـ آن: نصعد إلى
سطح هذه البناية، من هنا ترين، مجاناً، مشهداً عاماً لفرانكفورت. كأنه توارد
أفكار ! منذ وصولي وأنا أقول لآن: خذيني إلى أعلى نقطة في المدينة. هكذا أنا
أحبّ بدء الزيارات: مشهد عام من علٍ، ثم دورة كاملة داخل المدينة، ومن ثم
التوجه إلى أماكن بعينها.
طلبنا كابوتشينو وجلسنا. قلت: هذه مدينة غالية جدا. قالت: أجل،
وارتفاع الأسعار على ازدياد. قلت: إنها تقريبا بمثل غلاء باريس إن لم يكن أكثر.
قالت: أجل، لكنها ليست باريس. ابتسمتُ وقلت: إذن هناك فقراء. قالت: أجل وهم على
ازدياد. قلت: أعطني نسبة مئوية. قالت: 35 % ! صُعقتُ. هذه نسبة عالية جدا.
وأصابني شيء من الشفقة. وأحسستُ أني أكثر قربا من فرانكفورت، وأن تلقيبها بـ "بنكفورت"
(بنك = مصرف + فورت) وبـ "ماينهاتن" (نهر الماين + ومانهاتن) ليس أكثر من ضرب
دعائي، أعني أنه ترويج للوجه الجميل الصحّي العملي الذي تودّ المدينة إبرازه،
في حين أن الحقيقة، تلك التي تتعلق بالناس، فهي تستحق حتماً لقبا آخر من نوع...
كان سطح البناية مرتفعا بما يكفي لمشاهدة الجزء الأكبر من المدينة.
موزاييك غير متجانس من أبنية قديمة مرمّمة، وأخرى حديثة، وزجاج. ليست فرانكفورت
مدينة جميلة. ليست قبيحة أيضا. أعني أنها تؤلف مزيجاً غريباً، متضارباً،
متنافراً، ولهذا التنافر فرادة وجمالية ما. أجل، لو كان ينبغي اختصار فرانكفورت
بكلمتين، لقلت إنها مدينة متنافرة، متناقضة، متضاربة، تفتقد كل انسجام... إلى
يميني، ناطحات السحاب، تلك التي ما فتئت أسمع عنها وكأنها من عجائب الدنيا
السبع. أنظر إليها، معظمها يحمل أسماء مصارف: دويتش بنك (158 م)، "كوميرتس بنك"
(258.7 م، وهو الأكثر ارتفاعا في أوروبا !)، دريسدنر بنك" (166.7م)، "ماين تاور"
(205 م)، يورو تاور" (148.5م)، "سيتي هاوس" (143.4 م) و"ويستند شتراس 1" ( 208
م)...
لم تصبني الأبراج الزجاجية الشاهقة تلك بأي ذهول. بل حتى أني قلت
لماري ـ آن، أهذه هي كلها ؟ فيما كنت أظن أن ناطحات السحاب تغطي ثلثي المدينة
على الأقل. ثم هُيّئ إليّ أن تلك الأبراج هي أشبه بعمالقة قدموا من كوكب بعيد
وأنهم على قلّتهم، يحكمون المدينة ويسيطرون على الأكثرية ويصيبونها بالذعر. ثم
تخيّلت أن من في داخلها، رجالٌ ببذلات رمادية يجولون داخل ممرات بجدران وأرضيات
رمادية، وأن ثمة رجل واحد قابع في الطابق الأخير، رمادي القسمات، يزن أكثر من
مائتي كيلوغرام، يرى ولا يُرى، ويمضي أوقاته يراقب الجميع في جهاز: شاشة أولى
لسكان الأبراج، شاشة ثانية لسكان المدينة، وثالثة لي ! وتصوّرت أن "بيج بروذر"
(Big
Brother)
هذا يركّز الآن عليّ وأنه يصيخ السمع كي يقرأ أفكاري، وأنه سيرسل عمّا قريب مَن
يوقفني...
وقفت ماري ـ آن إلى جانبي وقالت: معظم المؤسسات والأنشطة الثقافية
(وهي كثيرة جدا في فرانكفورت)، يجري تمويلها بفضل رعاية هذه المصارف والشركات،
حتى أن "قراءات كثيرة تقام فيها، ومعارض ولقاءات. لم يعجبني هذا. أن يعيل
المالُ أهلَ الثقافة. ثم وجدتني أتراجع. أليس أفضل له أن يرعى الثقافة بدلا من
أهل السياسة والرشوة والسلاح والصفقات والفساد ؟ قالت ماري ـ آن: أرأيت التلال
المحيطة بفرانكفورت. إنها فقط تلال وليست جبال. قلت أجل، الجبل هنا ناطحة سحاب
!
بعد زيارة عدة أحياء وأبنية قديمة أخرى ونقاش عن قلة احتراف الألمان
في ترميم ما هو قديم (معظم الأبنية القديمة هُدمت وأعيد بناؤها كلية على الطراز
القديم)، جلنا على عدد من الكنائس (سان برتولومي/كاثوليك، الكاتدرائية
الأمبراطورية، سان نيكولا/ بروتستانت، سانت كاترين/بروتستانت، سان فرانسوا، إلخ)
فتأكد شعوري مما قد يجتاح الزائرَ من إحساس غريب متضارب أمام جمال الأيقونات
والتماثيل واللوحات القديمة من جهة، وحيال ما قررت يدُ الإنسان "تظبيطه" من جهة
أخرى، أي تحسينه لكي يبدو كما كان. فلا يوجد جدار في كنيسة لم تُطلَ حجارتُه
باللون الأحمر ولم يُعَد تسطيرُه بالأبيض كأنما لتحديد الخط الفاصل بين حجر
وآخر، وهو ما يضفي انطباعاً بأن بأعمال الترميم سُلّمت إلى مبتدئ، أو إلى طفل
أطلق يدَه في المكان...
حان وقت عودة ماري ـ آن. ودَعتني وشكرتها بحرارة وتواعدنا على
احتمال اللقاء ثانية.
إنه يومي الخامس في فرانكفورت، وها أني أشعر وكأنه اليوم الأول إذ
ركبت المترو، تحادثتُ وامرأة من أهل المدينة، اكتشفتُ وسط المدينة ورأيتُ الناس
(كنت قد رأيت صنفاً بعينه هو موظفو الشركات). طبعا، لم تكتمل فرانكفورت لعينيّ
فما زال فيها الكثير. لكن، مما تأكّد لي وللمرة الألف، هو أن المدن لا تحلو ولا
تقبح، بل أنها لا تحيا، إلا بناسها !
صباح الخير يا الله
24 سبتمبر2004
يوم السبت. وهذا معناه أن أسبوعا قد مرّ على وجودي هنا، أن فرنكفورت
ستخلو مجددا، أني لن أقلق على روميو هذه المرة، أنه ينبغي إيجاد الشجاعة للخروج
تحت سماء عابسة، مكدّرة، على وشك الانفجار، وقد وعدتنا "الأحوال الجوية" على
جميع أقنية التلفزيون في القارات الخمس، أن الطقس سيكون ماطرا باردا لا تتجاوز
حرارته 15 درجة... في أحسن تقدير.
"ماذا عن التفاؤل" ؟ أسمع أحدهم يقول. لكني متفائلة ! أصرخ غاضبة.
أقنِعوا السماءَ أولا، فأنا مزاجي رائق وفي أفضل حال...
يذكرني ذلك بنكتة عن رجل أدخلوه المصح العقلي لأنه مقتنع بأنه حبة
قمح. بعد أشهر من العلاج، استدعاه مدير المصح للتأكد من شفائه، فتأكّد ووقّع
الإذنَ بخروجه وهكذا كان. لكن، ما هي دقائق حتى عاد الرجل مغسولا بعرقه مرتعدا
شاحبا وهو يهتف بأعلى الصوت: النجدة، إليّ، هناك دجاجة تطاردني ! هدّأ الطبيب
من روعه وسأله: ما بك تخاف من دجاجة ؟ أأنت رجل أم حبة قمح ؟ فقال المريض: أنا
مقتنع 100 % بأني رجل، لكن أَقنِعْها هي بذلك (الدجاجة) إن استطعتَ !
الحادية عشرة والنصف
في ما كنت أحتسي فنجان القهوة الثالث بانتظار قدوم عمال الفندق (بعد
أن أقترحت عليّ إدارة الفندق، هكذا لوجه الله، إعارتي مكتبا مخصصا للكومبيوتر،
بدل الجلوس إلى مائدة الطعام)، تذكّرت اقتراحَ آن بحضور "قراءة" أدبية ستقام في
أحد المصارف ـ الأبراج. قالت: هذه فرصة لزيارة ناطحة سحاب وللتفرج على فرنكفورت
من ارتفاع شاهق كما تطلبين. رفضت. لا أدري لماذا. تذرّعتُ بسبب ما. ثم خطر لي
أني لا أحبّ كل ما يتعلّق بالمال (في ما عدا اليانصيب الوطني واللوتو) خاصة حين
يختلط بالثقافة. أعني أن ثمة ما ينتفض في دمي حين تُكلَّل بطاقاتُ الدعوة مثلا
أو ملصقات المعارض والمهرجانات بعبارة: "برعاية السيد فلان أو السيدة فلانة،
رئيس... أو رئيسة..."، وهي عبارة غالبا ما تزيّن الأنشطة الثقافية (الأحرى هو
أن الأنشطة هي ما يزيّنها) في بلداننا العربية بشكل عام. فمن حكم عليه الربّ أو
القدر أو الشيطان بالبقاء في بلاده والعمل فيها، كان كبير الحظ إن توقف الأمرُ
به عند هذا الحدّ فتُرك لحاله ولم يطالَب بتقديم الطاعة وبإثبات حبّه "للزعيم"
أو" لقائد الأمة "، وإظهاره في ما ينتجه من أدب أو موسيقى أو رسم أو أفلام. ألم
يَستدعِ صدام حسين ذات يوم من تبقى من الروائيين في البلاد لكي يشرح لهم كيف أن
الأدب في العراق يفتقد إلى نفحة ملحمية ؟ وحين لم يفهموا شروحاته يئس منهم فقرر
أن يكتب الرواية بنفسه. هنالك أيضا الأخ العقيد الذي أتحفنا ببعض "الروائع
الأدبية" الخضراء وغير الخضراء... لا أدري من أين يأتيهم هوى الأدب هذا ؟ أعني،
ألا تكفيهم السلطة المطلقة، ما يستولون عليه من أموال، شعورهم بالعظمة
ومحاذاتهم الإله في تقريرهم مصير العباد ؟ يبدو أن لا. يحتاجون إلى المزيد. إلى
الأدب بالذات. أتراهم يعون في لحظة وعي حادّ أنهم إلى فناء، وأن القلم هو
مجدافهم إلى باب الحكمة يعبرونه فإذا هم في مملكة الخلود ؟ أعتقد أن لا. وإلا
لكانوا على الأقل كتبوا ما لا يدنّس الأدبَ أيضا بعد أن عاثوا في الحياة فسادا،
دمّروا الأوطانَ وجعلوا أرواحَنا خرابا على خراب...
تلك هي الحال. ومن نفذ من هذه الزلازل، بات الآن معرّضا للسقوط في
أتون المال، ذاك الذي يقضي على الثقافة كسلطة مضادة، يدجّنها ويخضعها لأمزجة
العرض والطلب، لقوانين البيع والشراء.
تلك هي حالنا يا أصحابي الأوروبيين. وفي هذا، أنتم ونحن في وحدة
حال.
خبر عاجل
26 سبتمبر 2004
باقة الزهور لم تلفظ أنفاسها حتى الآن.
لا أستطيع القول إنها في حالة نزاع، وإن بدت عليها واضحةً معالمُ
الشيخوخة. تشرب كل يوم ما يقارب كوب ماء. أسقيها ما طاب لها وفي كل مساء،
أودّعها وأنا على يقين أني حينما أصحو، سأجدها جثة هامدة أواريها الثرى في سلة
المهملات.
باقة الزهور تجاوزت حياتُها ثمانية أيام. أفكّر بتحنيطها وبإبقائها
في الإناء. وفاءً لها.
غير أن التفاؤل يومئ إليّ بحسنات الخيانة أحيانا وبضروة الاستغناء
عما يبلى من الأشياء. ولكي يقنعني يقول: باقة الزهور متفائلة جدا إلى حدّ نسيت
معه أن تموت.
أفكر بـ "ياسمينة". عساها تكون من النوع المتفائل هي أيضا، فلا تذوي
شوقا ووحشة في صحراء الانتظار. "أصمدي يا ياسمينة"، أقول لشتلة الياسمين
الصغيرة التي تركتُها وحيدة أمام داري في باريس.
زيارة مفاجئة
أف، هذا سنجاب ! وليس جرذا كما ظننت للوهلة الأولى. هدّاتُ قلبي
الذي انتفض هلعا. فمن لا يعرف قصتي الطويلة مع الجرذان لن يفهم، ومن لا يفهم لن
أشرح له الآن.
سنجاب من النوع المغامر ولا بد، إذ خرج من الغابة، ركض على الإسفلت،
تحدّى السيارات واجتاز الشارع العام، ثم دخل في كومة الأعشاب تحت نافذتي، ومنها
قفز إلى درجات المدخل، ثم إلى الشجرة المقابلة... ناديت: يو هو، أيها السنجاب !
فالتفت إليّ، هزّ برأسه عاتبا ثم أصدر صوتا بما معناه: أين أنتِ ؟ ففهمت أنه
ذاك الذي التقيته صدفة منذ أسبوع، وقد جاء يتفقدني، وهذا مما تقتضيه أصولُ
الضيافة وحسنُ الجوار.
مَثَلٌ ذهبيّ
يقال: إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب.
صدق من قال !
--------------------------------
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب المرأة
)
|