أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

مجموعات قصصية / الكاتبة: سحر سليمان

حرق الليل

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

انفعالات

اللعب بالدم

قاع البئر

حرق الليل

سلطان النهر

 الطوفان

 طقوس امرأة

العشاق

 الأقنعة

تحية الإسلام

أصابع رشيقة

حرق الليل

 انتظار

 الضمائر

 المهدي

 قصور البنات

 

حرق الليل

 

قاع البئر

 

" وكثيراً ما رأيته في مركبه العائم................

في ثيابه الموشاة

تحيط به الأزاهير وتلفه ألبسته المذهبة ......

وقد لاحت على شفتيه بسمة ضاحكة ....

قوامها الفرح والكبرياء

فهو كوكب ذلك العالم في زمانه ومكانه

أجل رأيته في قمة عصره الذهبي .... رأيت هارون الرشيد"

من قصيدة : ذكريات ألف ليلة وليلة

لالفرد تنسيون ............

ها انذا اليوم . أحمل مياهي الباردة وبراكيني التي خمدت منذ قرون طويلة.  وأبحث عنك، عن أصابعك التي تعرف كيف تشعلني ؟ وكيف تخمد حممي؟ أدور في المدينة التي شهدت لقائنا قبل ألف ومائتي عام، أدور واستعرض الأسواق والوجوه، فلا أرى وجهك النبيل بينها، لا أرى موكبك الملكي يعلن عن مجدك العالي.

وقفت أمام باب بغداد، فلم أجد القوافل تمر، ولا الحرس يستعد وحين زرت قصر بناتك، لم أجد غرفة لي بين غرفه التي نامت تحت تراب وعشب ونعاس ابدي.

وها انذا اليوم.

أدور حول سور المدينة الأثري، أتلمس آجره الأحمر الجاف كلحم مقدد، ومهما حاولت لن أجد رائحة غير رائحة التراب الخامد والحجر الغشيم.

وفي المسجد العتيق لا شيء هناك سوى القناطر التي شاخت وبقايا المئذنة  الدائرية، تمتد مثل أصبع اتهام إلى  الأعلى ولا من يعبأ بها.

وكنت أحن إلى لياليك يا هارون الرشيد، اشتاق إلى كل ما فيها من ملذات وكبرياء وغوايات صاخبة، حيث يغلب اللون الأحمر على كل شيء، على النبيذ والدم والستائر والأضواء، وحيث تموت الأصوات والآهات في الدهاليز والأقبية والممرات الطويلة، وأنت أنت دائماً الرشيد.

***

وتبدأ الليلة المليون بعد الألف.

من الليالي التي فيها سفك الدماء منك مباحاً " يا هارون الرشيد أيها البدوي الذي لم تروضه عروش الذهب، ولا صبايا شيراز أو سمرقند أو قندهار... لم تحرك فيه الإنسان أوتار إسحاق الموصلي أو إبراهيم .

تدرك أنك كنت نطفة، ياهارون الرشيد وأنني كنت جارية مملوكة تشع من عيونها بروق غامضة تطل مثل غيم، مثل ندى، مثل قطعان من الذؤبان الجائعة، كل الذين عرفتهم أحبوني، هاموا بي، وما أن يتزوج أحدهم، حتى ينصرف عني إلى حين ثم يحن إلى قاع البئر، يتذكر مياهه الباردة، فيدعوني حين تخلو جنته الزوجية لكي احتسي معه كأس شاي معتقة من السماور التركي ذي البخار المتصاعد.

أكون وقتها أنا الجارية، المملوكة، الموشومة بوشم سري، قاع بئر لأحزان عمقية تجثم على الصدور كحجر الرحى الأسود، تطحن القمح والشوفان، والذرة الصفراء، أكون الملجأ الأمين، والملاذ، وهكذا كان قدري يا هارون الرشيد منهم من كان يراني طفلة مسكونة بالنار  وزهر الرمان ومعتقة بالتوابل وحين يعض شحمة أذني أصرخ فتتصدع الجدارن، ومنهم من يداعب منحدر العنق إلى الجيد فأذوي كوردة القرع الغضة وهي تواجه شمس الصيف لتنعقد ثمراً جديداً.

ومنهم من يتعرى ليغتسل بعرق من جنابة الخيانة معي، وكلهم يحبون طقوس البركان لدي، وأنت وحدك يا هارون الرشيد عرفت كيف تخمده بضلالاتك الفاسقة، وبيدييك اللتين تلتذان بلم الحمم الفاجرة، كنت ترق، تتحول إلى غيمة من الندى النشوان تتساقط على النار فتكون برداً وسلاماً، حينها أغفو بين ذراعيك، وحين تناديني أفتح عينين كالأقحوان وأغمغم :

-نعم .....

ثم أمط شفتي .... أهمس:

- لماذا لا تتركني أنام في قلبك ... ؟

- وهذا السرير المذهب، والعرائش، والأكاليل المزهرة من ينام فيها؟

النوم في القلب جميل، لكن الالذ منه حين يتوسد رأسك ذراعي هذه التي بإشارة من إصبع فيها تمحى مملكة، وبإشارة أخرى يأتيني الخراج من آخر الدنيا.

ومثل كل المرات السابقة ألبي نداء الجسد، حين يشتد صهيله الأزلي.

- ما دمت لا تفكر بقاع البئر، فاليك البركان .

وأتطاير حمماً بين يديك، أجدني أسبح بين فراشات وفل وأسماك كحورية تمضي وهي تنثر من حولها الثمار المحرمة والخطايا والضلالات لتغوي وتفتن وتزهر بأكاليل زهرك وتنتهي في نهاية المطاف إلى مينائك الوحيد، متعبة مرهقة، تغفو.

وحين أصحو، أجدك يا هارون الضال تصب لي الشاي بيديك العاريتين إلا من رائحة الغالية، وتجمر لي نفس الاركيلة، وتبعد الستائر الوردية عن خديَّ، وتجري في تلك الدماء المختلطة من تركية وكردية وفارسية، فتنثر وردها على الوجنات، فأمرر أصابعي أبحث في آثارك التي خلفتها على أطلس جسدي، هذه الآثار التي لا يمكن أن تندثر.

وبعد مرور قرون طويلة، هأنذا اليوم يا هارون الضال أبحث عنك، أزور باب بغداد فلا أجدك،أدور حول سور المدينة فلا أجدك  وأقف أمام قصر البنات، بناتك، فلا أجد غرفة آوي إليها لأنتظر قوافلك القادمة، تزلزل الدنيا، وتزرع الهيبة والخوف في قلوب الجبارين.

- أتراني  ما زلت في قلبك مختبئة، أم أنا في عينيك أسبح وألم النجوم والأقمار...؟

كلماتك لا زالت تقرع أذني:

- من أي صلصال صاغك الله يا قاع البئر..؟

فأرد ضاحكة :

- من ياقوت وزنجبيل والقليل القليل من الفلفل الأحمر.

- حين أرتحل إلى مدينتي العاصمة ألا تشتاقين..؟

- سأشتاق ولكن ...

- ولكن ماذا...؟

-أنت قاس ورقيق كالماسة تخيفني قسوتك وأحن إلى رقتك الماسية، أنت تنثر العطر بيد وبأخرى تطيح بالرؤوس، هكذا أنت يا رشيدي.

- وهكذا كل الملوك .

- كنت أريدك حبيباً .

- وأنا حبيب قلبك .

- والملك فيك .

- يموت ليلاً  ويصحو نهاراً.

إذاً أنا جاريتك  نهاراً ومولاتك ليلاً.

في الليلة الأولى والثانية، رفضت أن أراك عن قرب أو أن تراني، فلقد كنت قادمة من براري الثلج، محمولة في هوادج النخاسين، متعبة مثل قطاة عطشى، أحن للنوم، والاسترخاء، والظلال التي تفتح كل مسام جسدي  ونوافذه لاستقبل الماء الممزوج بالعطر وهو يغسل جسدي من الغبار والتعب وعرق الأيام، وبعد الحمام كنت أجلس في  آخر الصالة، أراقب العمائم والرؤوس والأصابع المثقلة بالخواتم تتحرك، تتحرك بلا صوت أو حس كأنها تسير في الهواء.

هادئة ورقيقة كنت، ومجنونة كقطة محاصرة إذا ما أوقظني أحدهم من النوم، ولم أكن أدري أنك تقرأ العيون والأصابع والأرجل، وتعرف أسرار الصدور ومدارات الشهوات، لم أكن أدري أنني أمام عاشق مولع بأمثالي من مختلطات الدماء.

- ماذا يريد مني هذا الجلف المغرور..؟

كنت أردد أمام الجواري والخدم . فتتسع العيون من الدهشة والغربة ويتصامم بعضهم . وأنا على يقين من أن بعضهم الآخر قد أوصل إلى مسامعك ما قلته .

ويوم قلت :

- ماذا يريد مني قاتل البرامكة ...؟

أصفرت الوجوه غاض منها الدم، وكنت على يقين بأنك ستكون مشتاقي  وستأتي إلي لأن ياء الملكية هذه ساحرة، تخلب لب الملوك ..، وجئت إلي بالتأكيد قلت لنفسك:

- أي نار قادرة هذه النحيلة الشاحبة على اشعالها في عروقي...؟

وتقدمت بجلال وهيبة، كانت الغرفة تغرق في عتمة لم تستطع أضواء الشموع الشاحبة أن تبددها :

- مولاي .

ومثل مهرة نهضت فأشرت بيد مثقلة بالخواتم والبريق، يد تعلمت أن تأمر فتطاع :

- أجلسي

وتصلبت توتر جسدي وأحسست برغبة حارة في أن أفر، ان اهرب من النافذة .وتقدمت وأنا خائفة، أرتعش، وجلست إلى جانبي، ونظرت طويلا، تفحصت أصابعي، وشعري، ثم رفعت رأسي بإصبعك المثقلة بالذهب والنار ونظرت في عيني:

- لك عينا جنية ورأس أميرة .

قلت بصوت أجش، بارد  النبرات، خال من أي تغبير ثم أردفت وأنت تعتصر شفتي السفلى بين السبابة والإبهام حتى أدميتها، ولم أتأوه فتابعت:

- لك شفتان نهمتان .

قمت من مكانك مخلفا ورائك عاصفة من العطر والخوف والجلال وعند الباب توقفت قليلاً وقلت :

- احتفظي بلسانك لي فأنا أحب الألسنة السليطة .

ثم أختفيت بين دهاليز القصر وممراته.

***

وتركتني أياماً، أفردت لي خلالها جناحاً خاصاً يا هارون .

حملت إليه السجاد والورود والأرانب والسلاحف والقنافذ والسرطانات، والأسماك الذهبية، والثلج، نعم الثلج لأذكر تلك البلاد الباردة البعيدة التي جئت منها حيث الايائل وأشجار البتولا ذات الأوراق البرية التي تقف في وجه العواصف والصقيع والأنهار المجمدة، وخيام الادم، والدماء الغائرة دائماً. وفي الليل أسمع صوت خطواتك ثقيلاً في الممرات حين تسبقك رائحة عطرك المميز، فأترنم بصوتي المبحوح، أرتل أغنية عشق، أنصبها فخاً لك، أغنية تلتف أنغامها حولك كشال من كشمير، فتشل إرادتك، تثير كل أشواقك الحبيسة للصيد، للطرائد، ويستيقظ فيك الرجل، تصهل أفراسك الجميلة فتنقاد إليها، وتقتحم الغرفة، تذهلني نظراتك . يذهلني البريق المتقد فيها فانهض أمامك . أقف بانتظار ما يبدر منك

***

.. وهانذا الان بعد قرون أتجول في المدينة التي شهدت لقاءنا الأول، أمر بباب بغداد الذي لم تعد إليه القوافل، ولم تعد تعبره الجيوش والاعلام والقادة، أمر بالجامع القديم والسور وأطلال قصرك الذي نهبه لصوص الآثار وآوى إليه قطاع الطرق، زمناً، أمر فلا أسمع صوتك آمراً، ولا أشم رائحة أردانك المثقلة بعطر الغالية، ولا أرى بسمتك الفاتنة يا هارون الضال كيف انقلبت الأيام ...؟

- هل أنت مجنونة...؟

صاح بي الدليل السياحي حين سألته ...

- أين يمكن أن أجد هارون الرشيد...؟

ثم تابع:

- هارون الرشيد مات منذ قرون ...؟

- كيف مات...؟

- مات كما يموت سائر خلق الله .

- لاأصدق، إنني أسمع صوته، أشم رائحة أردانه، وضحكاته، وهاهو رقم هاتفه عندي.

- اطلبيه إذا

وقمت من مكاني، توجهت إلى عامل الفندق، طلبت الرقم فجائني صوت امرأة  نصف نائم ونصف مخمور، قلت بخشية :

- بيت هارون الرشيد.

- نعم ... قلت بيت من ...؟

هارون الرشيد.

- لا هذا بيت جعفر البرمكي . هل من خدمة أقدمها لك..؟

- وماذا تستطعين أن تقدمي لي..؟

- كل ما تشتهيه نفسك ... تريدينه شابا أم كهلا . أم تريدين صبية مثلك ...؟

ألقيت بالسماعة وقد أقشعر بدني، وأتسعت عيناي دهشة بينما الدليل السياحي يبتسم .

بعد لقائنا رحلت يا هارون الرشيد، انتهى الصيف.

ومدينتي لا تأتيها أنت وحاشيتك إلا في الصيف، توجهت إلى بغداد ودخلت مدينتي سباتها الشتوي، بينما دخلت أنا سباتي الروحي، أغلقت فم البئر على مياهه الباردة وجلست في جناحي أمشط شعري، وأراقب أصابع قدمي ويدي، وأتحسس آثارك على أطلس اللحم، ومن حولي عصافيري وسلاحفي وكائناتي الأخرى حتى كانت ليلة من ليالي الانتظار الطويل.

كنت خارجة فيها من الحمام، يفوح مني العطر يختلط بالشهوة والشوق والخوف من الأيام التي لا ترحم، فجأة أقتحمت غرفتي كما في المرة الأولى تصهل أفراسك الجميلة، ويداك عاريتان من كل حلية، صحت من الفرح :

- ها قد عدت يا هارون الرشيد...؟

- عدت يا قاع البئر ولا أدري أي سر يشدني إليك...؟

فعريت جذعي وأشرت إلى وشم رسمته إبرة بالشذر الأزرق يعتلي حلمة الثدي الايسر، فكلما ولدت أنثى في قبيلتنا، تحضر امرأة متخصصة بالوشم فترسم على حلمة الصدر اليسرى فوهة بئر لها قاع من ماء.

أزرق وبارد بلون السماء، كل من يشرب من مياههه لابد أن تعود إليه ثانية .

- هانذا أعود يا قاع البئر لا شرب من مياهك وأشرب .. وأشرب .. وأشرب ... وأشرب...

حتى العطش..

ونعود ثانية، السرير ذو القوائم الذهبية، والستائر الوردية وأعود لاغفو مرة أخرى بين ذراعيك خامدة، مهزومة مطفأة البروق وتمسك بكفي مثل عراف يا هارون الرشيد تنظر فيه طويلا، وتشير إلى خطوطه، هذا خط العمر، وهذا خط السعادة، وهذا خط الحب، ثم تضغط أصابعي حتى يكاد الدم ينفجر من أطرافها، و وتهمس :

- أنت من برج السرطان وعيناك أشبه بعيون السرطان يا قاع البئر .

- وأنت أشبه بحصان أرهقة الركض.

- ماذا تقولين ....؟

- لقد تركت بغداد وفيها الطامعون بعرشك ألا تخاف...؟

- أنت تكفينني.

- كيف جئت إذاً ...؟

تنكرت بزي تاجر خمور .وخرجت في الصباح الباكر بعد أن فززت واقفا من حلمٍ رأيته ليلاً

- وماذا كان حلمك..؟

- حلمت يا قاع البئر كأنني في الحرم أرتضع من أخلاف ضبية فاستدعيت الكرماني على الفور ليفسر لي هذا الحلم فكان تأويله .

يا أمير المؤمنين إرضاع بعد الفطام حبس في السجن  ومثلك لا يحبس لكنك منحبس بحب جارية لك بعيدة هي عنك الآن .

- فكان تأويله للحلم صحيحاً يا قاع البئر لذا أعتليت فرسي وأتيتك . وضحكت . خرجت الضحكة مبحوحة خافتة كنداء المجهول الذي يبشر بعاصفة وريح ماطرة، وفي الصباح لم أجدك إلى جانبي يا هارون الرشيد فالخوف ناداك حتى لا تفقد بغداد الأخرى .

ومنذ ذلك التاريخ تنقلت من مدينة إلى مدينة، ومن قصر إلى قصر، مرت مئات الأعوام وأنت معي يا هارون الرشيد، أنام معك، أحلم بين ذراعيك، وحين تثور براكيني أبحث عن أصابعك الخالية من الخواتم لتلملم حممي، وتهطل ثلجاً على تضاريسي، فأهمد، ثم استسلم للنوم.

* * *

حين وصلنا طللاًمن أطلالك البائدة .

وقف الدليل السياحي وأشار إليه:

- ما ترونه أمامكم هو قصر ( هرقله ) بناه هارون الرشيد لجارية من جواريه، قيل جاء بها نخاس من أرض الروم، قيل من مملكة الخزر، وقيل من أرض فارس، وقيل انه سباها في أحدى غزواته الظافرة، وقد تحول القصر كما ترون إلى أطلال، ومع ذلك يقسم الرعاة والاهلون أنهم يرون رجلاً يخرج في ليالي الصيف باحثاً عن امرأة يناديها بأعذب الألفاظ، رجلاً له سمة الملوك، وعظمة الخلفاء، ربما يكون هارون الرشيد.

قال : ثم التفت إلي يبتسم، وشعرت بأبواب القصر تفتح لي، فتهب رائحة الغالية والأبهة من جنباته، فأدخل كالمسحورة، حيث أراه يقف ماداً ذراعيه، والى جانبه السماور تفوح منه رائحة البخار، فأسرع إليه، أدفن رأسي بين ذراعيه وأجهش باكية بينما تتلمس أصابعه العارية، موضع الوشم السري في صدري، ويهمس:

- أين كنت ياقاع البئر كل هذه المدة ...؟ أين؟....أين ؟

فلا أجيب، تموت الكلمات على شفتي.

***

هذه مدينة لم تتبدل ....

الهلوك في امتداده .........

والحكماء النائمون والجبناء...

النساء الخائنات مع الخائنين ....

الحجر الأسود والنهر...

 

 

اللعب بالدم

 

منذ الفجر الأول بعد الليل الأول

دائماً كان هناك فجر يشرق، تكون قبله ليلة اسمها " البارحة"

تمتلكها ذاكرة سرية لا تعطي أسرارها إلا لمن يملك مفاتيحها، هذه المفاتيح المعقدة، لذا فكل ليلة قبل الفجر أعيش مع البارحة، فأذكر كل تلك السنوات التي نسميها عمراً أو حياة ندعي أننا عشناها . أذكر كل تلك البارحات فكأنما أوقظها من رقدتها لنشرب فنجاناً من القهوة في حديقة المنزل أو نسمع دور سيد درويش " أنا هويت وانتهيت " ثم نقيم معاده يرتفع فيها العويل إلى عنان السماء.

- أيتها المرأة لا توقظي الجرح.

قال القلب

- أيها القلب من أين جاءتك الحكمة ؟..

قال الجرح .

-أيتها المرأة كوني لا ئقة بي على الدوام .

قال العشق

وانطلق سرب من الحساسين في سهوب الذاكرة، يبحث عن أعشاش وبيوض دافئة دفء الدم الظامئ أبدا للملح .

ومثل عراف بارع استحضر عيونك، أحدق في سوادهما الماثل أمامي براقاً وعميقاً وكتيماً ورجراجا مثل القهوة ثم أبدأ بتلاوة اعترافاتي وقد بدت الغرفة البيضاء، والملاءات النظيفة وصورة الطفل العاري أمامي مكاناً مثالياً لذلك الطقس، فتركت نفسي على سجيتها تتدفق ساقية من ماء يندفع نحو الجذور، وينسرب فيها فتدب خضرة الحياة في الساق والأوراق واليباس.

***

- أيتها المرأة هذا العشق ملعون لايغسله غير الدم .

- قالت العادات .

- هذه العادات لا ينفع فيها شيء لأن العفن يأكلها .

قال الدم . واندفعت الذكريات في البال حمى من الوجد والنار الكاوية والنشيج، فاستعدت وجه أمي وقد ملأت الدموع عينيها الصغيرتين بعد صلاة طويلة تهجدت ودعت خلالها طالبة من الله أن يحد من طيشي وجنوني لأنها أدركت أنني ألعب بدمي، ولا آبه بألم واستمع لنصيحة فهاهم يعودون من المشفى بعد أن استخرجوا شظية زجاجية مزقت باطن قدمي وانغرزت فيه .

- لقد نزفت حتى كادت تموت.

قال أخي ... ثم تابع :

- لم يبقَ فيها دم سيقتلها فقر الدم.

ويوم جمعت زهرة الثلج، نفضت عنها ثلجها، واحتفظت ببياض الزهرة إلى جانب الزل ووردة القندريس، ضحكت أمي من عبثي الطفولي وعلقت وما عرفت أن اللعب بالدم أوله زهرة الثلج البيضاء.

***

ومثل زهرة الثلج البيضاء

كان كل ماحولي أبيض، الغرفة والجدران والوجوه ولباس الممرضات والأطباء، وأنا في غيبوبة بيضاء، بينما الدم في شراييني يتحرك يسري بصهيل صاخب، أحسه مثل نهر، وتعاودني الأطياف، تعاودني أمي وهي تلم شتائمها وتحوقل أمام عنادي وتصميمي على أن نأكل " حلوا" في تلك الليلة .

- لمَ الليلة تحديدا..؟

سألني رفيق أخي .. فأجبته :

- لأن الليلة عيد ميلادي .

كنت يومها في العاشرة من عمري فضجوا بالضحك جميعاً . ولم أطالب بالكثير فأنا اعرف فقرنا ..... لم أطالب بشموع أو قوالب  كاتو، كل ما أردته شيئاً حلوا، لقم القاضي أو مشبكا( ) وقادتني أمي من يدي، كانت الشوارع شبه خالية فقريتنا الكبيرة تنام باكراً . وكنت أرى أعمدة الكهرباء وكأن مصابيحها شموع تضيء لي، وأمام بائع الحلوى البدين وقفت وصحت أنا:

- اليوم عيد ميلادي ياعم، فتوصى بالمشبك .

- تكرم عيونك.

قال الرجل ضاحكاً، وتمنى  لي عمراً طويلاً، بينما تمنيت حديقة من زهر الثلج الابيض الجاف والقندريس البري والزل وطيور البط والدراج والكراكي مما أراه أحياناً على ضفاف الفرات. ويوم كبرت عرفت الوجد الحقيقي لقريتي الكبيرة

عرفت شيئاً شرسا يمتد بأذرعه الألف اسمه العادات والتقاليد فيه ما يجوز وما لا يجوز، عرفت تنينا اسمه العشيرة رهن الجميع عنده  دمهم فلا مهرب لهم منه.

وفهمت معنى الدموع في عيون العذارى ليلة زفافهن لانهن تزوجن كما يريدون لا كما يردن، فهمت لماذا تلبس معظم النسوة السواد وعيونهن ترتجف وتدمع أمام المقابر في الأعياد.

ولم أعد أضحك كثيراً بعد ذلك .

* * *

ويوم تفتح جسدي عن دم وثمار محرمة وطيبات . فاجأتني كثرة العيون النهمة من أبناء العمومة، كانت تنظر إلي وكأنها تراني لأول مرة، ولم أهتم، بدأت الابتسامات والإشارات السرية والرغبات تحاصرني، ولم أهتم، كان قدراً غامضاً صهيل جسدي إلى عالم آخر، وكانت أمي تردد:

- متى أزوجها وأرتاح..؟

ثم تلوي عنقها كما تلوي بجعة عنقها في بركة ثم تروح في دعاء طويل وتوسل خاشع لا ينتهي.

***

ويوم ظهرت لم أفاجأ بك .

كنت أعرف من قبل وكأنني عشت معك في عصر سابق، فأنا أحفظ لون عينيك، وشكل وجهك  وخطوط كفك، وطول قامتك، كنت بانتظارك كما تنتظر شجرة غريبة عطشى غيمة ماطرة ،ومنذ اللحظة الأولى كنت أعلم أن حبنا مستحيل، فأنت غريب، العشيرة تنين يكره الغرباء  ويرتهن دم أبنائه وبناته ولا مفر لهم منه.

- حبنا مستحيل .

صحت بي، فأجبتك:

- أنت خائف..؟

- خائف عليك لأنني أضن بعنقك هذا على الذبح .

أمسكت بأصابعك الخمسة بين أصابعي وأقسمت كما تقسم أمي أمام نسوة الحي أحياناً : بحق هذه العشيرة وعشرة رسول الله لن أكون لغيرك.

كان قسماً مجنوناً، وكنت أعلم أنني ألعب بدمي، ومضينا، تركنا القرية الكبيرة والناس والنهر، وكنت لي الأهل والوطن والحضن الدافئ، ولأن العالم يصبح صغيراً أصغر من راحة الطفل للخائفين انطلق أبناء العمومة والأخوة ككلاب الدم خلفي، يحملون خناجرهم ومسدساتهم واحقادهم ولعنات العجائز .

- لا توقظي هذا الجرح المتخثر دمه على فم المرأة

قال القلب

- تظلين لائقة بي يا امرأة عنيدة .. قوية ..

قال العشق

- لمن يتم تسليم جثة الصبية للزوج .. أم للأهل ... أم للمدافن ..؟

قال الطبيب.

ومن ورائه أطل وجه أمي دامع العينين يدعو الله أن يغفر لي لعبي بالدم، وأطل وجهك حزيناً بين يديك باقة من الزهر الأبيض تطل أمامي.

وركض دمي في الشرايين كصبية تلعب .لأول مرة منذ ولدت أتذوق طعم دمي، وأشم رائحة الحياة كما أشم عبق تلك اليدين وقد اختلط فيهما رائحة العرق والدم برائحة الزهر الأبيض من يد جنيني الذي لم يكمل الشهرين بقلبي.

 

 

انفعالات

 

رجل وامرأة

 

في البدء كان رجل وامرأة، عاشا معاً، ناما معاً، ضحكا معاً، وتشاجرا معا، كان آدمها، وكانت حواءه ،ولأن الحياه لا تكتمل بلا خطيئة، أغوته، فلعنه الرب وطرده من ملكوته، ومع ذلك ظلا رجلاً وامرأة، تعدله في الصباح قهوته  وتحمل  له كتبه  وغليونه وأقلامه ليكتب سيرتها مرة اخرى ....

- فمن منهما يغوي الآخر؟.

 

محاولة اغتصاب

 

كان مساءاً ناعماً، أحسته يتغلغل في خلاياها، فتشربه بلذة وأدمان كنبيذ غامض له نكهة حريفة وأليفة، كانت لحظة مفاجئة اندست في صدرها الدافئ كقطاة تائهة . وكانت بحاجة إلى رجل تحدثه عن أشياء حميمة وهو يحدق في عينيها باسما .

رجل لا يفهمها خطأ . فهي حالمة، شاردة، مبهورة تجد كل ذرة في جسدها مقدسة، ولأن الحفلة كانت رائعة خرجت متألقة فاقترب منها قائلاً:

- تفضلي آنسة أوصلك فالسماء غائمة .

فتح لها باب السيارة ركبت وركب، كان صامتا يقود السيارة في الشارع ولا يهتم بشيء

- أتمانعين في جولة صغيرة تحت المطر.

- لا

أخرج علبة الدخان، ناولها لفافة ،ودس في فمه أخرى، أشعلا اللفافتين معاً وبدأ مطر خفيف يتساقط ليدق زجاج السيارة كمناقير أفراح طرية .

- هذه الطبيعة مجنونة

-أنها ترتعش مثل امرأة في المخاض، تعوي تمزق ما حولها وتتمزق من الداخل لتلد البذرة الخالدة .

- هذا شعر .

- هذه حقيقة .

- لكن المزارعين لا يوافقونك على هذا الكلام .

- لا علاقة للشعر بالزراعة .

وسكت وهو يحس بالاحباط، وبغريزتها التي لا تخون أحست رائحة ما تفوح من الوجه الذي اشتعل مع جمرة اللفافة فعاودت هجومها مرة أخرى بلذة سادية وقد فارقتها تلك المسحة الشاعرية :

- تتحدث في الزراعة مع أنك تعمل في مجال الثقافة .

- الثقافة مثل الزراعة كلاهما دائرة حكومية .

- والمجال ؟.

- واحد . هذه توزع بذورا وهذه توزع كتبا .

- ألا ترى أن هذه النظرة جائرة ؟.

- ولم ؟.

قال بتساؤل عابث ثم مد يده يتلمس الطريق إلى يدها، دفعته برفق ثم تابعت بصوت تعمدت أن يكون عادياً.

- الجو رائع

- بالتأكيد فهو  يساعد على خلوة في إحدى المزارع . مارأيك ؟.

- لارغبة لدي.

- ولكن .

- آسفة .

أوقف السيارة فجأة، ووقفا متقابلين رجلا وامرأة، مد يده لتناول يدها فسحبتها بقوة ... ثم وجهت صفعة قوية إلى وجهه وفتحت الباب وانسلت إلى الخارج.

-ركضت وركضت .. وركضت وحين شعرت بالتعب، ركعت تحت المطر فتدلى شعرها إلى الأرض ولم تتوقف عن النشيج واللذة العارمة حين بدأ المطر يغسل جسدها ويطهره، ويذوب في حرارته المشتعلة وقد عاد إليها الصفاء من جديد كعشتار خرجت من مخاض.

 

رسائل

 

كتب لها رسائل كثيرة، اعلن فيها حبه وإخلاصه وزينها بأشكال عديدة كتمائم غامضة، وقلوب وخناجر وعيون واسعة وخرز أزرق.

كتبت له رسائل كثيرة عطرتها بالليمون والنارنج وملأتها بأوراق الورد الجوري والأقحوان والنرجس... ولم تقل له أكثر من أنها عاجزة عن اللحاق بعنفوانه وجبروته.

وذات يوم  انقطعت رسائله، هكذا مثل سيل غير مجراه، ولم تتوقف عن كتابة الرسائل التي تملأها فلاً وياسمياً رغم أنها كانت تعاد إليها لعدم معرفة عنوان المرسل إليه الجديد.

صناعة

 

النبيذ الجيد من العنب، والخل من العنب، لا فرق سوى طريقة الصنع .

 

خيانة

- من يخون الآخر، الكلمات أم الكاتب ؟.

- الكاتب إذا انحاز إلى امرأة  يحبها .

امرأة وحيدة:

 

صباحا حين تستيقظ . تركض نحو المغسلة، تغسل وجهها بالماء فترتعش وتمضي إلى المطبخ، لتعد  قهوتها الصباحية، ثم تجلس في الشرفة، كل شيء هادئ، شجر المنتزه المجاور، ويمامة، والجسر البعيد، وجبل البشري، والساعون إلى الجامع أو الفرن القريب، وبعد ذلك تستعد للذهاب إلى مدرستها  بعد السيجارة الثالثة وفنجان القهوة الثالث، ومهما تجمع في صدرها من أحزان الليلة السابقة، ترسم ابتسامة على شفتيها حتى لا يهرب منها تلاميذها الصغار في المدرسة .

 

 

العشاق 

رن جرس الهاتف طويلا "

 وكانت تقف أمام النافذة، ترصد أشجار السرو والكينا والتوت في الحديقة المجاورة، تبحث عن اليمامات المتشاقية بلهفة عاشقة تنتظر حبيباً هاجراً.

- نعم .

- قالت بصوت الواثقة وهي ترفع السماعة وتلمس حلية ذهبية استراحت على صدرها المرمرى  كرقم طيني عن أميرة سومرية ساحرة، ماتت شابة ولم تخلف وراءها سوى عقد من اليشم وقارورة من العطر ونقطة من الغالية .

- سمر ؟

داهمها شعور مهرة أصيلة ترفع عنقا " أملودا " نحو المراعي الخضراء وتدق بحافرها صدر الأرض ليتناثر الورد والنرجس البري والأقحوان . أجابت :

- لا .

ساد سكون جنائزي رافقتها ضربات قلب تسارعت في صدرين وغرد الكناري في القفص الذي  يحتويه أمامها،  رف بجناحيه، وعلت أغرودته، وغازلها بعينين من خرز ملون وشفاف.

- أختها ؟

جاء الصوت مخنوقاً " غائماً " مثل سحابة شتوية تعرف أين تسقط دموعها لتعشب البرارى وتشبع الغزلان والقطعان ويأنس القطا :

- لا لست أختها .

- ولكن ليس لها غير أخت واحدة .

- هذا صحيح ... فلا تكن .....

 - يالله لا تكملي ... أنت هي .

- لا .

- إذن من أنت ؟

- أنا عشتار.

- أمنحيني عطياياك إذن .

- أنت مطرود من جنتي .

- ولكنني وحدي أعرف أسرارها .

- أكيد أحدنا مجنون .

- - أكيد .

- إذن .

- نلتقي؟

- نلتقي.

والتقينا لم يبق شارع في المدينة الا والقيا عليه التحية مساء وصباحاً. ولم تبق شجرة دفلى أو جوز إلا وتركا على جذعها أثار أظافرهما، هكذا مثل نقوش بدائية عن وجوه وعيون وأشارات وغزلان شاردة في مراعي الجزيرة الفراتية.

وضحك وضحكت .

وقال وقالت.

سهر وسهرت .

وبكى طويلاً ولم تبكِ، ظللّتْ تستمع لأنينه وتلم دموعه في راحتيها ثم تنثرها في كألاهة الينبوع، وحين انهار على صدرها مثل غصن مثقل بالثمر تناثر الدراق الناضج في كل مكان.

ومع كل ذلك كانت أياماً سعيدة لكنها مسروقة، لا تحس بها سوى الأرصفة والساحات الخالية من البشر والعابرين إلى جهات أخرى، وضفاف النهر الذي خانه الوقت فأضحى مجرى صغيراً فقد هيبته في مواسم الفيضان الموسمي.

- آه  يا سموره، وسومر، وأسمار

قال وهو يتفقد أصابعها، وعروقها، فردت بإباء:

- لا تلعب لعبة اللغة

- أنت فراشة النور

- قلت ...

- وسهوب الروح الجائعة .

- قلت لك ....

- لاتقولي  شيئاً أرجوك.

- إذن سأغني .

- غناؤك بكاء وبكائي غناء.

- أريد أن أكون ...

- كوني أورنينا.

- لا أريد أن أكون سلطانة النهر، أطوف لك من أصابعي العشرة شموعاً في الليل ليرضى عني الخضر أبو العباس.

- أنت امرأة استثنائية

- كل آلهات الجزيرة كن مجنونات بالنهر والناس والشجر والطرائد والفهود ومستعمرات النمل  وبنات آوى .

- سمر .

- قلت لك لا تسم الأشياء بأسمائها .

- ولم ؟

لكي لا تفضح الأسرار.

- ماذا أقول إذاً ؟

- قل يمامة .

- لا أقدر .

من أذاع السر فدمه مباح.

- أقول .

- قل ولا تقل .

- لاتتركيني للحيرة .

- لاتتركني للأمل .

- تعددت الأسماء  والمسمى واحد .

- أنت قاسية .

- آلهة حجرية .

- لك قلب.

- من ذهب .

أنت باهرة .

وأنت طفل مدلل.، - كنت أريدك العاشق.

- .............

- قل شيئاً.

-...............

- قل

- هكذا يكون العشق .

- كنت أريدك العاشق .

- ...............

- وأدرات ظهرها، سارت مثل سارية في الريح، مثل شجرة سرو رمحية، ترفض أن تحني ذؤابتها أمام العاصفة، ووقف وحيداً في الشارع ينتظر شيئاً أومعجزة يمكن أن تحدث.

وفي مكان ما  غرد الكناري وغامت بعينيها  دموع الكبرياء دون أن تعلن عن ذلك....

 

 

طقوس امرأة

 

صباحاً  استيقظت على صوت عصفوري الرائع ...

هذا الأمير الصغير المغرور، بمعطفه الملون . وحركاته  الرعناء وأجنحته الصغيرة القزحية، رمشت بأهدابي فتداخلت الصور، وظل صوت الكناري يملأ كل ما حولي، ثم تمطيت وأنا أرفع رأسي  وجذعي عالياً أريد أن أطير مثل فراشة باتجاه الضوء والفرات، كي أترك فرصة للنوم، يتسلل من مسامي وأعصابي  كلص فاجأه نور الصباح فأسرع بالهرب خوف افتضاح أمره.

- صباح الخير يا سفير العصافير

صحت بالعصفور، فتحرك داخل القفص بصخب، وكأنه يرد على تحيتي الصباحية  بحركاته الاعتباطية تلك، دون أن يكف عن تغريده، أو ينتظر يقظتي الكاملة .

- صباح الخير يا أشجار السرو والحور والكينا .

صحت  بالأشجار التي تطل بقاماتها السامقة من نافذة غرفتي في الطابق الثاني حيث يمتد أمامي منظر المنتزه الذي كان يوماً مقبرة موحشة فحولته البلدية إلى وضعه الحالي.

- صباح الخير أيها الموتى الذين رحلوا وظلت رائحتهم تسكن التراب والشجر .

صحت من مكاني وأنا أحاول أن أركز ما تبعثر مني والملم أجزائي المتباعدة بعد موتنا الليلي الذي نسميه النوم .

- صباح الخير يا وجهي العاري الحزين .

همست لنفسي، ثم مددت  رجلي  الحافية اتلمس بأصابعي وبر البساط الصوفي فأغرق في متعة تتسرب عبر أصابعي إلى مفرق رأسي، متعة عاشقة لا يدرك لغة عشقها غير الأصابع.

أصابع امرأة صغيرة ومحاصرة بالحزن والفراغ والخيبة في قرية كبيرة، تستريح على خاصرة الفرات في الجزيرة .

هذا الفرات الذي كان يقول عنه أبي بحزن وعشق :

- الفرات ...؟

يهز رأسه ريثما يرشف من قهوته .. ثم يتابع :

- كان حياتنا ووجعنا، يعطينا الحياة والمواسم بيد، ويسرق أطفالنا وأفراحنا باليد الاخرى، .. كان جبارا وطاغية .

وتقول أمي:

- هذا النهر مثل الرجال، خائن وغدار.

ومع هذا كنت أجد هذا النهر قريباً من قلبي، فهو الوحيد القادر على فك  أسرار جسدي حين أرميه عاريا في أحضانه، فيدس أصابعه الطرية المرحة  في كل جزء منه، وكأنه عاشق  مفتون، لا سفاح  مشهور.

- كلانا مهزوم يا فرات . أنت هزمتك الشيخوخة  والسدود وأنا هزمتني سنوات الحزن والخيبة .

قلت ثم تحركت، وقفت وسط الغرفة، كان كل شيء هادئاً،

فواجهتني بقايا طعام العشاء التي تركناها، والصحون التي لم تغسل بعد، فمددت يدي إلى ( ركوة ) القهوة، غسلتها ثم ملاتها وانصرفت إلى طقسي الجديد، أعداد القهوة  أشعلت نار الغاز فشعت بزرقتها الصافية، وتركت الركوة فوقها ريثما أعددت الصينية  وفنجانين نظيفين وفارغين . ترتفع قامة كل منهما في الصينية بترفع وكأنهما جنرالان  يتفاوضان في ساحة خالية في غبش الفجر ومع أنتهائي من أعداد كل شيء حملت الركوة بيد وباليد الأخرى الصينية، ثم توجهت إلى الشرفة . وضعت حلمي بعد أن تركت فرصة للقهوة، لتصفو خلال  دقائق . غسلت وجهي، ورتبت شعري على عجل حتى لا أفسد خلوتي مع عزيزتي القهوة، وسرقت من حقيبتي علبة الدخان والقداحة وعدت إلى الشرفة. كانت منازل الحارة تمتد أمامي.

حين تحركت يدي ترفع الركوة، وتدلق القهوة الحارة في الفنجان الأول، فالثاني، فمن عادتي أن أسكب في فنجانين، واحد لي والآخر أزعمه لرجل يشاركني قهوة الصباح .

- تفضل يا عزيزي

قلت وأنا أضع الفنجان الأول جانباً، ثم تناولت فنجاني أرشف منه بلذة ومتعة ودخان  لفافتي يتصاعد في حلقات زرقاء يشكل تاجا حول رأسي.

- ما رأيك بقليل من القهوة  يا أميري المغرور.

خاطبت عصفوري ضاحكة . ثم سكبت قليلاً منها في أصيص صبارتي الشوكية وأنا أشعر بخدر ممتع

بعد الفنجان الأول، امتدت أصابعي تقطف زهرة حمراء وتزرعها في شعري بينما كانت القهوة الباردة في الفنجان الآخر تنتظر أصابع صاحبها الذي لن يحضر، ذاك الذي قال لي يوماً :

- لا يستسلم إلا اثنان، العاشق أو المغلوب، وأنا عاشق.

وتابعت ارتشاف قهوتي وقد بدأت الحركة تدب في البيت، طالعني وجه أمي، ثم أختي و...و...شعرت بالحصار فلبست قناعي المعتاد بعد أن أطفات لفا فتي وشربت آخر ما في قعر الفنجان حتى المرارة .

قال أخي:

- ما رأيك لو شاركتنا فطور اليوم ..؟

- شكراً . شربت القهوة

قالت أمي :

- هذه البنت مجنونة . قهوة  ودخان وكتب أكلها وشربها

ولم أعقب، انطلقت برشاقة فمدرستي بعيدة، وأنا احتاج إلى مدة طويلة للوصول إليها، فهي   تجاوز  النهر من الطرف الآخر، حيث الحياة لها طعم آخر أيضاً.

في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً تماماً انتهى الدوام اليومي، وقد اخترت في هذا اليوم أن أعود وحيدة منفردة أباري ضفة النهر لا لسبب واضح، وإنما رغبة نبعت في داخلي فجأة، رغبة عرشت مثل دوالي اللبلاب، ترتفع عالياً .

وقفت بمهابة أمام النهر، لأن عيني تنظران إلى ما تبقى منه، هذا العجوز الباقي الخالد يتدفق بعسر، كأنما يشكو من أمراض غير وافدة .

- يا فرات ...... يافرات ...

صحت مثل طير خائف يريد أن يحتمي بأي ساتر خوفا من بنادق الصيادين، ثم تابعت المسير والجوع بدأ يدق جدران معدتي الخاوية التي لا تعرف الطعام قبل الظهر.

تابعت مسيري بإصرار وعناد، رأيت أمامي سلحفاة  تختبيء في درعها، حملتها بين يدي ومضيت، ولم أفق إلا وماء النهر بدأ يبلل قدمي، ثم ساقي، فارتعشت ثم جمدت، رميت بالسلحفاة في الماء فغاصت، ثم أفردت ذراعي ورفعت عيني حدقت بزرقة السماء الصافية فهالني عمقها، فتصلبت مثل شجرة صفصاف عارية ووحيدة، بينما كانت رفوف العصافير تملا الفضاء بزقزقاتها.

 

 

الطوفان

 

 

كانت حواء عزلاء إلا من وحدتها

تجلس في الشرفة أنيقة فاتنة، كأنها عروس نقضت أسبوع عسلها وخرجت إلى الدنيا، رغم شحوب خفيف يظلل وجنتيها كانت تبدو متألقة وهي تحتسي الشاي  بفنجان من الصيني الأبيض  البراق الموشى بعروق ونباتات وطلاسم سحرية تقيها شرذاتها الملونة التي لا يمكن  لها أن توقفها  عند حد .

راقبت السجن المطل أمامها بأسواره العالية، وحجارته القرميد الحمراء، وحراسه  العابسين، المسلحين، وزواره القادمين من القرى البعيدة بوجوه سمراء عاشرها الجوع والحزن وتعب الأيام  الصعبة، فأدركت وقتها كم الحرية غالية وعزيزة فابتسمت هازئة من التفاصيل الأخرى التي لا تؤكد ما ذهبت إليه.

كانت تشرب الشاي بلذه ماتعه وعذوبة، تحمل الفنجان بأصابعها الناحلة عالياً، فيوسوس صوت حليها الفضية كشيطان في المكان فتزداد اقترابا  من لحظة صوفية، تتبرعم داخلها كوردة الخيار غضة وناعمة.

ثم تدنى فنجانها المطلسم من شفتيها، شفتين  رقيقتين كأوراق الجوري، مسكونتين بدم ونداء وخمرة  عتقتها ليالي الرغبة الحارة  والنداء الأزلي، تدني فنجانها وترشف ذلك السائل الحار والحلو وتتمطق  بعبث وشقاوة فيتحرك  فيها من جديد شعور  بالعزلة والتفرد  والاغتراب . كانت حواء في تلك اللحظة بانتظار شيء ما.

نسمة هواء أو مرور أقدام يبدد وقعها ما تحس به من عزلة واغتراب، ولتدلل  على لا مبالاتها، اندفعت تترنم بصوتها ذي البحة المجروحة التي ربما أورثتها إياها جدة بعيدة من جداتها عاشت في كربلاء أو النجف تندب كل عام ( الحسين ) في عاشوراء وتبكي ما تبقى من أهلها خوفاً من الحروب أو الفيضانات أو الثارات القديمة البائتة، وتردد كأنها تخاطب " الحسين ":

- اسلمتك المدن الخائبة، أم  خانتك القلوب الخائنه؟..

وكانت تدرك أنها تحمل في عروقها دماء مختلطة، فيها كل ارث شعوب الهلال الخصيب وبلاد مابين  النهرين  من مقيمين أو طارئين لذا اندفعت تترنم بأغنية للمطربة صديقة الملاية، التي ماتت تتسول في شيخوختها .

يا صياد السمك

صيدلي بنية

عجب أنت احظري

وأنا بدوية

وقبل أن تنتهي أغنيتها جاءها صوت مواء قطة، فقامت من مكانها واتجهت إلى حيث قفص  عصافيرها، فرأت القطة تمد مخالبها وتطلق مواءها الوحشي ،بينما لطأت العصافير في زاوية من زوايا القفص منكمشة خائفة فأبعدت القطة ووقفت تناغي مخلوقاتها الصغيرة بود غامر.

وعادت تجلس وحيدة غريبة مع فنجانها الصيني، وكيفما تحركت أصابعها الناحلة، تشعر أن هناك أحداً ما يعزف لها، كانت فضياتها توسوس، فتطلق  لعينيها المدى، كي تشرد في فضاء لا نهاية له، فيلوح لها جبل البشري بعيداً، عاريا إلا من صخوره، لا شجر ولا ماء سوى النهر الذي تحول إلى خيط ناحل وشحيح، بعد أن خنقته السدود، وسرقته  السواقي إلى الحماد، تشرد وهي تحلم أن تتحول إلى حورية ، نصفها سمكة، والنصف الآخر امرأة استثنائية يعبق  شعرها برائحة الأعماق من طمي وعشب وحصى وزعتر بري وسوس.

وتستعيد في البال مشاوير كثيرة قطعتها في هذه المدينة التي تحاصرها الآن بالسأم والمرارة، فمر  بها أسماء وجوه صديقات  فارقن وتوزعن في أرجاء المعمورة، أين هن ؟.. كم طفلاً بات لديهن ؟.. وهي الآن وحيدة، وعزلاء، وخائفة من الوقت، الوقت الذي يدب من حولها كجماعة من السلاحف النهرية المدرعة، يدب بطيئاً وقاسياً.

رفعت حواء فنجانها الصيني فلفت نظرها أنه فارغ، فأعادت ملأه من جديد رغم فتور حرارته وفكرت، ما معنى  النصيب ...؟

هذا الإرث القدري الشرقي الذي يحكم حياة الناس، ويتصرف بهم، إنها ترفضه ومع ذلك  يظل يلتصق بفكرها  كحراشف السمك.

- إنه الزمن الضيق

قالت لنفسها .. ثم أردفت :

- من آدم الضائع في بستان النعاس.

ورفعت حواء رأسها، فرأت ابن الجيران الذي تحبه، شاردا مثلها، ترى بماذا يفكر هذا الطفل؟... وما الذي ينتظره هو وأمثاله في المستقبل ؟... وترتسم أمامها كلمة " المستقبل" على شكل فك مفترس وساخر، فتتراجع عن التفكير فيها، تعود إلى التطلع من جديد في الموجودات من حولها.

كانت حواء تطل من شرفتها على هذا العالم العائم . وهي تحس  بالخواء، والحاجة إلى التجديد لطرد كل هذه التهويمات  الضالة، وحين سمعت أصوات أبواق السيارات الصاخبة، امتلأت بشعور جديد، فهاهي عروس تزف، وتذكرت أنها قد تكون عروساً في وقت ما، ورغم أنها عزفت منذ زمن طويل عن حضور الأعراس، فإنها حنت إلى الأضواء وبهجة الأعراس. قلبت أوراقها القديمة، كي تشعر بآدم معها، يشاركها الشاي والدخان ويضغط على أطراف أصابعها بقوة، وحين تروي له حكاية القطة والعصافير يضحك بصخب فيلفت نظر المارة في الشارع، وحين تحتج يرفع - وكعادته - أطراف أصابعها إلى فمه ويطبق عليها بقسوة  فتصرخ محتجة على وحشيته:

- يالك من متوحش ؟..

فلا يرد عليها، بل يتابع عبثه المجنون، ويمتلئ جسدها بكهرباء غامضة تهز كل نقطة فيه.

قلبت أوراقها فلفت نظرها ورقة صفراء حائلة اللون تقول كلماتها إن العشق ابتدأ بحواء، وإنها  كانت لآدم عصفورة الوقت  ونهارات الربيع، وزهرة النار والرمان، وجنة الملذات، الطافحة بالنبيذ والآهات وانها كانت الوردة التي وهبت أوراقها وأشواكها الخدر لانأمل آدم . فهل  كان  لا سمها فعل السحر  أم كان اسمها السحر كله؟

آيتها أنها كانت تسحر فينقلب السحر على روحها الرقيقة رقة زهر البيلسان، فبأي آلاء العشق تكذب، وبأي آلاء صوتها  تنكر؟...

صوتها الطافح بالخدر والمتعة، المعتق كنبيذ فردوسي، هذا المتقلب الناصع، الأليف، المألوف، الذي يخبل كل من يدعي الحكمة والرزانة والمهابة  وتسأل أين مضى آدم هذا؟... أين هو الآن ؟... وماذا يفعل؟...

لقد مضى مخلفا وراءه الكلمات والأسئلة، والأنفاس الحارة التي مازالت تحبسها وراء أذنيها، لقد كانت له النوة التي هبت عليه، فانتزعته، وجردته من كل فضائل التعقل، والاتزان، وطالما سألته:

- قبلك هذا هيمان أم خربان ؟...

فيعاود إصراره  الرجولي على أنها بدايته ومنتهاه، وهو مفتون بهذا العشق، وقد أحبته يومها أكثر من أي آدم آخر في الدنيا، أحبته بصدق وتصوف لأنه يفهم لغة كل عصفور في جسدها فيبدأ طقوسه العاشقة من مفرق الشعر، شحمة الأذن، الملتصقة بالوجه، فمنحدر العنق، نعم عشقته لأنه تملكها، تملك الأظافر ولون الشعر والعينين، وبنى صداقة قوية بينه وبين جزء من جذعها شامخ عنيد وقوي.

ولأول مرة تلاحظ حواء أن لحنجرتها قاعاً كقاع بئر عميقة حيث تخرج الضحكة صافية ومغسولة بعطر وفرح ونداء لآدم يشاركها العشاء الأخير، لآدم يمتلك أهدابها ، وروحها الهاربة، وأصابع قدميها ودمها السلبي النادر، الذي تحب اللعب به دائماً، لآدم يمتلك نبض قلبها.المتقلب مثل غجري مجنون، وهو قادر على عض لسانها لحظة تطلق عنانه للمعاندة والأقاويل السوقية فلا تخرج منه سوى غمغمات لا معنى لها.

انتهت الرسالة التي كانت ممهورة بقول أخير يؤكد على أن العشق يبدأ بها ولا ينتهي، فنهضت من شرفتها وقد شعرت وكأنها تدخل بستان النعاس أو جنة الخدر القادمة من عطر ونسمات، وتفقدت حواء ما حولها، كل شيء في مكانه، جبل البشري، والنهر النحيل وبناء السجن، والمسجد، والشارع  الخاوي، وفنجان الشاي المطلسم والفضيات، فأين مضى آدم ؟... لم تسمع صوت خطواته حتى الآن؟..

وغامت أمام عينيها المرئيات، رأت السماء تتفجر بالماء والأرض تفور بالماء، وكل ما حولها يتحول إلى ماء، فتعرت من ثيابها فرأت نصفها الأسفل سمكة ونصفها الأعلى حورية ساحرة يفوح من شعرها عطر العشب والطمي والزعتر البري والأسماك، فصعدت لتجلس فوق عرش من الماء بانتظار تحولات آدم 

 

 

سلطان النهر

 

حين رحل عنها، وقفت تودعه.

كانت تحس بالوحدة، والبرودة، والرغبة في البكاء . وفقدان الترابط مع كل ما يحيط بها . تعلقت به فتناول أصابعها  الرشيقة الباردة في كفه ثم قال لها وهو منكس الرأس بصوت غائم بالمطر والعبق والظلال القاتمة :

- جوانه ..

وتوقف ثم تابع النظر إلى أصابعها وكأنه يتلو صلاة سرية، وأردف بالصوت الغائم والخافت نفسه:

- قد أغيب طويلاً لكنك تظلين في قلبي، فتشجعي وكوني قوية كما أعرفك، سأعود، صدقيني سأعود ... وس..... وغص الصوت، اختنق . وتوتر كوتر القوس، وظلت أصابعها في كفه تعروها البرودة .

- سأنتظرك كما تنتظر شجرة وحيدة غيمه لتورق وتتكلل بالزهر والثمر والأوراق . سأنتظرك .

قالت تؤكد له والعالم من حولها يفقد ترابطه والأشكال التي يكونها .

حين رحل عنها، ظلت تنتظره، وتجلس في ذلك الركن الهاديء من مرتفع يشرف على الفرات، والفصول تمر بها الربيع والخريف والصيف والشتاء، والطيور تمر بها، والفرات يمضي عجوزاً متوانيا بعد أن حاصرته السدود القاتله.

حين رحل عنها ظلت مسكونه بكلماته الغائمه، وصوته الأجش المخنوق، ورائحته المميزة، وظل طعم كفه الدافيء على أصابعها الباردة الرشيقة، كانت تراه على الكرسي الذي طالما جلس عليه يقرأ صحيفته، يشرب قهوته. تراه في زاوية الشارع، وعلى شاطيء الفرات يلعب بالحصى والطين، يبني بيوتاً ويصنع بشرا، ويصطاد سمك الشبوط الذي يحبه مع العرق وسلطة خاصة تعلمها من صديق أرمني يحرص على تناولها دائماً.

وكانت تردد كل ليلة :

- آه يا جوانة . يالهذا الهذيان الفاضح يتدفق من قلبك، عودي إلى فراشك الذي اشتاقك فالليلة باردة والساعة قاربت الثالثة بعد منتصف الليل وعيون الظلمة تشرب عمرك، تمتص أيامك .. عودي.

وفي النهار تغرق نفسها في أعمال طائشة وصغيرة، تغسل الأرض والجدران بالماء، فتحس بالألق والبريق، تحس به يطل من كل مكان، من النافذة والجدران ومرآة الحائط، وأصص الزهور، يطل باسماً يحمل بين كفيه ثوباً أبيض وزهرة حمراء.

كان في كل مكان . رائحة وصوتاً ودفئاً ونبضاً يسري في كل شيء.

- آه يا جوانة وتظلين هكذا شجرة وحيدة هجرتها أوراقها وعصافيرها تنتظر وتنتظر غيمها العاشق... الماء يجري، والوقت يجري والانتظار يرمد روحك، ويخنقها مثل كومة من الهباء في أغوار عميقة، وعتمة كاتمة، آه يا جوانتي العزيزة، الصابرة، المكابرة، العنيدة، وماذا بعد...؟...‍

قالت لنفسها، قامت إلى المطبخ، أعدت قهوتهاالسوداء. وجلست في الظلمة، تدثرت بظلالها وبدأت تشرب فنجانها. ورائحة الهال تسكرها. وتعيد لها الإحساس بالحياة. فتطرد حرارة القهوة رماد الوقت وصدأ المكان . إنها تغتسل تحت مطر سري وريح عاصفة وقمر بلون الحليب، عارية في صحراء وحشية وقاسية تتحرك كثبانها كالأشباح.

- آه ياجوانة، لقد حلمت به أمس . رأيته رأي العين يقرب منك حتى لا مست أنفاسه شحمة أذنك . ضمك إليه ثم دفن رأسه بين العنق والكتف، وتنهد طويلاً ثم مضى بشفتيه من شحمة الأذن إلى مرمر العنق، كانت شفتاه جمراً، وقلبه يخفق جامحاً كمهر فتي يدق بحوافره الأرض، وحين صحوت لم تجدي سوى الخواء يعوي من حولك، فنذرت لسلطان النهر أن تطوفي له شموعاً لتري إن كان يقبلها منك. استعدي  ياجوانتي الآن للوفاء بنذرك  قالت تخاطب نفسها... ثم استعدت لتقوم بشعائر نذرها المقدس للخضر أبي العباس، سلطان الفرات الحارس .

- أوقفي عويل قلبك الطويل

سمعت صوتاً من داخلها وهي تستعد للرحيل إلى الفرات في هجرة قصيرة . فأوقفت كل شيء وتحركت تحمل [ طوفاً] صغيراً وشموعاً، واتجهت في موكب من الألفة والخشوع الصامت والأطياف إلى النهر.

كانت الظلمة تلف كل شيء وضوء المصابيح الكهربائية يفرد أجنحته ويفرش الطرقات الخالية إلا من الكلاب  الضالة والقطط الشاردة والخفافيش، والحركات الغامضة للكائنات الخفية التي لا تمارس حياتها إلا في غفلة من الناس. الطرقات خالية وقلب جوانة توقف عن العويل. وأصابعها الرشيقة الباردة تقبض بقوة وإصرار على شموعها وطوفها الصغير، ولم يعد شيء فيها يبكي . انفتح قلبها لأول مرة على الهواء والبرودة السليلة . وعرفت عيناها طعم الظلمة والأشباح والأشجار التي تصلي كما يبدو صلاتها الخاصة، و بعيداً عن صخب النهار، صلاة خاشعة وجليلة في ذلك الجو الاحتفالي.

الطريق إلى النهر يمتد أمام قدميها، ينهض وكأنه يريد أن يقودها إلى السماء لا إلى النهر، وقد تراءى لها الظلام يبتسم كاشفاً عن قلب من ذهب، تراءى لها المكان يتنفس . ويزفر روائح من بخور وزعتر . والطريق يمتد. وخطواتها تتلاحق والمدينة تخلفها وراءها .طفلة تغرق في النوم والأحلام

- لا تطلقي عويل قلبك الحزين يا جوانة

جاءها الصوت آمراً، حاسماً، كحد سكين . ووقفت على الشاطئ، حيث القمر بلون الحليب، والجسر يمتد مثل كائن خرافي من الحديد والإسمنت المسلح . وبيدين مرتجفتين أخرجت جوانة الطوف، غرست فيه الشموع ثم أشعلتها، فضاء المكان من حولها، فرتلت صلاة قصيرة، ومع اندفاعة الطوف بالشموع ودت لو تصرخ، لو تصيح تدعو سلطان النهر، فجائها الصوت آمراً:

- لا تطلقي عويل قلبك المجنون يا جوانة .

ومضى الطوف بالشموع . أخذه التيار معه فرفرف قلبها فرحاً وهي ترى السلطان يقبل تقدمتها، فطفرت الدموع من عينيها، واهتاجت أعصابها، فتحول الماء والليل والأصوات والوقت إلى خيمة واسعة، فواجهت القمر بعينين دامعتين وشهقت فتسلل الشعور بالأمل إلى أعماقها .

ومن بعيد رأته يظهر، عجوزاً طويلاً كالنخلة السموق نصفه الأسفل في الماء ونصفه الأعلى على السطح  وقد تدلت لحيته البيضاء على صدره فلامست أطرافها النهر، أشار لها ثم غاب كالومض، فغص صدرها بالخوف، ولم تشعر إلا وكفه الدافئة تتناول بحرص شديد أصابعها الباردة، وأنفاسه الحارة تحرق رقبتها بينما كانت شفتاه تنزلقان من شحمة الأذن إلى مرمر العنق، فاستدارت بسرعة، كان أمامها يقف في الظلمة وقد بأت طلائع الفجر تورد المكان .

- جوانة.

همس برقة، وأطلقت عويل قلبها المجنون .

- جوانة .

كركر الهمس مرة أخرى ثم تابع :

- لا توقفي عويل قلبك المجنون :

وكان الطوف الصغير مازال يندفع مع مياه النهر إلى الشرق

حيث البحر الكبير.

 

 

 حرق الليل

 

" والليل إذا عسعس "

" والصبح إذا تنفس"

قرآن كريم

حاجة هي، وسيعة  سعة الدنيا .

حاجتي إليك أو إليهم . ولربما لآدم وذريته أجمعين، قد تفي بطلبي وقد لا تفي، حاجة قد تكون عندك لحظات عابرة مثلما تعبر أشياء كثيرة بهدوء أخرس ودونما صخب، أما عندي فهي قرون من الأزمنة المعتقة كخمرة في دنان ينز من جراحها دم متخثر يتبرعم هذا الدم كأجراس حمراء صغيرة أو وشوم ذات أشكال متحولة، وفي الصباح تظهر على جلدي وجعاء، فأضيق بدمي، أود لو العقه قبل نهايتي.

لحظة هي أزمنة من عناقيد العذوبة والملح تمر بي، أنا الطفلة دائماً، الشاحبة شحوباً صوفياً ..... فاصرخ بلوعة خائفة ...

- ما هذا يا أمي؟

- هذا حرق الليل.

واتلمس مكان اسوارتي الفيروزية فأجد مكانها خالياً، فيقفز أمامي فنجان القهوة، ووجه أمي المعذب، هذه المرآة المكابره، التي أشم من رائحة يديها الزيت والثوم وصابون الغار، وأرى لون عينيها أمامي يرتسم مساحة من البن الدافئ والضوء الكئيب الذي يظل مشتعلاً كشموع النذور، ترفض أن تفارق نارها قبل أن تذوب حتى النهاية، وهي بالتأكيد محزنة .

- ماذا بعد يا أمي ؟

أنادي، وأحس أن صوتي غريب عني ؟ فأذهل وأنا أحس بحاجتي الشديدة  إلى يد تقودني، إلى صدر أنهار عليه مثل شجرة هرمة لأذوب فيه، إلى غرفة دافئة في الشتاء لا تنز  جدرانها، باردة في الصيف لايشاركني فيها سوى رائحة أمي وقهوة أمي، وضحكة أمي، ودموع أمي، التي تطهرني  من كل مخاوفي، واسوارة أمي التي أحسها عتقي، وبوصلتي ودمي الذي يحترق في الليل مثل حرق الخجل في الخد وجمرة وردة اللوتس.

- أية يد تصافحني؟

- يد آدم .

- أية شمس تشرق علي؟

- شمس إبليس

وكنت لحظتها، امرأة صغيرة مثل أوراق النعناع لا يكسوها سوى لون جلدها، تتفتح قبل الأوان لتواجه قيظ الظهيرة، وعطش الأرض، وكان صوت غامض مبلل بالماء والملح يناديني من بعيد والعالم يرتحل سرباً من اليمام، في سماء من الفيروز والذهب اسمه (الاسوارة ) التي فارقت معصمي لتنثر فيّ كل هذه العواصف والأنواء.

- أنت نوّة ؟

- قالت أمي تسألني، فأجبتها

نعم .

وتذكرت مواء القطط الجائعة في بيت جدي الكبير، وصراع الكنات والأبناء، ودليف السماء الذي يخترق جلد الحائط والوسائد التي تفوح منها رائحة الذكريات والمطر وأنا أضع عليها كتبي ودفاتري واتطلع إلى يوم مشمس ودافئ أخرج فيه إلى ساحة البيت التقط منه روحي الضائعة.

***

أغلقت باب الدار بيدي اليسرى .التي غالبية حركتي بها، وكأنني اتجه إلى غرفة الإعدام مع قوة غامضة وأنا مغمضة العينين، ثم نزلت درج البيت وأنا لا أرى أي من الكائنات الجوالة في الشارع، كانت الدموع غبشاً يحجب  كل شيء، وصوت زوجة أبي يطاردني كطلقات المسدس فيفقدني صوابي وإحساسي  بالتوازن :

- أنت أيتها المهملة العنيدة .

ووجدت نفسي أدق باب منزل صديقتي وأنا أبحث عن أحد أقول له شيئاً، ابثه مصابي، وفاجأتني والدتها تقول إنها في المدرسة فاليوم بداية العام الجديد، فلملمت دموعي، وتابعت طريقي، ومثل صخرة تركت نفسي تسقط ودون صوت في بئر  عميقة.

- ادرسي يا ابنتي، كوني قلعة مسوّرة بحصن متين، فالدراسة حصنك الحامي.

جاءني كلام أبي الذي أصرّ على متابعة دراستي إلى انتهاء الجامعة، تعويضاً له وهو  الذي انقطع عن الدراسة باكراً، بينما كانت أمي تريدني أن أكون موظفة . أية موظفة تقف أول كل شهر أمام محاسبها لتقبض أجراً يقيها شر العوز والحاجة في هذا الزمان الخائن على حد زعمها .

 

أما أنا فكنت أحلم أن أكون معلمة تعود لمنزلها وأثر الحوار لازال عالقاً في بصمات أصابعها وحقيبتها مليئة بأوراق تلاميذها كأنها حرز وطلاسم، كمعلمتي  أم عبودة التي كانت تأخذني إلى حضنها حين تدخلني أمي غرفة الصف متأخرة كالعادة بعد معركة ضارية مع أبي الذي يأتي باكراً لايصالي إلى المدرسة، ودائماً تخرج منتصرة في حربها الصغيرة، ثم تأخذ معلمتي  في ترتيب ثيابي وشعري  وتمسح دموعي وتقودني إلى المقعد بلطف وتقول:

- اجلسي يا شاطرة  وانتبهي.

كانت حرب أبي وأمي حرباً قديمة، بدأت بمنازعات عادية ثم تطورت بعد ميلادي فكونها ولدت أنثى زاد الأمر سوءً ليتوج في النهاية بالطلاق، هذا الوحش الخرافي الذي يمد أذرعه الطويلة ليهدم بيوتاً سعيدة دون رحمة أو شفقة. واليوم  حين أسأل نفسي:

- لماذا حدث كل ما حدث؟

لا أجد جواباً شافياً ،فأسكت على مضض.

***

تعبت أمي كثيراً كي تعيلني.

وكانت ترفض الخطاب الذين يتقدمون بطلب يدها في البداية بإصرار عنيد وكانت تردد:

- حظي وقد جربته والحظ  إذا مال لا يتعدل وقتها لا يعاتب الرب.

وتمضي في عملها، وكانت تستغرق فيه، كأنها تراه الطريق الوحيد للهرب من واقعها المؤلم، ومن عذابات روحها الحساسة التي كتب القدر عليها أن تعاني وتحترق قبل أوانها .

- يالله وأنت العارف موحدا غيرك يعرف.

هكذا كانت تنادي الله وكأنها ندلله، تحتمي به في لياليها السود وأيامها العاصفة كما يحتمي الصديق بالصديق، وتشدني إلى صدرها، فأسمع نبض قلبها الموجوع، يدق في أذني الصغيرة كطائر جريح، وبين لحظة ولحظة تساقط دمعها المالحة على خدي، فاتظاهر بالنوم حتى لا أفسد عليها طقسها الليلي فتسأل:

- هل نمت؟

وتتابع صمتها، وينتشر دفء غامر حولي، يغرقني في نشوة الخدر ويتصاعد صوتها بأغنية حزينة، تصور عذاباتها وخوفها ولوعتها بينما تتراقص أضواء القنديل وتفوح منه رائحة الكاز الخانق في المكان الموحش.

- هل نمت ... ها ؟

وتنحني عليّ لتطبع قبلة حارة على خدي الشاحب فيتورد بدفء الحب والحنان وارحل في غيبوبة طويلة .

***

ومع الأيام ضعفت أمي فرضيت بالزواج . هرباً من جحيم البيت الكبير، بيت جدي، هذا البيت الوسيع العتيق، فزوجات أخوالي ما عدن  يحتملن الوضع، فأنا وأمي نسكن اكبر غرفة فيه، بينما يتوزع الغرف الأخرى، أخوالي الثلاثة مع أبنائهم وقد بات البيت أشبه بثكنة  عسكرية صغيرة، يعمره الصخب والصراعات والأطفال والنساء وليلة جاء أبي لاستلامي منها، بكت، كثيراً ولأول مرة أراها منكسرة وحزينة، وكنت اقبلها، وهي ترتب ثيابي، وفي كل مرة كنت اقبلها  كان لخدودها طعم التفاح الناضج وأما اليوم فلقد خالطت الملوحة هذا الطعم، فأين ذهب التفاح ؟

وتضمني أمي إلى صدرها وتجهش باكية، وهي تتلمس ضفيرتي ووجهي وأنا أبكي لملوحة خديها وكأنني سأهاجر إلى وطن بعيد.

- البنت جاهزة ؟

سأل بصوت خفيض، حاول أن تكون نبرته عادية، ولأول مرة أراه رقيقاً يبتسم بتهذيب وود وكانت ابتسامته تخيفني لما تحمله من معان غامضة وباردة .

- البنت جاهزة .

قالت أمي بصوت مخنوق وهي تخرج اسوارة الذهب المطعمة بالخرز الفيروزي من صندوق زفافها الموضوع في زاوية الغرفة تخمد فيه كجثة جانب أحلامها وخيباتها التي باتت خردة الزمان. وضعت الاسوارة في يدي وأوصتني بالحفاظ عليها فهي ذكرى من أمها فقد ألبستها أياها ليلة زفافها وها انذا أزف اليوم بعيداً عنها وتريد أن تكون لها ذكرى عندي تحميني من عيون الحاسدين. وحين خرجت إلى الشارع كان المطر يتساقط، فتدخل حباته جلدي، فأحس بالبرودة تنغرس في عظامي، كل عظامي، وبالضياع يحاصرني فأنا أمضي إلى مكان مجهول قد يكون بيت أبي، لكنني لا أشعر بالإلفة أو الحماية فيه.

كان المطر يتساقط وكم اكره المطر، اكرهه أكثر مما كرهت زوجة أبي فيما بعد، فلقد كان هذا المطر سبباً لعذاباتنا أنا وأمي، فهو يبلل عشائي حين تحضره أمي من المطبخ  البعيد عن غرفتنا ،وكانت قطراته تحرمني من النوم حين يتسلل إلى فراشي وهي تدلف من السقف الخشبي الهرم، فتنهض أمي لتضع تحت كل نقطة تسقط صحناً أو ماعوناً كبيراً وكانت غرفتنا مفروشة بحصير مجدول من أوراق الزل وببساط من الصوف المشغول يدوياً يزهو بألوانه الجميلة، وفي وسط الغرفة ليلاً يمد فراشي الذي تحيط به الوسائد الكبيرة، التي تضعها أمي على مدار جدران الغرفة المبنية من حجارة الفخار التي تمتص مياه الأمطار لتوزعها على شكل بقع من الرطوبة ذات ألوان كامدة  ومخيفة على الجدران الجصية البيضاء.

وهذه الوسائد كنت أضع عليها كتبي ودفاتري بعد أن تراجع معي أمي دروسي، كما كانت تضع عليها أمي قطرتي الاذنية ومرهم التحسس الجلدي الذي تدهن به وجهي وجسدي الذي أدمنه حرق الليل.

وكنت أسأل :

- لماذا لا يأتي حرق الليل هذا إلا في الليل يا أمي؟

- لأنه كاللص، يأتي ليلاً ولانراه إلا في النهار، والجسد يحتاج إلى مثل هذه الحروق، فهو كالمدفأة فهل تعمل دون منافذ تخرج منها دخانها ؟ وحرق الليل هو دخان هذا الجسد.

وهكذا كلما نمت جاءني الخوف والحزن والأشباح  لتقبلني قبلات حارة، وفي الصباح أجد مكان هذه القبلات بقعاً حمراء كبيرة، ويتعاظم حزني على حال أمي حين أراها أمام " وابور الكاز" وهو يمد السنة النار الوحشية، فأرتد مذعورة، بينما لا تتحرك أمي هذه المرأة التي لا تخاف النار، ولا أحس بالراحة إلا حين تتضاءل ناره وتتحول إلى جرس دائري أزرق كالقندريس البري.

وبعد أن يسخن الماء، تغسل جسدي بالماء والصابون في عتبة الغرفة ثم تلبسني ثيابي وتدثرني في فراشي وتنهمك في تنظيف الغرفة التي ننام فيها، ثم تنظف الحوش الكبير بالماء والصابون  تحت المطر أحياناً وأنا أسمع صوت حركتها أراقبها من النافذة التي كنت استعملها أرجوحة  يحسدني عليها الجميع، وقع كل ذلك حتى لا تسمع كلمة من إحدى نسوة أخوالي .

***

نمت ليلتها في بيت أبي.

ونمت وحيدة، وكان أبي قد اشترى لي ثوباً، وخاتماً ذهبياً ولعباً طالما حلمت بها، وكان عزائي في اسوارتي، فلم تعد هناك أصابع أمي لتمسد ضفيرتي وتسرح شعري قبل النوم.

وفي الصباح حين استيقظت كانت .. خصلة كبيرة من شعري  سقطت على الوسادة، لما أوصلني أبي إلى باب المدرسة تلفت وأنا أبحث عن أمي فلم أجدها، فدخلت وشعرت أني أضيع وسط الزحام ولم أفق إلا على صوت معلمتي أم عبودة في الصف.

***

أخرجني من بئر أحزاني صوت جارة صديقتي تقول:

- تفضلي، انتظريها عندي.

- لا . شكراً

وكانت ذاكرتي جاهزة لتمرر آلاف الصور والكلمات والمواقف العابرة والراسخة هكذا دون صوت، ملامح ذاكرة لها أرشيف زئبقي ترفض أن أمسك بها . وأنا ضائعة واسوارتي ضاعت هي الأخرى، وصوت زوجة أبي يتردد:

- لن تدخلي هذا البيت إلا والاسوارة معك .

- الاسوارة اسوارتي وقد ضاعت .

أيتها المهملة العنيدة، لن تدخلي هذا البيت بدونها .

وكنت أعرف أن ضياع الاسوارة يسرها أكثر مما يزعجها، لكنها وجدتها فرصة لطردي من البيت، لإذلالي وإهانتي، أنا التي طالما كنت صامتة خرساء لا أرد على استفزازاتها بغير نظرة احتقار.

ولأول مرة منذ دخلت البيت أجد الدمع ينفجر من عينيّ أنا التي كانت متحجرة العيون، وآنست نفسي بالدمع، وعاودني طبعي القديم، عاودتني روح أمي المتمردة وهي تردد أغانيها الكردية التي تقول بأنها امرأة حزينة مكسورة تندب حظها وبختها ووحدتها، وتنادي الّلهو برقة وألم. ومثل زوبعة صغيرة دخلت غرفتي، أغلقت بابها، هلّ المساء، زارني حزني القديم وصديقي الدائم، وفي الصباح حين أفقت كان جلدي موشوماً مرّة أخرى بحرق الليل.

ألم أقل لك إنها حاجة ..... إليك أو إليهم ولربما لذرية آدم، إنها حاجة لإنسان أثرثر معه، ونحن نشرب القهوة فتطفر الدموع من عينيَّ الحجرتين مرّة ثانية ويرحل عن جسدي حرق الليل إلى الأبد .

 

 

أصابع رشيقة وباردة

 

وضعت باقة الياسمين في مزهرية أخرى .

أحضرت القهوة ونورا ترقبني بعيون يقظة، وتنتظر المناسبة لتبدأ حديثاً‍ يعيد الألفة  إلى المكان، ويبدد هذه الوحشة التي تطبق على كل شيء، فتولد في النفس إحساساً بالجلال والخوف والترقب لما يمكن  أن يحدث.

أغلقت باب الغرفة، فامتّد جناح من العتمة الشفافة فأصبح للموجودات ظلال سرّية، تلّف الكراسي والمنضدة والستائر والنباتات الشوكية المتناثرة من حولنا حيث قللت من شراستها وغابت أشواكها .

كنا نجلس متقابلتين ،وجها لوجه، الغرفة تتحول إلى كهف خرافي. وحين سكبت القهوة السوداء فاحت رائحة الهال، وتصاعد منها بخار عذب فقلت:

- القهوة تسحرني

فردت نورا بخبث:

- القهوة فقط؟

فضحكت ضحكة مدوية ... وقلت بالطريقة نفسها :

- القهوة فقط لا شيء آخر.

- يالك من خبيثة مكابرة .

- خذي وتذوقي أروع قهوة في العالم .

قلت وناولتها فنجانها، ثم أشعلت لفافة لي وأخرى لنورا ثم بدأنا شعائرنا وثرثراتنا المعتادة، وسط دوائر الدخان والقهوة والعتمة السائدة

- هذه العتمة خانقة .

قالت نورا  .. فأجبتها :

- على العكس، إنني أراها جذابة ورومانسية .

- وهذه الشوكيات؟

- انهن فاتناتي .

- هكذا أنت تجدين السحر والفتنة بين الشوكيات والعتمة  والسلاحف . وماذا أيضاً ؟

- يكفي ذلك .

وضحكت، تناولت فنجان القهوة فتسللت حرارته إلى أصابعي ورشفت منه قليلاً ثم تمطقت بصوت عال، بينما تابعت نورا تساؤلاتها المعتادة :

- من أين جاءك كل هذا المرح؟ من يرك يظن قلبك خالياً

- من قال لك أن قلبي ليس خالياً؟

- أنا أعرف الناس بك .

- ماذا تريدين ؟ قولي.

- فؤاد ...

ولسعتني الكلمة، تجمدت في مكاني، وسكتت نورا قليلاً تراقب رد الفعل عندي، ولكن العتمة على ما يبدو ساعدت على إخفاء ما اعتراني .. فتابعت :

- فؤاد يريد..

 -بربك .. اسكتي .

قلت ثم تابعت رجائي

- نورا .. أرجوك .

صدر الصوت من أعماق صدري كالفحيح، فأخافني ذلك كما أخاف نورا التي لولا سذاجتها لكفت عن الكلام، فهي تعرف أنها لمست جرحاً طرياً في داخلي طالما عانت منه كبريائي، فلا شيء يمكن أن يجرح المرأة مثل الخيانة، إنها حينذاك تتوفز كاللبوة الجريح .

- أنا أريد...

- نورا ... قلت أرجوك، لقد دفنت   الماضي وأريد أن أعيش حاضري بهدوء.

- ولكن .

- بدون ولكن ...

 قلت بحسم، وساد الغرفة صمت متوتر، وامتدت أصابعي في العتمة ترفع علبة الدخان وتستل منها لفافة جديدة تشعلها بينما تسحق بقية  اللفافة المحترقة في المنفضة، وكانت أنفاسي تضيق  وكأني أحسّ غباراً قديماً يثور، يلفّ روحي بكفن رقيق وأنا في شبه غيبوبة .

مضت دقائق، وبدأ الهدوء يعود إلى أعصابي، فلعبة ضبط الأعصاب اتقنتها منذ زمن وها أنذا أعود إلى ممارستها فألبس وجهي قناعاً  رسمت عليه ابتسامة جذابة . وقلت:

- نورا ... اسمعي ،فؤاد دمر شيئاً ولا يمكن لأية قدرة أن تعيد خلقه من جديد، ودمّره ببلاهة وخبث من أجل مكاسب صغيرة وأنا صحيح شفيت من جراح القلب، ولكن كيف  أشفى من جراح الروح ؟ كيف يا نورا؟

- أنا أقول...

- لاتقولي شيئاً.

وامتدت أصابعي برشاقة وبرود تضرب صينية القهوة، فتحطمت الفناجين والصحون واختلط الماء بالقهوة وبقايا الزجاج والدم . وحين رفعت أصابعي كان الدم يقطر دافئاً من ثلج بارد ثم صرخت بنورا:

- أية قوة في العالم تستطيع أن تعيد هذه الأشياء إلى ما كانت عليه قبل لحظات ؟ بالتأكيد لا يوجد .

- أنت مجنونة.

صاحت نورا وهي تنهض ... بينما تعالى ضحكي في فضاء الغرفة يبدد هدوء العتمة التي بدأت تتكاثف .

 

 

تحية الإسلام

 

أبعدت الغطاء الثقيل عن جسدها ...

 بكسل ولا مبالاه اكتسبتهما بحكم العادة، وبقايا النوم تفّر من أهدابها كأسراب من فراشات النور الملونة، بعد أن رنّ جرس قلبها وتفتح النرجس في عينيها بالق وانبهار.

تمّطت باسمة في سريرها، تحسّ بالرضا والألفة . فكل ما حولها قريب إلى نفسها وحميم، الساعة التي تشير إلى السادسة صباحاً، والأوراق  المتناثرة، والكتب  التي قرأتها والتي لم تقرأها بعد.

وقطع الحجارة ذات الأشكال الغريبة والألوان المتناثرة، التي أطلقت عليها أسماء وهمية تناديها بها فهذا جلجامش وصديقه انكيدو وهذه أو رنينا وأيا، حجارة قاسية من الصوان شكلتها أصابع نهر الفرات، وحين انحسرت مياهه خلفها على الشاطئ كتقدمة  وثنية غامضة .

وفجأة قفزت من سريرها وكأنها تنبهت إلى شيء  نسيته . اسرعت إلى النافذة تفتحها لتستقبل  صديقتها الأبدية الشمس، متحاشية صرير  خشبها العتيق.

- مرحباً بك يا صديقتي.

همست في تبتلٍ صوفي، ثم اردفت :

- ما رأيك بقليل من البابونج الدافئ؟

ولم تنتظر جواباً، أسرعت تضع " الركوة " على الغاز السفري الصغير وقد ملأتها ماء من الإبريق الزجاجي، وكان أمامها ما بقي لها من ارث جدتها المرحومة - طيب الله ثراها- فتلت الفاتحة على روحها، وتذكرت آخر وصاياها التي اعتادت على إزجائها :

- القلب  مثل التنور بدون نار، لايطلع منه خبز حار، فدعي قلبك مشتعلاً على الدوام لتذوقي طعم الحياة .

انتبهت على نشيش الماء في الركوة وهو يغلي ويتّصاعد منه البخار بعد أن كانت شاردة في آخر لحظاتها مع جدتها التي خصتها بالقطعة الوحيدة المتبقية من جهاز زواجها وهي ( المرآة ) وحجتها في ذلك أن المرآة افضل صديقة للمرأة والدليل على ذلك أن اسميهما من جذر واحد.

ألقت بحفنة من البابونج في الماء ثم أطفأت النار، ففاحت رائحة عبقه من الركوة فغطتها، وقد أحست بكل مسامّها تتفتح لتستقبل روحاً سرّية تطلع من تلك الرائحة. ومثل لصّة تسللت إلى المغسلة .احنت رأسها تحت صنبور الماء المتدفق للحظات . ثم رفعته وقد زادها ذلك يقظه وإحساساً بالعيش  فلفت رأسها المبلل  ( بفوطة ) وعادت إلى الغرفة، حملت صينية نحاسية  إلى النافذة ورفعت غطاء الركوة، ثم سكبت فنجاناً لها، وآخر لصديقتها الشمس، وبدأت رحلتها اليومية التي تمضي دون مفاجآت غالباً.

مدت  أصابعها الرشيقة  الباردة - الأصابع الباردة لا تملكها إلاّ امرأة عاشقة كما يؤكد العرّافون والدليل على ذلك ما جاء في رقم طيني من عصر إيبلا يقول:

أيتها المرأة العاشقة ...

 اسقطي ثلجك لتوقدي  ناري...

فأنا احترق من البرد.....

...........................

.............................

.............................

........لا تستفزي قلبي

فتحت الثلج تنمو أجمل الأزهار

فالثلج دثار ... معطف .....

........................( )

مدت أصابعها كي تفتح المذياع، فتذكرت نصيحة جدها الحكيم :

- تمطّي وأنت تصغين إلى النغمة الجميلة الساحرة، فهي تحمل نسائم الحياة الحرّة، أما أخبار الجثث التي قتلت ليلاً وأنت نائمة، فدعيها تدفن وأنت نائمة أيضاً، فصديقنا مهدي  لا يحبّ ذلك .

- من مهدي يا جدي ؟

- مهدي ؟ هو مهدي .

- لم أفهم شيئاً.

- مهدي كان صديقاً عجيباً عرفه أجدادي من قبلي كما عرفه الناس .

- وكيف ؟‍

- لا أدري كيف ؟ لكن ما أدريه أنهم كانوا ينتظرونه في سنوات المحل غيمة ماطرة وسنوات الحرب برداً وسلاماً يطفئ النار، وفي المجالس ابتسامات وحكايات ساحرة، وإذا مرض المريض عادة، وإذا تعسرت ولادة امرأة جاء الليل يأخذ بيدها إلى شاطئ الأمان، وإذا بكى طفل جائع جاءه بعلبة من الحليب ليشبع جوعه، ولا يفرق  في ذلك بين دين أو دين، ملة أو ملة ، لون أو لون، ربما نراه في قصر من القصور صباحاً، وفي كوخ من الأكواخ الزرية ليلاً، جدتك كانت تسمية الأمير، وأنا اسميه مهدي ... وله أسماء  كثيره وهو لابد أن يظهر يوماً .

- ولم اختفى يا جدي؟

- أنه غائب حاضر.

- لا أفهم  ياجدي .

- غائب  لأننا لا نراه، وحاضر لأنه يطعم  الحمام من كفه، ويروي الزيتون من  دمعه .

- الله يا جدي . كم هو جميل صاحبك .

ومن المذياع تعالى صوت فيروز يغطي كل تلك التخيلات الهادئة، مساحة من المخمل والموسيقى :

أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن

صبّت لنفسها فنجاناً آخر من البابونج .

ثم أكملت  ارتداء ثيابها أغلقت باب غرفتها المشتركة في مسكن تملكه عجوز مع ابنتها  العانس، وكانت تتوقع في كل لحظة أن تداهمها  العجوز لتبدأ سلسلة من الشكاوي التي سببها دائماً الغلاء ، غلاء في أسعار الخضار، غلاء   في أسعار الماء، غلاء في أسعار الكهرباء وهنا المشكلة  فهي لا تملك ما يستحق ان تشكو منه العجوز فعدا المذياع والمصباح ليس لديها شيء آخر، فثيابها تغسل ولا تكوى، وشعرها دائماً  أسير قيد إلى الخلف يسترسل باستسلام  ومع ذلك فهي تحب السكنى  لديها لأنها ألفت ذلك وخلق الإنسان الوفاً.

ارتدت معطفها حين شعرت أن الغرفة قد مّسها البرد، وتناولت فنجان البابونج الدافئ، ثم أغلقت النافذة وقلبها يرتجف مثل سعف النخيل، فتذكرت كم كانت تشعر بهذه الحالة الرائعة، حين كانت تنطلق  إلى الفرات في أيام العطلات  الأسبوعية، تدفن قدميها في الرمل البارد، وتتصلّب مثل  شجرة طرفاء عارية  وعيناها ترمقان  الأفق البعيد، حيث  جبل البشري يمتدّ طويلاً وعالياً في العراء الأشهب ، وقلبها  يدق معلناً بدء حياة متجددة بقوة  وجموح  حصان فتيّ .

ألقت نظرة أخيرة على هندامها البسيط، وعلى الموجودات في الغرفة، وقد راودتها فكرة لِمَ لا تضع أحمر الشفاه على شفتيها  ثم هزّت رأسها وغمزت بطرف عينيها صورة   الطفل الجميل الذي تمنت كثيراً أن يكون ابنها وهمست :

- ما رأيك بهذا اللون ؟ يجنن أليس كذلك ؟

وانطلقت ضحكة صاخبة من حلقها،  وهي تجتاز غرفتها إلى ساحة البيت. لقد نسيت أن تستمع إلى أخبار السابعة كعادتها، فهزّت رأسها وهي لا تتوقع جديداً، وفي منتصف الطريق كانت تقف جارتها العجوز :

- صباح  الخير يا خالة.

صباح الخير.

ردت المرأة بودّ فهي  تكنّ لها مودة خاصة ثم أردفت :

- إلى أين  يا ابنتي ؟

- إلى الدوام .

 أيّ دوام؟ ألم تسمعي  أخبار الصباح؟

فتحت عينيها بدهشة واستغراب:

- أخبار الصباح ؟

- نعم

- لم أسمعها

- اليوم عطلة رسمية .

- عطلة رسمية ؟

- نعم .

- وما المناسبة ؟

- تعالي ............ تعالي واشربي معي القهوة اليوم.

- القهوة ؟

- نعم فاليوم كما قال  الراديو " حداد عالمي"

- أنا لا أفهم .

- سأفهمك يا بنتي .

وجلستا معاً، متقابلتين  وجهاً لوجه، وقد بدا على وجه العجوز حزن حقيقي. أما الفتاة  فكانت في قمة الدهشة. قالت العجوز وهي تسكب السائل الأسود في الفنجان بهدوء:

- يقولون هذا  الذي كنت تحدثينني  عنه قد مات، قتلوه  ليلاً.

 - من تقصدين يا خاله ؟

- هذا الذي نذكره حين نلقي تحية السلام ؟ والذي تحمله الحمامة في منقارها علامة الخير .

- السلام .

هو رحم الله والديك، قتلوه وهو يقطع الشارع يحمل علبة حليب  لطفل يتيم من أطفال ........أطفال ........ والله نسيت .

أسرعت إلى غرفتها ......... ألقت بنفسها على السرير وراحت في نشيج طويل  وظل الطفل في الصورة المقابلة للمرآة ................. يبتسم .

 

 

الأقنعة

 

"أتكونين أنت آخر ما نبض به القلب؟

ألك كنت أقطف الياسمين؟

ألأجلك كنت أصنع القهوة الحلوة؟

وأهيء النرجيلة.....؟

أرتب لجلستك على الأريكة....؟

أضع الوسادة كي تتكئ يدك عليها؟

أتكونين آخر من رحل عني...؟

وأول المسافرين دون أن تلوحي بيدك وداعاً؟

يا كل هؤلاء.............. يا أنت؟"

........................

أتكونين آخر النسوة المرسلات؟ أم تكونين أكثر النسوة الكاذبات؟ الخائنات؟‍ أوجهك هذا الذي تحملينه أم هي الأقنعة؟ منذ حطت حواء على أرض الخطيئة إلى الآن يحط الحزن على قلبي طائراً بمخالب تنهش لحمه، تنثره صوراً وكلمات أمامي أأنت من أحببت، أبك آمنت!

أسلمت لك القلب وقلت أبحري فالعالم كله مياه وقلبي القارب فجذفي كيفما تشائين فلِمَ اخترت أغور المياه.؟

لو أنك فرطت تسلسل أيامنا الماضية، كم يوماً تحتاجين لجمع ما كان بيننا؟

لو شاهدت فيضان محيط دمعي وتشكل نهر الفرات، أيهما كان الأصعب لديك أية أقنعة الآن تضعين؟

وأي جلود ترتدين؟ أية تبريرات تقنعين بها نفسك؟

خلعت القلب من جسدي؟. بت أحيا بنبض الذكرى أسجد للذي يحيا دون نبض.

وأصلي لمن لا يخون.

افترشت القلب سجادة، وقلت اسجدي فكل الجهات في قلبي الكعبة.

كنت ماءاً طهوراً.. زمزماً، فكيف تحولت إلى شيء حارق في البال والقلب؟ ماض أنت وأستطيع نفيه من عمري، لأنك العمر الذي مضى.

كل ما هو لي يصرخ باسمك، جسدي كله يراك، يصرخ بك: اخرجي مني، لأنك تلوثين طهارة وقدسية ماضيك فيَّ.

أكون مغدوراً لهذا الحد؟ أم أنك بارعة في الإقناع.. تتغير نبرة الصوت أصرخ في السماء أن تترك مطراً يعمدني منك ... من الماضي. وأصرخ فيك.. لم.. بكل خياناتهم غدرتني؟ وبكل خساراتك ربحتني؟

أجيبي رغم بعد المسافات التي ما بيننا. هل نفذت وعدك، وأسميت أول طفل لك مثرا. لكنه كان ابننا مثرا. غدنا.

أطفئي نيران هذه التساؤلات بقلبي إن استطعت، فأنا ثمل وخدر ولا شيء أستطيع أن أقوم به، لا حياة لي أحيا بها بعيداً عنك.

أشرد ثم أصرخ بك لم. تصل صرختي الملائكة؟ فتفز خائفة تلوذ بخالقها لم. يا أنت؟ يا لله.. يا سماء.. يا مثرا.. يا ليله؟

وكم دندنت بأغنيتك، التي عشقت صوتك منها:

"ليلة لو باقي ليلة.. بعمري أبيع الليلة..

وأسهر بليل عيونك... وهي ليلة عمر..."

كطفل كنت تضعين رأسي على صدرك وتهدهدين تعبي. تبعثرين أصابعك بشعري، تغنين ثم تشدين رأسي لصدرك، وتجهشين باكية، لم كنت تبكين؟ وتحقق حلمنا أن تضمنا ليلة.. دون جدران، فقط ساعات من ليلة، حين قررت السفر إلى دمشق، وأصررت أن أرافقك الرحلة. انطلقنا في الثامنة عشر ليلاً من الرقة إلى دمشق. جمعنا مقعد واحد، وليل تحدثنا فيه كثيراً، اتفقنا وتخاصمنا قررنا. حلمنا، شربنا القهوة والدخان، وغنيت لي ليلة. ولم أكن أعلم أن هذه هي آخر ليلة تجمعنا، تحقق حلمك وسهرت بعينيَّ. كنت تودين أن تحضننا ليلة وتشرق علينا شمس من البارحة الذي لم ننم فيه. وضعت يدي على كتفك انظري الشمس تبحث عنك. كانت عيناك واسنتين. نظرت إلى الشمس ثم إلي. ورحت في غفوة قصيرة. لم أطق أن تبعدي عني أو تنامي. عدت أوقظك، دخلنا الشام.

وحين انتهينا قرابة الظهر، رغبت أن آخذك إلى بداية دمشق الأولى كي نمر سوية من تحت تلك القنطرة، التي مر من تحتها مئات الخيول العربية والرومية والبرمكية، أيها البلاط الذي وطئتك أقدامها. استنطقها لم فعلت كل ذلك؟!

أمسكت يدك وأشرت لتلك القنطرة، وأخذت حينها نفساً طويلاً وقلت: إنني ما زلت أشم رائحة الخيول الغازية والفاتحة. والآن ما زلت اشم رائحة الذكريات، مشينا دروباً كثيرة وطويلة فيك يا دمشق.

وحدك من شهد مشاويرنا. سمع همساتنا.. وحدك من أبحت بقاءها معي ليلة كاملة بعد أن قطعنا حارة الورد، وحارة الياسمين.

قطعنا ياسميناً كثيراً وقبلناه ثم أهديناه لبعضنا. وأذكر كيف سرقت من خدك قبلة دون أن تشعري.

والآن بعد هذا الإعتياد لمن أسلم نظر العين؟ ألهذا الفراغ الممتد أمامها؟ أصررت أنا أن نذهب للغداء في مطعم شعبي. مررنا قرب ضريحك يا سيدة رقية، كان هناك أناس شتى يقفون ببابك وها آنذا أعود لدمشق القديمة للبوابة الأولى. وأقف ببابك يا سيدة رقية، أطلب من المقام الطاهر أن يرضى باسكان روح ذكرياتي بقربك، قطعنا الشوارع الصغيرة الضيقة، دخلنا المطعم، كان مزدحماً لكنها أصرت أن تدخله.

أدخلتها المطعم، وذهبت لشراء خبز التنور الذي نحبه، عدت، كانت كطبيعتها قد ألفت المكان وقد تناولت بعض الطعام مع شريكتها في الطاولة. طلبت لها طبقاً لم تأكله من قبل. أكلنا ثم نهضنا. كنت أسعى جاهداً، كي أحقق لها أمانيها خلال هذا النهار الشتوي القصير قبل أن نعود، وقد أصررت على أن نشرب الشاي في مقهى النوفرة.

دخلنا السوق المؤدي إليها، وكعادة طاولاتها كانت مشغولة كلها، انتقيت مكاناً ثم ما لبثت أن غيرته إلى آخر طاولة يجلس إلى جانبها رجل، فاستأذنت منه أن نجلس معه إلى الطاولة نفسها ، ولم يمانع.

جلست إلى جانبها، وقد شبكت أصابعي بأصابعها، وهي مبهورة بالنظر إلى المكان، والأشخاص ووجهي. كان يوماً أبيعه بعمري، لو طلبت مني ذلك لفعلت وقتها. طلبت لنا الشاي، ولها النرجيلة، ولم أنتبه إلى الحديث الذي دار بينها وبين الرجل الذي كان يجلس معنا. لكنها قليلاً قليلاً كانت تقترب منه برأسها كي تصغي إليه. وتشاركه الحديث. تعرفت إليه. كان من مدينة أبيها البعيدة جداً عن العاصمة، تعرف إليها عرف أهلها. سألها عن أناس كثر كانت تعرف بعضهم. تركتها دقائق، ثم عدت، لكنها لم تشعر لابمغادرتي المكان ولا بعودتي. وحين سألها الرجل عني قالت: مجرد صديق التقيته صدفة في دمشق، فأحب اصطحابي إلى هنا. فوجئت بتخليها عني هكذا بسرعة. وأنا من سهر ليلة كاملة لأجلها. تحمل طول الطريق. التعب. أهكذا تتخلى عني بمجرد أنها علمت أن هذا الرجل يسكن دولة أجنبية، وقد عاد للوطن يبحث عن عروس؟

وبينما أنا أدخن، أصخت السمع دون أن ألفت انتباههما إلي. سمعته يتحدث عن مواصفات العروس التي تنطبق غالبيتها عليها، وهي تهز رأسها مبتسمة كأنها تقول له قد وجدتها. إنها أمامك، ثم أخرجت ورقة من حقيبتها، وطلبت مني القلم، كالذي يريد أن يكتب وصية قلبه الأخيرة. رسمت له مخطط لمنزلها وأعطته رقم الهاتف. بعدها استأذنا الرجل وغادرنا المقهى. لم تحاول أن تمسك بيدي كعادتها. بل سارت إلى جانبي، وقد أتقنت دور الصديقة وأنا مذهول بأقنعتها التي تغيرها بثوان. بعد أن قطعنا المقهى، شبكت يدها بيدي وسارت بقلبي لا بجانبي، عادت تتحدث عن الغد الذي سيجمعنا،.عن حلمي بطفل يشبهني، يحمل دمي، نسميه مثرا. لم أجب عشرات الأشخاص الذين كانوا يتحدثون معي. أقنعتها كانت أمامي. أيامنا. الساعة التي كنا نقضيها. هل أنسى؟ حين كانت تضع أغنيتها التي تحبها وتجلس بجانبي. ثم تبدأ بالبكاء. تضمني كطفلها. تتوسلني أن لا أهجرها أو أخونها أو أتركها. هل أجفف دموعها التي نسيتها على أرض القلب، فحولته إلى أرض محروقة؟ هل أنسى كيف كنت أهدئها؟ وأقسم لها بدمها المقدس بأبننا. أيامنا التي مرت لن أتركها. لكنها كانت دائماً تصر على أنها لا تخاف مني بل من نفسها على روحها. أهي مريضة؟ أم أنها تحمل العقد الكثيرة التي يصعب علي حلّها؟ ركبنا الباص. لم تفارق يدها يدي. تكلمت كثيراً. قالت بعض الجمل الغريبة. ففي بداية تعارفنا طلبت منها أن تكون حرة أن لا نحدد علاقتنا بزمن ينهيها. أو نضعها ضمن تصنيف معين. لكنها حزنت كثيراً لطلبي، ورويداً رويداً بدأت أنا من أحدد العلاقة. أشعرتها أنها غير حرة،. عليها إلتزامات تجاه ما بيننا. والآن تفاجئني من خلال كلامها، تريد أن تكون حرة. وعلاقتنا لا تخضع لزمن أو اسم يحددها أتريد استفزازي؟ أم إدراك مكانتها عندي؟ استمعت إلى كل ما أرادت قوله دون أن أناقش أو أنظر إليها. جاء توقف الباص في المحطة القريبة في توقيته المناسب لصالحي. طلبت منها أن تأتي معي نشرب شيئاً. ندخن. نتحدث وكأننا للتو التقينا لكنها اعتذرت بانها متعبة، تركتها ونزلت أخذت فنجاناً من القهوة.

أشعلت لفافة تبغ ووقفت بعيداً عن الباص، أراقب مقعدنا، أراقب حركاتها، لم تكن متعبة، لأنها اعتدلت بجلستها، وأخرجت أوراقاً من حقيبتها وبدأت تقلب بها ثم تحدث معها أحد الركاب. صعدت الباص جلست بقربها، لم أتحدث معها ولم تسألني شيئاً. رحنا في شرودنا المعتاد، لم أنتبه إلى نفسي إلا وأضواء الجسر الجديد في مدينتي، توقظ عينيَّ من شرودهما. التفت إليها كانت نائمة آثرت أن أتركها حتى يتوقف الباص، وعلى ضجيج الركاب. صحت من غفوتها.

التفتت حولها. نزلنا وكغريب عنها ابتعدت عني، أردت أن أتفق معها على موعد للقاء الغد قالت: دعها حسب الفرائج. وتركتها. قلت غفوة تصحو منها. مر يومان والثالث. لم أرها أو أسمع صوتها، اتصلت بها مساء.

كانت عند إحدى صديقاتها. عاودت الإتصال بها بعد ثلاثة أيام.

ادعت النوم واعتذرت وأنا أعلم  حبها للنوم فهي تهرب للنوم إن ضايقتها الأفكار والأمكنة. قررت أن أذهب إليها. وقد ذهبت. حملت بيدي صورها. رسائلها. ياسمينها الذابل. دققت الجرس. وحين أطل وجهها، ولا أعرف ما رقمه. لكنه كان وجهها المبتسم. حينها نسيت ما حملت من رسائل وياسمين بقلبي. اعتذرت من استقبالي بحجة الضيوف. عدت إلى الوراء. بعد أن وعدت بزيارة قريبة، لم يلفت انتباهي تسريحة الشعر، ولا الوجه المزين، لباسها، فقد حفظت كل ذلك غيباً، عدت إلى منزلي بعد أن جلست مع الفرات .حدثته عنها. عن ما فعلت. المقهى أقنعتها. لكنه كعادة النهر قلب أمواجه، وابتعد. وصلت منزلي، لم أغادره أياماً متواصلة كعادتي متسكعاً أفكر فيها بقدومها كيف ستدخل كعادتها تضمني، تعتذر عن تأخرها، تمد لي يدها بالياسمين، كي تسكت غضبي، هيأت لها النرجيلة، الشاي، الوسادة التي تتكيء عليها يدها، عشرات الأوراق منذ عدنا من دمشق كنت قد كتبتها إليها.

دق جرس الباب ودون أن أشعر بنفسي، ركضت كي أفتحه، أشدها من شعرها إلي، أعانقها. لكن صديقي وزوجته من كانا في الباب. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة، وهذا يعني موت الصوت. رحبت بهما سآلاني عنها. رددت بتساؤلهما، جلسا طويلاً. لم أسأل عن زيارتهما المتأخرة، ولا عن رغبتهما بالنوم عندي. دارت أحاديث كثيرة ما بيننا محورها كان النصيب، القدر الذي يرسم لنا كل ما قمنا به وسوف نقوم به من أفعال . بررا الخيانة، والغدر ووقفا عاجزين عند كلمة النصيب، نهضت كي أترك لهما الغرفة ليناما فيها إلا أنهما أصرا على السهر معي. حينها تنبهت أن هناك ميتاً وعزاءً وليلة واحدة هي ليلة الوحدانية يعرفها فقط من دفن تحت ترابه وهجره المشيعون. يريد العودة معهم لكنه نسي أن هناك ليلة دون جدران، وتشرق علينا شمس ليلة لم ننم فيها.

قبل أيام قد جاء رجل المقهى، صاحب النصيب وتم الإتفاق معه. تمت الخطوبة وعقد القران -اليوم مساءً سافرت. إلى أين ترحلين؟ وجثمان ما بيننا لمن سلمته؟ هي رحلت، وأنا رجل قد طعن غدراً وسيلان دمائه تساؤلات. كل هذا حدث، وأنا معتكف انتظرها. أأكون أنا من يحمل وزر خيانتها؟

كانت ترغب بالسفر وحدها، فقط ساعات وتعود إلا أني أنا من أصر على الذهاب معها كي أمشي وإياها في حارات دمشق القديمة، نزور قلعة صلاح الدين، نجلس في مقهى النوفرة، كي ندخن النرجيلة التي تحب . واجهني القمر، يحدق بوجهي مثل طفل هجره حليب أمه، بكيت. بكيت تلك الطيور التي هجرتني وتهدم الخطا تحت أقدامي. فتحت باب قفص العصفور الذي اهدتني إياه، واسمته شتات. أطلقته للهواء. هكذا علمتني كل النسوة، وهي آخرهن. أن أحب وحدي وأحس وحدي. أبكي وحدي.

ابتعدي لا تطرقي الأبواب بحق الصدق الذي أحببتك فيه، ابتعدي عني لا تشرنقي روحي بيدك. دعيني ألم ذاكرتي المبعثرة، أمسح الغبار عن صورتك، صوتك. لست أنا. أنا؟ لست هنا. ولا في روحي لست في الشارع. غسلت الروح، وصليت عليها، دفنتها، فماذا تحدثين في جسد لا يملك روحاً؟ راهنت عليك بعمري. ودون إكتراث رميت العمر وراءك واليوم بعد كل تلك الخسارات ماذا جئت تريدين؟ بعد زواج فاشل وطفل كنا قد اخترنا له الإسم، بات يحمل اسم أب غير اسمي. ابكيك الآن فرحاً لأنك تخسرين ما ربحته؟ عودي، وتعلمي أن تحبي وحدك وتخسري وحدك وتبكي وحدك. أعرف أنك من يناديني. لكن صمتاً كصمت الرصاص، والقبور بأذني، عودي أمطارك لن تحرق قلبي. دعي الزوابع تثور وتهدأ وحدها حول روحك. أنا الآن جسد رجل. ألا تدركين معنى موت الروح؟

ارجعي قد أزورك مع الزائرين

فغدرك هدم كل الجسور.

 

 

إنتظار

 

-أعطت لجسدها حرية استلقائه على العشب.

شبكت يديها الاثنتين كوسادة طرية تحت رأسها. تحدق إلى السماء التي كانت مشغولة برسم اللوحات الغيمية... تداخل الشمس كان رائعاً بين هاتين الغيمتين.. تنافر الألوان وقتامهما، وهذا القوس الذي يتوسطهما، تلك الألوان القزحية تكاد تلمسها أو تدخل عينيها اترى القوس يقترب منها أم الغيم؟!

هو من يدور حول نفسه أم أرضها تمتزج بالألوان. دفعت عينيها كعادتها. حين تدقق النظر إلى الأشياء.. اعتدلت في استلقائها واتكأت يدها وقد لفت انتباهها درب طويل رسمه النمل الأسود الصغير.. ذكرها بتلاميذها، وهم يدخلون الصف. تابعت طريق النمل الذي يمر من تحت يدها ليصل حتى فتات الخبز اليابس، هناك في الطرف الآخر فيتساعد بعضهم بسحبه منصرفين ليتابع من بعدهم سحب ما تبقى من الخبز. حاولت أن تمد لهم أصابعها لتتناول معهم قسماً من الخبز، لكنها تنبهت إلى أن هذا الجزء من جسدها لا تملك حرية التصرف به.. فأصابعها ملك له وحده فكثيراً ما كان يلومها إن أطالت أظافرها أو صبغتها. ودائماً كان يؤنبها كطفلة إن نسيت ووضعت أظفرها في فمها وهي تتابع حديثه. تركت للنمل متابعة عمله، وبدأت تسلي نفسها بعدّ أعقاب السجائر ... وتنظف المكان المحيط بها من الكؤوس البلاستيكية الفارغة، وأوراق الصندويشات، وعلب دخان فارغة ممزقة... ترى من كان يجلس هنا؟

وجدت علبة حبوب فارغة تناولتها، وبدأت تقرأ اسمها. إنها حبوب مهدئة لآلام الصداع. تناولت صحيفة كانت قد طويت بعصبية بأكثر من طريقة، نظرت تحت عينيها وجدت أعشاباً قد نتفت، ونثرت حول بقعة قريبة منها، يبدو أن الذي كان يجلس، هو من نتف هذه الحشائش الصغيرة كان يلف البقعة الكثير من الياسمين الذابل، إلا أن رائحته ما زالت تعبق منه وتذكرت ياسميناً كثيراً كانت تقطفه، وتبقيه بيديها، تنتظر حبيبها، وحين لا يأتي كعادته، كانت تهديه لجيوبها، أو تدسه في صدرها حتى تنساه هناك فيذبل ويموت. رفعت يدها حين شعرت بالخدر يتسلل إلى أناملها.. فاعتدلت في جلستها محاولة اشغال نفسها بأشعال لفافة تبغ، تقتل فيها رائحة الذكريات، والوقت. استدارت تتفحص المكان. هناك بالقرب منها محارم ورقية كثيرة، لا زالت نظيفة لكن آخر دمع، وكحل لا زال عالقاً فيها. ذكرها لونه الأسود بكحلها الذي كانت تحب صنعه بيديها... ورجعت تعد الأيام الماضية القريبة، والبعيدة منذ متى لم تكتحل عيناها... الآن ترى أن الكحل كالماء، لا لون له، شفاف، لا بريق فيه حين تضعه على عينيها، ولا ترى الحبيب، ومن ذلك الوقت قررت هجر الكحل. حين دقت الساعة في يدها، لقد اقترب موعد العودة إلى منزلها الخاوي ووحدتها.

حملت حقيبتها، تلفتت إلى المكان كله تودعه بجسدها، إنها تعرفه جيداً، وكأنها قد دخلت إليه.. جلست هنا.. انتظرت.. نتفت الحشائش اهدت الأرض ياسمين يدها. وقد دخنت فيه كثيراً. أكلت.. شربت هدأت صداع رأسها وبكت كثيراً.

نظرت أسفل قدميها، هذا العشب الذي تدوسه الآن كانت قد نتفتهُ أصابعها ونثرته. إنه المكان بعينه.. تعرفه جيداً.

جلست فيه طويلاً، وانتظرته كثيراً، وكعادتها ذبل الياسمين بيديها.

رفعت رأسها نحو السماء.. ما زال الغيم حزيناً.. يركض بعيداً عن قوس قزح، والسماء تحاول جاهدة أن تدخل فيه.. انزلت رأسها حين شعرت بدمع كثير يتجمع.. أتراها هي من كانت هنا قبل ساعة، أم البارحة، أم قبل شهر..؟ عاودها تأكيد ساعتها أنها تجاوزت النصف.

وضعت حقيبتها على كتفها، واتجهت إلى الباب الذي خرجت منه قبل هذا الوقت، واقسمت أنها لن تعود إلى هذا المكان ثانية...

 

 

الضمائر

 

-هي.. كانت متعبة، مهملة كحزمة من السنابل الجافة على مقعدها مرهقة، كشبه غائبة عن وعيها والطريق الطويل أمامها يتلوى أسود، صلداً. وسط تلك السهول الممتدة جسراً ينبض بالشهوات والرغائب المحرمة.

لا علامات فارقة تميزه سوى بعض التلول العارية، وبعض السهول، والقرى المتناثرة بأناسها وحيواناتها.. دخان تنانيرها المتصاعد مع الصباح يصلها محرضاً شهيتها للطعام. نباح الكلاب يصلها خافتاً رطباً كالحطب وقد تصادفك بعض الخيم. القطعان يدفعها رعاة متراخون نحو الكلأ والماء، حيث الأراضي الممتدة، الركاب من حولها يتابعون ثرثراتهم عن مواسم الحبوب، والسيارات ويدخنون أو ينظرون إلى ما حولهم بعيون شبه مطفأة، قانطة، عيون من الزجاج الملون.

وحبات الغبار تثور كلما توقفت السيارة، وأصابعهم، تلك الأصابع المثقلة بخواتم الفضة، تقلب حبات السبحة.

-هو

آه يا هاجر يا بنت هارون ماذا تريدين مني؟ أو ماذا أريد منك.. وماذا نريد من هذه الدنيا أجيبيني. بصوتك.. لا بصمتك.. ضعي عينيك بعينيَّ وانطقي.

-هي:

قبل أيام سألته ما يسألني هو الآن، فرد علي بنفس الحيرة، وعيناه تبحثان عن نظراتي الشاردة دوماً.

تراقصت الكلمات شارات الاستفهام، بينما تصاعدت أنفاس أمي، فتصلبت في مكاني جذعاً لنخلة قصفتها الريح، فلم يبق منها إلا القليل من السعفات المبعثرة، الذي أمثله أنا الآن في هذه السيارة المسافرة.

فماذا لو علمت أمي بماذا أفكر أو من يشاركني رحلتي.

-أنا

فقد قالت لي ليلة البارحة حاسمة:

-غداً صباحاً سنسافر إلى القامشلي.. جهزي نفسك ودون أن تسألني رأيي فهي تعلم موافقتي مسبقاً.

-لن أنسى شيئاً وسأكون جاهزة

-قلت لها: لن أنسى.. وكيف أنسى، وموعد لقائي معك غداً؟ ولن أنسى.

وفي الصباح، انطلقنا مع الركاب إلى القامشلي والسائق الشاب الملتحي يميل مع مقود السيارة غاضباً تارة، شاتماً الزحام، والناس الذين لا يحبون السير إلا في وسط الشارع تارة أخرى. وحين تركت المدينة خلفي، تنفس السائق بإرتياح، فأشعل سيكارة، ثم مد يده إلى آلة التسجيل. انطلق الصوت عالياً. صوت عتابا حزينة تنعي حبيباً غادراً وعمراً ضائعاً. أتاني الشجن طائراً بلون الشاي المتعق يدق بمخالبه صدري، داهمتني الأوجاع ومثل مخمور يدخل نفسه ليبعثر كل ما فيها قبل أن ينهار للمرة الأخيرة يصلني صوته قوياً.. هاجر يا بنت هارون.. فأنصت.

-ثمة أشياء كثيرة وكثيرة تدب في رأسي. تحوّله إلى خليه أو مستعمرة للنمل الأحمر فاتململ تارة، وأسند رأسي للمقعد تارة أخرى فأنا بحاجة إلى تدخين سيكارة ولا أستطيع. فهذه الكائنات الذكورية تحدق بي وأنا الشابة الوحيدة بينهم والدخان امتياز لهم وحدهم. وأشد بأعصابي على حقيبة يدي.. والشمس تتسلل إليّ من خلال زجاج السيارة تصافح وجهي، تتلمس أهدابي.. أضم نفسي أتوق للهرب معه بعيداً.. هكذا مثل هذه القطعان الشاردة في هذه البرية العذراء، لتوقظ فيها كل الحجل والدم وبنات آوى.. هاجر يا بنت هارون...

جاءني الصوت غائماً هذه المرة مخنوقاً بدمع أو رغبة، أشياء بداخلي كثيرة يبعثرها صوت هذا المغني ناثراً كل أوجاعي أمامي، عبر هذا الطريق الطويل المفتوح كهالوك أمتد نحو أشجاري أكل أوراقها وامتص رحيقها وها هو يصل لقاع القلب فتستسلم له قطرات القاع الأخيرة. ماذا أقول يا أمي؟

أهمس لنفسي: وأصابع يدي تبعثر أشياء الحقيبة باحثة عن علبة الدخان كي تمسكها وتشعر بالإطمئنان.

ماذا أقول يا أمي وأنا أحس بأنفاسه تحرق أذني وتمتد الأنفاس إلى العنق ثم الكتف رغم بعد المسافة؟

ماذا أقول وأنفاسه الباحثة عني كطفل جائع يبحث عن النهم من صدر أمه..؟

أقول.. وهمس الأصوات من حولي يزيد من ثقل اللحظات فأحدق في اللاشيء؟ وأعض على شفتي كنادمة.السيارة لا زالت تأكل المسافة غير آبهة بي.

اقتربت السيارة من إحدى الاستراحات قال السائق الملتحي وهو يستدير إلى الركاب: سنتوقف قليلاً نرتاح.. ما رأيكم:

رد عليه أحد الركاب بالموافقة.

انطلقت السيارة إلى اليمين باتجاه الاستراحة. ساد صمت مؤقت واستعد الجميع للنزول توقفت السيارة نزل جميع الركاب إلا أنا وأمي.

وكمستعجلة لا تريد إضاعة الوقت أخرجت علبة الدخان وبمجرد ما لمست اللفافة شفتي شعرت براحة.. فارقتها وأنا بكامل الاستعداد للشرود معك.

كان العراء عنده كأنه يدعوني إلى استراحة في هذا الضحى وهو يمد لي أشعة الشمس كأرجوحة تحملني إلى ذرا النخيل، فيوقد فيّ ذاكرة الخراب ونزوة الطين، فأترنم صحوه بين نشوتين. فأعود إلى زمن القبائل.. والسبي.. زمن الرايات فأنكس رأسي وأعود إلى السيكارة وعيني على سبحة أمي التي تدور بين أصابعها وتدور معها أيام معرفتك.. ولقائك. فالبارحة كنا سوية واتفقنا على اللقاء ضحى هذا اليوم. جاءني صوته من جديد ينادي هاجر فبعثرني كحفنة من الرمل في الصحراء...

أنت...

وحدي.. كنت أجلس، صورتك أمامي على الطاولة.. أمسح بأصابعي على الرأس امرر أناملي على الأذن. العنق.. أتوقع قدومك..

كل ما يحيط بي هاديء كأنني في مقبرة، فنجان القهوة هو الحي الوحيد وصفحات الكتاب الذي أقرأه.. الحزن يحط على قلبي والدنيا ابنة حرام. وهاجر بنت هارون تجلس على الأريكة بجانبي. تبتسم بسخرية تشعل لفافة تبغ لي وأخرى لها.

هاجر بنت هارون.. إنك تتعبينني أكثر مما كنت أتصور.

-أنا أتعبك أيها المتعب كيف..؟

-السهر التدخين. انتظارك شرب العرق. السهر حتى الصباح.. الذهاب للفرات وشرب القهوة حتى مرارتها.

-أنت متعب قبل أن ألقاك.

-هكذا تجدينني

-أجل أنت كذلك

-سيأتي اليوم الذي التهمك فيه

-تكون وحشاً

-تكونين آخر الزاد

-وتكون أنت آخر الارتحالات في هذا البحث

مددت يدي لم تلمس سوى الفراغ.. ابتسمت بمرارة وأنا أتناول فنجان قهوة كي أرتشف منه ليعود إليّ الصمود.. واجهتني صورتكِ..

هاجر يا بنت هارون. أنادي باسمك في السماء. وفي الفرات. في قلبي فيتردد صداه غريباً. حزيناً كالماء آية الحجر والهوى كنتِ..

فأنسحب إلى الداخل مهزوماً أراقب صوت النبض الراكض في العروق. فأتوحد بك. صوتك يعيدني إلى زمن قديم.. تسرب من بين أصابعي وخلف وشماً على ساعد اليد اليسرى. مئات المرات كنت أراكِ من قبل ناحلة مثل الطرفاء. بعيون صغيرة كأنما ورثتها عن جدة مغولية وعنق افريقي. وكثيراً ما أسمع ضحكتك. أراك دائمة الحضور إلا تلك الليلة.. حين التقينا وبرز عنقك أمامي.. وعلى كتفك حقيبة ملأى بالكتب وأشياء كثيرة مبعثرة.

كنتِ قريبة مني.. وكنت قادماً جديداً إلى هنا. يومها كنت في سبات وكيف صحوت لا أعلم فكل ما أعلمه أن شيئاً ما استيقظ في...

أنا.. قبل قليل اتصلت به. كان يجلس وحيداً يقرأ. أخبرته أنني في القامشلي فلم يصدق أولاً . مؤكداً كان يشرب قهوته ويمسح الغبار عن صورتي، يفكر ويكتب لامرأة ضبطته وهو يسترق النظر إلى عنقها كل ما هو حوله نائم.

وفي الليل بعد أن يذهب كل الأصدقاء يبقى وحيداً يمسح صورتي ثم يحضر الخضار التي يحبها جانب طعامه. ويغرز زجاجة العرق بعنقي.

فالقلب العاشق. والعرق وآلام المسيح. تصبغ شعراً يليق بامرأة ناحلة غيور قلقة. وبعد أن يشرب يرى نفسه المهدي الضال الذي تبحث عنه أو هارون الرشيد قال لي يوماً وهو يحدق فيّ بعشق:

-أشعر أحياناً كأني عشت معك من قبل، فهذه الدماء التي تحملها أما أن تكون لنا وإما لاثنين يشبهاننا عاشا قبل ألفي عام.

أنا وأنتَ.

بعد منتصف الليل جاءت هاجر

عرفت أنها هي من خطاها التي تنزل الدرج، جاءت كنبيذ معتق شعرت برأسي الذي صدعته كؤوس العرق يعود لصحوته.

-هاجر صحت؟

-ومن غيرها هل أنت نائم؟

-لا- لا زلت يقظاً انتظرك

-إذاً ثمل حتى الخدر. فيّ طبعاً

-بالتاكيد

-وانا.. مشتاقة إليك

-أريد التهامك

-تلتفت إلى الباب

-ما بك؟

-خائفة

-مما

-من هذه المدينة

-لا عليك منهم... اقتربي

مد يده.. فأمسك عتمة المكان وفراغه.. أشعل الأضواء.. رأى نفسه وحيداً ينتظرها.

هي.. وهو...

كانا معاً دائماً.. يقضيان معظم وقتهما سوية...

الرجل يستيقظ باكراً.. ينتظرها على موقفهما المعتاد.. أو ينتظر خطاها أن تنزل الدرج.. أحب لأجلها أشياء كثيرة.

المرأة.. أحبته كثيراً. ولكنها تخاف من أشياء كثيرة. تعذبها حين تفكر بها مثل الغد والصدق معه، أو الوشاية لأهلها.

مساءاً خرجت المرأة من منزلها. انطلقت في نزهة على غير هدى. وحين رأته اقترب منها.. كان متلهفاً لها. اقتربا من بعضهما ومشيا سوية.

سارت إلى جانبه لم تتكلم.. تركت يدها تغفو طويلاً بين يديه -والتهمت عيناه عنقها. جلسا على مقعد خشبي في الحديقة..متقاربين.

ومع كل ذلك لم يحدثها.. أو تنظر إليه.. كانت أنفاسه تصلها...

وفي الصباح الثاني طلبت لقائه.

-أين نلتقي.!

-في كل الأمكنة

-وهناك التقيا. رجل وامرأة

سألها من أين نبدأ البحث.؟

-عند الفرات أولاً

-وكان الجسر القديم وحيداً.. جلسا مع العصافير

انزل فمه حتى أذنها وهمس

-هل وجدته..؟

-تلعثمت ثم هزت رأسها وعيناها على الفرات

-مد يده إلى وجهه كي تنظر إليه

-هز رأسه هو أيضاً وجدها

... هم. لم يكن أحد على الجسر إلا هي وهو وأنا وأنت ونحن أما هم

كانوا مشغولين بالنظر إلى سناراتهم التي ألقوها إلى الفرات منتظرين أن تهتز.

 

 

المهدي

 

        يا لمهدي...

                يالمهدي..

                        يا لمهدي...

صرخت وهي تليح بيديها العاريتين حتى الكتف لتلك الجبال العالية البعيدة فلا يرد عليها سوى الصدى بغمغمات غير مفهومة وأصوات قديمة وحزينة كحزن نفحة ناي ذلك الراعي الذي راح ينعي أرضاً وتاريخاً وعمراً وقد ضاعوا منه...

لا أثر تأتي به الريح إلا آثار حوافر حصانك يالمهدي، هذه الآثار التي لطخت شغاف القلب، وقتلت سويداءه.

يا لمهدي. تهذي ويلف صوتها غباراً وصهيلاً ومدى مفتوحاً حتى سدرة المنتهى لا عودة منه هناك تتوقف الحياة. وهناك يبدأ السفر التكوين. انتصف بك العمر يا لمهدي. وقتلك الحب كما قتل معظم رجال القبيلة، وأباح دم أطفالها ونسوتها.

هل تستطعين يا خيامهم في العراء أن تلمي أوجاعي؟ يا قبورهم وقبورهم المفتوحة هل لك أن تدفني شوقي؟

ويا دمائه التي سالت هل تكونين نهر العمر الذي جف كي أستطع أن أحيا بعيداً عنك؟ لا لمهدي.

هاجر يا أم المهدي لمي الوجع كتلة من الرصاص الأبيض، بخري فيه ذاتك الملعونة التي ورثت لعنة العشق. ضعيها مع الحرمل والماء ومرآة روحك في غربال، واسكبي النار عليها .أذيبي رصاص الحزن وأطلقيه للنهر الذي شهد عري جسدك معه. اتركي الرصاص يتشكل رسوماً سورياليه- ثم كمنجم فسري رموزها . وأعيديها للنهر الذي لا زالت جدتك تجلس عنده تنتظر عودة زوجها الذي ذهب مع بعض الرجال للحرب هناك على تلك الجبال العالية البعيدة وقراره بالذهاب للحرب هو ما جعل والد جدتك يمانع زواجها رغم قراءة الفاتحة مع أخيه إلا أن جدك أصر على الزواج ولو خطفا. ووافقته جدتك القرار ولأنها كانت تحبه هربت معه. إلى البرية البعيدة استلقيا. الوسادة حجرة صغيرة والأرض كلها فراشهما. والله شاهد على زواجهما والنجوم كانت أضواء العرس والقمر خسف نفسه خجلاً من عري الجسدين.

ذهب جدي للحرب، وبقيت جدتي تنتظره، لا تستطيع العودة لأخوتها ولا تطيق مفارقة خيمتها، عل زوجها يعود.

حين شبت أمي. تزوجها ابن عمها القادم من الديار البعيدة في تلك الجبال المنتشرة على الأرض الواسعة- لا يملك أرضاً ولكنه تزوجها لأنه ابن عمها -وحضرت أمي مع أبي إلى قبيلتنا. كان والدي قاضياً للعشيرة -واستقر الأمر بهما بين الأعمام، أما أخوالي فما زلت أراهم يرتدون الشماخ ويدخنون ينتقلون على أقدامهم من وادي إلى الآخر ومن جبل إلى أبعد، هناك على السفوح الخضراء يحاربون يجوعون يخرجون الرصاص من أجسادهم بطرف خناجرهم التي تزين خواصرهم ويشربون الأسود ويستدفئون بالحطب ينتظرون كل ليلة أن يعود أباهم منتصراً أو حتى مهزوماً.

وكبرت وحدي في العشيرة، ويوم انتصف بي العمر، أجلستني أمي وسط الخيمة، نشرت شعري على جسدي، أحضرت الرصاص والحرمل كي ترقيني وتبعد العشق عن روحي، ثم جلست بعدها تخرج الرصاص من الماء، وتحدق به وتفسر أشكاله.

كنت أنت أيها الموشوم تعتلي حصانك، هكذا نطق، وصنعت من الحرمل رقية علقتها بصدري، فلعنة العشق نصاب بها في منتصف العمر، وأنا قد تخطيته حتى ضاعفته، فقد بدأت أخرج للبراري مع الأغنام وحدي، أمشط شعري وحدي أغني بصوت عالٍ لا خوالي في تلك الجبال وحدي.معي حزن لناي فقد فم صاحبه ولا زال يغني، يزورني كل ليلة في الثالثة ودقائق طير وحيد يغرد لي قليلاً ثم أنام، ويرحل عني، وحين أستيقظ صباحاً لا أجده، فأذهب للنهر أدخله حتى يغطي نصف جسدي، فأبدأ بالتعري، يبحر شعري مع مياهه وشوقي وأغاني الحزينة.إنني لم أشعر بخطاك ولا بحوافر الحصان على الحصى القريبة مني، ولا بقامتك الضخمة خلفي. شعرت بنفسي -أنا أدير رأسي وشعري وعنقي على صدرك، يداك على رمانتي كتفي، التفت إليك كانت عيونك زرقاء صافية وذقنك الكثة- وابتسامتك الحزينة المفارقة، وقفت كي استر عري جسدك فرفعت عيونك إلى وجهي، ويداي، وعيناي على زنديك امرر أصابعي على كتفك الأيسر الموشوم برسوم، وطلاسم جميلة وغريبة، وارتمى شوقاً بقلبي -فمنذ أن انتصف بي العمر، وأنا أشعر بتغريد طائر الليل بقلبي. لامست شفتاي وجهك. ذقنك لامست شيئاً حار الأنفاس. وأعلم أنني قبلتك، وأعلم أنني ابتلعت شيئاً ما مع اللعاب لكن لم أعلم كيف تسللت من يدي، وأنا أندس في مياه النهر، أتحاشى سهامهم عليك، وعلي. عيني على فرسك كيف امتطيته، وابتعدت. دثرني أحد رجال العشيرة بعباءته واقتادوني إلى خيمة أبي- الذي لم يصدق ما قيل عن ابنته، والغريب رغم أنهم اكدوا له أن مياه النهر صبغت حمراء من دمائك التي سالت لكن بعد أيام، أكد رجال الضفة الأخرى أنك أتيتهم سابحاً. أرادوا إثبات عذريتي، لم يعلموا أن بكارتي فضت بلعابك، أحضروا امرأة مسنة أدخلها أحد الرجال خيمة أمي. وانتظروا خارجاً كي تلوح لهم المرأة من باب الخيمة بأصابعها الملوثة بدمي، ومع كل صراخي وأوجاعي ظل بعضهم لا يصدق حتى خروج المرأة بأصابعها المدماة، إنني عذراء. لم يطق بعدها والدي البقاء في القبيلة، فقرر الخروج ليلاً من الخيمة وحدنا، نحمل بعض الثياب صرراً صغيرة وانطلقنا مشياً أنا وأمي وأبي مع أخوتي الصغار الذين حملناهم على ظهورنا وهكذا تملكنا العراء كما تملكت تلك الجبال البعيدة أهل أمي، رافقنا صديق لوالدي، رجل يقارب عمره وأكثر قليلاً. هذا الرجل الذي رضي أن يكون أبا لك يا لمهدي أمام الناس، رغم أنه كان يعلم بقصتي كلها، كنت أمشي يرافقني. صرت طائر الحزين وناي ذلك الراعي. أتلفت، أبكي خيماً باتت تأوي الفراغ ويأويها العراء. أبكي أمشاطي. زينتي. كم صعب أن تترك الأرض. وأنت مجبر راضخ هنا خيمتي أرضى النهر. وهنا أيضاً فضيحتي.. العار الذي سيرافقني حتى نعشي.. مسحت الدمع، والتحقت بقافلة أهلي المهزومين. وشبكت عشراً على رأسي ومشيت أتلمس دربي الجديد. استقرت أمورنا بعد فترة من الترحال- وقبل أن تخلق قرر رفيق والدي أن يعقد قراني عليه ليبقى قريباً منا، فقد توفي جدك، لم يبق لنا أحد غير والدك المسن فوالدي لم يحتمل وزر ابتعادنا عن أرضنا. ووزر فعلتك أيها الموشوم. فمات أبي ليلاً. مات صامتاً كما كان دائماً منذ لحظة مغادرتنا الخيمة وأتيت أنت يا لمهدي. عارياً صامتاً، تحدق إليَّ موشوماً برسوم غريبة. بعدها قرر الرجل المسن أن نعود إلى العشيرة. عدنا وأنت على يدي طفل بعيون زرق. قالت أمي إنها تشبه عيون والدها. وصدقتها لأنني لم أره وقالت: إن قامتك تشبه قامة أحد أخوالي. وقد رأيته حين زرنا جدتي مرة. هذه المرأة، المكابرة الصابرة المنتظرة رأيتها مرة واحدة فقط حين كنت طفلة.

وحين ودعتها مسدت شعري وقالت: إن تزوجت وأنجبت طفلاً اسميه المهدي. هذه أمانتي لك. فكنت كلما اختلي بنفسي، أبكي وصية جدتي وأنظر إلى علو بطني، وأتذكر النهر، عري جسدي، وغنائي، وأذكر كيف لامستني شفاه حارة فاضم نفسي بنفسي وأضع يديَّ على كتفي بشوق. أحضن روحي وأتذكرك أيها الموشوم. وأنتظر المهدي كما تنتظر جدتي عودة زوجها لتكون أنت يا لمهدي موشوماً بوشم لا أحد يعلمه، إلا الذي يحمله على كتفه الأيسر. وكبرت يا لمهدي انتصف بك العمر، أصبحت شاباً قوياً وعليك أن تبحث عن أبيك في الضفة الأخرى من النهر على تلك الجبال في القرى والمدن البعيدة منها والقريبة وحدك يالمهدي تعرف أباك ووحدك تعلم حقيقة خلقك عذباً أنت ورطباً كاللعاب الذي خلقت منه يا لمهدي.

-من أي الاتجاهات أبدأ يا أمي؟

-من الدرب الذي تختاره حوافر حصانك يا لمهدي

-سأبدأ من جهة الخيمة البعيدة تلك خيمة الصوفي

واتجهت إليك أيها الغريب لتقرأ علي بعضاً من الحكمة. وتحرق على رأسي حرملك البري وتبخرني بالعطر الذي تعبق به ثيابك، وخيمتك.

-عد يا لمهدي ستتعب

-لم لا تشجعني أيها الصوفي

ستتعب حوافر الخيل. وتعطش وتكل أقدامك المسافات وستعود المهدي الذي لم يهتدِ

ولم أرد عليك. قلت رجل مسن. اتجهت إلى كل الاتجاهات مررت بكل الدروب، دخلت المدن من أبوابها الصغيرة والكبيرة. شربت منك يا فرات واغتسلت مع حصاني بك مراراً يا فرات، ولم تهدني ولم تمح الوشم من أكتافي. تعبت كثيراً يا هاجر، وعدت إليك ليلاً لتأويني خيمتك، لتدواي بحزنك أوجاع رأسي لتقفليه بمفتاح السر. رأسي متعب هاجر، وأريدك أنت أن تقفليه فقفل الجهات نثره. شتته. عدت إليك ورماح الخيبة والإنكسار والحزن تسيل دماء جسدي، دخلت خيمتك ليلاً لتأويني وأتوسد ذراعك، وأنت تحكين لي عن أب موشوم، رجلاً كان لم يأبه برماح الرجال، شهد عري جسدك، ولم ينظر إليه- قبلك وأنت عارية في النهر- زرع بلعابه شوقا فيك لطفل يشبهه، لرجل قادم يبحث عنه حين ينتصف العمر، وتقتله رماح البحث- ونمت ليلتها -أنا أحلم بك يا أبي الموشوم..

                يا لمهدي..

                        يا لمهدي...

                                يا لمهدي...

استيقظت جدتك يا هاجر على صراخك في تلك الجبال البعيدة النائمة، تفتحت ورود شقائق النعمان قبل الفجر. على صوت الناي البعيد والطائر الحزين. ضاعت كل الأجراس.. تبعثرت الأغنام.. جفلت كل الخيول صبّت على عيونها غباراً بل رماداً لنار كانت في تلك الأودية لرجال يصنعون الشاي الأسود عليها. مات المهدي ولم يهتد لأبيه، تجمع رجال العشيرة في خيمة هاجر، يحاولون إغماض عينيه الزرقاوين، وتضميد جراح الرماح في أقدامه، وظهره.

أحضروا الصوفي كي يفلسه. ويكمل طقوس غسل الميت، وأتيت أنا الصوفي. بدأت أنزع الثياب الملطخة بالدم عن جسدك الغض، عريت جذعك لامست عيوني أشواك البرية تقدح.

تلمست بيدي الوشم على كتفيك

-ماهذا؟ وتلفتت للرجال المحيطين بك يا لمهدي

-هذه وحمة

-لا بل إنها وشم

-إنها وحمة. هكذا أكد أبوه وأمه. وهكذا يؤكد لك كتفاه.

-وأين رأت أمه الوشم حتى تتوحمه بهذه الدقة؟

-رأته على كتف رجل غريب. التفت إلى الرجل كي أسمع إجابة تشبع نهمي لكن كيف لرجل متصوف مثلي أن يقرأ الوجوه ويستنطق الألسنة التي هاجرت لغتها. رميت من يدي ثيابك على الأرض التي تشرب دماءك يا لمهدي.. وخرجت إلى كل الجهات استنطقها.. مضى علي زمن وأنا ابحث عنك يا بني.. وأمضيت عمرك تبحث عني يا لمهدي فلم أسمع الأصوات. هاجر.. صوتك الذي صدع كل تلك الجبال العالية الخضراء.. واطفأ نيرانها العالية علها ترد عليك.

                يالمهدي...

                        يا لمهدي...

                                يا لمهدي...

 

 

قصور البنات

 

 

لأعترف قبل كل شيء.. أنني انثى عنيدة، وشاحبة كأوراق الكتب القديمة. عاشرت أصابعي الحبر طويلاً وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن هدف غامض ورجل غامض، ربما اسمه المهدي، وربما هارون الرشيد. وإذا أردت أن أخفف عنكم، أقول أنا أنثى مسحورة بأشياء كثيرة، ومسكونة بامرأة تشبهني أستطيع أن أبوح بأنها امرأة غريبة مخيفة. وقد تكون قد عاشت من قبل. تدخن النرجيلة في المساء، وفي الليل تزحف فوق المخمل، تتلمس بأصابعها أعشابه السرية السوداء وتنتظر أمطاره السماوية.

قلت لكم بأنني مسحورة بأشياء كثيرة ومسكونة بأكثر منها. قد يثير ذلك لديكم الدهشة لتفاهته وقلة اكتراث الآخرين به. كزمرة دمي، لا شيء إلا لأنها سلبية، ونادرة لذا اعتبرتها مقدسة فقد قال لي صديقي الطبيب الذي يعرف جنوني واهوائي يوماً:

-زمرة دمك زرقاء وهذا يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدرت إليك؟

-لا أعلم.. قهقهت بصوتي.. فنصف عائلتي مجانين.

-والنصف الثاني؟

على وشك الجنون

تذكري من أين جاءك النبل..؟

أنا مختلطة الدماء، فربما جاءتني من جدة بعيدة جاؤوا بها سبية من القفقاس.

-وربما

من جسد لي جاء من أرمينيا يبحث عن أقاربه، ربما كنت أميرة عباسية من سلالة الرشيد دمها ممزوج من كل عروق البلاد المفتوحة، وربما أكون بر مكية من جعفر أو الفضل.

-أتحبين التاريخ إلى هذا الحد؟!

-وأكثر

-من هنا يأتي الجنون

-أو الحكمة

وضحكنا أنا وصديقي الطبيب، وهكذا كنت أحمل دماً أزرق، أحرص على اللعب به دون اعتبار أو خوف من الآخرين، فقبل سنوات بعيدة جاءت عائلتي إلى هنا وسكنت العائلة في بيت متواضع ظهره إلى سور المدينة العتيق، وإذا أردت التحديد اطل من سور المدينة التي بناها المنصور على شكل بغداد صغرى. كان ابي موظفاً صغيراً، وأمي امرأة حالمة، لا ترى في العالم سوى بيتها وأسرتها. قد تجلس أحياناً على باب البيت مع بعض الجارات.

أما أنا فقد كنت مبهورة بكل شيء، العشب البري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة المنازل الترابية والتل الذي يقف شامخاً أمام بيتنا حيث كنت أقضي وقتاً في جني باقة من أزهاره البرية، كنت مبهورة باحجار القرميد الضاربة إلى الحمرة أو الصغيرة وبالناس الذين يحبون شرب الشاي، والدخان، مبهورة بالمساحات الواسعة للبيوت لأن التل لم يكن تلاً من تراب فحسب، وإنما يتوجه من الأعلى، ما بقي من  إطلال بناء ما زالت بعض أوابده تتحدى الزمن، وفصول السنة، وتعديات الأهالي. في أحد الأيام.. سألت جارنا العجوز الذي كان يجلس كل يوم عصراً إلى جانبه وهو يدخن النرجيلة ويشرب الشاي ويسعل متأملاً كل ما حوله بمتعة واهتمام، هذا العجوز الذي علمني كيف أمسك خرطوم النرجيلة وأقرقع بالمياه واسحب منها حتى يضيق صدري فانفث الدخان مرة بعد أخرى بدأت أشاركه الشاي والنرجيلة ونتحدث...

أهذا البناء قديم يا عمي...؟

-ايه يا ابنتي قديم قبل أن أخلق...؟

-أوه يا عمي فهو قديم جداً.

-ضحك وهو يأخذ مني خرطوم النرجيلة....

-خربوه.. نهبوا حجارته، وبنو منازلهم الوضيعة التي أمامنا هذه..

-وماذا كانوا يسمونه؟ يا عمي؟

- يسمونه.. وهز برأسه- قصور البنات.

- وأي بنات يا عمي؟

بنات هرون الرشيد.. ويقولون يا ابنتي إن خزائن الرشيد مدفونة فيه.

قالها ثم بدأ السعال الذي لا ينتهي منه عادة إلا بذرف الدموع.. وناولني خرطوم النرجيلة. هذا الرجل المسن، كان يعاملني كشابة كبيرة، يستفقدني إذا غبت عنه يحكي لي عن هرون الرشيد، وعن الرقة وسكانها الأصليين وعن الوافدين وعن بيوتها القديمة، وكيف ساهم في بناء الجسر العتيق، هذا الجسر الذي عتقوه لكثرة ما أطلقوا عليه الجسر العتيق، رغم أني وجارنا العجوز ما زلنا نراه الأجمل.. حين نخرج إليه صباحاً وحين نتعب نجلس على رصيفه وكأننا في قارب والمياه الخضراء السريعة تمر من تحتنا... هذا الجسر الرائع، الذي كان أول جسر للعالم الثاني، فلولاه لبقيت الرقة بقعة مجهولة.. وعليه مر الآلاف من البشر قادمين ومغادرين.

رفع جارنا العجوز يديه قائلاً: بيدي هاتين نقلت إليه الحديد.. والاسمنت. تركت له متابعة الحديث، وانسحبت إلى الطرف الاخر من الحارة أراقب التل والحجارة، والعشب، وقد رسمت في عينيَّ صور بنات الرشيد وسط الجواري والوصيفات، ينتقلن من غرفة إلى غرفة، عبر الردهات، والسراديب، ورائحة العطر تعبق من أردانهن وعند حافة البركة تقف امرأة تشبهني تجلس على طرف البركة، تلهو بأقدامها التي تزينها رسوم الحناء، تلعب بمياه البركة، ويداها تعبثان بسلسلة في أسفلها معلق قلب فارغ. ومرت الأيام ونشبت بيني وبين تلك الأطلال علاقة قوية. فأنا أجلس هناك أتلمس الأحجار أرى الأقواس والنوافذ التي لا زالت عامرة... وأحياناً أسمع همسات الجواري.. ضحكاتهن وأشم عطراً غامضاً يهب من فتحة الحمام محملة بتنهيدات حارة اصغي إليها.

في يوم من الأيام جاء رجال غامضون وقفوا فوق التل يستعرضونه. رجال شقر شباب وكهول يلبسون لباساً يختلف عن لباس رجال مدينتي... يتحدثون بكلمات لا أفهمها، وقد أصابت الدهشة معظم الجوار.. إلا صديقي العجوز الذي قال بلهجة عادية: سواح.. إنهم سواح أجانب قليلاً ويرحلون لكن الرجال عادوا في اليوم التالي. بنوا خياماً في الساحة المجاورة لمنزلنا، وبدؤوا يفردون أوراقهم، وخرائطهم كان الوقت صيفاً... يدققون في الخطوط والأشكال يقيسون المسافات يضحكون أو يعبسون.. وبعد أيام استأجروا عمالاً، وبدؤا بالحفر وترحيل الأتربة وبدأت تتكشف معالم جديدة لقصري، ردهات طويلة جدران.. دهاليز وغرف.. والرجال الشقر يتابعون عملهم بهمة عالية، وتصميم دون اعتبار للحر، أو التعب، وقد علمت أنهم بعثه المانية مهتمه بالآثار الإسلامية، جاءت للتنقيب في هذا التل. ويوماً بعد يوم، ألف الأهالي وجود الرجال الشقر بينهم أما أنا فكنت أراقب ما يجري بمتعة وخوف.. وفي أحد الأيام اقترب مني أحد الرجال الشقر... كثيراً أما كنت أقف بجانبه أعطيه ماءاً أو أناوله ازميلاً صغيراً يشير إليه في الحقيبة المفتوحة.. أو ابتسم له، فيرد علي. إنه "جون" هذا الشاب الجميل أشقر الشعر.. عيناه زرقاوان.. أسنانه كانت تثير في الابتسامة، فإذا ما فتح شفتيه كنت أسترق النظر إليها.. كان يتردد كثيراً إلى بيتنا.. تعلمت منه بعض الكلمات بينما هو التقط بعض المفردات العربية التي ينطق بها أحياناً لكثرة ما تجول في بلدي. اقترب مني.. جلس بجانبي على الأرض، ورفع طاقية حمراء كتب عليها باحرف ألمانية كبيرة، اسم الشركة التي يعمل بها.. وضعها على رأسي مما شجعني كي أقترب منه، وأسأله:

-هل وجدتم شيئاً؟

-ضحك وقال: أوه... شيء.. أشياء كثيرة.

-وأين هي؟

-ألا ترينها أمامك؟! إنها ثروة كبيرة.

-كنت أريد الوصول إلى ما يشغلني كي أستعيد صورة هرون فسألته:

صحيح ما يقال عن هذا البناء؟

-وماذا يقال؟

-إنه كان قصراً لبنات الرشيد وفيه كنوزه مخبأة.

-ضحك هذه المرة "جون" ضحكة صاخبة ومديده إلى رأسي، كي يبعثر شعري ثم قال:

-هذا كلام صحيح، إنما غير دقيق.

- وأنت ماذا ترى؟ أقصد البعثة...

- حتى الآن نستطيع أن نقول: إن هذا البناء ربما يكون. وهذا غير أكيد قصراً لأحد أثرياء تجار الرقيق.. كان يستخدمه لطالبي اللهو، والمتعة أو اللذين يريدون شراء الجواري النادرات.. إنه يعد بمثابة دار،أو  معهد لتعليم الموسيقا.. الرقص الأدب.. الغناء.. ضاقت عيناي، وتقطب حاجباي حين انهى "جون" جملته الأخيرة.. فذهبت إلى منزلنا. جلست في الغرفة.. أحسست بأشيائك الكثيرة يا هرون تغادرني.. هززت كل ما لدي من قناعات وأحلام. تراجعت إلى الوراء كثيراً.. أصبحت وحيدة وسط فراغ قاتل.

أهكذا يتحول رشيدي إلى نخاس يتاجر بالرقيق الأبيض. أهكذا يتحول قصره إلى مجرد دار لطالبي المتعة واللهو ولذة الجواري..

صرخت بنفسي كملتاعة.. مهزومة.. منكسه.

لم أصدق كل ما قاله جون.. كنت أتابع حفرياتهم، وأنا أتمنى أن يظهر ما يبدد أوهامي وكل يوم كنت أصادف مندوب مديرية الآثار، فأسأله:

-ألم يجدوا جديداً

-كل يوم نجد شيئاً جديداً.

وما هي وظيفة هذا البناء؟

وماذا يهمك أنت من وظيفة البناء؟!

أريد أن أعرف، هل كان حقاً داراً لطالبي المتعة واللهو؟

وهل تكرهين هذا..؟

-لا بل أكره أن يكون هرون من النخاسين

- عسى أن يحقق الله حلمك، فنجد ما يقلب توقعاتنا.. ولا يكون البناء داراً للمتعة.

مرّ أكثر من شهر وأنا أترقب الجديد.. وأتابع معهم الحفريات وأسمع نقاشهم وتحليل الحروف ومقارنتها.

واتى جون لمنزلنا راكضاً يناديني بعربيته المكسرة.

- تعالي لك خبر سار عندي.

- ما هو هل رأيتم رشيدي؟!

-لا لا.. اكتشفنا شيئاً جديداً سيفرحك.

-ما هو...؟

قادني من يدي حتى أدخلني البناء وأشار إلى عمودٍ عليه كلمات لم أعرف  ماهي؟ وأحرفها غريبة.

التفت إلى "جون" متسائلة:

-إنه عمود عليه شعار المؤسسة التي ينتمي إليها البناء "ووظيفته التي تهمك.

- ما هي؟

لقد كان البناء مشفى، فالشعار الذي على العمود يؤكد ذلك، فلقد رأينا مثله في دمشق.

-مشفى؟! قلتها بفرح واستغراب.

-نعم مشفى للمجانين.. فالبناء هو "بيمارستان" هكذا تقول الأحرف التي على العمود.

-بيمارستان؟!

ركضت إلى التل الذي ما يزال يطل على البناء.. هناك تربعت على الأرض.. انظر إلى البناء. فما زالت البركة تتوسطه، بينما الجواري تدخل إلى غرفه، وتخرج من دهاليزه.. ورجال.. وعبيد كثر، وقوافل تغادر وأخرى تحط أمتعتها وتدخل لترتاح فيه وتخرج. ضحكات من الممرات وأبخرة الحمام تصعد غيوماً فوق رأسي.. وتصل إلى أنفي رائحة عطور قريبة من نفسي... ولا زالت تلك المرأة التي تشبهني تجلس على طرف البركة وقدماها المزينتان بالحناء.. في الماء، بينما يداها تلهوان بسلسلة معلقة بعنقها تنتهي بقلب فارغ، وطاقية جون الحمراء لا زالت على رأسي.. ألم أقل لكم إنني أنثى مجنونة...؟ مسكونة؟ مسحورة؟ ما زالت تنتظر المهدي، أو هارون الرشيد، كي يملأ فراغ ذاك القلب المعلق بسلسلة تلك الجارية المضمخة بالحناء من رأسها حتى قدميها.

 

أضيفت في 25/11/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية