بطاقة
تعريف الكاتب: ابن بطوطة
عن
الكتاب
أشهر كتب الرحلات على الإطلاق. وبسبب شهرتها العالية في أوروبا
أطلقت عليه جمعية كبمردج لقب أمير الرحالة المسلمين. طبعت كاملة لأول مرة في
باريس1853م في أربعة مجلدات مع ترجمة فرنسية بعناية ديفر يمري وسانجنتي. بدأ
ابن بطوطة رحلته من طنجة، فخرج منها سنة 725هـ فطاف بلاد المغرب ومصر والشام
والحجاز والعراق وفارس واليمن والبحرين وعاد لأداء الحج مرة ثانية أثناء حج
الناصر ابن قلاوون، وعاد إلى مصر، ومنها إلى الشام، فبلاد الأناضول وتركستان
وما وراء النهر وبعض الهند والصين والجاوة وبلاد التتر وأواسط أفريقة. واستغرقت
رحلته 27 سنة، ألقى عصا التسيار منها في مدينة فاس، عند صاحبها أبي عنان
المريني، الذي أعجب بما كان ابن بطوطة يقصه عليه من أخبار رحلته، فأمر كاتبه
محمد بن جزي الكلبي أن يدون ما يمليه عليه ابن بطوطة، فتولى ابن جزي ترتيبها
وتهذيبها، وإضافة ما يناسب أبوابها من الأخبار والأشعار، معولاً في كثير من
تحقيقاته على رحلة ابن جبير (انظرها في هذا البرنامج) وبعدما فرغ ابن جزي من
عمله في الرحلة سماها: (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وقال في
خاتمتها: (انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد ابن بطوطة، أكرمه
الله، ولا يخفى أن هذا الشيخ هو رحال العصر، ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد).
ومن نوادره فيها ما حكاه عن جوازات السفر في دمياط وقطيا، ووصية برهان الدين
ابن الأعرج: الذي أوصاه بزيارة أصحابه في الصين، ووصفه مواكب الناصر ابن قلاوون
في مصر، ومواكب السلطان أبي سعيد ببغداد، وجامع دمشق وأوقافها، وما استوقفه في
مكة من عناية نسائها بالطيب، وجمال نساء زبيد في اليمن، وبلاط صاحب صنعاء، ودار
الطلبة في مقديشو، ومرابطي منبسى، وصيد اللؤلؤ في البحرين، والعملة الورقية في
الصين وصناعة التصوير فيها، ونظام الفتوة في الأناضول. وأسواق الرقيق في ثغر
(كافا)، وتراجم العلماء على قبورهم في بخارى، والعربات التي تجرها الكلاب على
الجليد في البلغار، ولقاؤه بيهودي أندلسي في مدينة الماجر بالقوقاز، ويهودي
شامي كان ترجمان قيصر القسطنطينية، وكانت بنت القيصر زوجة السلطان محمد أوزبك
خان ملك الترك. وقد صحبها ابن بطوطة لزيارة أبيها. ولا تتسع هذه الصفحة لذكر
تفاصيل رحلته، ووصف جهود الباحثين في خدمتها، وتأتي في مقدمتها نشرة عبد الهادي
التازي، الرباط 1997م في خمسة مجلدات، قدم لها ب(146) صفحة.
فصول من الكتاب
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الفقيه العالم الثقة الناسك الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين
المعتمد في سياحته على رب العالمين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن
إبراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرّمه آمين.
الحمد لله الذي ذلّل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلاً فجاجاً، وجعل منها وإليها
تاراتهم الثلاث نباتاً وإعادة وإخراجا. دحاها بقدرته فكانت مهاداً للعباد،
وأرساها بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد، وأطلع
الكواكب هداية في ظلمات البر والبحر. وجعل القمر نوراً والشمس سراجاً، ثم أنزل
من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد الممات. وأنبت فيها من كل الثمرات. وفطر
أقطارها بصنوف النبات، وفجر البحرين عذباً فراتاً، وملحاً أجاجاً، وأكمل على
خلقه الإنعام بتذليل مطايا الأنعام، وتسخير المنشئات كالأعلام لتمتطوا من صهوة
القفر ومتن البحر أثباجاً. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أوضح للخلق
منهاجاً. وطلع نور هدايته وهّاجا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين واختاره
خاتماً للنبيين وأمكن صوارمه من رقاب المشركين حتى دخل الناس في دين الله
أفواجاً، وأيده بالمعجزات الباهرات، وأنطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته
الذمم الباليات، وفجر من بين أنامله ماء ثجّاجاً. ورضي الله تعالى عن المتشرفين
بالانتماء إليه أصحاباً وآلاً وأزواجاً، المقيمين تقاة الدين فلا تخشى بعدهم
اعوجاجاً، فهم الذين آزروه على جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء،
وقاموا بحقوقها الكريمة من الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار اليأس
حامية، وخاضوا بحر الموت عجاجاً، ونستوهب الله تعالى لمولانا الإمام الخليفة
أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين المجاهد في سبيل الله المؤيد بنصر الله
- أبي عنان فارس ابن موالينا الأئمة المهتدين الخلفاء الراشدين نصراً يوسع
الدنيا وأهلها ابتهاجاً، وسعداً يكون لزمانة الزمان علاجاً، كما وهبه الله
بأساً وجوداً لم يدع طاغياً ولا محتاجاً، وجعل بسيفه وسيبه لكل ضيقة انفراجاً.
وبعد، فقد قضت العقول، وحكم المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية،
المجاهدة المتوكلة الفاسية. هي ظل الله الممدود على الأنام، وحبله الذي به
الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام، فهي التي أبرأت الدين عند اعتلاله،
وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت الأيام بعد فسادها، ونفقت سوق العلم
بعد كسادها، وأوضحت طرق البر عند انتهاجها، وسكنت أقطار الأرض عند ارتجاجها،
وأحيت سنن المكارم بعد مماتها، وأماتت رسوم المظالم بعد حياتها، وأخمدت نار
الفتنة عند اشتعالها، وأنقضت حكام البغي عند استقلالها، وشادت مباني الحق على
عماد التقوى، واستمسكت من التوكل على الله بالسبب الأقوى، فلها العز الذي عقد
تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جر أذياله على مجرة السماء، والسعد الذي رد
على الزمان غض شبابه، والعدل الذي على أهل الإيمان مدّ يد أطنابه، والجود الذي
قطر سحابه اللجين والنضار، والبأس الذي فيه غمامة الدر الموار، والنصر الذي تفض
كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض غنائمه الدول، والبطش الذي سبق سيفه العذل،
والأناة التي لا يمل عندها الأمل، والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب،
والعزم الذي يفل جموعها قبل قراع الكتائب، والحلم الذي يجني العفو من ثمر
الذنوب، والرفق الذي جمع على محبته بنات القلوب، والعلم الذي يجلو نوره دياجي
المشكلات والعمل المفيد بالإخلاص والأعمال بالنيات.
ولما كانت حضرته العلية: مطمح الآمال، ومسرح همم الرجال، ومحط رحال الفضائل،
ومثابة أمن الخائف، ومنية السائل، توخى الزمان خدمتها ببدائع تحفه، ورائع طرفه،
فانثال عليها العلماء انثيال جودها على الصفات، وتسابق إليها الأدباء تسابق
عزماتها إلى العداة، وحج العارفون حرمها الشريف، وقصد السائحون استطلاع معناها
المنيف، ولجأ الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها، واستجارت الملوك بخدمة
أبوابها، فهي القطب الذي عليه مدار العالم، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل
الجاهل والعالم، وعن مآثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كل مسلم، وبإكمال محاسنها
الرائقة يفصح كل معلم، وكان ممن وفد على بابها السامي، وتعدى أوشال البلاد إلى
بحرها الطامي، الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق، جوال الأرض، ومخترق الأقاليم
بالطول والعرض، أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي
المعروف بابن بطوطة المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض
معتبراً، وطوى الأمصار مختبراً، وباحث فرق الأمم، وسبر سير العرب والعجم، ثم
ألقى عصا التسيار بهذه الحضرة العليا، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا
ثنيا، وطوى المشارق إلى مطلع بدرها بالغرب، وآثرها على الأقطار إيثار التبر على
الترب، اختياراً بعد طول اختبار البلاد والخلق، ورغبة اللحاق بالطائفة المثلى،
التي على الحق فغمره من إحسانه الجزيل، وامتنانه الحفي الحفيل، ما أنساه الماضي
بالحال، وأغناه عن طول الترحال، وحقر عنده ما كان من سواه يستعظمه، وحقق لديه
ما كان من فضله يتوهمه، فنسي ما كان ألفه من جولان البلاد، وظفر بالمرعى الخصب
بعد طول الإرتياد، ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شاهده في رحلته من
الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار،
وعلمائها الأخيار، وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر، وبهجة
المسامع والنواظر، من كل غريبة أفاد باجتلائها، وعجيبة أطرف بانتحائها. وصدر
الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم.
محمد ابن محمد بن جزي الكلبي، أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، أن
يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله من ذلك مشتملاً في تصنيف يكون على
فوائده مشتملاً، ولنيل مقاصده مكملاً، متوخياً تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمداً
إيضاحه وتقريبه، ليقع الاستمتاع بتلك الطرف، ويعظم الانتفاع بدرّها عند تجريده
من الصدف. فامتثل ما أمر به مبادراً، وشرع في منهله ليكون بمعونة الله عن توفية
الغرض منه صادراً، ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد
التي قصدها، موضحة للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه، فلم أخل
بأصله ولا فرعه، وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن
حقيقة ذلك ولا اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة
سائرها بما يشعر من الألفاظ بذلك وقيدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل
والنقط، ليكون أنفع في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء
العجمية، لأنها تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس،
وإنا فنرجو أن يقع ما قصدته من المقام العلي، أيده الله بمحل القبول، وأبلغ من
الإغضاء عن تقصيره المأمول، فعوائدهم في السماح جميلة، ومكارمهم بالصفح عن
الهفوات كفيلة، والله تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف
التأييد والفتح المبين.
بدء الرحلة والخروج من
طنجة
قال الشيخ أبو عبد الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من
شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمداً حج بيت الله الحرام،
وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. منفرداً عن رفيق آنس بصحبته،
وراكب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد
الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمرى على هجر الأحباب من الإناث والذكور،
وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما
وصباً، ولقيت كما لقيا من الفراق نصباً وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة. قال ابن
جزي: أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع
عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة.
وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب
العالمين الذي رويت أخبار جوده موصولة الإسناد بالإسناد، وشهرت آثار كرمه شهرة
واضحة الإشهاد، وتحلت الأيام بحلى فضله، ورتع الأنام في ظل رفقه وعدله، الإمام
المقدس أبي سعيد ابن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين الذي فل حد الشرك صدق
عزائمه، وأطفأت نار الكفر جداول صارمه، وفتكت بعباد الصليب كتائبه، وكرمت في
إخلاص الجهاد مذاهبه، الإمام المقدس أبي يوسف ابن عبد الحق، جدد الله عليهم
رضوانه، وسقى ضرائحهم المقدسة من صوب الحيا طله وتهتانه، وجزاهم أفضل الجزاء عن
الإسلام والمسلمين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. فوصلت مدينة تلمسان
وسلطانها يومئذ أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمر أسن بن زيان.
ووافقت بها رسولي ملك إفريقية السلطان أبي يحيى رحمه الله، وهما قاضي الأنكحة
بمدينة تونس أبو عبد الله محمد بن أبي بكر علي بن إبراهيم النفزاوي، والشيخ
الصالح أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزبيدي - بضم الزاي
نسبة إلى قرية بساحل المهدية، وهو أحد الفضلاء وكانت وفاته عام أربعين. وفي يوم
وصولي إلى تلمسان، خرج عنها الرسولان المذكوران، فأشارعلي بعض الاخوان
بمرافقتهما، فاستخرت الله عز وجل في ذلك وأقمت بتلمسان ثلاثاً في قضاء مآربي،
وخرجت أجدّ السير في آثارهما، فوصلت مدينة مليانة، وأدركتهما بها، وذلك في إبان
القيظ. فلحق الفقيهين مرض أقمنا بسببه عشراً، ثم ارتحلنا وقد اشتد المرض
بالقاضي منهما، فأقمنا ببعض المياه على مسافة أميال من مليانة ثلاثاً وقضى
القاضي نحبه ضحى اليوم الرابع، فعاد ابنه أبو الطيب ورفيقه أبو عبد الله
الزبيدي إلى مليانة فقبروه بها. وتركتهم هنالك، وارتحلت مع رفقة من تجار تونس
منهم الحاج مسعود بن المنتصر، والحاج العدولي، ومحمد بن الحجر، فوصلنا مدينة
الجزائر، وأقمنا بخارجها أياماً، إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي.
فتوجهنا جميعاً على منبجة جبل الزان، ثم وصلنا إلى مدينة بجاية فنزل الشيخ أبو
عبد الله بدار قاضيها أبي عبد الله الزواوي، ونزل أبو الطيب ابن القاضي بدار
الفقيه أبي عبد الله المفسر، وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن سيد
الناس الحاجب، وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر
الذي تقدم ذكره. وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها لرجل من أهل
الجزائر يعرف بابن حديدة، ليوصلها إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لابن سيد الناس
المذكور فانتزعها من يده، وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم،
ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته، أصابتني الحمى، فأشار علي أبو عبد الله
الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء مني، فأبيت وقلت إن قضى الله عز وجل
بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أرض الحجاز. فقال لي أما إن عزمت فبع
دابتك وثقل المتاع، وأنا أعيرك دابة وخباء وتصحبنا خفيفاً، فإننا نجدّ السير
خوف غارة العرب في الطريق، ففعلت هذا، وأعارني ما وعد به، جزاه الله خيراً وكان
ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك الوجهة الحجازية. وسرنا إلى أن
وصلنا مدينة قسنطينية ، فنزلنا خارجها وأصابنا مطر جود فاضطررنا إلى الخروج عن
الأخبية ليلاً إلى دور هنالك. فلما كان من الغد تلقانا حاكم المدينة وهو من
الشرفاء الفضلاء يسمى بأبي الحسن، فنظر إلى ثيابي وقد لوثها المطر، فأمر بغسلها
في داره، وكان الإحرام منها خلقاً، فبعث مكانه إحراماً بعلبكياً وصرّ في أحد
طرفيه دينارين من الذهب. فكان ذلك أول ما فتح به على وجهتي، ورحلنا إلى أن
وصلنا مدينة بونة ونزلنا بداخلها. وأقمنا بها أياماً، ثم تركنا بها ما كان في
صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق، وتجردنا للسير، وواصلنا الجد، وأصابتني
الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف، ولا يمكنني
النزول من الخوف، إلى أن وصلنا إلى مدينة تونس فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد
الله الزبيدي ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبد الله النفزاوي، فأقبل بعضهم
على بعض بالسلام والسؤال ولم يسلّم علي أحد، لعدم معرفتي بهم، فوجدت من ذلك
النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجاج فأقبل
علي بالسلام
والإيناس، وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها
بمدرسة الكتبيين. قال ابن جزي: أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو
البركات محمد بن محمد ابراهيم السلمي هو ابن الحاج البلفيقي أنه جرى له مثل هذه
الحكاية. قال قصدت مدينة بلش من بلاد الأندلس في ليلة عيد، برسم رواية الحديث
المسلسل بالعيد عن أبي عبد الله ابن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت
الصلاة والخطبة، أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم
والإيناس، وقال: نظرت إليك، فرأيتك منتبذاً عن الناس، لا يسلم عليك أحد فعرفت
أنك غريب فأحببت إيناسك جزاه الله خيراً.
ذكر سلطان تونس
وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي
زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد
الواحد بن أبي حفص رحمه الله. وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي
الجماعة بها أبو عبد الله محمد ابن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن
حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل، ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم
الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع، وولي أيضاً قضاء
الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي
أيضاَ قضاءها وكان من أعلام العلماء. ومن عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد
صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس
في المسائل. فإذا أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيد
الفطر، فحضرت المصلّى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم، وبرزوا في أجمل هيئة وأكمل
شارة. ووافى المسجد السلطان أبو يحيى المذكور راكباً وجميع أقاربه وخواصه، وخدم
مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصليت الصلاة، وانقضت الخطبة، وانصرف
الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تعين لركب الحجاز الشريف شيخه ويعرف بأبي يعقوب
السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية، وأكثره المصامدة. فقدموني قاضياً بينهم،
وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة
سوسة، وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطىء البحر، بينها وبين مدينة تونس أربعون
ميلاً، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن
اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه. قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول
علي بن حبيب التنوخي:
سقياً لأرض صفـاقـس ذات المصانع والمصلّى
محمى القصير إلى الخليج فقصرها السامي المعلّى
بلـد يكـاد يقـول حـين تزوره أهـلاً وسـهـلا
وكأنه والبـحـر يحـس ر تارة عـنـه ويمـلا
صبّ يريد زيارة فإذا رأى الرقباء ولّـى
وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم وكان
من المجيدين المكثرين: صفاقس لا صفا عيش لساكـنـهـا ولا سقى أرضها غيث إذا
انسكـبـا
ناهيك من بلدة من حل ساحـتـهـا عانى بها العاديين الروم والعـربـا
كم ضل في البر مسلوباً بضاعـتـه وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا
قد عاين البحر من لؤم لقاطـنـهـا فكلما همّ أن يدنـو لـهـا هـربـا
ثم وصلنا إلى مدينة قابس ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها عشراً لتوالي
نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذكر قابس: يقول بعضهم:
لهفي على طيب ليال خلت بجانب البطحاء من قابس
كأن قلبي عند تذكارها جذوة نار بيد القابس
ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصحبنا في بعض المراحل إليها
نحو مائة فارس أو يزيد، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم،
وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل. وفي الرابع بعده
وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء
تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس في أواخر شهر المحرم من عام ستة
وعشرين، ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت
عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفاً من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة
وقصور سرت. وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون
ما راموه من أذيتنا، ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى
قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري
مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتاً لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية،
وأولمت وليمة حبست لها الركب يوماً وأطعمتهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى
مدينة الإسكندرية حرسها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس العجيبة الشأن
الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها،
ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة في تجلي
سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغرِب، والجامعة لمفترق
المحاسن، لتوسطها بين المشرق والمغرب، فكل بديعة بها اختلاؤها، وكل طرفة فإليها
انتهاؤها. وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا وحسب المشرف إلى
ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.
ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المسمى
عندهم بعمود السواري وهو متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سمواً
وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال
الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي:
أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود
ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الجمع الغفير لمشاهدته، وطال
العجب منه، وخفي على الناس وجه احتياله وأظنه كان خائفاً، أو طالب حاجة، فأنتج
له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى
بنشابة قد عقد بفوقها خيطاً طويلاً، وعقد بطرف الخيط حبلاً وثيقاً، فتجاوزت
النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت من الجهة الموازية للرامي، فصار الخيط
معترضاً على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه
من إحدى الجهتين في الأرض، وتعلق به صاعداً من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه
وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان
أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى بصلاح الدين وكان فيها أيضاً في ذلك
العهد سلطان أفريقية المخلوع، وهو زكرياء أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف
باللحياني. وأمر الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة
درهم في كل يوم. وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري واسكندري وحاجبه أبو زكريا
بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين. وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور،
وولده الاسكندري وبقي المصري بها. قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر
في اسمي ولدي اللحياني الاسكندري والمصري فمات بها، وعاش المصري دهراً طويلاً
بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية، وتوفي
هنالك بجزيرة جربة.
ذكر بعض علماء الإسكندرية
فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي، إمام من أئمة علم اللسان. وكان
يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم
منها رأيته يوماً قاعداً في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب ومنهم
فخر الدين بن الريغي وهو أيضاً من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.
حكاية
يذكر أن جد القاضي فخر الدين الريغي من أهل ريغة، واشتغل بطلب
العلم، ثم رحل إلى الحجاز، فوصل الإسكندرية بالعشي. وهو قليل ذات اليد، فأحب أن
لا يدخلها حتى يسمع فالاً حسناً فقعد قريباً من بابها، إلى أن دخل جميع الناس.
وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه، وقال
متهكماً أدخل يا قاضي فقال: قاض إن شاء الله، ودخل إلى بعض المدارس، ولازم
القراءة وسلك طريق الفضلاء، فعظم صيته، وشهر اسمه، وعرف بالزهد والورع، واتصلت
أخباره بملك مصر. واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من
الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية، وهو من بينهم، لا يتشوف لذلك فبعث إليه
السلطان بالتقليد، وهو ظهير القضاء، وأتاه البريد بذلك، فأمر خديمه أن ينادى في
الناس من كانت له خصومة فليحضر لها وقعد للفصل بين الناس. فاجتمع الفقهاء
وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن القضاء لا يتعداه، وتفاوضوا في مراجعة
السلطان في أمره، ومخاطبته بأن الناس لا يرتضونه. وحضر لذلك أحد الحذاق من
المنجمين فقال لهم: لا تفعلوا ذلك فإني عدلت طالع ولايته، وحققته فظهر لي أنه
يحكم أربعين سنة. فأضربوا عما هموا به من المراجعة في شأنه. وكان أمره على ما
ظهر للمنجم. وعرف في ولايته بالعدل والنزاهة. ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من
قضاتها مشتهر بالعلم والفضل. ومنهم شمس الدين ابن بنت التنيسي فاضل شهير الذكر.
ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله الفاسي من كبار أولياء الله تعالى، يذكر
أنه كان يسمع رد السلام عليه إذا سلم من صلاته. ومنهم الإمام العالم الزاهد
الخاشع الورع خليفة صاحب المكاشفات.
من غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المسمى
عندهم بعمود السواري وهو متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سمواً
وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال
الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي:
أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود
ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الجمع الغفير لمشاهدته، وطال
العجب منه، وخفي على الناس وجه احتياله وأظنه كان خائفاً، أو طالب حاجة، فأنتج
له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى
بنشابة قد عقد بفوقها خيطاً طويلاً، وعقد بطرف الخيط حبلاً وثيقاً، فتجاوزت
النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت من الجهة الموازية للرامي، فصار الخيط
معترضاً على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه
من إحدى الجهتين في الأرض، وتعلق به صاعداً من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه
وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان
أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى بصلاح الدين وكان فيها أيضاً في ذلك
العهد سلطان أفريقية المخلوع، وهو زكرياء أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف
باللحياني. وأمر الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة
درهم في كل يوم. وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري واسكندري وحاجبه أبو زكريا
بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين. وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور،
وولده الاسكندري وبقي المصري بها. قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر
في اسمي ولدي اللحياني الاسكندري والمصري فمات بها، وعاش المصري دهراً طويلاً
بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية، وتوفي
هنالك بجزيرة جربة.
ذكر حزب البحر المنسوب إليه: كان يسافر في كل عام كما ذكرناه على
صعيد مصر وبحر جدة، فكان إذا ركب السفينة يقرؤه في كل يوم، وتلامذته إلى الآن
يقرؤنه في كل يوم، وهو هذا: يا ألله يا علي يا عظيم ياحليم يا عليم، أنت ربي
وعليك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء، وأنت العزيز
الرحيم. نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من
الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب فقد ابتلي المؤمنون
وزلزلوا زلزالاً شديداً، ليقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله
ورسوله إلا غروراً، فثبتنا وانصرنا وسخر لنا هذا البحر، كما سخرت البحر لموسى
عليه السلام، وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام، وسخرت الجبال والحديد لداوود
عليه السلام، وسخرت الريح والشياطين والجن لسليمان عليه السلام، وسخر لنا كل
بحر هو لك في الأرض والسماء، والملك والملكوت، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، وسخر
لنا شيئاً يا من بيده ملكوت كل شيء. كهيعص حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين،
وافتح لنا فإنك خير الفاتحين، واغفر لنا فإنك خير الغفارين، وارحمنا فإنك خير
الراحمين، وارزقني فإنك خير الرازقين، واهدنا ونجنا من القوم الظالمين، وهب لنا
ريحاً طيبة كما هي في علمك، انشرها علينا من خزائن رحمتك، واحملنا بها حمل
الكرامة مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا، والسلامة والعافية في ديننا
ودنيانا، وكن لنا صاحباً في سفرنا، وخليفة في أهلنا، واطمس على وجوه أعدائنا،
وامسخهم على مكانتهم، فلا يستطيعون المضي ولا المجيء إلينا، " ولو نشاء لطمسنا
على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما
استطاعوا مضياً ولا يرجعون " " يس " إلى " فهم لا يبصرون " شاهت الوجوه " وعنت
الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً " طس طسم حم عسق " مرج البحرين
يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " حم حم حم حم حم حم حم حم الأمر، وجاء النصر
فعلينا لا ينصرون " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافرالذنب وقابل
التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " باسم الله بابنا،
تبارك حيطاننا يس سقفنا. كهيعص كفايتنا. حم عسق حمايتنا: " فسيكفيكهم الله وهو
السميع العليم " ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة إلينا، بحول الله
لايقدر علينا " والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " " فالله
خير حافظاً وهو أرحم الراحمين " " إن وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى
الصالحين " " فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش
العظيم " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهوالسميع
العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلّم.
حكاية1
ومما جرى بمدينة الإسكندرية سنة سبع وعشرين. وبلغنا خبر ذلك بمكة
شرفها الله، أنه وقع بين المسلمين وتجار النصارى مشاجرة. وكان والي الإسكندرية
رجلاً يعرف بالكركي. فذهب إلى حماية الروم، وأمر المسلمين فحضروا بين فصيلي باب
المدينة. وأغلق دونهم الأبواب نكالاً لهم. فأنكر الناس ذلك وأعظموه، وكسروا
الباب، وثاروا إلى منزل الوالي، فتحصن منهم، وقاتلهم من أعلاه، وطير الحمام
بالخبر إلى الملك الناصر، فبعث أميراً يعرف بالجمالي، ثم أتبعه أميراً يعرف
بطوغان، جباراً قاسي القلب متهماً في دينه. يقال:إنه كان يعبد الشمس. فدخلا
إسكندرية، وقبضا على كبار أهلها وأعيان التجار بها، كأولاد الكوبك وسواهم. وأخذ
منهم ألأموال الطائلة وجعلت في عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد. ثم أن
الأميرين قتلا من أهل المدينة ستة وثلاثين رجلاً. وجعلوا كل رجل قطعتين،
وصلبوهم صفين وذلك في يوم جمعة وخرج الناس على عادتهم من الصلاة لزيارة القبور
وشاهدوا مصارع القوم. فعظمت حسرتهم وتضاعفت أحزانهم. وكان في جملة أولئك
المصلوبين تاجر كبير القدر يعرف بابن رواحة. وكان له قاعة معدة للسلاح. فمتى
كان خوف أو قتال جهز منها المائة والمائتين من الرجال بما يكفيهم من الأسلحة.
وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها. فزل لسانه وقال للاميرين أنا
أضمن هذه المدينة وكل ما يحدث فيها أطالب به، وأحوط على السلطان مرتبات العساكر
والرجال. فأنكر الأميران قوله، وقالا: إنما تريد الثورة على السلطان وقتلاه.
وإنما كان قصده رحمه الله إظهار النصح والخدمة للسلطان فكان فيه حتفه وكنت سمعت
أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد
الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين وأنه منقطع بمنية بني مرشد له
هنالك زاوية، هو منفرد فيها، لا خديم له ولا صاحب. ويقصده الأمراء والوزراء،
وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم، فيطعمهم الطعام. وكل واحد منهم ينوي
أن يأكل عنده طعاماً أو فاكهة أو حلوى فيأتي لكل واحد بما نواه، وربما كان ذلك
في غير إبانه. ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة، فيولي ويعزل، وذلك كله أمر مستفيض
متواتر. وقد قصده الملك الناصر مرات بموضعه. فخرجت من مدينة الإسكندرية قاصداً
هذا الشيخ نفعنا الله به، ووصلت قرية تروجه " وضبطها بفتح التاء الفوقية وواو
وجيم مفتوحة "، وهي على مسيرة نصف يوم من مدينة الإسكندرية. وهي قرية كبيرة بها
قاضٍ ووالٍ وناظر، ولأهلها مكارم أخلاق ومروءة. صحبت قاضيها صفي الدين وخطيبها
فخر الدين وفاضلاً من أهلها يسمى بمبارك، وينعت بزين الدين ونزلت بها على رجل
من العباد الفضلاء كبير القدر يسمى عبد الوهاب. وأضافني ناظرها زين الدين بن
الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه، فأخبرته أن مجباه نحو اثني عشر ألفاً من
دينار الذهب. فعجب وقال لي: رأيت هذه القرية فإن مجباها اثنان وسبعون ألف دينار
ذهباً. وإنما عظمت مجابي ديار مصر لأن جميع أملاكها لبيت المال. ثم خرجت من هذه
القرية، فوصلت مدينة دمنهور، وهي مدينة كبيرة، جبايتها كثيرة، ومحاسنها أثيرة،
أم مدن البحيرة بأسرها، وقطبها الذي عليه مدار أمرها، " وضبطها بدال مهملة وميم
مفتوحتين ونون ساكنة وهاء مضمومة بواو وراء " وكان قاضيها في ذلك العهد فخر
الدين بن مسكين من فقهاء الشافعية، وتولى قضاء الإسكندرية لما عزل عنها عماد
الدين الكندي بسبب الواقعة التي قصصناها . وأخبرني الثقة أن ابن مسكين أعطى
خمسة وعشرين ألف درهم وصرفها من دنانير الذهب ألف دينار على ولاية القضاء
بالإسكندرية. ثم رحلنا إلى مدينة فوا. وهذه المدينة عجيبة المنظر، حسنة المخبر،
بها البساتين الكثيرة، والفوائد الخطيرة الأثيرة، " وضبطها بالفاء والواو
المفتوحين مع تشديد الواو " . بها قبر الشيخ الولي أبي النجاة الشهير الاسم،
خبير تلك البلاد، وزاوية الشيخ أبي عبد الله المرشدي الذي قصدته بمقربة من
المدينة. يفصل بينها خليج هنالك. فلما وصلت، تعديتها، ووصلت إلى زاوية الشيخ
المذكور قبل صلاة العصر، وسلمت عليه، ووجدت عنده الأمير سلف الدين يلملك، وهو
من الخاصكية. وأول اسمه ياء وآخر الحروف كاف، ولامه الأولى مسكنة، والثانية
مفتوحة، مثل الميم، والعامة تقول فيه الملك فيخطئون. ونزل هذا ألأمير بعسكره
خارج
الزاوية ولما دخلت على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانقني، وأحضر
طعاماً فواكلني. وكانت عليه جبة صوف سوداء فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة
إماماً، وكذلك لكل ما حضرني عنده حين إقامتي معه من الصلاة. ولما أردت النوم
قال لي: إصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك وذلك أوان القيظ فقلت للأمير: بسم
الله. فقال لي: وما منا إلا له مقام معلوم. فصعدت السطح، فوجدت به حصيراً
ونطعاً وآنية للوضوء، وجرة ماء وقدحاً للشرب فنمت هنالك.
كرامة لهذا الشيخ: رأيت ليلتي تلك، وأنا نائم بسطح الزاوية، كأني
على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة. يتيامن ثم يشرق، ثم يذهب في ناحية
الجنوب، ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق، وينزل في أرض مظلمة خضراء، ويتركني
بها. فعجبت من هذه الرؤيا، وقلت في نفسي: إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى
عنه. فلما غدوت لصلاة الصبح قدمني إماماً لها. ثم أتاه الأمير يلملك فوادعه
وانصرف. ووادعه من كان هناك من الزوار وانصرفوا أجمعين من بعد أن زودهم كعيكات
صغاراً. ثم سبحت سبحة الضحى. ودعاني وكاشفني برؤياي، فقصصتها عليه فقال سوف تحج
وتزور النبي صلى الله عليه وسلم، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك،
وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى به دلشاد الهندي، ويخلصك ممن شدة تقع فيها. ثم
زودني كعيكات ودراهم ووادعته وانصرفت. ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيراً،
وظهرت علي بركاته. ثم لم ألق فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمداً الموله
بأرض الهند. ثم رحلنا إلى مدينة النحرارية، وهي رحبة الفناء، حديثة البناء،
أسواقها حسنة الرؤية، " وضبطها بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين "، وأميرها
كبير القدر يعرف بالسعدي، وولده في خدمة ملك الهند، وسنذكره. وقاضيها صدر الدين
سليمان المالكي من كبار المالكية سفر عن الملك الناصر إلى العراق، وولي قضاء
البلاد الغربية، وله هيئة جميلة وصورة حسنة. وخطيبها شرف الدين السخاوي من
الصالحين. ورحلت منها إلى مدينة أبيار، وهي قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة
المساجد، ذات حسن زائد " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وياء آخر
الحروف والف وراء "، وهي بمقربة من النحرارية. ويفصل بينها النيل وتصنع بأبيار
ثياب حسان تعلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها. ومن الغريب قرب النحرارية
منها. والثياب التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها. ولقيت بأبيار
قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة
يوم الركبة، وهم يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء
المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف
على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو
الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين
فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا
هنالك، ركب القاضي وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال
والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال
عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون
الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل
والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى
داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة. ثم توجهت إلى مدينة المحلة الكبيرة وهي
جليلة المقدار، حسنة الآثار، كثير أهلها، جامع بالمحاسن شملها، واسمها بيّن.
ولهذه المدينة قاضي القضاة ووالي الولاة وكان قاضي قضاتها أيام وصولي اليها في
فراش المرض ببستان له على مسافة فرسخين من البلد، وهو عز الدين بن الأشمرين،
فقصدت زيارته صحبة نائبه الفقيه أبي القاسم ابن بنون المالكي التونسي، وشرف
الدين الدميري قاضي محلة منوف. وأقمنا عنده يوماً، وسمعت منه، وقد جرى ذكر
الصالحين أن على مسيرة يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو، وهي بلاد
الصالحين، وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات. فقصدت تلك البلاد، ونزلت
بزاوية الشيخ المذكور وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري والحوت
المعروف بالبوري ومدينتهم تسمى ملطين ، وهي على ساحل البحيرة المجتمعة من ماء
النيل وماء البحر المعروفة ببحيرة تنيس . ونسترو بمقربة منها. نزلت هنالك
بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي من الصالحين، وكانت تنيس بلداً عظيماً شهيراً،
وهي الآن خراب. قال ابن جزي " تنيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء
وسين مهمل "، وإليه ينسب الشاعر المجيد أبو الفتح ابن وكيع، وهو القائل في
خليجها:
قم فاسقني والخليج مضطرب والريح تثني ذوائب القصب
كأنها والرياح تعطـفـهـا صب قنا سندسية العـذب
والجو في حلة ممـسّـكة قد طرّزتها البروق بالذهب
" ونسترو بفتح النون واسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن "،
والبرلّس بباء موحدة وراء وآخره سين مهملة، وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاث
وتشديد اللام . وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح الأولين - وهو على البحر ومن غريب
ما اتفق به ما حكاه أبو عبد الله الرازي عن أبيه أن قاضي البرلس، وكان رجلا
صالحاً، خرج ليلة إلى النيل. فبينما اسبغ الوضوء، وصلى ما شاء الله أن يصلي، إذ
سمع قائلاً يقول:
لولا رجال لهم سرد يصومونـا وآخرون لهم ورد يقـومـونـا
لزلزلت أرضكم من تحتكم سحراً لأنكم قوم سوء لا تـبـالـونـا
قال: فتجوزت في صلاتي، وأدرت طرفي، فما رأيت أحداً، ولا سمعت حساً،
فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى. ثم سافرت في أرض رملة إلى مدينة دمياط. وهي
مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب
والناس يضبطون اسمها بإعجام الذال. وكذلك ضبطه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي
الرشاطي. وكان شرف الدين الإمام العلامة أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي
إمام المحدّثين يضبطها بإهمال الدال، ويتبع ذلك بأن يقول خلاف الرشاطي وغيره.
وهو أعرف بضبط اسم بلده. ومدينة دمياط على شاطىء النيل، وأهل الدور الموالية
يستقون منه الماء بالدلاء وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل. وشجر
الموز بها كثير، يحمل ثمره إلى مصر في المراكب. وغنمها سائمة هملاً بالليل
والنهار. ولهذا يقال في دمياط: سورها حلوى، وكلابها غنم. وإذا دخلها أحد، لم
يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي فمن كان من الناس معتبراً، طبع
له في قطعة كاغد، يستظهر به لحراس بابها. وغيرهم يطبع على ذراعه، فيستظهر به.
والطير البحري بهذه المدينة كثير، متناهي السمن. وبها الألبان الجاموسية التي
لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق. وبها الحوت البوري يحمل منها إلى الشام
وبلاد الروم ومصر. وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل تسمى البرزخ. بها مسجد
وزاوية، لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل، وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من
الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار. قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكراً. ودمياط
هذه حديثة البناء والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج على عهد الملك
الصالح. وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي، قدوة الطائفة المعروفة بالقلندرية
، وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم. ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح
التكروري.
حكاية2
يذكر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته
وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه فعلقت به امرأة من أهل ساوة، وكانت
تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها، وهو يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أمره
دست له عجوزاً تصدت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد، وبيدها كتاب مختوم. فلما
مر بها قالت له: يا سيدي أتحسن القراءة ؟ قال: نعم. قالت له: الكتاب وجهه إليّ
ولدي، وأحب أن تقرأه علي. فقال لها، نعم. فلما فتح الكتاب، قالت له: يا سيدي إن
لولدي زوجة، وهي بأسطوان الدار، فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها.
فأجابها لذلك. فلما توسط بين البابين غلقت العجوز الباب، وأخرجت المرأة
حواريّها فتعلقن به. وأدخلنه إلى داخل الدار. وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى
أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين. فأريني بيت الخلاء. فأرته إياه. فأدخل
معه الماء. وكانت عنده موسى جديدة، فحلق لحيته وحاجيبه، وخرج عليها، فاستقبحت
هيئته، واستنكرت فعله، وأمرت بإخراجه وعصمه الله بذلك، فبقى على هيئته فيما
بعد، وصار كل من يسلك طريقته أن يحلق رأسه ولحيته و حاجبيه.
كرامة لهذا الشيخ: يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها. وكان
بها قاض يعرف بابن العميد. فخرج يوماً إلى جنازة بعض الأعيان، فرأى الشيخ جمال
الدين بالمقبرة فقال له: أنت الشيخ المبتدع. فقال له: وأنت القاضي الجاهل، تمر
بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حياً. فقال له القاضي:
وأعظم من ذلك حلقك للحيتك. فقال له: إياي تعني. وزعق الشيخ، ثم رفع رأسه، فإذا
هو ذو لحية سوداء، عظيمة. فعجب القاضي ومن معه، ونزل إليه عن بغلته. ثم زعق
ثانياً فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة، ثم زعق ثالثاً ورفع رأسه. فإذا هو بلا لحية
كهيئته الأولى فقبل القاضي يده، وتتلمذ له، وبني له الزاوية الحسنة ، وصحبه
أيام حياته حتى مات الشيخ. فدفن بزاويته. ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن
بباب الزاوية، حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره. وبخارج دمياط المزار
المعروف بشطا، " بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة "، وهو ظاهر البركة، يقصده
أهل الديار المصرية. وله أيام في السنة معلومة لذلك. وبخارجها أيضاً بين
بساتينها موضع يعرف بالمنية، فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان. قصدت
زاويته وبت عنده. وكان بدمياط أيام إقامتي بها والٍ يعرف بالمحسني من ذوي
الإحسان والفضل. بنى مدرسة على شاطىء النيل بها. كان نزولي في تلك الأيام.
وتأكدت بيني وبينه مودة. ثم سافرت إلى مدينة فارسكور، وهي مدينة على ساحل النيل
" والكاف الذي في اسمها مضموم ". ونزلت بخارجها. ولحقني هنالك فارس وجّهه إليّ
الأمير المحسني، فقال لي: إن الأمير سأل عنك، وعرف بسيرتك، فبعث إليك بهذه
النفقة. ودفع إليّ جملة دراهم، جزاه الله خيراً. ثم سافرت إلى مدينة أشمون
الرمان، " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجم ". ونسبت إلى الرمان
لكثرته بها. ومنها يحمل إلى مصر. وهي مدينة عتيقة كبيرة على خليج من خلج النيل
ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب، وجازت
المراكب صاعدة ومنحدرة. وبهذا البلد قاضي القضاة ووالي الولاة. ثم سافرت عنها
إلى مدينة سمنود، وهي على شاطئ النيل، كثيرة المراكب حسنة الأسواق وبينها وبين
المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ " وضبط اسمها بفتح السين المهملة والميم وتشديد
النون وضمها وواو ودال مهمل. ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعداً إلى مصر، ما
بين مدائن وقرى منتظمة، المتصل بعضها ببعض. ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب
الزاد. لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ، نزل الوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير
ذلك. والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى مدينة أسوان من
الصعيد. ثم وصلت إلى مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات
الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة المتناهية بالحسن
والنضارة، ومجمع الوارد والصادر، ومحل رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم
وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف،
تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها. شبابها يجد
على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد. قهرت قاهرتها الأمم،
وتمكنت ملوكها من نواصي العرب والعجم. ولها خصوصية النيل الذي أجلّ خطرها،
وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجدّ السير. كريمة التربة،
مؤنسة لذوي الغربة. قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر: لعمرك ما مصرٌ بمصرٍ
وإنمـا هي الجنة الدنيا لمن يتبـصّـر
فأولادها الولدان والحور عينهـا وروضتها الفردوس والنيل كوثر
وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض: شاطئُ مصر جـنة ما مثلها من بلـد
لا سيّما مذ زخرفت بنيلها المـطّـرد
وللـرياح فـوقـه سوابغٌ مـن زرد
مسرودةٌ ما مسّهـا داودها بـمـبـرد
سائلة هـواؤهــا يرعد عاري الجسد
والفلك كالأفلاك بي ن حادر ومصعـد
ويقال: إن بمصر من السقائين على الجمال اثني عشر ألف سقاء، وأن
بها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان
والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات
والمرافق. وعلى ضفة النيل مما يواجه مصر الموضع المعروف بالروضة، وهو مكان
النزهة والتفرج، وبه البساتين الكثيرة الحسنة. وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو.
شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده. فزين كل أهل سوق
سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير وبقوا على ذلك أياماً.
ذكر مسجد عمرو بن العاص
والمدارس والمارستانات والزوايا
ومسجد عمرو بن العاص مسجد شريف كبير القدر شهير الذكر، تقام فيه
الجمعة. والطريق يعترضه من شرق إلى غرب وبشرقه الزاوية حيث كان يدرس الإمام أبو
عبد الله الشافعي. وأما المدارس بمصر فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها: وأما
المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاوون، فيعجز الواصف عن
محاسنه. وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر. يذكر أن مجباه ألف دينار
كل يوم: وأما الزوايا فكثيرة. وهم يسمونها الخوانق. واحدتها خانقة . والأمراء
بمصر يتنافسون في بناء الزوايا وكل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقاء، وأكثرهم
الأعاجم. وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة التصوف. ولكل زاوية شيخ وحارس. وترتيب
أمورهم عجيب. ومن عوائدهم في الطعام أنه يأتي خديم الزاوية إلى الفقراء صباحاً،
فيعين له كل واحد ما يشتهيه من الطعام. فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان
خبزه ومرقه في إناء على حدة لا يشاركه فيه أحد. وطعامهم مرتان في اليوم. ولهم
كسوة الشتاء وكسوة الصيف ومرتب شهري من ثلاثين درهماً للواحد في الشهر إلى
عشرين. ولهم الحلاوة من السكر في كل ليلة جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة
لدخول الحمام، والزيت للاستصباح. وهم أعزاب. وللمتزوجين زوايا على حدة. ومن
المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس، والمبيت بالزاوية، واجتماعهم بقبة داخل
الزاوية. ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به. وإذا صلوا صلاة
الصبح قرأوا سورة الفتح، وسورة الملك، وسورة عمّ، ثم يؤتى بنسخ من القرآن
العظيم مجزأة، فيأخذ كل فقير جزءاً، ويختمون القرآن، ويذكرون، ثم يقرأ القراء
على عادة أهل المشرق. ومثل ذلك يفعلون بعد صلاة العصر. ومن عوائدهم مع القادم
أنه يأتي باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط، وعلى كاهله سجادة، وبيمناه العكاز،
وبيسراه الإبريق. فيعلم البواب خديم الزاوية بمكانه فيخرج إليه، ويسأله من أي
البلاد أتى، وبأي الزوايا نزل في طريقه ومن شيخه، فإذا عرف صحة قوله أدخله
الزاوية، وفرش له سجادته في موضع يليق به، وأراه موضع الطهارة، فيجدد الوضوء،
ويأتي إلى سجادته، فيحل وسطه، ويصلي ركعتين، ويصافح الشيخ ومن حضر ويقعد معهم.
ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أخذ الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى
المسجد ويفرشها لهم هنالك. ويخرجون مجتمعين، ومعهم شيخهم فيأتون المسجد، ويصلي
كل واحد على سجادته. فإذا فرغوا من الصلاة قرأوا القرآن على عادتهم. ثم ينصرفون
مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم.
ذكر قرافة مصر ومزاراتها
ولمصر القرافة العظيمة الشأن في التبرك بها. وقد جاء في فضلها أثر
أخرجه القرطبي وغيره، لأنها من جملة الجبل المقطم الذي وعد الله أن يكون روضة
من رياض الجنة. وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان فتكون
كالدور، ويبنون بها البيوت، ويرتبون القراء يقرأون ليلاً ونهاراً بالأصوات
الحسان. ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون كل ليلة جمعة
إلى المبيت بأولادهم ونسائهم، ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل. ومن المزارات
الشريفة المشهد المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام،
وعليه رباط ضخم عجيب البناء، على أبوابه حلق الفضة وصفائحها أيضاً. كذلك، وهو
موفى الحق من الإجلال والتعظيم. ومنها تربة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن
علي بن الحسين بن علي عليهم السلام. وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة.
وهذه التربة أنيقة البناء، مشرقة الضياء، عليها رباط مقصود. ومنها تربة الإمام
أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وعليها رباط كبير. ولها
جراية ضخمة. وبها القبة الشهيرة البديعة الإتقان، العجيبة البنيان، المتناهية
الإحكام، المفرطة السمو، وسعتها أزيد من ثلاثين ذراعاً. وبقرافة مصر من قبور
العلماء والصالحين ما لا يضبطه الحصر. وبها عدد جم من الصحابة، وصدور السلف
والخلف رضي الله تعالى عنهم، مثل عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز،
وأصبغ بن الفرج، وابني عبد الحكم، وأبي القاسم بن شعبان، وأبي محمد عبد الوهاب.
لكن ليس لهم بها اشتهار، ولا يعرفهم إلا من بهم عناية. والشافعي رضي الله عنه
ساعده الجد في نفسه وأتباعه وأصحابه في حياته ومماته، فظهر من أمره مصداق قوله:
الجد يدفي كل أمر شـائع والجد يفتح كل باب مغلق
وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور. وللناس فيها كلام كثير،
وخوض في شأنها، وأولية بنائها. ويزعمون أن العلوم التي ظهرت قبل الطوفان أخذت
من هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى ويسمون اخنوخ وهو ادريس عليه السلام.
وأنه أول من تكلم في الحركات الفلكية، والجواهر العلوية، وأول من بنى الهياكل،
ومجد الله تعالى فيها، وأنه أنذر الناس بالطوفان، وخاف ذهاب العلم ودروس
الصنائع فبنى الأهرام والبرابي وصور فيها جميع الصنائع والآلات، ورسم العلوم
فيها لتبقى مخلدة. ويقال: إن دار العلم والملك بمصر مدينة منف ، وهي على بريد
من الفسطاط. فلما بنيت الإسكندرية انتقل الناس إليها، وصارت دار العلم والملك.
إلى أن أتى الإسلام فاختطّ عمرو بن العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط، فهي
قاعدة مصر إلى هذا العهد. والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت، متناهي السمو
مستدير متسع الأسفل، ضيق الأعلى كالشكل المخروط ولا أبواب لها، ولا تعلم كيفية
بنائها. ومما يذكر في شأنها أن ملكاً من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته،
وأوجبت عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل، لتكون مستودعاً
للعلوم، ولجثث العلوم، ولجثث الملوك، وأنه سأل المنجمين هل يفتح منها موضع،
فأخبروه أنها تفتح من الجانب الشمالي، وعينوا له الموضع الذي تفتح منه، ومبلغ
الإنفاق في فتحه. فأمر أن يجعل بذلك الموضع من المال قدر ما أخبروه أنه ينفق في
فتحه، واشتد في البناء، فأتمه في ستين سنة. كتب عليها بنينا هذه الأهرام في
ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة، فإن الهدم أيسر من البناء. فلما
أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد هدمها، فأشار عليه بعض مشايخ مصر
أن لا يفعل فلجّ في ذلك، وأمر أن تفتح من الجانب الشمالي فكانوا يوقدون عليها
النار، ثم يرشونها بالخل، ويرمونها بالمنجنيق، حتى فتحت الثلمة التي بها إلى
اليوم، ووجدوا بإزاء النقب مالاً أمر أمير المؤمنين بوزنه فحصر ما أنفق في
النقب، فوجدهما سواء. فطال عجبه من ذلك ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعاً.
ذكر سلطان مصر
وكان سلطان مصر على عهد دخولي إليها الملك الناصر أبا الفتح محمد بن
المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي. وكان قلاوون يعرف بالألفي لأن الملك الصالح
اشتراه بألف دينار ذهباً وأصله من قفجق. وللملك الناصر رحمه الله السيرة
الكريمة والفضائل العظيمة. وكفاه شرفاً انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما
يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد
والماء للمنقطعين والضعفاء، وتحمل من تأخر أو ضعف عن المشي في الدربين المصري
والشامي. وبنى زاوية عظيمة بسرياقص خارج القاهرة. لكن الزاوية التي بناها
مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين وكهف الفقراء والمساكين، خليفة الله في أرضه
القائم من الجهاد بنفله وفرضه أبو عنان أيد الله أمره، وأظهره، وسنّى له الفتح
المبين ويسره، بخارج حضرته العلية المدينة البيضاء حرسها الله لا نظير لها في
المعمور، في إتقان الوضع وحسن البناء والنقش في الجص، بحيث لا يقدر أهل المشرق
على مثله. وسيأتي ذكر ما عمره أيده الله من المدارس والمرستان والزوايا ببلاده
حرسها الله وحفظها بدوام ملكه.
ذكر بعض أمراء مصر
منهم ساقي الملك الناصر، وهو الأمير بكتمور " وضبط اسمها بضم الباء
الموحدة وكاف مسكن وتاء معلوة مضمومة وآخره راء "، وهو الذي قتله الملك الناصر
بالسم، وسيذكر ذلك، ومنهم نائب الملك الناصر أرغون الدودار، وهو الذي يلي
بكتمور في المنزلة، " وضبط اسمه بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الغين المعجمة "،
ومنهم طشط المعروف بحمص أخضر، " واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم
". وكان من خيار الأمراء. وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة
لمن يعلمهم القرآن. وله الإحسان العظيم للحرافيش، وهم طائفة كبيرة أهل صلابة
وجاه ودعارة . وسجنه الملك الناصر مرة، فاجتمع من الحرافيش آلاف، ووقفوا بأسفل
القلعة، ونادوا بلسان واحد يا أعرج النحس، يعنون الملك الناصر، أخرجه فأخرجه من
محبسه، وسجنه مرة أخرى. ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه. ومنهم وزير الملك الناصر
يعرف بالجمالي بفتح الجيم. ومنهم بدر الدين بن البابه. ومنهم جمال الدين نائب
الكرك. ومنهم تقزدمور " واسمه بضم التاء المعلوة وضم القاف وزاء مسكن ثم دال
مضموم وميم مثله وآخره راء "، ودمور بالتركية الحديد. ومنهم بهادر الحجازي "
واسمه بفتح والباء الموحدة وضم الدال المهملة وآخره راء ". ومنهم قوصون " واسمه
بفتح القاف وصاد مهمل مضموم " ومنهم بشتك " واسمه بفتح الباء الموحدة واسكان
الشين المعجم و وتاء معلوة مفتوحة ". وكل هؤلاء يتنافسون في أفعال الخيرات
وبناء المساجد والزوايا. ومنهم ناظر جيش الملك الناصر وكاتبه فخر الدين القبطي،
وكان نصرانياً من القبط، فأسلم وحسن إسلامه، وله المكارم العظيمة والفضائل
التامة ودرجته من أعلى الدرجات عند الملك الناصر، وله الصدقات الكثيرة والإحسان
الجزيل. ومن عادته أن يجلس عشي النهار في مجلس له بأسطوان داره على النيل ويليه
المسجد، فإذا حضر المغرب صلى في المسجد وعاد إلى مجلسه وأوتي بالطعام. ولا يمنع
حينئذ أحد من الدخول كائناً من كان. فمن كان ذا حاجة تكلم فيها فقضاها له ومن
كان طالب صدقة أمر مملوكاً له يدعى بدر الدين، واسمه لؤلؤ، يصحبه إلى خارج
الدار، وهنالك خازنه معه صرر الدراهم فيعطيه ما قدر له. ويحضر عنده في ذلك
الوقت الفقهاء ويقرأ بين يديه كتاب البخاري، فإذا صلى العشاء الأخيرة انصرف
الناس عنه.
ذكر القضاة بمصر في عهد دخولي إليها
فمنهم قاضي القضاة الشافعية، وهو أعلاهم منزلة وأكبرهم قدراً، وإليه
ولاية القضاة بمصر وعزلهم، وهو القاضي الإمام العالم بدر الدين بن جماعة. وابنه
عز الدين هو الآن متولي ذلك. ومنهم قاضي القضاة المالكية الإمام الصالح تقي
الدين الإخنائي. ومنهم قاضي القضاة الحنفية الإمام العالم شمس الدين الحريري،
وكان شديد السطوة لا تأخذه في الله لومة لائم. وكانت الأمراء تخافه. ولقد ذكر
لي أن الملك الناصر قال يوماً لجلسائه. إني لا أخاف من أحد إلا من شمس الدين
الحريري. ومنهم قاضي القضاة الحنبلية. ولا أعرفه الآن إلا أنه كان يدعى بعز
الدين.
حكاية
كان الملك الناصر رحمه الله يقعد للنظر في المظالم ورفع قصص
المتشكين كل يوم اثنين وخميس. ويقعد القضاة الأربعة عن يساره وتقرأ القصص بين
يديه، ويعين من يسأل صاحب القصة عنها وقد سلك مولانا أمير المؤمنين ناصر الدين
أيده الله في ذلك مسلكاً لم يسبق إليه، ولا مزيد في العدل والتواضع عليه، وهو
سؤاله بذاته الكريمة لكل متظلم، وعرضه بين يديه المستقيمة أبى الله أن يحضرها
سواه، أدام الله أيامه. وكان رسم القضاة المذكورين أن يكون أعلاهم منزلة في
الجلوس: قاضي الشافعية ثم قاضي الحنفية ثم قاضي المالكية ثم قاضي الحنبلية.
فلما توفي شمس الدين الحريري، وولي مكانه برهان الدين عبد الحق الحنفي أشار
الأمراء على الملك الناصر بأن يكون مجلس المالكي فوقه وذكروا أن العادة جرت
بذلك قديماً إذ كان قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف يلي قاضي الشافعية تقي
الدين بن دقيق العيد، فأمر الناصر بذلك. فلما علم به قاضي الحنفية غاب عن شهود
المجلس أنفة من ذلك، فأنكر الملك الناصر مغيبه، وعلم ما قصده، فأمر بإحضاره.
فلما مثل بين يديه أخذ الحاجب بيده، وأقعده حيث نفذ أمر السلطان، مما يلي قاضي
المالكية واستمر حاله على ذلك.
ذكر بعض علماء مصر وأعيانها
فمنهم شمس الدين الأصبهاني إمام الدنيا في المعقولات، ومنهم شرف
الدين الزواوي المالكي، ومنهم برهان الدين ابن بنت الشاذلي نائب قاضي القضاة
بجامع الصالح، ومنهم ركن الدين بن القوبع التونسي من الأئمة في المعقولات،
ومنهم شمس الدين بن عدلان كبير الشافعية، ومنهم بهاء الدين بن عقيل فقيه كبير،
ومنهم أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان الغرناطي، وهو أعلمهم بالنحو،
ومنهم الشيخ الصالح بدر الدين عبد الله المنوفي، ومنهم برهان الدين الصفاقسي،
ومنهم قوام الدين الكرماني، وكان سكناه على سطح الجامع الأزهر، وله جماعة من
الفقهاء والقراء يلازمونه ويدرسون فنون العلم، ويفتي في المذاهب، ولباسه عباءة
صوف خشنة، وعمامة صوف سوداء ومن عاداته أن يذهب بعد صلاة العصر إلى موضع الفرج
والنزهات، منفرداً عن أصحابه، ومنهم السيد الشريف شمس الدين ابن بنت الصاحب تاج
الدين بن حناء، ومنهم شيخ شيوخ القراء بديار مصر مجد الدين الأقصرائي، نسبة إلى
أقصرا، من بلاد الروم، ومسكنه سرياقص، ومنهم الشيخ جمال الدين الحويزائي.
والحويزا على مسيرة ثلاثة أيام من البصرة، ومنهم نقيب الأشراف بديار مصر السيد
الشريف المعظم بدر الدين الحسيني من كبار الصالحين، ومنهم وكيل بيت المال
المدرس بقبة الإمام الشافعي مجد الدين بن حرمي، ومنهم المحتسب بمصر نجم الدين
السهرتي من كبار الفقهاء، وله بمصر رياسة عظيمة وجاه.
ذكر يوم المحمل
وهو يوم دوران الجمل يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه
القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال والمحتسب وقد ذكرنا جميعهم، ويركب معهم أعلام
الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة، ويقصدون جميعاً باب القلعة، دار الملك
الناصر، فيخرج إليهم المحل على جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك
السنة، ومعه عسكره والسقاؤون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال
ونساء، ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصر، والحداة
يحدون أمامهم، ويكون ذلك في رجب فعند ذلك تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك
البواعيث، ويلقي الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده، فيأخذون
في التأهب لذلك والاستعداد. ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز
الشريف. فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير
الطين، وهو رباط عظيم بناء على مفاخر عظيمة، وآثار كريمة، أودعها فيه وهي قطعة
من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والميل الذي كان يكتحل به، والدرفش وهو
الأشفا الذي كان يخصف به نعله، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط
يده رضي الله عنه. ويقال: إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية
بمائة ألف درهم، وبنى الرباط، وجعل فيه الطعام للوارد والصادر، والجراية لخدام
تلك الآثار الشريفة، نفعه الله تعالى بقصده المبارك. ثم خرجت من الرباط
المذكور، ومررت بمنية القائد، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل. ثم سرت منها إلى
مدينة بوش " وضبطها بضم الباء الموحدة واحدة شين معجم " وهذه المدينة أكثر بلاد
مصر كتاناً، ومنها يجلب إلى سائر الدنيا المصرية، وإلى إفريقية. ثم سافرت منها،
فوصلت إلى مدينة دلاص " وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهملة "، وهذه
المدينة كثيرة الكتان أيضاً، كمثل التي ذكرناها قبلها. ويحمل أيضاً منها إلى
ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا " وضبط اسمها بباءين موحدتين
أولاهما مكسورة ". ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة وبساتينها
كثيرة، " وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون والسين " وتصنع بهذه
المدينة ثياب الصوف الجيدة. وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين، وهو كريم
النفس فاضل. ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي، ونزلت عنده وأضافني. ثم
سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب ، وهي مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة
مبنية على شاطئ النيل. وحق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل. بها المارس
والمشاهد والزوايا والمساجد وكانت في القديم منية عامل مصر الخصيب.
حكاية خصيب
يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر.
فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده، وأصغرهم شأناً، قصداً لإرذالهم والتنكيل بهم
وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمّام فخلع عليه، وأمّره على مصر، وظنه
أنه يسير فيهم سيرة سوء، ويقصدهم بالإذاية، حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير
عهد بالعز. فلما استقر خصيب بمصر، سار في أهلها أحسن سيرة. وشهر بالكرم
والإيثار. فكان أقرب الخلفاء وسواهم يقصدونه، فيجزل العطاء لهم، ويعودون إلى
بغداد شاكرين لما أولاهم. وأن الخليفة افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم
أتاه، فسأله عن مغيبه، فأخبره أنه قصد خصيباً. وذكر له ما أعطاه خصيب. وكان
عطاء جزيلاً. فغضب الخليفة، وأمر بسمل عيني خصيب، وإخراجه من مصر إلى بغداد،
وأن يطرح في أسواقها. فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله
وكانت بيده ياقوته عظيمة الشأن فخبأها عنده، وخاطها في ثوب له ليلاً وسملت
عيناه، وطرح في أسواق بغداد. فمر به بعض الشعراء فقال له يا خصيب: " إني كنت
قصدتك من بغداد إلى مصر مادحاً لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها، وأحب أن تسمعها.
فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه ؟ فقال: إنما قصدي سماعك لها. وأما العطاء
فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيراً قال فافعل فأنشد: أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكمـا بـحـر
فلما أتى علىآخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك. فقال له: خذ
الياقوتة. فأبى، فأقسم عليه أن يأخذها. فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين.
فلما عرضها عليهم قالوا له إن هذه لا تصلح إلا للخليفة. فرفعوا أمرها إلى
الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة، فأخبره بخبرها.
فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه، وأجزل له العطاء، وحكّمه فيما
يريد. فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك، وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها
عقبه إلى أن انقرضوا. وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري
المالكي، وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوماً الحمام بهذه البلدة،
فرأيت الناس بها لا يستترون. فعظم ذلك علي وأتيته، فأعلمته بذلك. فأمرني ألا
أبرح، وأمر بإحضار المكترين للحمامات، وكتبت عليهم العقود، أنه متى دخل أحد
الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك. واشتد عليهم أعظم الاشتداد. ثم انصرفت
عنه وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين
من النيل " وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الام وكسر الواو ".
وقاضيها الفقيه شرف الدين الدميري " بفتح الدال المهمل وكسر الميم " الشافعي.
وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعاً أنفق فيه صميم ماله. وبهذه
المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر - ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيراً من دخول
معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة، فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر
فيها، ثم يخرجها، وقد امتلأت سكراً فينصرف بها. وسافرت من منلوي المذكورة إلى
مدينة منفلوط وهي مدينة حسن رواؤها، مؤنق بناؤها على ضفة النيل، شهيرة البركة "
وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم الام وآخرها طاء مهمل.
حكاية3
أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه الله، أمر بعمل منبر
عظيم، محكم الصنعة بديع الإنشاء، برسم المسجد الحرام، زاده الله شرفاً
وتعظيماً. فلما تم عمله، أمر أن يصعد به في النيل ليجاز إلى بحر جدة، ثم إلى
مكة شرفها الله، فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط، وحاذى مسجدها الجامع
وقف، وامتنع من الجري مع مساعدة الريح. فعجب الناس من شأنه أشد العجب، وأقاموا
أياماً لا ينهض بهم المركب. فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه الله، فأمر أن
يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط، ففعل ذلك. وقد عاينته بها، ويصنع في هذه
المدينة شبه العسل، يستخرجونه من القمح ويسمونه النيدا. يباع بأسواق مصر.
وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط. وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة " وضبط
اسمها بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء آخر الحروف واو وطاء مهملة "
وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب " بحاصل ما ثم "، لقب اشتهر به وأصله
أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى
فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها، فيعطيه ما قدر له. فكان القاضي إذا أتاه
الفقير يقول له حاصل ما ثم أي لم يبق من المال الحاصل شيء فلقب بذلك ولزمه.
وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ، أضافني بزاويته. وسافرت
منها إلى مدينة أخميم، وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجيبة الشان، بها البربي
المعروف باسمه، وهو مبني بالحجارة، في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في
هذا العهد، وصور الأفلاك والكواكب. ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج
العقرب. وبها صور الحيوانات وسواها. وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج
عليها. وكان بأخميم رجلٌ يعرف بالخطيب، أمر على هدم بعض هذه البرابي، وابنتي
بحجارتها مدرسة. وهو رجل موسر معروف باليسار. ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده
من المال من ملازمته لهذه البرابي. ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي
العباس بن عبد الظاهر، وبها تربة جده عبد الظاهر. وله من الأخوة ناصر الدين
ومجد الدين وواحد الدين. ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعاً بعد صلاة الجمعة، ومعهم
الخطيب نور الدين المذكور وأولاده، وقاضي المدينة الفقيه مخلص، وسائر أهلها،
فيجتمعون للقرآن، ويذكرون الله إلى صلاة العصر. فإذا صلوها، قرأوا سورة الكهف،
ثم انصرفوا. وسافرت من أخميم إلى مدينة " هو ": مدينة كبيرة بساحل النيل "
وضبطها بضم الهاء ". نزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج. ورأيتهم يقرأون
بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزباً من القرآن، ثم يقرأون أوراد الشيخ أبي
الحسن الشاذلي وحزب البحر. وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله
الحسني من كبار الصالحين. كرامة له: دخلت إلى هذا الشريف متبركاً برؤيته
والسلام عليه، فسألني عن قصدي، فأخبرته أني أريد البيت الحرام على طريق جدة.
فقال لي: لا يحصل لك هذا في هذا الوقت، فارجع. وإنما تحج أول حجة على الدرب
الشامي. فانصرفت عنه، ولم أعمل على كلامه. ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب.
فلم يتمكن لي السفر، فعدت راجعاً إلى مصر ثم إلى الشام. وكان طريقي في أول
حجاتي على الدرب الشامي، حسبما أحبرني الشريف نفع الله به. ثم سافرت إلى مدينة
قنا، وهي صغيرة حسنة الأسواق " وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون". وبها قبر الشريف
الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة
الله عليه. ورأيت بالمدرسة السيفية حفيده شهاب الدين أحمد.
وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص " وهي بضم القاف ". مدينة عظيمة
لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة، وأسواقها مونقة، ولها المساجد الكثيرة،
والمدارسة الأثيرة، وهي منزل ولاة الصعيد. وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن
عبد الغفار، وزاوية الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل
سنة، ومن علمائها القاضي جمال الدين بن السديد، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق
العيد أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك، لم أر من يماثله إلا
خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي،
وسيقع ذكرهما، ومنهم الفقيه بها ء الدين عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية،
ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي، له زاوية عالية. ثم سافرت إلى
مدينة الأقصر " وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل "، وهي ضغيرة حسنة،
وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري. وعليه زاوية، وسافرت منها إلى
مدينة أرمنت " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء
فوقية "، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل. أضافني قاضيها، وأنسيت
اسمه. ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين
المهمل ونون "، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس
والجوامع، لها أسواق حسان، وبساتين ذات أفنان. قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين
بن مسكين. أضافني وأكرمني، وكتب إلى نوابه بإكرامي. وبها من الفضلاء الشيخ صالح
نور الدين علي، والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي، وهو على هذا العهد صاحب
زاوية بقوص. ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان
الدال المهمل وضم الفاء ". وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء ثم
جزنا النيل من مدينة أدفو إلى مدينة العطواني، ومنها اكترينا الجمال. وسافرنا
من طائفة من العرب تعرف بدغيم " بالغين المعجمة " في صحراء لا عمارة بها إلا
أنها آمنة السيل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن
الشاذلي، وقد ذكرنا كرامته في أخباره أنه يموت بها. وأرضها كثيرة الضباع. ولم
نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع. ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلاً كان
به، واجتزت منه جراب تمر، وذهبت به. فوجدناه لما أصبحنا ممزقاً مأكولاً معظم ما
كان فيه. ثم لما سرنا خمسة عشر يوماً وصلنا إلى مدينة عيذاب، وهي مدينة كبيرة
كثيرة الحوت واللبن، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر. وأهلها البجاة ،
وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء، ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض
العصابة أصبعاً وهم لا يورثون البنات. وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري،
ويسمونها الصهب. وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة، وهو يعرف
بالحدربي " بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء "
وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني شهير البركة. رأيته وتبركت به. وبها الشيخ
الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي. زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش، وأن
سنه خمس وتسعون سنة. ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب
الأتراك، وقد خرق المراكب، وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر. فبعنا ما
كنا أعددناه من الزاد، وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر،
فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها،وانحدرنا منها في النيل، وكان أوان مده،
فوصبلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر، فبت بصر ليلة واحدة، وقصدت بلاد الشام.
وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين فوصلت إلى مدينة بلبيس ، "وضبط اسمها بفتح
الموحدة الأولى وفتحو الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة"، وهي مدينة
كبيرة، ذات بساتين، كثيرة، ولم ألق بها من يجب ذكره.
ثم وصلت إلى الصالحية. ومنها دخلنا الرمال، ونزلنا منازلها، مثل
السوادة والورادة والمطيلب والعريش والخروبة. بكل منزل منها فندق. وهم يسمونه
الخان. ينزله المسافرون بدوابهم. وبخارج كل خان ساقية للسبيل، وحانوت يشتري
منها المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. ومن منازلها قطيا المشهورة وهي " بفتح
القافغ وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة وألف. والناس يبدلون ألفها هاء
تأنيث ". وبها تؤخذ الزكاة من التجار، وتفتش أمتعتهم، ويبحث عما لديهم أشد
البحث. وفقيها الدواوين والعمال والكتاب، والمشهود.ومجباها في كل يوم ألف دينار
من الذهب. ولا يجوز عليها أحد من الشام إلا ببراءة من مصر. ولا إلى مصر إلا
ببراءة من الشام، احتياطاً على أموال الناس، وتوقياً من الجواسيس العراقيين.
وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه. فإذا كان اليل مسحوا على الرمل حتى لا
يبقى به أثر، ثم يأتي الأمير صباحاً، فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثراً طالب
العرب بإحضضار مؤثره، فيذهبون في طلبه، فلا يفوتهم فيأتون به الأمير، فيعاقبه
بما شاء، وكان بها في عهد وصولي إليها عز الدين أستاذ الداراقماري من خيار
الأمراء، أضافني وأكرمنبي وأباح الجواز لمن كان معي. وبين يديه عبد الجليل
المغربي والوقاف، وهو يعرف المغاربة وبلادهم، فيسأل من ورد منهم من أي البلاد
هو لئلا يلبس عليهم، فإن المغاربة لا يعترضون جوازهم على قطيا. ثم سرنا حتى
وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار، كثيرة
العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها. وكان بها جامع حسن
والمسجد الذس تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي. وهو أنيق
البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض وقاضي غزة بدر الدين تالسلختي
الحوراني ومدرسها علم الدين بن سالم. وبنو سالم كبراء هذه المدينة ومنهم شمس
الدين قاضي القدس. ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه
وسلم تسليماً زهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مشرقة الأنوار حسنة المنظر
عجيبة المخبر، في بطن وادٍ، ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي
الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت. في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون
شبراً. ويقال إن سليمان عليه السلام امر الجن ببنائه وفي داخل المسجد الغار
المكرم المقدس. فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم.
ويقابلهاو قبور ثلاثة، هي قبور أزواجهم. وعن يمين المنبر، بلصق جدار القبلة
موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق، يفضي إلى ساحة مفروشة
بالرخام، فيها صور القبور الثلاثة. ويقال: إنها محاذية لها. وكان هنالك مسلك
إلى الغار المبارك، وهو الآن مسدود. وقد نزلت بهذا الموضع مرات ومما ذكره أهل
العلم دليلاً على صحة كون الققبور الثلاثة الشريفة هنالك، ما نقلهمن كتاب علي
بن جعفر الرازيالي سماه: المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم و إسحاق ويعقوب.
أسند فيه إلى أبي هريرؤة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسري بي
إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا
قبر أبيك إبراهيم. ثم مر بي على بيت لحم وقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا ولد
أخوك عيسى عليه السلام. ثم أتى بي الصخرة " وذكر بقية الحديث.
ولما لقيت بهذه المدينة المدرس تالصالح المعمر الإمام الخطيب برهان
الدين الجعبري، أحد الصلحاء المرضيين، والأئمة المشهورين. سألته عن صحة كون قبر
الخليل عليه السلام هنالك فقال لي: كل من لقيته من أهل العلنم يصححون أن هذه
القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم السلام، وقبور زوجاتهم،
ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه، ويذكر أن
بعض الأئمة دخل إلى الغار، ووقف عند قبر سارة؛ فدخل شيخ فقال له: أي هذه القبور
هو قبر إبراهيم ؟ فأشار له إلى قبره المعروف ثم دخل شاب فسأله كذلك، فأشار له
إليه. ثم دخل صبي فسأله أيضاً فأشار له إليه فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر
إبراهيم عليه السلام لا شك. ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد. وبداخل
هذا المسجد أيضاً قبر يوسف عليه السبلام. وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه
السلام. وهي تل مرتفع، يشرف منه غور الشام. وعلى قبره أبنية حسنة. وهو في بيت
مه احسن البناء مبيض ولا ستور عليه. وهنالك بحيرة لوط ، هي أجاج. يقال أنها
موضع ديار قوم لوط وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقي، وهو على تل مرتفع له نور
وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه. وفي المسجد بمقربة من
بابه مخوضع منخفض في حجر صلد قد هيئ فيه صورة محراب، لا يسع إلا مصلياً واحداً،
ويقال: إن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكراً لله تعالى عند هلاك قوم لوط، فتحرك
موضع سجوده،وساخ في الأرض قليلاً. وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة
بنت الحسين بن علي عليهما السلام وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في
أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع بسم الله الرحمن الرحيم لله العزة والبقاء وله ما
ذرأ وبرأ وعلى خلقه كتب الفناء. وفي رسول الله أسوة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت
الحسين رضي الله عنه. وفي اللوح الآخر منقوش صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر.
وتحت ذلك هذه الأبيات: أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه بالرغم مني بين الترب
والحجـر
يا قبر فاطمة بنت ابـن فـاطـمة بنت الأئمة بنت الأنجم الـزهـر
يا قبر ما فيك من دين ومـن ورع ومن عفاف ومن صون ومن خفر
ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس. فزرت في طريقي إليه تربة يونس
عليه السلام، وعليها أبنية كبيرة ومسجد. وزرت أيضاً بيت لحم، موضع ميلاد عيسى
عليه السلام، وبه أثر جذع النخلة، وعليه عمارة كثيرة. والنصارى يعظمونه أشد
التعظيم، ويضيفون من نزل به، ثم وصلنا إلى بيت المقدس، شرفه الله، ثالث
المسجدين الشريفين في رتبة الفل، ومصعد رسول الله عليه وسلم تسليماً، ومعرجة
إلى السماء. والبلدة الكبيرة مبنية بالصخر المنحوت. وكان الملك الصالح الفاضل
صلاح الدين بن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيراً، لما فتح هذه المدينة هدم بض
سورها. ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها. ولم
يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم وجلب لها الماء في هذا العهد الأمير سيف الدين
تنكيز أمير دمشق.
لقراءة بقية الكتاب من المصدر(رحلة
ابن بطوطة)
------------------------------------------
أضيفت في 10/04/2005/ * خاص القصة السورية/
عن موقع الوراق
كيفية
المشاركة
|