أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتبة: نجوى بركات

لغة السر

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة الرواية

 

 

الرواية

فصل - 4

فصل - 3

فصل - 2  

فصل - 1 

فصل - 5

 

- ولماذا قالوا " كَـلَـم " للجُـرْح و كـلـم للكلام ؟

- ذلك أنه سببٌ لكلّ شرّ وشدّة في أكثر الأمر.

(ابن جنّي ـ "الخصائص")

 

 

 

إهداء

إلى كل الذين أخذتُ عنهم: الشيخ الأكبر، محي الدين ابن عربي في "فتوحاته المكّية" الشيخ عبدالله العلايـلي في "مقدمته لدرس لغة العرب"

أحمد بيضون صاحب "كلمن" وكل الذين لا يتسّع ذكرهم هنا من علماء اللغة والحروف...

 

  

فصل - 1

 

اعلموا أيّدنا الله وإياكم، أني فيما كنتُ سائرا وقعتُ في طريقي على حرف النون (ن) ملقى على الأرض مقلوبا ونقطته تبعط في داخله حتى الاختناق، فانحنيتُ أُصلِح من حاله بعد أن استعذتُ وبسملتُ وصلّبت...

-صلّبتَ يا سَرّاج ؟

 

أجل. رسمتُ إشارة الصليب بيد مرتجفة، ثم انتقلتُ بطرفة عين فرأيتُ نفسي واقفا في مواجهة حائط المبكى أتلو صلاتي وأنا أتهادى بوتيرة متسارعة. وما أن ابتعدتُ كي أتابع تقدّمي، حتى تعثّرتُ بحرف العين (ع). كان فاتحا فاه على أقصاه يوشك أن يُطبق فكّيه كالثعبان على رجلي. أمسكتُ بجذعه الملتوي، ثم شددتُ بكامل قواي ورميته عنّي وطفقتُ أعدو كالمسعور وأنا أستجير ربَّ الملكوت، سيّدَ الجبروت والهلكوت، أن يهديَني إلى الخلاص ممّا أنا فيه، فيرسم لي منفذا يخرجني من هذه المتاهة حيث قادتني قدماي الآثمتان.

 

هدأت الأمورُ من حولي مسافةً فخلتُ الربَّ وقد استجاب لدعائي ورأف لشكواي. اقتعدتُ الأرضَ بالقرب من غدير ألتقط أنفاسي المجفلة وأعالج ما هطل منّي غزيرا. وما أن استراح فؤادي يسيرا، حتى طالعتني الياءُ (ي) سابحة على وجه الماء، تحمل على متنها ما تيسّر لها حمله من إخوتها وأخواتها. رأيتُها تتقدّم مجدّفة قبل أن يقوى السيلُ فيدفعها إلى الصخور فيتكسّر جسدُها بمن فيه ويغمرها الزبدُ المتعاظم فتطفو أشلاؤها وأشلاءُ من معها من غرقى الحروف، في مشهد يدمي القلوب.

 

أشحتُ نظري وهببتُ واقفاً لإدراكي أن المسألة لا تحتمل تسويفا وأنها على درجة من الخطورة لن أتبيّن حقيقتها ما لم أتوجّه من فوري إلى مقرّ مجمع الحروف، استوضحه الأمر وأشاوره الرأي بعد أن أُطلعه على ما صادفني وعاينت.

 

حين وصلتُ، انكشف عليّ مشهدٌ ليتني لم أبصره، بل ليتني ما رأيتُ النور البتةَ لأراه. على يوم الآخرة وقعتُ وقد صمّ عويلُ الحروف أذنيّ، بين العنين والطنين والأنين والقرع والرطْن والصدْم والفحيح والزعيق، فيما ذال (ذ) الذكورة تجامع ثاءَ (ث) التأنيث دونما حياء وعلى مرأى من الجميع، وبقية الحروف تتخالط غير عابئة بما تسقطه من معانٍ وتحرّفه من ألفاظ.

 

استفسرتُ، فقيل لي إن مَلِكَ ملوك مَدْيَن، " كلمن "، قد هلك مع قوم شُعَيْب وبقية حروف الهجاء بعد أن انقلب عليه إخوتُه: ملك مكّة والحجاز "أبجد"، يعينه ملكُ الطائف "هوّز" وملكُ نَجْد "حُطّي". وما أن أدركت العامّة ما جرى، حتى عصيت وتخلّت عن طاعتها للحرف، فراحت تتلاعب بأحرف الكَـلَـم التي هي أحرف المُـلْـك أيضا، إلى أن عمّت الفوضى وتألّبت الغوغاءُ وأُسقِطت حروفُ اللغة المثبتة في أسماء ملوك.

 

هدر صوتٌ راح يتعاظم ويتفاقم إلى أن لفّ الأرجاء، فإذا بوابلٍ من حركات التشكيل ينهمر بزخم هاتفا: كنّا في الأصل حروفا صغيرة، لكننا خُصينا كالعبيد وكُبّلنا كالجواري وحُكم علينا أن نكون تابعات وخادمات للحروف حتى الممات. وها إن ساعتنا قد حانت بعد طول انتظار !

 

تلفظت الحركاتُ بهذا، ثم استباحت أجسامَ الكلمات وجعلت تحشر نفسَها ما بين حروفها كيفما اتفق، فتضعضعت المعاني واختلّت الأوزانُ وانحرفت الاشتقاقاتُ واضطربت المضامينُ وتشوّهت المفرداتُ وصارت تنطق بلغةٍ أين منها لغط بابل وخلائطها من لهجات مختلف الأمم والجنسيات.

 

 

خبّأتُ وجهي بطرف خِرقتي، ثم صَمَمْتُ أذنيّ وقلتُ: لا أرى ولا أسمع وإنما أغادر للتوّ علّني أصل سالما فأنبئ قومي بما يتهدّدهم من أخطار فيحتاطون من الثورة الهائجة خلف أبوابهم.

 

وعندما قدّرتُ أني ابتعدتُ ما يكفي وأصبحتُ في مأمن ممّا يجري على الهضبة المقابلة، استدرتُ بنظرة استطلاع أخيرة، فرأيتُ ألفا (أ) عملاقة مرسلة من الغيب تنزل على مجمع الحروف حادّة كالسيف، تجتثّ رؤوس الفاء (ف) والقاف (ق) والواو (و) والميم (م) والعين (ع)، تطعن الصاد (ص) والضاد (ض)، تقطّع أوصالَ الباء (ب) والتاء (ت) والراء (ر) والثاء (ث) والزاي (ز)، وتدقّ أعناقَ ما تبقى من الحروف، تبتر سيقانَها وتبقر بطونَها وتفقأ أعينَها... إلى أن ارتمت الحروفُ جميعها قتيلة، مهشّمة، مدلوقة الأحشاء، فتقدمّت الألفُ (ا) وأوقدت فيها النارَ، فانتشر حريق هائل. ثم هبّت عاصفة، تبعها إعصار. ثم وقع طوفان. ثم كان عدم.

-ثم ؟

-ثم استفقتُ.

مدّ سَرّاج يده إلى القِدْر الكبيرة التي تتوسّط الحلقة حيث اجتمع الإخوانُ للعشاء، يبحث عن بقية طعام يعالج بها انقباضَ حلقه من هول ما رآه في حلمٍ لم يفلح نورُ الصباح من تبديد حلكته. جالت يدُه على حوافي القِدْر وعلى قعرها وحين لم توفَّق بما تعود به، آبت إلى مستقرّها فوق فخذه، خائبة، منهكة، منحلّة الأصابع.

 

تخاطَبَ الجالسون في صمت، متبادلين نظرات اعتذار ولوم موجّهة إلى بطونهم الرعناء التي نسيت لنهمها، مبادئ الأخوّة والتعاضد والاقتسام بعدل ومساواة.

 

استقام الشيخُ الأكبر في جلسته وقال: عذرا يا سَرّاج. هو وقعُ كلامك علينا ما جعلنا ننكبّ بنهم على الأكل فننسى أنك لاضطرابك مما رأيت، لم تمدد يدَك البتة إلى القِدْر. سأجلب لك شيئا تُسكت به جوعَ بطنك، فلم يزل في القفة بعض من جبن وزيتون. أتريد معها كوبا من الشاي ؟

 

تبسّم سَرّاج وقال مداعبا بأسى: حسنا فعلتم. فربما جنّبتني البطنُ الفارغة رؤية كابوس آخر. هلا صببتَ على يدي شيئا من الماء، فأنا متعب ويعزّ عليّ النوم باكرا هذا المساء.

 

امتثل الشيخُ الأكبر وغسل يديّ سَرّاج وجفّفهما، ثم أفسح له كي يقف ويغادر الجلسة مهتديا بعصاه. تأمّله يبتعد في الرواق المعتم بظهره المنحنية وكتفيه الموهنتين. لقد شاخ. عساه لا يفقد اتّقاد ذهنه بعد أن شحّ بصيصُ عينيه. وذاك الحلم المروّع الذي رواه، أهو من ضروب الكشف أم أنه مجرّد وهم في مخيّلة عجوز بدأ دودُ اللبْس ينخر عودَها ؟ بودّه لو يفاتح إخوانَه في الأمر، لو يشاورهم الرأيَ فيما سمعوه. لكنه عدل عن فكرته تلك لمعرفته أن الحوار سيطول مشرّعا البابَ أمام رتل من تعليقات وتفسيرات لن تنتهي إلا قبيل الفجر بأحسن تقدير، إذ ستنطلق المخيّلاتُ من عقالها، تتوالى رواياتُ هذا أو ذاك، وتمرّ الساعاتُ سريعة، رشيقة، غير عابئة بما ينتظرهم في الغد من مهام.

 

نظر إليهم يتعاونون في دلق الماء على أيدي بعضهم للاغتسال من الزفر وبقايا الطعام، فاستبان في ملامحهم كلاما مبيّتا لموعد ارتشاف الشاي. إن لم يقم من فوره، أحاطوا به وأوثقوه بحبال أسئلتهم، فوقع أسيرَ خجله من عدم الاستجابة لمطلب سَرّاج الضمني بخلع رداء الأهمية على حلمه الغريب والاستفاضة في تقييمه وتفسيره والتعقيب عليه، ذلك أنه حتما إشارة إلهية مرسلة من عالم الغيب، إلى عبدٍ مؤمن صرف حياته في التنسّك والتعبّد والورع وقراءة الكتاب.

 

غدا نهار آخر، همس الشيخُ الأكبر لنفسه، ثم قام مودّعا بتحية المساء قبل أن يلتهم قامتَه الفارعة المدثرة بخرقة من الصوف، سوادُ الرواق المعتم الطويل، المفضي على جانبيه إلى غرف الإخوان.

 

 

فصل - 2 

 

تحت جنح الظلام، نهض خلدون بعد أن تأكّد من رتابة أنفاسها المقطّعة بشخير يتعالى كالموج الصاخب قبل أن ينساب رتيبا، هادئا، متساويا كصفّارة إبريق الشاي. شقّ البابَ بتؤدّة، فأنّ هذا الأخير كأسدٍ يفتح فاه ويتثاءب ملء شدقيه. جمّد فكّي الباب والتفت إلى أمّه التي تقلّبت في فراشها مرتين أو ثلاث، قبل أن تستهدي إلى وضعية مريحة تُغرقها مجددا في غطيط سباتها العميق.

 

زجر نفسَه على إهمالها هذا التفصيل المهمّ، ثم صالحها ووعدها بمعالجة صدأ المفاصل بشيء من السمن أو الشمع، في صباح الغد على أبعد تقدير. جمع أنفاسَه وكتمها دفعة واحدة بعد أن دلف إلى الخارج، وبحركة مقتضبة وحاسمة، أغلق وراءه الباب. استدار متخفّفا مما احتبسه صدرُه من هواء، ووثب في اتجاه ليلٍ سارع في ضمّه إليه.

 

ألقى نظرة سريعة إلى السماء، ثم خفض بصرَه إلى حيث كان يسير. ما حاجته إلى التحقّق مما تأكّد منه بعد طول حساب وتدقيق ؟ هي الليلة التي تسبق ظهور الهلال. ليلة تستريح فيها السماءُ وتوهن نجومُها كقناديل شحّت من الزيت.

 

وصل إلى بئر الماء. من هنا يستدير يمنة، ثم يتقدّم نحو خمسين خطوة ينبغي أن يقع بعدها على حجر كبير، يكفي أن يرفعه قليلا ليسحب من تحته ما خبّأه في كيس منذ أيام.

 

قفز قلبُ خلدون في صدره فجأة، فازداد خفقانا وأشعره بما يشبه الدُوار. مهلا. ما زال الوقتُ أمامه فسيحا. فما الذي يدفعه إلى السير حثيثا كأنما هو على موعد مع قطار؟ أبطأ السيرَ قليلا. لكن، ما هي إلا ثوان حتى أفلتته قدماه فاستأنفتا المشيَ سريعا كأنهما لشخصٍ آخر دخل في سباقٍ معه بعد أن تحدّاه. لا بأس، فكّر خلدون، أضع الوقتَ إلى جانبي، أتواطأ وإياه، ومن يدري ؟ فربما فاجأني طارئ أو ما لم يكن في الحسبان...

 

لم يكن الحجرُ ثقيلا بالقدْر الذي اعتاد عليه. أم هو تيقّظُ حواسه واستنفارُ أعضائه اللذان أشعراه بأنه يرفع ما يشبه حصاة ؟ فتح الكيسَ على عجل وأخرج منه الأغراضَ واحدا تلو الآخر، فوضعها جانبا وانحنى يخلع حذاءه وملابسه ويوضبّها بعناية، ثم يعيدها إلى الكيس ويعيد الكيسَ إلى مكانه تحت الحجر.

 

كما خلقتَني يا رب،ّ وقف خلدون. وداهمته رغبة البقاء هكذا، عاريا، متلذّذا بغبطة رمته بها نسمةُ هواء مفاجئة راحت تتمسّح عليه كقطّ أليف. فتح ذراعيه على مداهما وباعد ما بين فخذيه كي يعبره الهواءُ المنعشُ على هواه. لو رآه أحدٌ الآن، لفرّ مذعورا ظانّا أنه ضرب هذيان، أو لحظة تخلّ كتلك التي يرودُها أهلُ الجنّ والعفاريت. احتضرت نسمة الهواء على وجهه، فأدرك أن عليه التحرّك في الحال. التقط طرفَ الحبل الطويل وراح يلفّه حول وسطه. هكذا تبقى يداه طليقتين بانتظار حاجته إليهما...

 

ضربت أمّه رأسَها تندب حظَّها على سرقة الحبل الذي تربط به الدلوَ الذي ترفع به الماء من البئر. غدا يعيده إليها مختلقا ذريعة ما، فتطبطب على صدره وتقبّل وجهه وتدعو له بطول العمر، شاكرةً الربّ لأنه رزقها بولد هو خير الرجال. هكذا هي أمّه. يومٌ له ويومٌ عليه. بل  أيامٌ عليه. حين تفرغ خزنة الطعام ولا يجد هو ما يعود به إلى البيت أو عملا يسترزق به ليعين والدته الأرملة التي لا معين لها سواه، يصبح خلدون دليل حظّها العاثر وولدها العاق ووصمة العار على جبينها وجبين والده المرحوم:

 

وما نفع أنك تعلمّتَ القراءة والكتابة سوى ما تصرفه كل ليلة من زيت القنديل وما تضيعه من الوقت مضطجعا على الفراش، متأمّلا في فتوق السقيفة تخلّعت أخشابُها، أو في اللهو والعدْو خلف حَرار، طائر الشؤم، صقرك المخبول الذي تدّعي تدريبه على اصطياد عصافير لم نضع تحت أضراسنا منها يوما ما يتعدّى الاسم أو الريش؟

 

ولو كان فيكَ أدنى خير، لكانوا اختاروك في أخوية الوفاء. ولكنتَ نجحتَ في الامتحان فرفعتَ رأسي واصطفيتَ لتحلّ مكان الحارس المتقاعد، فتقف مثله على باب المزار، ساهرا على صندوقه المحرّم، حافظا لوح القضاء والقدر وما يحويه من عظيم أسرار منّ الربُّ بها على قريتنا، قرية "اليُسْر"، فجعلها تحتلّ أعلى المراتب وتصبح قبلة الأنظار، يؤمّها الناس ليتبرّكوا بمزارها ولينعموا بما تغدقه عليهم أخويةُ الوفاء من أحجبة وعزائم وأدعية وتمائم وعقاقير.

 

ولو أخذوك حارسا، لكنتَ الآن تأكل شبع بطنك. ولكانت أمّك هي الأخرى ممتلئة الكرش مما يمنحونها إياه من معاش، بعد أن أخذوا ولدها الوحيد وعيّنوه حارسا على باب المزار. ولكانت منفوخة الصدر اعتزازا وفخرا لأنها أم الحارس الذي يملك حقّ التصرّف بحياة هذا أو ذاك، هو الذي يعلو الأعيان والأشراف مرتبة، والوحيد القادر على إمرة مَلِكٍ بحاله، لا بل على قتله حتى إن عصى التقاليدَ والأعرافَ فسولّت له نفسُه المَلكية أن يتجاوز العتبة، فيدخل حيث يُحفظ الصندوق المحرّم، حاوي علوم قراءة الغيب واكتشاف الأسرار...

 

انقطع نفَسُ خلدون وشعر بالضيق. ثم انتبه إلى أنه شدّ وثاق الحبل بقوة حول وسطه، فأعاد حلّه، ثم تزنّر به مجدّدا حريصا على جعله على شيء من رخاوة تتيح له التنفّس على راحته. تبّا لهذه الأفكار تنخر دماغَه كالسوس وتُقلق لياليه منذ شهور طوال، منذ ذلك اليوم المنحوس الذي تقدّم فيه للامتحان.

 

من ضمن عشرات، بقوا هم الثلاثة، هو وسَعْد وحسام، وكان على يقين أنه الأوفر حظا بينهم وأنه لا ريب، سيكون من سيقع عليه الاختيار. في التهديف ورماية السهام جاء أوّل. وفي رفع الأثقال حلّ ثالثا. لكنه تساوى مع الاثنين في ركوب الخيل والمبارزة بالسيف. يبقى اللقاءُ مع رئيس أخوية الوفاء. يسمّونه الشيخَ الأكبر وهو الذي سيطرح أسئلة على المتنافسين الثلاثة يقرّر إثرها، من يكون الحارس الجديد.

 

مذ كان صغيرا وأم خلدون ترضعه وتغذيه وتقوّي عظامه، ثم تتحدّى نساءَ القرية مُفاخِرة: من أصلب عودا وأكبر جسارة وأكثر رشاقة وأشد ذكاء من ولدها خلدون، كي يُعيّن حارسا ؟ هكذا كان خاله من قبله. خاله الذي قضى في نوبة قلبية وهو في ريعان الشباب. خاله الذي أمّن بمعاشه بعد مماته حياة والديه حتى وفاتهما. وخاله الذي دفع مهر أمّه قبل أن تصبح أمه وتسمّيه باسم أخيها الشاب المرحوم. ألا يقال بأن الولد ولو بار، يبقى ثلثاه للخال ؟ وقد صدق من قال !

 

وقف خلدون في باحة الأخوية ينتظر حلول دوره بفارغ الصبر. دخل سَعْد وما هي إلا دقائق معدودة حتى خرج. كان مشتعل الوجنتين، مغسولا بالعرق، جاف الحلق، مرتجف الشفتين. تراقص قلبُ خلدون فرحا لمرآه: إنه راسب لا محالة !  كان قد توقّع له ذلك أصلا، إذ اكتفى بالنقاش معه لثوان كي يفهم بأنه بسيط العقل، محدود الذكاء، له جسد ثور ودماغ دجاجة ! سَعْد يا سَعْد، أما كان أحرى بأهلك أن يسمّوك "سَعْدان" ؟ همس خلدون في سرّه متبسّما، قبل أن يقطّب حاجبيه معيدا نظره إلى الأرض، لسماعه أحد الأخوان يخرج للمناداة على حسام بأن: اتبعْني !

 

تأمّل منكبي حسام العريضين وشعر بشيء من الغيرة. حسنا، أنتَ الأقوى بيننا. لكنك ثقيل الحركة، غليظ العنق، قصير الساعدين. باستطاعة طفل أن يفلت منك، قزم حذق أن يتغلّب عليك. إذا كان في عينيّ الشيخ الأكبر شيء من البصر، لأدرك بلمحة خاطفة مكامنَ الضعف في بدنك المصبوب كجذع سنديان ـ صلب بالفعل، لكنه هشّ حين تقتضي الحاجة معرفة أصول الليونة والمرونة والالتواء ـ ولفضّل عليك خلدون حتما، بلا تردّد ومن دون أدنى شكّ، لأنه رشيق، حيّ الحدقتين، ملفوف العضلات، ممشوق الساقين، كمهر يبرز كلّما خطا صكَّ أصالته الموروثة أبا عن جد...

 

أدخل خلدون رأسه في الخِرقة، ثم انزلق فيها دفعة واحدة فأجفل بدنُه لقشعريرة دفعت الدماءَ في شرايينه وخبطتها بعنف. كان قد سأل عدلى أن تخيطها له، فمانعت في البداية ثم، حين عقد حاجبيه وهمّ بالانصراف، قامت إليه وضحكت: هكذا تريد رداء صوفيا كالنساء ؟ ماذا لو صنعتُ لك عباءة وطرزتُها بخيط حرير ؟

 

أطال في الشرح والوصف، ثم أخذ عود فحم ورسم على أرض غرفتها، فقالت: ما هذا يا خلدون ؟ كأنه زيّ أهل أخوية الوفاء ! رجل بمثل قامتك وبهائك، وتطلب كيسا لا شكل له، لا قبة ولا قلنسوة ولا أزرار ! أفقدتَ عقلك يا صبيّ ؟ ! ألحّ خلدون عليها فقبلتْ بعد أن وعد بإطلاعها لاحقا على خفية الأمر، وبعد أن انتزع منها قسَما مما يختفي وراء نهديها البضّين النديين، بإبقاء قصة الخِرقة سرّا بينهما...

 

داس خلدون الحجرَ الكبير بقدمه العارية ليتأكّد من ثباته فوق ما يخفيه. عَفَرَ الترابَ من حوله تمويهاً، ثم تقدّم غير عابئ بحصى صغيرة راحت تغرز أسنانَها في لحمه كأنما للتخلّص منه، أو لدفعه للذهاب أخيرا صوب ما ينتظره.

 

 

فصل - 3

 

أغرق الإخوانُ ما اضطرب في نفوسهم وما ألحّ عليهم من تساؤلات في لهيب أكواب الشاي التي دارت عليهم كعادتها من كل مساء لدى الانتهاء من وجبة العشاء، وقد رأوا الشيخَ الأكبر يتحيّن فرصة لهوهم عنه للحظات كي يغادرهم على عجل، مكتفيا برمي بضع كلمات. تصبحون على خير قال، بل همس، وكانوا اعتقدوا أنه وقف لقضاء حاجة ما، أو لجلب ما يقرأه عليهم ممّا يكتبه في أوقات خلوته التي تطول أحَيّانا، وقد دامت هذه المرة ما جاوز أسبوعا بحاله.

 

في مثل تلك الأماسي، يجلس بينهم وعلى محيّاه إشراقة من لفح هواءُ البحر وجهَه زمنا، من رأت عيناه عجائبَ الدنيا السبع، ومن زار بطنَ الأرض وعاد منها بأبهى وأغلى ما اكتنزته من ثمين. يستقبلونه كمن يرجع من سفر طويل، ويفرح هو بملقاهم يتطايرون من حوله كالفراش، فيعوّضهم عن غيابه بالسهر معهم حتى طلوع الفجر والاستماع إلى أسئلتهم والردّ عليها فيما هم مستلقون تحت أشرعة الأحاديث، تدفعها ريحُ السَمَر وما حلا وطاب من عناقيد الكلام.

 

يشتاقونه كالأهل، كحبيب، وها هو قد تخلّى الليلة عنهم دونما عذر أو أدنى وعد بتأجيل مجالسة تتوق إليها أيامُهم العابرة برتابة، رغم ما يكتنفها من عمل وجدّ وتحصيل علمٍ يضعون الجزءَ اليسير منه في خدمة النفوس وتطبيبها لتأمين قوتهم وما يحتاجون لصون حيواتهم المكرّسة لدراسة علم الحروف والأعداد، وللسهر على لوح القضاء والقدر وعلى حرمة المكان.

 

قال جابر ـ وكان الأصغر سنّا مع جابر الذي جلس كالعادة ملاصقا له بحيث كان الإخوان يمازحونهما بإطلاق لقب التوأمين عليهما أو بسؤالهما إن صدف ورأوهما منفصلين، "هه، أين ظلّك يا حَيّان" ؟ أو "هل فقدت نصفك يا جابر" ؟ ـ : ربما كان الشيخ الأكبر متعبا أو مصابا بوعكة. لذا تراه غادرَنا على عجل.

 

وعقّب حَيّان: أجل، هو هذا في أغلب الظنّ. لكنه سيتعافى غدا، أليس كذلك يا جابر ؟

 

نظر جابر إليه شذرا، ثم أشاح بوجهه ممتعضا، فسارع الحكيمُ إلى طمأنة هذا الأخير بأن قال: لا بأس عليك. الشيخ الأكبر على خير ما يرام. هي حالة أخينا سَرّاج التي جعلته يغادرنا على وجه السرعة. ظنّي أنه سيسهر عليه أو يبقى متيقّظا لأدنى إشارة تصدر عنه، بما أن غرفتيهما متجاورتان.

 

لم يقتنع شمس الدين بما تقدّم به الحكيم من تفسير. لكنّه آثر الامتناعَ عن التلفظ بأي تعليق حفاظا على راحة بال إخوانه، والصغيرين منهم تحديدا، جابر وحَيّان. أترى الشيخ الأكبر وجد مشقّة في التحدّث إليهم عمّا وصلت إليه أعمالُه، أم أن الكشف امتنع عليه فاضطرب وجدانُه وأنف مكاشفتهم بالأمر ؟ إن نضبت روحُ الشيخ الأكبر وما عادت قادرة على الاتصال وعلى سبر سرائر المعاني والألفاظ والحروف، ما سيكون مصيرُهم ومآلُ معجمهم السرّي ؟

 

لا تعدّ أخويتُهم كثرة من الإخوان. ولكن ما همّ، ما داموا يعملون ليل نهار. منذ الصباح الباكر، تستقبل الأخوية الزوّارَ من قرية "اليُسر" ومن القرى والبلدات المجاورة والبعيدة، حتى تبلغ الشمسُ أعلى قبّة السماء. يصطفّون بالعشرات صامتين، تخيّم عليهم رهبة المكان. حتى البهائم التي يصطحبونها للتبرّك أو لتركها عند باب المزار، يستولي عليها الجمود. هو سَهْل ـ سَهْل الربّ أموره ـ من راح إلى الشيخ الأكبر ونقل شكوانا:

 

كيف ننصرف للدراسة ولوضع معجم سرائر الحروف، إن كنّا مقتحَمين ليل نهار؟

 

وما تقترح، سأله الشيخ الأكبر، أن نقفل بابنا في وجه من يسأل وهو في حاجة إلينا ؟

 

لا، أجاب سَهْل. بل نحدّد موعدا للزيارات فلا نجحف بحق أحد ولا نظلم أنفسنا.

 

أطرق الشيخ الأكبر ساهما ثم قال: حسنا. أمهلك يومين تعود إليّ من بعدهما بما تقترحونه من تنظيم جديد.

 

ولم يمضِ يومٌ كامل إذ نادى علينا سَهْل منذ خروجه لإطلاعنا على ما أفضى إليه نقاشُه مع الشيخ الأكبر، فاجتمعنا للتوّ وتقدّم كلّ منّا بفكرة:

 

قال سَرّاج وكان الأكبر سنا بيننا: يجيئون أفرادا لا عائلات، إذ ما حاجة الأم إلى اصطحاب أولادها جميعا إذا كان ولدٌ وحيد لها هو المحتاج علاجا ؟

 

وقال ابن مسرّة: نمنع عليهم تقديمَ البهائم من بط وإوز ودجاج...

 

ضحك الإخوان وضحك ابن مسرّة ثم تابع: أتعلمون ما أصرفه وجابر وحَيّان، من وقت في إعداد الطعام ؟ ماذا لو سألناهم أن يكتفوا بتقديم ما يسَهْل حفظه وتحضيره. وما يفيض عنا نوزّعه على المعوزين والفقراء، كما نفعل بأموال النذور.

 

وقال ابن عطا: تبقى الأحجبة والتعاويذ والعقاقير و...

 

فقاطعه سَهْل مطمئنا: لا عليك. هذه وجدتُ لها حلا بعد طول بحث وتفكير. قلّما رام الزوّارُ ما لم نعتد سماعَه مئات المرات. فما عدا الأمراض على أنواعها، وما عدا مسائل الزواج والطلاق والحَمْل والوضْع وعودة الغائب واسترجاع الضائع وتأمين الأرزاق والحماية من الحسد والعين وحلّ المربوط...، هل جاءنا من فاجأنا بطلبٍ حادَ عن توقّعنا حتى الآن ؟

 

لا، أجاب الإخوان جماعة وأفرادا، فتابع سَهْل: حسنا، نحضّر إذن مسبقا حجابا أو تعويذة أو عقارا في كل باب من الأبواب التي ذكرت، ونترك فارغا المكانَ حيث ينبغي إضافة حروف اسمي السائل وأمّه !

 

دُهش الإخوانُ لغرابة الاقتراح، فما كان من حَيّان إلا أن وثب من مكانه هاتفا بحماس: ونكتب الأسماءَ على الأحجبة والتعاويذ والعقاقير، ثم نضعها على باب المزار كي يتعرّف إليها أصحابُها حين يعودون لأخذها !

 

هزئ جابر وقال ممازحا: ومن يعلّمهم القراءة يا حَيّان، أنت !؟

 

فضرب حَيّان رأسَه بكفّه متداركا: آه، نسيتُ ألا أحد منهم يجيد فكّ الحرف !

 

ثم بادر الحكيم إلى نجدته إذ قال: لا بأس، يجلبون معهم ما يساعد كلا منهم على التعرّف على حجابه الخاص، خيطا أو قماشة أو حتى عيدان نوثقها إلى الغرض الذي نضعه أمام باب المزار. هكذا يتبرّكون، يأخذون حاجتهم ويمضون !

 

ونكسب نحن وقتا ثمينا لا يقدّر، عقّب سَهْل.

 

استمرّ النقاشُ وتوالت الاقتراحات، فحُذفت نقاط من هنا وأضيفت أخرى من هناك. علّق شمس الدين، تبعه الحكيم، ثم سَهْل وابن مسرّة وابن عطا من بعدهما. وعقّب سَرّاج وجابر وحَيّان مجددا، إلى أن اكتمل التنظيم، فدوّنه سَهْل على ورقة واتجّه به مباشرة إلى الشيخ الأكبر الذي قرأه بتمعّن قبل أن يجيب:

 

ما دام هذا رأيكم، فليكن. على أن نختبر سلامة التنظيم لوقت نقرر من بعده اعتماده على الدوام، أو تعديل وحذف ما يتضح أنه مصدر إقلاق لنا وللآخرين...

وثبت حسنُ التنظيم الجديد.

واستقرّت المواعيد.

واستمرّت الزيارات.

وارتاح الإخوانُ بعد أن اقتصدوا وقتا خصّصوه للبدء في وضع معجمهم الكبير. أجيالٌ تعاقبت من أهل أخوية الوفاء على دراسة كل ما وُضع من أعمال، على المقارنة فيما بينها والتدقيق في مضامينها والتعليق عليها، وصولا إلى جماعتهم، فكّر شمس الدين، وقد خصّها الربّ بحلول الشيخ الأكبر فيها، بئر العلم الذي لا يفوقه أحد في سبر سرائر الكلمات وفي التماس باطن الحرف.

 

حين أطلعهم على نيّته البدء أخيرا في تأليف معجم سرائر الحروف، لم يصدّقوا للوهلة الأولى: هل يُعقل أن يكونوا هم، دون سواهم، من اصطُفوا ضمن من تقدّم عليهم من جماعات في أخوية الوفاء، لتُحِلّ بينهم ذاك الذي ستمنّ عليه بنعمة كشف معاني الحروف، واسطة التأمّل بين الخالق والمخلوق ؟ سألوه ذات يوم: ماذا لو سبقتنا أعمارُنا فانقطعت قبل أن نتمم ما اختُرنا له من مهمّة ؟ فأجاب: يُكمل من يجيء من بعدنا. فهذا عمل لا يكتمل إلا على مدى أجيال.

 

سنوات ولم يتجاوزوا في معجمهم حرف الحاء (ح). والشيخ الأكبر يغيب. ثم يظهر. ثم يغيب. إلى أن سمعوا صراخه يوم انتهاء امتحان الحراسة فهبّوا إليه ووجدوه ملقيا على الأرض في دار خلوته مرتعدا، مزبد الفم، غائم العينين. قال لهم سَرّاج وكان الأدرى بينهم: إنه في حالة انتقال. دعوه واخرجوا وسأبقى أنا معه أرقبه من بعيد.

 

غادروا وتجمّعوا في البهو، إذ عزّ عليهم أن يستأنفوا عملَهم وشيخهم الأكبر في حالة غياب، بل في طور جذب وانشداه. بقوا هكذا مكبّلين بسلاسل القلق والانتظار حتى خيّم المساء، فعاد إليهم وما عرفوا كيف يحتفون به ويعبّرون عن فرحتهم برجوعه إليهم. وحده سَرّاج بقي حالك الوجه لأيام. ولم يفهموا ولم يحظوا منه بردّ، بالرغم ممّا حاصروه به من أسئلة وانهالوا عليه به من استفسارات. بقي مطبق الشفتين، مضطرب الملامح، لأسابيع. ثم رجع النطقُ إليه. لكنّ عينيه أخذتا تنطفئان وراح لسانُه يروي ما يختلط عليهم، وصولا إلى ما طالعهم به هذا المساء من حلم هو أشبه بكابوس.

 

يخاف عليه الشيخُ الأكبر ويداريه لطول العشرة بينهما، وهما الَأخَوان الأقدم حضورا في أخوية الوفاء. يخاف عليهم جميعا ويحنو كأب رؤوف. وكالأب يؤنّبهم في أحيان، ويحنق في مرات، فيخرج عن طوره إلى نوبات غضب تعكّر مياه الهدءة والأمان حيث يسبحون. ثم يداعبهم حتى تفترّ شفاهُهم عن ابتسامة، فيغادر مطمئنّا إلى أنهم استرجعوا طيبَ المزاج.

 

ثم يغيب. ثم يظهر. وفي جعبته أعقد العِلم وأبهى الكلام. ألم يردّد على مسامعهم مرارا وفي عدة مناسبات: طبعُ الكلمة الغدْر. تنظر إليها لسبر مكنونها، فتتزيّن كالأنثى حتى يلتبس عليك الأمر. تتغاوى حائلة بينك وبين معناها الحقيقي، معناها الباطني، كي يمتنع عليك جوهرُ الكلام، كنهه الذي لا ينتظم خارج معنى كل حرف.

 

بواطن الحروف ! ذلك هو ولعه وسبب وجوده والشمس التي تنير روحَه وتمدّها بالحياة. الشيخ الأكبر بئر علم ومستودع إيمان ومحيط يقين وغابة تواضع. ومع ذلك، فهو يربكهم أحَيّانا كيوم ظهر عليهم بغتة ثم قال: اشطبوا كل ما أعددتموه عن حرف الباء !

 

ماذا ؟! نشطب عشرات الصفحات ونرمي ما دوّناه خلال شهور كاملة وما قضينا في جمعه سنوات ؟!

 

اعتذر الشيخُ الأكبر وطفح العرقُ منه وهو يقول: ما حضرني الليلة أشار عليّ بالتحقق مما أدركتُه خطأً. احذفوا حرفَ الباء، أردف ثم غاب.

 

بكينا جميعا. سالت دموعُنا غزيرة كالسيول. ثم تعانقنا ورحنا نشهق ونختنق بنحيبنا كالأطفال. وقف سَرّاج على حنق وأفتى: تخرجون جميعا، الآن وفي الحال ! اذهبوا إلى الواحة خلف المزار واصطحبوا ما استطعتم من حبال. انصبوا بين أشجار النخيل أراجيحَ وتأرجحوا فيها حتى يرحل الغمُّ عنكم، ثم عودوا مساء وأنا سأهتمّ بإعداد العشاء.

 

امتثل الإخوان. كانت صدورُهم مثقلة بأكثر ممّا يُعينهم على فتح أي نقاش. هما جابر وحَيّان اللذان بدآ، تساعدهما على ذلك طراوةُ سنّهما. تراشقا بالماء حتى ابتلا كجرذين صغيرين وراحا يتمسّحان بالآخرين إلى أن انتشر الضحكُ بيننا وتعالت الصيحات، فيما الأراجيحُ تحملنا إلى السماء وتعيدنا إلى الأرض، كوريقات يلاعبها النسيم.

 

شيئا فشيئا، تخفّفنا من كدرنا وعدنا كما أمرَنا سَرّاج بعد أن غابت الشمس عن وجه السماء. كان الشيخ الأكبر أمام الباب في انتظارنا. عانقنا فرداً فرداً وقبّل رؤوسَنا، ثم تبعَنا إلى البهو حيث اجتمعنا لتناول العشاء. مازحَنا طويلا وحين جاء موعدُ ارتشاف الشاي، صمت لحظاتٍ بادر بعدها إلى إطلاعنا على بواعث قراره ذاك:

 

لكل حرف طباعه ومقوّماته، كما هي حال البشر الذين يتوزّعون على مختلف الأمزجة وأصناف السلوك. لكن، من ذا الذي يقرّر للعباد الطباعَ والمسلكَ والمصير، ويهبُ الكلامَ روحَه وجوهرَه ومعانيه ؟ أليس هو السامي المتسامي، مالك الأسرار، الكلّي المقتدِر القدير؟ اللغة الآدمية هي تجلّي اللغة الربّانية، لأن الوجود هو كلمات الربّ. لذلك تملك الحروفُ ظاهرا وباطنا، الأول متصل بما وُضع من تعريفات لغوية لمعاني الألفاظ يُبيح تجاوزُه إدراكَ الثاني، أي باطن الحرف، من خلال انخلاع حجاب الغفلة عن القلب والاتصال بالغيب عن طريق الكشف، لكي يحصل الإلقاء والتلقّي، التداني والترقّي. فاعلموا أن مراتبَ الحروف متّصلة بمخارج الحروف، وأنها موزّعة بين عامّة وخاصّة، وأن الخاصّة منها مقسّمة على عدة درجات تتبوّأ الحروفُ الرُسُلُ أعلاها، وأن الفرق بين حروف التكلّف وحروف التحقّق يحدِّد بالتوازي الفرقَ بين أهل الأنوار وأهل الأسرار، استنادا إلى تنويعات قيمة الحروف الرقمية. فحروف الهجاء ثمانية وعشرون. وهي بعدد منازل دورة القمر. ولكلّ منها فلكُه وسني حركة فلكه وعدده ومرتبته وبسائطه وأطباعه من البرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة، وذلك ارتكازا إلى قول ابن عربي، حين كتب في معرفة الحروف ومراتبها والحركات:

 

" إن الحروف أئمة الألفاظ              شهدت بذلك ألسنُ الحفاظ  

 

 دارت بها الأفلاك في ملكوته          بين النيام الخرس والأيقاظ

 

ألحظتها السماء من مكنونها            فبدت تعزّ لذلك الألحاظ

 

وتقول لولا فيض جودي ما بدت       عند الكلام حقائق الألفاظ ".

 

عالج الشيخُ الأكبر جفافَ ريقه بجرعة ماء، قبل أن يختم حديثه بالقول: إن تجاوز حرفٌ حرفَه، أي حدّه وحدوده، أفلا يُخشى أن نقع كمن سبقنا في متاهة التخريف والتحريف ؟ أفلا تغفرون لي إذن خطأي، إن كنتُ قد أسأتُ تحديدَ دلالات حرف الباء ؟

بلى ! أجابوا جميعا. ثم قاموا إلى محترف الكلام فجمعوا ومزّقوا كل ما سوّدوه في حرف الباء من أوراق.

استتبّت الأمورُ في اليوم التالي.

وعاد كل شيء إلى مجراه الطبيعي في ما تلاه من أيام.

يحبّونه بأكثر ما يفوق الحبّ بكثير. ذلك أنهم على يقين بأنه حلقة الوصل بينهم وبين من يختصر كل الأسرار والمعاني في حرف واحد من أسمائه. ولكن، ماذا لو أُقفل بابُ التلقّي والكشف في وجه الشيخ الأكبر، فما عاد قادرا على رؤية أشياء الغيب ومحاكاة أرواح الحروف ؟

أفلتت هذه الجملة من فم شمس الدين على غير إرادة منه، فالتفت إليه الإخوانُ مصعوقين، مرتبكين، حائرين فيما يعلّقون أو يجيبون. هو ابن مسرّة من قضى على الذهول الذي اعتراهم، إذ انتصب فجأة وقال: نأوي إلى النوم وقد تقدّم الليلُ بنا كفايةً يا إخوان !

 

 

 

فصل - 4

 

 

أوى أهلُ قرية "اليُسر" إلى النوم مطمئنين إلى صباحٍ سيرجع إليهم بما اعتادوه، غافلين عمّا يبيّته لهم الغدُ وقد قرّر خلدون اختطافَه وتمويهَ ملامحه.  

 

عبَر الأزقة وهو يتلفّت إلى شقوق النوافذ والأبواب يتسرّب من بين أهدابها بقية نورٍ أثقل دفءُ النعاس بصيصَه، ثم ولج شارعَ الحوانيت فاستقبلته ستائرُ مسدلة في وجه فئران تعبث هنا وهناك، وكلاب داشرة تلوب على ما تُسكِن به وجعَ بطونها. مرّ من أمام حانوت زيدون الورّاق، فتمهّل قليلا يتأمّل ستارته التي لن ترتفع كجاراتها في كل صباح. رحمك الرب يا زيدون. ما زال حانوتك مقفلا منذ شهور. لا وريث يرث من بعدك، ولا أهل ولا أقرباء. غريبا كنتَ عن قرية "اليُسْر" وغريبا متَّ، وما عرف أحد حقيقة أصلك وفصلك، ولا من أين أتيت...

 

يمرّ الصبيُّ خلدون أمام حانوت الورّاق، ثم يقف في الباب من دون حراك. يلتفت إليه زيدون مرة، أو اثنتين، قبل أن يستأنف وضعَ عينيه الزجاجيتين في صفحات كتابٍ يرفعه بمحاذاة وجهه كي تسهل قراءته. هكذا. على هذه الحال. خلال أسابيع. الصبيّ خلدون في الباب، وزيدون في حانوت يغصّ بورق أصفر لا حاجة لأحد به، إذ ما تفعله قرية لا تملك مدرسة أو ما يشبه الكُتّاب، بحانوتي غريب مهووس بالأوراق ؟

 

ومع ذلك، تتناقص كدسُ الأوراق حتى يفرغ الحانوتُ منها تماما، ثم يختنق بها من جديد. والصبيّ الذي يجيء كل نهار ليقف في الباب متأمّلا جانبا من وجه الحانوتي يضع على عينيه دائرتي زجاج ويحدّق خلال ساعات في كتاب، لا يفهم سرََّ اختفاء الأوراق أو معاودة ظهورها، وجمودَ هذا الرجل الذي لا يطرده من أمام بابه كما يفعل الحانوتيون في شارع الحوانيت.

 

إلى أن وضع على العتبة ذات يوم، كوبَ لبن وبعضا من حبّات التمر. نظر إليها الصبيّ وكان جائعا، فانحنى يلتقطها منتظرا التفاتة الورّاق إليه، وهو يبتلع لعابَه المتدافع تحت لسانه كي لا يفاجئه الآخرُ في لحظة ضعف، متلبّسا بجريمة شطط الريق والاشتهاء. كان في نيّته التأمّل فيها لثوان، ثم إعادتها بازدراء إلى حيث كانت، على مرأى منه. لكن، ما التفت زيدون، فهرس خلدون التمرَ تحت نعله ورمى بكوب اللبن بكل ما أوتي من قوة على أرضية الحانوت، ثم طفق يعدو حتى أصبح في مأمن من أي عقاب. وحين استدار ليتأكّد من أنه نفذ، لم يجد الحانوتي في أثره، بل في حانوته على وضعيته نفسها، هو وكتابه بين كدس الأوراق.

 

ثم غاب خلدون أياماً. لم يغب تماما إذ كان يختبئ مراقِبا من بعيد، مستغربا تصميم الورّاق على وضع التمر واللبن على عتبة حانوته كل نهار. هل هو فخّ تنصبه لي كي تستدرجني فأقترب فتمسك بي وتعاقبني ضربا على ما فعلتُ ؟ أم أنها راية بيضاء ترفعها كي أثق بأنك غير حاقد ولا تريد بي شرّا وقد صفحتَ أيها الحانوتي ؟ لو أراد معاقبته لفعل ذلك مباشرة، فكّر الصبيّ. ولكان على الأقل أتى بردّ فعل، انتفض أو زعق أو أبدى غضبا أو أطلق شتائم أو نعوتا بأسوأ الأوصاف. لكنه لم يفعل شيئا من هذا، بل بقي جامدا كأنه عرف مسبقا ما دار في ذهن خلدون، حين رماه بما رماه وفرّ هاربا.

 

دجّنه الورّاق. كحيوان برّي. بصبر ومكر. إلى أن اجتاز الصبيّ يوما عتبة الباب فاقتعد الأرضَ في مواجهته، نزع عن أنفه الزجاجتين ووضعهما على عينيه، ثم أخذ الكتابَ من يديه وفتح حدقتيه على اتساعهما وهو يبحلق فيه. ابتسم زيدون، فقام خلدون إلى كوب اللبن فشربه دفعة واحدة، ثم التهم التمر وهو يتلاعب بتعابير وجهه كي تقارب في شبهها ملامح القِرد.

 

دجّنه. فتبنّاه خلدون بعد أن قرّر أن يجعل منه في سرّه أباه الذي توفي وهو على ثدي أمّه. دجّنه وربّاه وعلّمه ما ينبغي لرجل أن يعلّم ولدَه الوحيد. أمسك بيده الصغيرة مُطبقا أصابعه على قلم، ثم خطّ على ورقة وهو يتهجّأ: خـ لـ د و ن ! أرايتَ ؟ لقد كتبتَ اسمك يا صبيَّ ! وطار الصبيُّ فرحا وظلّ محتفظا بالورقة لأسابيع، إلى أن امّحت حروفُها وتمزّقت طياتُها، فعاد إليه بعينين دامعتين. لا بأس، قال له الورّاق، أعلمّك كيف تخطّ اسمَك على ورقة جديدة. لا بل أعلمّك حتى كتابة حروف الأبجدية بحالها وفكّ رموزها واصطياد قلوب الكلمات !

 

حتى جاءت أمُّه ذات صباح. تبعته على غير دراية منه لتتبيّن سببَ غيابه المتكرّر عنها. دخلت الحانوتَ وانفجرت كبركان. أرْخَتْ حمولتَها من الصراخ والزعيق والشتائم والاتهامات، ثم صفعت خلدون وجذبته بعنف لتعود به. وقف لها زيدون في الباب مؤكّدا أنه لا يريد بولدها أي سوء، وأنه إنما يعلّمه القراءة والكتابة لأن الصبيّ شعلة ذكاء وتربة غنية ستُنبت أفضلَ الثمار. وأمّه تنقل بصرَها بينه وبين الحانوتي وهي لا تفهم ما علاقة كل هذه الخصال الحميدة والأوصاف المجيدة بولدها الشقيّ المتّسخ العاق، سفّاح القطط والكلاب الشاردة، قاتل الحشرات وكل ما دبّ على الأرض !

 

حتى وجد زيدون المفتاحَ إلى قلبها وعقلها فعرض عليها أن يأخذ ابنَها صبيّا له يعمل في الحانوت، لقاء أجرٍ يدفعه لها كل أسبوع. كتمت أمُّه ابتسامة، ثم عقدت حاجبيها وسألت: كم ؟ فأجابها الورّاق: ما أردتِ. فحدّدتْ مبلغا. وقبل هو. فيما خلدون واقف بينهما يمسح أنفَه وما سال على وجهه من دموع. وحين غادرت بعد أن سوّت ملابسَه وأوصته بإطاعة أوامر "المعلّم زيدون"، جلس الحانوتي منهكا يجفّف عرقا أغشى بصرَه ولوّث زجاجتي عينيه. فما أمهله خلدون وقتا كي ينتهي، بل ارتمى عليه يعانقه حاشرا رأسه الصغير ما بين فسحة العنق والرداء.

 

رحمك الربّ. كم كنتَ واسع القلب، عميق الرحمة، أصيل النُبْل. يتّمتَني بوفاتك عشرات المرات، إذ فقدتُ برحيلك الأبَ والأخَ والمعلّمَ والصديقَ والأهل. أتذكُر يوم حملتُ إليك طائرا جريحا وجدتُه أرضا، كي أثبت لك أني على عكس ما ادّعته والدتي، لستُ سفّاح حيوانات، فأخذتَه ومسحتَ شعري ثم ساعدتَني على تجبير جانحه الكسير. وحين شُفي، أعدتَه لي وقلت: هو صقر صغير يا خلدون. أتريد الاحتفاظ به ؟ فنظرتُ إليك، ثم خفضتُ عينيّ، فأجبتَني: أعرف. ولا حاجة إلى إقلاق أمّك. نبقيه في الحانوت حتى يكبر، فتدرّبه على الصيد والطيران، ثم نفلته كي يعود إلى أهله. أتختار له اسما ؟ حُرّ ! أجبتُك على الفور، فقلتَ: حسنا، نسمّيه إذن حَرار.

 

وكبر حَرار. أصبح صقرا يحلّق عاليا في السماء. أطلقتُه مرارا فما عاد إلى أهله. وحاولتُ تدريبَه على الصيد فما أراد. بل بقي يبيت في الشجرة أمام الحانوت. يلاقيني صباحا حين أجيء إليك، ويغادرني حين أعود إلى أمّي. أسألك: كيف يكبر ونحن لا نطعمه إلا مرة في اليوم، إن كان لا يصيد ؟ وتجيبني: إن في الحياة ألغاز لا نقدر دوما على حلّها. فأغتنمُ الفرصة قائلا: كلغزك أنت وما تخفيه من أسرار ؟ وتبقى صامتا. وأعتذر منك ككل مرة أطرح فيها عليك أسئلة عن ماضيك ولا تردّ. ما الذي أخفيتَه وذهب معك إلى القبر ؟ ...

 

توقف خلدون يحكّ جلدَه تحت خرقة الصوف. تبّا لك أيها الشيخ الأكبر ! أما كان بإمكانك أن تختارني حارسا فتبعد عنّي كلّ ما أنا الآن فيه ؟ عشر سنوات من عمل يقوم على الوقوف على باب المزار ليل نهار لحراسة صندوقه المحرّم الحاوي لوح القضاء والقدر، أُحال من بعدها على التقاعد وأظلّ أقبض معاشا إلى نهاية العمر. هذا ما أضعتَه عليّ أيها اللئيم لأنك فضّلتَ الأسوأ بيننا، ذلك "السَعْدان" سَعْد. لو اخترتَ حسام مثلا، لكنتُ فهمتُ دافعَك إلى رفضي بالرغم من كل ما أمتاز به من كفاءات. لكن، أن تختاره هو بالذات ؟!

 

وأمّي التي ركضت إليّ وهي تملأ الأرجاء بالزغاريد، وهي تمطرني بالأسئلة وقد عدتُ من امتحان دام أياما: هه، متى تبدأ ؟ وأين بذلة الحراسة والعمامة والسيف ؟ وهل أفهمتهم أن خالك كان حارسا من قبلك ؟ وهل عرفتَ بوفاة المسكين زيدون ؟...

 

دفعتُها عنّي وطفقت أعدو حتى وصلتُ الحانوت. كان فارغا منك. وما استقبلتَني. وما ابتسمتَ لي خلف نظّارتيك المتّسختين. وقعتُ على ركبتيّ وأنا أشهق شهيقَ الأولاد. لا أعرف من كنتُ أبكي وماذا. أفقدانك أنت، أم فشلي في امتحان الحراسة، أم أشعوري بالارتياح من عدم مواجهتك بعد كل ما صرفتَه معي من وقت وجهد ؟ كنتَ تعرف كل ما سأمرّ به، في أدق التفاصيل. وحين تعجّبتُ وسألتُك إن كنتَ قد تقدّمتَ بدورك للامتحان، ضحكتَ وأجبتني: أضفْ هذا اللغزَ إلى قائمة ما جمعتَه عنّي من ألغاز !

 

خرج حسام ووقف يتأمّلني وأنا معلّق بشفتيه. ماذا ؟ سألتُه، فلم يتلفّظ بحرف حتى كرّرتُ عليه السؤال. فقال: دورك الآن، ينتظرك في البهو. ثم ابتعدَ قبل أن أتمكّن من الاستفهام كيف أجد البهو ومن يدلّني إليه. تريّثتُ قليلا علّ أحد الإخوان يأتي لاصطحابي كما حصل للآخريْن. إلا أن أحدا لم يظهر، فأصابني هلعٌ وقلتُ ربما اعتقد الشيخُ الأكبر أني انسحبتُ أو ظنّ أني أتلكّأ أو أتردّد أو أتحادث مع حسام، لأعرف أي نوع من الأسئلة أو الأحاجي طرح عليه. وازداد خفقانُ قلبي وأنا أشعر الثواني تمرّ مسرعة، بينما أنا أسيرُ موقفٍ سخيف سيفوّت عليّ فرصة العمر.

 

حزمتُ أمري وعبرتُ الباب، فواجهني رواقٌ معتمٌ طويل وعددٌ من الأبواب الموصدة على جانبيه، احترتُ في أيّ منها أختار. سعلتُ مرة. ثم مرتين. ثم تنحنحت آمِلا أن يتنبّه أحد إلى وجودي. غير أن الصمتَ استمر مطبقاً، كما هي حال كل تلك الأبواب الصمّاء.

 

انتهى بي الرواقُ إلى غرفة فسيحة أشبه ببهو. قلت هي حتما هذه، فقررت دخولها وأنا على يقين أني سأجد الشيخَ الأكبر متربّعا بانتظاري على الحصيرة التي تغطي أرضَها. أعددتُ الجملة الأولى التي ستلي سلامَ التحية، حريصا على الاعتذار مباشرة لمحو ما قد يكون داهمه من سوء انطباع. لكني وجدتُ نفسي واقفا في البهو، فاغر الفم كحمار. يا الله ! ما هذا الكابوس ومتى أفتح عينيّ ؟ لا بأس. تنفسْ عميقا يا خلدون، وحافظ على رباطة الجأش. ها أنت في الأخوية وشيخك ينتظرك اللحظة على بعد أمتار، لا بل على مقربة خطوات !

 

تركتُ البهوَ واتّجهت إلى حيث أخذتني قدماي. رأيت بابا مشقوقا فقلت هو هذا حتما. ففتحته فأطلّ عليّ درج أخذته حتى أفضى بي إلى ما يشبه ردهة ضيقة، معتمة،  تبيّنت بصعوبة امتلاءها بشتى أنواع الأغراض أخفى الغبارُ وخيوطُ العناكب هويتها. استدرت لأعود على أعقابي مدركا أني أخذت وجهة خاطئة. وما أن وطئتُ الدرجة الأولى، حتى تناهت إلى سمعي أصواتٌ متأتية من طرف الردهة إلى حيث اتجهتُ حريصا على تفادي الاصطدام بما اجتمع من ركام هنا وهناك. مددتُ يدي أتحسّس الحائطَ أمامي، فإذا هو لوح خشبيّ انصاع ملتفا على نفسه بحركة دوران دفعتني إلى الداخل حيث انكشف عليّ مشهدٌ جمّد الدماءَ في عروقي، كما جمّد حدقاتِ الأعين التي التفتت مصعوقة تحدّق بي.

 

بقدر ذهولي كان ذهولهم. ولبثنا هكذا نتناظر للحظات، قبل أن تبدأ عيناي باستكشاف طبيعة المكان وتفاصيله، لتبيّن سبب اجتماع الإخوان ها هنا، في ما لا يترك أدنى شكّ بأنه سرداب سرّي. تشاوروا في صمت، قبل أن يقرّروا في شبه إجماع ضمني، الانقضاضَ عليّ مرفوعي الأذرع كأنما لإخفاء ما ينبغي ستره، ولمنعي من رؤية ما هو فاضح، ما هو أقرب إلى حالة عُرْي.

 

دفعوني إلى الخروج، ثم أمسكوا بي لظنّهم أني سأهرب، واصطحبوني إلى حيث كان الشيخ الأكبر متربّعا في البهو حيث مررتُ قبلا ولم أجده. أطلقوا كلاما سريعا متسارعا ضمّنوه عبارة "محترَف الكلام"، فيما أنا أسترجع تفاصيل ما رأيت، مركّزا على كدس الأوراق التي احتلّت رفوفا بأكملها، وقد تعرّفتُ فورا إلى صفرتها ورائحتها التي تملأ خياشيمي عندما ألج باب الحانوت كل صباح. هذا هو إذن سرّ اختفاء الأوراق ومعاودة ظهورها ! ولكن، ما سبب كل هذا التستّر يا زيدون حول اتجارك بالورق مع أخوية الوفاء ؟ هل هي طبيعة أعمالهم التي فرضت عليك الكتمان، أم أنها الطلاسم والأحجبة التي تنتمي إلى عالم السرّ ما منعك من البوح، ما أخافَهم حين رأوني، وما يجعلني اللحظة أرتعد كطفل ؟

 

رفع الشيخُ الأكبر كفّه، قاطعا سيول الكلام: دعوني وحيدا معه وعودوا إلى أعمالكم. قال ذلك وافترّت شفتاه عمّا يشبه ابتسامة لم أعرف أهي لطمأنتي، أم لطمأنة الإخوان. منذ البداية ولا أدري لماذا، لم أرتح له. كان فارع القامة، جليل المنظر، طويل الأصابع نحيلها، يداه على نعومة وبياض ذكّراني بأيدي من نصادفهنّ أحَيّانا من نساء البلدات البعيدة اللواتي يأتين لاستيفاء النذور، أو للتبرّك والصلاة على باب المزار. تأمّلتُ طويلا في رأسه الحليق يعلو لباسَه الصوفي الخشن الشبيه برداء الرهبان، لا يتلاءم مع ما ظهر من نعومة على جلد أطرافه العارية، وأنا أفكّر في لحظة مغادرتي ومسارعتي لإطلاعك على ما جرى لي.

 

وتخيّلتكَ تصغي إليّ وتقول: مهلا، أمامنا وقت فلا تستعجل الكلام. وتصوّرتُ سلفا تعليقك الأول: أتريد إقناعي بأنك نزلت الدرجَ معتقدا البهو هناك ؟ وإجابتي: بالطبع لا، بل أني كنتُ مدركا حتى تمام الإدراك حجمَ المجازفة وما تكتنفه من أخطار. ما تريد ؟ أن يغيّر خلدون طبيعته في لحظة فيتخلّى عن فضوله وما تمارسه الألغازُ والأسرارُ من غواية عليه ؟

قطع الشيخُ الأكبر حواري الوهميّ معك حين سألني: ما الذي أخذك إلى محترَف الكلام يا بنيّ ؟

فأجبت: لقد تهتُ !

فقال الشيخ الأكبر: غريب تيهك هذا الذي حملك على النزول إلى تحت الأرض. عمّا كنت تبحث ؟

فقلت: عنك ! هو حسام من قال اذهبْ إلى البهو ولم يدلّني كيف أصل إليه.

قال: لكنّ البهو كما لاحظتَ، هو أول ما يطالعك بعد اجتياز الرواق.

قلت: وقد دخلتُه وانتظرتك أيها الشيخ الأكبر، ولم تكن فيه.

فقال: أجل. خرجتُ لترطيب حلقي بجرعة ماء.

فقلت: خفتُ أن أطيل انتظارَك، فخرجت أبحث عنك لظنّي أن البهو الذي دخلتُ، غير الذي تنتظرني فيه.

فسألني: هل أخافكَ ما رأيتَ ؟

لم أفهم قصدَه بادئ الأمر ولم أدرِ بما أجيب، لكني تذكرتُ امتحانَ الحراسة فسارعتُ أقول: ولِمَ أخاف ؟

معك حق، أردف ثم أطرق ساهما قبل أن يضيف: هم الإخوان الذين خافوا من ظهورك المفاجئ عليهم في مكان يُحرَّم دخولُه على غريب.

أنهى جملتَه تلك، والتفت إلى ورقة موضوعة على الأرض بجانبه مضيفا: تدعى خلدون. وأنت وحيد لأمّ أرملة لا معيل لها سواك. أفلن تعزّ عليك مفارقة والدتك، وحراسةُ المزار تقتضي تكريسَ وقتك وحياتك للسهر عليه طوال عشرة أعوام ؟

قلت: تأتي إلى زيارتي بين الحين والحين. فوالدتي تسكن على مقربة، في قرية "اليسر".

قال: ماذا عن النساء ؟

فاشتعلت الحمرة في وجنتيّ وداريتُ خجلي بأن أجبته شبه حانق: لا هواية لي بهن !

 

ألهذا الحد ؟ قال مبتسما ثم أردف: لا بأس عليك. ستُحال إلى التقاعد ولمّا تبلغ بعد سنَّ الثلاثين. فتتزوج حينذاك وترزق بما طاب لك من أولاد، وقد اطمأننت إلى ما يوفره لعائلتك ولك، المعاشُ من راحة بال.

 

تململ خلدون في قعدته لظنّه بأن الشيخ الأكبر قد فرغ من استجوابه، غير أن الأخير بادر إلى السؤال: وممّا كنتما تسترزقان والدتك وأنت ؟

فأجاب: كنت أعمل صبيا في حانوت زيدون.

فقال الشيخ الأكبر: زيدون، ومن يكون ؟

فقال خلدون بنبرة لا تخلو من التحدّي: هو ذاك الذي يزوّدكم بالأوراق !

عرفتُه ! علّق الشيخ الأكبر. هو الورّاق الذي تتعامل الأخوية معه. فاتني اسمُه لأن الإخوان يدعونه الورّاق، ولأني لم أتعرّف به أبدا حتى الآن.

أنا أيضا لم أتعرّف إلى أيّ من الأخوان رغم أني أمضي جلَّ نهاراتي في الحانوت ! أطلق خلدون مبارِزا. فنظر إليه الشيخ الأكبر مواربة كأنما ليقول: هه، صرتَ أنت من يطرح الأسئلة الآن ؟ لكنه أجاب: هما جابر وحَيّان من ينزلان إليه مرة أو مرتين في الشهر، للتزوّد بالأوراق. ولا عجب في أنك لم ترهما أبدا، إذ يخرجان ليلا لتجنّب لقاء الناس... وهل يكون الورّاق هو من دفعك إلى التقدم إلى امتحان الحراسة ؟

لا، ردّ خلدون. هي والدتي التي كان لها أخ أحمل اسمَه، بقي حارسا على باب المزار إلى أن قضى بنوبة قلبية بعد خمسة أعوام.

أجل، فهمتُ الآن، قال، ثم صمت متفكّرا قبل أن يعاود السؤال: وما عمل صبيّ في حانوت ورّاق ؟

الحقيقة، هي بدعة اختلقها زيدون لكي يعلّمني فكّ معاني الحروف، إذ كان يرى في عينيّ بريقَ حبّ المعرفة. هذا ما قاله، أضاف خلدون مبتسما بحياء.

تجيد فكَّ الحرف ! علّق الشيخُ الأكبر عابسا، مغضّن الجبين، فيما راحت حدقتاه تلوبان مضطربتين على ما يستوقفهما. تناول الورقة التي على الأرض فطواها، قبل أن ينهض مستأذنا ومتعجّلا بالانصراف.

والنتيجة ؟ سأل خلدون. فما التفت ظهرُ الشيخ الأكبر وما أعار سؤالَه الأخيرَ أدنى انتباه.

 

 

 

فصل - 5

 

سمع سَرّاج الإخوانَ يأوون إلى غرفهم، فتصوّر مقدارَ خيبتهم لانسحاب الشيخ الأكبر باكرا ولبقائهم على جوعهم وتوقهم إلى أخباره متى غادر دارَ خلوته بعد احتباسه فيها لأيام. عساه لا يكون قد تذرّع بحالتي وبالقلق عليّ، وعساه يتركني في حالي كما فعل حين وقف على باب غرفتي مصيخا السمع، فتظاهرتُ أنا بالنوم متحكّما بإيقاع أنفاسي التي خالطتُها بحرف الخاء.

 

هل يكون خدعنا طوال هذه السنين، أم أنني أنا من تسرّبت الظنونُ إلى قلبه فأصبح يأتمر بالريبة بعد أن احتضرت روحُ الثقة بين أضلاعه ؟ ليته فاتح الشيخَ الأكبر فاستفسره عمّا رآه ودكّ ركائزَ عمرٍ من الإيمان المطلق الأعمى بما يزعم أنه رسالته اليوم ورجاؤه في الآخرة ؟ هراء ! بمَ سيفيدني سؤالُه إن كنت سأشكّك سلفا بما سيقول ؟ أم هو جبنك يا سَرّاج وخوفك من ردّ فعله ما منعاك من البوح بما يضطرب في داخلك، له أو لأي مخلوق سواك ؟ أجل، هو ذاك. ولا حاجة بك إلى مراوغة نفسك بالمزيد، كما تفعل مع الإخوان حين تزعم انطفاءَ البصر وتلقي إشارات ربّانية عبر ما يجيئك في المنام.

 

ما رواه في البداية من أحلام كان تلفيقا، إنذارات ضمنية وجّهها إلى الشيخ الأكبر علّه يخاف، فيتعقل. باستثناء ما أطلعهم عليه هذا المساء عن مصرع الحروف، وكان رؤيا أشبه بكابوس... الشيخ الأكبر يأكل مستمِعا، معتقدا بأن سَرّاج لا يراه، والآخرون شاخصون إليه كحيوانات البهلوانات ! أنقذه ادّعاءُ العمى، وإلا فكيف كان سيتمكّن من الانسحاب ممّا برحوا يصرفون أيامَهم في وضعه، استنادا إلى ما يمطرهم به الشيخُ الأكبر من علم تلقّاه عن طريق الجذب والحلول المفضيين إلى باب التلقّي والكشف ؟

 

هراء ! إذ كيف يأتي الكشفُ لمن ساءت نفسُه فحملته على عمل ما تحرَّم ممارستُه على أهل الأنوار ؟ أوَلم يكن أوّلُ عهد قطعوه على أنفسهم حين دخلوا الأخوية، هو الوفاء لقسَم وضْعِ معارفهم في خدمة الخير وتسخير علم الحروف والأعداد لمساعدة المظلوم وشفاء المريض وعودة الغائب والحفظ من المكروه والنصر على الأعداء وزيادة الرزق وتسهيل المحبة وإرجاع الإلفة وحلّ المربوط ؟ فكيف يستمرّ سَرّاج على إيمانه بمن نقض العهدَ وحنث الوعدَ فأراد إنزالَ مكروه بمن هم أقرب الناس إليه، مستخدما علمَه في غير مطرحه ومطوّعا معارفه لأذية من يربطه به يمينُ أخوّة ووفاء ؟ أجل، هذا ما كان من الشيخ الأكبر ! ولو لم تصبه حالة إغماء في ذلك النهار المشؤوم، بعد انتهاء امتحان الحراسة، لاستمرّ سَرّاج على عماه بأكثر مما يدّعيه اليوم من عمى !

 

علا صراخُ الشيخ الأكبر في دار خلوته، فهببنا إليه مذعورين حتى وجدناه مطروحا على الأرض، مزبد الفم، غائم العينين، مصطكّ الأسنان. قلتُ للإخوان وكنتُ الأخبر بينهم: دعوه واخرجوا، إنه في لحظة تلقّ، في حالة انتقال. هراء ! ليتني ما أمرتُهم بالخروج وأبقيتهم معي ليبصروا ما أبصرته عيناي من إثم وسوء أعمال.

 

بقي يتخبّط في الأرض، فدنوتُ وترّبعت عند أعلى رأسه الذي ألقيتُه على حُجري كي لا يرتطم بالبلاط، ثم حشرت طرفَ خِرقتي بين فكّيه خوفا من قطع لسانه بين أسنانه. هدأت نوبتُه بعد لحظات، وانحنيت أضع أذني على مقربة من شفتيه كي أطمئنّ إلى أنه لم يفقد الروح، فبانت لعينيّ عبر قبّة خِرقته بقعة داكنة مرتسمة على الصدر. خلتُها كدمة زرقاء في البداية. لكن، ما أن أمسكتُ القماشَ ورفعتُه حتى بان لي أنه أثر حِبر امتزج بالعرق داخل وشم على شكل مثلّث تحتلّ الحروفُ زواياه والأعدادُ قلبَه المقسّم إلى مربّعات. ما هذا ؟ وما فهمت حتى قمتُ من خلفه واستدرتُ لكي أتمكّن من قراءة المكتوب بعد أن استوى لناظريّ واستقام...

 

إنه طلسم ! اضطرب قلبي فخفق سريعا لإدراكي أنّ ما يوضع منه على الجلد مباشرة هو أقوى الأنواع وأمضاها أثرا على الإطلاق، ولخوفي من أن يفيق الشيخُ الأكبر من إغماءته قبل أن أتمكّن من الفهم. والأكثر من ذلك كان هلعي من أن يقبض عليّ وقد فاجأتُه متلبّسا بالجرم.

 

ورأيتُ ما رأيت. وقرأتُ ما قرأت. وأدركتُ ما أدركت. وكان الطلسم يتضمّن حروفا نارية نحْسة يُعمل بها من الأعمال ما يختصّ بأمور الدنيا والفساد وسفك الدماء، وقد عُمل في وقت كانت الحكماءُ تسكن عن الحركة وتمتنع عن النوم لكي لا ترى ما يفزعها ويكدّر أخلاقها. في وسط الطلسم دائرة، وفي مركز الدائرة خيطٌ من صوف كذاك الذي نصنع منه خِرقنا، مغروز في اللحم الحيّ ومعقود. لربط مَن هذا ؟ تساءلت، حتى طالعني اسمُ سُليْمى، والدة المقصود به الربط. ومن يكون ابن سليمى هذا لتريد به كل هذا السوء أيها الشيخ الأكبر ؟ أمعنتُ النظرَ علّني أقع على أحرف اسمه بين الحروف التي سال حبرُها فامّحت...

 

هه، هل عدتَ ؟ سألتُه وكنتُ قد شعرتُ بتململه بين عالم اليقظة وعالم الغيب، فابتعدتُ عنه بلمحة عين وجلستُ القرفصاء على العتبة مدّعيا تلاوة ما يبعد عنه شبحَ الموت. ليتَني اختفيتُ قبل أن يصحو ويراني، قلتُ لنفسي، ثم تراجعتُ عن خاطرتي تلك لافتكاري بأن الإخوان سيطلعونه على قراري البقاء معه، فتثار شكوكُه إن صحا فوجد أني اختفيت.

 

لمّ أعضاءه وكانت منحلّة، ثم استقام وهو يُصلح من حال لباسه، مستطلعا ردَّ فعلي بين الحين والحين. لا أدري ما أصابني، قال. فأجبته ووصفت تفاصيل ما انتابه من أعراض. بقي مطرقا وصمتُّ أنا. ثم بادرني بالسؤال الذي توقّعتُ: أتكلّمتُ في إغماءتي ؟ لا، أجبتُه على الفور، ثم أردفت: ما عدا ما كرّرتَه ثلاثا: يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ ! هنيئا لك أيها الشيخ الأكبر، فقد انفتح عليك بابُ الكشف على أقصاه هذه المرة، وهنيئا لنا لأننا سنفيد مما رأيتَ وتلقيت !

صدّقني.

ونجوتُ.

وحين اجتمعنا في البهو مساء، حار الإخوانُ فيما يفعلونه احتفاءً به وتعبيرا عن فرحتهم برجوعه إلينا. أنا أعدّ الثواني والدقائقَ التي تفصلني عن موعد الخلود إلى غرفتي كي أفكّ الحبلَ الذي أوثقتُ به صدمتي مما رأيت، فتنفلت مشاعري على مداها ويضطرب فؤادي ما طاب له ؛ وهو يحكي وهالة إشراق تنير ملامحَه، فيما أنا جالسٌ على نار الأسئلة التي تغرز لهيبَها في لحمي. تتناوب عليّ المخاوفُ والظنونُ، فأطردها وأقول: إهدأ يا سَرّاج. فكّر في سلامتك وثبّت عينيك في شفتيه مدّعيا عمقَ التركيز وحسنَ الإصغاء. انتظرْ كي تصبح وحيدا، وعندها يكون لكل حادث حديث !

 

قام. فقمنا. وانتهت المجالسة وخلدنا إلى النوم. هراء ! أي نوم وأنا لم يغمض لي جفنٌ طوال الليل. بل طوال ليال بحالها، والسؤال إياه يقضّ مضجعي ويمنعني من التفكير بما عداه: من يكون ابن سليمى ذاك ولِمَ يريد به الشيخُ الأكبر شرّا كهذا ؟ والإخوان يحاصرونني باستفساراتهم علّهم يُنطقونني بما تنطبق عليه شفتاي، حتى شرحتُ لهم انشغالي بحالي لما أشعره من انطفاء النور في مقلتيّ. كنتُ على قدْر كاف من العمر وفي حوزتي رصيد كبير من سنين صرفتُها في القراءة والنسخ والورع والصلاة، وهو ما أضفى صدقية على ما اختلقتُه من زعْم.

 

على هذه الحال. ليلة إثر نهار، وساعة إثر دقيقة إثر ثانية... إلى أن تذكّرتُ !  صباحَ خروجي إلى الواحة لتنسّم هواء يطفئ حريق روحي... أجل, هو العَلايِليّ ! وكان قد غادرنا فلم نفهم سببا لرحيله عن أخويتنا سوى ما تقدّم به الشيخُ الأكبر من تفسير: بعد أعوام من معاشرتنا، اكتشف أخونا العَلايِليّ ألا قدرة له على احتمال ما تفرضه علينا حياتُنا من مفارقة الدنيا وزهد بالملذات. هراء ! ابن سليمى هو العَلايِليّ، وكل ما استنبطه الشيخُ الأكبر عن دافع رحيله، كذب ونفاق !

 

هي الواحة التي أنارت فكرَ سَرّاج وأعادت الذاكرة إليه. لم يكن الخطأ في ذاكرته، بل في تقليدٍ درجت عليه أخوية الوفاء ويقضي بإطلاق اسم أحد كبار علماء الحروف والأعداد، على كلّ مُريدٍ ينتسب إليها ومنذ اليوم الأوّل. هكذا توزّع الإخوانُ أسماءَ أحمد ابن عطا، الحكيم الترميذي، سَهْل التُسْتَري، ابن مسرّة الجبلي، وشمس الدين البوني. الصغيران اقتسما كتوأمين اسم جابر بن حَيّان، بينما اختار العَلايِليّ اسمَه هذا عن غير هدى، بانتظار اهتدائه إلى شيخ يتكنّى باسمه عن اقتناع. أفليس المبدأ هو نسيان حياتهم الماضية، الموت فيها، من أجل ولادة أخرى تحت اسم جديد يعلن انبعاثَ أرواحهم وتخففها من كل ما يمتّ بصلة إلى وجودها الدنيوي ؟ هي الواحة التي أنقذت الذكرى فيه، وهي الصدفة التي جعلته يطّلع ذات يوم على اسم والدة العَلايِليّ، إذ قلّما عرف الإخوانُ أسماءَ بعضهم البعض، وقد نسي معظمُهم حتى اسمَه الأصلي.

 

وجد العَلايِليَّ في الواحة حيث كان يمضي معظم أوقات راحته، ممدّدا على بطنه وجسمه ينتفض بالبكاء. أسرع سَرّاج إليه وانحنى يربت على ظهره ويطيّب خاطره ويستفسر منه الأمر. ماتت سليمى، أجابه من بين دموعه. فأدرك سَرّاج من الورقة داخل كفّه المطبقة بأنه استلم رسالة تفيده بخبر وفاة قريب. وحين سأله: ومن تكون لك، رحمها الله ؟ ازداد نحيبُ العَلايِليّ وبصعوبة فائقة أضاف: آخر من تبقّى من الأهل... امرأة عجوز لم أشفقْ على وحدتها فهجرتُها طلبا للعزلة وللعلم... أمي يا سَرّاج، والدتي التي لم يكن لها سواي !

 

ما الذي أتاه العَلايِليّ أيها الشيخ الأكبر، وكان هادئا، ناعما، خجولا، طريا كزهرة أقحوان ؟ وما الذي يستطيع إتيانه أصلا رجلٌ في مثل طباعه، كي تُهلك روحَك بسببه، فتتعاقد مع إبليس وترتكب معصية وتدنّس بأعمالك حرمة هذا المكان ؟ ما الذي ذكّرك به وقد مضى على رحيله عنّا سنوات طوال ؟ أبمثل تلك الخطورة كان ؟ هراء ! كل ما مرّ به عرفناه أنتَ وأنا، حين كنّا مثله في طور الشباب. منذ متى نعاقب نحن أهلُ علم الحروف إخوانا لنا على ما يرتسم في نفوسهم من نقاط استفهام ؟ ومنذ متى يُمنع أهل أخوية الوفاء من سلوك درب الشك،ّ وهي أفضل الدروب قاطبة فيما تفضي إليه من إيمان؟ ألسنا المحقِّقين مهمّتنا فهمُ ما كشفه لنا المكلَّفون المرسَلون ؟ وكيف نفهم إن لم نستفهم ونتساءل ونستقصي ونناقض ونحاور ونحتار ؟

 

جلس سَرّاج في فراشه مستندا بظهره إلى الحائط، بعد أن أيقن أن النوم جافاه. صبّ ماء من القربة التي في جانبه، فشرب ما صبّ وأعاد الكرّة ثلاث مرات. من أين يجيئه كل هذا العطش وهو لم يُدخل في جوفه ما يتسبّب بحريق الأحشاء ولم يقرب عشاء قضى الإخوانُ عليه فيما كان منشغل اللسان برواية حلمه عن مصرع الحروف ؟ ألم يكن حلمُه ذاك إشارة وافاه الغيبُ بها إنذارا وتوعّدا بما ينتظرهم إن استمرّ الشيخُ الأكبر على ممارسة ما يرتكبه في الخفاء من أعمال ؟ ومن قال بأنه يواصل أعماله تلك ؟ هل لاحظتَ أدنى ما يشير إلى ذلك بعد أن ادّعيتَ انطفاءَ العينين، فأفلتَّ من مراقبته لك وارتحتَ في مراقبتك له ؟ لا والله، أجاب سَرّاج نفسَه، مع أني أرقبه منذ شهور. إذن، لِمَ تعذيب الذات على هذه الشاكلة ولمَ كل هذه الافتراضات ؟ ومن يضمن بأن العَلايِليّ لم يكن على براءة ووداعة ظاهرتين، وهو في العمق اشدّ قسوة وبطشا من إبليس ؟ وإلا فما مبرّر ما حاكه الشيخُ الأكبر من أكاذيب وما ارتكبه من سوء أعمال، إن لم يكن حماية نفسه وصوننا ممّا أراده بنا العَلايِليّ من شرّ ؟ ألم تفاجئه ذات يوم في الواحة حيث كان يطيب له الجلوسُ وحيدا في أوقات الراحة، مُلصِقا أذنَه في الأرض، خابطا بكفّه عليها، معيدا الكرّة مرات ومرات ؟ وحين سألته: ما تفعل أيها العَلايِليّ ؟ ألم يرتبك لوقت قبل أن يجيب: أتثبّتُ من أن صوت حرف الباء يشبه قرعَ الكفّ على الأرض ؟

 

لم يفاجئني ذلك بادئ ذي بدء وإن استغربتُ ما بدا في صوته من ارتباك، إذ لطالما عرفنا عنه ولعَه بقراءة المعاجم، بحديثها وقديمها، وأصغينا إليه مرارا متحدّثا عن طرق وضعها وما اتبعته من نظم ومدارس على مرّ العصور... وحين دخلنا في نقاش حول أي المناهج نعتمد لوضع معجم سرائر الحروف ـ وكان ذلك بعد أن غادرنا بزمن طويل ـ متسائلين أي الأنظمة نتبنّى: النظام الصوتي عبر ترتيب المواد حسب مخارج الأصوات ابتداء بالحروف الحلقية وأولها (ع) وانتهاء بالشفوية وآخرها (م)، وهي طريقة الخليل بن أحمد في كتاب "العين" ؛ أم نظام التقفية الألفبائي المبنيّ على آخر الكلمة بحيث نسمّي الحرف الأخير من الكلمة بابا والحرف الأول منها فصلا، استنادا إلى مبتدعه الجوهريّ في "الصحاح" ؟ حين دخلنا في ذلك النقاش، أطال سَهْل في شرح المدارس المعجمية لإفهام من يجهل تلك المعلومات من ضمن الإخوان ـ إذ لم يبقَ ممّن زامَن العَلايِليّ، إلا أنا والشيخ الأكبر وشمس الدين وسَهْل ـ، إلى أن باغتنا الشيخُ الأكبر بأن حسم الخلاف مفتيا بضرورة اعتماد نظام ألفبائي بسيط، وهو ما استغربه الآخرون لما بدا في نبرته من تعجّل واستياء، ما عدانا نحن الثلاثة وقد عادت إلى مخيّلتنا سرّا ذكرى العَلايِليّ...

نظرتُ إذن إلى العَلايِليّ الملصق أذنه في الأرض وهو يخبط عليها بكفّه للتحقق ممّا تصدره من صوت شبيه بصوت حرف الباء، وقلت: لِمَ تفعل ذلك ؟

فأجاب: هكذا. ثم صمت ونظر إليّ.

قلتُ: ثمة ما يشغل بالك يا بنيّ. قاسِمْني إياه فيهون عليك.

فتردّد وقتا قبل أن يحزم أمره ويسألني: هل اللغةُ توقيف ؟

قلتُ: طبعا هي توقيف ! إنها من صنيع الربّ سبحانه وهي وحي !

فأردف: وما قولك بالذين يذهبون إلى أنها اصطلاح فيقولون بالتواضع في اللغة على الأصلح، وبأنها من صنيع الإنسان ؟

هزّت جسدي قشعريرة عبرتني كالبرق، فتمالكتُ نفسي وسألتُه: من أين لك هذا الكلام يا بنيّ ؟

فقال: هو كلام ابن جِنّي في "الخصائص"، وكلام آخرين كثر سواه !

قلت: وأين وقعتَ عليه ؟

فأطرق قليلا قبل أن يجيب: كنتُ قد شريتُ كتاب "الخصائص" من مكتبيّ جارنا قبل دخولي الأخوية.

هل ما زال في حوزتك ؟ سألتُه. فألهمهَ الربُّ بقول الحقيقة بعد أن ألهمَني بطرح السؤال. جلستُ قبالته واستفضتُ في تبيان خطأ من يدحض ما لا يقبل الشكّ، مستشهدا بما تملكه الحروفُ من أثرٍ سحريّ وقدراتٍ روحانية ومعانٍ باطنية، داعِما النظرية بالتطبيق عبر ذكر أمثلة لا ينضب معينها على ما نمارسه نحن الإخوان من كتابة التعاويذ وصنع الأحجبة، مُنهيا مداخلتي الطويلة بسؤال:

 

أتكون الحروف من صنيع الإنسان إذن، ولها قدرة شفاء المرضى وفكّ المعقود وقراءة المستقبل وكشف المستتر ومطالعة الغيب ؟ أتكون من صنيع البشر وقد أوجدها الربُّّ قبل أن يوجِد آدم، بل حتى أن أصل الوجود كلّه وسببه هما حرفان تلفظ بهما الإله إذ قال للكون: " كُنْ "، فكان ؟!

 

لا، أجابني العَلايِليّ. إنها وحي وتوقيف !

حسنا، أردفتُ، وقد اطمأنّ قلبي إلى أن ردّه ذاك لم يجئ من قبيل المراوغة أو من باب المسايرة، بل عن كامل إيمان واقتناع. ولكي أزيد قلبي ثقة، سألتُه: وابن جِنّي، هل أمنّا شرَّه بشكل نهائي ؟

فنهض وأشار أن اتبعه إلى أقصى الواحة حيث خبّأ الكتابَ في جذع شجرة نخيل هرمة غادرتها الحياة، فتناوله ثم رفع يده إليّ. تبسّمتُ وهززتُ رأسي: لا، لن آخذه منك. لكَ أنت أن تفعل به ما تشاء. فما كان منه إلا أن حفر في التراب تجويفا انحنينا فوقه وأحرقنا الكتاب.

شكرني، فعانقتُه وشعرت أني أعانق ابناً لي. ثم سألني ونحن نغادر الواحة للالتحاق ببقية الإخوان: يبقى سرّا بيننا ؟ فأجبتُه وأنا أربت بكفّي على ظهره: لا وجود للأسرار بين أهل الأخوية. لكن، يبقى سرّا بيننا. أعدك بذلك أيها العَلايِليّ...

وحتى اليوم، لم أحنث بوعدٍ قطعته منذ سنوات طوال ! وما أخال العَلايِليّ، أو المدعوّ ابن سليمى، أطلعَ الشيخَ الأكبر على سرّنا، أو على سرّه بالأحرى. وما أخال ذلك باعثا لرحيله عنّا، أو دافعاً لطرده من الأخوية، أو سببا لإيذائه بطلسم مكتوب على الجلد مباشرة، بعد مضيّ أعوام وأعوام

لغة السر، رواية صدرت عن دار الاداب، بيروت، 2004 

--------------------------------------------------------  ( للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب المرأة )

 

أضيفت في04 /07/2005 /  خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية