الإشارة الجمالية في المثل القرآني
دراسة
بسم الله الرحمن الرحيم
وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا.
الإسراء 80
المقدمة
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
كثرت الدراسات التي تمحورت حول الخطاب القرآني وتشعبت، ولاسيما في
الأزمنة المتاخمة لظهور الإسلام، وكانت ـ نتيجة لحداثة عهدها بهذا الخطاب
الإلهي ـ مناسبة لمقتضيات عصرها، من خلال انشغالها بالخلافات التي نجمت عن
الثورة الفكرية الهائلة التي أحدثها القرآن، وكل بحسب اتجاهه. ولذلك كانت
تصب جل اهتمامها على الآليات التي تعزز ذاك الاتجاه الفكري، وتصلح للرد على
سواه. وبهذا تكون قد ابتعدت تماماً عن استجلاء القرآن بوصفه خطاباً موحداً،
تلك الوحدة التي لا يتم استشفافها إلا من اختلاف موضوعاته وتنوعها، والتي
جمعها تنوع آخر هو الهيكل الفني للقرآن، من انقسامه على أجزاء تنتظمها سور
معينة تنتظمها آيات معينة كذلك. ومن هذا التنوع الذي يسوده خيط دلالي واحد،
نستجلي بعده الجمالي، الذي كان السر في عدم تناهي تأويلاته، ومن ثم خلوده.
إذاً لا مراء في جمالية الخطاب القرآني، تلك الجمالية التي طالما
وقف العقل الإنساني إزاءها عاجزاً، نظراً لما يتمتع به من بعد مزدوج، عبر
توظيف الجمالي في خدمة التواصلي، ليتمازجا معاً في بودقة واحدة، لم يكن لأي
خطاب أدبي أو تواصلي أن يجاريه فيه.
وإذا كانت تلك الدراسات مناسبة لعصرها، فمن غير المجدي تناول الخطاب
القرآني الآن على الشاكلة القديمة نفسها، لأنه سيند عندها عن التنامي
الكبير لمتطلبات العصر. إذ إن الشوط الذي قطعته الذات الإنسانية في مجال
بحثها عن وجودها، أدى إلى وصولها إلى درجة من التكامل بينها وبين كل ما
حولها، وانخراط كل تلك الأجزاء في تشكيلها، من خلال تساوقها فيما بينها
تساوقاً كلياً. أي أن رؤيتها إلى الكون الذي يقطن خارجها، هي التي ستحدد
ذاك الوجود، وإذا كانت عناصر ذاك الكون الخارجي متنوعة، فإنها لا بد من أن
تتحد أخيراً، لتتحقق عملية الإدراك المتكامل.
وبهذا فإن النظرة إلى القرآن الكريم بوصفه كوناً مقروءاً، لا بد من
أن تصب أخيراً في ذاك التكامل القرائي، لكي تصل بالعقل الإنساني الذي وصل
إلى درجة عالية من التعقيد، إلى الإقناع، لأن تأخر تلك النظرة عن الركب من
حولها، قد يؤدي إلى انفصالها الكلي عن مجريات الأمور من حولها، لتكون هي في
واد والتفاعل الإنساني مع العالم في واد آخر، وبذلك تغيب عن الأذهان أهم
سمة من سمات تميز الخطاب القرآني، وهي أن يكون القرآن الكريم وسيلة لفهم
الكون المنظور بالدرجة الأساس، وهذا سر ديمومته ومناسبته لكل الأزمنة
الإنسانية، على المدى. لأن وقوف الدراسات في تطورها عند مرحلة زمنية معينة
دون أن تبرحها، لن يوقف ـ بأي حال من الأحوال ـ التقدم السريع للزمن، الأمر
الذي سيؤدي إلى اغترابها، ومن ثم إلى تنامي فجوة فسيحة بينها وبين عصرها،
مما سينعكس على مجال بحثها ـ القرآن الكريم ـ. وبدلاً من أن تكون وسيلة
للتقريب بين الذات الإنسانية والقرآن ستكون وسيلة لاغترابها عنه. وانزواء
الإنسان المسلم في ركن قصي، ينأى دوماً إلى التاريخ ليكون مهرباً لـه من
ذاك الاغتراب الذي يعانيه من حاضره، وشبح المستقبل الدنيوي الذي يطارده،
فصار بذلك بعيداً عن رسم ذاك المستقبل، وتحديد أبعاده. وهنا مكمن الخطر،
لأن ديمومة الخطاب القرآني تقتضي مناسبته لكل العصور، لا الماضي منها حسب،
لا بل إن البعد الاستشرافي فيه، هو الذي يمده بصفة الديمومة تلك، لكون
الزمن لو وقف عند لحظة معينة لما كان زمناً، لأنه سينقطع بمجرد تلاشي تلك
اللحظة، لانتفاء تواليه، ومن ثم انتفاء التفاعل معه، الأمر الذي تسبب في
العزوف عن تقصي الخطاب القرآني في ضوء المقتربات الحديثة. وإذا كانت ثمة
قطيعة بينه وبين المقتربات النقدية الحديثة، فإن القطيعة هي من فعل ذاك
الانزواء الفكري، ليس إلا.
ولتخطي تلك القطيعة بينهما، لا بد من تسخير أحدهما في خدمة الآخر،
والأدعى أن يتم تسخير تلك المقتربات لخدمة الخطاب القرآني، لا العكس، فلا
نبحث عن بعض الإشارات المتفرقة لإثبات وجود علم من العلوم الحديثة فيه، بل
نستخدم معطيات ذاك العلم لغرض الوصول من خلالها إلى نظرية معينة، قد ضمنت
ثنايا هذا الخطاب المقدس.
وإذا كان القرآن معجزاً في حد ذاته، بوصفه معجزة الإسلام، فلا بد
لأية مقاربة تنحو إلى استحصال فهم صحيح لـهذه الرسالة، من الانشغال بهذا
الجانب دون سواه، إذ تتمثل خصوصيته في التمازج المتحقق في بودقته بين بعديه
الجمالي والتواصلي، فلا أهمية تذكر للإشارات الجمالية دونما انخراط شتاتها
عبر بؤرة دلالية واحدة. وليس ثمة أنجع من علم الإشارة في استجلاء ذاك
النظام، الذي من الممكن أن تندرج تحته كل أجزائه. وما أحوجنا إلى قيمة
موحدة تجمعنا، في خضم ضغوط عصرنا الراهن.
ولا مناص من الإشارة هنا، إلى التكامل الفكري الذي يحظى به هذا
العلم بوصفه يستثمر مقولات سواه، لتكون منطلقاً لـه، ولكن دونما أن يقف بها
عند الحدود الوصفية، وإنما يسعى دائباً للوصول إلى تخريج دلالي موحد يجمع
الشذرات المتفرقة لذاك الوصف.
وفي الخطاب القرآني بنى نصية كبرى، استحقت أن ننعتها بذلك، نظراً
للحضور الدلالي المكثف الكامن فيها، وكأنها تشف عن بنية نصها الأكبر ـ
الخطاب القرآني ـ، يمثل المثل إحداها، فثمة رباط حتمي لفن يجمعها بسياقها
الداخل ـ نصي. من هنا استمد المثل القرآني افتراقه عن المثل علمه، ولاسيما
الشعبي، الذي لا يحيل إلا إلى ما هو خارج ـ نصي. لذلك نكون غير ملزمين
بتتبع خصائص الأخير ـ بذريعة أن المثل مدار الرصد قد خرج من تحت ظلته ـ
باستثناء بعض الخصائص المشتركة التي ترتبط بالأصول الأجناسية للمثل، ولكن
مع مراعاة التلاقح المتحقق في بنيته بين المثل عامة، والخطاب القرآني خاصة،
ليذوب الأول في مصهر الثاني، ويستحيل بذلك إلى أداة من أدوات شتى، مسخرة
للوصول إلى النقطة ذاتها.
وإن الطابع الشمولي للمسار الذي ترسمناه للدراسة، كان ناجماً
بالدرجة الأساس، من تحديد مجال التقصي بالإشارات الجمالية، وهو ما اقتضى
بالضرورة، عدم الاقتصار على بنيات المثل، لأن الطابع الجمالي، يتطلب الكشف
عن مكمن الائتلاف بين بنيات المثل المتنوعة، على مدى الخطاب القرآني، التي
ما هي إلا تنوعات جزئية من خطاب موحد أكبر، تتماثل كل بناه ـ على اختلافها
ـ في إحالتها إلى الثيمة ذاتها.
وعلى حد علمنا إن الدراسات التي تناولت المثل القرآني بالتقصي
قبلاً، لم تنشغل بهذا الجانب قدر انشغالها بجوانب أخرى، وأهم تلك الدراسات:
ـ الصورة الفنية في المثل القرآني: لمحمد حسين الصغير: وقد اتخذت من
معايير البلاغة منطلقاً لـها، لـهذا صبت جل اهتمامها على المثل الصوري
تحديداً.
ـ الأمثال في القرآن الكريم: لمحمد جابر الفياض: وكانت رائدة في
إشارتها إلى ما يندرج ضمن الدراسات المقارنة، عبر مقارنة المثل القرآني مع
المثل في الكتب المقدسة الأخرى، وفي اللغات الأخرى.
وقد تصدى لتينك الدراستين دارسان متمكنان من أدواتهما، استطاعا أن
يصلا بهما إلى الهدف الذي اختطاه لـهما بدءاً. لـهذا فنحن بكلامنا السابق،
وباختيارنا المثل القرآني ميداناً لدراستنا، لا نبغي التقليل من أهميتهما،
وإنما أردنا ـ فقط ـ إيضاح اختلافنا معهما من حيث الهدف، الذي ترسمناه
لدراستنا هذه. وهو لا يمنع اتفاقنا معهما في بعض المنطلقات، التي كنا
نستشهد بها في حينه.
وقبل الولوج في الدراسة التطبيقية، كان لا بد أولاً، من إخضاع أركان
العنوان الثلاثة: (الإشارة) و(الجمالية) و(المثل القرآني) للتقصي، لغرض
استجلاء الرابط الحتمي بينها، قبل تحقيقه بين الوحدات المثلية كافة، وبينها
وبين الخطاب القرآني عامة، في الميدان التطبيقي من ثم، لكي يكون كفيلاً
للاضطلاع بمهمة كهذه. وإن استقصاء كهذا لتلك الأركان، جعلنا نخصص تمهيد
الدراسة لبيان مفهوماتها أولاً، ومن خلاله الكشف عن الرابط الجامع بينها.
وكل ذلك كان لـه أثره الفاعل في إيضاح النهج الذي ستختطه الدراسة.
وإذا كان المثل القرآني يستمد تشكله من مسربين رئيسين هما: الصورة
والحكاية، فلا بد إذن من وضع ذلك التنميط في الحسبان، قبل الشروع في أية
مقاربة، لأن آليات تقصي كل منهما تختلف عن الآخر. بيد أن ذلك لا يعني أن
تتم دراسة المثل بوصفه صورة أو حكاية، وإلا لاندرج ضمن سواه من الصور
والحكايات، التي يزخر بهما الخطاب القرآني، دونما أن تكون لـه خصوصية تذكر.
وكثيرة هي الدراسات التي تناولت المثل القرآني بوصفه صورة محض أو حكاية
محض، وشتان بين أن يعد كذلك وبين أن يعد مثلاً صورياً أو حكائياً، فهو إذن
مثل قرآني قبل أن يكون أي شيء آخر سواه.
فكان الأولى تقديم المثل الصوري. بوصفه يمثل الكثرة الكاثرة في
المثل القرآني. نظراً لاختلاف المنظورات التي تمّ النظر من خلالها إلى
تقنية (الصورة)، صار من اللازم علينا تبني مفهوم معين للصورة، كي لا يبقى
منظورنا لـها عائماً. وبما أننا لم نجد في التقسيمات المتداولة للصورة، ما
يغطي ذاك الحضور الثر للمثل التشبيهي، قياساً بندرة الاستعارات وسواها،
فكان لا بد من اجتراح تقسيم يميز التشبيه من سواه، فوجدنا أنه ينفرد فنياً
بحضور طرفيه سطحياً، لا كسواه من التشكلات الصورية، مما يميزه حتى عن
الاستعارة التي تقف معه في محور المشابهة، فاستثمرنا ذلك في تقسيمنا للفصل،
على أساس توفر الأواصر الزمنية، أو عدمه. فانقسم نتيجة لذلك إلى مبحثين
رئيسين هما:
ـ الأواصر الزمانية: وتتحقق مع التشبيه.
ـ الأواصر المكانية: وتتحقق مع غير التشبيه من تقنيات صورية تحقق
المشابهة لا على المستوى السطحي للنص.
أما التقسيمات الداخلية للمباحث فقد تحكم بها ميدان التطبيق ـ المثل
القرآني ـ بالدرجة الأساس أيضاً.
وعند انتقالنا إلى نمط مثلي مخالف هو المثل الحكائي، فقد اقتضى
التسلسل المنطقي منا تحقيق الربط بين فصلي الدراسة ـ الصوري والحكائي ـ كي
لا يبدوان متنافرين على الصعيد النظري أولاً، الذي سينعكس من ثم، على
الصعيد التطبيقي ثانياً. لذا كان لا بد لنا من إثبات عدم اقتصار الأدب
الصوري فقط على عنصر المماثلة، لأنه سمة عامة تشمل الأدب في جملته، ومن
ضمنه الحكائي.
أما مباحث الفصل، فقد وجدنا في التقسيم الثلاثي إلى: صيغة، وتبئير،
وزمن. ما يحقق تزامن المستويات الثلاثة للمثل الحكائي من: راو، ومروي،
ومروي لـه.
وارتأينا تقديم المبحث الخاص بالصيغة، للاكتفاء بما ورد في مدخل
الفصل من كلام عن الصيغة التي يلتزمها الجنس الحكائي عامة. فتم ذكر الصيغ
الحكائية الرئيسة، وقد وجدنا أن النصوص التطبيقية ألزمتنا باجتراح تقسيم
معين لـها.
أما في المبحث الثاني ـ التبئير ـ فقد تحققت انعطافة في ميدان
الدراسة، من خلال الانتقال من المروي إلى الراوي ورؤيته وصوته. وقد تطلب
ذلك تقصي كل الآراء التي قيلت في ذاك الباب، لغرض تبني واحد منها، من شأنه
أن يشملها جميعاً.
أما المبحث الثالث الخاص بالزمن، فقد تم تأخيره نتيجة لقناعتنا
التامة أن الزمن وحده الكفيل بتحقق المعنى، ودراسة بدون زمن، هي بالضرورة
بدون معنى. فوصلنا من خلال دراستنا لـه إلى نتيجة تنخرط عبرها كل تحليلاتنا
المثلية السابقة.
وبما أن الدراسة السيميائية لا تكتمل إلا عند وصولها إلى نقطة
المعنى، كان لزاماً علينا أن نفرد مبحثاً أخيراً لعرض تلك النتيجة الثيمية
المعنوية، لكي لا تبدو الدراسة مبتورة.
أما عن الصعوبات التي واجهتنا إبان رحلة البحث ـ على كثرتها ـ فإن
اكتمال الدراسة يغيبها جميعاً، ولا يبقي منها إلا أكثرها تأثيراً، وهو ندرة
المراجع التي تناولت الخطاب القرآني بحسب المقتربات الحديثة فقد طالت يد
التقدم العلمي كل شيء من حولنا، إلا الخطاب النقدي القرآني، وهو لأمر محزن
حقاً، أن يضيع الهدف الرئيس الموحد، المنشود من القرآن الكريم أصلاً، بين
تلك الدراسات المتفرقة.
عشتار 2003
التمهيد
أ ـ مدخل إلى الإشارة:
إن طابع التجريد الذي يتسم به (الأدب) بوصفه فناً، جعله يترفع عن
الانصياع تحت طائلة الرصد. فهو غير محدد القسمات، دائم التشكل، ذو طبيعة
هلامية، يكتب هويته المتجددة من سياقاته المتعددة. الأمر الذي يفضي بنا إلى
التشكيك في أدنى مسلماتنا إبان التعامل معه. عبر تساؤلات تقفز إلى باحة
الرصد.. من الممكن صياغتها بالشكل الآتي:
ـ من يؤول من؟! أنحن من يؤول النص؟ أم هو من يؤولنا؟! أو بعبارة
أخرى: هل يمثل النص قراءة من قبل المنشئ لسياق ثقافي معين؟ أم أنه قراءة من
قبل القارئ لنص أحكم إغلاقه؟ أم أنه ـ أخيراً ـ قراءة من قبل النص نفسه،
لذوات القراءة بتعدديتهم، واختلاف مشاربهم؟
فإذا كان عدم انصياعه يرجح كونه نصاً محكم الإغلاق، فمن أين اكتسب
تعدديته القرائية، وانفتاحاته على فضاءات متجددة إذن؟ وإذا كانت وجوهه
الكثيرة والمتوالدة وترجح انفتاحه انفتاحاً أزلياً، فإن ذلك سيعني إدراكنا
سلفاً، بأن كل قراءة هي في حكم لاحقاتها كاذبة، فعلى ماذا تنعقد إذن؟ بل
ولماذا؟! وما التأويل. إذا لم يكن القبض على (المعنى)؟ ذاك المعنى الذي
كلما أحكمنا الإمساك به، أدركنا أنه محض سراب أسر، يجعلنا ننقاد وراءه في
مطاردة لم يحدد الطرف الرابح فيها أبداً. أهو النص الذي لم يلو عنانه أحد؟
أم (القارئ)، الذي يبدع نصوصاً متجددة وهو يتعامل مع أفكار سواه، عبر تآلفه
مع "النص والتجربة، لتغدو تجربته، بظلال يضفيها، بعد أن يبلغ ساحتها
انفعالاً وإحساساً( )؟
إذ لا مراء في القدرة التخديرية الهائلة، التي يسلطها النص على
أذهان قارئيه، من خلال إيهامهم بنشوة تأويلهم لـه. الأمر الذي يستدرج
القارئ إلى الالتذاذ بمعاودة القراءة.. وسرعان ما تتبدد تلك النشوة، لتنمو
أخرى بدلاً منها.. وهكذا دواليك. وبهذا تصبح القراءة ليست إلا تعديلاً
مستمراً لسابقاتها. وهو ما يجرنا إلى أبعد من ذلك، من خلال التساؤلات عن
ماهية الأدب، بل الفنون عامة، أو، بتعبير آخر: طبيعة مادتها، فليست ثمة
ضوابط معينة يمكن قولبتها على أساسها، كما هي الحال مع سواها، لأنها تسدّ
المنافذ عن التنبؤ ـ سلفاً ـ بالتمظهر الذي ستتخذه عند إخضاعها لتأثير
معين. الأمر الذي دعا النقاد إلى الانشغال بمادتها تلك، عن سواها، فهم على
اختلاف مقترباتهم، لا يخرجون عن السير نحو هدف معين في دراستهم لـها، هو
محاولة رسم صورة لمادة دراستهم تلك، دون أن يصلوا إلى نتيجة قارة.
وإذا كانت ثمة إجابة أولية نضعها نصب أعيننا هي: أن (اللغة) تمثل
المادة الخام للنصوص الأدبية بتشكلاتها المختلفة فـ "ليس الأدب إلا لغة، أي
أنه نظام من الإشارات"( ).
بيد أن هذه الإجابة فضلاً عن كونها بديهية، فإنها ليست نهائية،
لأنها تنفتح على تساؤلات أبعد غوراً( )، طالما إن (اللغة) ـ في حد ذاتها ـ
ما هي إلا "نظام من الإشارات
System Of
Signs التي تعبر عن الأفكار"( )، وبهذا فإننا لم نصل إلى مفهوم محدد
للغة، لأننا ـ ببساطة ـ لم نحدد مفهوم (الإشارات)، التي تتألف منها بعد.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى لمصطلح (الإشارة
Sign)،
فقد اكتنفه الكثير من الغموض والتشويش. وهو ما نعزوه إلى عدة أسباب، أهمها(
): ما علق به عبر أحقاب زمنية متباعدة، وتيارات فكرية متفاوتة من دلالات
عائمة، حتى وصف في أحد المعاجم بأنه "عصيّ جداً على التعريف، وخاصة أن
الاتجاهات الحديثة في علم اللغة تميل إلى اعتبار الإشارة مفهوماً عاماً،
يخرج عن كونه مجرد إشارة لفظية أو معنوية"( )، لأنها صارت تدل على ما تحيل
إليه الموجودات، فهي شيء يخبر بشيء آخر، أو يعرف به ويحل محله( ).
ومن خلال هذا المفهوم لـها تكتسب (الإشارة) سمتي التحديد والانفتاح،
اعتمادا على زاوية النظر التي تحيل إليها، أتنتهي عندها عملية التدليل؟ أم
أنها ستحيل إلى إشارة جديدة؟ من هنا جاء اختلاف وجهات النظر حول مصطلح
(الإشارة)، وانسرابه عبر اتجاهين رئيسين.
بيد أنها انعقدت ـ على الرغم من ذلك ـ حول الاقتران الجدلي بين
ركنيها: (الدال) و(المدلول). إذ من المحال أن نفكر في أحدهما دون الآخر.
فوجود الدال بدون المدلول، هو عبارة عن الشيء بمفرده، إذ في هذه الحالة
يكون للشيء صفة الوجود فقط، فلا يدل ولا يعني أمرا زائدا عن هذا الحد.
وبالمثل فإن المدلول بدون وجود الدال. لا يمكن وصفه، ولا التفكير فيه، أنه
عدم محض"( ).
واختزالاً نقول: إن وجهات النظر تجاه مصطلح (الإشارة)، لم تسلك
مسلكاً واحداً، في طريقة تناولها لركنيها ـ الدال والمدلول ـ فقد انشطرت
إلى اتجاهي علم الإشارة الرئيسين: الأول: لا يقصرها على ركنيها المحايثين
حسب، وإنما يتعداهما إلى ركن يتموضع خارجاً هو (الموضوع)، ويتمثل بالاتجاه
السيموطيقي لبيرس. أما الثاني: فينحو منحى محايثاً، من خلال قصره الإشارة
على (الدال) و(المدلول) حسب، ويتمثل في الاتجاه السيميولوجي لسوسير.
وقد تمخض ظهور هذين الاتجاهين، في باكورة القرن المنصرم، عن ولادة
تيارات متشعبة، كانت تتجاذب حيناً وتتضارب أحياناً أخرى، بسبب اختلاف
الإرهاصات النظرية المؤسسة لكل منها. بيد أنها ـ في أيّ حال من الأحوال ـ
لا تنفك تدور في فلك اتجاهي ثلاثية الإشارة أو ثنائيتها.
وإذا كانت التيارات الحديثة، قد خرجت من تحت ظلة هذين الاتجاهين
المؤسسين، صار لزاماً علينا تقويم تعريف بهما، عبر آراء كل من رائديهما:
بيرس أولاً، وسوسير ثانياً:
إذ إن الإشارة بحسب بيرس: "هي نمط خاص للتركيب يتم انطلاقاً منه
تنظيم الواقع وفق وجود أقسام من التمثيلات العلامية التي تغطي مناطق من
العيش والمحسوس والمتخيل"( ).
وبإمكاننا القول: إن بيرس ـ وهو يحدد الإشارة على هذه الشاكلة ـ قد
وضع ثالوث التواصل الإشاري، فالمعيش/ الماثول يحيل إلى المحسوس/ الموضوع،
الذي يفسر على وفق المتخيل/ المؤول، ليكون "(الماثول) هو الأداة التي
نستعملها في التمثيل لشيء آخر، يطلق عليه (...) (الموضوع)، وفق ظروف خاصة
في الإحالة، يوفرها (المؤول)"( ).
ولكي يغدو عرضنا منطقياً لا مناص من إيضاح هذه الأركان تباعياً،
انطلاقاً من الماثول مروراً بالموضوع وانتهاء بالمؤول. ولكن ليس قبل
التنويه بأن هذا التقسيم الثلاثي هو ليس إلا تقسيماً داخلياً للإشارة، إذ
إن (بيرس) نفسه يؤكد "أن علامات( ) الممثل، والموضوع، والماثول، تخرج من
كونها تشكل علامات، إذا أخذت مستقلة عن بعضها (..). فالالتحام بين هذه
العلامات الثلاثية، هو الذي يشكل العلامة"( ). لـهذا لم يكن تواجد الممثل
أو الماثول تواجداً نهائياً، لأنه رهين بتواجدين آخرين، الأمر الذي جعله
موازياً عند بيرس للإشارة في حد ذاتها، بوصفها بديلاً، فكل منها "شيء ينوب
بالنسبة لشخص ما عن شيء معين بموجب علاقة ما (......) أي يخلق في ذهن هذا
الشخص علامة معادلة"( ) وبهذا فإن الماثول هو الفعل الأول للإشارة قبل أن
ترتبط بشيء أو شخص ما، فهو الإشارة بوصفها حدثاً أولياً، ذا طابع استقلالي،
إنه إذن "الصورة الصوتية، أو الصورة المرئية ـ إذا كان الأمر يتعلق بكلمة
معينة ـ ولأنه أول، فهو عماد (...) الدليل بما هو دليل بغض النظر عن علاقته
مع موضوع"( ).
أما فيما يخص (الموضوع) فإن فهم الإشارة يتوقف على فهم موضوعها
بوصفها تجلياً لـه( )، فهو ـ إذن ـ يكتسب أهميته مما يسبغه على الإشارة من
طابع منطقي لأن، ربط الإشارة بموضوعها يبرر وجودها، بوصفه "المعرفة
المفترضة التي تسمح لنا بالإتيان بمعلومات إضافية تخصه"( ) فهو ـ إذن ـ
أرحب من الإشارة نفسها، لـهذا لم يكن ثمة مسلك مباشر للوصول إليه، وإنما
مسالك متعددة، تفضي إلى موضوعات كثر، على الرغم من ثبات الإشارة، لأن
التمثيل الإشاري "بحكم الطبيعة الخاصة للممارسة الإنسانية، قاصر عن استيعاب
مجموع ما يوفره الموضوع ضمن دائرة تمثيلية واحدة، نتيجة لما يسميه بيرس بـ
(قصور العلامة)"( ).
إن موضوع الإشارة إذن هو ليس شيئاً مادياً ملموساً، إنه حصيلة
تداعيات نتائجها العملية، لأننا "لا نستطيع أبداً معرفة الشيء في ذاته،
إننا نعرف فقط العلامة التي هي دليل عليه (...) ذلك أن موضوع العلامة لا
يمكن أن يكون موضوعاً لنفسه، إنها علامة لموضوعها، من خلال بعض مظاهره( ).
وبهذا فإن كل شيء يصبح ـ لدى بيرس ـ موضوعاً لإشارة، حتى الذات
الإنسانية، بوصفها مشكلة قبلاً( ). لأن الإشارة لا تكتسب تحققها لديه، إلا
عبر ربطها بإشارة أخرى، الأمر الذي يفضي إلى سلسلة لا متناهية من الإشارات،
وهو ـ بالضبط ـ ما دعا بينفنسنت ـ فيما بعد ـ إلى التساؤل: إذا كانت
"العلامات، في نهاية الأمر، لا تحيل إلى شيء سوى علامات أخرى، فكيف يمكن أن
نخرج عن نطاق عالم العلامات المغلق نفسه؟ هل نستطيع ـ في نظام بيرس
(......) ـ أن نجد نقطة خارج هذا السياج نرسي فيها علاقة تربط بين العلامة،
وشيء آخر غير نفسها"( )؟
من خلال ما سلف بإمكاننا أن نستشف أن تحقق موضوع الإشارة لدى بيرس،
مرتهن في تواجده بتواجد آخر هو (المؤول)، فما دمنا مضطرين "من أجل تحديد
موضوع علامة، على استحضار علامة أخرى، فإن الموضوع لا يشكل حداً نهائياً
لمتوالية إبلاغية ما. إن ما يمكن أن يحدد هوية العلامة (......) هو
المؤول"( ).
إن (المؤول) ـ باختصار ـ هو عملية "التوسط بين الممثل والموضوع، إنه
لمدلول الخاص للدليل والحصيلة أو الأثر"( ). ويمثل المؤولّ البعد التداولي
أو القانوني في العلامة. إذ إن النتيجة التي يتمكن (المؤول) من الوصول
إليها يجب أن تعمم.
فبيرس بوصفه مؤسس الاتجاه الذرائعي في الفلسفة، يرى أن ما هو ناجح
في هذه اللحظة، ناجح في كل الأزمنة والأمكنة، من خلال نظرة أكثر شمولية
للجانب العملي الذي يحققه، وهو ما لا يتحقق إلا عبر ما يوفره المؤول من
إمكانات تنفتح على فضاءات متجددة، وليست حبيسة لحظة معينة، بقدر ما يستمر
هذا النجاح في الواقع، الأمر الذي يمنح الذات فرصة للانعتاق "من ربقة كل
الإرغامات التي يفرضها الزمان والمكان، عبر الامتلاك الرمزي للكون"( ).
وبموجب ذلك تكتسب الحقيقة حتميتها ووثوقيتها بعد تحققها، بوصفها
تمثل "ما تسفر عنه نتائج أفكارنا في المستقبل، وهي نتائج ذات طابع عملي،
لأن النتائج لا تنشأ إلا من خلال العمل"( ).
ومن هذا المنطلق بالضبط، اكتسبت (الذرائعية) تسميتها، إذ إن الأفكار
تصبح ناجحة عملياً، في الربط بين أجزاء تجاربنا ربطاً متساوقاً، لتكون بذلك
نظرية في الصدق القائم على الخبرة التي تتحقق واقعياً. فهي إذن لا تقوم على
الفروضات التي تجعل الذات على مسافة من الواقع، وإنما على قيمتها المعنوية
عبر صيرورتها، التي تكون معياراً لنجاحها وصدقها، فتؤكد "إن ما هو كائن
يتوقف ـ إلى حد غير قليل ـ على ما ينبغي أن يكون"( ). وهذا ما يوصلنا إلى
أهم ما دعت إليه الذرائعية، وهو (الاعتقاد). فهي بنبذها النظرة المطلقة إلى
الحقيقة، أضفت عليها أهمية أكبر، من خلال نظرتها العملية إليها، إذ إن
"الاعتقاد في صحة الفكرة، (هو) التعود على ممارسة السلوك أو الفعل الذي
يترجم للمعنى، إذ يستطيع الإنسان ـ بناء على صحة اعتقاده في معنى معين ـ أن
يمارس ما تعوده من أنواع الأفعال المختلفة، كلما عرض لـه هذا المعنى"( ).
وبهذا تكون الذرائعية قد أحدثت انقلاباً جذرياً في طريقة النظر إلى
(المعنى)، فقد صار من المسلم لديها أن معنى "الكلمة أو العبارة هو الذي
يوجه الإنسان أو يرشده إلى نوع من السلوك أو الفعل"( ). وبما أن المعنى غدا
متخذاً طابعاً تجريبياً، عملياً فإن ذلك يؤكد أن الذات الحرة، المنفصلة عن
الواقع، هي ليست إلا أكذوبة. وهنا تكمن مهاجمة بيرس لآراء ديكارت "فالذات
نص شأنها شأن العالم. ولذلك فإن فكرة ذات لا متشكلة ومستقلة، هي فكرة
يكتنفها الإشكال تماماً (...) مثلما يكتنف الإشكال العالم اللامتشكل
والمستقل"( ).
قدمت الذرائعية حلولاً منطقية لإشكالات طالما نأت عن المعالجة
الموضوعية، فهي برصدها للذات ولردود أفعالها، قد تمكنت من إيضاح كثير من
الأفكار الغامضة، التي ليس من الممكن رصدها بذاتها، دون الرجوع إلى آثارها
الحسية على الصعيد العملي، وبذلك قدمت خدمة جليلة للمعتقدات الميتافيزيقية،
التي كانت آيلة للسقوط بعد فشل الفلسفة المثالية في مواكبة متطلبات العصر،
ولاسيما بعد هيمنة الفلسفات التجريبية والتحليلية "فإننا نلاحظ اليوم أن
معظم الفلاسفة المعاصرين لم يعودوا يقنعون بتفسير (الوجود) عن طريق مبدأ
ميتافيزيقي (واحد)، (......) بل هم أصبحوا يلتجئون إلى مبادئ متعددة،
محطمين بذلك شتى الإطارات الميتافيزيقية( ) فجاءت الفلسفة البراجماتية ـ
الذرائعية ـ لتحافظ على القيم الميتافيزيقية، من خلال النظر إليها نظرة
عملية، فما دام الإيمان بفكرة يقاس، على أساس نتائجها على وفق هذا الاتجاه
الفلسفي، فإن الإيمان بالله مثلاً، يقاس بما يحققه من آثار على حياة
المؤمن، فهو إذن يتمثل بـ "شعور بالانسجام الباطن العميق؛ شعور بالسلام
والراحة والاغتباط، شعور بأن كل شيء يسير على ما يرام في داخلنا وفي العالم
الخارجي أيضاً. وإذا كان من أخص خصائص الشعور الديني، أنه يشعرنا بأن
الحياة خلاقة مبدعة، فذلك لأنه ينطوي على الإحساس بمشاركة قدرة أعظم من
قدرتنا، والرغبة في تحقيق التعاون مع تلك القدرة في تحقيق أعمال المحبة
والتوافق والسلام"( ).
بيد أن اهتمام الذرائعية بمسألة الإيمان كان في درج اهتمامها بكل
معتقداتنا ذات السلطة. وهنا تكمن الخدمة الثانية التي قدمتها الذرائعية
للمعتقدات الميتافيزيقية، من خلال عدم إنكارها مبدأ (السلطة)، إذ إنها لم
تتعال عن مشاكل وهموم الإنسان، فكانت بذلك فلسفة قيمية عامة، من خلال
إعطائها القيمة "سلطة في توجيه السلوك"( ).
لا مناص من الانتقال الآن إلى فرناند دي سوسير، مؤسس الاتجاه
السيميولوجي في هذا العلم. فقد لاقت آراؤه حول الإشارة ذيوعاً واسعاً في
الأوساط النقدية، نظراً لاقتصارها على الإشارة اللسانية حسب، فهي لديه
"تربط بين الفكرة والصورة الصوتية، وليس بين الشيء والتسمية. ولا يقصد
بالصورة الصوتية، الناحية الفيزياوية للصوت، بل الصورة السيكولوجية للصوت،
أي الانطباع أو الأثر الذي تتركه في الحواس"( ).
إن وضع تحديد سوسير هذا للإشارة قيد الرصد، يحيلنا إلى أنه آثر قصر
الإشارة على ركنيها المحايثين قسراً وهما: (الدال) و(المدلول)، ويكون ـ
بذلك ـ قد أغفل (الموضوع) الذي كان قد أولاه بيرس حيزاً كبيراً من اهتمامه.
ونتساءل هنا: إذا لم يكن موضوع الإشارة هو ما يجمع بين الدال والمدلول، فما
الذي يجمع بينهما إذن؟
ليس من شك في أن عزل الإشارة عن موضوعها، يجعل من العلاقة بين الدال
والمدلول اعتباطية غير معللة( )، وقد استلهم سوسير رأيه هذا من استكناه
بديهيات، طالما نأت عن ساحة الرصد، نظراً لشدة تعارفها، أهمها: سمتا الآنية
والزمنية، اللتان تتسم بهما اللغة، أية لغة، إذ من خلالها تم التمييز بين
نظام اللغة والكلام. أما (الآنية) فتعني: الاستقلال النسبي للغة داخل
المجتمع الواحد، وضمن حقبة زمنية معينة، فلو كانت اللغة تبريرية معللة،
لتعددت بتعدد وجهات نظر مستخدميها، إذ "إن الطبيعة الاعتباطية للإشارة، هي
في الحقيقة العامل الذي يقي اللغة من أية محاولة لتغييرها"( ). أما ذاك
التغيير الذي يبدو ظاهراً، بتغير المتكلمين بها، فهو تغير كلامي لا لغوي.
أما (الزمنية) فتعني: اختلاف الكلمة ذات المدلول الواحد من لغة إلى
أخرى. فهي لو كانت ترتبط سببياً بمدلولها، لما اختلفت باختلاف المكان
أولاً، والزمان ثانياً( ).
وعلى الرغم من اتسام اللغة بالثبوت والتغير، أو بالآنية والزمانية
في الآن ذاته، فإن الفصل بينهما "في نطاق الدراسة اللغوية ضرورة منهجية
ونظرية، في آن واحد، ذلك أن المفهوم الواحد يختلف معناه وقيمته حسب تناولنا
لـه، تناولاً زمانياً تطورياً"( ). ولكن ليس قبل أن نسلم أن هذا الفصل ما
هو إلا فصل شكلي، يقتضيه التحليل حسب. لا بل إن كل الثنائيات التي تولدت عن
نظرية سوسير هذه من: (دار/ مدلول)، (آنية/ زمانية)، (لغة/ كلام)، (شكل/
مادة)، ليس ثمة عزل تام بين قطبيها، لأنها "متشابكة متفاعلة متضامنة"( )،
وفضلاً عن ذلك فإن هذا التفريع أتاح لسوسير الفرصة لتغطية كل من هذه
الأقطاب تغطية شاملة، الأمر الذي حدا به إلى المفاضلة بين قطبي الزوج الأول
منهما، من خلال تقديمه الآنية (التزامنية) على الزمانية، ما دامت اللغة في
نظره نظاماً من الإشارات، فهي ـ إذن ـ "ليست طبيعية بل (...) مؤسسة
اجتماعية تواضعية، لا يخضع نظامها إلى معطيات خارجة عنها"( ).
لقد لاحظ سوسير "أن اللغة كتلة مختلفة من الحقائق متباينة المصادر،
وأن الطريق الوحيد لجعلها شيئاً معقولاً، هو فرض شيء يسمى النظام اللغوي،
وطرح أي شيء آخر جانباً"( ). فإن اللغة لديه تكتسب منطقيتها لا عن طريق
العلاقة بين الدال والمدلول، ولكن عن طريق العلاقة داخل النظام الواحد بين
دال ودال آخر، أو بين مدلول ومدلول آخر، "فالفكرة أو المادة الصوتية التي
تحتوي عليها الإشارة أقل أهمية من الإشارات الأخرى المحيطة بهذه الإشارات
والدليل على ذلك قيمة أي عنصر مجاور"( ).
وقد كانت لآرائه هذه أهمية قصوى، بوصفها تشكل إحدى الإرهاصات
المؤسسة للمنهج البنيوي، عبر الاهتمام بالعلاقات المحايثة. فإن الأفكار
تكتسب كينونتها لديه، بعد تشكيلها تشكيلاً لغوياً، إذ "لو كانت الكلمات
تمثل أفكاراً حول وجودها سلفاً، لكانت جميعاً تعبر عن معان واحدة في اللغات
المختلفة"( )، وبهذا يكون شكل اللغة لديه أسبق من فكرها، ومن هنا اكتسبت
العلامات أهميتها، بوصفها تمييزاً بين الأفكار المختلفة، "فلولا اللغة
لأصبحت الفكرة شيئاً مبهماً، غير واضح المعالم. إذن لا توجد أفكار (..)،
ولا تتميز (..) قبل ظهور اللغة"( ). وهذا الترجيح لشكل اللغة على مادتها
جعله يتكلم على قيمتها اللغوية ويميز تلك القيمة بفكرة معينة: أي أن لـها
هذه الدلالة أو تلك: بل ينبغي مقارنتها بقيم متشابهة، أي بكلمات أخرى
تتقابل معها. فمحتوى الكلمة يقع خارجها. ولما كانت الكلمة جزءاً من النظام،
فهي لا تملك الدلالة حسب، بل لـها أيضاً قيمة، فالقيمة والدلالة شيئان
مختلفان"( ). وبتعبير آخر: إذا كانت الدلالة تتحدد بنظام العناصر المتقاطعة
مع بعض فإن قيمة كل منها لا تتحدد إلا من خلال اختلافها عن سواها إذن،
"فإذا قلت إن كلمة ما تدل على شيء ما، حين أقصد بذلك الارتباط بين الصورة
الصوتية والفكرية، فإنما أعبر عن قول قد يوحي بما حدث فعلاً، ولكنني لا
أعبر عن الحقيقة اللغوية في جوهرها، تعبيراً كاملاً"( )، ما دمت قد عزلتها
عن بقية الكلمات، إذ إنها تستمد قيمتها من تميزها عن العناصر الأخرى
المشابهة، لـهذا ذهب سوسير إلى اقتصار اللغة على "الفروق أي العناصر
السلبية، دون العناصر الإيجابية. وسواء أخذنا المدلول أو الدال فإن اللغة
لا تملك أفكاراً، ولا أصواتاً لـها وجود قبل النظام، وكل ما تملكه هو
الفروق الفكرية والصوتية التي نبعت من النظام"( ) ذاته.
نستشف من ذلك أنه ليست ثمة إشارة مستقلة بذاتها، لأنها تكتسب
خصوصيتها، بل إشاريتها، من اندراجها ضمن نظام لغوي، من خلال ما تقيمه من
علاقات داخله، "فحيثما كانت هناك علامات كان هناك نظام، وهذا ما تشترك فيه
ألوان النشاط الدالة المختلفة. وإذا كان على المرء أن يحدد طبيعتها
الجوهرية، فقد وجب عليه أن لا يتناولها فرادى، بل بوصفها أمثلة للنظم
السيميوطيقية. وبهذه الطريقة تعود الجوانب التي غالباً ما كانت مختفية أو
مهملة فتصير واضحة"( ) عبر إجراء عملية رصد للعناصر، بحسب أنظمتها التي
تنتمي إليها، والقواعد التي تحكم هذا النظام. فإن السيميولوجيا تصب جل
اهتمامها على رصد (قوانين المعايشة)، التي تبحث في كيفية ترتيب الأشياء على
شاكلة معينة لا أسباب تواجدها( ).
وعود على بدء فإن الطبيعة التزامنية للغة هي من يشكل النظام، تلك
الطبيعة التي تتمظهر عبر علاقات الحضور والغياب، أو المجاورة والاستبدال.
وتتمثل عبر تراص الكلمة مع جاراتها تراصاً معيناً أولاً، فلكل "كلمة علاقة
أفقية مستقيمة مع الكلمات التي تسبقها وتعقبها. إن جزءاً كبيراً من قدرتها
على إفادة المعاني المختلفة ينبع من هذا النموذج الترتيبي"( )، أما الجزء
الآخر من هذه القدرة فيتحدد عبر اختيار كلمة، وغياب كل البدائل الممكنة
الأخرى، إذ "إن غياب عناصر معينة يخلق ـ إلى حد ما ـ معاني الكلمات
الحاضرة، وبالتأكيد يغربلها ويصفيها"( ).
نستجلي من هذا الاهتمام الكبير بالنظام من قبل سوسير، أنه يرجح في
دراسته نظام اللغة باجتماعيته على الكلام بفرديته، فإذا كانت (اللغة) هي
الكلام في قيد التأجيل، بوصفها تمثل كل القوانين التي يحتكم إليها الكلام
إبان تحققه، فإن (الكلام) إذن هو اللغة في قيد التنفيذ، بوصفه يمثل جانبه
الفعلي الفردي. وهو ما نلحظه جلياً في تحديد سوسير للغة بقوله عنها: "هي
ظاهرة اللسان مطروحاً منها الكلام. فهي المجموع الكلي للعادات اللغوية التي
تساعد الفرد على أن يفهم غيره ويفهمه غيره( ).( ). فهي إذن العرف الذي تنهل
منه جماعة لغوية معينة. على العكس من الكلام، الذي يمثل التحقق الفردي
لـها. لذلك كان على الإنسان لكي يفهم التجربة الفردية، أن يدرس أولاً
"المعايير الاجتماعية التي تجعل من هذه التجربة ممكنة"( ).
وأخيراً نقول: إن مدار اهتمام سوسير الأنظمة العرفية من لغة وما
شاكلها، غافلاً عن تشكلاتها. بهذا نكون قد وصلنا إلى تفسير تحديد سوسير
لـهذا العلم في معرض تقديمه لـه، حين وصفه بقوله عنه: يمكننا أن نتصور
علماً موضوعه دراسة حياة الإشارات في المجتمع، مثل هذا العلم، يكون جزءاً
من علم النفس الاجتماعي، وهو بدوره جزء من علم النفس العام، وسأطلق عليه
علم الإشارات
Semiology
(......)، ويوضح علم الإشارات ماهية مقومات الإشارات، وماهية القواعد التي
تتحكم فيها"( ).
وعود على آراء بيرس يجعلنا نرى أن ماهية هذا العلم لم تختلف لدى كل
من مؤسسيه، إذ "وقع الاتفاق بين العالمين في تحديد مهمة هذا العلم الجديد
المناطة به، بأنها وصف تلك الأعراف القائمة وراء أكثر أشكال السلوك
والتمثيل الفا لدى الناس"( ).
إذ إن (علم الإشارة) يسعى دائباً إلى وضع قانون تقريبي للأفعال
الإنسانية، لـهذا لم يكن حكراً على الألسنية وحدها بل إنه يولي الحقول
المعرفية الأخرى اهتماماً، "فإذا قلنا إن المعاني التي يضفيها أبناء حضارة
ما على الأشياء أو الأفعال ليست عشوائية صرفاً، فعندئذ لا بد أن يكون هناك
نظام سيموطيقي للفروق والمقولات وقواعد الترابط"( ).
فالتواشج الحتمي بين السيميائية والألسنية ليس محكوماً بالإشارات
اللسانية حسب، بل إن للإشارات غير اللسانية نصيباً وافراً فيه أيضاً، لـهذا
صار علم الإشارة هو العلم الذي يدرس الأنساق الإشارية على اختلاف تشكلاتها،
سواء أكانت لسانية أم غير لسانية، جمالية أم غير جمالية. وإذا اتسم علم
الإشارة بسعة تجواب مقتضياته المرجعية فإنه عندما يدخل ساحة النقد الأدبي
سيقتصر على الإشارات اللسانية والجمالية تحديداً، ليستحيل إلى منهج نقدي من
بين مناهج شتى، بيد أنه يبقى يدين في صيرورته، وتمظهره لعلم الإشارة الذي
يمده بكل منطلقاته، وهو ما عبر عنه أحد النقاد بالقول: فنحن إذاً "ما
طلبناه كعلم وجدناه يحوي الألسنية ويتبناها، ولكننا إذا ما استعنا به كمنهج
نقدي وجدناه ينحسر على نفسه شيئاً فشيئاً، ليكون أخيراً واحداً من مناهج
الأدب التي تتركز على الألسنية، وكأنه هنا لا يحتويها لكنها تحتويه. وهذه
جدلية إيجابية بين العلمين تؤدي إلى تأكيد كل واحد منهما وغرسه في الآخر،
وليس إلى إلغائه بعيداً"( ).
ب ـ الإشارة الجمالية:
إذا كان المسار البنيوي ارتأى لنفسه اتخاذ التوظيف المحايث للبنيات
اتجاهاً لـه، عبر رصد التعالق الحاصل في بناء تتزامن فيه الكينونات
الجزئية، محققة نظاماً في غاية الانسجام. فإن ذلك في أي حال من الأحوال، لن
يند عما يوفره هذا البناء المتكامل، من قيمة تواصلية عليا، فالنص ـ بحسب
هذا المفهوم ـ ما هو إلا "مجموعة من العمليات السيمولوجية التي تأخذ أثناء
جريانها في إنتاج معناها"( ).
والأدب ـ بوصفه فناً ـ لـه خصوصيته التي تميزه من سواه من أفعال
التواصل عامة، واللساني منها خاصة في بناء معناه. إذ إنه يؤدي إلى قلق
تواصلي دائم، لكونه يمثل بنية الانزياح المستمر، التي تنبذ الركون إلى
جاهزية المعنى وقيمته التواصلية الدنيا. وهذا ما يجعل من الطريق المفضية
إلى ذلك المعنى غير معبدة، على الرغم من كون إجراءات المقترب السيميائي لا
بد من أن تصب أخيراً في بودّقة (المعنى).
تنحو السيميوطيقا البنيوية إلى تقصي النظام الذي يحكم بناء النص،
عبر ثلاث مسلمات رئيسة هي( ):
1 ـ مراعاة انغلاق العالم الألسني.
2 ـ تمحور كل بنى النص حول بؤرة معينة.
3 ـ ثمة مستويان قرائيان للنص هما: (التجلي) و(الكمون).
أما بشأن المسلمة الأولى ـ انغلاق العالم الألسني ـ:
فإن النص يصبح بموجبها خالقاً لواقعه، وليس واقعه هو الخالق لـه. إذ
إن اللغة تحدد الكيفية التي بها ندرك الواقع ونتصوره، ومن ثم نستنتج، إن
جاز القول، إن اللغة تحدث وتبدع الصورة التي تكون لنا عن العالم"( ). ومع
هذا التسليم، لا بد لنا من التساؤل عن كيفية التعامل مع الطابع المرجعي،
اللصيق بكل خطاب أدبي، نظراً لما للأدب من كينونة اجتماعية!
إن المعرفة الإنسانية، لا يمكن أن تكون "مجرد فكر بلا زمان ولا
مكان، وبلا مجتمع وبلا حضارة، إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به
جيل، ويخدم مجتمعاً.. ويعبر عن حضارة"( ). وإن وجود حضارة في مجتمع ما
يقتضي ـ بالضرورة ـ وجود نظام من الأعراف، وإن فهم هذه الحضارة يتطلب ـ من
ثم ـ بناء نظام الأعراف هذا من جديد( ). ولا يمكن استشفاف ذلك إلا من خلال
ما يسمى بمحتوى الشكل، الذي يسعى إلى دراسة "النص أو العمل الفني، ليس كعمل
متأثر بالمجتمع، وإنما بوصفه عملاً اجتماعياً، ظاهرة اجتماعية بذاتها، تكمن
اجتماعيتها في داخلها، وليست مفروضة عليها من الخارج (.....)، فليس ثمة شكل
ومضمون لأن المضمون هو مضمون الشكل، وليس ثمة داخل وخارج، لأن الخارج كامن
في الداخل"( ).
وهنا ـ بالضبط ـ يكمن مدار اهتمام أية دراسة ذات طابع جمالي، لكونها
تنطلق من بديهية كون الفن يعرض الحقيقة "بشكل جَديد، ومهمة علم الجمال أن
يكشف لنا كيف تم هذا العرض للحقيقة"( ). بطريقة معينة دون سواها. ولا مراء
في أن هذا المبدأ، هو من المبادئ الرئيسة في اللسانيات الحديثة عامة
والسيميائية الأدبية خاصة، "فسؤال الجمالية (...) أصبح مطروحاً للبحث في
موقعه وموضوعه الأهم، أي داخل حقل (الشعرية)، كما بلورها النقد الألسني
الحديث"( ).
فإن القيمة الجمالية للعمل الفني، لا فيما يقوله في حد ذاته، إذ من
الممكن صياغته بطرائق غير فنية أيضاً، ولكن في طريقة القول، فهو إذن "يستمد
دلالته من وجوده، لا من حقيقة قبلية أو من معنى سابق عليه. ووجوده يتلخص في
تأثيره، وهو يستمد حياته ومعناه من هذا التأثير، ومن استجابة الناس لـه"(
).
فمعنى العمل الفني إذن يكمن في الشكل، لا في أي مكان خارجه، لذلك
كان الفن بحسب لانجر رمزاً "له معنى، وهذا الرمز يبدو من خلال الصورة
(......)، فالصورة الفنية تتمثل (في الطريقة التي تفرض علينا نوعاً من
الانتباه للمعنى الذي تفرضه، وهي الطريقة التي تجعلنا نتفاعل مع هذا المعنى
ونتأثر به)"( ).
فالنص إذاً ـ بوصفه حدثاً فنياً ـ هو الذي يشكل نظامه، وليس النظام
هو الذي يشكله، فيبني بذلك تاريخاً متحكماً في التاريخ الخطي، نظراً لعدم
القدرة على اختزاله دلالياً إلى معنى أحادي( ). وهنا تكمن الإشكالية: إذ
كيف للنص أن يبني نظامه إذا كان هو ـ في حد ذاته ـ مفارقاً لنظام ما؟! فثمة
اتفاق نقدي على انحراف الأسلوب الأدبي عن معيار قاعدي معين، محققاً ما يدعى
بتقنية (الانزياح ـ
Deviation)،
بيد أن عقد هذا الاتفاق قد انفرط عند محاولة النقاد تحديد ماهية هذا
المعيار( ). أكثر الآراء التي قيلت ـ في ذلك ـ اعتدالاً، هي تلك التي ذهبت
إلى اعتماد سياق النص ذاته، ليكون نظاماً أو معياراً لقياس انزياحه. إذ إنه
بحسب هذا الرأي "نموذج مقطوع بواسطة عنصر غير متوقع، والتناقض الناتج عن
هذا التداخل، هو المنبه الأسلوبي"( ). وهنا يكمن حل الإشكالية، إذ يغدو
النص عندها هو النظام وخرقه في آن معاً.
بيد أن ذلك لا يمنع من وجود موجهات ميتا ـ لغوية، من الممكن
استثمارها في وصل الانقطاع الحاصل جراء الانزياح الأسلوبي، الأمر الذي دعا
إلى اجتراح مصطلح ( المفارقة
Irony )، الذي راح ينافس ( الإنزياح) عبر مساره الذي بدأ يستقل عنه شيئاً
فشيئاً، بعد أن كان يمثل أحد تشكلاته، ليكوّن لـه خطاً مستقلاً، يقترن
عادة، بمفارقته عن المعنى المشترك الناجم عن تعاقد ما بين أصحاب الاتصال.
إذ يظل المرسل في المفارقة "على ثقة من أن المرسل إليه عنده معلومات كافية،
تجعله لا يمكن لـه أن يصدق القول حرفياً"( ).
وهذا التعديل الإجرائي في الدراسات النقدية المعاصرة، لم يتحقق لولا
مراعاة مقولات (التداولية). إذ إن التداولية ـ وحدها ـ بإمكانها رتق الصدع
الحاصل في سياق الكلام، لأن الإشارة بموجبها "تعيش من خلال الاستعمال"( )،
ولا يتحقق الاستعمال ما لم يتحقق التواصل المنشود بين المرسل والمتلقي. وهو
ما كان لـه أثره الفاعل في تحويل مجرى المقاربات الأدبية المعاصرة، فبدلاً
مما كانت تعانيه من إيغالها في الانغلاق، راحت تنفتح على أبعاد تواصلية،
تتمثل في تقصي نظام التواصل الحاصل بين المرسل والمتلقي. الأمر الذي دعا
إلى ظهور السيميائية منهجاً نقدياً، وبهذا تعد التداولية ضرورة حتمية من
ضرورات السيميائية، إذا لم تكن وجهها الآخر. فكل من الطرفين ـ التداولية
والسيميائية ـ عنده ما يمكن أن يفيد به الطرف الآخر، بمعنى أن المقام يقتضي
أن يشتغلا معاً. ممّا يفرض في أحسن الأحوال وجود قاسم مشترك بينهما، هو
اتفاقهما معاً على الإشكالية نفسها"( ).
إذ إن عمل متلقي النص ـ القارئ ـ هو ذاته عمل متلقي الكلام إذا ما
اعترضه أدنى خرق، من خلال اعتماده ـ لأجل تفكيك سننه ـ على اقتضاءات
الكلام، التي تقدم "تفسيراً صريحاً لمقدرة المتكلم على أن يعني أكثر مما
يقول، أي أكثر مما يعبر عنه المعنى الحقيقي للألفاظ المستعملة"( ) ( ). وقد
انسحبت هذه البيديهية التداولية إلى السيميائية، لتحقق ـ بذلك ـ تجانس النص
الأدبي، عبر ملء الفجوات الناجمة جراء مفارقة المعيار القاعدي. إذ لا مراء
في أن حضور المفارقة يحمل ـ في طياته ـ تغييباً لوحدات معينة، كان من شأنها
أن تظهر، إلا أن حضورها بقي مغيباً، على القارئ أن يتحراه، "لأن المتكلم
إذا انحرف عن استعمال موافق للحكم والقواعد، احتاج المستمع ـ في الأقل ـ
إلى تقدير مبدأ التعاون، حتى يتوصل عبر استدلالات متتابعة إلى المقتضى الذي
يقصد المتكلم إبلاغه، أما البغية من هذا الخرق، فهي توليد الصور البيانية"(
). وفي ضوء مبدأ التعاون هذا، لا بد من أن يكون المتكلم متعاوناً، ليتم
التفاعل بين المشاركين في عملية الاتصال، بأن تكون المشاركة على النحو الذي
يقتضيه المقام والمقال( ).
ولكن ألا يحجم وقوع النص في أطر التواصلية من أدبيته المتطلعة
دوماً، إلى نبذ كل ما من شأنه أن يسوقها إلى مهاوي التقنين؟!
لا بد من أن تكمن الإجابة عن ذلك في البينونة الاصطلاحية التي تفصل
بين مفهومي (المعنى) و(الدلالة) عن بعض: فإذا كانت الدلالة ترتبط بالأثر
الحاصل في الذهن، جراء تلقي إشارة ما، فإن المعنى يمثل آلية ذلك التلقي
خارج الحدود الفردية( ). لذا فمن الممكن أن نجد معنى مشتركاً، ولكن ليس من
الممكن أن نجد دلالة مشتركة. وبهذا، لا تلغي مقصدية النص انفتاحه على
قراءات متجددة، بتعدد القراء واختلافهم، إذ إن "المعنى غير متغير، لأن
مقاصد المؤلف التي صدر عنها المعنى معطاة بكيفية نهائية، أما المتغير، فهو
الدلالة، التي يمنحها كل مؤول للنص، بحسب مقاصده ومقصديته"( ).
وإذا كانت مهمة السيميائية البنيوية هي تقصي الهيكلية التي انبنى
عليها صرح النص، فإنها ـ بالضرورة ـ تروم القبض على المعنى المشترك، الذي
من الممكن أن تصل إليه القراءات المتعددة، إذا ما تهيأت لـها الظروف ذاتها،
عبر انموذج قرائي معين، "ولهذا يتوقع المؤلف قارئاً نموذجياً، يستطيع أن
يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أن
يتحرك تأويلياً، بالطريقة التي تحرك بها المؤلف توليدياً"( ).
وليس المقصود بذلك توافر قراءات متشابهة، فكل قراءة رهينة بصاحبها،
وبهذا تبقى السبل المؤدية إلى نقطة (المعنى) مختلفة، ولكل قارئ الحق في أن
يخط لنفسه سبيلاً جديداً، على أن تصل جميع القراءات إلى النقطة ذاتها،
وبهذا فإننا لا نعني بالتعاون النصي للقارئ "أنه تحيين الذات التجريبية
للتلفظ، ولكن نعني به تحيين المقاصد المتضمنة تقديراً في الملفوظ"( ).
لقد أفضى بنا الكلام على المسلمة الأولى للسيميائية البنيوية
المتمثلة بانغلاق العالم الألسني، تلقائياً إلى المسلمة الثانية المتمثلة
بتمحور بنى النص حول بؤرة قرائية معينة، الأمر الذي يؤكد تساوق هذه
المسلمات المتزامن، في النهوض بصرح النص دونما تحيين لإحداها على حساب
الأخرى.
وبقي أن نشير ـ فيما يخص المسلمة الثانية ـ أن تلك البؤرة القرائية
(الثيمة)، لا بد من أن تستجلى من البنية التحتية للنص، وهي تتألف ـ بنائياً
ـ من ثنائية ضدية، ينهض بها قطبان ضدان يتجاذبان النص كل إلى ساحته، وعبر
احتدام الصراع بينهما، يتكون التراكب النصي المعقد، عبر منظومات صغرى تندرج
ضمن منظومة أكبر.. وصولاً إلى الثيمة المحركة لـها جميعاً، لـهذا عدت
الثيمة نصاً في قيد الإمكان( ).
إذ على الرغم من انطواء النص على ثيمات عديدة، إلا أنه في النهاية،
توسيع لثيمة معينة، تفضي كل بناه إليها، لتكون تلك البنى "صيغاً متعددة
لمولد بنيوي واحد، فالنص ـ في حقيقة الأمر ـ تنويع أو توزيع لبنية واحدة"(
). وهو ما يبرر شيوع التوازي الدلالي في كل أركانه، وعلى اختلاف الجنس
الأدبي الذي ينضوي تحته، لأن التوازي عامة هو "تنمية لنواة معنوية"( ).
فمهما اختلفت ـ إذن ـ انطباعات قراء العمل الفني، باختلاف ذواتهم
ومرجعياتهم، فلا بد لـها من أن تتفق ـ أخيراً ـ في الوصول إلى البعد
الشمولي للأدب، ليستحوذ بذلك على موضوعيته، إذ "يتميز الفن بأنه ظاهرة لـها
أساس موضوعي، يشترك في تقديره المجتمع (...)، بحيث لا يظل العمل الفني
عملاً فردياً (...)، فالمعايير الجمالية التي نقدر بها العمل الفني معايير
اجتماعية مشتركة، ولا تقتصر على ذوق فردي خاص"( ).
وكنا قد أشرنا إلى أن علم الإشارة معني في بناء النسق النصي، عبر
تجريد الإشارات مما هو خاص، للوصول إلى كل ما هو مشترك وعام، فـ "إن علاقة
المكتوب بالمقروء، هي كعلاقة اللغة بالكلام، وبهذا يصبح الكلام تأويلاً
معيناً لنظام اللغة بين تأويلات أخرى كثيرة، لأنه نتاج فكر معين، شأنه شأن
القراءة"( ). غير أن القراءة لا تكون سيميائية إلا بعد وصولها إلى النظام
الإشاري المتحكم بالنص قيد الرصد. ولما كان هذا كذلك، فإن علم الإشارة ذو
طابع جمالي من حيث الغاية التي يضطلع بها القارئ النموذجي، وصولاً إلى
المعنى المشترك.
وعبر هذا البناء الهيكلي للعمل الفني تستحوذ كل من السيميائية عامة
والجمالية منها خاصة على موضوعيتها، من خلال اشتراك العلوم الإنسانية مع
العلوم الطبيعية "في عنصرين أو خصيصتين أساسيتين للمشروع العلمي، هما
الحاجة أو الدافع إلى السيطرة على الطبيعة، خارج الإنسان وداخله، وافتراض
خضوع هذه الطبيعة لقانون أو مسار محتوم يمكن كشفه ومعرفته"( ).
وهذا القانون أو هذه النواة يكمن أو تكمن في المسار التطوري
للتسنين، وعند الكلمة الأخيرة للنص تحديداً( )، لأن الاسترسال القرائي يؤدي
إلى تكشف النواة المعنوية شيئاً فشيئاً. لتستحيل كل وحدات النص عناصر أسهمت
في ذلك التواجد البنيوي، لذا يجب أن تؤخذ جميعاً بنظر الاعتبار. وأن انتخاب
بعضها دون بعض في المقاربة النقدية، لا بد من أن يتم في ضوء قراءة شاملة.
إذ إن بروز وحدات نصية معينة دون سواها، قد يكون ناجماً عن توظيف مكثف
للوظيفة الأسلوبية (الشعرية)، التي مهمتها تمويه الدلالة الحقيقية على
القارئ( ).
لهذا كانت اللغة الأدبية، لغة من طراز خاص، تتنافر بناها تنافراً
عجيبا، وهو ما يشغل القارئ عن كل ما سواها. الأمر الذي يتطلب مرحلتين
قرائيتين، وبهذا يكون تقصي الثيمة المعنوية، قد أفضى بنا إلى المسلمة
الثالثة للسيميائية البنيوية التي تتمثل في هذين المستويين القرائيين.
أما القراءة الأولى: فهي القراءة الاستكشافية، التي تبدو فيها وحدات
النص، في غاية التنافر وعدم الانسجام. والقراءة الثانية: فهي القراءة
البنيوية، التي يستحيل فيها كل ما غدا متنافراً، أول وهلة، عنصراً مهماً في
تحقيق الانسجام النصي( ). وبتعبير آخر، فإن النص الأدبي يحمل في طياته
معنيين، الأول: هو المعنى الحرفي المعجمي، الذي يشوش على القارئ مهمة
الوصول إلى المعنى الثاني الإيحائي، مما يستدعي لحظتين قرائيتين، وبالشكل
الآتي( ):
الدال
المدلول(1) ....... انزياح
المدلول (2)....... نفي الانزياح
ولا مراء في أنّ لآراء هيلمسليف حول الإشارة العامة، تأثيراً بالغاً
في هذا المسلك النقدي. إذ تم اختزال تلك الآراء وتوظيفها في ما يخص الإشارة
الجمالية تحديداً. وتتمحور أهميتها في استحالة المضمون لديه، إلى إشارة
دالة لنسق أوسع، الأمر الذي استدعى مستويين للوصول إلى المعنى، أساسي
وثانوي، ويسمى المعنى الدلالي والمعنى الإشاراتي بالأساس، أو اللغة الأولى،
أما المعنى الضمني فهو نظام المعاني الثانوية للألفاظ"( ). وقد تم تمثيل
هذه النظرية ـ فيما بعد ـ بالشكل الآتي( ):
دال التعيين مدلول التعيين
دال التضمين مدلول التضمين
فثمة إذن تداخل علاقي معقد بين مستويين إشاريين: التعيين والتضمين.
وإذا كان الأول أحادي، فإن الثاني احتمالي، وبهذا تكون الدلالة الاحتمالية
مرتبطة بكل "ما تحوي به (..) العبارة أو تثيره أو تفترضه بصورة واضحة أو
غامضة بالنسبة لكل ناطق للغة بمفرده"( ). لـهذا كانت صلة التضمين بالقدرة
الإيحائية للإشارة، أوثق مما تدل عليه في الأصل عند دخولها في سياقات
متعددة( ).
وقد كان لآراء هيلمسليف هذه وقع كبير لدى دارسي الأدب، ولاسيما
رولان بارت، الذي استثمرها في تفسير تشكل العمل الفني، حينما ذهب إلى أن
المعنى الإيحائي الجمالي في الأدب والفن لا يتحقق إلا عندما تصبح الإشارة ـ
بدالها ومدلولها ـ دالاً لمدلول أبعد( ) ( ).
وفي ضوء هذه النظرة السيميائية إلى الأدب ـ بوصفه فناً ـ تستحيل كل
مفردة ينطوي عليها أي نص أدبي إلى (إشارة) تحيل إلى شيء آخر غير ذاتها( ).
ولاسيما أن مصطلح (الإشارة) يرتبط ـ أصلاً ـ بالقدرة الإشارية، أو الإحالية(
). لذلك كان الأدب ـ دوماً ـ ذا طابع غيري. الأمر الذي دعا بارت إلى
التسليم بـ "أن الرسالة الأصلية للكاتب هي ـ أبداً ـ غيرية، قول مخدوم بلا
انقطاع، وبمعزل عن كل محمول إجرائي"( ). فإذا كان المعنى الأول قيد
التنفيذ، فإن الثاني ـ بالضرورة ـ هو قيد الإمكان، مما يجعل العمل الأدبي
منفتحاً على فضاءات قرائية متجددة ومتوالدة، لا لشيء سوى، كونه "لا يفرض
معنى، ولكنه يقترح معاني"( ).
ولا مناص من الإشارة هنا إلى أن ذاك الثراء القرائي، مرتهن
بالبينونة الدلالية الفاصلة بين المستويين القرائيين، فكلما كانا أكثر
تباعداً، أسفر ذلك عن توليد أكبر للدلالات المضمنة، وهو ما تم الاصطلاح
عليه بـ: (التقريب الإشاري)( )، الذي يحدث صدعاً بين الدال والمدلول، والذي
يوجد بذلك "(فضاء دائم التحرك) من داخل الإشارة. ويتركنا ـ وجهاً لوجه ـ مع
ما سماه لاكان (بالإشارات العائمة). ويكون دورنا ـ قراء ـ هو تفسير هذه
الإشارات( ). وهنا ينبجس دور القارئ بقوة، بوصفه الكاشف المنتظر عن المدلول
الثاني.
لهذا ولكي تستحوذ القراءة السيميائية لأي عمل أدبي على شرعيته، لا
بد لـها من أن تمر "عبر سلسلة من الترابطات والمقتضيات واللوازم، التي يؤدي
السياق دوراً طاغياً في فرضها وتحديدها، كما تؤدي تداخلات المتلقي نفسه
(...) في توجيه المعنى، وإنتاج معنى دون آخر، دوراً هاماً في فرضها
وتحديدها. وبهذه الآنية ينتج المعنى مضموناً آخر للجملة الشعرية"( ). وهو
ما يومئ إلى انغلاق العالم الألسني وانفتاحه، في آن معاً: إنغلاقة على
الجاهزية المرجعية، وانفتاحه على باحة التأويل، ما دامت القراءة قد حققت
انعتاقها الكتابي ـ القرائي المزدوج، "لذا تظل القراءة بالكتابة صائرة إلى
مصائر لا تتناها أمداً، كما تظل الكتابة بالقراءة صائرة إلى مصائر لا تحصى
عدداً"( ).
وهنا بالضبط تبرز الجدلية المتحققة في بودقة الأدب، عبر ارتباطه
الكتابي ـ الإشاري بالفن أولاً، وارتباطه القرائي ـ التأويلي بالجمال
ثانياً. علماً أنه "على الرغم من الفصل بين الفن والجمال أمر مبالغ فيه،
فمن الصعب عزل المفهوم الفني عن الموضوع الجمالي. و(.....) أن التفريق
بينهما قائم على اعتبار أن الموضوع الفني متعلق بالنص، والموضوع الجمالي
متعلق بالتلقي"( )، وعبر تفاعلهما المشترك. لأن كلاً منهما يستمد كينونته
من الآخر، إذ يستدعي تحقق الفن، ليستوحذ على مفاتيح فنيته، (الراصد الفني)
أو بتعبير أعم: متذوق الفن، بوصفه ذا نشاط إبداعي مشترك، يتعلق بإدراك
العمل وإعادة بنائه( ). لذا فإن عرض الفكرة بطريقة فنية، يستدعي ـ بالضرورة
ـ لحظتين قراءيتين، الثانية منهما هي القراءة الجمالية. فثمة إذن مرحلة
إدراكية فريدة، عند إدراك الفن على خلاف ما هي عليه في الموجودات الطبيعية.
إذ يقتصر إدراك هذه الأخيرة على (الملاحظة) حسب، في حين يتطلب إدراك الأولى
ـ الفنية ـ مرحلة أكثر تقدماً هي (الفهم)، إذ "تعادل الملاحظة رؤية إحدى
الهيئتين في صورة غامضة، ويعادل الفهم رؤية الهيئة الأخرى"( ).
وبهذا تكون مهمة القراءة السيميائية الجمالية هي: إعادة تنظيم
لوحدات النص، أي أنها تنظيمية، بالدرجة الأساس "فالتحليل (العميق) يظهر أن
الإشارات التي تكون في ظاهرها غامضة وآيلة للسقوط، إنما هي متجذرة في بنى
متجانسة وشيفرات تحتية تنهل منها قيمتها"( )، ولا يتحقق هذا السبر لإغوار
النص، إلا عبر تفادي التنافر الحاصل بين الدال والمدلول المتموضع على سطوح
النصوص الأدبية. وهذا التفادي هو ما توفره السيميائية، ففي "حالة غياب
الرابطة السببية بين الدال والمدلول، التي قد تعين المرء على تناول كل
علاقة على حدة، يتحتم على المرء أن يعيد بناء النظام السيميوطيقي أي نظام
الأعراف"( )، كي يتمكن من تحقيق التلاؤم والانسجام، فمن وجهة نظر سيميائية
بحت، فإن كل ما في العمل الفني، يمتلك "طابع العرف
Convention. فلا تكتسب الظواهر الجمالية معناها الموضوعي بفعل علاقاتها مع
الواقع، بل بفضل وظيفتها كأدوات تواصل ونتيجة الاتفاق الاجتماعي العفوي
الذي يتشكل مع الزمن"( )، إذ إن الإشارات الفنية تحيل إلى نظام آخر من
الإشارات العرفية.
ج ـ إشارية المثل القرآني:
بادئ ذي بدء لا بد من إدراك الفارق الجوهري بين المثل بوصفه جنساً
أدبياً مستقلاً، والمثل ضمن السياق القرآني. إذ إن الأول يحيل إلى سياق
خارج نصي والثاني يرتبط بسياقه النصي قبلاً.
للمثل في القرآن الكريم أهمية قصوى في البناء الهيكلي للسياق
القرآني، ذي النسيج المتساوق، لا على صعيد الوحدات والبنيات الصغرى فحسب،
وإنما على صعيد البنى النصية الكبرى( )، تلك البنى التي تواشج بين تشكلين
أو جنسين أدبيين: خارج ـ نصي، وداخل ـ نصي. إذ يتمتع كل من هذه التشكلات
بسمات إجناسية، ترتبط بجنس أدبي معين. ففي هذه البنيات الكبرى تحديداً، يتم
التلاقح بين بقية الأجناس والقرآن الكريم بوصفه جنساً أدبياً مستقلاً
بذاته، من الممكن أن يضم باقي الأجناس على سبيل الاحتواء، فلم يعصف القرآن
"بالأجناس الأدبية الرائجة، ولا عمل على تغييبها، وإنما جدد هيكلتها، وحرر
موضوعاتها، وغيّر منها المفاهيم، لتندمج في سيرورة حداثة ثقافية متواشجة مع
مستلزمات الحياة الحضرية المبنية على مرئياته الفرادية"( )، وأن تمييز
الخطاب القرآني هذا، جعله معياراً لقياس شعرية سواه لدى العرب فـ "كلما
اقترب الكلام منه كان مقبولاً، وكلما ابتعد عنه كان مرذولاً"( ) ( )، وبهذا
يختلف مفهوم الفكر الإسلامي للانزياح، لأن المقياس الجمالي فيه هو القرآن.
ولكن هذا لا يمنع من تهجير بعض السمات الخاصة بكل من هذه الأجناس،
إلى السياق الداخل ـ نصي القرآني، فاكتسبت بذلك تبريراً منطقياً على
كينونتها فيه.
لذلك كانت البنيات الكبرى في القرآن الكريم كـ (المثل، والقصة،
والصورة) تمثل صيغاً نصية شديدة التكثيف، تختزل نصها الأكبر، فهي مشبعة
بالثيمة التي يتمحور حولها النص، أو ما اصطلح عليه إيكو بالميسوم، إذ "لا
يعدو النص كونه توسيعاً لميسوم واحد"( )، فهذه البنيات هي التي لا تقبل أي
تعويض لأن القارئ ليس حراً البتة في انتخاب بعضها دون بعض إبان التحليل( ).
وإذا كان المثل يعد من "قصارى فصاحة العرب (..) وجوامع كلمها"( )،
فمن أهم خصائص تشكله البنيوي التي تعزز نصيته إذن، إنه في عمومه مكتمل
بنيوياً، حتى وصف بأنه "يصلح أن يكون موضوعاً لعمل أدبي كبير"( )، وذلك
ناجم ـ بالطبع ـ من طابعه الاختزالي التكثيفي. الأمر الذي دعا كلاً من
الزمخشري والعسكري إلى عد الأمثال ـ على قصرها ـ تعمل عمل الإطناب في
الكلام، لأن إيجاز اللفظ سيؤدي ـ لا محالة ـ إلى غنى المعنى( ). فكان
البناء القصير المتكامل من أهم خصائص المثل إذن، وهذا ما رجح نصية المثل،
إذ بحسب علم الإشارة، فإن "كل بنية إشارية تنقل معنى محدداً ومكتملاً هي
نص"( ). حتى غالى البعض حينما ذهب إلى عد الجملة نصاً أيضاً( )، وهذا الرأي
يرجح نصية المثل ضمناً، لكونه أكثر اكتمالاً من الجملة، وإحدى البؤر
القرائية المهمة.
إن اتسام المثل بالاختزال منحة بلا جدال مفاتيح كينونته الإشارية ـ
الجمالية معاً. فهو لا يدخل في تفصيلات من شأنها أن تضيع الفكرة الرئيسة،
لذلك كان يقتصر على الحد الأدنى منها ليستقطب الثيمة بعمق، لكنه في الآن
ذاته يوحي دون أن يصرح. وبهذا يكون المثل ذا طابع مزدوج، لأنه يجمع الغرابة
والتعاقد في بودقة واحدة.
وإذا أردنا الإيضاح نقول: إن شدة الاختزال في المثل، جعلته ينفتح
أولاً على باحة التأويل، إذ إن من المبادئ الرئيسة في هذا المجال إنه كلما
ضاقت العبارة اتسع المعنى. ولاسيما أن المثل قائم ـ أصلاً ـ على توظيف
مفارقي مكثف، إذ "تنحو الروح الليجورية في هذا الشكل من التصوير (المثل)
نحو خلق علاقة ما، ترمز إلى اختلاف ما. وهذا الاختلاف هو ما يجعل من مواقف
الوجود، موضوعاً لتأمل العقل وانفتاح الوعي على تقابلات العالم وثنائياته
الضدية"( ) ( ).
فالمثل إذاً لا يعبر عن الوقائع بشكل مباشر، وإنما يمثل لـها
تمثيلاً عبر صورة أو قصة ما، لذلك كان كل مثل في جملته (إشارة) تحيل إلى
معنى أبعد، ومن الممكن على وفق هذا المفهوم أن نفهم قول ابن الأثير بأن
"العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل
المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء، وليس في
كلامهم أوجز منها، ولا أشد اختصاراً"( ).
وهو ما يتفق مع مصطلح (الإشارة) بمفهومه العربي، الذي لا يختلف في
شيء عما سبق ذكره، فهو مستمد ـ أصلاً ـ من معنى الإشارة في لغة العرب، الذي
يدور حول الإيماء، فقد ورد في اللسان "أشار إليه وشوّر: أومأ، يكون ذلك
بالكف والعين والحاجب"( ). وقد تناولت طائفتان من العلماء العرب مصطلح
(الإشارة)، هما: البلاغيون أولاً، والصوفيون ثانياً:
أما البلاغيون فعلى الرغم من تعدد تحديداتهم للإشارة، بيد إنها ظلت
تصب في مفهوم واحد، وسنتناول أهم تلك التحديدات تباعاً:
ـ الجاحظ: وهي لديه درجة أقصى من الإيجاز بوصفها أحد أصناف
الدلالات، التي تستغني تماماً عن الكلام، والاكتفاء بالتلويح الذي قد يكون
باليد أو العين أو الحاجب أو غير ذلك من الجوارح، للتعبير من خلال ذلك عن
الخاص الخاص من المعنى، لذلك كانت الإشارة لديه أبلغ من الصوت وهي من تمام
حسن البيان( ).
ـ قدامة بن جعفر: "أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معان كثيرة
بإيماء إليها أو لمحة تدل عليها"( ).
ـ أبو هلال العسكري: أن يكون اللفظ القليل مشاراً به إلى معانٍ
كثيرة بإيحاء إليها ولمحة تدل عليها( )
ـ ابن رشيق: "وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح
يعرف مجملاً ومعناه بعيد من ظاهر لفظه"( ).
ـ أبو الأصبع المصري: "إن المتكلم في باب الوحي والإشارة لا يودع
كلامه شيئاً يستدل منه على ما أخفاه لا بطريق الرمز ولا غيره، بل يوحي
مراده وحياً خفياً لا يكاد يعرفه إلا أحذق الناس. فخفاء الوحي والإشارة
أخفى من خفاء الرمز والإيماء"( ).
يتبين لنا من ذلك أن مصطلح الإشارة ظل مقتصراً على أحد التشكلات
البيانية في المفهوم البلاغي العربي، دون أن ينفتح على البيان مصطلحاً
جامعاً لكل التشكلات الجمالية الأسلوبية.
أما الصوفيون فقد اتفقوا مع سواهم على عدم مباشرية مصطلح (الإشارة)،
إذ قالوا عنها إنها "ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه"( ).
فالمعنى المباشر الظاهر إذن يأتي عن طريق العبارة، أما غير المبَاشر الباطن
فيكون عن طريق الإشارة، لذلك كانت الآلية الذهنية المعتمدة لديهم "في تأويل
الخطاب القرآني، سواء على سبيل (الإشارة)، أو على سبيل (التصريح) هي
المماثلة
Analogic
بين معان وآراء جاهزة لديهم، تشكل قوام مذهبهم، وبين المعنى الظاهر الذي
تعطيه عبارة النص"( ). ومن هنا كان للصوفيين تأويلهم الخاص بهم للقرآن
الكريم الذي يحمل اسم (التفسير الإشاري) و"هو تأويل القرآن بغير ظاهره
لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر
المراد أيضاً"( ).
وقد ذكر محيي الدين بن عربي أن ظهر القرآن يستشف من خلال (التفسير)،
أما بطنه فمن خلال (التأويل)( ). إلا أن الربط بين الاثنين الظاهر والباطن
على الطريقة الصوفية يسفر عن وجود دلالة عميقة للظاهر الآني، تحيل تلقائياً
إلى الباطن الكوني، ليتجلى من خلال هذا الربط المعنى المتمثل بـ (الله
تعالى). "ذلك أن السبل الصوفية تهتم بكشف الذات الإلهية في النفس من منظور
النزوع والاشتياق"( )، فلا بد من اللجوء إذن إلى التكثيف الصوري للوصول إلى
ما هو فوق حسي أو مطلق( ).
وإذا كانت المشكلة الحقيقية التي تعانيها الذات الإنسانية هي
اغترابها الواقعي، فقد كانت تلك الذات في نظر التصوف عائقاً يحول دون
انفتاحها على المطلق، فتمثل الحل الذي قدمه التصوف في إلغاء هذا الاختلاف
بين الذات والمطلق. من الاختلاف مع الذات أولاً، ومع لحظة الواقع التاريخي
ثانياً( ). بذلك فقط يمكن الوصول صوفياً إلى المطلق ـ المعنى ـ الله.
يمكننا الاستشفاف من ذلك أن الصوفيين قد وصلوا في تأويلهم للقرآن
تأويلاً إشارياً، إلى الثيمة الواحدة المحركة لـه، فسبقوا في ذلك علماء
الإشارة. ولكن مع الاحتفاظ بفارق إجرائي جوهري، يتمثل في كون علم الإشارة
ينطلق من الظاهر ـ اللفظ ـ للوصول إلى الباطن ـ المعنى ـ، فالمرجعية "يجب
أن تستخلص من التحليل [السيميائي] لا أن تكون مسبقة، فالتحليل هو الذي يفرض
مرجعاً، موضوعاً معيناً معبراً عنه بتشاكلات لغوية"( ). على العكس من
الصوفية التي تسقط المعنى على اللفظ، إذ يقول الغزالي: "والذي تنكشف لـه
الحقائق (...) يجعل المعاني أصلاً والألفاظ تبعاً"( ).
وإذا ما عدنا إلى مدار تقصينا (المثل القرآني)، فإننا سنجده على
الرغم من اتصافه بخصيصة الإيحاء الناجمة عن التكثيف والاختزال الشديدين،
فإنه يتسم كذلك بخصيصة التعاقد، نتيجة لعدم دخوله في تفصيلات من شأنها أن
تؤدي إلى ضياع المعنى. مما دعا البعض إلى التسليم اعتماداً على هذه الخصيصة،
بأن الأمثال تمثل المعنى الظاهر في القرن، إذ "لما كان القرآن قد خاطب
الكل، لا فئة خاصة من الناس، وخاطب كل فئة بالطريقة التي تفقه بها الأمور
فإنه قد عبر عن تلك المعاني العويصة بضرب (الأمثال) عليها، لكي يتاح فهمها
لجميع الناس"( )، ولكن بإمكاننا القول: إنها تساعد على إزالة إبهام ما،
فالمثل إذن أظهر من الممثل لـه( )، وذلك ناجم عن كون المثل المضروب يجب أن
يكون أمراً متعاقداً عليه بين الناس، فهو "تعبير عن نفسية وعقلية جماعية،
وليس وليد تأمل منفرد، وتجربة ذاتية خاصة. إنه مستمد من صميم حياة الناس،
وصورة معبرة عن عقلية الشعوب وعاداتها"( )، ونتيجة لذلك، ونتيجة لقصره،
أصبح قابلاً للتداول والانتشار بين الناس، الأمر الذي أدى إلى ظهور مصطلح
(حكاية المثل)، لأن الأمثال تحكي على ما جاءت عليه شكلاً ومضموناً( )، وهذا
بالضبط ما يوقع المثل عامة في مهاوي الابتذال، إذ وصفه الفارابي بأنه "ما
ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه فيما بينهم"( ).
بيد أن الطريف في أمثال القرآن الكريم هو اختلافها عن سواها من
الأمثال، لا باندراجها ضمن السياق النصي للقرآن حسب، وإنما بوصفها كانت
ومازالت تتسم بالجدة، إذ لم يطرأ عليها شيء من الابتذال الاستعمالي، فظلت
محافظة على خصوصيتها، على الرغم من توافر الجانب التعاقدي فيها، "لأن الله
تعالى ابتدأها وليس لـها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال إن هذا اصطلاح
جديد"( ). إذ يتحقق التعاقد في المثل القرآني عبر تموضعه في اللحظة
القرائية الأولى، المتمثلة بالمشبه به وهو الظاهر في بنية المثل ذاتها، أما
الثانية المتمثلة بالمشبه الغائب ظاهرياً عن بنية المثل، فلا يتم الوصول
إليها إلا بعد تحقق الترابط بين بنيتي المشبه به والمشبه، فلا بد إذن من
توافر مستويين قرائيين، لأن من أبرز خصائص المثل القرآني "سوق خبرين
أولهما: لا يلم به المتلقي عياناً ومشاهدة وعلماً، وثانيهما: عقد المقارنة
بين الخبرين، ومنها ترك مجال متسع للتأمل والتفكر والتدبر ومنها الاتعاظ
وأخذ العبرة"( ). إذ يساعد المشبه به الظاهر في الكشف عن بعض سمات المشبه
الغائب، لذلك تم وصف المثل بأنه "تشبيه الأمر المجهول بالمعلوم والخفي
بالجلي، ليزداد المعنى إيضاحاً، وتنكشف فيه غرابة الأمر وإيهام المعنى ولو
من بعض الوجوه"( )، وبما أن المشبه به هو المعلوم والمشبه هو المجهول،
لـهذا كان المشبه به ثابتاً لفظياً في بنية المثل، والمشبه هو المتغير بحسب
اختلاف مناسبة ضرب المثل.
والتتابع السياقي القرآني يستدعي ـ بالضرورة ـ وجود المشبه، بوصفه
حلقة من حلقات المسار المتنامي للنص. أما المشبه به فيبقى غريباً عنه على
المستوى السطحي، ولا يرتبط به إلا بعد سبر أغواره. إذ يستحيل المشبه من عدم
التعاقد إلى التعاقد بوساطة المشبه به، لذلك يحقق المثل كينونته عبر المشبه
به، لأن المثل أصلاً "يهدف إلى استحضار الحالة المشبه بها"( ). وبهذا يتم
التراكب العجيب بين التعاقد والغرابة، بشكل متزامن، في بنية واحدة، هي بنية
المشبه به.
فالمثل القرآني هو دوماً مثل قياسي بحسب أية قيم، وهو ينقسم بدوره
على مثل وصفي صوري وقصصي( )، إذ يمكن تحديده بأنه "تشبيه شيء بشيء لتقريب
المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين إلى الآخر"( ). وهناك من يذهب إلى
توافر القياس في كل عملية مشابهة، إذ إن القياس يتألف أصلاً من شاهد وغائب
ودليل جامع، وبما أن كل تمثيل يتألف بالضرورة من طرفين متشابهين يجمعهما
وجه شبه، فالعلاقة بينهما ليست "فقط على مستوى البنية، إذ كلاهما يتألف من
طرفين وجامع (..)، بل أيضاً على مستوى الوظيفة المعرفية، لأن وظيفة كل
منهما إنما هي المقاربة، مقاربة طرفين بعضهما ببعض"( ). لذلك كان المثل
يتطلب عملية عقلية رابطة، لكونه يخاطب بالأساس الفكر الإنساني( )، وهو ما
يؤكده انتهاء أغلب الأمثال القرآنية بعبارة مضمنة بما يشير إلى ذلك الجانب،
عبر الإشادة بأصحاب العقول والانتقاص من سواهم، لا لشيء سوى لأن فهم المثل
يستدعي ربطاً بين النصي والخارج نصي أو الكوني، وبهذا فإن "الأمثال عون
للإنسان على الحياة في صراعه معها، واستجابة لدواعي المعرفة فيه"( ).
فقد كان للصياغة الجمالية الشديدة التكثيف، وذات المستويين
القرائيين، أثرها الفاعل في أن يكون المثل إشارة على الصعيدين العام والخاص
أيضاً، أو التعاقدي والجمالي. اللذين أسهما معاً في أن يكون المثل وسيلة
ناجعة للتأثير والإقناع.
إن الجانب التعاقدي الإعلامي في القرآن الكريم يقف على قدم المساواة
إذاً مع الجانب الجمالي فيه، ولاسيما أنه ـ في أصل نزوله ـ وحي. ومن الجدير
بالذكر هنا أن من المعاني التي يخرج إليها مفهوم الوحي هي الإشارة( ). فهو
يتضمن إذن وجهي الإشارة معاً، فإذا "كانت الدلالة المركزية للوحي هي
(الإعلام)، فإن من شرط هذا الإعلام أن يكون خفياً سرياً"( )، وذلك ناجم
بالطبع عن الطبيعة الإشارية المزدوجة للوحي القرآني، الجمالية أولاً
والتواصلية الإرشادية ثانياً، أما الأولى فتتمثل بتشكله الأسلوبي، إذ من
أبرز خصائص الإعجاز القرآني، لغته التي تحدى بها البشر، تلك اللغة التي
كانت تغزي الكفار بفصاحتها ـ وهم أهل الفصاحة ـ بأن بإمكانهم مجاراتها، حتى
إذا فعلوا فشلوا، وكان لذلك أثره الفاعل في التأثير في نفوسهم، الأمر الذي
أدى إلى تحقيق انعطافة كبيرة في معتقدهم الإيديولوجي، ولنا من الشواهد على
ذلك كثير في التراث الإسلامي( )، فأسهم الجانب الأسلوبي فيه ـ بذلك ـ في
تحقيق التفاعل مع مضمون الوحي( )، فضلاً عن كونه "فوق طاقة الجميع"( )، ومع
هذا فإنه يبقى "في مستوى إدراك الجميع، وإلا فاتت فائدته، إذ لا قيمة
منطقية لحجة تكون فوق إدراك الخصم"( )، فمن ضرورات الوحي أن يكون يقينياً
لا مجال للشك فيه( )، من ذلك يستمد ديمومته، وعلى مدى الأزمان. وهو ما
يحيلنا إلى الخصيصة الثانية للوحي القرآني وهي جانبه التواصلي التعاقدي، إذ
يتضمن الخطاب القرآني المتلقي الفعلي في ثناياه، وهو المتلقي الحقيقي
الخارج نصي. وهذه هي إحدى السمات الرئيسة التي ينفرد بها الأسلوب القرآني.
فثمة ما يميز المتلقي الضمني عن المتلقي الفعلي في أي جنس أدبي غير القرآن
الكريم، إلا إن عملية التمييز هذه غير ممكنة بالمرة في القرآن الكريم،
لكونه يستحضر المتلقي ويخاطبه بشكل مباشر:
يا أيها الناس،
يا
أيها الذين آمنوا،
أفلا
تعقلون،
إن
كنتم تذكرون،
إن
كنتم في ريب..... الخ. لذلك كان المتلقيان ـ الضمني والخارجي ـ سيان في القرآن،
لأن كل قارئ سيجد أنه المقصود بذاك الخطاب المباشر. إن حضور المتلقي بقوة
في القرآن الكريم بوصفه "هدف الوحي وغايته"( ) يتطلب أن يكون خطاباً
بالضرورة، إذ يتجاوز (الخطاب مرحلة الانغلاق النصي وصولاً إلى الانفتاح على
القارئ( ). بيد أن انفتاح الخطاب على المتن الكلي، يستدعي أن يكون المثل
نصاً من نصوص ذاك الخطاب.
إن الطابع الإرشادي للخطاب القرآني ومن ضمنه المثل يجعل من الجانب
الجمالي فيه وسيلة لغايته الإرشادية تلك. ونحن لا نتغيا من كلامنا هذا
التقليل من أهمية طابعه الجمالي، وإلا ما كنا قد خصصنا هذه الدراسة
للإشارات الجمالية فيه. وإنما ما نريد قوله هو أن هذا الجانب متفرد في
مهامه في القرآن الكريم، وهو ما تؤكده القدرة على فهم الخطاب القرآني من
قبل شرائح مختلفة، على العكس من الأدب والفنون الأخرى، إذ ليس من الممكن
التعامل معه إلا في ظروف إدراكية معينة، فما الذي يفهمه طفل صغير من قصيدة
(أنشودة المطر) للسياب، أو (الأرض اليباب) لإليوت، على سبيل المثال لا
الحصر، سوى الإيقاع الموسيقي ليس إلا. في حين أنه مع ذلك قادر على فهم سورة
(الإخلاص) مثلاً، حتى وإن كان هذا الفهم محدوداً، لكنه يبقى فهماً، فإن
استعصت عليه بعض المعاني لمفردة هنا أو هناك، فإنه لا محال سيخرج بنتيجة
كلية عن معنى السورة وهي (التوحيد). أما عن الآيات الأخرى التي يكون فيها
الجانب الصوري سائداً، بوصفه أكثر غموضاً، إن صح التعبير، فإننا نجد الطفل
لا يعقد المسألة، بل بالعكس قد تكون تلك الصورة المرسومة كفيلة بإزالة
إبهام معين، على النقيض تماماً من أصحاب بعض الاتجاهات في دراسة القرآن،
الذين غدت لديهم الصورة وسيلة إبهامية أكثر منها إيضاحية. ولا نعتقد أن
الله سبحانه وتعالى كان يريد أن يلبس الأمر على العباد، بقدر أن يطرحه
بصورة تتناسب وعقولهم.
وهنا يكمن الفارق الرئيس بين القرآن والنصوص الإبداعية الأخرى، ففي
تلك النصوص تكون السمات الأدبية الجمالية مسخرة لأغراض تمويهية. أما في
القرآن الكريم فإن مهمة هذه السمات الرئيسة تتمثل في لفت الانتباه أولاً
والإيضاح ثانياً، فإذا كانت النصوص الأدبية الأخرى تحتكم إلى معيار معين
لقياس شعريتها، فإن الخطاب القرآني بحسب هذا المفهوم هو المعيار لقياس
شعرية كل ما سواه، من نص الواقع الخارجي، بوصفه كلام الله، لأن "الجمال
الإلهي غير خاضع لمعاييرنا ومقاييسنا، بل نحن خاضعون لمعاييره ومقاييسه،
ونحن نستمدها من آثاره في مخلوقاته ومبدعاته"( )، وإذا ما فعلنا ذلك
واحتكمنا إلى القرآن في تقصي كل ما يكمن خارجه يصبح "الكون بما فيه مرآة
الله" و(..) كتاب الإنسان"( )، ومن هنا ظهر مفهوم النصية في الفكر
الإسلامي، بوصفها الصامت الناطق، واكتسب القرآن بذلك انفتاحه على كل
الأزمنة والأمكنة. إذ بموجبها تكون "الموجودات الظاهرية (..) واسطة لمعرفة
جملة صفات الحق التي برزت في صفات الخلق"( ). لتحيل الجمالية الإسلامية
بذلك كل الفنون "إلى اجتماع المسلمين على اختلاف قومياتهم وتعدد مذاهبهم
حول فكرة التوحيد المطلق لله والاعتراف لـه وحده بالربوبية، وأنها صدى
لوحدة الوجدان الإسلامي المقر بوحدانية الله"( )
وبهذا يصير من المسلّم لدينا ذاك الفارق الذي يفصل بين الطابع
الجمالي للفنون عامة والخطاب القرآني خاصة، إذ إن كل الفنون ومن ضمنها
الأدب وجدت بالدرجة الأساس لأغراض امتاعية، وإن وجدت غايات أخرى فقد يكون
لـها بعض التأثير في المتلقي في حين، حتى إذا انتهى الموقف الذي وجدت من
أجله لم يبق منها سوى الجانب الجمالي، فإنها لا تصلح لأن تعد وثيقة تاريخية
أو اجتماعية أو فلسفية أو غير ذلك من الأغراض التواصلية، لشيء يقدح في
شعريتها وإنما لـهيمنة الجانب الجمالي الأسلوبي عليها. والأمر مختلف تماماً
مع الخطاب القرآني إذ إنه إلى جانب الإشارات الجمالية، متضمن إشارات أخرى
اجتماعية وتاريخية وعلمية مختلفة، لذلك من الممكن النظر إلى الخطاب القرآني
من زاوية علمية تواصلية بحت، من هنا ظهرت التأويلات الخاصة بالإعجاز العلمي
في القرآن، وبإعجازات أخرى قد تكون تاريخية أو اجتماعية..الخ.
ولهذا يمكننا القول: إن الإشارات الجمالية في القرآن الكريم متزامنة
مع إشارات أخرى تواصلية. الأمر الذي دعانا إلى قصر الإشارات ـ موضوع الرصد
ـ بالجمالية، منعاً لتداخلها مع الأنواع الأخرى، إذا ما كان العنوان بشكل
مختلف.
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
الفصل الأول
المثل
الصوري
- المبحث الأول: الأواصر الزمانية
-
المبحث الثاني: الأواصر المكانية
مدخل نظري:
إن الكلام على الصورة، لابد من أن يفضي بنا ـ تلقائياً ـ إلى ما
اصطلح عليه بـ (البويطيقا) أو الشعرية. ولا مناص من التنويه هنا، بأن
الشعرية، هي مصطلح يضم قوانين لغة الأدب، لا الشعر تحديداً، فـ "هي اسم لكل
ما يتصل بخلق وإنشاء الأعمال التي تتخذ من اللغة جوهراً وأداة لـها"( )،
وصياغتها بطريقة جمالية، إذ إن "الصورة ذات المعنى هي جوهر كل الفنون"( )،
حتى صارت الموسيقى لدى (موريس) واحدة من الفنون التصويرية، لكونها تختلف
باختلاف موضوعها( ). لذلك كان مدار اهتمام الشعرية أو (الأدبية) بتعبير
أدق( ) هو الصورة. والصلة الحتمية بين كل من السيميائية والأدبية ليست محط
جدال، فعلى الرغم من سعة تجواب مقتضيات الأولى، وعدم اقتصارها على الخطاب
الجمالي تحديداً، وانفراد الثانية لا بالجمالي حسب، وإنما بما هو أخص من
ذلك، أي لغة الأدب. فإنهما يجتمعان معاً حول النظام المستقى من الطابع
الصوري للأدب، بوصف "الصورة الفنية، ليست أكثر من إشارة أيقونية"( ). وليس
من شك في أن الأيقون قد اكتسب طبيعته الإشارية من "أنه عبر ملاحظته
المباشرة يمكن أن تكتشف حقائق أخرى تتعلق بموضوعه، غير تلك التي تكفي
لتحديد بنائه"( )، فإن أول ما يدرك من الإشارة هو الأيقون، لذلك فإن
"الطريقة الوحيدة لتبليغ الأفكار، هي عبر الأيقون"( )، لكون طابعه التماثلي
يجعله أقرب إدراكاً من سواه من الإشارات السببية، كما أنه هو الذي يؤسس
وجود الإشارات العرفية التعاقدية. فهو إذن طريقة التعلم الأولى للإنسان
البدائي قبل تشكل الأعراف، "فالتشابه الذي نلمسه بين الصورة والشيء الذي
تمثله، هو نتاج لممارسة ثقافية"( ) بحسب ايكو.
لذلك كانت "الصورة أكثر التصاقاً بالواقع، وأكثر قدرة على التعبير
عنه، لأنها تتميز بجانب مادي ملموس. على خلاف العلامة اللغوية، فأي كلمة من
كلمات المعجم لا تمت بصلة إلى الشيء الذي تشير إليه"( )، فالصورة إذن إشارة
عبر ـ لغوية.
فإن علمية الإدراك تقترن بالتشكل الصوري (المكاني)، لما هو زماني
تتابعي، "لأن اللغة لن تفهم على أنها إشارة، بل على أنها صورة إشارة، أي
على أنها إشارة للصورة (..) لأن الإشارة التي يتفاهم بها الإنسان مع
الإنسان، تفترض مقدماً وجود الصورة، وبالتالي وجود اللغة"( ). وعبر اجتماع
التصورات، يصل ذاك الإدراك إلى درجة الفهم الكلي.
والطابع التصويري في لغة الأدب يكون مضاعفاً، من خلال تصويرية
الكلمات في ذاته أولاً، وارتسام صورة أدبية باجتماعها ثانياً. ومن الممكن
النظر إلى المسألة بطريقة أكثر شمولية، بأن تكون ثمة تجمعات صورية متعددة،
تتدرج تحت مسار صوري معين، إذ بحسب كريماس، فإن الصور "تظهر نظرياً في حدود
الملفوظات، لكنها تخترق بيسر هذه الحدود لتؤلف شبكات صورية، تقوم بينها
علاقات متنوعة، يمكن أن تمتد على مقاطع كاملة، مكونة تجمعات صورية"( )، وإن
اجتماعها حول موضوع معين، يجعلها ذات مسار صوري واحد( )
وبما أن اللغة هي مادة الأدب، فإن تسلسلها المتتابع عبر متتالية
الكلام، يفرض عليها طابعاً زمنياً على خلاف الفنون الأخرى كالرسم والنحت
على سبيل المثال، التي تملك طابعاً مكانياً بصرياً. وهذا الأمر مبعث نقاش
مستفيض، ناجم عن طبيعة الأنظمة الإشارية عامة، بوصفها تنقسم إلى أنظمة
زمانية وأخرى مكانية. ففي حين ذهب سوسير إلى عد اللغة نظاماً إشارياً من
بين أنظمة إشارية شتى، لتكون بذلك اللسانيات لديه جزءاً من السيميولوجيا
ذهب كل من بارت وبينفينسنت إلى قلب هذه المسلمة، لذلك عدت اللغة لديهما
"النظام السيميوطيقي المفسر لجميع الأنظمة الأخرى، أي أننا لا نستطيع أن
نتحدث عن أي نظام إلا من خلال اللغة الطبيعية، وأن دلالةَ أي نظام تأتي من
ترجمة علاماته إلى علامات اللغة الطبيعية"( ) حتى وإن كانت غير لسانية، إذ
"لا يوجد المعنى إلاَّ مسمى، وليس عالم المدلولات بشيء آخر غير عالم
اللغة"( ).
ولكن ليس من الممكن التعامل مع اللغة بوصفها زمانية بحت، نظراً
للطابع الصوري للكلمات في ذاتها، واجتماعها حول تصور معين. والمسألة مضاعفة
مع الأدب، لأن الأدب ليس لغة فحسب، وإلا لاستحال إلى كلام اعتيادي. فإن
صوريته لابد من أن تفرض عليه أبعاداً مكانية بصرية، ناجمة عن طبيعة الصورة
ذاتها، فضلاً عن تشكلها اللغوي. كما أن ثمة مسرباً آخر يمد الأدب بأبعاده
المكانية، يتمثل في كونه النشاط اللغوي النزاع إلى تسجيله الكتابي للحفاظ
عليه، لتصبح مسألة "استعادة أي نوع من التنظيم الفكري أمراً ممكناً"( )،
مما يبيح لمتلقي الأدب فرصة أكبر للتأمل، ليس من الممكن توافرها إذا ما تم
إرساله بشكل شفاهي، لما يملكه الأخير من طابع قسري، ناجم عن التوجيه الصوتي
للمرسل إلى قراءة معينة دون سواها كما في الكلام الاعتيادي. إن الكتابة إذن
"تلغي النطق، وتحل محله، وبذلك تسبق حتى اللغة، وتكون اللغة نفسها تولداً
ينتج عن النص"( )، فصار النص الأدبي بذلك نصاً لكونه يستحق التسجيل، إذ
تقتصر "كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة"( )بحسب ريكور. لأن
تجسيده الكتابي هذا جعله يستحوذ على أبعاد دلالية منفتحة مكنته من أن يكون
وثيق الصلة بالجانب الإشاري للأدب، لأن الكتابة "نسق دلائلي يمكن تحديده
وضبطه، وتمثيل علاقاته"( ).
فثمة إذن تحقق مزدوج للأدب، يتمثل في انخراط بعديه الزماني والمكاني
في بودقة واحدة، إذ من الممكن استجلاؤهما معاً في الأدب بوصفه حدثاً
كتابياً، لأن الكتابة "تجمع نوعين من إشارة اللغة، وهي اعتيادياً، سمعية
الطابع، تصبح بصرية عندما تكتب، أو تأخذ شكلاً مطبوعاً. فإلى جانب التزام
الإشارة السمعية بالوقت بوصفه عاملها البنيوي، نضيف إذن (...) التزام
الإشارة البصرية بالفضاء"( ).
وإذا كانت كتابية الأدب لا تلغي عنه طابعه الزمني، لأن القراءة
تقتضي تتبعاً زمنياً للوحدات المكونة، كما هي الحال مع التلقي السماعي، فلا
بد لنا هنا من عدم إغفال الطابع الصوري للنص الأدبي، بوصفه واحداً من
الفنون الجميلة، ولاسيما أن الصورة هي جوهر الفنون كافة، كما نوهنا آنفاً.
فضلاً عن الطابع الصوري للكلمات المؤلفة للنصوص الأدبية، لـهذا كانت أية
عملية فهم للأدب تقتضي إرجاعه إلى أبعاده الصورية المكانية الساكنة، التي
تنقل عملية القراءة، من التتابع الجزئي للوحدات، إلى التشكل النهائي الكلي
لـها، "إذ إننا نعيد بناء كل الأجزاء بعد استقبالها في أشكال مختلفة، أي إن
هذه الأجزاء التي استقبلت في نظام معين يخضع للتتالي، لا تظل في ذاكرتنا
منتظمة طبقاً لتسلسل استقبالها"( )، فالوحدة العضوية لأي عمل أدبي تقتضي
ذاك الربط بين الأجزاء المتتابعة، والتعامل مع الصورة بوصفها "الكل الفني
المكتمل"( ).
ولطالما حظيت تقنية (الصورة) بدراسات مستفيضة. عبر استعراض أركانها
الرئيسة، وتشكلاتها المختلفة، ولكن، بقي جوهرها الفعلي بمنأى عن دائرة
الضوء، من خلال ما تؤدي إليه تلك الآراء من عزل تام للصورة عن سياق نصها،
في اقتطاعها، والنظر إليها وإلى أية صورة سواها بمعزل عن الأخريات، المهم
في تلك الآراء، أن تتوافر في كل واحدة من الصور الأركان الرئيسة لكل صورة
من مشبه ومشبه به ووجه شبه. مع وجود بعض الاختلافات في آلية اشتغالها، عبر
حضور أو غياب هذه الأركان، بحسب نوعية الصورة، ودونما التفات إلى الصورة
وسائر النص. إذ لا تكفي علاقة المماثلة الجزئية بين مشبه ما، ومشبه به ما
أيضاً. فالمماثلة يجب أن تتخطى حدود هذه النظرة الذرية للصورة، وصولاً إلى
الصعيد النصي الأرحب. وعندها يصح لنا أن نقول:
إن الصورة تكتسب هويتها، بل وحتى تسميتها من كونها تصويراً مصغراً
لنص، ينزع إلى التمري بها، بوصفها بؤرة دلالية تتسرب من خلالها أطياف النص
المتراكبة.
وبما أن (الصورة) مدار البحث هي ليست إلا نصاً مصغراً، تتكثف فيه
الثيمة، فإن ما نجده في الخطاب الأدبي عامة نجده فيها، ولاسيما ما تتسم به
لغة الأدب من تركيز دلالي، ولا مراء في أن هذه النظرة العميقة إلى الصور
المؤلفة لنص ما، والتي تتخطى الحدود الشكلية، هي وحدها الكفيلة بتجاوز ما
يطفو على سطح الصورة من عدم ائتلاف مع النص الذي وضعت فيه. فإن الصورة مهما
ندت عن خطيّة نصها الأكبر، فإنها لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته. إنها لا
تغير إلا من طريقة عرضه، وكيفية تقديمه"( ).
فثمة توظيف مكثف إذن للوظيفة الأسلوبية، يتموضع على سطوح الصور
الأدبية، من خلال الطابع الشكلي للصورة، الذي يؤكد لا مرجعية مفرداتها. فهي
تفجر "اللغة من الداخل، وتقطع الخط المستقيم الذي يخطه الكلام العادي، بين
المرسل، والمرسل إليه، ويضطرب بالتالي المفهوم المعجمي للغة"( ).
فعلى القارئ إذن، وهو يروم تقصي نص صوري ما، أن يضع في الحسبان، ما
شحنت به الألفاظ من طاقة إيحائية عالية، تنأى عن حدود المعنى الحرفي. إذ إن
اللغة المجازية "تتحاشى تسمية الأشياء بأسمائها، على الرغم من وجود اسم دال
عليها. وتبعاً للعلاقة بين الاسمين يمكن ترتيب تفريعات جديدة"( ) للمعنى.
فثمة ـ بالضرورة ـ علاقة ما تجمع الاسم أو الكلمة الموظفة، مع الكلمة
المستبعدة، غير الموظفة، وعبر تلك العلاقة يتم استخلاص المعنى الثاوي في
ذاك التشكل، الشديد التكثيف. وليس من شك فيما يوفره هذا التكثيف من طاقة
دلالية مضاعفة، ذات قدرة توالدية. ناجمة عن "تقريب بين حقيقتين متباعدتين
إلى حد ما"( )، وعلى القارئ أن يستشف القانون المتحكم فيهما معاً. وهذه
المسألة، في غاية الدقة والأهمية. إذ إن استشفافه ذاك، يتخطى حدود المشابهة
الآلية بينهما، لأن "الفن التمثيلي لا يعني بحق، تحقيق تشابه بين شيء مصنوع
وأصل (...)، بل يعني أن تكون المشاعر المستثارة بفعل الشيء المصنوع مشابهة
للمشاعر المستثارة بفعل الأصل"( ). الأمر الذي يعطي للقراءة أهمية قصوى في
بناء المعنى الصوري، المستخلص من كل المتنافرات التي تعج بها الصورة. ذلك
أن النظرة الحرفية إلى لغة الصورة، لابد من أن توصل القراءة إلى طريق
موصدة، لأن القارئ ـ حينها ـ سينشغل بالتضادات الجزئية، التي تمثل لا
منطقية الصورة. بيد أن اكتشاف الجانب الإيحائي فيها، سيؤدي ـ لا محالة ـ
إلى تعانق تلك الأضداد أخيراً، لتستحوذ الصورة على منطقها الخاص، والخاص
جداً. إذ إن الصورة هي "منهج ـ فوق المنطق ـ لبيان حقائق الأشياء"( ). فهي
إذن عملية خلق جديدة للأشياء، تنأى عن التقوقع في حدود الزمان والمكان.
وبهذا تشكل (الصورة) درجة أولى قبل التشكل النصي. أي أنها المرحلة
التجريدية الأولى، التي تسبق التجسيد، "فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن
الصورة الفنية، هي تركيب دائماً، أي فكرة ـ مادة ـ فعل، أمكننا أن نتتبع
صيرورة هذه اللحظات (الجوانب) منفردة:
1 ـ ظهور الصورة بوصفها شكلاً وبنية وعي.
2 ـ ظهور الشكل المادي للصورة الشعرية، أي من الفعل إلى الكلمة"( ).
ولم تغب هذه الحقيقة عن أذهان المفكرين الصوفيين، إبان استكناهاتهم
الصورية، فقد أكدوا على العودة إلى المرحلة الأولى التي تسبق التشكل، "وفي
هذا يمكن القول أن اللامرئي من الشكل ـ الصورة هو الأكثر أهمية، لـهذا كان
الباطن اللامرئي هو الذي يحدد الظاهر المرئي، وهذا التحديد إفراد للشكل،
شكل العمل الفني المعني عن أي شكل متحقق"( ).
لهذا فإن أية قراءة جمالية عليها أن تدرك إذن "أن الجمال هو القيمة
المحددة (..) للصورة"( )، وبما أن أية إشارة هي دوماً غيرية، فإن هذا
الطابع الغيري هو بالضرورة مضاعف مع الإشارة الجمالية.
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
المبحث الأول
الأواصر الزمانية
ـ الصورة المفردة
إن تقصي الصورة المثلية في القرآن الكريم، يفضي إلى ارتكاز حشد كبير
منها على التشابه المتحقق عبر أواصر زمانية (أدوات التشبيه). الأمر الذي
دعانا إلى تمييز هذا التمظهر الصوري، من سواه. لـهذا لم نجد في التقسيم
التقليدي على محوري مشابهة ومجاورة، ما يتساوق مع ثراء المادة المتوافرة
بين أيدينا، فسعينا إلى اجتراح يفرد هذا التمظهر من سواه من التمظهرات،
التي تتخذ من الأواصر المكانية مادة لـها. ودونما إغفال لعلاقات المشابهة
أو المجاورة أينما وردت. ولاسيما أن الصورة المثلية القائمة على تقنية
(التشبيه)، لم تعط مساحة رحبة من الأمثال القرآنية حسب، وإنما امتازت بتنوع
تشكلاتها أيضاً، وبهذا يكون تقسيمنا المجترح هذا، قد أتاح لنا الاضطلاع
بمهام تتبع كل تشكلاته على اختلافها عبر الخطاب القرآني، الأمر الذي ألزمنا
بتقصي الأبعاد البنيوية التي توفرها عبر تشكلها النصي.
يمثل التشبيه الجوهر الذي يكمن في كل صورة، حتى وإن لم تكن تشبيهية
بالفعل، فلابد أن تكون كذلك بالقوة، مادامت حاوية على الأركان الصورية
الرئيسة، إذ إن كل صورة لابد من أن تشتمل على طرفين أساسيين هما المشبه به
والمشبه، يجمع بينهما وجه الشبه. ولا يعني هذا أن هذه الأركان تتشكل بشكل
مطلق، فقد يكون واحد منها مغيباً، ليتخطى حدود المعاني الاصطلاحية للتشبيه،
إلى ما هو أرحب، فيشمل عبر تمظهره تقنيات مجاورة أخرى، تندرج جميعاً على
محور المشابهة( )، الذي تكمن شعريته في اختيار ألفاظ من الممكن استبدالها
بما هي أقرب إلى معيارية الكلام، مما يؤدي إلى ارتسام صورة موازية للمعنى
المراد.
لذلك لابد من درء اللبس الحاصل بين مصطلحي (التشبيه) و(المشابهة) أو
الخاص والعام، أو الجزئي والكلي، إذ تمثل المشابهة "تعبيراً عن التماثل
مبنياً على نعت مسيطر، مع واقع غريب عن تجانس السياق"( ) والتشبيه ليس إلا
أحد هذه التماثلات.
وعلى الرغم من الخدمة الجليلة التي قدمها النقد الجديد لا لتقنية
التشبيه فحسب، وإنما لكل التقنيات الأخرى، من خلال عدم النظر إليها بمعزل
عن السياق، بل إدراجها ضمنه، وانصهارها فيه، فقد اعتور هذه التقنية
الأسلوبية إغفال كبير لطابعها الجمالي، ولاسيما في تلك الدراسات التي تركزت
حول (الاستعارة) نظراً لغياب الأداة وأحد طرفي التشبيه فيها، الأمر الذي
حدا ببعض الدراسات الحديثة إلى إطلاق حكم عام من خلال التوهم بأن الاستعارة
تحقق درجة أقصى من الانزياح وبذلك تكون أكثر شعرية من التشبيه، فصار لـها
كل الفضل في البعد الجمالي للصورة. بيد أن إلقاء نظرة أكثر موضوعية، دونما
إهدار للجانب الدلالي للتشبيه، من شأنه أن يوصلنا إلى نتيجة عكسية، من خلال
إبعاده عن الدخول في حلقة مفرغة. من المقارنات مع (الاستعارة). وبهذا لا
نكون قد عزمنا التقليل من شأن الإمكانات التي توفرها الاستعارة. بوصفها
تبقى رهينة بسياقها، شأنها شأن التشبيه، فليس ـ بالضرورة ـ أن تكون "كل
استعارة شعرية"( ). فقد نواجه تشبيهاً يتخطى أسلوبياً كثيراً من الاستعارات
التي باتت مبتذلة.
لذا نرى: أن هذه النظرة المحدودة اكتفت بالتقوقع بالحدود النظرية
لآليات اشتغال (الاستعارة)، الأمر الذي أدى إلى عزلها عن خصوصية السياق
الذي يلفها، في كل تحقق لـها. لـهذا فمن الإجحاف إصدار حكم عام ونهائي على
تقنية في (كل) النصوص الأدبية، دونما تمييز لأحدهما عن الآخر. فإن "قيمة
الصورة المرتكزة على المشابهة هي في حداثتها وعمقها وبعدها وقدرتها
الإيحائية، أكثر مما هي في الشكل الذي أخرجت فيه، استعارة أم تشبيهاً. وليس
بمقدورنا بالتالي أن نحكم مسبقاً على فئة معينة بأنها دون الأخرى قيمة
وشاعرية"( ).
ليس هذا فحسب، إذ إن وضع الطرفين المتنافرين في سياق تشبيهي واحد،
دون تغييب لأحدهما، من شانه أن يزيد من حدة التنافر. كما أن عقد الصلة
بينهما، عبر أداة، يفترض أنها تومئ إلى تكافئهما دلالياً، لابد من أن يعزز
من حدة ذاك التنافر بشكل أكبر، وكل ذلك قيد السياق ورهين به أولاً وأخيراً،
فقد يكون (التشبيه) أدعى من الاستعارة للتعبير عن معنى معين، نظراً
لخصوصيته التركيبية التي تميزه من سواه من التقنيات الصورية، إذ إنه يمثل
التقنية الصورية الوحيدة التي تعقد علاقة موازاة بين طرفي الصورة على
المستوى السطحي للنص. وبذلك يكون لأداة التشبيه دور فاعل في ذاك الربط
المتحقق على ظاهر النص، ولاسيما الكاف، إذ إن "الحرف أداة في التركيب لا
اعتبار لـها ولا معنى إلا من خلال وظيفة الربط بين عناصر الكلام. وهو بدوره
هذا، لا يقل شأناً عن الاسم والفعل في النهوض بالدلالة والمساهمة في جمال
النظم وحسن الترتيب"( ).
وهنا، لابد لنا من التساؤل: ما الأبعاد الأسلوبية ـ الدلالية التي
يوفرها (التشبيه) لسياق المثل القرآني، لكي يستخدم بهذه الكثرة؟
لقد سجلت هذه التقنية على مدى تشكلها في الخطاب القرآني تشكلاً
غريباً، من خلال السعي إلى توظيف المتداول والمألوف في سياقات تنأى عن
النمطية وترتقي إلى ما هو اسمى من مصافي الكلام غير المألوف، وصولاً إلى
درجة الإعجاز، الذي لا يتحقق إلا من خلال دقة التوظيف. إذ إن أنسب تقنية
تصلح للإضطلاع بمهام (المثل) هي (التشبيه)، وذلك لأن الغاية من ضرب المثل
أصلاً، هي غاية إيضاحية، بوصفه مفتاحاً للخطاب القرآني، لما فيه من قدرة
تكثيفية عالية، تجعل منه نصاً مختزلاً وموازياً لنصه الأكبر ـ الخطاب ـ
الذي يؤطره، إنه مشبع بالثيمة التي يتمحور حولها ذاك الخطاب.
وإذا كان التشبيه أنجع وسيلة أسلوبية يتخذها المثل لتحقيق مراميه في
الكشف عن المعنى الذي يحيل إليه النص، فالتوظيف المكثف لـه في المثل
القرآني لم يأت إذن إلا لكونه عنصراً ضرورياً لأداء المعنى القرآني
متكاملاً من جميع الوجوه"( ).
وبما أن التشبيه يمثل التقنية التصويرية الوحيدة التي يتموضع طرفاها
على سطح النص، كما نوهنا آنفاً، فإن العرب كانوا أميل إليه من سواه، نتيجة
لما تفرضه على فكرهم ظروف حياتهم الحسية، فهم "لا يستسيغون تشبيه شيء بما
هو غير مألوف أو غير حسي"( ). الأمر الذي جعل من العقل العربي عقلاً
قياسياً بالدرجة الأساس، لذلك كانت "أساليب البيان العربي ترجع كلها إلى
التشبيه"( )، وذلك يعني بالضرورة رد كل أساليب البيان إلى مناسبة تشبيهية
بين الطرفين، مهما اختلفا، حتى صارت الاستعارة وسواها جزءاً منها( ).
وبموجبه غدا التشبيه دليلاً على التمكن من الشاعرية لديهم( ). ليس هذا فحسب
بل إن آلية التفكير القياسي هذه اتسعت لتشمل العلوم الأخرى من نحو وفقه
وكلام( ).
إن آلية اشتغال تقنية (التشبيه) جعلت منها تمد جسوراً تواشج بينها
وبين المثل، بوصفه تشكلاً نصياً ذا مهام مضاعفة، من شأنها أن تكشف النقاب
عن مساره الدلالي. وهذا كله وسواه أدى إلى تداخل مصطلحي (المثل) و(التشبيه)
تداخلاً كبيراً، ولاسيما أن الجذر اللغوي لكلمة (مثل) يحيل في أصل كلام
العرب إلى (الشبه)( )، كما قد ظهر مصطلح آخر، يتجاور مفهومياً مع كليهما هو
(التمثيل)، إذ "إن التشبيه متى كان وجهه وصفاً غير حقيقي، وكان منتزعاً من
عدة أمور، خص باسم التمثيل"( )، فمتى ما كان التشبيه تمثيلياً أمكن أن يصبح
مثلاً، شريطة أن تتوفر فيه خصائص المثل الأخرى.
ودرءاً للخلط المفهومي نرى أن كلاً من التشبيه التمثيلي، ليس إلا
تشكلاً من تشكلات المثل، التي لا تقتصر عليه، "فليس بوسعنا أن نعد كل تشبيه
أو تمثيل مثلاً، كما ليس بوسعنا أن نعد الأمثال مجرد تشبيهات وتمثيلات
فقط"( ).
ولا مناص من الإشارة هنا إلى تلاشي حقيقة غياب المشبه من صورة المثل
ذاتها، عبر تضمين ذاك المثل في السياق النصي الأكبر للسورة الذي لابد من أن
يسجل المشبه فيه حضوراً بأي شكل من الأشكال، ولكن خارج حدود بنية المثل
القائمة على المشبه به.
وقبل الشروع في أية مقاربة، لابد من الإشارة إلى أن المسار الذي
تبنيناه إبان التحليل، تتحكم به المادة قيد الرصد أولاً وأخيراً، دونما
اعتماد قوالب خارجية جاهزة، من شأنها أن تقنن ميدان البحث. وإن مقاربة
كهذه، تجعلنا نرصد انسرابه عبر ستة مسارب رئيسة هي: الصورة المفردة،
والتعالق الصوري، والتداخل الصوري، والتوازي الصوري، والتناوب الصوري،
والانقلاب الصوري.
1 ـ الصورة المفردة:
من الممكن رصد الصورة المفردة عندما يسجل النص تحققاً أحادياً
للصورة التشبيهية:
وإذا قيل لـهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه
آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون* ومثل الذين كفروا
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون( ).
إن قراءة أولى لـهذا النص من شأنها أن تطرح عدة تساؤلات، ناجمة عن
المفارقة المتحققة من توظيف الفعل (ينعق): فإذا كان هذا الفعل يعني ترديد
الكفار لما ألفوا عليه آباءهم، فإن منطق الأشياء يقتضي أن يكون الترديد لما
سمعوه، لا ما لم يسمعوه؟ ولا مراء في أن الترديد يتطلب سماع القول بالدرجة
الأساس، وليس من الضرورة بمكان ماهيته ودواعيه. فهل يصح عدّ نعاقهم هذا
ترديداً؟ وإذا لم يكن كذلك، فما هو إذن، ولم تم استدعاء هذا الفعل بالذات
من الحيز الحيواني للتعبير عن هذا المعنى الإنساني( )؟
لابد من قراءة ثانية يتم فيها ترتيب هذا النص، في أذهاننا من جديد.
كما أن التقدم في القراءة من شأنه أن يقدم حلولاً لما أشكل علينا أول مرة.
وإذا ما فعلنا ذلك لمسنا أن السياق يصر على تعزيز دلالة عدم السماع،
بعبارة أكثر تكثيفاً من السابقة وهي (صم، بكم)، إذ من المسلم به منطقياً إن
نفي صفة معينة عن الشيء، يحمل دلالة أدنى من سلبه إيّاها تماماً. وبعبارة
أخرى، فإن دلالة الجمل المنفية ليست ملغاة تماماً، بل لابد من أن توحي
بصورة تتشكل في ذهن القارئ( ). فثمة بينونة دلالية إذن بين النفي الحاصل في
لا
يسمع أولاً، وصم
بكم ثانياً. إذ إن ذكر السماع ـ حتى وإن كان منفياً، في التحقق الأول ـ
لا يمنع من ارتسام صورة سماع صوت ما، في ذهن القارئ، الأمر الذي لا نجده في
التحقق الثاني الذي يتم فيه الامتناع عن ذكر السماع أو الصوت تماماً، وهو
ما يوحي بتدرج دلالي، عبر الصورة المثلية، التي وردت فيها عبارة
لا
يسمع، تمهيداً لدلالة أكثر تكثيفاً. فكانت بذلك الصورة المثلية، وقفة
إيضاحية، أو جملة اعتراضية طويلة، قطعت الانسياب المتسلسل للسياق. ومما
يؤكد ذلك، تلك المداورة التركيبية المتحققة في بنية المثل المتجلية في تحول
الخطاب بشكل مفاجئ من الصيغة الطبيعية للتعبير عن الكفار، وهي صيغة الجمع،
إلى التمثيل عنهم بصيغة المفرد، ثم العودة من جديد إلى الجمع بمجرد انقضاء
الصورة المثلية، ليعاود الخطاب انسيابه الطبيعي من جديد. إذ من الممكن تحقق
الاسترسال في المعنى، دون هذه الصورة التي حقن بها النص لأغراض إيضاحية،
لتكون أحد مفاتيحه القرائية، بدلالة وجود الوصف بعد انتهاء المثل الذي
يتموضع موصوفه قبل المثل مباشرة، وهو ما يؤكد أننا في هذه الصورة بإزاء
وقفة تركيبية سياقية، أسهمت بشكل فاعل في التعبير عن دلالة سلب الكفار
لمظاهر الحياة، أولاً، والإنسانية ثانياً. فهم على احتشادهم وكثرتهم، على
مدى الدهر ـ ولاسيما أن الخطاب ينحو إلى التعميم دون الاختصاص بجماعة
معينة ـ ليسوا إلا فرداً واحداً في هذا الكون، مهما اختلفت مظاهر حياتهم
وبهجتهم، فقد تم سلبهم إياها، بوصفهم (صم) و(بكم) و(عمي)، إنه إذن الموت،
ولكنه موت للجانب الإنساني فيهم، بدلالة استدعاء الفعل (ينعق)( ) من الحيز
الحيواني، والنعاق هو صوت الغراب، الذي يتردد في الأماكن الساكنة، البعيدة
عن صخب الحياة. فضلاً عن ما يثيره هذا الصوت من اشمئزاز لقبحه أولاً،
ولارتباطه بالغراب ثانياً، فقد تم التداول عرفياً، على تحميل (غراب) دلالة
مضافة إلى ما تحيل إليه من ذلك الحيوان الأسود، صاحب الصوت الكريه، بوصفه
رمزاً للموت، لكونه قد شهد أول جريمة قتل على وجه البسيطة. ففضلاً عن عدم
المباشرية التي يحملها الرمز ـ في ذاته، من خلال الانتقال فيه من المدلول
المعياري الأول إلى مدلول آخر هو المرموز إليه( )فإن عدم التصريح باللفظ
الترميزي ـ غراب ـ بشكل مباشر، والاستعاضة عنه بالفعل (ينعق)، ضاعف من
الطاقة الترميزية، لـهذه الصورة، من خلال مروره بمرحلتين ترميزيتين،
وبالشكل الآتي:
ففي الرمز الأولي يتم الانتقال الاستبدالي المباشر من كلمة (الكفار)
إلى كلمة (غراب)، وكل منهما تحمل معنى مختلفاً عن الأخرى، غير أن ثمة
تشابهاً في موضع معين. أما في الرمز المضاعف فإن الاستبدال قد تحقق مع كلمة
مسكوت عنها هي (يجادلون)، لأن الفعل ينعق ـ في حقيقة الأمر ـ لم يستبدل بـ
(الكفار)، وإنما ما يجاورهم من فعل اقترن بهم، وبهذا يصح لنا القول أن
(الرمز المضاعف) هو تقنية أسلوبية تسعى إلى انحراف الاستبدال عن الكلمة
ذاتها إلى ما يلازمها. فهي مضاعفة إذن لصعوبة تصنيفها، لأنها في الآن ذاته
الذي تتموضع فيه على محور الاستبدال، شأنها شأن الاستعارة، فإنها تتحقق
أيضاً ـ وبالقوة نفسها ـ مع تقنيات محور المجاورة من كناية ومجاز ومرسل،
التي تعمل ضمن الوحدات المعنوية الداخلية للكلمة"( )، أي لوازمها الدلالية.
وكان لـهذا التوظيف أثره الفاعل في الوجهة الدلالية للنص، فوسط كل
ما هيأه من أجواء ساكنة، مسلوبة الحياة، ينبجس النعاق ـ نذير الموت ـ بقوة،
من خلال تركيز النظر إليه، بدلاً من تشتيته لو تم استخدام كملة (الغراب)
بدلاً منه. فإذا كان سكون مظاهر الحياة يفضي إلى (اللاحياة)، فإن خرق ذلك
السكون بصوت النعاق، ينبئ بالموت أيضاً.
وإذا كان المعنى يتكشف في النص عبر تتبع مساره التطوري. فإن العبارة
الأخيرة فيه من شأنها أن تقدم لنا مفاتيح تأويلية جديدة، من الممكن هيكلة
النص على أساسها.
فإن انتهاء النص الصوري المكثف قيد الرصد بعبارة:
فهم
لا يعقلون، يفتح لنا فضاءات دلالية جديدة إذ إن كل ما رصدناه آنفاً، من
الممكن إدراجه تحت مسار واحد هو (غياب العقل)، وبذلك تحصل على تبرير لكل
وحدات النص كاستدعاء الفعل (ينعق) من الحيز الحيواني أولاً، وتلاشي مظاهر
الحياة لدى هؤلاء الأحياء/ الأموات أيضاً. وبالشكل الآتي:
إن تقصي الوحدات التي تشكل منها هذا المسار الصوري، يفضي بنا إلى
انبنائه على قطبين رئيسين هما: (الحيواني) الذي يؤدي إلى ارتباطه بجماعة
إنسانية معينة، إلى دلالة أدنى هي (اللاإنساني)، ولا مراء في أن انتفاء
دلالة ما، يحمل في الوقت ذاته تلك الدلالة وما يقابلها:
اللاإنساني
الإنساني
وجود العقل
الحيواني
غياب العقل
أما القطب الثاني فيتمثل في (الموت)، الذي يوحي ارتباطه أولاً،
وغياب مظاهر الحياة، لا الحياة نفسها ثانياً، إلى دلالة أدنى هي (اللاحياة)
التي تومئ إلى الحياة في جانب من جوانبها، وإلى الموت في الجانب الآخر:
اللاحياة
الحياة
وجود العقل
الموت
غياب العقل
وبهذا يكون (غياب العقل)، هو القسيم المشترك لكل من هذين القطبين.
ومن اللافت للانتباه، أن التوظيف التقني، قد أسهم بشكل فاعل في هذا
التشكل، عبر استخدام (الصورة المفردة)، وكنا قد أشرنا في مستهل تحليلنا،
إلى ما وفرته هذه الصورة من شيوع لدلالة السكون، من خلال انعدام السرد،
وتوقف الحوار الذي تمظهر قبل تحقق المثل، والمداورة الضمائرية، التي أوقفت
الانسياب الطبيعي لمتتالية النص. كل ذلك عزز ما يحمله النص من دلالات الموت
الإنساني، التي أفضت بدورها إلى غياب العقل.
ولا مناص الآن من إيضاح الثيمة التي يتمحور حولها النص قيد الرصد،
فقد كشف لنا التحليل العملي أن غياب العقل كان مجاوراً للموت، ومن ثم فإن
وجود العقل يجاور الحياة.
إن هذا الكشف المعنوي الذي قدمته لنا هذه الصورة المثلية، يشكل إحدى
البؤر الدلالية التي تنسرب من خلالها أطياف سورة البقرة بوصفها نصاً،
وسنلمس إبان تحليل نماذج أخرى من هذه السورة أنها تنخرط عبر الثيمة ذاتها،
على اختلاف تشكلاتها.
2 ـ التعالق الصوري:
ويتحقق هذا النمط عندما نلمس انعقاداً لمجموعة من الصور على تصوير
واحد، ذي طابع توليدي، يتوكأ ـ عادة ـ على الإمكانات الهائلة التي يوفرها
التركيب من ترابط جملي. وتكون هنالك في مثل هذا النمط جملة رئيسة تتعلق بها
بقية الجمل، وتسمى البؤرة التركيبية، "وتستند إلى المكون الحامل للمعلومة
الأكثر أهمية، والأكثر بروزاً في الجملة"( ). الأمر الذي يستدعي تركيز
دائرة الرصد إبان التعامل مع هذا النمط التعالقي على الترابط التركيبي الذي
يوفره، لتصبح الجملة بذلك ليست إلا وحدة في نظام متكامل، تستمد كينونتها من
موضعتها المكانية مع نظيراتها، وبهذا لا تكون الجملة مقصودة بذاتها، قدر
التساوق الأسلوبي المتحقق بينها وبين نظام النص ليتم تخطي الفوارق الكامنة
في آلية اشتغال كل منهما، لأن النص "لا يخضع لقوانين معيارية مثل الجملة،
وهو من هذه الزاوية يفلت من الضبط (......) وبتوحيد تلك المعايير من حيث
النوع، أي يجعلها مجردة بما فيه الكفاية، متعلقة بالبنية النصية التي
تقاربها البنية الجملية، يدخل النص تحت طائلة الضبط"( ). وقد انقسمت
التعالقات الصورية على نمطين رئيسيين، من الممكن استجلاؤها في تناول
بلاغيينا لمصطلح التضمين وهما( ):
1 ـ تضمين الاقتضاء:
أ) الطرف الأول يقتضي
الثاني
ب) الطرف الثاني يفتقر إلى
الأول
يقتضي
2 ـ تضمين الإسناد:
الطرف الأول يفتقر إلى الثاني
وأبرز تمثل نرصده لـهذا التشكل الصوري في المثل القرآني، هو ما تجسد
عبر الآيات الآتية:
الله
نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة
كأنها كوكب دريٌّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد
زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب
الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم( )
إن قراءة أولى لمسار هذه الصورة المثلية من شأنها أن تشغلنا بدلالة
(النور) التي طفح بها هذا النص الصوري، من خلال تركز السياق حولها، المتمثل
في استئثار العبارة الأولى بها، وانزواء ما دون ذلك. ثم زيادة ذلك التركيز
من خلال ذاك الاستطراد الوصفي، الذي كان لـه الدور الفاعل في تفصيل ما تم
إجماله في العبارة الأولى، عبر تكرار لفظة النور أو ما يدل عليها، ما جعل
الذهن ينصرف كلياً إلى رسم صورة النور.
بيد أن إخضاع هذه الصورة لقراءة أخرى، مع الأخذ بنظر الاعتبار كل
وحدات النص، حتى تلك البعيدة عن دائرة الضوء، يكشف لنا عن مسار آخر، يتجاذب
هذه الصورة المثلية مع المسار الأول، ومن الممكن التماس ذلك منذ العبارة
الاستهلالية التي تصدرت المثل:
الله نور السموات
والأرض. إذ تمثل هذه العبارة خلاصة شديدة التكثيف للصورة المثلية التي
تبعتها مباشرة، إنه كالعنوان الذي يتصدر نصاً ما، وإذا كان في "النص وحدة
مركزية تنزع إلى تلخيصه بإحكام"( )، فإن التلخيص تحقق عند هذه العبارة
الاستهلالية هنا.
ما يتيح لـها موازاتها للنص بأزره، لذا لا مناص من استقصاء الأبعاد
الدلالية التي توفرها للنص أولاً.
وأول ما يبدهنا فيها ذاك الاختزال الكبير لوحداتها، إذ إن الإخبار
عن المسند إليه (الله) بـ (نور)، تحقق دون أية واسطة تركيبية تفصل بينهما.
وهو ما أسهم في تقديم هذا المعنى الرحب في عبارة شديدة التكثيف
مؤلفة من كلمتين، تمثلان معاً جملة تامة، وكلما ضاقت العبارة رحب معناها.
وعلى الرغم من كون عبارة ((السموات والأرض)) هي من المتممات، التي
ليس من الممكن اكتمالها تركيبياً أو دلالياً ما لم تتعلق بالجملة السابقة
لـها، لا يعني هذا اقتضاء الجملة المكتملة ((الله نور)) لـها تركيبياً،
وإنما اقتضاءها هي لتلك الجملة، لأنها مضافة إليها، أي أنها ليست إلا زيادة
على تلك البنية الأصلية التي ستكون مدار الصورة المثلية. كما أن المضاف
إليه يكتسب بالتبعية الدلالية، شيئاً من معنى المضاف، واكتساب الشيء ـ عادة
ـ يعني أنه ليس فيه أصلاً. والمعنى المكتسب هنا هو: الاستنارة بنور الله،
أي أن السموات والأرض ـ في واقع حالهما ـ ليستا إلا معتمتين، غير أن اقتران
لفظة (نور) بهما، أدى إلى إكسابهما دلالة الاستنارة، وهو ما يوحي بـ (عتمة
الكون)، وبهذا نحصل على تبرير منطقي لاستخدام كلمة (نور) ذات الضوء المتكسب
بدلاً من كلمة (ضياء) التي هي مبعث الضوء.
ومن اللافت للانتباه هنا، ذاك التقريب الحاد بين دلالتي (نور الله)،
و(عتمة الكون)، في تركيب واحد. وهو ما يبرر لنا صعوبة استحصال دلالة
(العتمة)، إذ إن هذا التقريب أدى إلى شدة سطوع دلالة النور. ولاسيما أنها
قد تربعت في مكان بارز من النص، على العكس من الدلالة المضادة لـها، التي
لم تكن معتمة دلالياً فقط، وإنما تركيبياً أيضاً، من خلال انزوائها في ركن
معتم تركيبياً من النص.
وبعد ذلك يعمد السياق إلى رسم صورة معادلة دلالياً، لما تم اختزاله
في هذه العبارة، وعبر توظيف مضاعف لتقنية التشبيه، من خلال عدم الاكتفاء
بالكاف وإنما تعضيد ذلك بعبارة رابطة هي
مثل
نوره، التي زادت قوة التعادل بين طرفي التشبيه. كما أن تكرار لفظة (نور)
في هذا الركن الرابط، وإحالة الضمير إلى نور الله في العبارة الاستهلالية،
عزز من دلالة النور.
وبينما النص يمتلئ بدلالة النور هذه، فإذا بلفظة (مشكاة) تنبجس.
والمشكاة: هي ليست إلا حفرة في الجدار يوضع فيها المصباح. إذ إن اقتران هذه
اللفظة المعتمة بكاف التشبيه مباشرة، وبالشكل الآتي:
مثل
نوره كمشكاة، يبده القارئ بتحقق أسلوبي قطع الانسياب الطبيعي لمتتالية النص.
الأمر الذي أدى إلى اختلاف الآراء حول تفسير عائدية هذا التشبيه( ). غير أن
وجود التشبيه يؤكد تعادلها الدلالي مع العبارة السالفة لـها، إذن ما رصدناه
من دلالتي (نور الله) و(عتمة الكون)، متحقق هنا أيضاً، ولكن بشكل معكوس،
لأن (المشكاة) المعتمة التي تستمد نورها من تواجد المصباح فيها، تعادل
الكون. أما المصباح ومتعلقاته فيعادل نور الله. فما المسوغ الدلالي لخلخلة
الترتيب السالف، وانعقاد بنية الصورة على هذه الشاكلة من خلال الجمع بين
مشبه يقف على الطرف النقيض مما شبه به؟!
إن الاسترسال في هذه الصورة وتتبع ما ولدته من صور جزئية تتمحور
جميعاً حول (المصباح)، تقف جميعها قبالة لفظة مفردة هي (مشكاة)، من شأنه أن
يقدم إجابة وافية:
إذ من الجلي للعيان أن الثقل الأكبر يقع في الطرف الموجب، بينما كان
الطرف السالب في غاية الضآلة، إلى درجة تشكله من لفظة واحدة منكرة. الأمر
الذي زاد من غموضها، وعتمتها. في حين أدى التعالق الصوري لدلالة النور إلى
تنامي هذه الدلالة وزيادة سطوعها.
وقد تمظهر هذا التعالق بتشكلات مختلفة، سنحاول الإلمام بها. إلا أن
التواشج التركيبي المتموضع على رأس هذه السلسلة الصورية يستوقفنا لما يوفره
من إمكانات دلالية قادرة على أن تلغي الدلالة السلبية للمشكاة، وعلى النحو
الآتي:
مثل
نوره كمشكاة فيها مصباح:
إذ لو أنعمنا النظر في هذه الجملة الطويلة، لوجدنا أنها ذات رأسين، من خلال
استهلالها واختتامها بمبتدأ. فما أمامنا إذن ليس جملة واحدة، وإنما جملتان
اسميتان متعالقتان، غير أن ما يوفره الضمير (ها) من عائدية إحالية، جعل من
الصعوبة بمكان فصل هاتين الجملتين عن بعض. فهو في الآن ذاته الذي يتموضع
فيه في خبر الجملة الثانية، فإنه يعود إلى خبر الجملة الأولى أيضاً. وبهذا
تكون المشكاة قد ارتبطت مع المصباح برباط حتمي، أدى إلى انصهار دلالتها
المعتمة فيه، لتكون الغلبة بذلك لدلالته الإيجابية.
وإذا ما تقدمنا في القراءة لمسنا تركيباً مشابهاً وعند قوله تعالى:
المصباح
في زجاجة، وبعد عقد مقارنة بسيطة نجد أن ثمة خلخلة للتركيب التركيبي الذي
التزمته الجملة السابقة، وبالألفاظ نفسها تقريباً. الأمر الذي يقودنا إلى
التسليم بأن ثمة تجلياً لتواز مزدوج على الصعيدين التركيبي والصوتي، من
خلال التقاطع بين العناصر المكررة، والتكرار متحقق بين لفظتي، (مصباح)
و(في)، مع اختلاف الترتيب، بين جملتين يلفهما توازٍ تركيبي يتمثل على النحو
الآتي:
الجملة الأولى = شبه جملة خبرية (فيها) + مبتدأ (مصباح)
الجملة الثانية= مبتدأ (المصباح) + شبه جملة خبرية (في زجاجة)
فثمة نواة تركيبية واحدة تجمع بين الجملتين. إلا أن الجملة الأولى
لم تلتزم الترتيب الطبيعي (المقنن)، على خلاف الثانية، التي وإن التزمت
الترتيب الطبيعي إلا أنها جاءت مخلخلة لترتيب الجملة الأولى. الأمر الذي
سجل تحققاً أقصى للتأثير الأسلوبي، ما كان سيتحقق لو حصل العكس، إذ "إن
التأثير الأسلوبي يتلاشى حيث يكون الترتيب ـ أي ترتيب ـ عادياً"( ).
وهذا التفاوت في ترتيب الجملتين، لابد من أن يؤدي إلى تفاوت
دلالتيهما. وبما أن الجملة الثانية انطلقت من حيث انتهت الجملة الأولى وعند
المصباح تحديداً، فهذا يؤكد أنها جاءت لأغراض تفصيلية إيضاحية عن ماهية
المصباح، فبعد أن تم ذكره مطلقاً في الجملة الأولى، ومن خلال استثمار
إمكانات أسلوب التنكير أيضاً، يعمد السياق إلى نوع من التحديد في جملة:
المصباح
في زجاجة، ولكن هل تم هذا التحديد فعلاً في تموضعه داخل زجاجة شفافة! إذ يجب
النظر إلى تلك الزجاجة بوصفها ليست "في حقيقة الأمر بستر الخفاء وإنما (..)
ستر شدة الظهور. فإن كانت أبصار الخلائق لا تدركه، فما السبب في ذلك أن
الظلمة حائلة بينه وبينها، بل السبب الحقيقي في ذلك أن الستر الذي بينهما
شفاف رائق قد عجزت الأبصار ذات القوة المحدودة عن إدراك النور الذي يصل
إليها بعد عبوره"( ).
فما حصل في الجملة الثانية لم يكن ـ بأي حال من الأحوال ـ تحجيماً
لماهية النور في أطر معينة، ولاسيما أن تنكيره لازال قائماً حتى بعد اقتران
المصباح بـ (ال)، لأنها لم تكن ال التعريف، وإنما (ال العهدية) و"هي التي
يعهد مصحوبها بتقدم ذكر"( )، أي أنها تأتي عندما يكون ثمة تعاقد مع القارئ
على أمر قد تم ذكره، والتعاقد هنا على الإطلاقية، ويستمر هذا التعالق
الصوري، فتأتي جملة أخرى لتبتدئ من حيث انتهت سابقتها، ويغدو ما تم تفصيله
حول المصباح، ليس إلا إجمالاً قياساً على الجملة اللاحقة، التي اختصت
بالزجاجة الأمر الذي خلق تدرجاً وصفياً متسلسلاً:
كمشكاة فيها مصباح
المصباح في زجاجة
الزجاجة كأنها
كوكب دري
فمن الواضح ما للتكرار من أثر فاعل في التعليق الحاصل بين الجمل،
التي قد أخذ بعضها بأعناق بعض. ليتحقق نتيجة لذلك تنام صوري لدلالة النور،
على حساب الدلالة المضادة( ).
وفي الجملة التالية لذلك نلمس تمظهراً آخر لتقنية التعالق، وعند
قوله تعالى:
يوقد
من شجرة مباركة،
إذ إن الفعل (يوقد) هنا، يعيدنا خطوتين إلى الوراء. فعلى الرغم مما يوحيه
التتابع التركيبي، من تعلق هذا الفعل بالكوكب الدري، وبالشكل الآتي:
الزجاجة
كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة،
إلا أن هذا التسليم الخاطئ ناجم عن نظرة تجريدية إلى التركيب، فليس من
الممكن البتة دراسة الهيكل التركيبي للنص، بمعزل عن إكسائه بالدلالات التي
تضفيها الوحدات اللسانية عليه. وبما أن الكوكب الدري جاء وصفاً للزجاجة،
فمن الاستحالة بمكان أن يتعلق فعل الإيقاد به. الأمر الذي يعيدنا إلى ما
قبل رسم صورة الزجاجة هذه، إذ من الأرجح دلالياً أن يكون الإيقاد للمصباح.
وهو ما يعزز من الترابط التعالقي للنص.
وثمة إمكانات دلالية نستجليها في هذا الموضع أيضاً، تتمثل في الغاية
المقصودة من بناء هذا الفعل للمجهول. إذ إنه لو كان قد بني للمعلوم لاستدعى
فاعلاً، ومعنى الإيقاد هنا لا يحمل ذلك الاستدعاء، فمن ذا الذي يوقد نور
الله! وبهذا يكون بناء الفعل للمجهول، وتغييب نائب الفاعل (مصباح)، جعل
الذهن ينصرف كلياً إلى عائدية الفعل. كما أن تحقق الوصف من خلال الفعل دون
الاسم منح الصور حركية، ما كان يوفرها لـها الاسم، وهو ما يعزز التنامي
الدلالي للصورة.
أما في قوله تعالى:
زيتونة
لا شرقية ولا غربية،
فإنه يؤدي إلى ارتسام صورة جديدة، تنخرط مع الأخريات في سلك دلالة النور.
إذ يتم التعالق فيها عبر استثمار الاقتضاء التركيبي الذي توفره سلسلة من
التوابع الوصفية. فثمة حشد من الكلمات للدلالة على معنى واحد هي: (شجرة،
مباركة، زيتونة، لا شرقية، لا غربية). وليس من شك في الطاقة الأسلوبية
العالية التي يسبغها النعت على النص، عبر تحديده لماهية الأشياء( ) إلا أن
التجديد المتحقق هنا ينتفي في خاتمة هذه السلسلة الوصفية بدلاً من أن يصبح
أكثر تحديداً، إذ إن وصف هذه الشجرة بأنها لا شرقية أولاً، يجعل القارئ
يتوقع أن تكون غربية، إلا أن النص سرعان ما يسلبه ذاك التوقع، بشكل مباغت.
ونتساءل هنا هل من الممكن أن يجتمع الضديدان، في آن معاً؟ ألا يسلب وجود
أحدهما وجود الآخر؟
إن استكناه هذين الوصفين الضديدين، من شأنه أن يحيلنا إلى الشيء
ذاته، ولاسيما أنهما يصفان معاً موصوفاً واحداً:
لا شرقية لا غربية
شجرة مباركة
فثمة تقريب حاد بين متضادين وهو ما عزز تنافرهما. بيد أن "التضاد
بنية دالة، وإن دلالتها ليست في معنى الكلمتين، وإنما في الربط بينهما،
وإنشاء نظام علاقات بين طرفي التضاد"( )، فللتنافر ـ إذن ـ مهام تنظيمية،
على العكس مما يوحي به ظاهره. وإذا استثمرنا ما ذكرناه آنفاً، حول نفي
الصفة عن الشيء بدلاً من سلبه إياها تماماً( )، فإن لا شرقية تلك الشجرة،
لا يعني ـ بالضرورة ـ أن تكون غربية، كما أن لا غربيتها لا يعني أن تكون
شرقية وبما أن نسبة الشيء إلى الغرب يعني انتهاء ضوء الشمس عنده، وابتداءه
في موضع آخر. أما نسبته إلى الشرق فتعني ابتداء ذاك الضوء عنده، وانتهاءه
في موضع آخر أيضاً. فإن عدم انضوائها إلى الشرق أو الغرب، يعني ديمومة
استزادتها من ذاك الضوء، وبلا انقطاع.
أما في قوله تعالى:
يكاد
زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار،
فإن الوصف يسجل انعطافة تركيبية ـ دلالية من تلك السلسلة الاسمية من
الصفات، ليتخذ النص وصفاً فعلياً هذه المرة للموصوف ذاته، كما يعززه بأكثر
من فعل. وإذا ما تنبهنا إلى أن هذه الجملة هي الأخيرة في هذا المثل
التعالقي، أدركنا البعد الدلالي الذي من الممكن أن تضفيه على الصورة
التعالقية، من خلال حركية أفعالها، الأمر الذي يوحي باستمرارية تنامي دلالة
النور حتى بعد انتهاء المثل، فكانت هذه النهاية، نقطة بداية جديدة لدلالة
النور.
إن إلقاء نظرة ذرية على هذا التركيب من شأنه أن يوصلنا إلى النتيجة
ذاتها. إذ إن أمامنا هنا جملتين متعالقتين، تجمعهما بؤرة تركيبية واحدة( )،
هي (الزيت)، وإذا أردنا التحديد قلنا: (إضاءة الزيت). لـهذا نرى أن ثمة
خلخلة في ترتيب الجملة الأولى، من خلال تقديم لفظة (زيت) على الفعل (يضيء)،
على الرغم من كونها فاعلاً لفعل آخر هو (يكاد)، الذي جعل الدلالة تتوسط بين
الإضاءة وعدمها. وكذلك هي الحال مع الجملة الثانية التي توسطت الدلالة فيها
بين مساس النار وعدمه.
وبعد انتهاء المثل يلجأ السياق إلى عبارة اختزالية هي
نور
على نور التي اختزلت ما ورد في هذه الصورة التعالقية الطويلة في ثلاثة
ألفاظ.
وأخيراً يتم إيراد بنية شرح، تفسر كل ما استغلق سالفاً:
يهدي
الله لنوره من يشاء،
فإذا كانت الصورة المثلية التعالقية قد وازت العبارة الاختزالية السابقة
لـها:
الله نور السموات
والأرض، الأمر الذي يجعلنا بإزاء جملتين إحداهما تفصيل للأخرى، فإن هذه
العبارة توازيهما معاً. إذ إن ارتباط الهداية بالنور يعزز تقصينا القرائي
هذا، فيكون الكفر ـ نتيجة لذلك قرين العتمة.
3 ـ التداخل الصوري:
ويتحقق هذا التشكل، عبر انصهار لأدوات صورتين في قالب صوري واحد،
حتى أنها تشترك في أحد الأركان، الأمر الذي يؤدي إلى اختزالها إلى ثلاثة،
يكون للركن المشترك والوسيط فيها سمة تغييبية:
يا
أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء
الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل
فتركه صلداً لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا والله لا يهدي القوم
الكافرين(
).
فمن الممكن إيضاح التداخل الحاصل بين الصورتين بالشكل الآتي:
إذ من الجلي انبناء هاتين الصورتين على ثلاثة أركان، عبر اشتراكهما
في الركن الوسيط، الأمر الذي جعل من الصعوبة بمكان فصل بعضهما عن بعض.
فما المسوغ الدلالي الداعي إلى هذا التشكل؟ ولاسيما إذا أدركنا
انفتاحه على باحة التساؤل: إذ كيف للذين آمنوا أن يشبهوا بالذي لا يؤمن
بالله واليوم الآخر أصلاً! ثم كيف للرياء أن يشبه بهطول المطر الذي يزيل ما
يشوب الحجر السقيل من تراب!
كل ذلك يحيلنا إلى البحث عن موطن التشابه بين هذه الأطراف التي يبدو
عليها التباعد، يمكننا أن نستشف من قراءة هذا النص الصوري قراءة فاحصة، أن
الركن المشترك بين هاتين الصورتين، المتمثل في
الذي
ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
قد أدى دوراً كبيراً في هذا التداخل الصوري، بوصفه نقطة تقاطع الصورتين مع
بعضهما. وإذا كان تداخل الصورتين قد تسبب في تراخ دلالي، فإنه ـ لا محالة ـ
ناجم عن الإبطاء الذي أحدثه دس هذا الركن المشترك بين ركني صورة متكاملة،
هما: المشبه (الإنفاق المصحوب بمن وأذى)، والمشبه به (صورة الصفوان). إذ إن
تغييب الركن الوسيط بينهما، من شأنه أن يحيل هذا التداخل الصوري إلى صورة
واحدة تامة، الأمر الذي يلغي التساؤلات التي طرقت أذهاننا أول مرة. ويؤدي ـ
من ثم ـ إلى تسارع دلالي ناجم عن ربط المشبه بالمشبه به بشكل مباشر ـ دونما
واسطة وبالشكل الموضح في أدناه:
إذ إن توجيه الخطاب إلى الذين آمنوا، أول الأمر، قبل انتقاله إلى ما
سوى ذلك يؤكد أن الانعقاد الصوري الحاصل هنا، كان موجها ًإليهم أساساً. أما
انعطافه إلى الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فكان لـه أثره في الفصل بين
صورة الصفوان وعائديتها إلى الذين آمنوا، محققاً صورة إطارية. وهو ما يدلنا
على أن الأسلوب القرآني قد قصد إلى التباطؤ الدلالي في هذا الموضع، من خلال
عدوله عن وصف الذين آمنوا وصفاً سلبياً مباشراً، ولجوئه إلى صورة داخلية
وسيطة، تخفف من وطأته.
وبهذا يمكن تنميط التصوير المتحقق عبر تقنية التداخل الصوري إلى
نمطين هما:
ـ أولاً ـ الصورة الإطارية: وتنبسط على مساحة رحبة تشمل صورتي التداخل معاً، من خلال انعقاد
التشبيه بين الطرفين المتباعدين في فضاء الصورتين، وهما مشبه الصورة الأولى
ومشبه به الصورة الثانية، لذا يبقى تحققها معلقاً لحين اكتمالها بنيوياً.
ـ ثانياً ـ الصورة المضمنة الناقصة: يتم فيها حقن الصورة الإطارية بركن فريد، في موضع حرج يتوسط بين
ركنيها الرئيسين، فيعزلهما عن بعض. محققاً كينونة صورية ناقصة، تتغذى من ذينك الركنين، عبر تمظهر مزدوج، يؤدي
إلى تشتيت الصورة الإطارية إلى شتيتين صوريين، لا يجتمعان إلا بها. فتكون
لـها ـ بذلك ـ مهمة تمويهية مضاعفة، من خلال اضطلاعها بمهام العزل
والاشتراك، في آن معاً. مستلهمة الإمكانات التي يهيئها لـها تموضعها في قلب
الصورة الإطارية.
إن استكناه هذين النمطين الصوريين، النابعين عن تقنية (التداخل
الصوري)، يقدم لنا تحققاً دلالياً مؤجلاً، من خلال تعليق اكتمال الصورة
الإطارية أولاً. وعدم اكتمال الصورة الداخلية ـ بذاتها ـ ثانياً.
فضلاً عن أن هذا التوظيف المضاعف لتقنية التشبيه، كان لـه دوره في
عدم التصريح بذلك المعنى المؤجل. إذ يفرض التشبيه تمايزاً واختلافاً بين
الحقيقتين، فلا يكون الشبه إلا في أجزاء منها"( )، فهو إذن لا يعطي للحقائق
المتشابهة المعنى ذاته، وإنما شبيهه فحسب، عبر تركيز المشبه به على نقاط
التقاء معينة.
ويحق لنا الآن أن نتساءل عن ماهية المعنى الغائب الحاضر في هذا
التصوير التشبيهي:
من الجلي تفاوت البعد الترميزي بين الصورتين. فقد كان انسيابياً
تجاورياً في صور المشبه به الأول:
كالذي
ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر،
إذ يكمن بعده الترميزي هنا لا في التشبيه ذاته، وإنما فيما يصاحب هذا
التشبيه دلالياً، فهو أقرب إلى المجاورة منه إلى الاستبدال.
أما في صورة المشبه به الثاني:
كمثل
صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً
فثمة طاقة ترميزية عالية، تمثلت في هذا الوصف الاستبدالي التام، الذي تم
استدعاؤه من حقل دلالي آخر هو (عالم الطبيعة).
لهذا نرى أن التضمين الحاصل عبر الصورة الناقصة، من الممكن أن يكون
ذا مهمة تمويهية مضاعفة، كما ذكرنا، إذ كانت النظرة إليه تتقوقع في الحدود
الهيكلية لاشتغال التشبيه الذي يتحقق ظاهرياً عبر صورتين منفصلتين،
تتداخلان في موضع معين. إلا أن نظرة أبعد غوراً إلى هذا التمظهر، بوصفه
مضمناً في إطار صورة أرحب، من شأنه أن يستثمر إمكاناته التجاورية تلك، التي
لا تخرج عن حدود الحقل الدلالي المقصود، فتصير ـ بذلك ـ هذه الصورة مفتاحاً
لفك شفرة الصورة الإطارية. ولاسيما أنها تتوسط بين طرفيها، فتؤدي إلى نوع
من التدرج الدلالي، عبر موازاتها الدلالية للطرف الأول، فالاثنان يسجلان
حضور الإنفاق وغيابه في الآن ذاته، مع بعض الاختلاف. فضلاً عن اجتماعها معه
في تشبيهها بالطرف الثاني (صورة الصفوان)، مع اختلاف آلية اشتغالهما.
فالطرف الأول للصورة الإطارية (ابطال الصدقة)، يحيل إلى تلك الصورة بشكل
غير مباشر، مروراً بهذه الصورة الناقصة المضمنة. أما هي فإن إحالتها إلى
صورة الصفوان تتحقق بشكل مباشر، ودونما واسطة، ما يجعلها أقرب إليه على
الرغم من اشتراكها مع الطرف الأول في اقترانها بالعالم الإنساني، الذي
يتخالف مع الطرف الثاني للصورة الإطارية (صورة الصفوان) قرين (عالم
الطبيعة). إلا أن موازاتها الدلالية للطرف الأول، وإحالتها المباشرة إلى
الطرف الثاني منحها مهام إيضاحية.
فالتداخل المتحقق في هذه الصورة، لم يقتصر على الجانب التقني. وإنما
تعدى ذلك إلى الجانب الدلالي، عبر التداخل بين عالمي الإنسان والطبيعة.
الأمر الذي كان لـه أثره الفاعل في التشكل الدلالي للنص.
فإذا ما عقدنا مقارنة بسيطة بين هذين العالمين، لمسنا إحالة (عالم
الطبيعة) إلى كل ما هو فطري. ومن ثم إحالة (عالم الإنسان) إلى ما هو غير
فطري أو (عقلي).
أما ما يخص (عالم الإنسان)، فإن اقترانه بعالم الطبيعة، يلزمه
بدلالة (العقلي). إلا أنه من الصعوبة بمكان استكناه ذلك في الركن الأول،
نظراً لارتباطه بالذين آمنوا، والبناء الثيمي يستلزم ارتكازه على ثنائية
ضدية. وبما أن (إبطال الصدقة)، لا يمتد ظاهرياً بذلك الضديد نظراً لارتباطه
بالمؤمنين. فقد صار للركن الإضافي، أو الصورة المضمنة الناقصة دور في الكشف
عن هذا الضديد. وبالشكل الآتي:
إن تحقق التشبيه بين إيذاء المؤمن بتصدقه، ومماراة الكافر بإنفاقه،
يجعلهما متعادلين دلالياً، على الرغم من انضواء كل منهما تحت قطب دلالي
مستقل. إلا أن كون الأول يمثل الجانب الإيجابي في قيمة سلبية أدى إلى تقارب
دلالي كبير بينهما.
وبهذا يكون التشبيه الأول في هذا التصوير قد حقق تداخلاً بين
الإيمان والكفر في نفس المؤمن المرائي، فبدلاً من أن تتحقق الإفادة من
التصدق، تحقق الإيذاء. وهكذا يكون التصدق قد كشف لنا عن حقيقة معينة.
أما (عالم الطبيعة)، فقد تجسدَ البعد الفطري لـه في صورة الصفوان،
عبر ثنائية (الحياة /الموت)، التي تخضع لـها كل موجودات الطبيعة. إذ ارتبطت
(الحياة) بالإنبات، الذي كان من المؤمل تحققه، من خلال اجتماع عنصري المطر
والتراب. أما (الموت) فقد ارتبط بالنتيجة العكسية لذلك الاجتماع، الذي أدى
إلى الكشف عن صلادة الصفوان، إذ ليس من المؤمل أن تدب فيه الحياة يوماً.
فثمة ـ إذن ـ حقيقة مغيبة ـ أسهم هطول المطر في الكشف عنها.
وبهذا يكون التشبيه الثاني الذي حقق تعادلاً بين عالمي الإنسان
والطبيعة هو التشبيه الرئيس، لاسيما إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار البعد
الترميزي العالي لـهذا التشبيه، فأين يكمن موطن التشابه بين العالمين؟
في كلتا الحالتين هنالك حقيقة مغيبة قد تم الكشف عنها، وبالشكل
الآتي:
ومن الجلي أن هذه الثيمة لم تند عما تقصيناه من قبل، والمتعلق بصورة
مثلية أخرى في سورة البقرة. وهو ما يعزز هذا الاستجلاء، ويؤكد انسراب كل
بناها عبر بؤرة دلالية معينة.
4 ـ التوازي الصوري:
يحمل مصطلح (التوازي) مدلولاً رحباً، نظراً لارتكازه على مبدأ
التماثل، مهما اختلفت تشكلاته، فهو ـ إذن ـ "عنصر هام، وعنصر قد يحتل
المنزلة الأولى بالنسبة للفن الأدبي (....) إن التوازي تماثل وليس تطابقاً(
). فهو أرحب من أن يحجم بحدود التطابق الصوتي للتكرار، على الرغم من كون
التكرار يمثل أحد تجليات التوازي الكثيرة. لأن كل تطابق هو تماثل، ولكن ليس
كل تماثل تطابقاً. فضلاً عن أن التطابق الصوتي الذي يوفره التكرار، بوصفه
أقصى تجليات التوازي، يؤدي إلى تنام دلالي هرمي، ففي اللغة الشعرية "تكون
الوحدات غير قابلة للتكرار، أو بصيغة أخرى، لا تظل الوحدة المكررة هي هي"(
) فالتطابق وإن تحقق على صعيد الصوت، فإنه ينتفي دلالياً، لذا فإننا "نقرأ
في المقطع (المكرر) المقطع نفسه وشيئاً آخر"( ) سواه.
وإذا تخطينا الحدود الضيقة للتكرار وصولاً إلى التماثل، وجدنا أن
تماثل البنى دلالياً يختلف بحسب موضعتها المكانية في النص، "إلى درجة يؤدي
معها كل تغيير في تلك الوضعية إلى تغيير كبير في المعنى"( ).
وبما أن الجانب الدلالي للنص، هو الذي يتحكم في تشكل كل مستوياته
الأخرى على شاكلة معينة، التي لابد من أن تكون رهينة بمعنى النص، ومسخرة
لخدمته، فقد كان التوازن "تنمية لنواة معنوية سلبياً أو إيجابياً بإركام
قسري أو اختياري، لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضماناً
لانسجام الرسالة"( ). ولم تند التشكلات الصورية السالفة على اختلافها ـ من
(صورة مفردة، أو تعالق، أو تداخل) عن باحة التوازي. بيد أن ارتباط التوازي
بالجانب الصوري، ضمن مصطلح واحد هو (التوازي الصوري)، يحتم أن يتحقق
التماثل بين أكثر من صورة مثلية مستقلة.
ولا مناص من الإشارة هنا، إلى أننا في الوقت الذي نلمس فيه حضوراً
فاعلاً لآي المثل.
القرآني في السور الواقعة في مستهل القرآن الكريم, نلمس خفوتاً
ملحوظاً لتقنيات التوازي الصوتي فيها, على العكس ممَّا عليه الحال في السور
الأخيرة. وربَّما يعود السبب إلى انشغال السور بالمسائل التشريعية أكثر من
مسائل العقيدة التي تستوجب ذاك التوازن الصوتي لغرض استقطاب الناس لعقيدة
جديدة.
من أجل ذلك لا نرى ضرورة لإلزام هذه الدراسة, بالانشغال بما ليس لـه
تواجد فاعل في التركيب البنائي للمثل القرآني الصوري, مدار البحث. كما أن
تقسيم التوازي على مستويات, يؤدي إلى تشظي الصورة المثلية إلى مدد متفرقة,
تبعدنا عن الجانب المجازي للصور المتوازية. ذاك الجانب الذي يتخذ تشكلين
هنا:
ـ التشابه الصوري.
ـ التخالف الصوري.
إذ إن التماثل المتحقق عبر (التوازي) لا يتمظهر عبر تشابه البنى
دلالياً فحسب, وإنما عبر تخالفها الدلالي أيضاً( ). شريطة أن تتماثل في
إحالتها إلى موضوع واحد:
أ ـ التشابه الصوري:
ويتحقق عندما نلمس تشابهاً دلالياً بين صورتين أو أكثر, في تصويرهما
للشيء ذاته, من خلال تتابع صور, تنعقد في إحالتها إلى مشبه واحد, فيتحقق
التوازي عبر الطرف الثاني للصورة, المتمثل في المشبه به, الذي يتواتر عبر
أكثر من تحقق, قبالة تحقق وحيد للمشبه.
ودرءاً للبس لا بدّ من التنويه باختلاف هذا النمط, عن (التداخل
الصوري), الذي كنا قد تناولناه آنفاً. إذ ليس ثمَّة تداخل صوري مرصود هنا,
لأنَّ وجود التداخل يقتضي أن يؤدي إلى تنازع صورتين على ركن واحد, أي أن
يكون مشبهاً به للأولى ومشبهاً للثانية, في الآن ذاته. أمَّا في (التشابه
الصوري) فعلى الرغم من وجود أكثر من تحقق للمشبه به, إلا أنه ليس ثمَّة
تنازع وظيفي داخلي عليه لأنه مشبه به فقط. وإن تواتره بأكثر من صيغة, يقتضي
تقدير المشبه في كل مرة, لتحوز الصورة الجديدة على استقلاليتها الجزئية.
وهو ما ليس من الممكن تحققه مع (التداخل الصوري), إذ من الصعوبة بمكان
تحقيق ذاك الفصل الصوري لأننا معه نكون بإزاء صورة واحدة محملة بركن إضافي
فحسب. الأمر الذي جعل (التشابه الصوري) يختلف عنه في إمكانية تمظهره عبر
أكثر من صورتين أيضاً.
والذين
كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتَّى إذا جاءه لم يجده شيئاً
ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب* أو كظلمات في بحر لجي يغشاه
موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يَدَهث لم يكد
يراها ومن لم يجعل الله لـه نوراً فما لـه من نور(
).
ثمَّة تمظهران صوريان متتابعان في النص قيد المناقشة, اختصّا معاً
في وصف مشبه واحد هو (أعمال الكفار). وقد تمَّ الفصل/الجمع بينهما عبر
(لو), التي كان لـها كينونة فاعلة, من خلال ما منحته للتحقق الصوري الثاني
من استقلالية, لما تحمله من دلالة التخيير, لا مجرد الجمع حسب. فتكون للطرف
الثاني ـ الذي تدخل عليه ـ مهام تعادل مهام الطرف الأول. وبهذا يحوز على
استقلاليته الجزئية, تلك الاستقلالية التي من الممكن أن يؤدي الجمع بـ(واو)
إلى تذويبها في الكل وتلاشيها تماماً. فيعمل هذا الانفراد الجزئي الذي نهضت
به (لو) على استدراج القارئ إلى تقدير المشبه في الذهن في التحقق الصوري
الثاني. وبها يكون التشبيه الحاصل في كل من الصورتين مقصوداً بالدرجة
ذاتها. تلك القصدية التي تتسع حتَّى تلغي معها دلالة تخيير القارئ في
انتخاب إحدى الصورتين.
إنَّ وجود التخيير بين العناصر النصية منتف تماماً, لأنَّ كل عنصر
لغوي, يستحيل بمجرد دخوله في النص إلى عنصر أسلوبي, يسهم في النهوض بذاك
التراكب الأسلوبي المعقد, مهما اختلفت درجة إسهامه, وإن الاستغناء عنه, لا
بد من أن يؤدي إلى اختلاف دلالي كبير.
وإذا كانت هذه هي حال العناصر الأسلوبية عامة, فالمسألة أكثر
تعقيداً مع البنى النصية الكبرى ـ كالصورة مثلاً ـ التي تنخرط ضمن (البنيات
التي لا تقبل أي تعويض) بحسب تعبير ريفاتير( ). فالقارئ ـ إذن ـ ليس حراً
بتاتاً, في انتخاب بعض تلك البنى دون بعض, إبان اضطلاعه بمهام البناء النصي
للمعنى, إذ عليه أن يأخذها جميعاً بنظر الاعتبار.
لهذا كان علينا إيلاء الصورتين ـ آنفتي الذكر ـ القدر نفسه من
الأهمية, ولا سيما أنهما متوازيتان دلالياً, لا في إحالتهما إلى المشبه
ذاته فحسب, وإنما في تشكلهما الداخلي أيضاً, على الرغم من اختلافهما
الظاهري.
فقد تمَّ اقتران دلالة النور بالظمأ في الصورة الأولى, من خلال ذاك
الألق الخادع للسراب أولاً, كما إنَّ السراب لا يرى ـ عادة ـ إلا في
الأماكن الطافحة بنور الشمس, البعيدة عن مظاهر الحياة, ولا سيما في
الصحارى, أو الطرق الخارجية. وبهذا يكون للنور هنا مدلول عكسي.
أمَّا في الصورة الثانية قد تمَّ اقتران دلالة العتمة بالغرق في
ظلمات البحر الهائج. وعلى ما يبدو فإن كلاً من النور والظمأ يتخالف دلالياً
مع العتمة والغرق. لأنَّ زيادة النور في الأولى أدت إلى انعدام الماء, في
حين إنَّ زيادة الماء وهيجانه في الثانية, أدت إلى انعدام النور. بيد أنهما
ـ في واقع الحال ـ متشابهتان, لأنهما تصفان معاً حالة واحدة, على اختلاف
صيغتيهما. وبالإمكان التمثيل لذلك بالشكل الآتي:
وبهذا تكون نتيجة كل من الصورتين سلبية. فليس ثمَّة تخالف بين هاتين
الصورتين, والتقابل المرصود هنا (تقابل إيهامي), وهو الذي يستثمر التضادات
الجزئية بين البنيات, التي تحمل ـ بالنتيجة ـ معنى واحداً.
ولا مناص من الإشارة إلى التوظيف العكسي لدلالة (الماء) في كلتا
الصورتين. إذ إنها تعني بالمطابقة( ):
(ارتواء, حياة, إنبات, خصب, تطهير, سباحة, رحلة,....)و وقد يتداعى
أو لا يتداعى في الذهن, دلالات كـ(السراب, الغرق), إلا أن تركيز السياق على
هاتين الدلالتتين المتضمنتين تحديداً, قد قلب التداعي تماماً, وخلق
(مفارقة), كانت أكثر وضوحاً مع الصورة الأولى, لأنها جسدت التناقض الذي
وقعت فيه الشخصية, وإذا ما أردنا تنميط هذه المفارقة, فإن نظرة جزئية إلى
الصورة بمعزل عن السياق الواردة فيه, بوصفها تصف حال شخص ظمآن خدعه ألق
السراب, قد يوهم بأنها مفارقة موقف, و"هي المفارقة الآنية, التي يخلقها ظرف
طارئ, أو حالة نفسية معينة, ولا تأخذ شكل القانون الثابت, أو الحقيقة
الراسخة"( ). ولكن المسألة ليست بهذه السطحية, ولا سيما إذا أخذنا المشبه
بنظر الاعتبار. وبهذا تكون صورة السراب هذه, وصورة البحر اللجي, قد تشاطرتا
معاً وصف أعمال الكافر في حياته كلها, وبيان النتيجة التي سيؤول إليها بعد
انتهاء حياته, تلك النتيجة التي لم يضعها في الحسبان. لذلك كانت المفارقة
المتحققة جراء هذا التوظيف, هي تلك التي تجسد التناقض بين الإنسان بنوازعه,
وبين ما يؤول إليه القدر, إنها ـ إذن ـ "انقلاب يحدث مع مرور الزمن"( )
تكون الشخصية غافلة عنه تماماً, ذلك الانقلاب الذي عرف (بمفارقة الحدث).
من الممكن رصد هذه المفارقة في الصورة الأولى من خلال تشبيه الغفلة
التي يقع فيها الكافر الظمآن, إبان سعيه الدائب إلى الماء, دون أن يدرك أنه
محض سراب. ونتساءل هنا هل من الممكن رصد هذه المفارقة في الصورة الثانية
أيضاً؟
من الواضح أن الصورة الثانية قد انطلقت من حيث انتهت الأولى, لأنها
جاءت في وصف النتيجة التي سيؤول إليها الكافر, في حين أن الأولى كانت قد
ابتدأت بما هو قبل ذلك بمدة زمنية تمثل حياة الكافر. الأمر الذي دعا البعض
إلى الاعتقاد بأن الأولى جاءت في وصف حال الكافر في الدنيا, والثانية في
وصف حاله في الآخرة.
إلا أننا نرى أن الجمع بينهما بـ(أو) أولاً, واضطلاعهما بمهمة
التشبيه بمشبه واحد ثانياً: يجعلهما ذواتي دلالة متشابهة. غير أن كل ما حصل
هو أنه كما حذف المشبه من الصورة الثانية, فإن بداية ذلك التشبيه قد حذفت
هي الأخرى, ليؤدي انتهاء الصورة التي قبلها بمصير الكافر, ثمَّ ابتداؤها هي
أيضاً بذلكَ المصير (الظلمات), إلى انصراف ذهن القارئ عن كل ما سواها.
وعلينا إذاً تقدير ذلك الجزء الذي يمثل حياة الكافر في الذهن, في
ضوء الصورة السابقة. التي كانت تمثل رحلة شاقة في فلاة مقفرة. فالصورة
الثانية لا بد من أن تكون رحلة شاقة في بحر هائج. وهنا ـ فقط ـ تكمن مفارقة
الحدث, لأنَّ الذي يقدم على ركوب البحر, وبالتأكيد سيكون هدفه الوصول إلى
شاطئ ما. ولكن رحلته تلك قد أدلت بنتائج عكسية, لم تكن في الحسبان. وبهذا
يكون الظلام المتجسد هنا مجاوراً لدلالة الكفر في المشبه.
ولا مناص من الإشارة هنا إلى أن تحقق التشبيه في الصورة الأولى عند
كلمة (سراب) من خلال اقترانها بالكاف مباشرة, أدّى إلى التركيز على دلالة
(النور الخادع) في هذه الصورة, ولا سيما أنَّ هنالك ما عزز دلالة الخداع في
سياق الصورة عبر مفارقة الحدث. أما الصورة الثانية, فقد أدّى تحقق التشبيه
عند كلمة (ظلمات) فيها, من خلال اقترانها المباشر بالكاف, إلى التركيز على
دلالة (العتمة) في هذه الصورة. وبهذا يكون الكفر مجاوراً لدلالتي العتمة,
والنور السلبي الذي هو في حقيقة الأمر ليس بنور.
وبعد هاتين البنيتين الترميزتين, تأتينا بنية تضطلع بمهام الشرع:
ومن
لم يجعل الله لـه نوراً فما لـه من نور,
فغياب النور إذن هو رديف الكفر, ووجوده رديف الإيمان.
وبهذا تكون الثيمة المستقاة هي ذاتها التي تمَّ استقصاؤها عبر مثل
آخر ضمن سورة النور.
ب ـ التخالف الصوري:
ويتحقق هذا النمط من التوازي الصوري, عندما نلمس تقابلاً دلالياً
بين صورتين أو أكثر, تضطلع كل منهما بمهمة وصف شيء مستقل عن ما تصفه
الأخرى, على الرغم من إحالتهما معاً إلى موضوع واحد, ويؤدي التقريب الحاد
بين بنيتين متقابلتين إلى تضارب دلالي على المستوى السطحي للنص, لكن لا بد
من ائتلافهما أخيراً ليتحقق (الانسجام) عبر المغايرة والائتلاف, لـهذا كانت
دلالة التضاد تكمن في الربط بين البنيتين "وإنشاء نظام علاقات بين طرفي
التضاد"( ).
ألم
تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء*
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل
كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لـها من قرار* يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين
ويفعل الله ما يشاء*( ).
ثمَّة بنيتان متقابلتان في هذا التصوير المثلي, جاءت الأولى في وصف
الكلمة الطيبة, أمَّا الثانية فكانت في وصف الكلمة الخبيثة, وقد جاء
تشبيههما معاً بشجرة, لكنها كانت شجرة طيبة في الأولى, وخبيثة في الثانية.
فتحقق التقابل عبر المشبه والمشبه به معاً.
إذ يتمثل التقابل الحاصل هنا بمسارِين ضديدين يلفهما موضوع واحد, هو
عالم الإنسان الذي من الممكن نمذجته إلى نموذجين رئيسين هما: (القوة)
و(الضعف). أمَّا القوة فقد أحالت إلى دلالات (الثبات, العلو, العطاء,
الاستمرارية). والضعف أحال إلى دلالات (الانقطاع, التخلخل, القلق, الضرر):
فكانت الشجرة الوارفة إذن, التي لا تنضب منافعها, رمزاً للكلمة
الطيبة, التي تنخرط ضمن مسار القوة, ولكن ما تلك الكلمة التي ـ على صغرها
بوصفها مجرد كلمة ـ قد حازت على هذه الدلالة الإيجابية الرحبة, من خلال
تشبيهها بشجرة سامقة؟ ويتكرر التساؤل مع الصورة الثانية, إذ ما تلك الكلمة
الخبيثة التي ـ على صغر حجمها ـ شبهت بشجرة أيضاً, ولكنها فاسدة هذه المرة؟
لقد تمَّ تعقيب هاتين البنيتين التصويريتين المكثفتين ببنية شرح,
أسهمت في إجلاء ما استغلق, تمثلت في
يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله
الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
إذ يرتبط الذين آمنوا بالصورة الأولى, أمَّا الظالمون ـ الكفار ـ فيرتبطون
بالصورة الثانية, لتنهضا معاً بتينك المتخالفتين. فكانت الكلمتان إذن,
كلمتي (الإيمان) و(الكفر):
إنَّ تقصّياً مستفيضاً للنص, من شأنه أن يحيلنا إلى الأثر الذي
أدّاه التشكل التركيبي في تحقق ذاك التخالف الصوري, عبر التخالف التركيبي
بين بنيتي الصورتين قيد الرصد, وعلى النحو الآتي:
فقد انشطرت الصورة الأولى المتمحورة حول (الكلمة الطيبة), إلى
تشكلين اندرجا ضمن دلالي واحد. إذ إنها اتخذت أولاً تشكلاً اسمياً, عبر
متتالية من الأسماء
أصلها
ثابت وفرعها في السماء,
أحال الجزء الأول منها إلى دلالة الاستقرار, وأحال الجزء الثاني إلى دلالة
العلو. وكان للثبات الدلالي الذي يوفره الاسم, أثره في تعزيز تلكما
الدلالتين, ولا سيما أن ثبات النبات هو السبب في تناميه وعلوه, واتجاهه من
ثمَّ نحو السماء. وهنا يتحقق التعادل بين العالمين الطبيعي والإنساني, إذ
إن الثبات هو السبب في اتصال الأخير بما هو سماوي دينامي.
ثمَّ تحقق هذه الصورة وعند قوله تعالى:
تؤتي
أكلها كل حين, انعاطفة تركيبية عبر انتقالها إلى الصيغة الفعلية, التي هي ذات
دلالة متحركة متنامية, وهو ما يعزز ما أحالت إليه الصورة أول مرة. ولذلك
فإن كلمة (الإيمان) تلك, اكتسبت ديناميتها عبر إحالتها إلى القطب الإلهي.
أمَّا الصورة الثانية المتمحورة حول (الكلمة الخبيثة), فقد تشكلت
تركيبياً من جملتين كذلك, الأولى فعلية, غير أنها ليست كسابقتها, لكونها
مكونة من فعل واحد ذي دلالة قطعية ـ اجتثت ـ, فهذا الفعل ينتهي بمجرد
تحققه, وهنا يكمن الفارق بينه وبين البدائل الممكنة, كأن يكون فرضاً, الاسم
المشتق من الفعل ذاته ـ مجتث ـ, لكونه لا يعطينا ذاك التحقق الومضي السريع
للفعل. كما أن هذا التقدم للجملة الفعلية كان سبباً في إبراز الفارق
الدلالي الذي يفصلها عن الجملة السابقة, المتموضعة في صورة أخرى.
وقد تمَّ ذكر الأرض هنا لكي يكتمل ذاك الفارق, عبر ربط هذا الجانب
الصوري بالأرض, على العكس من الجانب السابق, الذي تمَّ ذكر السماء فيه.
ثمَّ إنَّ الجزء الثاني من هذه الصورة, قد تمت صياغته بطريقة
انعكاسية:
ما
لـها من قرار. إذ إن انتهاء العبارة عند النقطة التي تبتدئ بها تركيبياً ـ
المبتدأ
قرار
ـ لا يوحي بنفي وجود القرار حسب, وإنما باستبعاد تحققه كذلك, عبر هذا
التأجيل المقصود لـه. ما يحيل إلى التزعزع والضعف, على العكس من الصورة
السابقة.
وبالمجاورة يستحوذ كل من هذين المسارين على الدلالات التي اضطلعت
بها الصورة التشبيهية التي ارتبط بها. فيرتبط (الإيمان) بذلك بـ(القوة), من
خلال إحالة صورته إلى الديمومة الإلهية. أمَّا (الكفر) فيرتبط بدوره بـ
(الضعف) الإنساني ـ الأرضي من خلال إحالة صورته إلى الزوال.
5 ـ التناوب الصوري:
ويرتكز هذا النمط الصوري على التناوب بين بنى متشابهة صورياً,
والتتابع بين بنى متخالفة. ويستمد من العامل الأول تراخيه في التحقق, ومن
العامل الثاني كينونته المعلقة:
مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم* الذين ينفقون أموالهم في
سبيل الله ثمَّ لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لـهم أجرهم عند ربهم ولا
خوف عليهم ولا هم يحزنون* قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله
غني حليم* يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق
ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب
فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء ممَّا كسبوا والله لا يهدي
القوم الكافرين* ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من
أنفسهم كمثل جنةٍ بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ
فطل والله بما تعملون بصير*أيود أحدكم أن تكون لـه جنة من نخيل وأعناب تجري
من تحتها الأنهار لـه فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء
فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون*(
).
ثمَّة أربعة تشكلات مثلية صورية اضطلعت بالنهوض بهذا النص, وإنَّ
إسبار النظر فيها, من شأنه أن يقودنا إلى التنويع الذي طرأ على بنية
التصوير, في كل تحقق لـه, قياساً على التحقق السابق, لأنَّ التتابع كان بين
بنى صورية متخالفة. وهو لا يعنينا قدر ذاك التناوب الحاصل بين بنى متشابهة,
لأنه يمثل النمط قيد الرصد.
وقد حقق هذا التناوب نوعاً من التقطيع الصوري, الأمر الذي استدعى
التتابع بين لقطات صورية مختلفة, ثمَّة قصدية معينة في ترتيبها على هذه
الشاكلة. ممَّا يجعل من هذا النمط الصوري يتخذ من تقنية (المونتاج) مجالاً
رحباً لتشكله.
فقد تناوب التواتر على هذه البنى, كل من صورة الصدقة الخالصة لوجه
الله بصيغتين مختلفتين, وإبطال الصدقة بصيغتين مختلفتين أيضاً. فتم التعبير
عبر هذا التناوب عن قطبين ضديدين. وقد تجسد الأول من خلال صورتين ارتبطتا
بالإنبات المضاعف ـ الحياة ـ, أمَّا الثاني فقد تجسد من خلال صورتين
أخريين, ارتبطتا بغياب الإنبات ـ الموت, وعلى النحو الآتي:
وإذا ما عدنا إلى دلائلية النص, فإننا نجد أن ارتكاز هذا النص على
ثنائيتي (الحياة/الموت), يأتي متزامناً مع هذا التراكب الشكلي, عبر ثنائيتي
(الاختلاف/المشابهة). إذ إن إيراد البنية الدلالة على الحياة أولاً, ثمَّ
اتباعها بما يدل على الموت, يقترن بإيراد الاختلاف الدلالي, وإعقابه
بالمشابهة اقتراناً وثيقاً, لأنَّ كينونة كل منهما رهينة بكينونة الآخر.
ممَّا يحيلنا إلى أن النص قد عبر تقنياً أيضاً عن تلك الثنائية الضدية, لأن
الاختلاف والتنوع والتغاير, هو ملمح من ملامح الحياة. أمَّا المشابهة بما
تحمله من دلالات الرتابة والسكون والخمول, فهي ملمح من ملامح الموت.
ولكن نظرة أبعد غوراً من شأنها أن تقودنا إلى أن التنوع الذي شهدته
البنيات قيد الرصد, عبر انشطارها الثنائي إلى قطبين طبيعي وإنساني, لم يكن
في حقيقة الأمر إلا توحداً, لأنَّ مصير المنفق, لا يتنافى فيها مع مصير من
يتبع إنفاقه بمن وأذى, وصورة الحبة التي تضاعفت, لا تتنافى مع صور الجنة
المحترقة, فجميع هذه الصورة المثلية لم تكن إلا تأكيداً على حقيقة واحدة,
هي ضرورة توافر عنصر الرغبة في استحصال رضا الله تعالى أو لا.
فثمة خيط محوري يجمع ذينك القطبين ـ الطبيعي والإنساني ـ يظهر بين
الفينة والأخرى, على شكل تشابه ظاهر متمثل بالتناوب الصوري, وعلى شكل تشابه
خفي متمثل بالتخالف الصوري. وبذلك يكون الغرض من الإنفاق هو التقرب من الله
تعالى.
وعلى الرغم من تعبير كل من هذه البنى, في ذاتها عن هذه الحقيقة, بيد
أن التنوع الذي شهدته في جملتها عبر انشطارها إلى إنسانية وطبيعية, لم يأت
فقط لغرض تسخير الصورة الطبيعية في خدمة الإنسانية, وإيضاح مضمونها, وإنما
أيضاً لما هو أرحب من ذلك, من خلال ضرورة اتحاد مكونات الكون من طبيعية
وإنسانية في إحالتها إلى الإله الواحد:
تشابه تخالف صورة الحبة التي أنبتت سبع سنابل
صورة أبطال الصدقات
الله تعالى
تخالف صورة الانفاق ابتغاء مرضاة الله
صورة الجنة المحترقة
6 ـ الانقلاب الصوري:
ويتم فيه تبادل المواقع بين كل من المشبه والمشبه به, من خلال
اضطلاع المشبه بالمهام الوظيفية الإيضاحية بدلاً من المشبه به:
قل
الله خلق كل شيء وهو الواحد القهار*أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها
فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع
زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال*(
).
للمثل الصوري قيد الرصد تشكل مباغت, إذ إن الصورة المرسومة تبدو في
أولها متآلفة مع ما قبلها, وكأنها تشكل معه صورة واحدة من صور خلق الله
التي تمَّ ذكرها قبل وضع حدود هذه الصورة:
...
قل الله خلق كل شيء وهو الواحد القهار*[أنزل من السماء ماء فسالت أودية
بقدرها فـ...],
إذ يبدو على الصورة المحصورة بين معقوفتين أنها تفصيل لما قبلها. بيد أن
الاسترسال القرائي من شأنه أن يقلب المسألة رأساً على عقب, لأنَّ وجود كاف
التشبيه بعد صورة إفرازات نزول الماء من السماء, وعند قوله تعالى:
كذلك
يضرب الله الحق والباطل,
استدعى إعادة ترتيب الأمور من جديد, من خلال الإجابة عن التساؤل الذي يقفز
إلى الذهن, نتيجة اتباع الحق والباطل بالكاف, وهو: مَن الذي شبه بالآخر,
الزبد الرابي وما يوقد, بالحق والباطل, أم العكس؟
ونظرة مقننة قد تقودنا إلى أن يكونا مشبهاً بهما, لاقترانهما بكاف
التشبيه. ولكن أليس من أخص خصائص المشبه به خاصة والصورة التشبيهية عامة أن
تزيل إبهاماً ما؟!
فلا بد من أن يتسم المشبه به إذن بسمات إيضاحية معلومة لدى الناس
على اختلاف أجناسهم وألسنتهم. ولا مناص هنا من وقفة أخرى, لأنَّ صورة الماء
النازل من السماء والذي يشق الأودية بسيل يحوي الزبد وما ينفع الناس معاً,
هي صورة مألوفة لدى كل الناس, وليست مجال جدال, حتَّى وإن لم يكونوا قد
رأوها عيانية, لأنها صورة في غاية البداهة وتلتزم التسلسل السببي. فعلى
الرغم من تتابع اللقطات عبر تنام داخلي, إلا أن الصورة بقيت محافظة على
سببيتها حتَّى نهايتها.
أمَّا الحق والباطل فهما نسبيان, فما هو حق لدى البعض, قد يكون
باطلاً لدى البعض الآخر, ولا سيما إذا تعلق الأمر بأمور العقيدة, إذ من
الواضح أن القرآن يخاطب في هذا التمييز الثنائي, الكفار الذين يؤمنون بعكس
ما هي عليه العقيدة الإسلامية. لذلك كان تقسيم الحق والباطل هذا, هو الذي
بحاجة إلى إيضاح بالنسبة لـهؤلاء الناس وليس العكس, بأن يكون الحق هو ما
ينفع الناس والباطل هو الزبد.
يمكننا الاستشفاف من ذلك أن ثمَّة انقلاباً صورياً مرصوداً في المثل
قيد الرصد, بأن يأتي المشبه به مقدماً ومجرداً من أداة التشبيه, التي اتصلت
بالمشبه المتأخر. وإن هذا الورود المؤجل للمشبه أدّى إلى أن يحقق المشبه به
تآلفاً مع البنية التي سبقت رسم الصورة, على العكس ممَّا سرت عليه العادة.
وفضلاً عن ذلك, فإن نظرة فاحصة إلى هذا التشكل, من شأنها أن تقودنا
إلى المساحة الرحبة التي شغلها التركيب الصوري للمشبه به, الأمر الذي فسح
المجال لتنام صوري واسع النطاق, قياساً بالحيز الضيق الذي شغله المشبه,
والذي جاء مؤلفاً من لفظتين فقط, يجمعهما حرف عطف, ليشكلا معاً جملة واحدة.
كما أنه جاء منحصراً أيضاً داخل حدود المشبه به, عبر تأطيره من أمامه ومن
ورائه بطرفين يؤلفان معاً المشبه به, وبذلك يغدو ذلك المشبه (الحق والباطل)
وكأنه جملة اعتراضية قصيرة, قطعت الانسياب الصوري للمشبه به.
فقد اتسم المثل الصوري قيد الرصد إذن, بتحقق مؤجل للمشبه, نتيجة
للانقلاب الصوري, فضلاً عن التأطير سالف الذكرَ. وقد أسهمت هاتان الخصيصتان
معاً في انزواء المشبه في ركن قصي, قبالة البروز اللافت للانتباه للمشبه
به. الأمر الذي كان لـه عظيم الأثر في التشكل الدلالي للمثل, من خلال
انشغال القارئ بصورة المشبه به المتنامية تلك, إلى درجة التفاعل التام الذي
يقود, من ثمَّ, إلى التسليم التام, حتَّى إذا تحقق ذلك جيء بالمشبه مندساً
بين ثنايا المشبه به, ولكن من دون أن يقطع سلسال التفاعل القرائي, إذ تتم
العودة إلى مبعث التفاعل والتسليم بعبارة, على الرغم من كونها متممة
لتركيبة المشبه به, بيد أن أعقابها لتركيب المشبه بشكل مباشر, وابتداءها بـ(أمَّا
التفصيلية), جعلها تغدو وكأنها تفصيل لـه, وعلى النحو الآتي:
كذلك
يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض. وهو ما تحقق فعلاً, ولكن بطريقة غير مباشرة, فبدلاً من أن تكون
العبارة: فأما الباطل فيذهب جفاء وأما الحق فيمكث في الأرض, تمَّ استبدالها
بعبارة أقل تقديرية, من شأنها أن تسهم في تفاعل المتلقي أكثر, ولا سيما أن
المخاطب هم الكفار, كما نوهنا آنفاً.
يمكننا الاستشفاف من ذلك أن مسألة العقيدة هي المقصودة هنا, الأمر
الذي يؤكده سبق المثل بقوله تعالى:
قل
من رب السموات والأرض قل الله قل أفأتخذتم من دونه أولياء لا يملكون
لأنفسهم نفعاً ولا ضراً. إذ إنَّ علاقة هذه الآية بصورة المثل تتمثل في أن نزول المطر
وجريان المياه واستفادة الناس أو عدمها, كل ذلك ممَّا يدخل تحت باب
(النصبة) في الفكر الإسلامي, إذ تصبح بموجبه كل موجودات الكون ليست إلا
إشارة لوجود الله تعالى بوصفه خالقها الأوحد.
والمخلوقات الطبيعية منها والإنسانية, تنقسم إلى نمطين:
(زبد/ ما ينفع الناس) و(أعمى/بصير). فتنوع المخلوقات وعدم استقرارها
على حال, يشير إلى وحدانية الله إذن. وبذلك ينقسم المثل الصوري قيد الرصد
إلى قطبين رئيسين هما (الخالق/المخلوق), أو بتعبير أدق إحالة المخلوق إلى
الخالق, وعبر مروره بالمراحل آنفة الذكر, وعلى النحو الآتي:
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
المبحث الثاني
الأواصر المكانية
لا مراء في ما يقتضيه بناء ما, من تساوق بين وحداته. بيد أن هذه
المسلمة الأولية ـ على بداهتها ـ تستلزم كثيراً من الإيضاح, إذ لا تكفي
النظرة الذرية التي لا تعدو الحدود الوهمية وصولاً إلى الخطاب, بوصفه
"وصلاً ممتداً"( ).
إذاً لا مناص من إدراك أن تلك البنى في تشكلها وصيرورتها, هي رهينة
بتشاكل على الصعيد النصي الأرحب, عبر تواشجها مع جاراتها في سياق معين. ليس
من شك فيما تمثله وجهة النظر البنائية هذه من نقلة موقعية خطيرة لماهية
التركيب النصي المتآلف الأطراف. من خلال الأخذ بنظر الاعتبار سيميائية النص
الناجمة عن "تحول جملة حرفية إلى إسهاب... مطول ومعقد وغير حرفي"( ).
فبدلاً من أن يتشظى الخطاب بين بنى متفرقة قدداً, يصبح جملة إنسابية واحدة,
تشكلها أجزاء متناغمة فيما بينها, ولهذا كان "وصف التوظيف السيميوطيقي لا
يتأتى عن طريق تحليل المكونات المعجمية والجملية, وإنما عن طريق البحث في
الخطاب بأكمله"( ).
من الممكن الاستشفاف من ذلك ضرورة توافر الخطاب على عنصر
(الانسجام)( ), من خلال انتقال التواشج الجملي إلى الصعيد الأرحب عبر عملية
اكتساب متبادلة, تلف كل أركان الخطاب. بيد أن ذاك الانسجام لا يستجلى إلا
بعد تقص لأغوار الخطاب, فهو ـ بوصفه سياقاً مؤسلباًـ "نموذج مقطوع بواسطة
عنصر غير متوقع"( ). فلا بد إذن من خلخلة تقطع خيط الانسجام, من خلال
الفجوة المتحققة "في وصل فكرتين لا تتوافران على أية علاقة منطقية بينهما"(
). الأمر الذي يغيب التتابع الوصلي في مسار متتالية النص, فيغدو التجاور
الخالق للصورة تجاوراً مكانياً ليس إلا. عبر استثمار إمكانات اللغة الشعرية
تحديداً, في سلب اللغة طابعها الزماني, لترتكز "على مجموعة من الجمل
المتجاورة, والتي تخلو من أدوات الربط, وتكون بمجموعها كاللوحة في الفن
التشكيلي"( ), ممَّا يذيب الحدود بين الأدب ـ بوصفه واحداً من الفنون
الزمانية التي تتخذ من التتابع اللغوي لسلسلة الكلام مادة لـها ـ مع الفنون
المكانية (التشكيلية) التي يكون ارتكازها أساساً على التزامن البصري
لوحداتها( ).
إنَّ تغييب الربط الزماني في اللغة الشعرية, من شأنه أن يضطلع بمهام
التشكل الصوري, لـهذا ليس من الممكن البتة التعامل مع تلك الموضعة المكانية
إلا بوصفها موضعة دالة, حتَّى لو بدت غير ذلك. فتموضع الجمل الصورية إذن
غير قابل للتغيير, وإن افتقدت الرابط الزمني فيما بينها, فتشكلها على نحو
ما, لم يأت عبثاً, وهو ما يقرر "وضعية محددة في الزمن (خطية الجمل
النحوية), وفي المكان (الترتيب المكاني على الصفحة المكتوبة) إلى درجة يؤدي
معها كل تغيير في تلك الوضعية إلى تغيير كبير في المعنى"( ).
إذاً لا بد من ارتباط دلالي ما, يلم شتات تقطيع خيط الخطاب, ليستحوذ
بذلك على شرعيته, إذ "من المحال تصور انفصال نحوي, دون أن يكون لـه نصيب من
الانفصال الدلالي"( ). فليس ثمَّة انفصال مجاني التحقق, فهو ـ في أي حال من
الأحوال ـ مرتهن بالموضوع, ولا سيما إذا كان "متعدد المراحل, أو متغير
الأشكال, أو متشعب الأجزاء. فإنه يحتاج إلى عدة جمل أو مفردات لبسطه,
والإحاطة به. وبطبيعة الحال ستترابط هذه الجمل, برباط معنوي واحد, وهو وحدة
الموضوع, الذي تدور حوله"( ).
بيد أن التماس تلك الوحدة, التي من شأنها أن تحيل هذه الأجزاء التي
تبدو متنافرة أول وهلة, إلى نسيج في غاية الائتلاف والتآلف, يتحقق عبر
التقدم القرائي, للمسار التطوري لمتتالية الخطاب, إذ "إن الانقطاع يقطع خيط
الخطاب, إلا أن هذا الخيط يمكن ـ رغم اللفظ المنقطع ـ جبره ووصله بما بعده:
الانقطاع يصبح إذن, في هذه الحالة عنصراً غريباً في جسد يحافظ على الرغم من
ذلك على وحدته"( ).
وهنا لا مناص من التنويه بإمكانية تحقق (الانقطاع) عبر مسربين
رئيسين هما:
ـ الداخلي الجزئي: ويتموضعَ بين الجمل, أو بين الألفاظ داخل الجملة
الواحدة.
ـ الخارجي الكلي: ويتموضع بين البنى النصية الكبرى كالصورة والفقرة
واللقطة.
وإننا لنجد معالجات مستفيضة لكل من هذين المسربين في آليات اشتغال
البلاغة على رقعة النص الأدبي, عبر استثمارها للحس القرائي, الذي يرتهن به
التركيب النحوي, الذي "أعط العهد بأن يلتزم بالعلاقات الدلالية, ولذلك كان
سبيله في الاستعمالات المجازية, أن ينشئ علاقة دلالية جديدة معقولة, لتحل
محل العلاقة الدلالية المهدرة"( ):
1 ـ الانقطاع الداخلي الجزئي:
وهو ما نجده تحت باب (الفصل والوصل), الذي عد من أهم أبواب بلاغة
الكلام, لأنَّ القارئ العربي "كان يتوقع الوصل حين لا يجد وصلاً, ويبحث عن
الفصل حين يفتقده, وكان يفاضل بين رابط ورابط, حتَّى يستقيم الشكل مع
المضمون"( ). وهذا ما تؤكده كل كتب البلاغة التي نظرت لـهذه التقنية
الأسلوبية, ولا سيما (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني, الذي لقي فيه
مصطلح (الفصل والوصل), استقراراً واتساعاً كبيراً( ).
فعلى الرغم ممَّا يبدو على هذا المصطلح من اقتصار على العطف وعدمه,
فإنه قد عالج قضية تواجد الوصل عند غياب العطف أيضاً, إذ إنه "حدد سبب ترك
العطف بأنه يكون, أمَّا (للاتصال إلى الغاية), وهذا ما سمي بـ(كمال
الانفصال). وحدد سبب العطف لما هو واسطة بين الأمرين, وكان لـه حال بين
حالين, وهذا ما سمي بعد ذلك بـ(التوسط بين الكمالين)"( ).
بوصف العطف لا يحقق اتحاداً تاماً بين المتعاطفات, فإن أدوات العطف
الرابطة بينها, لا تعدو أن تكون حواجز السنية, لا تسمح لسياقاتها التركيبية
أن تختلط. وهو ما أشار إليه عبد القاهر في قوله: "وجملة حالها مع التي
قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله, إلا أنه يشاركه في حكم ويدخل معه في
معنى, مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً, أو مفعولاً, أو مضافاً إليه, فيكون
حقها العطف"( ). ومن ثمَّ فإن الوصل المتحقق جراء غياب العطف قد يكون أوثق.
وبهذا يصير من المسلم به "أن قانون (الفصل والوصل) لعبد القاهر صالح
للتطبيق على النظام التركيبي للجملة العربية في كل أحوالها, وليس على عطف
الجمل فحسب"( ). ولا تكون البلاغة في دراستها للوصل قد اقتصرت بذلك على
العطف, فقد يؤدي العطف إلى (كمال الاتصال), كما أن وجود العطف يؤدي إلى
العزل بين المتعاطفات وعدم اتحادها اتحاداً تاما. وهي بذلك تكون قد سبقت
الألسنية الحديثة, فيما ذهبت إليه بأنه: قد "يقوم تماسك النص على ما يعرف
بالفصل (...) مثلما يقوم على الوصل أو العطف"( ). وكذلك ما أشارت إليه حول
اجتراحها مصطلح (القِران), لإبراز الجانب الوصلي في الفصل, وهو ما يتجلى في
قول أحدهم: "رغم أن البلاغة التقليدية أطلقت اسم الفصل على حذف الرابط,
فإننا نعتبر القِران الشكل العادي للوصل"( ). فقد تمَّ تعميم مصطلح (الوصل)
فيها, ليكون الفصل أو غياب العطف أحد تشكلاته.
وقد وجد في البلاغة العربية مصطلح آخر نافس الوصل في تحقيق الربط
دونما اشتراط العطف وهو (التضمين), وفيه "يكون الفصل الأول مفتقراً إلى
الفصل الثاني, والبيت الأول محتاجاً الأخير"( ). وقد سبق لنا أن ذكرنا أنه
ينقسم على: تضمين اقتضاء, وتضمين إسناد( ). إذ يرتبط الاقتضاء بالتالي
قرائياً, من خلال افتقار الأول إلى الثاني. والإسناد بالسالف قرائياً, من
خلال ارتباط الثاني بالأول( ).
وينسرب الانقطاع الداخلي ـ الجزئي صورياً عبر مسربين صوريين هنا:
المجاورة المكانية, والمشابهة المكانية:
أ ـ المشابهة المكانية:
وتمثل تحقيقاً للترابط بين وحدات, يفترض أن يؤدي التقصي القرائي إلى
استجلاء تشابهها في مواطن معينة, إلا أن تغييب أواصر المشابهة الزمانية ـ
أدوات التشبيه ـ أدّى إلى أن يغدو الترابط المتموضع بينها ترابطاً مكانياً,
ليس إلا, وهو ما تجسده تقنية (الاستعارة) ومثيلاتها من تقنيات محور
المشابهة, بوصفها تضطلع بمهام تعطيلية نسبياً للمعنى، بسبب المنافرة
المتحققة جراء قطعها للانسياب النصي, ممَّا يحقق تنبيهاً أسلوبياً, عبر
"إبراز العناصر المثبتة بإدخال لفظة غريبة على تجانس السياق"( ). الأمر
الذي يستدعي قراءة مضاعفة, لا تقف عند الحدود السطحية, وإنما لا بد لـها من
اكتشاف الثيمة الثاوية في باطن النص, والمتحكمة في تشكله على شاكلة معينة
دون سواها, ليستحيل بذلك ما بدا غريباً ومتنافراً أول وهلة, في غاية
الائتلاف والألفة. لـهذا كانت الاستعارة "المستوى الثاني لكل صورة, اللحظة
الثانية لآلية تظل هي نفسها في كل مكان (...) التي يكون أحد مستوييها
متغيراً, والآخر ثابتاً"( ). وبعبارة أخرى: فإن الحقيقة الثابتة تتحقق على
المستوى الحضوري للّفظ, بما يحمله من طاقة إيحائية عالية. أمَّا ما سوى ذلك
من تمظهرات قرائية تنبري عن القبض على الطرف الغائب في الصورة, فإنها تختلف
باختلاف الخلق الإبداعي أولاً, والخلق القرائي ثانياً, وهنا تكمن نسبيتها
"لأنها تعكس رؤية مبتدعها (الفردية الخالصة), كما أنها نسبية من حيث أن
متلقيها يدرك مشابهاتها بحسب تجربته الشخصية مع محيطه العام"( ), فتلقي
الاستعارة إذن مرتهن "بثقافة ما, وبكيفية اقتطاعات تلك الثقافة للعالم"( ).
وهو ما يفتح الباب للتعددية القرائية الناجمة عن "الصيرورة الاستبدالية
والتعويضية, التي (تلحق) بالدال, فتدفع به إلى مغامرة زاخرة بالاحتمالات"(
).
بيد أن هذه الاختلاف القرائي في أي حال من الأحوال, لا يمكن أن يكون
مجانياً, فلكي تحوز الاستعارة على شرعيتها القرائية, لا بد لـها من أن تنم
عن عنصر (الانسجام). لا بل إنها تعد "ضامنة لانسجام مكونات أجزاء النص,
بربط مفاهيمه وجمله وفقراته"( ) مع بعض.
ويكمن عنصر (الانسجام) الذي توفره الاستعارة ومثيلاتها, في كونها
تتطلب من القارئ, البحث عن أواصر المشابهة الغائبة ـ الحاضرة في النص,
فتكون بذلك عقداً أسلوبية تقوي خيط الخطاب, لأنها تتخلى عن جاهزية المعنى,
وما فيه من إهدار للطاقة المعنوية المكثفة التي يضفيها المجاز, فالاستعارة
الحسنة "هي التي توجب بلاغة بيان لا تنوب منابة الحقيقة, وذلك أنه لو كان
تقوم مقامه الحقيقة, كانت أولى به"( ).
وفضلاً عن ذلك فإن عنصر (الانسجام) من شأنه أن يتحقق عبر رصد
التعالق الاستعاري الناجم عن تتابع الاستعارات في النص, إذ على القارئ "أن
يفترض أن هناك استعارة أمّاً, واستعارات متفرعة عنها, تتوالد عنها استعارات
أخرى إلى نهاية النص"( ). وعنصر الانسجام يتجلى في الكشف عن تعالق تلك
الاستعارات مع بعض, أي الكشف عن مكمن الترابط بينها( ). ويتصدر (ريفاتير)
قائمة النقاد في اضطلاعه بدراسة مستفيضة لميدان التعالقات الصورية, إذ إن
توالي الإجراءات الأسلوبية بحسبه, يؤدي إلى الوصول إلى درجة الإشباع, التي
يفتقد معها استشعار التضاد( ). ويتميز هذا الإجراء الأسلوبي عن إجراء آخر,
تتم فيه العودة إلى سياق النص.
أمَّا عن ورود الاستعارة في سياق المثل القرآني, فعلى الرغم من كثرة
انطواء الأمثال القرآنية على الإجراءات الاستعارية, بيد أنها تبقى جزئية
التحقق, لاندراجها تحت ظلّة المثل القائم على تقنية التشبيه غالباً. أمَّا
عن الأمثال القائمة أصلاً على تقنية الاستعارة, فمن الصعوبة بمكان
استحصالها, ويعود السبب في ذلك إلى الغاية الإيضاحية من ضرب المثل التي
تجعله ينحو إلى الإجراءات الأسلوبية التي تخدم هذه الغاية. أمَّا الأمثال
القرآنية النادرة القائمة أصلاً على تقنية الاستعارة, فإن توظيفها لم يأت
إلا لغاية دلالية اقتضاها موضوع المثل ذاته.
إنَّ
الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لـهم أبواب السماء ولا يدخلون
الجنة حتَّى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين(
).
ثمَّة مفارقة حادة مرصودة في النص قيد المناقشة, ناجمة عن ذاك
التوظيف المضاعف لـهذه التقنية في موضع واحد يتمثل في التجاور الحاصل بين
بنيتين يبدو عليهما التباعد. ولا سيما أن هذا التجاوز قد تحقق عبر أداة
انبرت عن تشكل مفارق, وهي (حتَّى) التي تنطوي على معنى تعليقي, من خلال
تعليق حصول البنية الأولى (دخول المكذبين بآيات الله الجنة), بتحقق البنية
الثانية (ولوج الجمل في سم الخياط), ونتساءل هنا عن مكمن الترابط بين هاتين
البنيتين حتَّى يتم هذا التجاور التعالقي بينهما!
على ما يبدو ليس ثمَّة أدنى رابط منطقي يجمع البنيتين, فأولاهما:
تمثل أمراً جللاً في غاية الخطورة والأهمية, وهو تعلق دخول ذاك الحشد الآثم
من البشر الجنة. أمَّا ثانيهما: تمثل أمراً ـ على غرابته ـ فهو عديم
الأهمية, لكونه قد جسد دخول الجمل في سم الخياط. والجمل: حبل شديد السمك,
لأنه "يستعمل في الصحراء لربط أرجل الإبل لكي لا تشرد, وهو يستعمل في مناطق
البحار لشد السفن والزوارق لكي لا تدفعها الأمواج وهي راسية"( ). أيضاً.
أمَّا سم الخياط, فهو الثقب الصغير للإبرة.
وبهذا تمثل بنية الصورة الثانية أمراً لا يلتفت إليه أحد لشدة
بداهته, وعدم أهميته. فليس من الممكن أن يتعلق حصول ذلك الأمر الخطير بأمر
صغير كهذا, وهو ما يدلنا على أن التجاور الحاصل هنا, كان تجاوراً مكانياً,
ليس إلاّ. كما أن التعليق الحاصل بين بنيتي الصورتين منتف أصلاً, نظراً
لاستحالة تحقق الصورة الثانية, وبهذا تتجسد المفارقة أيضاً من خلال هذا
التعليق المستحيل. لا بل إنَّ عدم تحققه يعد من الأمور البديهية, الأمر
الذي يحيلنا إلى تنميط هذه المفارقة ضمن ما اصطلح عليه بـ(الحشد
الانقلابي), الذي يتمثل في تقديم مبررات من شأنها أن تؤدي إلى نتائج غريبة
إمَّا لكونها في غاية البداهة, أو لكونها غريبة فعلاً( ). ولكن لا بد من
قراءة أخرى تسهم في انتفاء المفارقة من خلال ملء الفجوات القرائية التي
ولدتها, والتي تنخرط جميعاً عبر ذاك التعليق الحاصل بين بنيتي الصورتين, لا
من خلال تعليق أمر مهم بأمر صغير ومستحيل التحقق حسب, وإنما من خلال عدم
وجود رابط بين الصورتين, اللتين تنتمي كل منهما إلى حقل دلالي مستقل تماماً
عن الأخرى أيضاً.
إلا أن إسبار النظر في هاتين البنيتين من شأنه أن يحيلنا إلى أن
ثمَّة خدمة دلالية اضطلعت بتقديمها البنية الصورية الثانية على الأولى,
لتكون الصورة الأولى التي تتمثل بانغلاق أبواب الجنة بوجوه هؤلاء المكذبين,
هي البنية الصورية الرئيسة التي سخرت الثانية لأجلها. إذ إن الصورة الأولى
لم تحمل بذاتها دلالة (امتناع دخول الجنة), التي منحها إياها ورود البنية
الصورية الثانية, عبر الاكتساب الدلالي الناجم عن تجاورهما المكاني. وبذلك
تكون دلالة الامتناع متحققة في الصورة الثانية التي سخرت لخدمة الأولى. فإن
إحالة الصورة الرئيسية الأولى (انفتاح أبواب الجنة ودخول المكذبين الجنة)
إلى دلالة الامتناع, لم يأت بشكل مباشر, وإنما عبر استثمار ما وفرته الصورة
الثانية لـها دلالياً, وبالشكل الآتي:
ولا بد لنا هنا من التساؤل لمَ لم يتم التعبير عن دلالة الامتناع
هذه, بشكل مباشر ودون اللجوء إلى صورة الجمل هذه.
لا بد أولاً من استقصاء الصورة الثانية لأجل القبض على السبب الداعي
إلى هذا التمظهر.
إن دخول الجمل في سم الخياط, أو حبل الغليظ في ثقب الإبرة الصغير,
من شأنه أن لا يتحقق إلا بعد تهتكه وانفراطه إلى خيوط متقطعة ومتفرقة.
وبهذا يكون قد تلاشى تماماً. وسط ذاك الضيق الذي يمثله ثقب الإبرة. وبما أن
الصورتين متجاورتان مكانياً قد تمَّ اكتساب دلالة الضيق هذه, وانتقالها إلى
صورة دخول أولئك المكذبين إلى الجنة عبر أبواب السماء, الذي أصبح مستحيلاً,
بعد ذاك الاكتساب الذي ضيق من رحابة أبواب السماء, إلى ما يعادل ثقب الإبرة
لديهم, وإن ضيقاً كهذا لا بد من أن يحيل إلى نوع من الانحباس, وعدم النفوذ.
ذاك الانحباس الذي تعزز بتوظيف هذا النوع من الحبال للاضطلاع بهذه الدلالة,
إذ على غلظه, فإن الغاية من وجوده أصلاً هي التقييد, لغرض انحباس الحركة,
وعدم الولوج في الصحراء أو الماء. فقد تحقق معنى الامتناع إذن عبر دلالات
(الضيق, الانحباس, التقييد, التلاشي), وعلى النحو الآتي:
فيكون بذلك الكفر معادلاً لامتناع الولوج, عبر الاكتساب الحاصل من
هذا التجاور. ولكن امتناع الولوج ـ الدخول في الجنة, يستدعي بالضرورة
دخولهم في النار, بوصفه العقاب المعروف للكفار, وهنا لا بد من أن نتساءل عن
تغييب عقاب النار ذاك بنيوياً, والاكتفاء بالإشارة إليه, عبر ذكر مسألة عدم
دخولهم الجنة, التي قد تبدو أقل إيلاماً أول وهلة؟
بيد أن هذا الإيراد لا بد من أن يحيلنا إلى أنَّ عدم دخول الجنة هو
عقابٌ في ذاته, لا بل إنه أشد تأثيراً في نفس إنسان الدنيا, الذي يعاني من
اغترابه عن عالمه الدنيوي, وتوقه الدائم إلى عالم آخر يستطيع فيه تحقيق كل
رغباته, حتَّى يقف الزمن لديه عند تلك اللحظة, لتمتد مشكّلة حياة مستمرة,
لا يطارده فيها شبح الموت أو الهرم( ).
يا
أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنَّ بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا
يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله
إنَّ الله تواب رحيم( ).
ثمَّة تعطيل لكل أواصر المشابهة الزمانية, ليغدو تجاور المثل مع هذا
التراكب النصي تجاوراً مكانياً ليس إلا, والطريف أن هذا التوظيف التقني قد
حقق عبر هذا الحضور المكاني حضوراً استبدالياً قائماً على تقنية
(الاستعارة), القائمة على عنصر الإسناد المتحقق عند قوله تعالى:
أيحب
أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً,
وهو ما حقق مفارقة لفظية عبر طرح تساؤل تعد الإجابة عنه من المسلمات, فمن
ذا الذي يحب أن يأكل لحم إنسان ما, ولا سيما إذ كان ذاك الإنسان هو أخاً
لـه أولاً, وميتاً ثانياً! فقد تمَّ التعارف على دموية من يقوم بمثل هذا
الفعل على وجه الحقيقة, الأمر الذي يجعل من استخدام هذه الصورة في غاية
البشاعة والدموية! بيد أن السياق يسلب القارئ حتَّى حق الإجابة عن ذاك
السؤال البدهي, ممَّا دعا إلى تنميط الاستفهام المتحقق هنا بوصفه استفهاماً
إنكارياً. والاستفهام الإنكاري هو أحد تجليات (المفارقة اللفظية), التي
فيها "يقول صاحب المفارقة شيئاً من أجل أن يرفض على أنه زائف"( ).
وإذا ما حاولنا قراءة تلك المفارقة من جديد, في ضوء ما ذكر, وجدنا
أن الإسناد الناجمة عنه, لم يتخط آليات قواعد اللغة, إلا أن ثمَّة منافرة
إسنادية بين الفعل الإيجابي (يحب), وبين ما لحق به من معنى سلبي
...
يأكل لحم أخيه ميتاً,
فثمة فجوة سريعة متحققة جراء هذا الإسناد المباشر, ولكن نفي هذه المفارقة
يقتضي أن يكون المسند فيها ممَّا يمكن إسناده إلى المسند إليه, وهو ما لا
يستجلى من المعنى الحرفي المعجمي, وإنما من القدرة على تفكيك السنن للوصول
إلى المعنى الممكن, من خلال تخطي المدلول الأول للعبارة إلى مدلول آخر.
إنَّ التجاور المكاني لـهذا التصوير الاستعاري مع ما قبله أولاً,
وإيراده بصيغة الاستفهام الإنكاري بعد سلسلة من النواهي, جعله مقترناً
تركيبياً ودلالياً مع ما قبله. فلا بد من نوع من التعادل يهيئه هذا
التوظيف. وإذا كان قد سبق بثلاثة نواه تقريرية, فنتساءل هنا: هل تحقق هذا
التعادل الصوري معها جميعاً, أم مع ما يجاورها منها وحسب؟
لا بد لأجل معرفة ذلك, من تفكيك لسنن الصورة, مراعين في ذلك لوازمها
الدلالية. وعند ذلك سنلمس ذاك التعديل في التركيب المجاور لـها مباشرة
وبالشكل الآتي:
البنية الحقيقية البنية الصورية
الاغتياب عن طريق الفم الأكل عن طريق الفم
في الاغتياب انتقاص معنوي في الأكل انتقاص حقيقي
المغتاب لا يستطيع الدفاع عن نفسه لغيابه الميت لا يستطيع
الدفاع عن نفسه لغيابه الدنيوي
فكما يختلط هذا الطعام بما هو محرم, يختلط الكلام بالمحرمات أيضاً.
الأمر الذي يؤدي إلى اختلاط الإيمان في قوله تعالى:
يا
أيها الذين آمنوا, بما بعده من نواه محرمة تندرج جميعاً ضمن دلالة (الإيذاء), وهو ما
يتنافر مع حقيقة المؤمن, بيد أن اللفظة الأخيرة التي انتهت عندها الصورة
فكرهتموه كفيلة بإزالة ذاك التنافر. لتتم على وفق ذلك إعادة ترتيب الأمور من
جديد. فهذا التساؤل الصوري ليس تساؤلاً بقدر كون إجابة, أو تبريراً غير
مباشر لقوله تعالى:
ولا
يغتب بعضكم بعضاً
من خلال رسم صورة مقززة, تجعل الذات تنفر من الأصل الاغتيابي الذي ضربت
لأجله. ولمزيد من التفصيل نقول:
إنَّ ثمَّة إشارة غير مباشرة في الصورة قيد الرصد إلى العقاب
الآخروي, إذ إن سوقه بطريقة الأسلوب الاستفهامي, كان كفيلاً في إخفاء
الطابع الإرشادي للنواهي السابقة, الذي كان سيبدو منفراً لو ختم بسوق مباشر
لطبيعة العقاب. فكانت هذه الطريقة أكثر إيلاماً وتأثيراً. وبهذا يكون القطب
(الآخروي) قد أسهم في إعادة ترتيب ما هو (إنساني). الأمر الذي يبدو أكثر
جلاء عند العبارة الأخيرة المباشرة:
واتقوا
الله إنَّ الله تواب رحيم,
ففي حين تمت الإشارة إلى العقاب بطريقة التساؤل الصوري, ودون ربطها الصريح
بالله, تتم الإشارة إلى الإثابة الإلهية بطريقة تقريرية مباشرة.
نستنتج من ذاك, أن الثيمة الحقيقية قد اكتسبت دلالة مهمة عبر
مجاورتها للبنية الصورية لـ(آكل لحم الميت), هي أن الإيذاء الذي كان موجهاً
للآخر ـ الاغتياب ـ, صار موجهاً للذات ـ أكل لحم الميت ـ. ومن هنا تحيلنا
هذه الصورة إلى ربط الإيذاء بالإنساني, في حين أن البنية التقريرية التالية
لـها تحيل إلى ربط الإفادة بالإلهي, بوصفه يمثل الخلاص الحقيقي.
ب ـ المجاورة المكانية:
وتتحقق عندما يكون التموضع المكاني للتقنيات الأسلوبية داخل النص,
تموضعاً طبيعياً وتلقائياً لدرجة تجعل منها عسيرة على الرصد, في القراءة
الأولى. نظراً لاشتغالها باتجاه معاكس لتقنيات المشابهة, فهي تحقق الانسجام
في البنية السطحية للنص, لأنَّ التتابع السياقي يعزز الدلالة المعجمية,
ممَّا يؤدي "إلى تجانس السياق اللغوي, إذ لا تقدم درجة عدم التوقع التي
يقدمها عنصر غريب عن هذا التجانس"( ), كما في تقنيات المشابهة من استعارة
وتشبيه, التي لا تتحرك ضمن تطابق الدلالة العامة للكلمة. فهي تنحو إلى
اللجوء إلى كلمة مختلفة ومشابهة في الآن ذاته, فسرعان ما يشعر القارئ ـ عند
تواجدها ـ بأن جسماً غريباً قد دخل جسد النص, لذلك لا بد من قراءة ثانية
ليتحقق الانسجام في البنية العميقة للنص. والأمر مختلف تماماً مع تقنيات
المجاورة, لأنها تعمل "ضمن الوحدات المعنوية الداخلية للكلمة"( ), وبهذا
تكون هذه التقنيات استبدالية أيضاً, إلا أن خاصيتها الاستبدالية, تبقى
محايثة, وضمن لوازم الكلمة ذاتها وتداعياتها. ولذلك كانت هذه الخاصية أكثر
جلاء مع تقنيات المشابهة, التي تحقق استبدالاً خارجياً وتاماً.
ولا مناص من الإشارة هنا, إلى أن خفوت الخاصية الاستبدالية مع
تقنيات المجاورة من (كناية, ومجاز مرسل, وتورية( ), لا يقلل من طاقتها
الأسلوبية الجمالية, لكونها قد استعاضت عن هذا الخفوت بطاقة أسلوبية ناجمة
عن اشتغال معكوس. تلك الطاقة التي طالما تمَّ إغفالها, نظراً لتمركز
الدراسات الأسلوبية حول الانزياح المتحقق جراء الاستعارة, ونظيراتها, التي
ينطبق عليها ـ تماماً ـ كلام ريفاتير وسواه من الأسلوبيين: بأن في القراءة
الاستكشافية ـ الأولى ـ للنص, تبدو كل وحداته متنافرة ومتضاربة مع بعضها,
والثانية التأويلية وتحيل إلى تآلف تلك الوحدات وانسجامها( ). إلا أننا
نلاقي صعوبة في تطبيق ذلك على تقنيات المجاورة, فليس ثمَّة تنافر مرصود
معها, في البنية السطحية للنص. وبهذا تضطلع القراءة الثانية بمهمة مزدوجة,
إذ لا بد من انتفاء التنافر, في الوقت ذاته لتحققه فيه, وفي البنية العميقة
للنص تحديداً, من خلال أخذ كل وحدات النص بنظر الاعتبار. فشعرية المجاورة
تكمن في ائتلافها الظاهري, ومنافرتها وائتلافها الداخليين:
يا
أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا لـه إنَّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا
ذباباً ولو اجتمعوا لـه وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف
الطالب والمطلوب( ).
إنَّ قراءة أولى للنص المثلي قيد الرصد, توحي بعدم وجود أي تنافر
على الصعيد السطحي, إذ إن كل وحداته في غاية الائتلاف, فهو إذاً ذو طابع
تجاوري ناجم عن النتيجة المترتبة في ذهن القارئ ـ المخاطب, عن المقدمة
التقريرية الواردة في المثل, وهي عدم قدرة أدعياء الناس من دون الله على
خلق شيء كالذباب.
وإذا كان الذباب هو من المخلوقات التي لا يلتفت إلى خلقها بشر,
نظراً لصغرها وتفاهتها في نظرهم, فمن البديهي إذاً أن يعجز الناس عن خلق ما
هو أعظم من ذلك, وفي الوجود الكوني المترامي الأطراف, من الموجودات ما يعجز
عن استيعابها عقل بشر. وبذلك يكون خلق الذباب ما هو إلا غيض من فيض الخلق
الإلهي.
وفي ضوء ذلك يكون قد تمَّ توظيف الجزء لغرض استدعاء الكل, بأسلوب
مجازي خفي لا يشغل القارئ بالتنافرات الجزئية, وإنما كان ذلك عبر استرسال
انسيابي, يجعل القارئ ينشغل بشيء واحد فقط, هو تلك النتيجة المترتبة عن ضرب
المثل. فقد تمَّ استثمار الإمكانات التي توفرها الإشارة الجمالية النصية,
لغرض الإحالة عبرها إلى ما هو خارج نصي, أو إلى نص الوجود.
وإذا كانت الذبابة يوصفها مخلوقاً, تحيل إلى سواها من المخلوقات
الأعظم منها كالبحار والجبال والكواكب والمجرات, فإنها لا تَحيل مع هؤلاء
إلا إلى خالق واحد. وبذلك تكون الذبابة الصغيرة, قد استحالت من خلال ربطها
بخالقها إلى شيء مهم وفاعل.
ولا يتحقق هذا الربط إلا عبر المرور بمرحلتين قرائيتين, ليستحوذ من
خلالهما المثل قيد الرصد على صوريته:
الأولى: من الجزء إلى الكل أو من الخصوص إلى العموم أو من القلة إلى
التنوع.
الثانية: من الكثرة والتنوع إلى الوحدة, أو من المخلوقات إلى
الخالق.
وليس من شك في أنه لم يتم التعبير عن الثاني بصورة صريحة, وإنما سخر
الأول لغرض الإحالة إليه, بطريقة تلقائية عفوية, غير قسرية منفرة, لأنَّ
لفت الانتباه, إلى خلق الصغائر يحيل بالنتيجة المنطقية إلى كبائر ذاك
الخلق, دونما الحاجة إلى ذكرها صراحة, وتلك النتيجة ستؤسس من ثمَّ, قاعدة
لنتيجة أعظم منها, تتمثل بالخالق الأوحد:
المصرح به:
(1) الذباب
المخلوق
غير المصرح به: (2) كل ما دون الله (3) الخالق
فقد تمت الإشارة إذاً إلى الطرف الثاني بطريقة إيحائية, وبعبارة
شديدة الإيجاز هي:
إنَّ الذين تدعون من
دون الله. وعبر ما تقتضيه هذه العبارة دلالياً, فإن الدعوة يجب أن تكون لله
لا لسواه, وهو ما تمَّ تأكيده في الإخبار عن هؤلاء الأدعياء بأنهم لن
يخلقوا ذباباً, وبما أن (لن) تفيد الاستقبال, ففي ذلك إشارة ضمنية إلى
التقدم العلمي الذي من الممكن أن يصله البشر عبر تعاقب الأجيال, وهو ما
أكده العلماء أنفسهم( ). فإذا كانوا هم كذلك فمن الطبيعي أن تقتصر قدرة
الخلق على من يقف على الطرف الضديد في هذه العبارة ـ الله تعالى ـ.
ج ـ التزامن الصوري:
وفيه يتم التزامن بين التشكلين الصوريين ـ التجاوري والتشابهي ـ في
بنية واحدة, عبر الانتقال من مرحلة المشابهة الاستبدالية إلى مرحلة
المجاورة الكنائية. وقد عرف هذا النمط تقليدياً بوصفه أحد أنماط الاستعارة,
وتحت مصطلح (الاستعارة المكنية). بيد أننا نرى أن حضور الجانب الكنائي فيه
بقوة بوصفه يمثل درجة صورية أقصى من الاستعارة, يستدعي إيلاءه اهتماماً
أكبر, ولكن دون إغفال الجانب الاستعاري الذي كان نقطة العبور, الذي تمَّ
الوصول من خلاله إلى تلك المرحلة الكنائية المتقدمة, الأمر الذي استدعى فصل
هذا النمط تحت عنوان مستقل ليتسنى إيضاح ذلك التداخل الاستعاري/ الكنائي
فيه.
وقد حقق هذا النمط حضوراً فاعلاً في القرآن الكريم, بوصفه أحد
توظيفاته الإعجازية المكثفة, ويعود ذلك "لما للاستعارة المكنية من تلميح
وإيحاء, ولما فيها من تشخيص وتخييل وانتداب في التركيب وفي الخيال, [لهذا]
كانت نسبتها في القرآن أكبر, ومناسبات التوقف عندها أطول"( ).
وما
يستوي الأعمى والبصير* ولا الظلمات ولا النور* ولا الظل ولا الحرور* وما
يستوي الأحياء ولا الأموات إنَّ الله يُسمعُ من يشاء وما أنت بمسمع من في
القبور( ).
في النص قيد المناقشة سلسلة متتابعة من الاستعارات, أسهمت في تعزيز
الطاقة الترميزية للتصوير الكنائي, الذي تمَّ اختتام هذا النص به. والذي
تحقق عبر صورتين ضديّتين, الأولى:
إنَّ الله يسمع من يشاء, والثانية:
وما
أنت بمسمع من في القبور.
فقد تمَّ استدعاء الفعل (يسمع) استدعاء منفرداً في الصورة الأولى, فالسماع
ليس مقصوداً هنا بذاته, وإنما المقصود لازمة من لوازمه وهي: الإصغاء أو
الفهم. أمَّا الصورة الثانية, ففضلاً عن استدعاء السماع فيها أيضاً, فثمة
استدعاء آخر للفظة (القبور), الأمر الذي أدى إلى شحن الصورة بطاقة ترميزية
عالية, لا من خلال هذا التوظيف الكنائي المضاعف حسب, وإنما من خلال ما
يحمله التوظيف الثاني المتمثل في لفظة (قبور) من ترميز مضاعف أيضاً. الأمر
الذي كان لـه أثر فاعل في إسباغ شيء من تلك الدلالة الرمزية على النص, لا
سيما إذا أخذنا ذاك التعادل الصوري الذي يجمعها مع كل ما سبقها. وهو ما
يمنحها مفاتيح تأويلية من شأنها أن تنبري عن بناء معنوي متكامل, ناجم عن
الاستقلالية الجزئية الناجمة عن تعادلها ـ بمفردها ـ مع ذاك الحشد
الاستعاري المتسلسل:
ما يستوي الأعمى والبصير
ولا الظلمات ولا النور
تجاور إنَّ الله يسمع من يشاء وما أنت
بمسمع من في القبور
ولا الظل ولا الحرور
وما يستوي الأحياء ولا الأموات
وعلى الرغم من كينونة هذا التوازي الدلالي, فإن ذلك لا يمنع من رصد
بعض الاختلاف في تشكل كل من طرفيه المتوازيين. فثمة تقطيع صوري ساكن, في
التضادات التي نهضت بها كل حلقة من حلقات السلسلة الاستعارية في الطرف
الأول: (الأعمى/البصير), (الظلمات/ النور), (الظل/الحرور),
(الأحياء/الأموات). الأمر الذي لا نلمسه في الصورة الكنائية, التي كانت
أكثر استقلالية وتنامياً.
وقد تعزز هذا الاختلاف, باختلاف آخر يتمثل بالبينونة الفاصلة بين
آليتي الاشتغال التقني لكل من هذين الطرفين.
ومع كل ذلك فإننا نلمس التعادل راسخاً بين ذينك الطرفين, نظراً
لتشاركهما الدلالي في انبنائهما على التخالف الصوري, فقد انبرى كل طرف
منهما, عن تمحوره حول قطبي الثنائية الضدية المماثلة في هذا النص, وهي
(الإيمان/الكفر). الأمر الذي ينبئ بوجود تنازع داخل كل بنية من تلك البنى
الاستعارية والكنائية, ناجم عن التجاذب الذي اضطلع به ذانك الضديّان كل إلى
ساحته. فعمل التوازي الخارجي, على رأب الصدع الداخلي, وبالشكل الآتي:
وهو ما يفضي إلى الأهمية القصوى لـهذا التصوير الكنائي, وإلى ما
يحمله من طاقة دلالية تسهم في قراءة استعادية للنص, في ضوء الإمكانات التي
تمنحه إياها, لـهذا كان لا بد من تحليلها أولاً.
ففي الصورة الكنائية الأولى نرصد عدولاً في توظيف الفعل (يُسمع) عن
معناه الأصلي إلى معنى آخر. وهو ما هيأ لـهذا التشكل, نوعاً من التركيز على
دلالة معينة, ما كان سيتم لولا هذا التوظيف الكنائي, لأنَّ استخدام فعل
الإيمان بشكل مباشر, من شأنه أن يشغلنا عمَّا قدمه فعل السماع من أن هنالك
دعوة يجب سماعها, كما أن السماع لا يتحقق إذا لم يكن فيه إصغاء وتفهم
لمضمون تلك الدعوة. فمتلقي الدعوة هنا هو متلق إيجابي, يصغي, ويفهم, ثمَّ
يؤمن.
أمَّا في التشكل الكنائي الثاني فإن عدم تحقق السماع لم يتعدد حدود
الدعوة ذاتها, عبر وقوفها عند الرسول
.
وبهذا يكون متلقي الدعوة هنا متلقياً سلبياً, لا يتفاعل معها. لذلك لا تسفر
دعوته عن شيء يذكر, إذ من الواضح أن الخطوة الأولى في تحقق التفاعل هي
السماع, الذي يفضي بدوره إلى الإيمان. كما أن قوله تعالى:
إنَّ
الله يسمع من يشاء
قد اختزل هذه المراحل إلى اثنتين فقط:
ـ في حال المؤمن تتعدى الدعوة حدود السماع وصولاً إلى التفاعل
الإيماني:
إذ إن انتفاء السماع لم يؤد إلى أدنى تفاعل, ولا سيما أن المتلقي,
أو المتلقين يقطنون غياهب قبور. وهي تمثل التوظيف الكنائي الثاني في التشكل
الثاني. ومن الجلي ما في هذا التصوير الكنائي من إخبار وتنبيه إلى حقيقة لا
بد من أن تكون مغيبة, وهو ما جعل منه تصويراً مفارقاً. إذ من المسلمات التي
هي في غاية البداهة, أن لا يسمع من هم في القبور أي (الأموات)
إلا أن قراءة أخرى للنص قادرة على أن تنفي هذه المفارقة. بعد القبض
على الطاقة الترميزية المضاعفة لـهذا التوظيف النصي, عبر استدعاء استبدالي
ـ كنائي مزدوج. الأمر الذي اقتضى المرور بمرحلتين ترميزيتين:
ـ المرحلة الأولى (استبدالية): كفار
أموات (مشابهة).
ـ المرحلة الثانية (الكنائية): أموات
مدفونون في قبور (مجاورة).
وبهذا تكون بداهة الإخبار, المرصودة آنفاً, مقصودة بذاتها, ليتحقق
عبر تلك العلاقة الترميزية, اكتساب انتقالي من الدفن في القبور إلى الكفار,
مروراً بالأموات, ليغدو من البديهي أن لا يؤمن ذاك النمط من الكفار الذين
مثلهم كمثل من هم في القبور.
ونتساءل هنا: لِمَ تمَّ هذا الانتقال المضاعف إلى الدفن في القبور,
دون الوقوف عند لفظة أموات المجاورة, التي كانت ستختزل الترميز في مرحلة
واحدة؟
لا مناص من العودة إلى الدلالات التي يحملها هذا التوظيف للنص. إذ
إن الدفن في القبور يفضي بالمطابقة إلى: الموت الأكيد, والردم, والسكون,
والضيق, والوحدة, والعتمة, والإحاطة بالأموات, كما إن هذا المكان يكون ـ
عادة ـ مكاناً مهجوراً, لا يقصده الناس إلا لأغراض الحزن والبكاء.
وبالمجاورة تمَّ انتقال كل هذه الدلالات لا إلى الكفار الأموات, وإنما إلى
الذين قد انتهى أمرهم تماماً بالدفن. فإذا كان من الممكن أن يكون الكفر
متبوعاً بإيمان, وإذا كان الموت معادلاً للكفر, فإن الدفن ينفي هذه
الإمكانية تماماً.
وهذا الاستكناه يجرنا إلى العودة إلى التشكل الكنائي الأول:
إنَّ
الله يسمع من يشاء.
فإذا كان من الممكن أن يكون الإيمان مسبوقاً بكفر, فإن السماع يحمل بذلك
دلال حاسمة, إذ إن عدم نفيه دلالة الكفر قبل تحققه, يجعله فاصلاً بين الكفر
والإيمان, ممَّا يؤدي إلى انقلاب عقائدي جذري. فقد ارتبط الإيمان بالسماع
الذي حقق الإفادة, فكان بذلك نقطة البداية لما بعده, لا سيما إذا أخذنا
بنظر الاعتبار صيغة الفعل المضارع (يسمع), الذي يوحي بنوع من التنامي
الاستقلالي. على العكس من التشكل الكنائي الضديد إذ إن انتفاء السماع أدّى
إلى انتفاء الإفادة, والتي تمَّ التعبير عنها بأحد الأسماء المشتقة (ما...
مسمع) وهو ما يومئ إلى نوع من السكون الدلالي, فضلاً عن اختتام العبارة
بلفظة (القبور), التي كانت بمثابة نقطة النهاية الأبدية, بالنسبة لـهؤلاء.
فالكفر المقصود هنا ليس أي كفر, إنه الكفر الذي تنتفي معه الاستفادة
بالسماع, وإن تحقق الاستفادة ـ الفهم ـ يفضي لا محالة, إلى الدلالة الضديدة
(الإيمان), وهو ما جسده التشكل الأول.
2 ـ الانقطاع الخارجي:
وهو لا يشتمل على مواضع الفصل الصغرى في النص كالتي تكون بين
الكلمات، أو بين الجمل. وإنما يشتمل على مواضع الفصل الكبرى، أو ما اصطلح
عليه بأسلوب (التخلص) الذي يعالج الفصل أو القطع الحاصل بين البنيات النصية
الكبرى، كالصورة، والفقرة، واللقطة، والمثل. وقد عالجت البلاغة هذه المسألة
تحت هذا الاسم بينما تناولتها السينما تحت اسم (المونتاج) أي ترتيب
اللقطات. إذ "تعمل بنية التخلص بوصفها بنية مفصلية تساعد على الحركة في
خطوط مستديرة ورأسية ومنحنية أي تساعد على الحركة في كافة الاتجاهات. وهي
تحاكي ـ في ذلك ـ بنية الجسد الذي يجمع بين أعضاء مختلفة تتضافر في أداء
الوظيفة الكلية، ويتحرك في الفراغ صانعاً مجاورة"( ). فإن تقنية التخلص
تعمل على التأليف بين البنيات الكبرى، التي يتم فيها استشعار فجوة أو مسافة
قرائية، تؤدي إلى انعطافة أسلوبية مفاجئة، "مما يولد مجالاً إيحائياً
خصباً، تشير عبره عناصر الحضور إلى عناصر الغياب. كأن فكرة المسافة أو
الفجوة شكل من أشكال تفكيك الزمن أو المكان والحدث، وإعادة إنتاجها على نحو
مغاير".( )
وعلى الرغم من كثرة الدراسات البلاغية التي تناولت هذه القضية، بيد
أنها بقيت محجمة في أطر قارة، في تناولها للنص القرآني، مراعية فيه مواضع
التناسب أكثر من مراعاتها مواضع الاختلاف، غافلة عن القيمة الأسلوبية
القصوى التي من الممكن أن تمنحها هذه التقنية للقرآن الكريم، إذ "إن
(التخلص) هو القانون العام الذي ينتظم الصياغة الكلية لـهذا النص الفريد".(
).
ولا مناص من الإشارة هنا إلى ذاك النمط التفسيري الذي اعتمد على
(علم المناسبة) من خلال سعيه إلى تقصي "علل الترتيب، وموضوعه أجزاء الشيء
المطلوب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء، بسبب حاله بما
ورائه وما أمامه من الارتباط والتعلق".( )، وقد سد هذا العلم فراغاً كبيراً
في الدراسات القرآنية، نظراً لسعيه إلى دراسة محايثة للقرآن الكريم، بعيداً
عن كل المعطيات الخارجية، لأن غايته هي "علاقات النص في صورتها الأخيرة
النهائية"( ). لـهذا انصب اهتمامه على استجلاء مواطن التعالق الدلالي بين
الآيات المتتابعة داخل السورة نفسها أو خارجها من خلال الربط بين خاتمة
سورة، وبداية أخرى موالية لـها.( )
وثمة مصطلح آخر نافس مصطلح التخلص نظراً لتشابه آلية اشتغالهما وهو
(المونتاج)، ولاسيما إذا أدركنا أن الأخير يقوم "بإزالة الزمان والمكان غير
الضروريين(...) عن طريق ارتباط الأفكار، بربط لقطة بأخرى ومشهد بآخر"( ) فـ
(المونتاج) إذاً، ينحو إلى ربط اللقطات وترتيبها على شاكلة معينة دون
سواها، ولابد من أن يؤدي تغيير ذلك الترتيب إلى تغيير المعاني المستخلصة
منها( ). وقد استثمرت الرواية هذه التقنية بعد اجتراح تسمية (الترتيب)
عليها.
ولم نجد تجلياً للانقطاع الخارجي في بنية المثل القرآني أوضح من
المثل الآتي:
وإن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من
دون الله إن كنتم صادقين* فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين* وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن
لـهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا
الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها
خالدون* إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين
آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله
بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين*(
).
تبتدئ الصورة المثالية عند قوله تعالى:
إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها...، بيد أننا قصدنا إيراد الآيتين اللتين قبله ليتجلى الانقطاع
الخارجي، إذ إنه لا يتمثل داخل المثل ذاته، وإنما بين المثل وما يتموضع
خارجه أي قبل المثل مباشرة. فثمة انعطافة مباغتة بين كل من البنيتين، مما
يوحي بتغييب عناصر معينة، من شأنها أن تحقق الربط بين الاثنين. إذ إن قراءة
أولى تطرح في الذهن تساؤلات حول الجامع بين مثل البعوضة هذا والكفر
والإيمان الواردين قبل ذلك. ومما عزز ذلك غياب أدنى رابط تركيبي عبر غياب
الممثل لـه أو المضروب لأجله المثل حتى خارج حدود المثل، فإذا كانت كل صورة
بالضرورة تشبيهية، فما الذي شبه بالبعوضة إذاً؟... ومن هنا نرصد سمة أخرى
استدعت تحقق هذا الانقطاع الظاهري الخارجي، هي التكثيف الصوري الشديد إلى
درجة عدم الدخول في أية تفصيلات. وهنا نتساءل إن كان هنالك صورة أصلاً في
المثل قيد الرصد!...
وربما يكون غياب أدنى إشارة إلى الربط بين المخلوق والخالق سوى ضرب
المثل قد تسبب في ذلك التساؤل.
إن تصدير بنية المثل قيد الرصد بلفظة مثل يرجح كون ما أمامنا هنا
صورة مكثفة، لأن المثل إيحائي التشكل يقتضي مستويين قرائيين عبر تشكل صوري
أو حكائي، ولا جدال في كون هذا المثل ليس حكائياً بالضرورة فليس ثمة أدنى
تتابع سردي، أو سواه من التفصيلات. وبما أن من أخص خصائص الصورة التكثيف،
فهو إذاً ليس صورة مكثفة فحسب، وإنما صورة لما هو ساكن أيضاً، إذ لا يشترط
في الصورة أن تكون لأمر متحرك، فقد يتم رسمه صورياً وهو ساكن، مادام يحيل
بشكل إيحائي مجازي إلى المعنى.
وفضلاً عن الانقطاع الخارجي فثمة انقطاعات داخلية كذلك عبر ضرب
المثل من قبل الذات الإلهية المقدسة بشيء متناه في الصغر علماً أن "البعوض
فعول من البعض"( )، فثمة إذاً قطبان رئيسان ينتظمان المثل قيد الرصد هما:
الله تعالى بكل ما يحيل إليه من دلالات: (العظمة والرفعة والتدبير والقداسة
والتحكم بمجريات الكون)، و(البعوضة) بكل ما تحيل إليه من دلالات (الصغر
والقذارة والتطفل). بيد أن ضرب المثل لابد من أن يحيل إلى مستوى آخر يتمثل
بالمضروب لأجله المثل. فبدلاً من إيراد ذلك عبر بنية شرح تم إيراد عبارة
"ماذا أراد الله بهذا مثلاً" الاستفهامية، ولكن ثمة مبدأ مهم في الفكر
الإسلامي يتمثل بمبدأ النصية إذ بموجبه يتم النظر إلى كل مكونات الوجود
بوصفها تحيل تلقائياً إلى معنى واحد هو الله، فحكمته" تظهر في كل حقيرة
وجليلة" ( )
فالبعوضة لا تعدو أن تكون جزءاً من منظومة الخليقة فهي على صغرها
كائن حي، يحوي من الأجهزة الحيوية المعقدة ما يتجاوز تصور الإنسان وإدراكه،
فضلاً عن كونها درجة من درجات سلسال الحياة في الطبيعة.
فيكون هذا الشيء أو الكائن المتناهي الصغر يحيل إلى ماهو غير متناه
في عظمته. وهنا تكمن المفارقة، ونستخلص من ذلك تبريراً منطقياً لقوله
تعالى:
إن
الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها،
فلم الحياء مما يحيل إلى قدرة الله وعظمته! ليس هذا فحسب فإن التقريب بين
ضديدين من شأنه أن يجلي خصائص كل منهما أكثر ويزيد من وضوحها.
وإن الاسترسال القرائي من شأنه أن يعزز هذه القراءات عبر التقسيم
الحاصل بعد التساؤل:
يضل
به كثيراً ويهدي به كثيراً، وما يضل به إلا الفاسقين
ففضلاً عن كون هذا التقسيم للبشر هو نتيجة حتمية، أو تحصيل حاصل لما تم
استخلاصه من مثل البعوضة، بيد أنه يمد جسوراً خارج حدود المثل، تتمثل في
التوازي الدلالي المتحقق عبر بنية هذا التقسيم مع الآيتين السابقتين للمثل،
وعلى النحو الآتي:
قبل المثل بعد المثل
..فاتقوا النار التي وقودِها
الناس والحجارة أعدت
للكافرين يضل به كثيراً
وبشر الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أن لـهم جنات
تجري من تحتها الأنهار.. ويهدي به كثيراً
فإن اشتغال عملية الموازاة تم بشكل متبادل، فعلى الرغم من تقديم
الثواب والعقاب في بنية ما قبل المثل، فإن الأولى تمثل نتيجة للثانية. وإذا
ما راعينا ذلك، وعدنا إلى بنية المثل التي تتوسطهما، فإننا سنجد أنه ليس
من الممكن إنكار الرابط التركيبي المتموضع في بنية ما بعد المثل، والمتمثل
بالهاء في (به) العائدة على المثل.
فضلاً عن أن بنية ماقبل المثل ترتبط تركيبياً عبر الفاء الواقعة في
جواب الشرط:فإن
لم تفعلوا ولن تفعلوا
المتعلقة بالإتيان بسورة من مثل القرآن، فهذه البنية إذاً ترتبط بإعجاز
رباني آخر هو الإعجاز الكامن هذه المرة في الكون المقروء، وهو الإعجاز
اللفظي القرآني.
بيد أن هذا لا يمنع من اندراج الإعجاز الأول (الواقعي ـ العلمي ـ
المنظور) في سياقه، فهو جزء منه بالضرورة. الأمر الذي جعل النص ينفتح على
أبعاد رحبة، ناجمة عن التجسيد العياني الخارج ـ نصي لـهذا النوع من
الإعجاز.
ومن الممكن إعادة قراءة النص من جديد في ضوء ما سلف ذكره، مع مرعاة
الموازاة المرصودة، وعلى النحو الآتي:
إذ تنعقد الدائرة حول وجود الله، وإلا لما ثبت ذانك الإعجازان
واستحق الإنسان الجنة أو النار.
لا
يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون* لو أنزلنا هذا
القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصعداً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها
للناس لعلهم يتفكرون( )
من اللافت للانتباه في هذه الصورة، الانعطافة الدلالية المتحققة في
بنيتها من خلال غياب الرابط بين بنية ماقبل الصورة والصورة ذاتها. ولتحقيق
الربط لابد من استكناه بنية الصورة، الذي سيحيلنا بالضرورة إلى استخدام
الوصف بطريقة عكسية فيها، فبدلاً من أن يكون طريقة للتحديد( )، يستحيل إلى
طريقة للا تحديد.
وهو ما زاد من القدرة المفارقية للآية. إذ تم وصف (الجبل) بالخشوع،
ففضلاً عن كونها صفة إنسانية فإنها ـ مع الصفة الثانية (التصدع) ـ تحيل إلى
الضعف والتذلل، على العكس مما هي عليه طبيعته من شموخ وعلو.
والتشكل الأسلوبي قيد الرصد يتعدى الحدود الاستعارية القائمة على
عنصر المشابهة التقليدي، مستلهماً الإمكانات المفارقية التي وفرها التحديد
العكسي لـه، من خلال الربط بين الجبل والخشوع.
ولا مناص من الإشارة هنا، إلى أن ثمة تقنية أخرى اضطلعت أيضاً
بالمهام المفارقية المرصودة هنا، هي (أسلوب الشرط)، الذي حقق مزاوجة
تركيبية ـ دلالية مع التحديد العكسي في مصهر هذا النص المثلي. ولا مراء
فيما يحمله أسلوب الشرط من دلالة معلقة التحقق تراوح بين أمرين، لأن جملته
تنحَل إلى طرفين ثانيهما معلق بمقدمة يتضمنها الأول"( )وإذا كان الأمر كذلك
مع الشرط عموماً، فإن المسألة مع (لو) تكون أكثر وضوحاً، لأنها أداة امتناع
لامتناع، فهي "تعبر عن تعطيل النتيجة لتعطل العلة، أي أنها من حيث تعبيرها
عن توقف الجواب على الشرط، تعبر عن امتناع وجود الشرط والمشروط"( ). وبهذا
يكون الفعل معها غير حتمي التحقق، لأنه مشروط بفعل آخر. وإذا كان ذلك كذلك،
فلم تم الجمع بين المتنافرات جمعاً معلقاً وليس حتمياً؟...
إن ارتباط الخشوع والتصدع بالجبل هنا، لا يلغي عنه دلالات الشموخ
والعلو والانتصاب، بل إن أهم سمة يتميز بها المثل القرآني عامة، أنه يقرب
الصورة إلى ذهن المتلقي، لذا فإنه يثبتها أكثر، نظراً لورود أسلوب الشرط
معلق التحقق، فإن خشوع الجبل لم يتحقق، ولكنه قابل للتحقق، وذلك مرتهن
بنزول القرآن عليه أو عدمه. فحتى الجبل من الممكن أن يخضع، على عكس ما
تتطلبه البديهة. أما (الإنسان) كما تشير الآيات السابقة فمنه الجاحد
الكافر، ومنه الخاشع المؤمن، وبهذا يكون الكافر قد غفل عن حقائق من الممكن
أن يدركها غير العاقل كـ(الجبل) ويتصرف جراءها على غير عادته، لشدة قناعته
بها.
فإن ضرب هذا المثل لا يؤكد الفارق بين الكفر والإيمان فحسب، وإنما
الفارق بين الإنساني والطبيعي، وهنا تكمن المفارقة الكبرى حينما ندرك
إمكانية إحالة الجبل إلى دلالة التعقل، مع إمكانية إحالة الإنسان إلى دلالة
الجحود أ و عدم التعقل. إلا أن التقريب بينهما بهذا الشكل الذي يوحي بنوع
من الانقطاع السياقي، لم يكن إلا لإبراز ذاك الفارق، وهو وجود العقل لدى
الأول ـ الإنساني ـ، وبهذا يكون نزول القرآن عليه مختلفاً عن الطبيعي
الفطري، الممثل لـه بالجبل، لأن خشوعه ناجم عن تفكر وتدبر، فكانت النتيجة،
أن تعقب تلك المرحلة مرحلة مزيدة، وهي أن يكون من أصحاب الجنة. في حين أن
إنسان الكفر لم يستخدم ذلك العقل فكان من أصحاب النار. فـ"سبب افتراق
الفريقين في العقبى، افتراقهم في هذا القرآن (..) تمثيلاً للقلوب في قسوتها
أو لينها عند سماع القرآن"( ) وهنا نجد تبريراً منطقياً لوقوف صورة الجبل
عند تصدعه وحسب، لأن عدم وجود العقل يقتضي عدم الإثابة.
إن وضع النتائج المستخلصة من المقاربات التي أجريناها على المثل
الصوري، من شأنه أن يفضي بنا إلى التعاضد النصي المتحقق جراء هذا النمط،
عبر ما يوّفره كل من الصورة، والمثل القرآني المتضمن لـهما في آن معاً. إذ
يعمل المثل بما يحمله من طاقة توجيهية عالية، في تذويب القدرة التمويهية
للصورة في متنه، ولاسيّما أن أغلب الصور التي انبرت عنها بنية المثل ـ كما
كشف التحليل ـ كانت ترتكز، وبشكل رئيس، على تقنية التشبيه.
فضلاً عن ارتباط الصورة بمكان ما، جعل منها ـ إلى حد ما ـ سكونية،
بعيدة عن حركية الحكي، ذي التشكل الجزئي للزمن. فهي لذلك كانت شمولية
بذاتها، دونما الاستعانة بتقنية مساندة أخرى، كاستعانة الحكي بالوصف مثلاً.
فهي تقترن بما هو عام، لا بما هو جزئي محدود بحال شخص معين، وإنما ـ
في مجملها ـ تصور ماهو طبيعي، لكي تقرب إلى الذهن من يمثل القطب الآخر في
الوجود، ويحين بذلك المخلوق إلى الخالق. فبعد أن كانت الطبيعة مثاراً
للتساؤل والخوف إلى حد التأليه الإنساني في الثقافات القديمة، أصبحت في
الثقافة الإسلامية "وسيلة لمعرفة الله، وبرهاناً على قدرته".( )
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
الفصل الثاني
المثل الحكائي
ـ المبحث الأول: الصيغة الحكائية.
ـ المبحث الثاني: التبئير الحكائي.
ـ المبحث الثالث: الزمن الحكائي.
مدخل نظري:
يمد المثل جسوراً تجعله على تخوم الحكائية أجناسياً، مع احتفاظه
بخصوصيته، لذلك ليس من الممكن التسليم بما ذهب إليه البعض بخصوص القصة
القرآنية، من أن "تؤخذ القصة كلها مآخذ المثل"( )، لأن نظرة كهذه من شأنها
أن تتغاضى كلياً عن الخصائص الأجناسية للمثل، التي من أهمها القصر والتكثيف
الشديدين، إذ من الممكن في ضوء ذلك، اختزال حياة كاملة أو أكثر، في بنيته
المحدودة، بوصفه حكاية طويلة في عبارة قصيرة، وقصة مسهبة في جملة موجزة"(
). وهنا بالضبط يكمن افتراقه عن القصة، لكون الأخيرة إذا ما كانت بهذا
القصر اندرجت تحت نمط (القصة القصيرة جداً)، التي من أخص خصائصها أن تقتصر
على وصف موقف ما، ليس إلا، فهي "تعرض فكرة أو حالة، ولكنها لا تصور شخصية
إطلاقاً"( )، فالقصر إذاً يشمل مستويي القصة معاً، القصة في الواقع وتشكلها
البنيوي أيضاً، أما المثل، فإن القصر فيه يقتصر على المستوى البنيوي حسب،
الأمر الذي يجعله في غاية التكثيف.
ونظراً لذلك لابد من أن يكون استخدامنا لتقنيات السرد معه، ليس إلا
على سبيل الإضاءة، بوصفها الإرهاصات التي ستقودنا إلى غايتنا المتمثلة
بالوصول إلى الثيمة المحركة للنص لكونها العنصر الكامن في الحكي. وهو ما
دأب السيميائيون على تأكيده، فعلى وفق منظورهم: "لا يمكن بروز هذا العنصر
الثابت، إلا من خلال المحتوى، لأنه أساس الحكي".( )
بيد أن أية مقاربة سردية ينبغي أن لا تتجاهل البعد الجمالي أولاً،
بوصف السردية تنخرط مع الشعرية في بودقة واحدة، لكونها تندرج "ضمن علم كلي
هو البويطيقا، التي تعني بـ(أدبية) الخطاب الأدبي بوجه عام، وهي بذلك تقترن
بـ(الشعريات)، التي تبحث في (شعرية) الخطاب"( )
لذلك لم تكن الأدبية حكراً على الشعرية، إذ اتسع مفهوم هذا الأخير
مؤخراً، اتساع باب يضيّق الخناق على مفهوم الأدبية، لتنحصر البويطيقا
بالجنس الشعري القائم على الصورة،حتى غدا الكلام على أدبية الأجناس
الحكائية، كلاماً على شعريتها، فصار بذلك الشعر هو المعيار الذي تقاس إزاءه
الأجناس الأخرى جمالياً، فلغة الشعر إذاً لا تحقق كينونتها إلا عبر
انزياحها عن لغة النثر.
لا مراء فيما تحمله هذه النظرة من أبعاد خطيرة، تهدد كينونة الأجناس
غير الشعرية، ما دامت الأدبية رهينة بالجنس الشعري دون سواه، دونما إدراك
للفوارق الجوهرية بين جنس وآخر، تحتم وجود فوارق إجرائية تنسجم وطبيعة
اشتغال كل منها. فلكل جنس خصوصيته وجماليته، التي تتساوق مع ذاك العنصر
الثاوي في النص، المتمثل في الثيمة الرئيسة التي تتمحور حولها كل بناه. فهي
وحدها التي تستدعي تشكلاً أدبياً معيناً دون سواه، سواء أكان حكائياً أم
شعرياً. لكن ذلك التشكل ليس إلا هيمنة لجنس معين على باقي الأجناس الأخرى،
لتذوب في بودقته، دون إلغائها تماماً، فليس ثمة تجنيس مطلق.
وعلى الرغم مما ذهب إليه جاكوبسن من عدم قصر (الوظيفة الشعرية) ـ
حسب اصطلاحه ـ على الشعر، في أكثر من موضع. برز ذلك بحضور هذه الوظيفة في
الأجناس الأخرى بدرجات متفاوتة، دون أن تهيمن عليها كما في الشعر، فعند
وجودها خارج حدود الشعر، لابد من أن "تعطى الأولوية لـهذه الوظيفة أو تلك
على حساب الوظيفة الشعرية"( ).
فيكون الشعر بذلك مجساً لتلمس الشعرية سواه. ولابد من أن يطالعنا
(ريفاتير) هنا، الذي كان متشدداً في هذه المسألة، حينما اجترح اصطلاحاً
آخر، على ما اصطلح عليه جاكوبسن من قبل (الوظيفة الشعرية)، هو (الوظيفة
الأسلوبية)، إذ "إننا عندما نتحدث عن الفن اللفظي، نفترض مسبقاً بأن موضوع
التحليل سيختار تبعاً للأحكام الجمالية، أي تبعاً للمتغيرات(.....)، فإن
التحليل سيبقى محصوراً في البنيات الأكثر تعقيداً، وهذا الحصر يتنافى مع
التحليل الأولي الخاص عند جاكوبسن"( ).
إن تقصي الأسباب الكامنة وراء ما لحق بالحكائيات من إهدار كبير
للبعد الجمالي ـ الأسلوبي فيها، قد يفضي بنا إلى التوظيف الخاطئ لتلك
المسلمة النقدية، القاضية بأن الوظيفة الأسلوبية تتحقق من تعامد محور
المماثلة (الاستعارة)، على محور المجاورة (الكناية). وبما أن الرواية والفن
القصصي ـ بصفة عامة ـ من الفنون التي يغلب فيها الطابع الكنائي، على الطابع
الاستعاري الذي يغلب على الشعر. فقد ذهب البعض ـ نتيجة لذلك ـ إلى قصر
القدرة التماثلية على الشعر دون سواه، وذلك ناجم عن الانسيابية الخطية التي
تحققها الحكائيات.
ولكن لابد من نظرة أرحب لتخطي الحدود التجاورية للكنايات الجزئية،
لأن التراصف الكنائي، في كليته يحقق بعداً تماثلياً كامناً. كما أن كل
تقنيات محور المجاورة هي بالضرورة استبدالية، مادامت قد اختيرت من بين
إمكانات أخرى متاحة تحمل جانباً من التماثل معها، ومادامت ذات قيمة إشارية،
إذ يمثل السرد "المعادل اللفظي، لوقائع غير لفظية، ولوقائع لفظية"( )
أيضاً.
فإذا لم يكن الفن الحكائي تماثلياً بالفعل، فهو كذلك بالقوة، مادام
ينتسب إلى الأدب عامة، إذ لا يجرؤ أحد على إنكار تماثلية الأدب لذلك كان
"السرد في وظيفته التمثيلية يركب ويعيد تركيب، ويبدع ويعيد تأسيس، سلسلة
متكاملة ومتداخلة من الوقائع والأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية
والمكانية، ليجعل منها المادة الحكائية"( ).
ونحن لا ندعي بكلامنا هذا إلغاء الفارق الكامن في التشكل الأسلوبي
لكل من الشعريات والحكائيات، إذ إن رصد المنافرة المتحققة في الأولى أكثر
جلاء، لكونها تطفو على سطح النص. أما الثانية فلا يمكن رصد المنافرة فيها
إلا بعد سبر أغوار النص، لتتحقق وتنتفي في الآن ذاته. لذلك لا يمكن
استشعارها في القراءة الأولى كما ذهب ريفاتير( ). لأن وحدات العمل الحكائي
في هذه القراءة تبدو في غاية الائتلاف والتآلف، لا لشيء سوى لـهيمنة
تقنيات محور المجاورة ذات التمويه المعكوس عليه( ). فالوظيفة الأسلوبية ـ
الشعرية بمفهومها الأرحب ـ إذاً، لا تهيمن على الشعر دون سواه، وإنما ما
يهيمن عليه هو التجلي التماثلي السطحي لتلك الوظيفة عبر (التشبيه)
و(الاستعارة). فهي متحققة بالدرجة نفسها في كل الأجناس الأدبية. وإذا كان
ثمة تفاوت مرصود لذلك التحقق، فإنه لا يعود قطعاً إلى تفاوت أجناسيّ.
إن الكلام على البعد الجمالي للحكائيات إذاً، هو ليس كلاماً على
شعريتها، وإنما على أدبيتها، لأن (الشعر) ماهو إلا جنس من أجناس شتى ضمن
النوع الأدبي. ولكل منها تشكله الخاص به. لذلك كانت مهمة الأدبية هي تقصي
القوانين الخاصة بكل جنس منها.
ولابد لنا هنا من معالجة إشكالية الانزياح الحكائي. إذ إن التنافر
السطحي لوحدات الشعر، وهيمنة الطابع الصوتي التكراري عليه، قبالة
الانسيابية الخطية لبناء الحكائيات، دعا البعض إلى عد لغة الشعر غاية في حد
ذاتها، من خلال حضور الصوت على حساب الدلالة( ). حتى إذا تنازعها الاثنان
معاً، ترجحت كفة الأول( ). على العكس من لغة النثر، فهي بحسبهم ليست مقصودة
في ذاتها، وإنما بما تحيل إليه من دلالة.
ولتعديل هذه النظرة، لابد من إدراك أن الإيحاء موجود في كلتا
اللغتين، على حد سواء، ما دامتا تسجلان حضورهما الأدبي. ولكن كل ما في
الأمر أن لغة الشعر تعويضية، أما لغة النثر فخطية. ففي الأولى تحقق كل بنية
استقلالها عن الكل، ليس بسبب اختلافها عنه، وإنما لتكرارها لـه، لأن "بنية
الشعر هي بنية التوازي المستمر".( ) فالتواتر المهيمن على البناء الشعري
منحه إمكانات تعويضية فائقة، تقلل من الإمكانية القرائيةعلى الكشف عن وجود
تغييب لإحدى تلك البنى، إذا ماتم ذلك افتراضاً. فليس ثمة نقطة معينة في
الشعر تتمركز فيها الثيمة الرئيسة لـه، لأن كل بناه تمثل "صيغاً متعددة
لمولد بنيوي واحد، فالنص (الشعري) في حقيقة الأمر تنويع أو توزيع لبنية
واحدة".( ) بيد أن ذلك لا يعني إمكانية الاستغناء عن بعض البنيات الشعرية،
فمن غير الممكن الوصول إلى تلك الثيمة، دونما توظيف لكل وحداته وبناه، إذ
لا يمكن قراءة القول الشعري في كليته الدالة، إلا كموقعة مكانية للوحدات
الدالة. فكل وحدة، تملك مكانها الدقيق، الذي لا يمكن تذويبه في الكل"(
)وإذا كانت ثمة قدرة على ملء الفجوات، إذا ما افترضنا تغييباً لبنى معينة،
فإنها قدرة تمويهية، تواري وراءها الثيمة المحركة لـه.
أما لغة النثر فذات طابع تتابعي خطي، إذ إن الترابط المتحقق على سطح
النص، من شأنه أن يشغلنا بتسلسل الأحداث، دونما تنبه على ما يحققه من بعد
تماثلي في كليته. إذ ليست ثمة قدرة تعويضية كما في الشعر، لأن الانزياح
الحكائي هو ـ بالضرورة ـ انزياح تراكمي، ليس من الممكن الكشف عنه إلا من
خلال البنيات الكبرى للنص، فثمة "تسلسل كنائي للانزياحات، وهو تسلسل يدل
على خلق تدريجي للمجازات"( ). يؤدي إلى تنام متدرج على المستوى السطحي،
الأمر الذي يجعله قائماً بشكل أساس على عنصر (التشويق)، ذي الطابع السلبي،
من خلال إشعاره الدائم بوجود نقص مافي الأحداث، يستدرج القارئ إلى المتابعة
الخطية لسده، لذلك فإنه ليس سوى شكل متفاقم من التمدد، فالتشويق إذ يحافظ
على انفتاح المقطع (....) فهو يقوي الاتصال بالقارئ (المستمع)" ( )
فوحدات النصوص الحكائية ليست متشابهة إذاً في إحالتها للثيمة
المحركة للنص، لأنها مرتهنة بتدرج الحدث. لذلك كانت ثمة بنى معينة تتمركز
فيها الثيمات المحركة لـه، وبتراكم تلك التمركزات يحوز النص الحكائي على
ثيمته الكبرى الرئيسة، لأن "القضايا الحكائية الكبرى، لا تشكل إلا تأليفاً
واحداً للقضايا الصغرى، المعبر عنها على مستوى البنى الخطابية"( ).
ومن ذلك نستخلص أن التتابع الحكائي غير مقصود في ذاته، دونما توافر
لتآلف بين تلك المتتابعات، عبر الحكي في كليته الدلالية. "فالنثر في نص
سردي ما، هو بحث عن الامتداد، امتداد الرواية الكامنة في النص أو القصة
المحكية في صلبه".( )
ـ مستويا الحكي:
لا مناص الآن من التمييز بين مصطلحي (السرد) و(الحكي)، فطالما
اختلطا ببعضهما. وكثيراً ما استخدم أحدهما في موضع الآخر، وذلك يعود إلى
رحابة المفهوم الذي ارتبط بمصطلح (السرد)، لعدم وجود حدود واضحة لـهذا
المصطلح، دونما التنبه إلى الخصوصية الأسلوبية لـهذا المصطلح، تلك الخصوصية
التي تجعل منه منضوياً تحت سياق الحكي، لأن هذا الأخير يحمل مدلولاً أرحب
منه بكثير. إذ يرتبط (السرد) بالجانب الشكلي فقط بوصفه "شكل المضمون (أو
شكل الحكاية)"( ). في حين أن الحكي "يتم من خلال مكونين مركزيين: القصة
والخطاب. إن القصة هي المادة الحكائية، والخطاب هو طريقة الحكي"( )، لـهذا
كان مصطلحا (الخطاب) و(السرد) يحيلان إلى مفهوم واحد، هو التجلي اللفظي
للقصة، وبالنتيجة يكون السرد أ حد شطري الحكي، بوصفه الخطاب اللفظي الذي
يخبرنا عن هذا العالم، وهو الذي يسمى أحياناً بالتلفظ (....). أما الحكي
فهو ذلك العالم الذي يتضمن الفضاء والشخصيات والأحداث (...) إنه الحكي".( )
إن شمولية مصطلح الحكي ورحابته( ) جعلت منه أنجح من مصطلح السرد في
الدلالة على مستويي الخطاب الحكائي ـ الشكلي والمضموني ـ في آن معاً. وبذلك
يخلصنا مصطلح (الحكائية) من الانحياز إلى أحد هذين المستويين، كما في
مصطلحي (القصصية) و(السردية)، إلا أن هذا المصطلح الأخير قد لحق به مفهومان
مختلفان: الأول أجناسي، يحيل إلى الجنس الحكائي في كليته بكل تشكلاته، أما
الثاني فإجرائي، خاص بالمقترب الذي يتخذ من مقولات الشكلانيين حول
الحكائيات مرتكزاً. إلا أنهما معاً يعبران عن نظرة لفظية إلى الحكائيات،
وهي تتعارض ـ إلى حد ما ـ مع النظرة (السيميائية) التي تولي الجانب
المضموني اهتماماً خاصاً، فثمة إذاً اتجاهان رئيسان في دراسة الحكائيات،
هما السردي والسردي ـ دلالي (السيميائي). ولم يأتِ هذا الانقسام إلا نتيجة
انقسام المادة الحكائية ذاتها إلى مستويين،كان كل من الاتجاهين آنفي الذكر،
قد أعطى الأولوية لأحد هذين المستويين على حساب الآخر، بحسب اختلاف
الإرهاصات النظريةله، على الرغم من انسرابهما معاً من تحت ظلة الفكر
اللساني لدى سوسير.
ولابد لنا هنا من عودة إلى بواكير الفكر اللساني الحديث، وتحديداً
عند الشكلانيين. إذ كانت النقود الحكائية التي ظهرت فيما بعد، كلها متأثرة
بشكل أو بآخر بآراء دعاة هذا الاتجاه النقدي، وبدلاً من استعراض كل آراء
النقاد التي قيلت في الخطاب الحكائي، سنقصر القول على آراء أبرز دعاة هذا
الاتجاه اختزالاً:
اجترح توماشفسكي ـ أحد رواد الشكلانية ـ تقسيم الخطاب الحكائي على
مستويين هما: المتن والمبنى. إذ "إن المتن الحكائي هو: المتعلق بالقصة، كما
يفترض أنها جرت في الواقع، والمبنى الحكائي هو القصة نفسها ولكن بالطريقة
التي تعرض علينا على المستوى الفني".( ) لذلك كان الأخير وثيق الصلة
بالجانب الجمالي للحكي( ). يتجلى لنا من هذا مدى التقارب الكبير بين مصطلحي
(المتن الحكائي) و(المبنى الحكائي)، ومصطلحي (القصة) و(الخطاب) آنفي الذكر.
ولاسيما أن المصطلحين الأولين قد اقترنا بمصطلح ثالث هو (الحوافز). والحافز
يمثل أصغر وحدة لسانية غير قابلة للتجزئة، وهي (الجملة)، إذ انقسمت هذه
الحوافز بدورها، بحسب درجة فاعليتها، إذ إن بعضها "تكون أساسية بحيث إذا
سقطت من الحكي تختل القصة، بينما البعض الآخر منها لا يكون ضرورياً بالنسبة
للمتن الحكائي. فحتى لو سقط أحدهما، فإن القصة تبقى محتفظة بانسجامها،
وتسمى الحوافز الأولى: (حوافز مشتركة)، أما الثانية فـ(....) (حوافز حرة)"
( ). وبهذا ترتبط المشتركة ـ إذاً ـ بالمتن الحكائي، أما الحرة فترتبط
بالمبنى الحكائي، لما توفره من صياغة جمالية. بيد أن هذا لا يعني أن المبنى
الحكائي قائم فقط على الحوافز الحرة، فهو خليط متجانس من الحرة والمشتركة
في الآن ذاته، على العكس من المتن الذي لا يتجلى إلا عبر المشتركة.
وقد تخطى توماشفسكي هذا التقسيم للحوافز بتقسيم آخر يبدو أكثر
تفصيلاً، وسيكون لـه أثر فاعل فيمن جاء بعده( ) يتمثل في: الحوافز
المتحركة، والحوافز القارة. أما الأولى فتضطلع بمهمة تغيير الأوضاع في
الحكي، أما الثانية فمهمتها لا تعدو التمهيد للأولى، لذلك كانت "جميع
الحوافز القارة هي حوافز حرة، بل هناك ماهو أساسي فيها، لأنه ضروري للمتن
الحكائي نفسه"( )، وبهذا تكون الحوافز القارة أشمل من الحوافز الحرة آنفة
الذكر، والمشتركة اشمل من المتحركة.
ومن تحت لواء النقد الشكلاني ذاته، يطالعنا بروب الذي أولى الجانب
الدلالي اهتماماً ملحوظاً، من خلال اجتراحه لمصطلح (الوظيفة)، ذات الطابع
النصي المشترك، إذ "إن العنصر التوحيدي الهام في القصة الخرافية، موجود لا
في المستوى شبه ـ الصوتي، وعبر الشخصيات التي تظهر في القصة، بل في المستوى
الصوتيمي في وظائف الشخصيات: في الدور الذي يلعبونه في الحبكة"( ). فلكي
يصدق اصطلاح الوظيفة على عمل شخصية ما، لابد من أن يتكرر، لأن تواتره في
سياقات مختلفة، لم يأت عفو الخاطر، وإنما لغاية دلالية معينة. لذلك كان
المهم "في دراسة الحكاية، هو التساؤل عما تقوم به الشخصيات. أما من فعل هذا
الشيء أو ذاك، وكيف فعله، فهي أسئلة لا يمكن طرحها إلا باعتبارها توابع لا
غير".( )
ومن المسلم لدينا ـ بحسب ما ورد ذكره ـ أن بروب قد أولى جل اهتمامه
بالثوابت النصية لا بالمتغيرات، نتيجة لتساؤله الدائم عن السبب الكامن وراء
تواجد سلسلة معينة، الأمر الذي أخرجه من الأطر الشكلانية، عندما توصل إلى
"أن البحث الشكلاني لا يكفي وحده لقيام نقد حقيقي للأعمال القصصية، لأنه في
لحظة ما، وعندما يتم تحليل البناء الداخلي، تفرض كثير من التساؤلات نفسها
على الناقد دون أن يستطيع الاعتماد على البناء الداخلي للإجابةعنها، وخاصة
منها تلك التساؤلات التي تتعلق بدلالة هذا البناء الوظيفي نفسه".( ) فأعلن
بذلك ولادة الاتجاه السيميائي في تحليل الخطاب الحكائي، عبر اهتمامه
بالجانب الدلالي ـ النصي، إذ "إن تنظيم بروب يقترح علينا إمكانية قراءة كل
خطاب سردي، باعتباره بحثاً عن المعنى وعن الدلالة التي تعطيها للفعل
الإنساني".( ).
وهنا لا مناص من الإشارة إلى أن أية دراسة نقدية لكي تكتمل، ينبغي
لـها أن لا تقف عند حدود معينة سواء أكانت شكلية أو مضمونية، فليس ثمة شكل
بلا مضمون، ولا مضمون بلا شكل، فإذا كان الأدب يحقق كينونته الجمالية من
خلال الشكل، فإن هذا الشكل لكي يحوز على شرعيته، لابد من مضمون ما، فثمة
إذن علاقة جدلية تربط هذين المستويين ببعض.
وقد شغلت هذه العلاقة بين مستويي الخطاب ـ الشكلي والمضموني ـ
النقاد الأكثر حداثة فصارت دراساتهم مكرسة على البحث في كيفية الربط
بينهما. فعندما قسم تودوروف ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قضايا الخطاب
الحكائي، على مقولات ثلاث هي: الزمن، والجهة، والصيغة. لم يكن هذا التقسيم
شكلياً البتة، مادام يوفر الربط مابين المستويين اللفظي والواقعي للخطاب
الحكائي:
ففي مقولة (الزمن) يتم التمييز بين زمن القصة وزمن الخطاب. وفي
مقولة (الجهة) يتم إيضاح وجهة نظر السارد تجاه القصة. وفي مقولة (الصيغة)
تم تحديد المسافة التي تفصل ما بين القصة والخطاب، عبر تشكلين هما: العرض
والسرد( ). وسنفصل القول في كل واحدة من هذه المقولات الثلاث، في حين
ورودها لاحقاً.
وقد استأثرت هذه التقسيمات باهتمام جينيت فسعى إلى تطويرها، عندما
صرح في مستهل كتابه (خطاب الحكاية) قائلاً: "تحليل الخطاب السردي كما
أفهمه، يستتبع باستمرار (...) دراسة العلاقتين، وأعني: من جهة العلاقة بين
هذا الخطاب نفسه والفعل الذي ينتجه"( ). لـهذا انقسمت دراسة الخطاب الحكائي
ـ لديه ـ على ثلاث مقولات أيضاً، تتمثل في: العلاقة بين الحكاية والقصة،
والحكاية والسرد، والقصة والسرد( ).
وبعد تبنيه لمصطلحات (الزمن) و(الصيغة) و(الصوت)، بدلاً من الجهة،
أوضح أن هذه المصطلحات تتوافق مع تقسيماته الثلاثة آنفة الذكر "بكيفية
معقدة: فالزمن والصيغة يشتغلان كلاهما على مستوى العلاقات بين القصة
والحكاية، بينما يدلّ الصوت في آن واحد، على العلاقات بين السرد والحكاية،
وبين السرد والقصة"( ). فيسعى إلى إيضاح العلاقة الخاصة بكل واحد من هذه
المصطلحات، في مستهل الفصل الخاص به.
وعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً على هذا الثالوث الحكائي ـ زمن، صيغة،
صوت ـ من عدم اشتغال على رقعة الخطاب الحكائي في كليته، بوصفه قائماً
بالضرورة على أركان ثلاثة هي:
الراوي المروي المروي لـه( )
إلا أننا نرى أنه يغطيها تماماً، من خلال تمازجها معاً، وتمخضها
نتيجة ذاك التمازج عن مقولات: (الزمن) و(الصيغة) و(الصوت). إذ إن اقتران
الراوي والمروي لـه بشكل يصعب فصله، يجعل من أي بحث في الراوي، هو تلقائياً
بحثاً في المروي لـه، فـ"ما أن تأخذ ملامح صورة السارد في البروز بوضوح،
حتى تكون صورة القارئ الخيالي قد ارتسمت بدورها بدقة أكثر، هاتان الصورتان
خاصتان بكل عمل أدبي تخييلي".( )
وإذا تزامن وجود الراوي والمروي لـه، فلابد من فعل يجمعهما، وهو
قطعاً المروي. لـهذا فنحن نفضل هذا التقسيم الثلاثي ـ زمن، صيغة، صوت ـ
لكونه يوفر دراسة مستويات الخطاب الثلاثة بشكل متزامن، دونما عزل لأحدها عن
الآخر، إذ المهم في الأمر، عدم الفصل بين مكونات الخطاب. وهنا لا مناص من
استذكار الترسيمة المفصلة المقدمة من لينتفليت، حول مقتضيات النص السردي(
). التي استوحاها أحد النقاد فيما بعد، مع شيء من الاقتضاب إبان تمييزه بين
مصطلحات: (القصة، الخطاب، النص)( ).
إن استكناه تينك الترسيمتين، من شأنه أن يوحي لنا باختزالهما معاً،
بالشكل المزدوج الآتي:
ومن خلال ما سلف يمكننا استشفاف ثلاثة مستويات للمادة الحكائية، هي:
القصة، والخطاب، والنص. كما تمثل (القصة) المستوى الأحادي الوحيد، من خلال
ربطه بين طرفي تشكل مزدوج للمستويين الآخرين، اللذين تمظهرا عبر قطبين
ثلاثيي التحقق، هما: المرسل، والمرسل إليه، وبالشكل الآتي:
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
المبحث الأول
الصيغة
الحكائية
إن كل عمل أدبي ـ حكائياً كان أم غير حكائي ـ رهين في تشكله
بصياغته، على نحو ما، تلك الصياغة التي تمنحه بلا جدال مفاتيح كينونته
الأدبية، لا بل هي التي تؤهل عملاً أدبياً ليكون كذلك.
من هذا المنطلق يمكننا إذاً أن نتلمس الأهمية القصوى لموضوعة
(الصيغة)، التي كانت وما زالت مدار نقاش التيارات والاتجاهات النقدية على
اختلاف إرهاصاتها، فقد تكون منطلقاً لغاية ما، وقد تكون غاية لمنطلق ما،
وقد تكون المنطلق والغاية في الآن نفسه.
ولا مناص من التطرق لما لمصطلح الصيغة من مفهوم فضفاض، من شأنه أن
يشمل كيفيات التشكل الأدبي ـ الجمالي عامة، الأمر الذي يدخله في كل دقائق
العمل الأدبي، والمسألة ليست بهذا التعميم:
فنحن إذ نتناول مصطلح (الصيغة) في الفصل الخاص بالمثل الحكائي
تحديداً، فإن (الصيغة) المعنية هنا هي الصيغة المتعلقة بكيفيات التشكل
الحكائي( )، ولابد من التذكير هنا، أن مصطلح (الحكائي) يخرجنا من الخطاب.
فهو بحسب تودوروف "يتعلق بالكيفية التي يعرض لنا بها السارد القصة (...)،
وهناك نمطان رئيسان من أنماط السرد: التمثيل أو العرض (...) والحكي( )
(..)، وهذان النمطان يقابلان في مستوى أكثر عينية (...): الخطاب، والقصة"(
). ولا ندري ما الغاية من هذا الربط الذي قدمه تودوروف بين (العرض والخطاب)
و(السرد والقصة)، مادام الخطاب والقصة مستويين كامنين في كل حكي: فليس من
الممكن قصر أحدهما على تمظهر صيغي مادون سواه.
وليس بغائب عن الأذهان المحمول المفهومي لمصطلحي (العرض) و(السرد)،
آنفي الذكر. إذ يحيل الأول منهما إلى الكلام الوارد على لسان الشخصيات. أما
الثاني فيحيل إلى كلام الراوي ذاته. ولا مناص من التنويه هنا بما أكده
تودوروف نفسه في موضع آخر، عندما ذهب إلى حضور الطابع التمثيلي في السرد
أسوة بالعرض. وإذا كان التمثيل جلياً للعيان في (العرض)، ومغيباً ـ إلى حد
ما ـ في السرد، فمن غير الممكن تحقق سرد مجرد من أدنى تمثيل، "فالكتابة
الشفافة الثابتة عند درجة الصفر، لا وجود لـها، وليس الحكي (السرد) إلا أحد
القطبين اللذين يترجح بينهما أسلوب المنطوق الروائي".( ) فالسرد إذاً ليس
مرجعاً في ذاته، وإنما أحد تشكيلات المضمون. فإن الصيغ المحكية سواء أكانت
مباشرة أم غير مباشرة لا يكون مرجعها هو قيمة الصدق، لأنها في الحالين لن
تكون الصيغة الاعتيادية للكلام في أول نطقه( ).
وبهذا صار من المسلم لدينا إنه من العبث ترجيح كفة أحد هذين
التمظهرين الصيغيين على الآخر بشكل مطلق، لأن استخدام كل منهما لابد من أن
يكون محكوماً بمعطيات الموضوع الذي يعالجه. كما أن الطابع الحرفي ـ على حد
تعبيره ـ حاضراً في هذين التمظهرين الصيغيين على السواء، لذا لابد من تقسيم
آخر يراعي الربط بين هذا الطابع والطابع المرجعي:
ـ خطاب إيحائي: يومئ إلى سياق مجاور من الكلمات.
ـ خطاب ذاتي: يؤكد الناطق فيه بعض المعينات العائدة إليه أو إلى
مكان أو زمان وجوده....الخ.
ـ خطاب منقول: وهو ما سبق أن نطقت به إحدى الشخصيات قبل لحظة إدراجه
ضمن السياق النصي( ).
وقد لقي مفهوم الصيغة تطوراً عندما ربطه جينيت بمصطلحي (المسافة)
و(المنظور): فقد لمس أن للخبر السردي درجاته، فالحكاية يمكنها أن تزود
القارئ بما قل أو جل من التفاصيل، وبما قل أو جل من المباشرة، وأن تبدو
بذلك على مسافة بعيدة أو قريبة مما تروي، ويمكنها أن تختار بتنظيم الخبر
الذي تبلغه حسب القدرات المعرفية عند هذا الظرف المشارك أو ذاك، في القصة
وعندها تبدو الحكاية متخذة، حيال القصة، هذا المنظور أو ذاك. و(المسافة)
و(المنظور) هما الشكلان الأساسيان لذلك التنظيم للخبر السردي، الذي هو
الصيغة( ).
وقد اعترض جينيت على التقسيم التقليدي لموضوعة الصيغة إلى (سرد)
و(عرض)، لكون التمثيل الحكائي مختلفاً عن التمثيل المسرحي، بوصف الأول لا
يمكن أن يقلد قصة ما، موهماً بمحاكاتها، لا لشيء سوى لكونه يمثل "واقعة
لغوية، وإن اللغة تدل دون أن تقلد"( ).
لذلك اجترح تقسيماً آخر هو:
ـ حكاية الأحداث: على لسان الراوي.
ـ حكاية الأقوال: على لسان الشخصيات، إلا أنه فضلاً عن هذا التقسيم
الرئيس ذهب إلى ضرورة تقسيمات أكثر تفصيلاً، بحسب المسافة التي تفصل الخطاب
عن القصة.
ونلحظ على آراء جينيت آنفة الذكر أنه إبان كلامه على المنظور أولاً،
كان لابد لـه من أن يتكلم على الصوت سواء أكان مرتبطاً بالراوي أم
بالشخصية، فالمنظور إذاً أدنى إلى الصوت منه إلى الصيغة.
فلابد إذاً من تبني مفهوم صيغي خالص ينحو إلى التجرد ـ إلى حد ما ـ
من كل ما من شأنه أن يسحبه إلى موضوعات مجاورة، ولاسيما الصوت منها
تحديداً، فإذا كان الصوت لا يتجلى عبر الراوي، فإن المسافة المتجسدة عبر
موضوعة الصيغة، هي ـ بالضرورة ـ ليست ترديداً، أو جزءاً مما سيرد ذكره في
الصوت، وإلا لما جاز لـها أن تنفرد بمبحث خاص بها، فهي إذاً لا تمثل
المسافة التي تفصل الراوي عن القصة أي المنظور البتة، لأن ذلك سيؤدي قطعاً
إلى ارتباك وتداخل كبير بين هذين المبحثين. الأمر الذي سيستدعي معه الخضوع
لأحد أمرين:
ـ إما تعديل مفهوم الصيغة لتقتصر على ماهو خاص بالمسافة، التي تفصل
الخطاب عن القصة من خلال دراسة طريقة عرض هذه الأخيرة فيه. وإرجاء الكلام
عن (المنظور) لحين دراسة الصوت. وهو المرجح لدينا.
ـ أو إبقاء (المنظور) ضمن دراسة الصيغة، مما سيتطلب عدم فصل
المقولات الخاصة بالراوي من (وجهة نظر) و(صوت) في مبحث مستقل، لأن الفصل
سيغدو غير مبرر، مادام سيكرر كثيراً مما سيتم ذكره في (المنظور). وهو أمر
مرفوض لدينا، لأن لكل من موضوعتي (الصيغة) و(الصوت) استقلاليته المفهومية
عن الآخر، تلك الاستقلالية التي ترجح معها دراسة مستقلة لكل منهما. ولكن
تسليمنا بذلك لا يمثل تقنيناً صارماً، لأننا نعي أن كلاً من مباحث (الصيغة،
والصوت، والزمن) أيضاً، يوجد بشكل متزامن في أي خطاب حكائي، والاستقلالية
التي تدعو إليها هي استقلالية لمفاهيمها الخاصة، لأجل النهوض بدراسة وافية
لكل واحد منها، أما أن تطلب الأمر ـ إبان التحليل التطبيقي ـ بعض الخروقات،
لأجل إتمام المعنى، فلا بأس بذلك، ولكن على أن لا يتم ذلك الخرق في
التقسيمات الرئيسة للمنطلقات النظرية لكل واحد منها.
فماهو التقسيم الذي بإمكاننا أن نطبقه، ونحن مطمئنون إلى عدم اختلاط
مفهوم (الصيغة) بسواه إذاً؟.. وهل من الممكن الاستغناء عن الصيغتين
التقليديتين (السرد) و(العرض)؟..
من الممكن تحقيق ذلك إذا ما راعينا فقط (المسافة) التي تفصل الخطاب
الروائي عن القصة المروية، بغض النظر عن (من الذي يتكلم؟...)( ). فمن
الممكن ـ إذاً ـ أن ينضوي خطابا الراوي والشخصية معاً تحت أحد الأنماط
الصيغية. كما أن من الممكن أن ينفصلا عن بعض، فهذه إذاً ليست هي القضية
الرئيسة، وإنما الاستقرار على صيغة معينة أو عدمها. فثمة إذ اختلاف رئيس في
التنميط الصيغي يتجلى في: التنقلات الصيغية، والثبات الصيغي.
أولاً: التنقلات الصيغية:
أي عدم الثبات على صيغة بعينها. كما في قوله تعالى:
أو
كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها
فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل
لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية
للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين لـه قال أعلم
أن الله على كل شيء قدير. ( )
إن قراءة فاحصة للنص الحكائي آنف الذكر من شأنها أن تسفر عن التماس
تلك المداورات الصيغية، عبر التنقل بين تمظهرات عدة لـها، تبدو ظاهرياً
مختلفة. إذ من غير الممكن بتاتاً، الركون إلى صيغة بعينها في النص في
أعلاه، مع التسليم بأن ليس ثمة تمظهر صيغي آخر يتنازعها. لا بل ليست ثمة
صيغة ما، قد فرضت نفسها بشكل لافت وأكبر من سواها من التمظهرات الصيغية
الأخرى. ولابد من أبعاد دلالية خاصة استوجبت هذا التشكل.
بدءاً لا مناص من الإشارة إلى الحقبة الزمنية الطويلة نسبياً، التي
يغطيها هذا المثل المقتضب. وعلى الرغم من ذاك الاقتضاب الشديد، ينشغل
القارئ بالتنقلات الصيغية عن ذلك. إذ لا مراء فيما يبتدئ به هذا النص
الحكائي من الصيغة المباشرة للسرد، من خلال تكلم الراوي على الحدث الذي مرت
به شخصية غائبة عن فعل الكلام. وهو هنا مرورها بقرية قد قضي أمرها، ولحق
بها الخراب، لا بل والخواء أيضاً. وهي الصيغة المناسبة لابتداء الحكي،
مادام لم يتم الولوج في صلب موضوع القصة بعد، فضلاً عن ما لـهذا التشكل ـ
المسرود المباشر ـ من قدرة اختزالية، لأنه لم يأت على لسان الشخصية، وإنما
على لسان الراوي الراصد، الذي يحكي لنا ما تم فعلاً، دون أن يعرج على ما
سوى ذلك من أحكام خاصة به أو بسيرورة الحدث. وهو ما سنبينه لاحقاً إبان
تناولنا لموضوعة(التبئير). المهم في الأمر أن المسألة ـ على ما يبدو ـ تركت
للقارئ، دونما توجيه لفظي صريح، إلى حكم ما خاص بالراوي دون سواه. فهذه
الصيغة تجعل الراوي على مسافة من الحدث مما يجعل الخطاب عاماً ومختزلاً.
بيد أننا نرى أن المسألة ليست بهذا التحجيم، لأن الراوي قد ضمن
أحكامه بطريقة جمالية أدبية، عبر تقنيتي السرد، والعرض المتجلي عبر الحوار
بتمظهريه ـ الداخلي (المنولوج)، والخارجي، الأمر الذي أبعد هذا الخطاب
الحكائي كلياً عن التقريرية المباشرة.
إذ ينعطف الخطاب بشكل مباغت من صيغة المسرود إلى صيغة المعروض. ولم
تقف الانعطافة الصيغية عند هذا الحد، وإنما تجاوزته إلى الانتقال من الخارج
إلى الداخل. فبعد أن كانت الشخصية مغيبة تماماً عن فعل الكلام، نراها تقوم
بالكلام، لتصبح هي المتكلم والمخاطب في الآن ذاته, من خلال الخطاب الذاتي،
الذي تجسد عبر تساؤلها تساؤلاً إنكارياً عن إمكانية إحياء تلك القرية بعد
موتها. وقد كان هذا التوظيف فاعلاً في التعبير من خلاله عن دواخل الشخصية
ونوازعها الخاصة، التي ليس بإمكانها البوح بها بصيغة الحوار الخارجي. إذ
"إن المنولوج من حيث روحه يعبر عما خفي من الأفكار"( )، لا لشيء سوى لما
يمتاز به هذا التمظهر الصيغي، بوصفه وسيلة "من وسائل تبسيط الحركة الدرامية
واختصارها"( )، إذ يعود عنصر التبسيط فيه، إلى عرض نوازع الشخصية، مجردة من
أي تزويق، لذلك كانت أكثر وضوحاً فيه من سواه، أما الاختصار فناجم عن
اقتصاره على شخصية واحدة، الأمر الذي لا يؤدي إلى تفريعات حوارية، ناجمة عن
اختلال منظور كل شخصية من الشخصيات المتحاورة، فهو إذن حوار دائري ترجيعي،
ينطلق من الذات ويعود إليها مباشرة".( ).
وعلى الرغم من ذلك فإن هنالك ما يجعل هذه الشخصية عامة، والحوار
الذي توجهت به إلى ذاتها لا ذاتياً. لكونها شخصية مبهمة نصياً لم تحدد
هويتها، وهي إذ جاءت معبراً عنها بالاسم الموصول (الذي)، فإن هذا التعريف
كان كفيلاً بزيادة إبهامها، لأن صيغة الاسم الموصول تتطلب لغرض اكتمالها
المعرفي صلة ما تزيل إبهامها. والصلة التي تحققت هنا هي مرور الشخصية بقرية
منكرة، لم تعرّف، ولم يحدد موقعها الجغرافي على الخارطة، فهي إذاً قرية
ما!...
فإذا كان الحوار الداخلي ذاتياً، آلية اشتغاله هنا، أكسبته قدرة
أخرجته من أطر الذات الضيقة، إلى ماهو عام وكلي وشمولي. وقد تعاضدت صيغة
المسرود، التي كانت تطل علينا كلما اقتضى الأمر، اختزالاً لحدث طويل، دونما
إشعار بالرتابة.
إذ نلمس حضور صيغة المسرود من جديد، وبنفس الاقتضاب السابق، وعند
قوله تعالى:
فأماته
الله مئة عام ثم بعثه
تحديداً. فوظف القدرة السردية على الاختزال، في لف حدث يمتد على مدى أكثر
من مئة عام من الزمان، للموت النصيب الأكبر فيها، دونما إشعار بالرتابة.
فضلاً عما أمدت به النص من بعد دلالي، يشف عن الثيمة الكبرى لـه. ولم يأت
الحوار المتحقق بعدها، كما نرى، إلا إيضاحاً لذلك التكثيف الشديد للفكرة
المعروضة فيها.
بيد أن الصيغة التي تم عرض ذاك الإيضاح فيها أسهمت في تغييب مهمتها
الإيضاحية التقريرية تلك. عبر أكثر من تجل جمالي لـها، وعلى النحو الآتي:
كان لاستخدام صيغة (المعروض)، لحوار قد تم بين متحاورين مختلفين
فكرياً، أثره في خفوت البعد التقريري، لكونه يتيح لكل متحاور استنفاد أدلته
لإثبات صحة وجهة نظره، وترك البت في المسألة للقارئ، الذي تعرض لـه
المحاورة، وعليه أن يستشف الحكم الذي لم يصرح به الراوي الغائب. وبما أن
ذاك الاستنفاد للدلائل لم يتم من قبل الشخصية، وإنما من قبل محاور الشخصية،
المتمثل بالله تعالى( )، فإن النتيجة باتت محسومة.
كما أن استخدام ضمير الغائب المتضمن في الفعلين (أمات) و(بعث)،
بدلاً من ضمير المتكلم، قد أسهم بشكل فاعل في الفصل الظاهري بين الراوي
ومحاور الشخصية ـ الله تعالى ـ. الأمر الذي جعل من الأحكام المنطوقة من قبل
الله، في غاية الانسيابية، إذ إنها لا تشعر القارئ بأن ثمة أمراً ما
مفروضاً عليه من قبل سلطة عليا. ولاسيما أن الحوار المتحقق كان حواراً
عقلياً هادئاً، إذ إن تضمينه بعنصر فوق ـ كلامي، متمثل بفعل القول ـ غير
المنطوق من قبل المتحاورين، وإنما من قبل الراوي، قد أسهم في عزل خطاب كل
منهما عن الآخر، فكان لـهذا العنصر فوق ـ الكلامي أهميته في تحقيق وقفات
طويلة نسبياً، أثمرت عن تقسيم الحوار الدائر بينهما إلى رزم كلامية، لا
تختلط سياقاتها ببعض. مما منح الحوار نوعاً من الهدوء النسبي أيضاً، عبر
هذا التقطيع المتتابع، دونما احتشاد أكداس من السياقات، ليس بينها أدنى
فاصل أسلوبي، الأمر الذي جعل هذا الحوار يحمل طابعاً تأملياً أكثر منه
إلزامياً.
فضلاً عن استخدام الإثبات المنطقي في إقناع الخصم، من دون ازدراء
برأيه، إذ "نجد الخصم في محاورات الدين في القرآن الكريم مصوناً من الأذى
حتى يصدر عليه الحكم"( )،عبر افتراض صحة ادعاءاته( )، من أجل التحاور من
خلاله مع كل من يذهب مذهبه.فقد ألزمه الله الحجة لا من خلال إحياء القرية.
وعلى الرغم مما ضمن به هذا الخطاب المعروض في التحاور ـ قريباً من
منتهاه ـ بعبارة مسرودة، يفترض أن تعود إلى الراوي وهي ((فلما تبين لـه))،
إلا أنها لشدة اقتضابها، وتضمينها ضمن التناوب الحواري الحاصل بين
المتحاورين، مما منحها القدرة على توجيه الخطاب وجهة معينة من دون الإشعار
بذلك، فقد حسمت نتيجة الحوار، لأنها مضمنة ـ على قصرها ـ دلالة مكثفة، بوصف
الشخصية المعروضة هنا قد تبينت أو توضحت لديها الصورة، مما يدل على عدم
اتضاحها وتشوشها قبل ذلك وهو حكم مبطن لم يتم التصريح به مباشرة.
فكانت عبارة
فلما تبين لـه الصغيرة، قد اختزلت انعطافة فكرية كبيرة، من خلال سبقها بما يدل
على كفر الشخصية، ثم اتباعها بما يدل على إيمانها، وعند قول الشخصية
أعلم
أن الله على كل شيء قدير
تحديداً. وأن حضور لفظ الجلالة في هذا الخطاب المعروض، على الرغم من كون
الله تعالى يمثل الطرف الثاني في الحوار الخارجي الذي دار قبل ذلك، يحيلنا
إلى أن المعروض هنا ذاتي، لأنه ليس ثمة ما يدل على مخاطبة الشخصية لله
تعالى بشكل مباشر.
وبهذا يكون هذا الخطاب المعروض قد انتهى صيغياً كما ابتدئ بحوار
داخلي، على الرغم من تموضع الموقفين الفكريين المجسدين عبره على طرفي نقيض
من بعضهما. مما يزيد من حدة التناقض بين موقفين يعودان لشخصية واحدة. وقد
كان هذا التوظيف فاعلاً جداً في التعبير عن ما يدور في خلد الشخصية فعلاً.
أما دلالياً، فمن الممكن استشفاف الترابط التقني ـ الدلالي عبر تقصي
الشكل الثيمي للنص:
لقد ابتدأ النص بالتساؤل عن إمكانية الإحياء، وهو ما يحيلنا إلى
دلالة (الكفر). إذ يتم إبطال هذا التساؤل تماماً بعد ذلك من خلال (الموت)،
ثم يتم التحاور العقلي بعد الانبعاث (حياة). وأخيراً التسليم بقدرة الله
(الإيمان).
إذاً ثمة أربع ثيمات دلالية صغرى يدور حولها النص قيد المناقشة، من
الممكن اختزالها في قطبين رئيسين وبالشكل الآتي:
وقد كان لتأطير النص الحكائي بالقطب الدلالي (كفر/إيمان)، أثره في
أن يجر كل ما سواه إلى ساحته. وهنا نلمس ارتباط هذا التأطير بصيغة المعروض
الذاتي (مونولوج)، واختصاص القطب الثاني (موت/حياة) بصيغة المعروض الخارجي
(الحوار التناوبي). وتأرجح صيغة (المسرود) مابين القطبين معاً.
ولابد من وجود مسوغ دلالي ما، استوجب هذا التشكل التقني. وإن
استجلاءً بسيطاً من شأنه أن يقودنا إلى ذلك الانتقال من العام إلى الخاص،
ثم العودة إلى العام من جديد. فالتخصيص لم يتحقق إلا في ثيمة
(الحياة/الموت)، إذ إن إماتة شخص ما، ثم إعادته إلى الحياة الدنيا لا
الحياة الآخرة، فيه استثناء خاص به، وعلى النحو الآتي:
إن استجلاء مزدوجاً للترسيمتين آنفتي الذكر، من شأنه أن يوصلنا إلى
ما أمد به هذا التضمين الخاص في سياق العام، من اكتساب دلالي متبادل. إذ لم
يتم إبطال الكفر إلا بعد القياس على الخاص:
كفر اكتساب موت/حياة اكتساب
إيمان.
فقد تم تعطيل الثيمة الأولى بسبب تضمينها بالثيمة الثانية، إذ لم
تتم إجابة هذا الكافر عن تساؤله الإنكاري بتحقيق ما تساءل عنه بشكل مباشر،
وهو إحياء القرية، وإنما عبر الاستعانة بمعجزة خاصة به، هي إماتته هو ثم
إحياؤه، والقياس عليها، ولا مراء فيما تحمله المعجزة الخاصة من تأثير أكبر.
فضلاً عن الاستعانة بالاستدلال بما هو مسلّم به من قبل الشخصية، عند قوله:
وانظر
إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً،
ففي ذلك إشارة إلى خلق الإنسان من عدم، وهو نوع من الاستدلال بمجاراة
الخصم، وهذا الاستدلال يتطلب أن "تسلم للخصم ببعض مقدماته مع الإشارة إلى
أنها لا تنتج ما يريده هو، بل هي مساعدة على إنتاج ما تريد أنت"( ).
وبما أن السبب المباشر في الكفر هنا هو التشكيك في عدم إمكانية تحقق
الحياة بعد الموت، فإن بطلانه من خلال إثبات نقيضه، لابد من أن يبطل الكفر
معه، وبهذا يتحقق الاكتساب الأول عبر الانتقال من الخاص إلى العام.
أما الاكتساب الثاني ـ من العام إلى الخاص ـ فيتحقق بعد الإيمان،
لأنه يمنح قيمة (حياة/ موت) الخاصة، دلالة عامة، فقد تحقق الإيمان بعد
الكفر، كما تحققت الحياة بعد الموت، فموت هذا الكافر ثم إحياؤه، ماهو إلا
كفره ثم إيمانه، وبذلك تتحقق الغاية من قوله تعالى عنه:
ولنجعلك
آية للناس، لما تحمله هذه الثيمة من دلالة عامة مجاورة، من شأنها أن لا تختص
بشخص هذا المتسائل تحديداً، وإنما بكل مشكك أو كافر، وهذا يحقق مساراً
عكسياً للدلالة. وهو ما أشار إليه ريفاتير عندما ذهب إلى أن خاتمة النص
تؤدي إلى إعادة تأويل النص من جديد. لتكون نهايته ـ بذلك ـ إيذاناً ببداية
جديدة، بل ومتجددة.
ثانياً ـ الثبات الصيغي:
وفيه يتم الركون إلى صيغة واحدة، دونما أدنى تغيير، كما في قوله
تعالى:
وضرب
الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت
بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون*ولقد جاءهم
رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون.(
)
يلتزم المثل الحكائي قيد الرصد، صيغة واحدة هي صيغة المسرود، فكان
للتتابع الذي توفره هذه الصيغة، أثره الفاعل في تشكله، عبر نمو الحدث نمواً
متصاعداً، بطريقة انسيابية. فقد تم استثمار القدرة الهائلة لـهذه الصيغة في
عدم تعطيل الزمن عند نقطة معينة كما في الحوار الخالص في عرض الأحداث بسرعة
كبيرة، نظراً لقصر النص قياساً بالمسافة الزمنية الطويلة، التي يفترض أن
تكون قد غطتها القصة. فضلاً عن تحقيق الربط بين الأحداث، عبر الفاء
التعقيبية. التي نهضت بمهمة ترتيب اللقطات ترتيباً متدرجاً، من دون أدنى
قطع زمني.
وقد تآزر مع آلية التتابع المقتضب هذه، آلية أخرى كانت متساوية جداً
معها، وهي الفصل المتحقق بين الراوي والمروي عنه (الله تعالى) ( )، مما
أوحى بأن ثمة مسافة ما تفصل الراوي عن ما يقوم بروايته، الأمر الذي جعل من
التتابع السردي آنف الذكر طبيعياً وانسيابياً، بعيداً عن الأحكام التي من
الممكن أن تأتي على لسان الراوي، والتي حال هذا الفصل بين الراوي والمروي
عنه، دون تحققه. وقد تساوق مع هذه الآلية لاشتغال المسرود آلية أخرى، تتمثل
في إسناد فعل الكفر إلى القرية، مما أدى إلى نوع من الشمول، أسفر عن تماهي
عنصر الشخصية ـ سكان القرية ـ في هذا الكل الواحد، لأن حضور الشخصية يقتضي
ـ بالضرورة ـ إدراج بعض العبارات الجاهزة على لسانها. من خلال بعض الوقفات
التأملية لـها، وعبر تقنية الحوار، تلك الوقفات التي حال التنامي السردي
دون تحققها تماماً.
كل ذلك حصر المواجهة بين قطبين رئيسيين يتمثلان بمواجهة القرية
بكليتها، لله تعالى الذي يمثل القطب الثاني، والذي تم التعبير عنه بصورة
مباشرة دونما أدنى واسطة، كالأنبياء والرسل أو العباد المؤمنين، على سبيل
المثال. على العكس من القطب الآخر، الذي لم يتم التعبير عنه بهذا الشكل
المباشر، وذلك عبر توظيف تقنية المجاز العقلي، التي أدت إلى نسبة فعل الكفر
إلى القرية لا إلى أهلها، فضلاً عن عدم تحديدها أو حتى تعريفها، الأمر الذي
دعا إلى أن يختلف "المفسرون هل المراد بهذه القرية قرية معينة، أو المراد
قرية غير معينة".( )
فانتقلت الدلالة بذلك من الكثرة إلى القلة. فقد عادلت القرية ـ بذلك
ـ شخصاً واحداً ليس إلا، كما لم يتم إصدار أدنى حكم تقريري صريح. حتى
النتيجة التي آلت إليها المواجهة في خاتمة المثل الحكائي لم تكن تقريرية
أوخطابية مباشرة، وإنما تعالقت مع ما قبلها بتعالق حتمي، بوصفها الحلقة
الأخيرة من حلقات ذاك التتابع السردي المتنامي، فلم يكن الحكم النهائي
فيها، أو في أية عبارة بعينها، وإنما جاء مستوحى من هذا التتابع في جملته.
وما عزز من التنامي الحدثي الذي يوفره السرد، السكون الصيغي عند
صيغة المسرود هذه، دونما أدنى انعطافة صيغية، من شأنها أن توقف الحدث، أو
تغيبه وراء ملاحقة التنقل الحاصل من صيغة إلى أخرى.
وبذلك فإن السكون الصيغي لا يؤدي ـ في أي حال من الأحوال ـ إلى ركون
دلالي، من خلال ما يوفره من تنام متصاعد للحدث. وهو ما نلمسه في هذا النص
بجلاء، الذي ـ على قصره ـ كان موزعاً على ثلاث وحدات دلالية رئيسة. الأمر
الذي جعل منه في غاية التكثيف الدلالي. إذ إن هذا القدر من الوحدات
الدلالية الكبرى من الممكن أن تحمله نصوص حكائية كبرى. وتتمثل هذه الوحدات
الدلالية على النحو الآتي:
الوحدة الأولى:
قرية كانت آمنة مطمئنة
يأتيها رزقها رغداً من كل
مكان.
الوحدة الثانية:
فكفرت
بأنعم الله.
الوحدة الثالثة:
فأذاقها
الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وقد تحقق التشكل الثيمي للوحدة الدلالية الأولى، عبر المعانم الصغرى
الآتية: (الأمن، الاطمئنان، الرزق الرغيد، نعمة الله)، ومن الممكن أن
تتمحور كل هذه المعانم حول ثيمة (الحياة). ومن المسلم به وقوف هذه الوحدة
دلالياً على الطرف النقيض من الوحدتين التاليتين لـها، لكون المواجهة التي
تمثلت في تينك الوحدتين لم تبتدئ بعد.
ومن الجلي الدور الانتقالي الذي أدّته الوحدة الدلالية الوسطى أو
الوسيطة، بتعبير أدق. فقد تحققت المواجهة من خلال الكفر، الذي أسفر عن
الوحدة الدلالية الثالثة، عبر معانم (الجوع، الخوف، الذل، الخذلان، الفشل)،
وكلها تحيل إلى خلاف دلالة(الحياة)، آنفة الذكر أو إلى الـ(لا حياة) بتعبير
آخر. وبالشكل الآتي:
وبهذا فإن ثمة ضدّين رئيسين في النص قيد المناقشة هما:
(القرية/ الله تعالى)، أو إن تحرينا الدقة (الإنساني/ الإلهي)، ولا
مراء فيما ارتبط به القطب الإنساني من (لا حياة)، والقطب الإلهي من
(الحياة).
ثالثاً ـ التزامن الصيغي:
عبر هذا التشكل الصيغي يتم تواجد صيغتي المسرود والمعروض في آن
معاً، وفي موضع واحد. الأمر الذي يجعل منهما متزامنتين عبر سرد المعروض، أو
عرض المسرود( )، ونرصد هذا النمط الصيغي عند قوله تعالى:
ولما
ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون* وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه
لك إلاجدلا بل هم قوم خصمون* إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني
إسرائيل( ).
إذا كان لكل حكي مستويان ـ نصي وخارج نصي ـ فإن أول ما يبدهنا في
النص المثلي قيد الرصد، هو وجود بعض الإشارات التي تومئ إلى وجود مشهد
حواري خفي، هو جزء من قصة أكبر، وإذا كان المشهد يختزل قصة ما عبر حوار
الشخصيات، فإن ما أمامنا هنا اختزال للمشهد أيضاً، عن طريق توظيف تقنية
الحوار المسرود. وطرفا الحوار اللذان يحيل إليهما المثل هما طرفا الجدال،
المتجليان عند قوله تعالى:
ولما
ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون
ووما
ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون،
أي الرسول الكريم والكفار. ومما يؤكد ذلك المشاهد الحوارية المطولة التي
ذكرها المفسرون في تفسيرهم لـهذا المثل( ). إذ ليس من الممكن الاستحواذ
على فهم خاص لـهذا المثل الحكائي، إلا بالعودة إلى الحكاية الواقعية التي
اقترن بها لكونه يومئ إليها دون أن يصرح، والتي لا يعنينا منها خصوص السبب
بقدر عموم العبرة المستخلصة، إذ "إن جانباً من معنى النص يمكن في بعض
الأحوال تنويره، إذا ما نظرنا في الظروف المحيطة به (....) فالمتقدمون
أنفسهم كانوا يميزون بين ما يسمونه عموم اللفظ وخصوص السبب(...) إن المعول
في تفسير الآية على ما تفيده بحكم شمولها وإطلاق المعنى فيها"( ) لذلك سميت
الحكاية الواقعية التي تضطلع بهذه المهمة بـ(الحكاية التفسيرية)، بوصفها
تقوم "بإضاءة الجانب الخاص بظروف قول المثل"( ). فعلى الرغم من اختلاف
التفسيرات في طبيعة الحوار الدائر بين طرفي الجدال، وحول الأشخاص الذين
اضطلعوا به من الكفار، بيد أنهم جميعاً اتفقوا على وجود الحوار أولاً، وعلى
أنه كان يتمحور حول عيسى عليه السلام لما أثاره قوله تعالى:
إنكم
وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لـها واردون
ثانياً، لكون النصارى يؤلهون المسيح، فحاول الكفار مجادلة الرسول
بذلك، أهو أيضاً كسواه من المعبودات من دون الله حصب جهنم؟.. وإذا
كان هو وسواه من المعبودات كذلك، فإن محمد
يريد إقصار الألوهية على نفسه بحسبهم!... وإذا أدركنا أنّ هذه
المحاورة كانت مضمنة ضمن ثنايا المثل قيد الرصد، سنلمس مدى الانحسار الحاد
للمسافة الفاصلة بين مستويي الحكي (القصة والخطاب)، بوصف المثل يومئ بشكل
مختزل إلى قصة ارتهن بها نزوله، أو بتعبير آخر إن ما يميز هذا المثل عن
سواه من الأمثال القرآنية، كونه لا يحيل إلى قصة من واقع الأمم البائدة،
وإنما القصة التي يحيل إليها حاصلة في الحاضر الارتهاني للنص، أي حاضر
الحكي( )، فالجدال بين الرسول
والكفار
كان ولا زال دائراً.
وإذا كانت المحاورة هي التي تحيلنا من مستوى الخطاب ـ المثل ـ إلى
مستوى القصة ـ المجادلة ـ ، من خلال الإشارة المختزلة إلى الجدال الحاصل
بين الرسول والكفار بهذا الشأن، فإنها هي التي تعيدنا من جديد إلى مستوى
الخطاب، وعبر الإشارات المضمنة في ثنايا المثل، عند اختتامه بما يشير إلى
عبودية عيسى
،
الأمر الذي يقودنا مباشرة إلى الطرف الضديد.
وعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً على هاتين البنيتين من اختلافهما
الظاهري، بسبب انعقاد الأولى حول المصير الذي سيؤول إليه عيسى
بسبب عبادة البعض لـه، وانزواء مادون ذلك، أما الثانية فقد انعقدت
حول عبودية عيسى
وانزواء مادون ذلك. بيد أنهما اتفقا معاً حول عدم ألوهيته، وبذلك تكون
العبارة الثانية لم تخالف الأولى وإنما لفتت الانتباه إلى جانب معين فيها،
ليس إلا، من خلال إبرازها لـه، وكأنها تشير إلى أن ليس المهم نقطة الخلاف
بين الطرفين، لأنها مرتهنة أولاً وأخيراً بنقطة الاتفاق بينهما، وهي أن
مصير المعبودات جميعاً بيد الله، بوصفه وحده المتحكم بها.
فإن هذه المعبودات من دون الله، هي نفسها التي تحيل إلى وحدانية
الله، لأنها تدعو إلى ذلك أو تؤمن به، كما هي الحال مع (عيسى، وعزيز،
والملائكة). وبذلك يضطلع هؤلاء بمهمة الوساطة لينقلوا البشر إلى الوحدانية،
لا أن يقفوا بهم عند الأطر الضيقة للتعددية، فكل تعدد في هذا الكون، لابد
من أن يحيل تلقائياً إذاً إلى الوحدانية، وهو ما نلمسه جلياً في التفصيل
الحاصل فيما يخص عبودية عيسى
، بالمقارنة مع الاختزال الشديد فيما يخص مصيره. ليشكل بذلك إجابة
غير مباشرة على جدال الكفار في تساؤلهم: أهو خير أم آلهتهم؟.. إذ إن كونه
عبداً أنعم عليه، يؤكد اضطلاعه بمهام الوساطة تلك، لذلك فهو يقف على الطرف
الضديد من سواه من المعبودات من دون الله. فضلاً عن تلاشي صوت الشخصية ـ
عيسى
ـ في صوت الراوي ـ الله تعالى ـ وبذلك نكون بإزاء قطبين ثيميين.
وإذا كان لكل محاورة طرفان رئيسان هما المتحاوران أو كلامهما، لأن
الكلام هو الذي يعبر عن التوجه الفكري لكل منهما، ومن ثم عن شخصيهما، فإننا
نجد كلام أحد الطرفين المتمثل بالكفار، هو الذي تم عرضه بطريقة مباشرة،
وعند قولهم:
أآلهتنا
خير أم هو، إذ إن هذه العبارة المختزلة على قصرها، تعبر بوضوح عن موقفهم
الفكري، وهو وقوفهم على الطرف النقيض من موقف عيسى
، ذاك التناقض الذي تم التعبير عنه بـ(أم المعادلة) التي توسطت ذينك
الطرفين، وتعضيد ذلك بالاستفهام الإنكاري، إذ إن هذا الإنكار هو في حد
ذاته، إقرار بابتعاد الطرفين عن بعض، فضلاً عن الإشارة إلى الطرف النقيض
بضمير الغائب، وهو ما تظافر مع ورود كلامهم بصيغة حوارية مباشرة، التي أدت
إلى انفصال صوتهم تماماً عن صوت الراوي ـ الله تعالى ـ وهو ما يشير إلى
انفراد الكفار وانزوائهم ومن ثم غيابهم عن هذه الحقيقة...
على العكس تماماً من الطرف الثاني في المحاورة، والذي يفترض أن يكون
الرسول
، إذ إن تغييبه من خلال الإشارة إلى كلامه بطريقة غير مباشرة، كان
في حد ذاته، حضوراً مضمناً لـه، لأنه تركز على اتجاهه الفكري أكثر من
المحاور، إذ إن التناقض الشديد بين طرفي المحاورة الصريحة يؤدي عادة، إلى
عدم اقتناع كل منهما برأي الآخر، وعدم وصولهما أخيراً إلى نتيجة مشتركة،
الأمر الذي يترتب عليه أن يضطلع متلقي المحاورة المتموضع خارجاً, باستخلاص
تلك النتيجة بنفسه, ليغيب بذلك البت الصريح بها. أمَّا ما حصل هنا, وعبر
هذا التزامن السردي الحواري المشترك, فقد أسهم في تزويد القارئ بنتيجة
جاهزة, يتجلى من خلالها الاتجاه الفكري للرسول الكريم بوضوح, لأنَّ وروده
من قبل الراوي العليم, الذي يعلم كل شيء عن الشخصيات ودواخلها, فضلاً عن
ماضيها ومصائرها المستقبلية, يشير إلى رجوح كفته على سواه. وإذا كان ذلك
الراوي العليم هو (الله تعالى), فإن استكناها أبعد غوراً من شأنه أن يقودنا
إلى تزامن صوتي الشخصية المغيبة ـ الرسول
ـ والراوي العليم ـ الله ـ في صيغة واحدة, لا بل إنَّ صوت الشخصية
يتلاشى تماماً في صوت الراوي العليم, حتَّى يبدو هو المحاور الواقعي, لا
لشيء سوى لكون الشخصية تصدر عن اتجاه الراوي. وبذلك يكون صوته ـ الراوي ـ
هو المهيمن الوحيد على النص, ومن ثمَّ فإن رؤيته هي السائدة عليه,
والمتحكمة بمجريات الأمور, وانزواء كل صوت سواه جانباً, حتَّى الأصوات التي
تتوسط للإحالة إلى الرؤية ذاتها.
وبذلك يكون هذا التنوع الناجم عن اختلاف طرفي المحاورة, ما هو إلا
شكل من أشكال التوحد, لأنَّ كليهما أحال إلى الله عن قصد أو من دون قصد,
فقد ألزم الكفار أنفسهم الحجة دون أن يشعروا بذلك.
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
المبحث الثاني
التبئير الحكائي
إذا كان البعد الجمالي في موضوعتي (الصيغة) و(الزمن), جلياً
لاقترانهما ـ بدرجة أكبر بالمروي ـ من خلال الربط بين القصة والخطاب. فإن
نظرة محدودة إلى موضوعية (التبئير), قد توهم بخروج أية مقاربة تنحو إلى
معالجتها من تقصي ذاك البعد, نتيجة لانشغالها بـ (إدراك الراوي). بيد إنَّ
ذلك الإدراك لا يحقق كينونته, إلا عبر الربط بين (القصة) و(الخطاب), ليتجدد
عبر هذا الربط, الموقع الذي يحتله, والذي على أساسه سيتحدد من بعد موقع
المروي لـه, إذ "إننا, ونحن نقرأ عملاً أدبياً تخييلياً, لا ندرك الأحداث
التي يصفها, إدراكاً مباشراً. ففي ذاك الوقت الذي ندرك فيه هذه الأحداث,
ندرك أيضاُ (..) الإدراك الحاصل عنها لدى الذي يحكيها"( ), وعندما ندرك
إدراك الراوي لن نكون قد خرجنا من منطقة الخطاب لنتحول إلى قراءة النص,
وإنما ما زلنا مرتهنين بمعطيات الراوي بوصفنا مروياً إلينا. وبهذا لا تكون
موضوعية (التبئير) قد ندت عن المسار الذي اختطته كل من موضوعتي (الصيغة)
و(الزمن) في استجلاء زاوية ما من زوايا تقديم القصة في الخطاب, ما دامت
تراوح بين إدراك الراوي وإدراك المروي لـه, من خلال استقطابها (وجهة نظر)
ما. فهي ـ وإن كانت تتمحور حول الراوي ـ فإنها مرتهنة بوقائع مروية على
المروي لـه.
وبهذا يصبح من المسلم لدينا ارتهان موضوعة التبئير بالمحايثات
النصية, التي يتشكل منها الخطاب, دونما اهتمام يذكر بما هو خارجه, من هنا
اكتسب هذا التشكيل التواصلي (راو/مروٍ لـه) خصوصيته المتناهية, التي تجعل
منه عنصراً مشتركاً في التشكلين الآخرين الواقعين خارجه( ), نظراً لتوسطه
في مركز العمل الحكائي. هذا التمركز جعل من قطبيه ـ الراوي والمروي لـه ـ
شديدي التقارب ببعض, الأمر الذي كان ينزوي معه (المروي لـه) ـ ولا سيما إنْ
كان غير ممسرح بالفعل ـ وراء صوت الراوي. لا بل إنَّ المروي لـه ـ حتَّى
وإن كان ممسرحاً ـ فهو رهين في تشكله بتشكل الراوي عبر (العلاقات
المتبادلة) التي تجمعهما معاً, لكون "المروي لـه يتخذ في الغالب خصائص
الراوي. فعندما يوجد راو خفي أو غير ظاهري, فلا بد وأن يقابله مروي لـه خفي
أو غير ظاهري, كما إنَّ غياب الراوي كلياً لا بد وأن يقابله المروي لـه
أيضاً"( ).
من هنا استحوذ السارد ـ الراوي ـ على مفاتيح توجيه عملية تشكل
المروي, لذلك كان "الراوي ـ على مستوى ظاهري, إنَّ لم يكن على مستوى عميق ـ
أكثر مسؤولية من المروي عليه [إليه], الذي يخاطبه, فيما يتصل بشكل القصة
وطابعها, بالإضافة إلى خصائصها الأخرى"( ). فعبر التشاكل القائم بين المروي
لـه والراوي تتحدد الجوانب الفنية الخاصة بجمالية المروي, ممَّا يفسح
المجال لنمو تعالقات حتمية بينهما. فليست العلاقة التي تجمعهما هي علاقة
إرسال اعتيادية, وإنما هي من التمازج بمكان ممَّا يؤدي معه إلى نوع من
الاكتساب المتبادل بين الراوي ـ المتكلم, والمروي لـه ـ المستمع, إذ إن "كل
متكلم هو أيضاً ـ وفي الوقت نفسه ـ مستمع. أو كل مستمع هو أيضاً ـ وفي
الوقت نفسه ـ متكلم"( ).
ولا بد لنا هنا من التنويه بالانقلاب النظري الذي شهدته الدراسات
الحديثة في هذا الميدان, فبعد أن كانت تقصي الراوي الذي يستعمل الأسلوب غير
المباشر عندما يكون غائباً عن السرد, إذ "إن تحديد السارد كمتكلم يتضمن أن
نصاً دون ضمير متكلم (..) أو دون إشارات لغوية تحيل على المتكلم (......)
لا يمتلك سارداً"( ). فإنها عدلت عن ذلك لاحقاً, عندما وجدت أن السارد
(الراوي) يمثل ذات التلفظ نفسها, مهمَّا اختلفت تمظهراتها سواء أكانت
مباشرة أم غير مباشرة( ). إذ علينا أن نعي ونحن نتعامل مع هذه الذات, بأنها
ليست ذات المؤلف ـ في أي حال من الأحوال ـ لكونها لا تحمل البعد المرجعي
الواقعي الذي تحمله, كما لا تحمل البعد الإيديولوجي لذات المؤلف الضمني.
فهي (ذات ورقية) من صنع المؤلف( ).
لذلك فهي لا تختلف عن الشخصيات, لأنَّ الإشارات الممثلة لـها, هي
إشارات "محايثة للسرد, وبالتالي فهي قابلة بتوافق تام, للتحليل
السيميولوجي"( ). وعلى وفق ذلك يكون عدم حضورها في السرد, ليس إلا تمظهراً
كامناً لـها, لما تملكه من أبعاد سيميائية, كفيلة بأن تمدنا بأبعاد دلالية
خاصة. لا بل إن تأويل الخطاب الحكائي مرتهن بتأويل السارد, من هنا كان لا
بد من بناء "نسق تأويلي للسارد. هذا النسق سينفتح (..) على إشكال مكان
الكتابة, أين يلقى خطاب السارد, وعلى المحور التأويلي: مؤلف, سارد, ذات.
وعلى قاعدة هذه الاستراتيجية التأويلية, ينبغي أن تنبني نظرية للخطاب
السردي قادرة على حل التناقضات بين المؤلف والسارد"( ). وبذلك فإن الراوي
بتمظهراته المختلفة, لا يقتصر على البعد الشكلي المحدود, وإنما يتخطاه إلى
ما هو أرحب من ذلك للاستحواذ على النسق السيميائي لـه.
كل ذلك دعا النقد الحكائي الحديث إلى توجيه اهتمامه "إلى السارد",
لما كان حضوره أو غيابه ذا تأثير حاسم على بنية المحكي. وقد كان الأمر
يتعلق ـ من خلال ذلك ـ بالكشف عن الشروط والطريقة التي يظهر بها هذا
السارد"( ), عبر تحديد موقعه سواء أكان حضوره سطحياً أو محايثاً. ولذلك
اقترن تمظهر الرؤية بالكيفية التي يتمظهر بها الراوي. فكل تحديدات الرؤية
إذن "تركز (......) على الراوي, الذي من خلاله تتحدد (رؤيتـه) إلى العالم
الذي يرويه بأشخاصه وأحداثه, وعلى الكيفية التي من خلاله أيضاً ـ في علاقته
بالمروي لـه ـ تبلغ أحداث القصة إلى المتلقي أو (يراها)"( ). لذلك كان
لزاماً علينا تقصي إدراك الراوي الذي بموجبه سيتحدد إدراك المتلقي (المروي
لـه).
ونتيجة لذلك فإن موقع الراوي من (الشخصية) في غاية الأهمية في تحديد
ذينك الإدراكين, لكون الشخصية تمثل جانباً حيوياً مهماً في العالم المحكي,
فضلاً عن اضطلاعها في بعض الأحيان, بمهام الراوي ذاته, أو المروي لـه كذلك.
فاما أن تمر علاقة الراوي بالمروي لـه عبر الشخصية, أو أن تكون تلك العلاقة
مباشرة, لاتحادها مع الراوي أو مع المروي لـه.
لذلك كانت الشخصية وسيطاً مهماً بين الراوي والمروي لـه, إذا لم تكن
هي واحداً منهما بالفعل, فلا بد من أن "ينفتح الموقع في النص الأدبي, خاصة
القصصي, على مواقع الشخصيات المختلفة, فيكون عليه, إذ ذاك, أن يتقن ممارسة
اللعب الفني, وإبداع أدواته"( ). وعبر هذه العلاقة الحوارية بين كل من
(الراوي, الشخصية, المروي لـه) يتطور السرد "بوصفه وظيفة للمسافة التي
تفصلهم عن بعضهم البعض"( ). إن العلاقة الجدلية بين صوت / أسلوب الراوي
وأسلوب الشخصية, لا بد من أن تخضع أخيراً إلى أسلوب أرحب يمثل الأسلوب
الكلي للخطاب الحكائي, إذ "إن الشخصية في الحكي هي مجموع ما يقال عنها
باللغة, بالإضافة إلى ما تفعله وما تقوله (...), ولذلك فمجموع المتن اللغوي
الذي تأتلف عناصره من أجل رسم الصورة الكاملة للشخصية, يتحول بدوره إلى
دليل أسمى من الدلائل اللغوية المكونة للجمل. وهكذا يتفاعل هذا الدليل مع
الدلائل المماثلة لـه"( ). إذاً لا بد من تحاور ما, يجمع الراوي بالشخصية,
وليس المقصود بالعلاقة الحوارية هنا, الحوار بمفهومه المحدود الذي يكتفي
بمجرد التواصل الشفاهي بين أكثر من شخص, لا بل إنه يشمل كل تواصل لفظي بين
الأنا والآخر, على وفق تفاعل لا بد من أن يسفر عن رؤية ما, إذ إن "حاجة
الإنسان الجمالية المطلقة للآخر, لفاعلية الآخر في الرؤية, ومواصلة الرؤية
والتأليف والتركيب وتصور الآخرين كوحدة, هي العمليات التي يمكن لـها وحدها
أن توجد الهوية الشخصية الخارجية النهائية, وإذا لم يفعل أي شخص ذلك فإن
الهوية الشخصية لن توجد"( ). لذلك لا بد من الاستعانة لأجل إدراك ماهية
الذات, فهي تفقد هويتها, لولا وجود هذا الآخر. وفي ضوء هذه العلاقة بين
الذات والآخر, تتحدد طبيعة الرؤية على وفق مدى التقارب المرصود بينهما.
وحكائياً يتجلى ذلك الطرفان عبر الراوي والشخصية, فموقع الراوي وإدراكه هو
الذي يحدد إدراكنا اتجاه الشخصية:
مع الأخذ بنظر الاعتبار أن تلك العلاقة الحوارية بين الشخصية
والراوي ـ الذات والآخر ـ هي علاقة تباعد أو تقارب, قد يصل إلى درجة
الاتحاد( ), أو لا يصل. وعلى وفق هذه النظرة, يكون الراوي هو (المبئر) في
أي حال من الأحوال, حتَّى في حال غيابه الظاهرية هذه النتيجة التي تعد
حصيلة رحلة طويلة مرت بها الدراسات الرؤيوية, أسفرت عن إمكانية تموضع
المبئر في موقعين رئيسين( ) هما: التبئير الخارخي والتبئير الداخلي. وإذا
كانت ثمَّة تقسيمات ضمنية مزيدة على هذا التقسيم الثنائي التشكل ثلاثية أو
رباعية... إلخ. فإنها لا تنفك تقف بين طرفي التبئير ـ الخارجي والداخلي ـ
بأن تأخذ شيئاً من هذا الطرف أو ذاك( ), على الرغم من اختلافها حول ماهية
المبئر, فبينما يعد لدى البعض راوياً باستمرار ـ سواء أكان خارجياً أم
داخلياً عند اتحاده بإحدى الشخصيات ـ فإنه لا يعد لدى البعض الآخر راوياً
حسب, إذ من الممكن أن يكون شخصية لا يتكلم الراوي بلسانها, أو عدة شخصيات.
ولا مراء في أن الاتجاه الثاني الذي يأخذ بنظر الاعتبار رؤية
الشخصية, ولا يقصر التبئير على الراوي حسب, أسفر عن نظرة أكثر انفتاحاً,
بعيدة عن التحجيم في أطر معينة, ما أدّى تطورها بشكل تدريجي ـ فيما بعد ـ
إلى انعطافة نوعية في المقترب النقدي الخاص بموضوعة (التبئير).
ونظراً لكثرة الدراسات في الميدان التبئيري وتشعبها واستيفائها في
دراسات متخصصة أخرى( ), فإننا سنركز الحديث حول ما يشكل نقطة انعطاف, أسهمت
في السير قدماً بالمقترب النقدي, ذي الصلة بموضوعة (التبئير), التي اختزلت
كل ما سبقها, مع شيء, من التطوير.
وهنا لا بد من أن تطالعنا طروحات جيرار جينيت ـ في هذا المجال ـ لا
سيما في ما يتعلق منها بتمييزه الدقيق بين (من يتكلم) و(من يرى) في الخطاب
الحكائي( ), إذ ليس من الضروري أن يكون الرائي هو المتكلم, فقد لا يكون
الراوي هو المتكلم ولكنه هو المبئر, أمَّا الشخصية ـ حتَّى وإن كانت هي
المتكلمة ـ فإنها ليست إلا مبأرة, وبهذا فإن كان المبئر ينطبق على أحد,
فإنه لن يكون إلا على من يُبئِّر الحكي: أي الراوي"( ).
وقد فصل جينيت نتيجة ذلك بين (التبئير) و(الصوت), إذ انقسم التبئير
لديه إلى:
ـ تبئير خارجي: مركز الإخبار السردي يكون نقطة ما في العالم المحكي,
خارج أية شخصية.
ـ تبئير داخلي: ومركز الإخبار السردي فيه يكون ذات أو شخصية معينة.
وهذان التبئيران هما ليسا إلا مركزين لإدراك الراوي.
أمَّا الصوت فينقسم لديه إلى:
ـ براني الحكي: حضور الراوي.
ـ جواني الحكي: غياب الراوي( ).
بيد أنه ونتيجة لذلك لم يفرد مبحثاً مستقلاً لدراسة التبئير كما فعل
مع الصوت, وإنما آثر دراسته ضمن موضوعة (الصيغة), بوصفه واحداً من
مكملاتها, الأمر الذي فتح عليه باب النقد, على مصراعيه( ).
وفي هذا المقام نؤيد ما ذهب إليه الناقد (سعيد يقطين) بأن التبئير
يحمل مفهوماً مستقلاً ـ نوعاً ما ـ عن المسافة الصيغية, ذاك المفهوم الذي
يمد جسور تواشج حتمية مع موضوعة (الصوت)( ). فإذا كان ثمَّة تمييز بين من
يرى ـ رؤية ـ ومن يتكلم ـ صوت ـ, بوصف (الرؤية) لا تنجلي إلا بعد تمييزها
عن الصوت, فهذا التمييز لا بد من أن يتم إذن تحت ظلة واحدة, هي التبئير.
وقد تمَّ تلخيص هذه العلاقة على النحو الآتي( )
1 ـ برّاني الحكي الناظم الخارجي: غير مشارك وغير منفعل
الناظم الداخلي: غير مشارك ومنفعل
2 ـ جوّاني الحكي الفاعل الداخلي: مشارك ومنفعل ومتعدد
الفاعل الذاتي: مشارك ومنفعل وثابت
ولا مناص من الإفادة هنا ممَّا نبه إليه حول التمييز بين المنظور
وعمقه, في استخلاص العلاقة بينه وبين التبئير, فطالما اختلطا ببعضهما دونما
أدنى تمييز, فما دام الحديث ـ بحسبه ـ يدور حول الذات المدركة, فنحن إذاً
أمام (المنظور).
إنَّ (التبئير) في الخطاب الأدبي الاعتيادي موجه من قبل راو ما, ذاك
الراوي الذي يحيل تلقائياً إلى الكاتب, لا بوصف ذاك الراوي هو الكاتب,
وإنما بوصفه كسواه من مكونات الخطاب, مفتوحاً على باحة التأويل القرائي,
إلا في حقيقة انتسابه إلى كاتب معين. تلك الحقيقة التي مهما كانت معها
القراءة منغلقة على مقروئها, فإنها لن تستطيع الانفلات منها بشكل نهائي.
فإذا غابت كل المرجعيات, لا بد من أن يكون لـهذه المرجعية حضور بالشكل الذي
يوفر معه قدراً من عدم السقوط هو هوة الغياب الأبدي. إذ لا بد من معنى ما,
وليس ثمَّة معنى دون الركون إلى مرجعية تفرض نفسها بقوة. فالكاتب إذاً "هو
مصدر كل تبئير كيفما كان نوعه, وأنه هو الذي يوظف كلاً من الراوي والمبئر
لغايات محددة وخاصة"( ), ولكنه ـ الكاتب ـ يتصف بكونه ذا طابع انعتاقي,
لأنه يقف دوماً خارج حدود الخطاب, محملاً الراوي كل التبعات الكتابية.
1 ـ براني الحكي:
ويتم فيه وصف الشخصيات بطريقة موضوعية, ومن الخارج, بحيث لا يذكر
إلا ما يراه المشاهد عليها حسب( ). وقد يكون خارجياً أو داخلياً:
أ ـ الخارجي: ويبقى فيه الراوي خارج الحكي:
كان
الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما
جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق
بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما
يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتَّى يقول
الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنَّ نصر الله قريب(
).
من الجلي أن الراوي في النص قيد المناقشة هو راو غير ملموس بالمرة,
على الرغم من أن النص قد عرض من وجهة نظره هو لا من وجهة نظر سواه. فهو
الذي يرى كل شيء ولا أحد يراه, لـهذا كان ناظماً خارجياً, بوصفه غير مشارك
بالأحداث. والملحظ اللافت للانتباه هنا أن ليس ثمَّة شخصية معينة معنية
بهذا الرصد دون سواها, الأمر الذي صرف الانتباه كلياً إلى الحدث, لا إلى
إحدى الشخصيات. بيد أننا إذا ما تعدينا حدود هذه النظرة السطحية إلى نظرة
أكثر غوراً في التراص البنيوي المشكل لـها بالمحصلة النهائية, فإننا سنلمس
انقطاعات وتبدلات أسلوبية تعمل على تقويض سلطة المبئر الخارجي ـ الواحد,
عبر التآزر التقني الذي يجمع التبئير بالصوت في بودقة واحدة, لما للأخيرة
منهما من عظيم الأثرفي ذلك التقويض, نظراً لكينونتها التي تتحقق خارج حدود
التبئير, فإنها لا تنفك أن تمده ببعد خلفي, يعد تنويعاً على التبئير الذي
يقف ـ عادة ـ في الواجهة , عبر بروز صوتي, لا للمبئر حسب, وإنما للمبأر
أيضاً.
وبهذا يصير من الممكن لدينا تقسيم هذا النص صوتياً إلى ثلاثة
تجمعات:
الأول ـ الخارجي: المتمثل بصوت الناظم الخارجي المجرد من أي صوت
آخر, ومن الملاحظ على هذا النمط, أنه قد جسد وجهة نظر الراوي ـ المبئر ـ
بجلاء. فإذا أسبرنا النظر وجدناه يتبنى جانباً معيناً من جانبي الصراع,
الأمر الذي يخرجه من الحيادية, عبر بعض الأحكام المبثوثة بين جنبات النص
بشكل انتشاري, من خلال أعقاب كل عبارة تبدو أول وهلة حيادية, بحكم ما
يسلبها تلك الصفة. فمما يدل على الجانب الحيادي السردي الخالص, عبارات كـ:
كان
الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب فهدى
الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه.
أما فيما يخص الجانب الذي يبرز فيه صوت الراوي بقوة, تعطل معه
التتابع السردي إلى حد كبير:
.. بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين
أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم.
... من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والفارق بين الجانبين جلي, عبر غياب صوت الراوي في الجانب السردي
البحت. الأمر الذي يجعله على الطرف النقيض من الجانب الآخر, الذي يتعطل فيه
السرد نسبياً, قبالة بروز لصوت الراوي. ما يشي بمسارٍ عكسي بين كل من بروز
صوت الراوي والسرد, فكلما تعطل السرد برز صوت الراوي, وكلما تتابع السرد,
انزوى صوت الراوي, فاسحاً المجال لتسلسل الأحداث. بيد أن التبئير مختلف,
لكونه لا يعالج من يتكلم, وإنما من يرى, والرؤية بعد مختلف. فقد أثبتت لنا
التجربة العملية أنه في الوقت الذي يصبح معه غياب أدنى صوت ممكناً, فإنه من
غير الممكن بتاتاً, غياب الرؤية أو التبئير, فحتى وإن كان الصوت غائباً,
فثمة رؤية ما دعت إلى غياب الصوت, لأنَّ الرؤية تختلف عن الصوت, بوصفها هي
المشكلة لكل ما سواها, ومن ضمنه (الصوت).
أمَّا التمظهر الصوتي الثاني فيتمثل بالتداخل الصوتي بين الخارج
والداخل, من خلال اختلاط صوت الناظم الخارجي بصوت الشخصية, وهو ما انبرى
عنه الاستفهام الإنكاري المتحقق عند قوله تعالى:
أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم:
فالاستفهام المتحقق هنا يقر بحقيقة ما ولا يطلبها من المخاطب, لا بل
إنه مزدوج التحقق, عبر إقرار تلك الحقيقة ونفيها في الآن ذاته. والحقيقة ـ
المقرّة /اللامقرّة ـ هنا هي الحسبان الذي وقر في أذهان المخاطبين. وإذا ما
علمنا أن هذا الإقرار /اللااقرار يمثل عملية المساواة بين كتلتين حكائيتين
هما المثل أولاً, والمضروب لأجلها ثانياً, فلا بد من أن يقود ذلك إلى تعميم
علاقتي الإثبات والنفي هاتين, على طرفي المساواة اللذين تتوسطهما. ولا مراء
لما لـهذه الوساطة من دور في تشكل هذه العبارة على هذه الشاكلة الخطابية
ذات الصياغة المباشرة, الأمر الذي أخرجها تماماً من حيز الحكائية. لتمثل
بذلك حلقة الوصل بين ذينك التشكلين الحكائيين, ذوي الاستقلال شبه التام عن
بعض. إذ لم ينضو أحدهما في درج الآخر بوصفه جزءاً مكملاً لـه, وإنما مثلا
كتلتين حكائيتين متشابهتين دلالياً, يجمعهما رابط ما. ولا عجب في ذلك ما
دام المثل يوضح فكرة ما, الأمر الذي استدعى ويستدعي التزام ذينك الطرفين
برؤية واحدة. واللافت هنا, أن التوازي الدلالي قد بلغ أشده. ممَّا أسفر عن
أن لا يكون المثل اختزالاً لما قبله, وإنما تكرار لـه, بالمعنى الدلالي.
وبهذا يمكننا تلمس الدور الذي يؤدّيه السكون الرؤيوي في النهوض بهذه
المهمة. ومن الممكن إيضاح ذلك الشكل الآتي:
ومن الملاحظ على القطع الخطابي المتموضع بين تينك الكتلتين
الحكائيتين, البروز المفاجئ للمروي لـه, فلم تتحقق الخطابية, إلا بتوجه
الكلام إلى المروي لـه بشكل مباشر, ودونما أدنى حواجز. الأمر الذي خلق
تشكلاً فريداً من نوعه, ففي الآن ذاته الذي يتوارى فيه الراوي عن الأنظار
تماماً ـ بوصفه راوياً ضمنياً, غير متمظهر بشكل فعلي في الخطاب الحكائي ـ
نجده يفرض نفسه بقوة لا عبر صوته المبثوث بين جنبات الحكي حسب, وإنما بقطعه
لسلسال الحكي, وعبر تلك العبارة الخطابية تحديداً, التي توجه فيها ذاك
الراوي غير المشارك في الأحداث بالخطاب إلى المروي لـه بشكل مباشر. إنه
إذاً ليس إسقاطاً للحاجز الرابع حسب, وإنما لكل الحواجز الحكائية.
وإذا وجد ثمَّة معترض بأن غياب الحكائية يدعو إلى إسقاطها تماماً من
حساباتنا الحكائية, فإننا نقول: إن هذا الغياب ليس إلا غياب جزئي, لأنها
تمثل جزءاً من ذاك الكل الحكائي, الذي تفاعلت معه, لتوجهه وجهة دلالية
معينة, ما دامت مندسة بين ثناياه, وهو ما سنلحظه لاحقاً.
وإذا ما انتقلنا بالرصد إلى الكتلة الحكائية الثانية, فإننا نجدها
تمثل التشكل الصوتي الثالث في هذا الخطاب الحكائي, ألا وهو الصوت الداخلي
البحت, المتمثل بصوت الرسول والذين آمنوا, في تساؤلهم عن نصر الله. ففي
عبارة
ألا
إنَّ نصر الله قريب
تتمثل الإجابة عن تساؤلهم ذلك( ). إلا أننا نلمس في الإجابة عن هذا التساؤل
حضوراً للمروي لـه أيضاً, ولكنه حضور مبطن هذه المرة, وعند هذه العبارة
تحديداً. تلك العبارة المزودة المهام, التي تحقق حضوراً على الصعيدين
الجزئي والكلي, أو الخاص والعام في آن معاً. وقد اكتسبت ثنائية التحقق تلك
من مسربين: الأول أسلوبي خاص بصياغتها الغارقة في التعميم, الأمر الذي لا
يقصرها على الكتلة الحكائية التي ختمت بها. ومن مسألة الاختتام هذه نستشف
المسرب الثاني الذي أمدها بالعمومية, بوصفها كانت نقطة النهاية لا للكتلة
الحكائية الثانية حسب, وإنما لخطاب حكائي أطول من ذلك, فنحن إذا ما أخذنا
عمومية هذه العبارة بنظر الاعتبار, فإننا نجدها صالحة لأن تكون نقطة
النهاية لما قبل ذلك, وهما الكتلة الحكائية الأولى, وعبارة المساواة أيضاً.
لا لشيء سوى لأنها قد اختزلت في سياقها الشديد التكثيف, الفكرة المحورية
المبثوثة في هذا الخطاب. لا بل إنها هي التي أرشدتنا إلى أن ما أمامنا يمثل
خطاباً حكائياً واحداً, لا أكثر, على الرغم من غياب الحكائية بين الحين
والآخر. فكانت بذلك كالعقدة التي ختم بها الخيط الحكائي المنسرب عبر
التشكلات الثلاثة ـ الحكائيين مع انقطع الخطابي ـ.
ودلالياً نتلمس صراعاً خفياً محتدماً بين قوتين, كان أوضح تمثل
لـهما في مستهل هذا الخطاب, وعند قوله تعالى:
..
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين,
إذ إن ارتباط (التبشير) و(الإنذار) بالنبيين, يوجه المسألة توجيهاً دينياً,
بوصفهما ليسا إلا (الإيمان) و(الكفر). إلا أن استخدامهما تحديداً, بديلاً
عن سواهما يشي ببعد رؤيوي ـ دلالي, لكون استخدام (التبشير) و(الإنذار) قد
حسم المسألة منذ البداية, بترجيح كفة الإيمان على الكفر, ما دام التبشير
يمثل الإيمان, والإنذار يمثل الكفر. الأمر الذي يشكل انتصافاً لرؤية ما على
سواها, وهي رؤية الراوي العليم, الذي يعلم عن الشخصيات, أكثر ما تعلمه هي
عن نفسها, فهو يعلم مستقبلها وما ستؤول إليه من ثمَّ, تلك الأوالية التي
تستمد من التبشير والإنذار كينونتها, مع نوع من الاختلاف الرؤيوي بين
الاثنين, عبر تغييب قصدي لوجهة نظر أحد طرفي النزاع تماماً, وهي وجهة نظر
الكافر, لأن تبليغ الأنبياء لرسالاتهم ليس في نظر الكافر أو الكفار تبشيراً
أو إنذاراً, لا بل إنَّ كيفية اعتقاد الإنسان بمسألة التبليغ تلك هي التي
تحدد هويته, إن كان مؤمناً أم كافراً, لذلك فإن الاعتراف بأن ذلك التبليغ
هو تبشير للبعض وإنذار للبعض الآخر, أو عدم الاعتراف به, كفيل بتحديد معتقد
الشخص. من هنا استمدت هذه العبارة الاستهلالية أهميتها الفائقة, فهي
ببداهتها هذه, تبدو كالقانون الذي يتصدر مسألة رياضية, لتترتب عليه كل
النتائج اللاحقة.
وربَّما تحيلنا النظرة الجزئية إلى عد وجهة نظر المؤمن الممثل للطرف
الإيجابي في الصراع هي السائدة, بيد أن نظرة شمولية, من شأنها أن تنبئنا
بأن المسألة أبعد من ذلك, لأنَّ الراوي العليم, كان متحكماً بكل مجريات
الأحداث, لا بل إنه حرص على أن يوجه الصراع وجهة معينة منذ البداية, دون أن
يعطي أدنى فرصة للمروي لـه, في أن يرجح كفة معينة على سواها. ليس هذا فحسب.
فقد استحوذ حتَّى على ما كان مجرد حسبان في ذهن المروي لـه أو المروي لـهم,
وقد سد عليهم كل المنافذ بالمثل المضروب, الذي لم يترك فيه مجالاً حتَّى
للتساؤل هذه المرة عبر العبارة الختامية التي كانت كفيلة بأن تربط تلك
الخيوط المعلقة ببعض وبمحور يجمعها معاً هو ألا إنّ نصر الله قريب
وعلى الرغم من أنّ الصراع كان خفياً, لأنَّ كفة الإيمان هي التي
كانت دوماً في الواجهة, بيد أن إسبار النظر في الاختيارات المتحققة عوضاً
عن البدائل الممكنة, لا بد من أن يضع مسألة الصراع تلك أمام ناظرينا, غير
أنه صراع خفي كما ألمحنا سالفاً. وبإمكاننا استشفاف ذلك في العبارة
الختامية أيضاً, لأنَّ من المقتضيات الرئيسة للنصر وجود صراع ما, بين أكثر
من طرف. وإذا كان تفوق أحد الطرفين على الآخر, يعني انتصاره من وجهة نظره
هو, فإن ارتباط النصر بالله يعني انتصار الإيمان على الكفر بالضرورة.
وإذا كان ما ذكرناه, يبدو ـ تداولياً ـ في غاية البداهة, فهو
المطلوب دلالياً, فقد قدم لنا هذا النص المثلي الحكائي, بديهيات يبدو معها
عدم اتفاق أحد طرفي الصراع عليها, أو عدم علمه بها، نوعاً من القصور
الفكري.
وإذا كان التساؤل المطروح بدءاً هو حول إمكانية الدخول إلى الجنة,
فلا بد من أن يكون النصر المتمثل في الإجابة عن ذاك التساؤل, مقترناً بشكل
أو بآخر بتحقق الدخول إلى الجنة, لتتمكن الذات الإنسانية بذلك, من الخلاص
من اغترابها الدنيوي, عبر الاستحواذ على الفوز بها.
ب ـ الداخلي: والمبئر فيه يكون شخصية من شخصيات العالم المحكي:
أيود
أحدكم أن تكون لـه جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار لـه فيها من
كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون(
).
لقد استحوذ على النص المثلي قيد الرصد تبئير فريد, من خلال ما يبدو
عليه من انفصال الراوي عن المبئر أولاً, واختلاط المبئر بالمبأر ثانياً,
بيد أن الذي خلق هذا التداخل, مخاطبة الراوي الخارجي للشخصية بشكل مباشر,
والطريف في الأمر أن مدار الخطاب أو المبأر هو (التبئير) ذاته, والذي اتخذ
لـه تجليين هنا, هما الخطاب المباشر
أيود أحدكم, وغير المباشر
أن
تكون لـه جنة....
وإذا كان هذان التشكلان صيغيين بالدرجة الأساس, فإن ما يحكمهما من
تبئير هو ما يعنينا هنا. ففي الحالين أو التشكلين, يتم التبئير بصورة
تبادلية, عبر تبادل المواقع بين الراوي والمخاطب ـ الشخصية. وهذا التبادل
قد تمَّ منذ اللفظة الأولى في المثل.
ولا مناص من التنويه بأن المداورة الضمائرية قد أدّت دوراً مبرزاً
في هذا التحقق الرؤيوي:
فمن الواضح أننا بصدد أربعة تشكلات ضمائرية, تحيل جميعاً إلى مرجع
واحد, هو الشخصية. أمَّا الراوي ـ المتكلم, فخفي عن الأنظار, يحرك خيوط
النص من مكان ما, دونما أن يظهر جهرة للعيان, كون الحدث المسرود هنا من
الخارج, لا من الخلف كما في النص آنف الذكر. لـهذا لا نجد توجيهاً لـه من
قبل الراوي, ولكن قد تمَّ الاكتفاء بسرد حدث ما, على فرض أنه حدث أصلاً.
وهنا تكمن المفارقة التبئيرية التي يضطلع بها النص قيد المناقشة. إذ إن
موضوع التبئير ـ المبأر ـ افتراضي.
إلا أن ذاك الافتراض يغيب عن ذهن القارئ كلما تقدم في القراءة, ولا
سيما أنه ينحصر في العبارة الخاصة بطرح التساؤل
أم
حسبتم, أمَّا ما سوى ذلك فقد اتخذ لـه تحققاً كينونياً يجعله أدنى
للحقيقة
أن تكون, فضلاً عن طول المساحة التي يشغلها. وكان للتابع السردي أثره في
ذلك, لأنَّ عدم توقف السرد واستمراره, يقتضي تنامياً متسلسلاً للحدث, وهو
ما يشغل الأذهان بمراقبة هذا المسار التطوري, وإرجاء أي شيء سواه جانباً,
الأمر الذي يحصر التبئير به دون سواه, فالحدث وتناميه هو الذي يقف في
الواجهة, لا سيما وأننا نرصد غياباً مبطناً لعنصر الشخصية, فليس ثمَّة
شخصية معينة تضطلع بالحدث, لسببين: الأول الإطلاق الذي يحمله لفظ (أحدكم),
الذي يجعله ينطبق على فرد دونما استثناء, فكل قارئ يشعر أنه المعني به,
الأمر الذي يوحد بين القارئ, والمروي لـه, والمخاطب في آن معاً. أمَّا
الثاني فيتمثل في أن دور الشخصية في الحدث المتنامي, كان دوراً سلبياً,
فبدلاً من أنْ تكون هي المحرك للحدث, كانت محكومة به ليس إلا, لتساق وهي
مسلوبة الإرادة من منتهى السعادة
... أن تكون لـه جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار لـه فيها
من كل الثمرات
لتهوي ـ على حين غفلة ـ إلى منتهى الشقاء
وأصابه
الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت.
فأي نوع من التبئير نواجه هنا إذن, ما دمنا نلمس غياباً مزدوجاً
لصوتي الشخصية والراوي معاً؟!
إنَّ غياب صوت الراوي, لا يعني غياب رؤيته بالضرورة. فإذا ما تقصينا
هذا النص, وجدنا أن الراوي كان متحكماً بمجرياته, منذ التساؤل المتحقق في
بدايته, وقبل الشروع في المثل, لأنه تساؤل إنكاري, يتم من خلاله إنكار
المستفهم عنه, الأمر الذي يخرج الأمر من يد المستفهم منه ـ الشخصية تماماً,
ليضعه في يد الراوي المنكر. لأنه في تساؤله هذا, قد ضمن الإجابة التي
يريدها, ووجه المسألة وجهة معينة دون سواها.
وبهذا تنتفي النظرة الأولى للنص, التي كان لخطاب الراوي الخارجي
بشكل مباشر حول تحديد رؤيته
أيود أحدكم دور فيها, الأمر الذي أوهم بانفصال الراوي عن المبئر. إلا أن
التحليل العملي أثبت لنا أن الشخصية لم تكن مبئراً, في أي حال من الأحوال,
وأن الرؤية لم تخرج عن حدود الراوي البتة.
وما يؤكد ذلك البروز المفاجئ لصوت الراوي, بعد انتهاء المثل
تحديداً, وعند قوله تعالى:
كذلك يبين الله لكم
الآيات لعلكم تتفكرون, لا سيما وأن هذه العبارة كانت موازية ومختزلة لكل ما قبلها, الأمر
الذي تتضح معه رؤية الراوي, لا صوته حسب, عبر الربط بين تلك العبارة وما
قبلها, المتَمثل بالإجابة عن التساؤل المطروح من خلال المثل, فضلاً عن
التساؤل ذاته, وبالشكل الآتي:
ولكن المسألة في غاية البداهة, الأمر الذي يجعل من الغرابة بمكان
طرح التساؤل أو حتَّى التفكر. وكان لقصر النص, على الرغم من الردح الزمني
الطويل الذي يشغله, أثره في هذا الاستشعار البدهي. لأنَّ لنهاية أي نص
عادة, أثرها الفاعل في قراءته, لا بل وإن الكلمة الأخيرة فيه من شأنها أن
تؤدي إلى إعادة تأويله من جديد. وإذا كانت هذه هي الحال مع النص عموماً,
فكيف هي الحال مع النص الحكائي تحديداً, الذي يقتضي وضع نقطة النهاية
للصراع المحتدم فيه, ذي الطابع التراكمي التطوري, الذي يخلق لدى القارئ
عنصر التشويق, والذي يلازمه حتى الوصول إلى النهاية. ومن هنا تستمد نهاية
النص الحكائي أهميتها القصوى. وعندما يكون طول العمل الحكائي محدوداً, إلى
درجة اقتصاره على بداية ونهاية, فسيغدو الانتقال إلى الأخيرة مفاجئاً
ومباغتاً. وبهذا فإن أهمية النهاية قد توازي النص بأسره, لا لشيء سوى لأنها
ستعلق في ذهن القارئ أكثر من سواها. أمَّا بشأن النص قيد الرصد, فمن الجلي
هيمنة النهاية المأساوية عليه, والتي ستؤول إليها الشخصية الإنسانية في آخر
أيامها, عندما يصيبها الكبر, وكأن التساؤل المطروح عبر هذا المثل الحكائي
اقتصر على ذلك, وبالشكل الافتراضي الآتي:
ـ
أيود أحدكم أن يصيبه
الكبر وله ذرية ضعفاء وأن تحترق جنته؟
والمسألة في واقع الحال ليست بهذه البساطة, لأنَّ قراءة أخرى لـهذا
النص عن كثب, من الممكن أن تشي بالبعد التفاؤلي الذي تحمله بداية هذا النص
الحكائي, فقبل أن تواجه الشخصية الإنسانية هذا المصير المأساوي, كانت تنعم
في عالم بهيج. الأمر الذي يخلق مفارقة دلالية كبيرة, من خلال هذا الانتقال
المفاجئ من منتهى السعادة إلى منتهى الشقاء, الذي سيقت إليه الشخصية على
حين غفلة, وأبرز تجسيد لذلك كان في الانقلاب الحاصل على صعيد التساؤل ذاته.
فما يتبادر إلى الأذهان أولاً مختلف تماماً, وعلى النحو الآتي:
أيود
أحدكم أن تكون لـه جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار لـه فيها من
كل الثمرات, فمن الطبيعي أن تكون الإجابة عن التساؤل الذي بهذا الشكل هي
الإيجاب, فمن ذا الذي لا يحب ذلك!؟ بيد أن الاسترسال القرائي لا بد من أن
يقلب المسألة رأساً على عقب, من خلال الانعكاس المفاجئ في الدلالة, إذ لا
يفصل بين الطرفين الموجب والطرف السالب سوى واو العطف, التي تفيد الجمع
أصلاً.
ونتيجة لذلك نكون إزاء وحدتين دلاليتين على طرفي نقيض من بعض,
والإشكالية تكمن ـ كما رأينا ـ عبر الجمع بينهما, وهو ما يستدعي تفاعلاً
دلالياً معيناً, ذاك التفاعل المفارقي الذي يستحق التساؤل, ومن ثمَّ التفكر
للإجابة ـ لعلكم تتفكرون ـ.
بيد أن هذه الانعطافة السريعة من بداية الحكاية إلى خاتمتها بشكل
مفاجئ, لا بد من أن يكون لـها تبرير دلالي ما. فغياب المرحلة الوسيطة
بينهما خلق تضارباً شديداً, ما أدّى إلى عدم تشتيت النظر إلى هذا النص بين
مراحل متعددة, من شأنها أن تشغل القارئ بكيفية الربط المتدرج بين ذينك
الطرفين ـ كما هو معتاد ـ لتتمحور القراءة حول وجودهما, ليتم التعامل معهما
بوصفهما واقع حال. فليس المهم كيفية الوصول إلى هذه النهاية. وإنما المهم
هو وجودها الفعلي الأكيد, غير المحتاج إلى الحد الأدنى من المبررات, التي
تستدعي مسافة زمنية معينة, الأمر الذي أدّى إلى وضعها وجهاً لوجه أمام
القارئ, ليتعامل معها بوصفها حقيقة واقعة لا محالة. ذلك الرسوخ في وقوعها,
أدّى إلى طي المسافات الزمنية, لأجل رؤيتها رأي العيان. لا بل إنَّ الزمن ـ
على طوله ـ يبدو من القصر بمكان لا يعار لـه معه أي اهتمام, قياساً على
النهاية الراسخة, التي يشي رسوخها بالديمومة الدلالية. فالخسران المتحقق
عبر هذه النهاية هو أبدي التحقق إذن. على العكس تماماً من السعادة الزائلة
الزائفة, التي استهلت بها هذه الحكاية, والتي لم تتدرج حتَّى في زوالها,
وإنما اختفت من أمام الأنظار دون سابق إنذار. ومن الواضح ذلك الارتباط
المتحقق بين هاتين الوحدتين الدلاليتين المتعالقتين ببعض, فزوال السعادة
مرتبط ارتباطاً جدلياً بديمومة الشقاء, وذاك الرابط يتمثل في العبارة
الأخيرة, التي جمعت بين شتيتيهما, وعند قولـه تعالى:
كذلك
يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
التي جاءت معادلة ومختزلة لكل ما قبلها. إذ إننا نلمس تحققاً مزدوجاً لوجود
التفكر وغيابه في آن معاً, فعلى الرغم من غيابه الحالي بدلالة الفعل
(لعلّ), فهذا لا يمنع من تحققه مستقبلاً, بدلالة الفعل ذاته وإذا كان غياب
التفكر هو المتحقق فعلاً, فهو المتحقق أيضاً في بنية المثل, لكونه موازياً
لـه.
وإذا كانت هذه هي الحال مع الجنة الدنيوية, ففي المثل الحكائي قيد
الرصد إشارة مضمنة إلى جنة الآخرة, عبر الإجابة التي ترد إلى الذهن
تلقائياً, عند مواجهتها بهذا التساؤل, فالجنة الدائمة, غير المهددة
بالزوال, هي المبتغاة لدى الذات الإنسانية عموماً, وليس من الممكن الفوز
بها إلا عبر تحقق التفكر, والوصول إلى هذه النتيجة المضمنة, التي ترتبط
بيوم القيامة. فحال الخاسر ذاك اليوم, كحال الرجل الهرم الذي خسر كل شيء
كان يتمتع به, في وقت هو بأمس الحاجة إليه الآن, وأكثر بكثير من أي وقت آخر
قبلاً.
2 ـ جواني الحكي:
وفيه يكون المبئر مشاركاً ومنفعلاً بالأحداث أي متأثراً بها بشكل
مباشر, وهو إمّا فاعل داخلي أو ذاتي, وكلاهما في النص الآتي:
واضرب
لـهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون* إذ أرسلنا إليهم اثنين
فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون*قالوا ما أنتم إلا بشر
مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إنَّ أنتم إلا تكذبون* قالوا ربنا يعلم إنا
إليكم لمرسلون* وما علينا إلا البلاغ المبين* قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم
تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم* قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل
أنتم قوم مسرفون* وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا
المرسلين* اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون* وما لي لا أعبد الذي
فطرني وإليه ترجعون* أأتخذ من دونه آلهة إنْ يردنِ الرحمن بضر لا تغني عني
شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون* إني إذاً لفي ضلال مبين* إني آمنت بربكم
فاسمعون* قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون* بما غفر لي ربي وجعلني من
المكرمين* وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين*
إنَّ كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون* يا حسرة على العباد ما يأتيهم من
رسول إلا كانوا به يستهزئون*(
)
ليس بغائب عن الأذهان العبارة الخطابية التي ابتدأ بها النص
واضرب
لـهم مثلاً أصحاب القرية
التي تخرج تماماً عن حيز الحكائية, وهذه العبارة نجدها بتمظهرات مختلفة, في
بداية اللفيف الأكبر من الأمثال الحكائية في القرآن الكريم, ما يعزز الغاية
الإيضاحية من وراء طرح المثل, من خلال استحضار المروي لـه, ومخاطبته بشكل
مباشر. والطريف في الأمر هنا, تسليم الراوي راية الحكي للمروي لـه, ليستحيل
إلى راو جديد, استحدثه الراوي ذاته, لا المؤلف الضمني كما يحدث ـ عادة ـ
عندما تضطلع إحدى شخصيات القص بالحكي, دونما أن يطلب منها الراوي ذلك جهرة,
كما تحقق عبر هذه العبارة الخطابية:
واضرب لـهم مثلاً, إذ إن هذه العبارة ـ على قصرها ـ تشي بوجود راويين هما: الراوي
الفعلي: وهو الراوي الحالي, الذي ورد الحكي على لسانه. والراوي الافتراضي:
الذي يفترض به قص الحكي ذاته في زمن لاحق لزمن تحقق الحكي.
ومن اللافت للانتباه غياب الراوي الفعلي بشكل تام, على الرغم من
كونه هو المسموع صوته عبر سطور الحكاية, فهو الناطق بالفعل (اضرب) وكل
ملحقاته من فاعل ومفعول به ـ المتمثل بالمثل المضروب بجملته ـ إلا أننا لا
نجد لـه حضوراً سطحياً حتَّى على الصعيد الإعرابي. أمَّا المروي لـه فنجده
يحافظ على ذلك الحضور الافتراضي, إذ إن القائم بالفعل (اضرب) كان مقدراً في
ذهن القارئ, بوصفه ضميراً مستتراً. بيد أن ارتباط هذا الفعل بالمثل, يجعل
من الفاعل راوياً في الآن ذاته الذي يكون فيه مروياً لـه. الأمر الذي
يستدعي مروياً لـه جديداً, وقد تجسد في النص عبر الضمير الواقع في (لهم).
وإن حضور الضمير هنا, على خلاف ما حصل مع المروي لـه الأول, فضلاً عن حفاظه
على صفته كمرو لـه دون سواها, أكد أن المثل كان مضروباً لـه بالدرجة
الأساس, على العكس من المروي لـه الأول, الذي اضطلع بمهمة الوساطة بين
الراوي الأصلي والمروي لـه الثاني. وبتحقق الاستجابة لا بد من أن تكتمل
الدائرة للعودة من جديد إلى الراوي بوصفه نقطة الانطلاق الأولى للمثل,
وبالشكل الآتي:
فثمة إذاً هيكلية متكاملة لاشتغال المثل قيد الرصد. لا بد لاكتمالها
من تحقق الاستجابة, لـهذا كان تغييب الراوي الفعلي وحضوره البنيوي, يقتضي
لغرض الوصول إلى نقطة الانطلاق الأولى استكناه المثل المضروب, لا أي مثل.
فثمة نوع من التوازن الدلالي, متمثل في التفصيل المتحقق عبر بنية المثل,
لكلمة شديدة الإجمال هي كلمة
مثلاً(
), فكانت هذه الكلمة بمفردها, تقف بموازاة النص المثلي الحكائي, الذي ورد
بعدها مباشرة بجملته. وهنا يتبين لنا أن عدم ترك العبارة عامة, كأن تكون
واضرب
لـهم مثلاً حسب, وتحديد المثل المضروب دون سواه, كانت لـه دلالة مزيدة على
مضمون الحكاية ذاته, تتمثل في اندراج تلك الحكاية ضمن هذا السياق النصي
بالتحديد.
ولا بد من أن تطالعنا هنا مسألة التشكل التبئيري للنص قيد الرصد,
فإن غياب الراوي الرئيس ـ الخارجي ـ منذ العبارة الخطابية الأولى, تعزز عبر
الحكاية, لا من خلال غيابه, وإنما باستحالته إلى عنصر مشارك عبر توجيهه
الحدث كلياً.
وقبل الولوج في ذلك لا مناص من الإشارة أولاً, إلى التأطير السردي
الذي احتوى العرض الحواري بين دفتيه. فعلى الرغم من هيمنة الحوار على ما
سواه إلى درجة غريبة, هي الإتيان بالسرد معروضاً, لا بالعرض مسروداً كما
سرت العادة, وتحديداً عند قوله تعالى:
قيل ادخل الجنة, بدلاً من سرد هذا الخبر بشكل مباشر. بيد أن هذا لا يمنع من حقيقة
المحاصرة السردية, التي لفّت ذاك الحوار عند أولـه وآخره. ليتجلى التبئير
الداخلي في هذا النص, عبر استئثاره بالصيغتين معاً, فلم يكن السرد يوماً
مقتصراً على تبئير بعينه, ولا العرض كذلك, وكل ما في الأمر أن ثمَّة
تبادلاً للمواقع بين المبئر والمبأر, أبان الانتقال من التأطير السردي في
المؤطر الحواري.
ففي الدفة الأولى للسرد, التي تمَّ استهلال الحكاية بها, تتجلى صيغة
(الفاعل الداخلي) للراوي, والتي تمثلت عبر القائم بالفعلين (أرسلنا)
و(عززنا), لـهذا كان فعل الإنزال متنازعاً عليه نصياً, من قبل مستويين
خطابيين هما الراوي والمروي, نظراً لارتباطه بالفاعل ـ الداخلي:
الراوي
الفاعل الداخلي
المروي
إذ إن الراوي ليس مجرد مشارك في الأحداث, وإنما هو الموجه الرئيس
للأحداث, لأنَّ هذا التصريح المباشر من الراوي إلى القارئ, حسم الصراع
الدائر بعد ذلك على شكل حواري منذ البداية, لأنه قد صرح بأن فعل إنزال
الرسل ـ مدار الصراع ـ قد تحقق فعلاً, ولا سيما أن ذاك الحوار لم يشكك
بتاتاً في وجود القائم بالفعل, وإنما كان جل همه ينصب حول فعله, من حيث
إنزاله الرسل أم لا, الأمر الذي يظهر بجلاء بعد ذلك عند قول الطرف المعارض
لفعل الإنزال:
وما
أنزل الرحمن من شيء إنَّ أنتم إلا تكذبون,
وهنا تكمن المفارقة, لا من خلال التسليم بوجوده حسب, وإنما بإلصاق صفة
الرحمة به, في الآن ذاته الذي تمَّ إنكارهم إرساله للرسل فيه. وفضلاً عن
ذلك فإن حضوره ـ هذه المرة ـ كان حضوراً غيابياً, من خلال الانعطافة
الضمائرية المتحققة على صعيد الوحدة اللسانية المحيلة إلى ذاك الراوي من
التكلم إلى الغيبة, الأمر الذي خلق مفارقة تقنية أيضاً, نظراً لاستحالة
الراوي من متكلم إلى متكلّم عنه, كما نرصد أيضاً إحالة الشخصيات الأخرى إلى
المبئر الداخلي الأول (الراوي الفاعل), لتقدم الحدث مبأراً من قبله هو, لا
من قبلها هي وهذا ما ظهر بشكل جلي من خلال المحاورة التي دخلها الرسل
الثلاثة مع أصحاب القرية, وتحديداً عند الكلام الوارد على لسان الرسل,
كقولهم:
ربنا
يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين,
إذ إن إلحاق صفتي العلم والإرسال بالفاعل الداخلي, وإلحاق صفة وسيطة,
بالشخصيات المتكلمة ـ الرسل, وهي الإبلاغ عن تينك الصفتين, اللتين ترتبطان
بشكل وشيج بالفاعل الداخلي ـ المبئر الأول. والوساطة التي اضطلع بها هؤلاء
الرسل, بين المرسل ـ بالكسر ـ والمرسل إليهم, تجلت على الصعيد التبئيري
أيضاً, وبالشكل الآتي:
فبعد أن كان التبئير الداخلي في الدفة الأولى للسرد, مرتبطاً
بالراوي بشكل مباشر, عبر كلام مسرود يحيل تلقائياً إلى ذاك الراوي, فإذا به
يتحول إلى الإحالة إلى الراوي ذاته بشكل غير مباشر, وعبر الشخصيات
المتحاورة. ليمهد لتبئير داخلي تضطلع به الشخصية المحض( ). وهو ما تحقق
فعلاً عندما بدأت شخصية الرجل الساعي بالكلام, التي لم يكن التبئير فيها
(داخلياً) حسب, وإنما (ذاتياً) في بعض الأحيان كذلك. من خلال استكناهها
للذات, لا لأي شيء سواها, الأمر الذي يعطيها خصوصية تميزها, عبر سبر لتلك
الذات, وكشف عن مكنوناتها.
ونتيجة لذلك تضطلع شخصية (الساعي) بمهام تبئيرية مزدوجة, من الممكن
جدولتها بالشكل الآتي:
الرجل الساعي فاعلاً داخلياً
ـ يا قوم اتبعوا المرسلين
ـ اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون
ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون الرجل الساعي
فاعلاً ذاتياً
ـ أأتخذ من دونه آلهة
ـ إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون
ـ إني إذاً لفي ضلال مبين
ـ إني آمنت بربكم فاسمعون
ـ يا ليت قومي يعلمون, بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين
ففي التشكل الأول نجد تقديماً للنصيحة على إظهار الإيمان, وبذلك
يكون قد قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى (...), لأنَّ المقتضى
لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً"( ). إلا أن هذا الطلب يمثل اعترافاً
صريحاً بإرسال الرسل, ما يدل على تبئير خاص بهذه الشخصية.
أمَّا التشكيل الثاني ـ الشاقولي ـ فيتنازعه هذان النموذجان
التبئيريان معاً, ففي القسم الأول منه
وما
لي لا أعبد الذي فطرني
نلمس ذاك المبئر يخاطب ذاته حول فعل خاص بها, ليكون مبئراً ذاتياً, لأنه
لما قال
وما لي,
وأحد لا يخفى عليه حال نفسه, علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد,
لأنه أعلم بحال نفسه, فهو يبين عدم المانع, وأما لو قال (ما لكم) جاز أن
يفهم منه أنه يطلب بيان العلة, لكون غيره أعلم بحال نفسه"( ).
أمَّا في القسم الثاني لـه
وإليه
ترجعون نلمس انعطافة ذاك الراوي من أجل العودة لمخاطبة الآخر, أو الآخرين
حول أمر يخصهم, يمهد عبر هذا التذبذب التبئيري لانعطافة أكبر, من خلال
الانكفاء الكلي على الذات, المتمثل بالحقل الثاني في هذا الجدول, المنقسم
إلى خمس وحدات, تعبر عن خمس مراحل ذاتية, مرت بها هذه الشخصية المبئرة, هي:
ـ التساؤل:
أأتخذ من دون آلهة.
ـ التعليق الشرطي:
إن
يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون.
ـ النتيجة الجزئية:
إني
إذاً لفي ضلال مبين.
ـ الإخبار التقريري:
إني
آمنت بربكم فاسمعون.
ـ النتيجة النهائية:
يا
ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
وفي ضوء ذلك يمكن تقسيم هذا التشكل التبئيري إلى قسمين رئيسين
بالنظر إلى النتيجتين آنفتي الذكر, هما مرحلتا البحث والإقرار. والملحظ
اللافت للانتباه أنه على الرغم من إفضاء تينك المرحلتين إحداهما إلى الأخرى
تتابعياً, بيد أن ذاك الإفضاء ما كان سيحدث لولا التضاد الدلالي المتحقق
عبر كتلتيهما, وعلى النحو الآتي:
السلب/الضلال
ـ أأتخذ من دونه آلهة
ـ إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقدون
ـ إني إذن لفي ضلال مبين
الإيجاب/الإيمان
ـ إني آمنت بربكم فاسمعون
ـ يا ليت قومي يعلمون/ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين
وإذاً ما أخذنا بنظر الاعتبار التشكل الاحتمالي الذي يمثله الأول,
عبر التساؤل والتعلق الشرطي, في الآن ذاته الذي يتخذ منه الثاني تشكلاً
تقريرياً. نلمس ترجيحاً استدلالياً عقلياً للكفة الثانية, من خلال الكشف عن
ما تفضي إليه كل منهما من (الضر) في الأولى, و(التكريم) في الثانية, تلكما
النتيجتين اللتين اختتم بهما ذانك الطرفان, بوصف الأولى لم تكن إلا نتيجة
جزئية أحالت تلقائياً إلى الثانية. من خلال "إثبات المطلوب بإبطال نقيضه"(
) ( ).
وإن إثبات أمر ما لأحد الطرفين, يقتضي بالضرورة إسقاطه عن الآخر,
لذلك فإن ارتباط الثاني بالتكريم بدخول الجنة عبر, التفكر المنطقي, يحيل
تلقائياً إلى حرمان الأول منه. ليكون بذلك الإيمان رديفاً للتعقل, وعدمه
لغياب التعقل, لأنه سيؤدي بصاحبه إلى الضر.
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
المبحث الثالث
الزمن الحكائي
كان ولا زال (الزمن) مدار تقص واسع النطاق, من قبل مختلف الميادين
المعرفية ـ سواء أكانت طبيعية أم إنسانية ـ أم باجتماع الطبيعي مع الإنساني
تحت ظلة الفلسفة, فالمعرفة الإنسانية تنبثق عن الزمن"( ) أساساً.
لذلك ليست ثمَّة معرفة دون زمن. ولم يكن ذاك الانعقاد حول دراسة
الزمن إلا نتيجة طبيعية لما يتسم به, بوصفه معطى يحقق وجوداً مستمراً
ومتغايراً في الآن ذاته, فهو ـ فيزيقيا ـ يحقق كينونة مزدوجة, تتمثل في
أحاديته وتعدديته معاً, وذلك ناجم عن تشكله الخطي, الأمر الذي جعل منه,
المعطى الفضائي الوحيد الذي تشترك فيه كل الموجودات, منذ بدء الخليقة, وحتى
أجل غير مسمى, عبر تزامنها مع وحدات زمنية معينة, في سلسال التتابع الزمني.
وبهذا يتجلى الزمن عبر تمظهرين هما: التراكمي والآني ـ الدايكروني
والسنكروني ـ على الرغم من اشتراك كل الموجودات بالتمظهر التراكمي, من خلال
انخراطها عبر ذاك الانسياب الخطي المسمى زمناً, بيد أنها تغير آناتها, أو
بتعبير أدق: تغيرها آناتها لأنَّ كل (آن) ما هي إلا حلقة من حلقات السلسال
الزمني. لـهذا يحقق الزمن وجوده الأفقي آنياء من خلال اشتراك موجودات تلك
الحلقة بها, دون سواها. ولكن ليس ثمَّة تحقق آني محض للزمن, لأنه لو تخلى
عن تطوره التراكمي واكتفى بآنيته, لاستحال إلى شيء آخر غير (الزمن). لذلك
فإن الزمن لا يقف داخل حدود المرحلة الواحدة, نظراً لتناهي وحداته المكونة
لكل مرحلة في الصغر, فضلاً عن تداخل المراحل الزمنية ببعض, على الرغم من
تتابعها, لأنَّ كل مرحلة رهينة انتقاء إنساني معين للوحدات الزمنية بحسب
رؤية خاصة. واختلاف تلك الوحدات إلا في تتابعيتها, لا لشيء سوى لكون الزمن
معطى مجرداً, تقاس إزاءه الموجودات ولا يقاس هو إزاءها. وبهذا فإن
الموجودات في حالة تغير مستمر, حتَّى ما يبدو منها ساكناً, نتيجة لتقادم
الزمن, فلا يحق إذاً, لـهذه الموجودات أن تكرر نفسها, ما دامت لا تستحوذ
على كينونتها, إلا عبر زمنيتها تلك, لذلك كان (الزمن) ضرورة حتمية لغرض
اكتمال المعنى. وهنا تكمن المفارقة, كون الزمن ذاته, لا يحقق لنفسه أية
كينونة ملموسة, ما لم تروضه اللغة, لينصاع لـها, مكوناً إحدى إشاراتها,
بمجرد أن تطلق عليه اسماً, فهو إذاً نأى عنها "صار في حكم المعدوم"( ). وما
دامت الموجودات مرتهنة بالزمن, وما دام الزمن مرتهناً باللغة, كانت اللغة
أساساً لأية معرفة, إذ "لم يكن للفكر من غير اللغة أن يحمل أي دلالة ذاتية
على الزمان"( ).
ومن اللافت للانتباه أن اللغة كما الزمن, تتوكأ عليه, كما يتوكأ هو
عليها, عبر طابعها التتابعي المتسلسل. الأمر الذي يخلق علاقة تضايف جدلية
بين كليهما. إذ إن "بنية اللغة بوصفها ترتيباً داخلياً لوحدات النظام في
اللغة, لتمتلك أن تحرك المعاني بين غياب وحضور, فيتحرك الزمان معها بين
غياب وحضور"( ) أيضاً. فكيفما تشكلت وحدات النظام اللغوي, تشكل الزمن. فهي
المحركة والمحددة لـه, لذلك كانت اللغة "لا تعرف (..) زمناً سوى زمنها
الخاص. إنه زمن تنتجه بناها بوصفها ترتيباً داخلياً لوحدات النظام المنجزة
للكلام"( ).
ولكن أليس للزمن الذي تعرضه اللغة وجود واقعي, وهل للزمن الواقعي أن
يتشكل بعيداً عن تراكميته؟ ما دامت اللغة الناجزة ذات طابع وصفي اقتطاعي!
لا مراء في أن هاتين الإشكاليتين تضعانا وسط منعطف حرج, لا نجد
إجابة وافية لـهما, إلا في ترجمة تلك اللغة الناجزة عبر شفرات الكتابة, أو
تسجيلها كتابياً ـ إنْ تحرينا الدقة ـ. فمن خلال المنظومة الكتابية وحدها
يصبح كل شيء زمنياً ممكناً, وهنا تكمن القطيعة بين الزمن المكتوب, والزمن
الواقع, فالصدارة هي بالطبع للزمن الكتابي, ما دام الآخر كامناً مؤجلاً
تأجيلاً أبدياً فيه. فالكتابة تفسح المجال للتأمل القرائي, لذلك كان النص
هو ما استحق تسجيله كتابياً, كما توهنا آنفاً( ). وليس من شك في الثورة
الفكرية التي حققها الإسلام من خلال الانتقال بالوعي الفكري من مرحلة
الشفاهية إلى مرحلة الكتابية, إذ إن الفرق بينهما يكمن في "أن الأولى ذات
ذاكرة (دينامية) تبني نفسها من الداخل وتتطلع إلى الممكن المعرفي. بينما
الثانية ذات ذاكرة (استاتيكية) منغلقة على العملي الواقعي المستقر"( ).
وتبدو القطيعة بين ذينك الزمنين ـ الكتابي والواقعي ـ أكثر جلاء مع
(السرد), لكونه قائماً أصلاً على عنصر الزمن, فإذا "جاز لنا افتراضاً, أن
نفكر في زمن خال من السرد, فلا يمكن أن نلغي الزمن من السرد"( ). كل هذا
يجعل من النص الحكائي "يشكل في جوهره, وباعتراف الجميع, بؤرة زمنية متعددة
المحاور"( ), وباختلاف تلك المحاور الزمنية وتغايرها, يتنوع السرد ويتعدد(
). وإذا كان هنالك زمنان في كل نص حكائي, هما زمن الخطاب وزمن القصة, فإن
زمن الخطاب هو المعني بالتغاير, لكونه "يجد في الطريقة التتابعية السببية,
عجزاً في استيعاب التغيرات السريعة في الواقع"( ). كل ذلك يفرض على القارئ
من ثمَّ, إعادة ترتيب التجلي النصي, فهو "يقوم باستجماع ولملمة المتناثر,
ليعيد التوازن ويقيم الفهم, يصبح الزمن, وفق هذه الكيفيات الاستخدامية في
النص الأدبي, محفزاً ومنشطاً للبحث عن الدلالة, من خلال التحرك في فضائه"(
).
فلم يكن بالإمكان رصد الزمن نصياً إذاً, إلا من خلال رصد التمفصلات
الزمنية فيه( ). وهو ما لا يمكن تحديده إلا ارتهانياً أو داخلياً, إذ
يتمظهر الزمن الحكائي نصياً على صعيدي الارتهان والإنجاز معاً( ). إذ يقاس
الأول منهما داخلياً, بأن يكون حاضر رواية القصة هو المعتمد في تحديد
الأزمنة. ولا بد بدءاً, من أن تنطلق المقاربة النقدية ممَّا هو ارتهاني
داخلي ـ كتابي, لنصل أخيراً إلى ما هو إنجازي خارجي ـ واقعي. فالتمفصلات
الزمنية متحققة في كليهما إذاً, ولكن بطريقة مختلفة ومتشابهة في آن معاً.
فالزمن الإنجازي متحقق على صعيد القصة فقط, أمَّا الارتهاني فمتحقق على
صعيد الخطاب. والتمفصلات الزمنية هي بالضرورة, رهينة التغير بين الزمنين,
فكلما كان ثمَّة تغير شديد بينهما, صرنا إزاء انعطافة زمنية معينة, وذلك
التغاير لا يبرز إلا عبر تشكلات ثلاثة هي: (الترتيب, والتواتر, والمدة),
وعلى النحو الآتي:
1 ـ الترتيب: إذا كان الزمن يحدد اعتماداً على الحاضر, فثمة ترتيب
غير طبيعي للأحداث, يتحقق في زمن الخطاب ويتجلى عبر تقنيتين:
أ ـ الاستشراف: وفيه يتم تقديم المستقبل في الحاضر.
ب ـ الاسترجاع: وفيه يتم تقديم الماضي في الحاضر.
2 ـ التواتر: ويسجل تكراراً للحدث على مستوى القصة أو الخطاب أو
كليهما معاً:
أ ـ أن يروي أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة.
ب ـ أن يروي أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة.
ج ـ أن يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة.
د ـ أن يروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة. علماً أننا لا نجد في هذا
النمط الأخير أي نوع من التواتر, لا على صعيد القصة وعلى على صعيد الخطاب,
ولا ندري لمَ اعتيد إدراجه من قبل النقاد تحت باب التواتر!
3 ـ المدة: وفيه يسجل الزمن تفاوتاً بين المدة التي يشغلها الحدث في
القصة, وبينها في الخطاب:
أ ـ الخلاصة: اختزال الحدث في مستوى الخطاب قياساً عليه في القصة.
ب ـ الوقفة: ويتوقف الزمن فيه على مستوى الخطاب من خلال الوصف.
ج ـ الحذف: غياب وحدات زمنية عن الخطاب, كانت موجودة في القصة.
د ـ المشهد: تساوي الخطاب مع القصة, من خلال ذكر التفصيلات الدقيقة
للأحداث.
وإذا كان من الممكن غياب التجلي التقني لكل من (الترتيب),
و(التواتر), المتمثل بالقطيعة الحاصلة بين زمني (القصة) و(الخطاب) فيهما,
فإن لتقنية (المدة) تحققاً مستمراً مع كل النصوص الحكائية, إذ لا ينفك
أحدهما من أن يكون تجلياً من تجلياتها الأربعة: (المشهد, الخلاصة, الوقفة,
الحذف). لذلك سوف لا نفرد لـها مبحثاً خاصاً, لا إغفالاً, وإنما زيادة في
الاهتمام, لأنَّ تواجدها التلقائي في أي نص حكائي, يعني وجودها المتزامن مع
كل من تقنيتي الترتيب, والتواتر. لذلك لا بد من مراعاة ذاك التزامن إبان
تناول كل من تينك التقنيتين المختلفتين عنها في تحققها المتذبذب:
أولاً: الترتيب:
واضرب
لـهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا
بينهما زرعاً* كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما
نهراً*وكان لـه ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً*
ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً* وما أظن الساعة
قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً*قال لـه صاحبه وهو
يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمَّ من نطفة ثمَّ سواك رجلاً* لكنا هو
الله ربي ولا أشرك بربي أحداً* ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة
إلا بالله إن تَرَنِ أنا أقل منك مالاً وولداً* فعسى ربي أن يؤتين خيراً من
جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً* أو يصبح ماؤها
غوراً فلن تستطيع لـه طلباً* وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها
وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً* ولم تكن لـه فئة
ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً* هنالك الولاية لله الحق هو خير
ثواباً وخير عقبًا( ).
كثيراً ما تناول الدارسون الجانب الحواري في هذا المثل الحكائي
بالرصد, دونما أن يعيروا أدنى اهتمام بجانبه الزمني, أو ما يوفره ذاك
الحوار من أبعاد زمنية. لذا نرى أن ثمَّة تمفصلات زمنية حاسمة في بنيته
ضرورية لتشكله الثيمي, لذلك فمن المناسب تقصيها لغرض الخروج من خلالها
بالثيمة الكبرى المحركة لـه.
لو أخذنا ترتيب الأحداث بنظر الاعتبار, سنجد أن التشكل الحكائي
مرتهن بتشكله الزمني. ولأجل إيضاح ذلك, لا بد من استجلاء الوحدات السردية
التي ينقسم إليها, وعلى النحو الآتي:
ـ 2 ـ ـ 3 أ ـ ـ 4 أ ـ ـ 3 ب ـ ـ 1 ـ ـ 3 ب ـ ـ 4 ب
ـ ـ 4 ج ـ
ماضيٍ ارتهاني حاضر ارتهاني مستقبل ارتهاني حاضر ارتهاني ماضيٍ
ارتهاني حاضر ارتهاني مستقبل ارتهاني مستقبل ارتهاني
جعلنا لأحدهما فقال لصاحبه ما أظن أن تبيد هذه قال لـه صاحبه
بالذي خلقك من إنْ ترن أنا أقل فعسى ربي أن يؤتين وأحيط بثمره
جنتين من أعناب وهو يحاوره: أبداً وهو يحاوره تراب منك
مالاً وولداً خيراً من جنتك فأصبح يقلب كفيه
وحففناهما بنخل أنا أكثر منك وما أظن الساعة أكفرت ثمَّ
من نطفة ويرسل عليها حسباناً على ما أنفق فيها
وجعلنا بينهما مالاً قائمة ثمَّ سواك رجلاًً من
السماء وهي خاوية على
زرعاً وأعز نفراً ولئن رددت إلى فتصبح
صعيداً زلقاً عروشها
كلتا الجنتين آتت ودخل جنته ربي أو
يصبح ماؤها غوراً ويقول:
أكلها وهو ظالم لنفسه لأجدن خيراً
منها فلن تستطيع لـه طلباًً يا ليتني لم
أشرك
ولم تظلم منه قال: منقلباً بربي
أحداً
شيئاً ولم تكن لـه فئة
وفجرنا خلالهما ينصرونه
من
نهراً دون الله
وكان لـه ثمر وما كان
منتصراً
إذا كانت الأحداث الحكائية قيد الرصد تمثل برمتها, حكاية قد حصلت في
زمن مضى, بيد أن هذا الزمن على مضيه, يتدرج نصياً بين المضي والحضور
والاستقبال, اعتماداً على حاضر القصة, وذلك لم يتحقق إلا بإلقائنا نظرة من
الداخل على الحكاية, وقبل أن تحسم, لا بعد حسم مجريات أحداثها, وإلا لكان
الزمن كله ماضياً. وعلى وفق ذلك كانت المحاورة الدائرة بين شخصيتي الحكاية
تمثل حاضراً لـها.
بيد أن تبني هذه النظرة, من شأنه أن يقودنا إلى الواقع الزمني
المتداخل للنص قيد الرصد. فعلى الرغم من تمظهر الزمن الارتهاني تمظهراً
متغايراً بين التشكلات الزمنية الثلاث, فإنه لم يكن تمظهراً تتابعياً
البتة, عبر تداخل تلك الأزمنة, لتفرز بذلك تتابعاً من نوع آخر, هو التتابع
النصي. ولغرض إيضاح ذلك ارتأينا ترقيم الوحدات الزمنية بحسب تسلسل حصولها.
هذا الأمر أوضح لنا أننا نقف إزاء أربع وحدات أو تمفصلات زمنية لا غير,
تتمثل على النحو الآتي:
1
ـ الماضي البعيد: مراحل خلق الرجل الكافر.
2 ـ الماضي القريب: إغداق النعم على الرجل الكافر.
3 ـ الحاضر: المحاورة.
4 ـ المستقبل: ما سيؤول إليه مصير الرجل الكافر.
ولكن الأمر ليس بهذه المحدودية, ففضلاً عن التداخل الزمني الناجم عن
تقادم هذه الوحدات. فثمة تداخل آخر ناجم عن انفتاح تلكم الوحدات على بعضها,
ما يضفي عليها صفة الاستمرارية, فكل من الماضي البعيد والقريب, كان منفتحاً
على الزمن الحاضر. وكذلك هي الحال مع الحاضر المنفتح على المستقبل. وهو ما
يجعل من عملية نمذجة التشكل الزمني النصي قيد الرصد إلى الوحدات الزمنية
الأربعة في أعلاه, نمذجة غير نهائية, ولغرض الانطلاق منها إلى ما هو أبعد.
ومن اللافت للانتباه في هذه الوحدات الأربع, أن ثلاثاً منها كانت
تمثل في ذاتها, حقبة زمنية معينة, فيما عدا الثالثة التي تعبر عن المحاورة.
بيد أن هذا التشكل منحها طبيعة انفتاحية, إذ إن الماضي ـ البعيد منه
والقريب ـ كان مستمراً إلى الحاضر, المتمثل بالمحاورة, لدرجة اختلاطه بهما,
فكانت هذه المحاورة هي اللحمة التي جمعت كل أطراف الحكاية, ولا سيما أن
الأزمنة كلها كانت مدار هذه المحاورة.
فقد امتد الماضي من البعيد إلى القريب في تشكله الأول، عبر الاختزال
الشديد لمراحل الخلق والنشأة. فإذا بالزمن يقفز من مرحلتي العدم والنطفة،
إلى الاستواء على الرجولة، دفعة واحدة. ولا مراء في أن الأخيرة كانت مستمرة
إلى حاضر الحكاية.
وكذلك هي الحال مع الماضي القريب، فعلى الرغم من أن إنعام النعم على
ذلك الكافر لم يكن في حاضر الحكاية، وإنما قبل ذلك بقليل، إلا أنه امتد إلى
الحاضر، ليكون ذلك الحاضر جزءاً منه ليس إلا.
أما المستقبل: فقد كانت لـه ثلاثة تحققات نصية: الأول على لسان
الكافر، والثاني على لسان المؤمن، والثالث بعد انتهاء المحاورة، وهو التحقق
الفعلي الذي جاء من قبل الراوي. ومن الجلي ما للتحققين الأولين من ارتهان
بالحاضر الحواري، نظراً لكونهما نتيجتي ذلك الحوار.
وبهذا يكون الحاضر الحكائي متنازعاً عليه من قبل أطراف الحوار كلها
. ولا يكاد يتحقق لـه كينونة مستقلة، حتى يظهر أحد تلك الأطراف ليجذبه
إليه. إذ إن زمني الماضي والمستقبل لم يختلطا ببعض، إلا عبر الحاضر
الحواري، الأمر الذي يمنح ذلك الحاضر بعداً أكبر، من خلال الحوار الحاصل
بين الأزمنة في بودقته. ولا عجب في ذلك مادام المشهد الحواري يوفر مراوحة
للزمن عند نقطة التحاور، تؤدي إلى إبطاء الحكي، إلى درجة يتسنى معها لكل من
طرفي الحوار، استنفاده لكل مبررات تبنيه وجهة نظر معينة، ولاسيما لو علمنا
أن المحاورة مشتملة في أي تجاذب لأطراف الحديث، ولا يشترط في ذلك أن تكون
مصحوبة بخصومة( )، وفضلاً عن ذلك، فقد تم التأكيد على أن ما يدور بين
شخصيتي الحكاية، محاورة بين صاحبين، ليس إلا، عبر تصدير كلام كل منهما
بعبارة:
فقال
لصاحبه وهو يحاوره
أو قال لـه صاحبه وهو
يحاوره. فقد تضمنت هذه العبارة أو هاتان العبارتان، دلائل على بطء وتيرة
الحوار. متضمنة في التراص اللفظي لـهما، عبر تخير تشكل معين دون سواه، إذ
نقف في هذه العبارة المتصدرة كلام الشخصيتين، إزاء جملتين تجمعهما واو
الحال، التي باجتماعها مع الفعل المضارع، أعطت معنى الاستمرارية مما أوحى
بأن الحوار كان دائراً، وما ورد منه، جاء في درج محاورة طويلة، لابد من
افتراض كينونة خارج ـ نصية لـها، لأن تحققها النصي لا يمثل إلا جزءاً
مقتطعاً "من حوار طويل جرى بينهما قبل هذا اللقاء"( ).
إن أول قفزة زمنية في هذه المحاورة جاءت على لسان الرجل الكافر، عبر
انتقاله من الحاضر الارتهاني إلى المستقبل، إذ إنه بذلك لم يتورع أن يسنَّ
قانوناً أبدياً، ليس خاصاً به فحسب، وإنما بموجودات هذا الكون جميعاً.
مستنداً إلى مقدمة واهية ـ
أنا أكثر منك مالاً
وولداً ـ ذات الكينونة الآنية، لكونه كذلك الآن وليس إلى الأبد، كما فعل
هو عندما نقلها إلى الأبدية. وعبر قوله:
ما
أظن أن تبيد هذه أبداً.
وذلك القانون الأبدي الذي جاء نتيجة للاستناد إلى هذه المقدمة الخاطئة هو
ما
أظن الساعة قائمة،
الذي لم يقدم من المبررات على صحته سوى عدم ظنه الشخصي. كما أن نفيه لمجرد
(الظن) يعني يقينه التام بهذه النتيجة. الأمر الذي جعل من الافتراض العكسي
التالي لذلك، ليس إلا وسيلة لمجاراة الخصم المؤمن في اعتقاده، للوصول به
إلى نفس النتيجة، وهو ما قام به فعلاً وعند قوله:
لأن
رددت إلى ربي لأَجدن خيراً منها منقلبا،
ومن اللافت للانتباه زمنياً هنا، أنه قد استدعى المستقبل الذي لازال
مجهولاً بالنسبة لحاضر الحكاية، لا ليقره حسب، وإنما ليؤكده بأكثر من مؤكد.
ففي العبارة الزمنية المعبرة عن المستقبل، نلمس تحققاً طريفاً للشرط، فعلى
الرغم ما للشرط من تشكل معلق وليس أكيداً، فإنه ظل متقصراً على جملة فعل
الشرط
رددت
إلى ربي بمفردها، دون أن يطول جواب الشرط، الذي أكد بأكثر من مؤكد ـ كما
المحنا ـ هي: اللام، ونون التوكيد، وتقديم شبه الجملة. فإذا كان وجود فعل
الشرط يقتضي وجود جوابه، فإن تحقق الجواب أو عدمه، يأتي بالتبعية لتحقق
الفعل أو عدمه، وهذا ما لم نلمسه في العبارة قيد الرصد، كون الوجود المؤكد
للجواب قلب المسألَة، وجعل ما هو مؤكد مشكوكاً فيه، وما مشكوك فيه مؤكداً،
لذلك بإمكاننا تقدير كلام الرجل الكافر بالشكل الآتي:
(لو فرضنا جدلاً تحقق المستحيل، وهو قيام الساعة، فإن ذلك لم يغير
من الأمر شيئاً. فسواء أقامت الساعة أم لم تقم فإن النتيجة واحدة وهي دوام
النعمة عليّ)!!
وهو ما يعزز النتيجة التي تم ذكرها آنفاً، من الاعتماد على مقدمة
واهية في قلب ما هو آني إلى أبدي. بيد أن هذه الديمومة قد انتفت نصياً قبل
أن يبتدئ الكلام عنها أولاً، وعند قوله تعالى:
ودخل
جنته وهو ظالم لنفسه،
وبعد انتهاء الكلام عنها ثانياً، من خلال ما قدمه صاحبه المؤمن من تبريرات
منطقية لوجهة نظره، لما آلت إليه الحكاية آخر الأمر.
أما عن تبريرات الرجل المؤمن، فإننا نلحظ تطوراً طبيعياً متتابعاً
للزمن فيها، وعند قوله:
أكفرت بالذي خلقك من
تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلا
تحديداً، من خلال إحالة المراحل الزمنية بعضاً لبعض تدريجياً، فللزمن عنده
تشكل متنام، مبتدئاً من العدم الإنساني، ومنتهياً بعنفوان الشباب. ودون أن
يقف عند كل مرحلة من المراحل طويلاً، وكأنها لقطات متتابعة ومتسارعة. لا بل
إنها أكثر من متسارعة، لكونه قد قفز مرة واحدة من مرحلة النطفة إلى مرحلة
الاستواء على الرجولة. فثمة إذاً تلخيص شديد للزمن المرصود هنا. هذا
التلخيص الذي كان لـه عظيم الأثر في الإيحاء بدلالات كالتنامي والتسارع.
لأنه لو كان قد ضمّن المراحل الواقعة بين ذلك، لاستدعى منه الأمر أن يذكر
أطوار الخلق كلها من (علقة، ومضغة... الخ) ثم مراحل ما قبل الاستواء على
الرجولة، في حياة الإنسان الدنيوية، وهي مراحل الطفولة كلها ثم الصبا.
الأمر الذي إن حدث فإنه سيخلخل الدلالة النصية تماماً، لأنه سيعيق بذلك
انطلاقة الزمن المتسارع، عبر مروره بهذه المراحل، الأمر الذي يفسر لنا
اختياره نموذجاً واحداً في كل كينونة مرَّ بها ذاك الإنسان الكافر،
والإنسان عامة، عبر مساره المتنامي نحو الحياة:
قبل الخلق ـ التراب
أطوار الخلق ـ النطفة
بعد الخلق ـ الرجولة
وإذا كانت ثمة قفزة زمنية بين الثانية والثالثة، لأن هنالك أطواراً
ومراحل أخرى للخلق وما بعده محذوفة. فثمة انتقاء مقصود لتينك المرحلتين
بالذات: (النطفة) بوصفها أول طور في أطوار الخلق، و(الاستواء على الرجولة)
بوصفها آخر مرحلة في سلم التنامي الإنساني، وبينهما تندرج باقي الأطوار
والمراحل، التي بحذفها تتم المجاورة بين القاعدة والقمة، وهذا التقريب
الحاد بينهما، يجعل من المخاطب يقف وعلى حين غفلة وجهاً لوجه أمام الفارق
المرحلي بينهما، لأن التدرج الطبيعي في المراحل دون أدنى قفزة زمنية، قد
يذيب ذاك الفارق بين أول الخلق، وقمة نضوجه، ويجعله اعتيادياً.
وهو ما يبرر لنا أيضاً وقوفه في مراحل ما بعد الخلق عند مرحلة
الاستواء على الرجولة، دون مجاوزتها إلى ما بعدها من مراحل في حياة هذا
الكافر الدنيوية وما بعدها من ترد بدني، وصولاً إلى أرذل العمر، ثم الممات،
وعذاب القبر، ومن بعده عذاب النار. لأن هذه المراحل تند عن سلسال التنامي
آنف الذكر، الذي ينتهي بالاستواء على الرجولة، ليبدأ بعد ذلك مساره العكسي
نحو الاضمحلال الدنيوي والأخروي. وهو ما لا يتساوق مع غاية إبراز الفارق
بين الضدّين آنفي الذكر أولاً. كما أن ذكر تلك المراحل، من شأنه أن يسفر عن
خلخلة الهدوء السائد على المحاورة بين ذينك الصاحبين، ويقطع بطء وتيرتها،
عبر سلبها لعموميتها التي من الممكن أن تنطبق على أي إنسان دون تخصيصها
بالكافر. إذ إن هذه الصياغة أسهمت بشكل غير مباشر، في إخبار الخصم بخطأ
اعتقاده، فإذا كان يعتقد بديمومة ما هو عليه الآن، فإن معطياته نفسها قد
استخدمت في محاولة إقناعه بضدِّ هذا الرأي، ودون التصريح بذلك، وعبر
الاستنتاج المنطقي، لأن التدرج المنطقي يقتضي ـ بالضرورة ـ وجود هذه
المراحل المسكوت عنها، ولاسيما أنه قد نسب إلى ذلك المخاطب الكفر منذ
البداية. فثمة تقابل من نوع آخر في هذه العبارة، عبر التضاد الحاصل بين ما
ينسب إلى المخلوق ـ الإنسان الكافر، وما نسب إلى الخالق ـ الله، من أفعال
وما سيؤول إليه إذاً نتيجة لأفعاله المرتبطة بالكفر، لـهذا لا يجوز إدراجها
مع أفعال الخالق:
المخلوق
أكفرت
الخالق
بالذي خلقك من تراب
ثم من نطفة
ثم سوّاك رجلاً
إذ إن انطلاقة الزمن ذي الطابع المتنامي، ونسبة الكفر إلى المخاطب،
تقتضي ـ بالضرورة ـ وجود تلك المراحل.
وهنا يطالعنا وجه آخر لموضوعة الزمن. من الممكن استجلاؤه عبر إجراء
مقارنة بسيطة بين كلام الكافر آنف الذكر، وكلام المؤمن قيد الرصد. إذ إن
الكافر انتقل من الحاضر الارتهاني إلى إقرار المستقبل، وتأكيده كذلك. أما
المؤمن فقد انتقل من الحاضر الارتهاني وهو اتهامه الخصم بالكفر، إلى الماضي
المتنامي، ليقف به عند زمن الحاضر، دون مجاوزته إلى المستقبل، ولكن الصيغة
المتنامية لذلك الماضي، تقتضي بالطبع، وصوله إلى المستقبل.
فهو إذاً قد انتقل إلى المستقبل بصورة غير مباشرة، لأن المستقبل،
لازال مجهولاً بالنسبة لحاضر الحكاية وله. على الرغم من أنه استند إلى
مقدمات فعلية وحقيقية، تجعل من استنتاجه غاية في البداهة. على العكس تماماً
ما هي الحال مع الكافر.
وبعد ذلك يعود ليتعامل مع ذلك المستقبل، ولكن بحذر، من خلال
الاستشراف المغلف بالدعاء
فعسى ربي أن يؤتين
خيراً من جنتيك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقا أو يصبح
ماؤها غوراً فلن تستطيع لـه طلباً،
وهو ما تحقق نصياً، دون أدنى مسافة زمنية ولكن بشكل مباغت، عبر اتباع هذه
العبارة الاستشرافية مباشرة، بالنهاية الواردة من قبل الراوي
وأحيط
بثمره....، "والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوّفه به المؤمن
من إرسال الحسبان [العذاب أو مطر عظيم] على جنته التي اغتر بها"( ). كما أن
تصديرها بالواو، يؤكد عدم وجود فاصل زمني لذلك التحقق، من خلال الجمع
المطلق الحاصل بين الدعاء، ونهاية ذلك الكافر. ولا مراء فيما في هذه
العبارة من تلخيص شديد للحدث، إذ على أهمية هذا الحدث، بوصفه وضع نقطة
النهاية للجدل الحاصل بين الصاحبين، إلا أنه ـ رغم ذلك ـ تم اختزاله في
لفظين، لا بل إنه كان أكثر تفصيلاً قبل أن يتحقق، أي عندما كان ليس إلا
دعاء، مما يوحي بالسرعة الفائقة لتحققه، دون أدنى مقدمات، ودون الدخول في
تفصيلات، التشكل الدلالي في غنى عنها، لأنها قد وردت قبلاً في الاستشراف
التكميلي ـ الدعاء ـ . كما أن بساطة التركيب التي جاءت عليها هذه العبارة،
دونما تعقيد يذكر، تشي بإمكانية تحقق هذا الأمر ببساطة، على خلاف ما اعتقد
الرجل الكافر، الذي كان لديه في عداد المستحيلات.
كما أن التعبير عن هذا الحدث بصيغة الفعل الماضي، على العكس من
نتائجه الظاهرة على الرجل الكافر، التي جاءت بصيغة الفعل المضارع
يقلب
كفيه ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً
تومئ بانقضاء الحدث في ذاته، واستمرارية نتائجه لديه.
وبهذا نكون إزاء استشراقين في النص قيد المناقشة: غير متحقق ومتحقق،
يعود الأول إلى الكافر الذي قاس مستقبله على الحاضر الارتهاني، الأمر الذي
أسفر عن دلالات (الديمومة، والبقاء، والتراخي، والركود). في حين إن الثاني
كان من شأن المؤمن، الذي قاس مستقبل الكافر على الماضي الخارج ـ نصي (أطوار
الخلق والنشأة)، وهو ما أسفر عن دلالات (الآنية، الزوال، التسارع،
التنامي).
لهذا فإن نظرة فوقية إلى الزمن، بوصفه قيمة ناجزة في النص قيد
الرصد، من شأنها أن تحيلنا إلى انخراطه إلى مسربين رئيسين هما: التراخي
الزمني المتمثل بالحاضر الحواري، الذي يوقف الزمن عند نقطة التحاور، وهو
مدار اهتمام الكافر. والتسارع الزمني المتمثل بالماضي والمستقبل السرديين،
إذ من المعلوم أن السرد يؤدي إلى تنامٍ مُطّرد للزمن، وهو مدار اهتمام
المؤمن.
ونتيجة لكل ما سلف، فإننا نسجل تفوقاً دلالياً ملحوظاً للسرد، ذي
التسارع الزمني، على الحوار المتراخي، على الرغم من المساحة الرحبة التي
يشغلها الأخير مكانياً على حيز الورقة. بيد أن الانعطافة الزمنية الحادة
المتحققة عبر التقريب الشديد بين كتلتين زمنيتين متفاوتتي الطول، أسفر عن
إبراز ذاك التفاوت بقوة، عبر القطع المباغت للانسياب الحواري، بالسرد
المكثف، ما أسبغ على النص بعداً دلالياً ناجماً عن المجاورة بين الركود
الدلالي في الكتلة الحوارية، والزخم الدلالي في الكتلة أو الكتلتين
السرديتين، اللتين تم تأطير الحوار بهما، إذ إن المثل الحكائي قيد الرصد
كان قد ابتدأ بالسرد، كما انتهى به، ولاسيما أن الحكاية لم تؤول إلى
نتيجتها الحاسمة والنهائية، إلا على يد السرد.
وفضلاً عن إبراز التفاوت الصيغ ـ زمني، فثمة سبب آخر استدعى
الاسترسال الحواري، وهو سبب فكري عقلي ولأن المحاورة في كل أحوالها تمثّل
موقف المحاور ورأيه (..) وفوق ذلك فإنها تمثل شخصيته ومقدار عقله وتفكيره"(
). وقد أبرز لنا التحليل الإجرائي التفاوت العقلي بين كل من شخصيتي
الحكاية، وهو ما سخرت الحكاية بأسرها لأجله، وإلا لصيغت بطريقة مختلفة يتم
فيها الاستطراد في سرد الأحداث، لا في إيقافها عند نقطة الحوار كما حصل.
فقد اتضح لنا جلياً بعد الانتهاء من تحليل الحكاية زمنياً من الداخل، مدى
التدرج المنطقي، الذي ارتكز عليه المؤمن في استنتاجه الاستشرافي للمستقبل،
عبر الارتكاز على المقدمة الخارج نصية، الغارقة في التعميم، إلى درجة عدم
إمكانية إقصارها على شخص بعينه، الأمر الذي يجعل منها ـ بذاتها ـ قانوناً
معتمداً. لأن الخلق من عدم، يقتضي ـ بالضرورة ـ وجود خالق، ويقتضي قدرة هذا
الخالق على ما هو أدنى من ذلك. وهو البعث بعد الموت، وقياساً عليه يصبح أمر
زوال النعم الدنيوية عاجلاً أم آجلاً، تحصيل حاصل، ليس إلا، بالنسبة لقدرات
ذلك الخالق.
أما الكافر فقد وقف الزمن لديه عند نقطة الحاضر، ولم يتعد في إدراكه
حدوده الضيقة، ذات الطابع الشخصي والآني، في الوقت نفسه. ليكون ذاك الحاضر
لديه، مقدمة للوصول إلى ما هو عام وأبدي.
فكان الاثنان يسيران باتجاهين متعاكسين دلالياً بين النعيم /الزوال،
أو الحياة/ الموت، أو العقل/ الجهل.
ثانياً: التواتر:
يتحقق التواتر عبر التشابه الدلالي الحاصل بين بنية حكائية تتخطى
حدود نص السورة، وصولاً إلى فضاء الخطاب القرآني الأرحب، من خلال تواتر
حكاية معينة بصيغ متقاربة في سور متفرقة. لذلك من الممكن عد هذا النمط من
التوازي الخارج ـ نصي، أحد تشكلات التنامي الداخلية، فيفضي بعضه إلى بعض
ويرتبط بعضه ببعض ارتباطاً وثيقاً، من خلال إحالة أجزاء في نصوص متفرقة منه
إلى موضوع واحد، فيكون الجمع بينها على اختلاف سورها في أطر الخطاب
القرآني، جمعاً مبرراً.
لقد تم تناول هذا النمط من التوازي ـ عادة ـ ضمن مباحث (التفسير
الموضوعي) الذي سعى إلى التجمع "بين الآيات التي يربطها رابط واحد أو يمكن
أن تدخل تحت عنوان معين"( )، ولا مراء في رحابة هذا النمط التفسيري الذي
تندرج تحته كل صغيرة وكبيرة حول موضوع معين، كأن يكون على سبيل المثال لا
الحصر (الحياة في القرآن الكريم)( ). "فالآيات في السور ليست مترتبة بحسب
موضوعاتها. ولذلك كان الباحث المهتم بموضوع ما عليه أن يبحث عن هذا الموضوع
في عدة مواضع متفرقة"( ). ولا يفترض في ذلك الحشد الهائل من الأدراج، أن
تكون الآيات المنضوية تحت موضوع معين تحمل تساوقاً بنيوياً، يجعلها متوازية
دلالياً. ولكن هذا لا يمنع من أن يتم إدراج تلك المتوازية من بين ما يتم
إدراجه، ودونما تخصيص.
ولم نجد اهتماماً خاصاً بآيات التواتر الحكائي إلا في ذاك النمط
التفسيري الذي تناول الآيات المتشابهة بنيوياً في القرآن كما فعل الخطيب
الإسكافي في تفسيره( ).
وربما يعود انحسار تقصي هذا النمط الحكائي في القرآن في دراسات
خاصة، إلى الانشغال بما هو داخل حدود السورة الواحدة، إلا أن القرآن يمثل
خطاباً متكاملاً يلفه ترابط علاقي معقد، يأخذ بعضه بأطراف بعض، وصولاً إلى
هذا البناء المتساوق، ويتمثل التوازي الحكائي الخارجي في المثل القرآني في
المثلين السرديين الآتيين:
1 ـ واضرب لـهم مثل الحياة
الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه
الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً( ).
2 ـ اعلموا أنما الحياة
الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث
أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب
شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور(
).
لا مراء في أن التشكلين الحكائيين ـ قيد الرصد ـ كانا على جانب كبير
من التشابه، ولاسيما أنهما معاً، قد عالجا موضوعاً واحداً. وقد حظي التشكل
الزمني لـهما، بشيء من هذا التشابه، عبر موضوعة الترتيب، إذ كلاهما كان
بترتيب طبيعي مطرد من دون تقديم أو تأخير لوحدات زمنية على أخرى. بيد أن
تعاضد ذاك التشابه مع مطلب زمني آخر، وهو التواتر بوصفهما ينمذجان ضمن
التمظهر الحكائي الذي يروى أكثر من مرة( )، من شأنه أن يبرز الفوارق
الحاصلة بينهما على السطح، وعلى اختلاف تلك الفوارق، فإن ما يهمنا منهما
بالدرجة الأساس الفوارق الزمنية، التي كان لـها أثرها في التعبير عن مطلب
السرعة، وهنا نتلمس التجلي الجمالي للزمن. فعلى الرغم من أن سعتهما الزمنية
واحدة، من خلال تمحورهما حول مسار زمني واحد، في زمن القصة، إلا أنهما عبرا
عن ذلك بدرجتين متفاوتتين من السرعة، في زمن الخطاب.
وبدءاً سنرصد الفوارق الزمنية التي لمسناها بين هذين المثلين
الحكائيين، ليكونا منطلقاً لمقاربتنا الزمنية قيد التنفيذ:
ـ على الرغم من الاقتضاب الشديد الذي يشغله كل من المثلين، نظراً
للتفاوت الحاد بين زمن الخطاب ـ مدة القراءة ـ وزمن القصة التي يمثلانها.
بيد أن الأول يبدو أكثر تلخيصاً، من خلال إسقاطه لمرحلة مزيدة وردت في
الثاني، هي مرحلة الاصفرار:
الأول: الماء
النبات
الهشيم
الثاني: الغيث
النبات
الاصفرار
الحطام
ـ كما أن ثمة بينونة زمنية بينهما، تتمظهر عند المرحلة الأخيرة،
ناجمة عن التفاوت الأسلوبي بين (الحطام) و(الهشيم)، إذ إن الحطام يسبق
الهشيم عادة. ولكن هذا لا يمنع من أنهما يعبران عن مرحلة واحدة، هي (ما بعد
الحياة).
ـ عند أخذ المقدمتين آنفتي الذكر بنظر الاعتبار، نصل إلى نتيجة
مفادها: تباعد المراحل زمنياً في الأول، وتقاربها في الثاني.
ـ على الرغم من ذلك، فقد رتبت مراحل الأول المتباعدة بشكل متعاقب،
إبان تعليقها ببعض، عبر الفاء. بينما رتبت مراحل الثاني المتقاربة، بشكل
متراخ، لأن تعليقها تم هذه المرة بـ (ثم).
ولا مناص من الإقرار بأن أي تفاوت أسلوبي بين كتلتين نصيتين
متوازيتين دلالياً، لا يأتي إلا نتيجة ارتهان كل منهما بسياقه النصي الخاص،
والخاص جداً. لذلك لابد من إخضاعهما إلى مقاربة دلالية، بغية تلمس الفوارق
الدلالية الدقيقة، الداعية إلى ذاك التفاوت. ولا يتم ذلك إلا بعد إجراء تقص
كامل لمسارها الثيمي، بعيداً عن الأطر الوصفية، التي تكتفي بعرض المشكلة،
دون أن تقدم لـها حلولاً.
وابتداء بالمثل الحكائي الأول، نرى أن وروده في سياق المثل الخاص
بصاحب الجنتين آنف الذكر، من خلال اتباعه المباشر لـه ـ يجعل منه في غنى عن
التفصيل، لكونه يمثل تعميماً لخصوصية سابقة. فإن كان مثل صاحب الجنتين
خاصاً بشخصيتين إنسانيتين محددتين، فإن اتباعه بمثل آخر أكثر اختزالاً
وتعميماً، عبر ارتباطه بالحياة بوصفها قيمة مطلقة، ودون ارتباطها بشخص ما،
أسهم بشكل فاعل في توسيع مدار سابقه. كما أن وجود هذا السابق وتوازيه
الدلالي معه، يقتضي الاقتصار على هذه المراحل:
قبل الحياة
الحياة
بعد الحياة
(الماء) (النبات) (الهشيم)
وذلك لغرض تكثيف المراحل الواردة في (صاحب الجنتين) إلى أقصى حد
ممكن. وقصرها على المراحل الرئيسة حسب، ولاسيما إذا أدركنا أن المرحلة
المحذوفة ـ الاصفرار ـ والواردة في الطرف الثاني لـهذا المزدوج، تندرج ضمن
المرحلة الثانية ـ النبات ـ. فإن كان لارتباط حكاية صاحب الجنتين بشخصيتين
محددتين، أثره في الدخول ببعض التفصيلات، فضلاً عن المساحة الرحبة التي
شغلتها المحاورة، لغرض إبراز طريقة تفكير كل منهما. فإن الاتباع المباشر
بمثل آخر، شديد التكثيف والتعميم، أسفر عن تأكيد النتيجة السابقة، وهي تفوق
التسارع الزمني على التراخي، فيما يخص الحياة الدنيا، ويزيل أية فكرة
مخالفة لذلك. إذ لم تفرد في المثل الثاني أية مساحة تذكر للحياة، وتم
الاكتفاء بذكر عابر لـها، شأنها شأن المرحلتين السابقة واللاحقة لـها. وإذا
كانت هذه مسألة طبيعية لما قبل الحياة ولما بعدها، لدى النبات تحديداً، إذ
ليست ثمة مراحل تذكر لـهما فيه. فالأمر يبدو مختلفاً مع مرحلة الحياة فيه،
لأن الأطوار التي يمر بها النبات إبان حياته متعددة وكثيرة، وهي (الإنبات،
والنمو، والإثمار، وتوقف الإثمار، والهرم).
كما أن القصر الذاتي، والقصر بالمجاورة قياساً على المثل الوارد في
سياقه، عززا من ذاك الاقتضاب، لتلك اللقطات المتسارعة والمتعاقبة التي لم
يربط بينها سوى الفاء، التي تشي بتقارب شديد بين المتعاقبات أولاً، فضلاً
عن ورودها بشكل متراتب، دونما أدنى تقديم أو تأخير ثانياً. لأن خلخلة
الترتيب تؤدي إلى عرقلة التنامي السريع للزمن، ذاك التنامي الذي اقترن
بدلالة الحياة، حتى وصل ـ عبر مروره بمرحلة واحدة فقط ـ إلى أقصى تشكل من
الممكن أن يصله النبات، وهو اختلاط بعضه ببعض، نتيجة التفاف أغصانه الوارفة
بواسطة الماء. فالباء إذاً سببية( ). إذ من غير الممكن أن يكون المقصود من
قولـه تعالى:
فاختلط
به نبات الأرض، اختلاط النبات بالماء، لأن وجود النبات ينتفي أصلاً قبل تحقق
الاختلاط. وهو ما يعززه تحقق التشبيه عند كلمة (الماء)، لا عند (النبات):
مثل الحياة الدنيا كماء، فليس المقصود بهذا التشبيه النبات بذاته، وإنما ما فيه من الماء،
الذي هو السبب في وجوده، بدلالة تشبيه الحياة الدنيا به، التي هي السبب في
وجود الإنسان. إذ إن الإقرار بأن الاختلاط المتحقق هنا هو بين الماء
والنبات، يؤدي إلى قلب المعنى رأساً على عقب، لأن ذلك يتطلب ـ ضمناً ـ وجود
النبات قبل تحقق الاختلاط، وهذا غير ممكن. إذ لا حياة للنبات قبل وجود
الماء، وهو المعنى الذي أدرج في سياق المثل ذاته، عند تحقق الانعطافة
المباغتة إلى الطرف الضديد (الهشيم ـ الموت). إذ إن استحالة النبات النضر
إلى هشيم، لا متكسر حسب، وإنما ذر متناثر في مهب الريح. يسفر عن غياب تام
للماء، إذ إن الهشيم "هو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت"(
). وهنا يكمن السبب في استدعاء صورة الهشيم المتناثر هذه، تعبيراً عن غياب
الماء، بدلاً من أن يذكر ذلك بشكل مباشر. وهو ما أدى إلى تقريب حاد بين
مرحلتين ضديدتين، من الممكن أن يتخذهما الشيء نفسه، عبر الانتقال من قمة
النماء لنبات مترامي الأطراف، إلى أقصى تضاؤل من الممكن أن يصله، وهو
استحالته إلى هباء متناثر، شأنه شأن حبات التراب، التي لا حياة فيها، إلا
إن توفر لـها الماء مع عناصر أخرى حية، لتبدأ مسيرة حياة جديدة، تم التعتيم
عليها هنا. ولكنها استحوذت على بنية الشرح التالية لذلك، وعند قوله تعالى:
المال
والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير
أملا: فثمة تضاد جلي بين زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات، عبر
تلاشي الأولى، وديمومة الثانية.
وعود على بدء فإن هذا التشبيه للحياة الدنيا الذي انتهى بالهشيم،
يقرنها بدلالات التلاشي، الزوال، الموت. وهو ما ارتبط به بعد ذلك من مال
وبنين، التي تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا. بيد أن هنالك ما لا ينتهي
بانتهاء تلك الحياة، وهو ما ورد بعد ذلك من (أعمال باقية صالحة). إلا أن
تقديم صفة البقاء أولاً، وحذف الموصوف ثانياً. أعطى صفة البقاء أو الدوام
التي تحملها تلك الأعمال، مفاتيح الوقوف على الطرف الضديد للمثل المضروب،
والذي انتهى بانتهاء الحياة، على العكس من هذه العبارة، التي كانت نهايتها
إيذاناً ببداية جديدة، لما تحمله كلمة أملا من أبعاد مستقبلية. وبهذا تحيل
ما لا ينتهي بالموت إلى اللاموت، عبر حياة جديدة متجددة. وهنا تكمن
المفارقة الثيمية الكبرى المتجسدة في الذات الإنسانية، عبر إحالة الحياة
إلى الموت، وإحالة الموت إلى الحياة الأبدية.
أما المثل الثاني، فأبرز ما يمكن رصده فيه، تقارب المراحل بعض
الشيء، على الرغم من تراخي الزمن الذي يربط بينها. إذ من الممكن استجلاء
التقارب الزمني من دس ركن مزيد على المراحل الرئيسة الثلاث، بوصفه جزءاً من
المرحلة الثانية:
قبل الحياة
الحياة
بعد الحياة
وبالشكل الآتي:
قبل الحياة (غيث)
حياة (نبات)
بعد الحياة (حطام)
اصفرار
فضلاً عن الانتهاء عند مرحلة الحطام التي، يصح أن نطلق عليها النبات
الميت، بوصفها التشكل الأخير للنبات، قبل أن تختفي معالمه كنبات تماماً،
وهو ما لا يحصل عند مرحلة الهشيم الواردة في المثل السابق، التي لا يصح
فيها أن نطلق عليه نباتاً ميتاً، نظراً لتلاشي معالمه، وصعوبة تصنيف أصوله.
والطريف في الأمر أن الربط قد تم عبر الأداة ثم، في معرض ضرب المثل،
للتعبير عن قصر الحياة الدنيا، فضلاً عن استدعاء لفظة (غيث) الإيجابية
بدلاً من لفظة (ماء) العامة.
بيد أن المسألة ليست بهذه البساطة، فثمة عنصر غير زمني، مزيد على
هذا التحقق، كان لـه أثره الفاعل في اتخاذه لـهذا المسار الزمني. وهو وجود
الكفار في سياقه، ومنذ المرحلة الأولى في سلساله ـ كغيث أعجب الكفار ـ
علماً أن كلمة (كفار) ذات حمولة دلالية مزدوجة، ينتمي أحدها إلى الحقل
الدلالي العقائدي، وينتمي الآخر إلى الحقل النباتي ـ أي زراع ـ وهو ما يبرر
ورودها في سياق المشبه به، وقد رجحت القرائن النصية الدلالية العقائدية( )،
الأمر الذي يشي بأن عرض مجريات هذا المثل كانت من الداخل، أي بحسب رؤية
الكفار التي لم تتعد حدود الحطام ـ الموت. وهنا تكمن المفارقة، لأن هذه
المراحل الحكائية لم تنته بعد، على الرغم من انتهاء المثل. فثمة مرحلة
رابعة مزيدة، ترد لتحسم الحكاية التي تستمر بعده، وبحسب رؤية ثانية هي رؤية
الراوي كلي العلم، وهي تعبر عن مرحلة متقدمة يؤول إليها الكافر بعد مرحلة
الحطام ـ الموت، المتمثلة بعذاب الآخرة. ما يشي بتراكب رؤيوي، كان لتقادم
الزمن السبب المباشر في تشكله على هذه الشاكلة. لينبجس الفارق بين ما قبل
الحياة، من وجهة نظر (الكافر) الداخلية المحدودة، وما بعدها من وجهة نظر
(الراوي) كلي العلم الكونية، فقد "أطال عرض شريط الحياة كما يراه الكفار
(.......) ليقول: إن هذا الذي تعجبون به كله، وهذا الذي تستطيلون أمده،
إنما هو في حقيقته قصير زائل"( ).
وعلى الرغم من كون المرحلة الرابعة تمثل ـ انسيابياً ـ الحلقة
الأخيرة، في السلسال السردي قيد الرصد. بيد أنها لا تختص بالحياة الدنيا
البتة. وبما أن المثل ضرب لغرض تشبيه الحياة الدنيا بحسب رؤية الكفار، فمن
الطبيعي أن تنتهي بانتهائها، ولكن قد تم نفي هذه الرؤية ضمناً، وقبل
التصريح بذلك بعد انتهاء المثل، من خلال عدم ذكر مراحل حياة الإنسان،
وصولاً إلى الموت. وإنما الاستعاضة عن ذلك بمراحل حياة النبات. وإذا كان
الحطام ـ الموت، هو المرحلة الأخيرة في التدرج الطبيعي للنبات، فالإنسان
ليس كذلك. لـهذا تم تشبيه الحياة الدنيا، ولم يتم تشبيه ما بعدها. وإنما
اكتفى بتعبير ساكن خال من التنامي الزمني للسرد.
وبما أن ورود كلمة (كفار) كان داخل المثل المضروب، فلا يشترط ذلك أن
تختص المرحلة الأخيرة بهم، مادامت ترد خارج حدود المثل، من خلال إيراد ما
في الآخرة كاملاً ـ عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ـ وإذا كنا نلمس نوعاً
من التضاد بين الحالين في هذه العبارة، التي تتمحور حول الحياة الآخرة،
فثمة تضاد أكبر بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، اللتين تم التعبير عنهما
برؤيتين وصيغتين متضادتين، تعزيزاً للفارق الفاصل بين ضديّهما:
دنيا آخرة
زوال قصر انتهاء رسوخ بقاء نبات
تتابع زمني سكون زمني
الثيمة الكبرى (من النص إلى الخطاب):
يحقق الزمن إذاً عبر كينونته في الخطاب القرآني، أبعاداً تنعتق من
حدود الآنية، ليكتسب الخطاب من هنا ديمومته. إنه ليس رهين اللحظة، وإنما هو
مرتهن باللحظات كلها في جملتها، لما لـها من بعد إجمالي، يتخطى حدود الزمن
المتتابع، إلى زمن أكثر تقدماً تتوافق فيه الأزمنة كلها، لا لشيء سوى لأن
الوعي الإلهي للزمن لابد من أن يختلف عن الوعي الإنساني لـه، لذلك كان ثمة
تقابل دائم "بين الطبيعة المتحولة للحاضر الإنساني، وثبات الحاضر الإلهي
الذي يضم الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة نظرة، وفعل خلاق"( ). إذ يتم
النظر إلى الزمن في الوعي الإلهي نظرة فوقية، تتم من خلالها رؤية لحظات
الزمن الثلاث معاً، لأن المستقبل على وفقها ليس مجرد إمكانية وإنما هو
تحقق، "ولكن هذه العملية تبدو صعبة للغاية، حتى أنها في أغلب الأحيان لا
تنسب إلا لله، أو يتصور ظهورها في لحظات حرجة من حياة البشر، كأن يكونوا
معلقين بين الحياة والموت، فيرى الإنسان حياته كلها أمام عينيه، وهذه
الصعوبة تأتي من أننا نستقبل المعلومات في شكل متتاليات، فكيف نتصورها
متجاورة؟"( )، ولا يصل الوعي الإنساني إلى هذه النظرة المتزامنة للحظات
الزمن، إلا عند الوصول إلى درجة من الاتصال الإلهي، لا بل إن الوعي
الإنساني لا يكون وعياً إلا عندما لا تكون نظرته إلى الأزمنة نظرة جزئية بل
شمولية رابطة. إذ كلما كانت الصلة بين الذات وبين الله أكثر وثوقاً، اكتسب
المستقبل بعداً أكثر وثوقاً وفاعلية، ليصبح جزءاً من الماضي والحاضر، لا
بكونه نتيجة لـهما كما هو الحاضر نتيجة الماضي، وإنما بوصفه أبعد من ذلك،
بوصفه سابقاً لـهما في حتميته. إن هذا الربط للمستقبل بالوعي الإلهي يمنحه
صفة الانفتاح الفعلي الدينامي المتوالد، لذلك كان مطلقاً يصل إلى أبعد نقطة
تصلها الذات عند تواصلها مع الله تعالى، "فالله بوصفه مطلقاً ولا متناهياً
هو وحده من يمنح المتناهي طاقة لا حد لـها في مواجهة تناهيه، وقوة تطور
الحياة تزداد فقط عندما يعي الكائن المتناهي أن هذه القوة مرتبطة في جوهرها
بقوة اللامتناهي في داخله"( ).
إن هذه النظرة الشاملة الموحدة للتنوع الزمني الثلاثي الأبعاد
(الماضي، الحاضر، المستقبل)، منح الوجود الإنساني أبعاداً جمالية، إذ من
أخص الخصائص الجمالية أن نتلمس الوحدة في التنوع، لأن "مفهوم التنوع لا
يكون فاعلاً ولا مؤثراً إلا في إطار الوحدة الشاملة، ليكون (...) جزءاً لا
يتجزأ منها"( ). وهو ما ارتكزت عليه الجمالية الإسلامية من خلال تأكيدها
على مركزية الكون، ليصبح الجمال بحسب المفهوم الإسلامي لا يمثل "تناسق
الشكل في ذاته وإنما هو الشكل من حيث كونه انعكاساً لنور الله وإبداعاً
لقدرته الخالقة (...)، فإن الجمال هو الله"( ).
إن مصير الإنسان إذاً قار، مهما اختلفت تشكلات الذات البشرية، وبهذا
يصير الإمكان هو الماضي والحاضر وما يمكن أن يكون ماضياً يوماً ما من
المستقبل الدنيوي القريب، أما الحتمية فترتبط بكل تشكلات الذات الإنسانية
وصيروراتها عبر التغاير الدنيوي للزمن، إنها المستقبل غير القابل للتجزيء،
إنها المستقبل الحاضر الذي لا يصبح ماضياً. من هنا اكتسب تسميته بالأخروي،
فهو الآخر الذي لا يليه شيء، "وبهذا صار القلق من المجهول (الفناء) شوقاً
إلى المعلوم (نعيم الأبدية) وربما كان هذا التطلع إلى نعيم الأبدية هو مغزى
قصة آدم
( ).بوصفه لا يقف عند الحدود الزمانية الضيقة للموت وإنما يتعداها
إلى الحيز المكاني الرحب للحياة ما بعد الموت.
إن لحظة الفصل بين الآني/ المتنامي، الإنساني/ الإلهي، الدنيوي/
الأخروي المتمثلة بلحظة (الموت)، ليست نهاية إذاً بقدر كونها بداية، لأنها
تنقل الذات من لحظة الزوال إلى لحظة الوجود، كون الزمن في الأولى متغايراً،
وفي الثانية اختزالياً إجمالياً. وبهذا يصبح الزمن الذي يحيل إليه الموت
أكثر أهمية من زمن الحياة الدنيوية، "لأنه زمان الخالق وليس زمان المخلوق،
زمان المحاكمة وليس زمان التجربة، زمان الديمومة وليس زمان الانقضاء"( )،
كما أن هذه النظرة الشمولية للزمان، من شأنها أن تعطي أبعاداً مكانية أكثر
من كونها زمانية، "حيث السؤال المطروح الذي يبحث عن إجابة هو: أين يذهب
الأموات بعد وفاتهم؟ ومن آليات (السمطقة) المؤسسة للعلامات تحويل المجرد
إلى محسوس"( ).
وهذه الرؤية المكانية لابد من أن تؤدي إلى مفهوم شمولي لمصطلح
الوحدة، لأنه يؤدي ـ بالضرورة ـ إلى الوحدة الموضوعية التي تندرج تحتها
جميع الأجزاء المتفرقة المتتالية، لتستحيل إلى كل واحد، يتم إدراكه دفعة
واحدة.
نستشف من ذلك اقتران القطب الإنساني بالآني الدنيوي ذي (الزمن
المتغاير)، واقتران القطب الإلهي بالدينامي الأخروي ذي (الزمن الشمولي) أي
المكاني.
يرتبط بذلك الزمن المتغاير بالآنية، في حين يرتبط الزمن الشمولي
المطلق بالمكانية. وإذا ما عدنا إلى مقارباتنا لنصوص المثل القرآني، فإننا
نجدها جميعاً ترجيح كفة القطب السماوي ـ الإلهي على كفة القطب الأرضي ـ
الإنساني. وبما أن الإلهي دينامي، أزلي فهو إذاً يرتبط بالجانب الإيجابي
لمستقبل وعي الذات، وهو (الجنة):
الإلهي
زمن شمولي
جنة
(مكان)
الإنساني
زمن متغاير
دنيا
وعبر الصراع المحتدم داخل النفس الإنسانية بين المكاني والزماني،
يكتسب الإنساني كينونته، ولأجل تخطي ذلك الصراع إلى درجة كينونية أسمى،
لابد من الاتصال مع المطلق (الله). ليصير "العالم الحسي مرقاة إلى العقلي،
فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة، لأنسدَّ طريق الترقي (...). فلم يقرب من
الله تعالى أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس، والعالم المترفع عن إدراك
الحس والخيال هو الذي نعنيه بعالم القدس"( ) على حد قول الغزالي، لـهذا
كانت العبادة هي معراج الواقع، إذ إن الواقع على وفق ذلك "هو الطريق الذي
يعبره العابدون ليلجوا من خلاله إلى المعبود. كأن هذه الطريق (مَعْبد) يمثل
المعراج إلى الله لأن المكان فيه يتعالى على المكان"( )، بوصفه يوتوبيا
المسلم، أو مدينته الفاضلة التي ينحو إليها دائماً، من خلال الانعتاق من
آنية اللحظة (الدنيا)، والانغماس في أبدية المكان (الجنة ـ اليوتوبيا ـ
المدينة الفاضلة)، التي تمثل الماضي الذي يتوق إليه المسلم. إذ إن "الزمان
والمكان في الفكر الإسلامي يرتبطان وثيق الارتباط بالحضور الدائم للماضي
(القبل) الوعي المثالي"( )، لأن الذات الإنسانية تحن دوماً إلى المكان
الأصل، أو ما اصطلح عليه باشلار بـ (بيت الطفولة)، الذي "يملك جاذبية(..)،
وذلك لأنه يكثف الوجود في حدود تتصف بالحماية"( ).
وبهذا يصبح من الممكن تقسيم الزمن من جديد، على وفق النظرة الشمولية
للزمن الدنيوي، لأنه في جملته ليس إلا زمناً ارتهانياً (حاضراً)، وليست لـه
أية أهمية تذكر قياساً بالماضي المثالي والمستقبل الأخروي، ليكون بذلك محطة
انتقالية عبر عملية المداورة، التي تعيد الذات إلى موطنها الأصل، ليتم
الانتهاء عند النقطة ذاتها التي انطلقت منها أول مرة، عبر لحظة تتفتح على
الزمان كله، ليقف الزمان في مكان تتحقق فيه الرغبات، دون أن يطارد الذات
شبح زوالها المرتبط بالتتابع الزمني، لأنه مكان بلا زمان.
كشف بالمصادر والمراجع:
أ ـ الكتب والكتب الجامعة:
ـ اتجاهات في الفلسفة المعاصرة /عزمي إسلام/ وكالة
المطبوعات /الكويت/ د. ط/1980.
ـ الأدب والدلالة /ت. تودوروف/ ترجمة: د. محمد نديم خشفة
/مركز الإنماء الحضاري/ حلب/ ط1/ 1996.
ـ الاستعارة والمجاز المرسل / ميشال لوغورن/ ترجمة: حلاج.
صليبا / عويدات/ بيروت ـ باريس /ط1/ 1988.
ـ استقبال النص عند العرب /د. محمد رضا مبارك/ المؤسسة
العربية / بيروت/ ط1/ 1999.
ـ أسرار البلاغة في علم البيان/ عبد القاهر الجرجاني /
تحقيق: محمد رشيد رضا / دار المطبوعات العربية/ د. ط/ د. ت.
ـ الأسلوب السردي ونحو الخطاب المباشر والخطاب غير المباشر
/ آن بانفيلد/ ترجمة: بشير القمري/ ضمن: طرائق تحليل السرد الأدبي/ اتحاد
كتاب المغرب/ الرباط/ ط1/ 1992.
ـ أسلوب المحاورة في القرآن الكريم /د. عبد الحليم حنفي/
الهيئة المصرية العامة للكتاب/ ط2/ 1985.
ـ أسلوبية الرواية ـ مدخل نظري/ د. حميد لحمداني/ منشورات
دراسات سيميائية أدبية لسانية/ الدار البيضاء/ ط1/ 1989.
ـ الإشارات والتنبيهات/ أبو علي ابن سينا/ شرح: نصير الدين
الطوسي/ تحقيق: د. سليمان دنيا/ دار المعارف/ القاهرة / د. ط/ 1958.
ـ أشكال التعبير في الأدب الشعبي/د. نبيلة إبراهيم/ دار
نهضة مصر/ القاهرة/ ط2/ 1974.
ـ إعجاز القرآن/ أبو بكر محمد بن الطيب/ تحقيق: السيد أحمد
صقر/ دار المعارف/ القاهرة/ ط3/ 1973.
ـ الأمثال في القرآن/ د. محمود بن الشريف/ دار الهلال/
بيروت/ ط5/ 1981.
ـ الأمثال في القرآن الكريم/ د. الشريف منصور بن عون
العبدلي/ عالم المعرفة/ جدة/ ط1/ 1985.
ـ الأمثال في القرآن الكريم/ د. محمد جابر الفياض/دار
الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ ط1/ 1988.
ـ أمثال القرآن وأمثال الحديث/ ابن قيم الجوزية/ تحقيق: د.
موسى بناي العليلي/ مكتبة الشطري/ بغداد/ د. ط/ 1991.
ـ انفتاح النص الروائي/ سعيد يقطين/ المركز الثقافي العربي/
الدار البيضاء/ ط1/ 1989.
ـ البداية في النص الروائي/ صدوق نور الدين/ دار الحوار /
اللاذقية/ ط1/ 1994.
ـ بلاغة الخطاب وعلم النص/ د. صلاح فضل/ المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب/ الكويت/ د. ط/ 1992.
ـ البناء الفني في الرواية العربية ـ في العراق/ د. شجاع
مسلم العاني/ دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد/ د. ط/ 1994.
ـ بنية الشكل الروائي/ حسن بحراوي/ المركز الثقافي العربي/
الدار البيضاء/ ط1/ 1990.
ـ بنية العقل العربي ـ دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في
الثقافة العربية/ د. محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت
/ ط6/ 2000.
ـ بنية اللغة الشعرية /جان كوهين/ ترجمة: محمد الولي ومحمد
العمري/ دار توبقال/ الدار البيضاء/ ط1/ 1986.
ـ بنية النص السردي ـ من منظور النقد الأدبي/ د. حميد
لحمداني/ المركز الثقافي العربي العربي/ د.ط/ د. ت.
ـ البيان والتبيين/ الجاحظ/ تحقيق: فوزي عطوي/ دار صعب/
بيروت/ د. ط/ د. ت.
ـ البنيوية وعلم الإشارة /ترنس هوكز/ ترجمة: مجيد الماشطة/
دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ ط1/ 1986.
ـ تأويل الماضي/ سرجي افيرنتسيف/ ضمن: طبيعة الإشارة
الجمالية/ ترجمة: مصطفى عبود/ دار الهمداني/ عدن/ 1/ 1984.
ـ التحليل البنيوي للسرد/رولان بارت/ ترجمة: حسن بحراوي
وبشير القمري وعبد الحميد عقار/ ضمن: طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ تحليل الخطاب الروائي/ سعيد يقطين/ المركز الثقافي
العربي/ بيروت ـ الدار البيضاء/ ط2/ 1993.
ـ تحليل الخطاب الشعري ـ استراتيجية التناص/ د. محمد مفتاح/
دار التنوير/ بيروت/ المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ ط1/ 1985.
ـ التصوير الفني في القرآن /سيد قطب/ دار المعارف/ القاهرة/
ط9/ 1980.
ـ تطور لغة الحوار في القصة التونسية/ عمر بن سالم/ ضمن:
قضايا الأدب العربي/ مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية/ تونس/
د.ط/ 1978.
ـ تفسير ابن كثير / أبو الفداء إسماعيل ابن كثير/ دار
المفيد / بيروت / د. ط/ د. ت.
ـ تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)/ ناصر
الدين أبو سعيد عبد الله الشيرازي البيضاوي /المكتبة التجارية الكبرى/
القاهرة/ د. ط/ د. ت.
ـ تفسير سورة النور/ أبو الأعلى المودودي/ دار الفكر/ دمشق/
د.ط/ د. ت.
ـ التفسير الكبير/ الفخر الرازي/ دار الكتب العلمية/ طهران/
ط2/ د. ت.
ـ تقنيات السرد ـ في النظرية والتطبيق/ آمنة يوسف/ دار
الحوار/ اللاذقية/ ط1/ 1997.
ـ تكوين العقل العربي/ د. محمد عابد الجابري/ مركز دراسات
الوحدة العربية/ بيروت/ ط5/ 1991.
ـ التلقي والسياقات الثقافية/ د. عبد الله إبراهيم/ دار
الكتاب الجديد/ بيروت/ ط1/ 2000.
ـ جدلية علم الاجتماع بين الرمز والإشارة/ اينو دوزي/
ترجمة: قيس النوري/ بغداد/ دار الشؤون الثقافية العامة/ د. ط/ 1988.
ـ جماليات الأسلوب ـ الصورة الفنية في الأدب العربي/ د.
فايز الداية/ دار الفكر المعاصر/ بيروت/ ط2/ 1990.
ـ جماليات المكان/ جاستون باشلار/ ترجمة: غالب هلسا/ دار
الجاحظ/ بغداد/ د. ط/ 1980.
ـ جماليات المكان في الرواية العربية/ شاكر النابلسي/
المؤسسة العربية/ بيروت/ ط1/ 1994.
ـ الجمالية في الفكر العربي/ د. عبد القادر فيدوح/ اتحاد
الكتاب العرب/ دمشق/ د. ط/ 1999.
ـ جمهرة الأمثال / أبو هلال العسكري/ تحقيق: محمد أبو الفضل
وعبد المجيد قطاش/ دار الجيل/ بيروت/ ط2/ 1988.
ـ الجنى الداني في حروف المعاني/ الحسن بن قاسم المرادي/
تحقيق: فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل/ بيروت/ دار الآفاق الجديدة/ ط2/
1983.
ـ حدود السرد/ جيرار جينيت/ ترجمة: بنعيسي بو حمالة/ ضمن:
طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ الحياة بحثاً عن السرد/ بول ريكور/ ضمن: الوجود والزمن ـ
فلسفة بول ريكور/ ديفيد وورد/ ترجمة: سعيد الغانمي/ المركز الثقافي العربي/
بيروت/ الدار البيضاء/ ط1/ 1999.
ـ الحيوان /أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ/ تحقيق: يحيى
الشامي/ دار مكتبة الهلال/ بيروت/ ط1/ 1986.
ـ خطاب الحكاية ـ بحث في المنهج /جيرار جينيت/ ترجمة: محمد
معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي/ المجلس الأعلى للثقافة/ القاهرة/ ط2/
1997.
ـ الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ـ قراءة
نقدية لنموذج إنساني معاصر/
د. عبد الله محمد الغذامي/ النادي الأدبي الثقافي/ جدة/ ط1/
1985.
ـ 500 قصة قصيرة جداً/ محمد سمارة/ تقديم: . شجاع مسلم
العاني/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ ط1/ 2002.
ـ الدال والاستبدال/ عبد العزيز بن عرفة/ دار الحوار/
اللاذقية/ ط1/ 1993.
ـ دراسات في الفلسفة المعاصرة/ زكريا إبراهيم/ دار مصر/
القاهرة/ د. ط/ 1969.
ـ دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية/ د. سليمان الطراونة/
د.م.ط/ ط1/ 1992.
ـ دروس في السيميائيات/ د. حنون مبارك/ دار توبقال/ الدار
البيضاء/ ط1/ 1987.
ـ دلائل الإعجاز /عبد القاهر الجرجاني/ تحقيق: أحمد مصطفى
المراقي / القاهرة/ ط2/ د. ت.
ـ الدلالة والمرجع ـ دراسة معجمية/ تودوروف وأزولد/ ضمن:
المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث/ ترجمة: عبد القادر قنيني/
أفريقيا الشرق/ الدار البيضاء/ ط2/ 2002.
ـ ذات المؤول / والتر بن ميشليز/ ضمن: نقد استجابة القارئ
من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية/ تحرير: جين ب. تومبكز/ ترجمة: حسن ناظم
وعلي حاكم/ المجلس الأعلى للثقافة/ د. ط/ 1999.
ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/ أبو
الفضل شهاب الدين محمود الألوسي/ المطبعة الكبرى الميرية/ د.ط/ 1301هـ.
ـ الراوي: الموقع والشكل ـ بحث في السرد الروائي/ يمنى
العيد/ مؤسسة الأبحاث العربية/ بيروت/ ط1/ 1986.
ـ سر الفصاحة/ ابن سنان الخفاجي/ شرح: عبد المتعال الصعيدي/
مطبعة محمد علي صبيح/ الأزهر/ د. ط/ 1969.
ـ سوسير والألسنية/ محمد الشاوش/ ضمن: أهم المدارس
اللسانية/ المعهد القومي للعلوم التربية/ تونس/ ط2/ 1990.
ـ السيميائيات السردية ـ المكاسب والمشاريع /أ. ج كريماس/
ترجمة: سعيد بنكراد/ ضمن: طرائق تحليل السرد الأدبي (مرجع سابق).
ـ السيميوطيقا: حول بعض المفاهيم والأبعاد/ سيزا قاسم/ ضمن:
أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة ـ مدخل إلى السيميوطيقا/ إشراف:
سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد/ دار العالم العربي/ القاهرة/ ط2/ د.
ـ سيميوطيقا الشعر ـ دلالة القصيدة/ ميكائيل ريفاتير/
ترجمة: فريال جبوري غزول/ ضمن: أنظمة العلامات ـ مدخل إلى السيميوطيقا
(مرجع سابق).
ـ الشرط في القرآن الكريم ـ على نهج اللسانيات الوصفية/
محمد الهادي الطرابلسي وعبد السلام المسدي/ الدار العربية للكتاب/ د. ط/
1985.
ـ الشفاهية والكتابية/ والتر ج. أونج/ ترجمة: د. حسن البنا/
المجلس الوطني لثقافة والفنون والآداب/ الكويت/ د. ط/ 1993.
ـ الشكل والخطاب ـ مدخل لتحليل ظاهراتي/ محمد الماكري/
المركز الثقافي العربي/ بيروت/ ط1/ 1991.
ـ الصوت الآخر ـ الجوهر الحواري للخطاب الأدبي/ فاضل ثامر/
دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ ط1/ 1992.
ـ الصورة الأدبية/ د. مصطفى ناصف/ دار الأندلس/ ط2/ 1981.
ـ الصورة الشعرية ـ الكتابة الفنية ـ الأصول والفروع/ د.
صبحي البستاني/ دار الفكر اللبناني/ بيروت/ ط1/ 1986.
ـ الصورة الفنية في المثل القرآني/ د. محمد حسين الصغير/
دار الرشيد/ بغداد/ د.ط/ 1981.
ـ الصوفية والسوريالية/ أدونيس/ دار الساقي/ بيروت/ د. ط/
1992.
ـ طبيعة الإشارة الجمالية/ ميخائيل خرابتشنكو/ ترجمة: مصطفى
عبود/ دار الهمداني/ عدن/ ط1/ 1984.
ـ الظاهرة القرآنية/ مالك بن نبي/ ترجمة: عبد الصبور شاهين/
دار الفكر/ بيروت/ ط3/ 1986.
ـ علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته/ د. صلاح فضل/ دار الآفاق
الجديدة/ بيروت/ ط1/ 1985.
ـ علم الإشارة ـ السيميولوجيا/ بيير جيرو/ ترجمة: د. منذ
عياشي/ دار طلاس/ دمشق/ ط1/ 1988.
ـ علم الدلالة /بيير جيرو/ ترجمة: انطوان أبو زيد/ دار
عويدات/ بيروت ـ باريس/ ط1/ 1986.
ـ علم العلامات (السيميوطيقا)/ فريال جبوري غزول/ ضمن:
أنظمة العلامات ـ مدخل إلى السيميوطيقا (مرجع سابق).
ـ علم اللغة العام/ فردينان دي سوسير/ ترجمة: د. يوئيل يوسف
عزيز/ دار آفاق عربية / بغداد/ د.ط/ 1985.
ـ علم النص/ جوليا كرستيفا/ ترجمة: فريد الزاهي/ دار توبقال/
الدار البيضاء/ ط1/ 1991.
ـ العلم والدين في الفلسفة المعاصرة/ أميل بوترو/ ترجمة:
أحمد فؤاد الأهواني/ الهيئة العامة للكتاب/ القاهرة/ د.ط/ 1973.
ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده/ ابن رشيق القيرواني
الأزدي/ دار الجيل/ بيروت/ ط2/ 1972.
ـ فتح البيان في مقاصد القرآن/ أبو الطيب صديق بن حسن
القنوجي البخاري/ المكتبة العصرية/ بيروت/ د. ط/ 1995.
ـ فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم
التفسير/ محمد بن علي بن محمد الشوكاني/ مصطفى البابي الحلبي وأولاده/ ط2/
1964.
ـ فردينان دي سوسير ـ أصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامات
/جوناثان كلير/ ترجمة: د. عز الدين إسماعيل/ المكتبة الأكاديمية/ د. ط/
2000.
ـ الفصل والوصل في القرآن الكريم ـ دراسة في الأسلوب /د.
منير سلطان/ منشأة المعارف/ الإسكندرية/ ط2/ 1997.
ـ الفضاء الروائي ـ الرواية في الأردن نموذجاً/ د. عبد
الرحيم مراشدة/ وزارة الثقافة/ عمان/ ط1/ 2002.
ـ فلسفة الفن عند سوزان لانجر/ إعداد: راضي حكيم/ دار
الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ د.ط/ 1986.
ـ فهم السينما /لوي دي جانيتي/ ترجمة: جعفر علي/ دار
الرشيد/ بغداد/ د. ط/ 1981.
ـ في الخطاب السردي ـ نظرية كريماس/ محمد ناصر العجيمي/
الدار العربية للكتاب/ تونس/ د. ط/ 1993.
ـ في ظلال القرآن /سيد قطب/ دار إحياء التراث العربي/
بيروت/ ط5/ 1997.
ـ في فلسفة الحضارة الإسلامية/ عفت الشرقاوي/ دار النهضة
العربية/ بيروت/ د. ط/ 1979.
ـ في المرجعية الاجتماعية للفكر والإبداع/ محمد الطيب محمد/
مركز الحضارة العربية/ ط1/ 1990.
ـ القارئ في الحكاية ـ التعاضد التأويلي في النصوص
الحكائية/ أمبرتو ايكو/ ترجمة: انطوان أبو زيد/ المركز الثقافي العربي/
الدار البيضاء/ ط1/ 1996.
ـ القارئ النموذجي/ أمبرتو ايكو/ ترجمة: أحمد بو حسن/ ضمن:
طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ القارئ والنص ـ العلامة والدلالة /سيزا قاسم/ المجلس
الأعلى للثقافة/ د. ط/ 2002.
ـ قال الراوي ـ البنيات الحكائية في السيرة الشعبية / سعيد
يقطين/ المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ ط1/ 1997.
ـ قراءات في الأدب والنقد/ د. شجاع مسلم العاني/ اتحاد
الكتاب العرب/ دمشق/ ط1/ 2000.
ـ القرآن محاولة لفهم عصري/ مصطفى محمود/ دار الشروق/
بيروت/ د. ط/ 1970.
ـ قضايا الشعرية/ رومان ياكوبسن/ ترجمة: محمد الولي ومبارك
حنون/ دار توبقال/ الدار البيضاء/ ط1/ 1988.
ـ قضايا اللغة في كتب التفسير: المنهج، التأويل، الإعجاز/
د. الهادي الجطلاوي/ دار محمد علي الحامي/ تونس/ ط1/ 1998.
ـ كتاب التعريفات/ الشريف علي بن محمد الجرجاني/ دار الكتب
العلمية/ بيروت/ ط1/ 1983.
ـ كتاب الصناعتين الكتابة والشعر/ أبو هلال الحسن بن عبد
الله بن سهل العسكري/ تحقيق: علي البجاوي ومحمد أبو الفضل/ دار إحياء
الكتب/ ط1/ 1952.
ـ الكتابة الثانية وفاتحة المتعة/ منذر عياشي/ المركز
الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ ط1/ 1998.
ـ الكلام والخبر ـ مقدمة للسرد العربي/ سعيد يقطين/ المركز
الثقافي العربي/ الدار البيضاء/ ط1/ 1997.
ـ لسان العرب المحيط/ ابن منظور/ إعداد: يوسف خياط/ دار
لسان العرب/ بيروت/ د.ط/ د. ت.
ـ لسانيات النص ـ مدخل إلى انسجام الخطاب/ محمد خطابي/
المركز الثقافي العربي/ بيروت/ ط1/ 1991.
ـ ما هي السيميولوجيا/ برنار توسان/ ترجمة: محمد نظيف/
أفريقيا الشرق/ الدار البيضاء/ ط2/ 2000.
ـ مباحث في التفسير الموضوعي/د. مصطفى مسلم/ دار القلم/
دمشق/ ط2/ 1997.
ـ مبادئ الفن/ روبين جورج كونجوود/ ترجمة: د. أحمد حمدي
محمود/ المؤسسة المصرية العامة/ د. ط/ 1966.
ـ مبادئ في علم الأدلة/ رولان بارت/ ترجمة: محمد البكري/
دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ ط2/ 1986.
ـ المبدأ الحواري ـ دراسة في فكر ميخائيل باختين/ ت.
تودوروف/ ترجمة: فخري صالح/ دار الشؤون الثقافية العامة/ ط1/ 1992.
ـ المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر/ ضياء الدين ابن
الأثير/ تحقيق: د. أحمد الحوفي ود. بدوي طبانة/ دار الرفاعي/ الرياض/ ط2/
1983.
ـ مجمع الأمثال / أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني/
تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد/ دار الفكر/ بيروت/ ط3/ 1972.
ـ المجمل في فلسفة الفن/ بندتو كروتشة/ ترجمة: سامي
الدروبي/ دار الأوابد/ دمشق/ د. ط/ 1964.
ـ مجهول البيان/ د. محمد مفتاح/ دار توبقال/ الدار البيضاء/
ط1/ 1990.
ـ محتوى الشكل في الرواية العربية/ د. سيد بحراوي/ الهيئة
المصرية العامة للكتاب/ د. ط/ 1996.
ـ المزهر في علوم اللغة وأنواعها/ عبد الرحمن جلال الدين
السيوطي/ تحقيق: محمد أحمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل/
دار الفكر/ بيروت/ د. ط/ د. ت.
ـ المستقصى في أمثال العرب/ أبو القاسم جار الله محمود
الزمخشري/ دائرة المعارف العثمانية/ حيدر أباد/ د. ط/ 1962.
ـ مشكاة الأنوار/ أبو حامد محمد الغزالي/ تحقيق: د. أبو
العلا عفيفي/ الهيئة العامة للكتاب/ القاهرة ـ بيروت/ د. ط/ 1973.
ـ معارج القدس في مدارج معرفة النفس/ أبو حامد محمد
الغزالي/ دار الآفاق الجديدة/ بيروت/ ط3/ 1978.
ـ معايير تحليل الأسلوب/ ميكائيل ريفاتير/ ترجمة: ج. حميد
لحمداني/ دراسات سال/ فاس/ ط1/ 1993.
ـ معجم البلاغة العربية/ د. بدوي طبانة/ منشورات جامعة
طرابلس/ ط1/ 1975.
ـ المعجم الفلسفي/ د. جميل صليبا/ دار الكتاب اللبناني/
بيروت/ د. ط/ د. ت.
ـ معجم المصطلحات البلاغية وتطورها/ د. أحمد مطلوب/ المجمع
العلمي العراقي/ ط1/ 1986.
ـ معجم مصطلحات الصوفية/ د. عبد المنعم الحفني/ دار
المسيرة/ بيروت/ ط1/ 1980.
ـ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب/ مجدي وهبة وكامل
المهندس/ مكتبة لبنان/ بيروت/ ط2/ 1984.
ـ معجم مقاييس اللغة/ أبو الحسين أحمد بن فارس/ تحقيق: عبد
السلام محمد هارون/ دار الفكر/ د. ط/ 1979.
ـ معجم النقد العربي القديم/ د. أحمد مطلوب/ دار الشؤون
الثقافية العامة/ بغداد/ ط1/
1989.
ـ المعنى والمرجع/ جوتلوب فريحة/ ضمن: المرجع والدلالة
(مرجع سابق).
ـ المفارقة وصفاتها /د. س. مويك/ ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة/
دار المأمون/ بغداد/ ط2/ د.ت.
ـ مفتاح العلوم/ أبو يعقوب بن أبي بكر السكاكي/ مصطفى
البابي الحلبي وأولاده/ القاهرة/ ط1/ 1937.
ـ مفهوم النص ـ دراسة في علوم القرآن/ د. نصر حامد أبو زيد/
المركز الثقافي العربي/ بيروت/ ط4/ 1998.
ـ المقاربة التداولية فرانسواز أرمينكو/ ترجمة: د. سعيد
علوش/ مركز الإنماء القومي/ د. ط/ د.ت.
ـ مقتضيات النص السردي الأدبي/ جاب لينتفليت/ ترجمة: رشيد
بنحدو/ ضمن: طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ مقدمة في علم الجمال/ د. أميرة حلمي مطر/ دار النهضة
العربية/ القاهرة/ د. ط/ د.ت.
ـ مقدمة لدراسة المروي عليه/ جيرالد برنس/ ضمن: نقد استجابة
القارئ من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية (مرجع سابق).
ـ مقولات السرد الأدبي ت ت. تودوروف /ترجمة: الحسين سحبان
وفؤاد صفا/ ضمن: طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ من أجل سيميائية تعاقبية للرواية/ فلاديمير كريزنسكي/
ترجمة: عبد الحميد عقار/ ضمن: طرائق تحليل السرد (مرجع سابق).
ـ مناهج الجدل في القرآن الكريم/ د. زاهر عواض الألمعي/ د.
م. ط/ ط3/ 1404.
ـ مناهل العرفان في علوم القرآن/ محمد عبد العظيم الزرقاني/
عيسى البابي الحلبي/ القاهرة/ ط2/ 1361هـ.
ـ المنطق الصوري /د. علي عبد المعطي محمد ود. ماهر عبد
القادر محمد/ دار المعرفة الجامعية/ الإسكندرية/ د. ط/ 1982.
ـ من نحو الجملة إلى نحو النص/ د. إبراهيم خليل/ ضمن:
الأسلوبية ونظرية النص/ المؤسسة العربية/ بيروت/ ودار الفارس/ عمان/ ط1/
1997.
ـ الموضوعية في العلوم الإنسانية/ صلاح قنصوة/ دار الثقافة/
القاهرة/ د.ط/ 1985.
ـ نحو نظرية للجمالية الإسلامية/ علي اللواتي/ ضمن: الفن
العربي الإسلامي/ ج2/ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/ تونس/ د.
ط/ 1994.
ـ نسيج النص ـ بحث في ما يكون به الملفوظ نصاً /الأزهر
الزناد/ المركز الثقافي العربي / بيروت/ ط1 / 1997.
ـ النص القرآني من الجملة إلى العالم/ وليد منير/ المعهد
العالمي للفكر الإسلامي/ القاهرة /ط1/ 1997.
ـ النص القرآني وآفاق الكتابة/ أدونيس/ دار الآداب/ بيروت /
ط1/ 1993.
ـ نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية/ د. مصطفى
حميدة/ الشركة المصرية العالمية/ القاهرة/ د. ط/ 1997.
ـ نظريات معاصرة/ د. جابر عصفور/ دار المدى/ دمشق/ ط1/
1998.
ـ نظرية القيمة في الفكر المعاصر/ صلاح قنصوة/ دار الثقافة/
القاهرة/ د. ط/ 1981.
ـ نظرية المعنى في النقد العربي/ د. مصطفى ناصف/ دار
الأندلس/ ط2/ 1981.
ـ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ برهان الدين أبو الحسن
إبراهيم بن عمر البقاعي/ مكتبة ابن تيمية/ ط1/ 1969.
ـ نقد الشعر/قدامة بن جعفر/ تحقيق: كمال مصطفى/ مكتبة
الخانجي/ مصر/ 1963.
ـ النكت في إعجاز القرآن/ أبو الحسن علي بن عيسى الرماني/
ضمن: ثلاث رسائل في إعجاز القرآن/ تحقيق: محمد خلف الله ود. محمد زغلول
سلام/ ط2/ 1968/ دار المعارف/ القاهرة/ د. ط/ د. ت.
ـ هندسة القرآن ـ دراسة فكرية جديدة في تحليل القرآن/ جمال
البدري/ دار الآفاق الجديدة/ الدار البيضاء/ ط1/ 1992.
ـ الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة/ حمادي صمود/
الدار التونسية/ تونس/ د.ط/ 1988.
ـ الوعي والفن ـ دراسات في تاريخ الصورة الفنية/ غيورغي
غاتشف/ ترجمة: د. نوفل نيوف/ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/
الكويت/ د.ط/ 1990.
ب ـ المقالات والبحوث:
ـ إشكالية ثنائية المعنى/ بول ريكور/ تقديم: فريال جبوري
غزول / ألف/ ع8/ 1988.
ـ الاقتضاء في التداول اللساني/ عادل فاخوري/ عالم الفكر/
ع3/ 1989.
ـ بيرس أو سوسير م جيرار لودال/ ترجمة: عبد الرحمن بو علي/
العرب والفكر العالمي/ ع3/ 1988.
ـ التداولية والسيميائية/ أ. ج. كريماس وأ. لندو فسكي/
ترجمة: محمد الداهي/ علامات / ع9/ 1999.
ـ التعيين والتضمين في علم الدلالة/ جوزيف شريم/ الفكر
العربي المعاصر/ ع 18 ـ 19/ 1982.
ـ تفاعل الصوت والدلالة في البنية الإيقاعية للشعر ـ
التمفصل الدلالي والتقطيع النظمي/ د. محمد العمري/ دراسات سيميائية أدبية
لسانية/ ع4/ 1990.
ـ التمثيل السردي في روايات الكوني/ عبد الله إبراهيم/
علامات/ ج 32/ ع8/ 1999.
ـ الحوار في الرواية والقصة القصيرة/ محمود عبد الوهاب/
تلخيص: جاسم الحلاوي/ الثقافة/ ع7/ 1973.
ـ الخصائص الفكرية والفنية للمثل القرآني/ د. عصام قصبجي
وأسعد كسار/ مجلة بحوث جامعة حلب ـ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية/ ع 24/
1993.
ـ من قضايا النقد القديم: الحكمة والمثل والتغريض/ د. محمد
إقبال عروي/ آفاق الثقافة والتراث/ ع 34/ 2001.
ـ الموقف الجمالي / جورج ديكي/ ترجمة: د. يوئيل يوسف عزيز/
الثقافة الأجنبية/ ع3 / 1986.
ـ المؤول والعلامة والتأويل/ سعيد بنكراد/ فكر ونقد/ ع 16/
1999.
ـ نظرة في العلامة اللسانية بين المطابقة والإيحاء/ المنصف
عاشور/ الأقلام/ ع9/ 1983.
ـ نظرية المفارقة/ خالد سليمان/ أبحاث اليرموك/ ع2/ 1991.
ـ النقد الجمالي في النقد الألسني/ قراءة لجماليات الإبداع
وجماليات التلقي/ معجب الزهراني/ فصول/ ع 4/ 1997.
ـ الوظائف التداولية في رواية ريح الجنوب/ يحيى بعيطيش/
علامات/ ج 43/ ع11/
2002.
ـ وعي البعد الألسني لمسألة الدلالة/ عبد الوهاب ترو/ الفكر
العربي المعاصر/ أيلول ـ تشرين الأول/ 1989.
ج ـ الأطاريح والرسائل الجامعية:
ـ أسلوب الخبر في القرآن الكريم ـ دراسة بلاغية نقدية/
أحلام موسى حيدر/ رسالة/ كلية الآداب/ الجامعة المستنصرية/ 1986.
ـ التوازي في القرآن الكريم/ وداد مكاري حمود/ أطروحة/ كلية
التربية للبنات/ جامعة بغداد/ 2001.
ـ الجمال في الوعي الشعري العربي قبل الإسلام ـ دراسة
تأويلية/ هلال محمد جهاد/ أطروحة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ 1998.
ـ جمالية العلامة الروائية ـ الرواية العربية أنموذجاً /
جاسم حميد جودة/ أطروحة/ كلية التربية/ جامعة الموصل/ 2002.
ـ السمات الجمالية في القرآن الكريم ـ من وجهة نظر فنان
تشكيلي/ قيس إبراهيم مصطفى /أطروحة/ كلية الفنون الجميلة/ جامعة بغداد/
1998.
لقراءة موضوع ذات صلة (القصة
في القرآن)
|