جميع الشخصيات والأسماء الواردة في هذه الحكاية الوهمية، وهمية
تماماً. ... ولا علاقة لها بالواقع إطلاقا......
الإهداء: إلى ثناء سليمان: صديقتي التي احتملت الكثير، حتى انتهى هذا العمل.
شكراً لك
مدخل
1ـ اســـتطراد:
.. كذلك فإن لها كفاً سريعة الحركة، مرنة، طرية كأنها كف معلم الفيزياء الرقيق
الذي كان يحمل قطعة الطباشير بين إبهامه وسبّابته ليكتب على السبورة فيبدو كأنه
يحمل قلم أحمر الشفاه. كانت كفه الناعمة تربّت على أكتافنا حين نفلح وتصفع
خدودنا حين نتلعثم.
لكن كفها، التي كانت أصابعها تتوغل بين خصلات شعري ثم تجزّها، فتشعرني بطعم
عذابٍ لذيذ، وما أكاد أنسى مرضي الصدري لحظة، حتى تنقض محمومة على شفتي السفلى
كأنها تريد تمزيقها، ثم تعود لتدخل تحت قميصي، وفجأةً، يتوقف كل شيءً، تنهمر
دموعها، ويطغى البكاء والنحيب على المشهد كلّه، تنتاب صوتها بحة مثيرة، وتبدأ
بالتأفف من سواد العالم ولا معقوليته.
2ـ اســتطراد:
وأما سرّتها، فهي تجعلني أتصببّ عرقاً، إنها تشبه إلى حد ما، ذلك النبع الذي
شاهدته مرة فأصابتني قشعريرة، حين رأيت الماء يتدفق، ورأيت، البشر يمدون رقابهم
كالنياق، فيلعقون الماء البارد الصافي بألسنتهم، وقد يتساءل سائل: كيف يمكن أن
تخرج المياه من سرتها؟ في الحقيقة وكي لاأكون مبالغاً، فإني لم ألاحظ أن ثمة
تدفقاً أو ماء يخرج من سرّتها، إنما تموضع تلك الحفرة الصغيرة المرسومة بعناية
أسفل بطنها جعلني أقسم أن الآلهة، والتي توافقني الرأي على أن المرأة أرضٌ،
شاءت أن تكون هذه الحفرة الصغيرة، والتي انقطعت منذ خروجها من رحم أمها، نبعاً
تفيض منه مياه ما..
3ـ استطراد:
وصولاً إلى صدرها، ينتشر زغب أشقر يُحيل أي وهم في رأسي إلى حقيقة دامغة، وهي
أنني في طريقي إلى نهدين صغيرين، لمّا يرضعا بعدُ، لكنني أتوقف، لأن تلك الشامة
الهادئة أسفل نهدها الأيمن، تكاد تصرخ معلنة وجودها، وسأحكي عما أفكر به
حينها..
في الحقيقة لاأتذكر هذه القصة إلا نادراً، وأكثر ما كان يحرك مخيلتي لتذكرها هو
الشامة التي على خد المطربة سميرة توفيق، وكان هذا أيام مراهقتي، فقد كنت كلما
شاهدت سميرة توفيق على التلفاز تذكرت قصتي، إلى أن أخبرني أحد أصدقائي أن شامة
سميرة توفيق صناعيةٌ، فغضبت غضباً شديداً، وقررت مقاطعة تلك المطربة الجميلة
والامتناع عن سماعها، المهم قصتي كالتالي: جاءت أمي مرة حاملة بيدها صحناً
مليئاً بالعدس، وقالت: خذ نق العدس للشوربة. بدأت أنتقي حبات الشعير والقمح
والحجارة الصغيرة المتناثرة بين حبات العدس الصفراء. كان صوت أنين ماينبعث، لم
أحفل به، ظننت قطتنا تئن تحت وطأة هر الجيران الذي لايكف عن ملاحقتها، فوجدت
بين الحبات حبة غريبة الشكل، تلمع محدثة بريقاً خاصاً. أمسكتها ورفعتها إلى
الأعلى، كانت بنية اللون، بيضوية ملساء، دفعني شيء داخلي إلى تأملها. وتفحصها.
ثم قررت بعد طول تأمل، ثقب الحبة الغريبة، والاحتفاظ بها. بعد أيام من النسيان،
أمسكت الإبرة، وأخرجت الحبة من جيبي وحاولت ثقبها، لكنها انزلقت، حاولت معها من
كل الجهات، لكنني لم أفلح لأن انزلاقها كان يدفعني للبحث عنها تحت الطاولة أو
تحت السرير، بعد جهد وعناء لم تنجح محاولاتي، فوضعتها في جيبي، وتركتها بلا ثقب
ثم استلقيت على السرير، اندفع صوت الأنين الذي ظننته أنين قطتنا، فلم أكترث،
وفوجئت بالحبة الغريبة تخرج من جيبي وتقف أمامي، تكبر، وتكبر، حتى ملأت الغرفة
تماماً، ارتعشت وكاد قلبي أن يتوقف، صار العرق يتصبب من جبيني ويملأ مؤخرتي.
ولم أعد أستطيع التنفس، خرج منها صوت يشبه فحيح الأفعى، وضحكت ضحكة قوية كضحكة
أبي تماماً وعم هدوء غريب، حتى تخيلت أنني فارقت الحياة، لكنها تكلمت وكان
صوتها شهوانياً ممتعاً، قالت: وإذا أردت اصطياد السمك فضع قدميك في المقلاة.
وانقر على الدف، ثم اجلس في أحضان إمرأة تشبهني تماماً، ولاتخبرها شيئاً، دعها
ترقص وغن لها ساعتها ستجد السمك يندفع إليك تلقائياً.
بعد هذا هربني أبي من مدينتنا وقال: كن صياداً ماهراً، واتبع من يجعلك تبكي ولا
تتبع الضاحكين.
وبعدها أيضاً قررت التوقف عن الرقص كلما عدت إلى بيتي ثملاً، وأما شامتها، فقد
صارت بالنسبة لي، حبة غريبة، وهي التي ستدفعني إلى أمرين اثنين لاثالث لهما،
أولهما أن أخرج حبتي الغريبة من مخبئها بعد حبس دام سنوات، وأحاول ثقبها مرة
أخرى وثانيهما أن أبدأ البحث عن السمك.
4ـ استطراد أخير:
سأتحدث الآن عن شفتيها الملتهبتين. وكلي ثقة أن أحداً ما سيمارس القمع على هذه
التصريحات، وسيعتبرها غريبة و.. مملة.
شفتاها شبيهتان بأحد الزوارق الفراتية المصنوعة من جذوع النخيل المطلية
بالاسفلت، والذي يطلق عليه في جنوب العراق اسم المشحوف، ويسمى في مناطقنا البلم
وهو غير موجود في بقية المناطق السورية وقد أخبرني أحد أصدقائي أن دلتا النيل
في مصر تستخدم هذا النوع من الزوارق، وذكر أحدهم في كتاب له عن التجارة
المائية، أن قبائل المهربين في السودان تصنع زوارقها كما يصنع المشحوف، وأما
سبب طلاء هذه الزوارق بالاسفلت فهو لمنع تسرب الماء إلى داخل الزورق.
قلت: إن شفتيها شبيهتان بالمشحوف أو البلم ولي قصة مثيرة مع البلم:
فمنذ مايقارب العشرين عاماً جاء إلى مدينتنا الآلوسي حفيد الجان، الساحر
العظيم، المتزوج من ابنة الشيطان، فحل في المدينة، وذاع نبأ وصوله في الامصار،
فتوافدت الوفود لرؤيته، وكثرت أعداد البلام القادمة إلى مدينتنا حاملة الناس،
فضجت ضفة الفرات بها.
اتفقنا يوسف وأنا على سرقة بلم وعبور الفرات إلى الضفة الأخرى، حيث ينتشر
البطيخ الأحمر الحلو، ناورنا وحاورنا حتى عثرنا على فريستنا، كانت بلما أنيقاً
خمنت أنا شخصياً، بأنه لأحد المسؤولين، وحينما أخبرت يوسف بتخميني، ضحك وضرب
عصا التجذيف بقوة في الماء، ثم قال: المسؤولون لايركبون البلام انهم يركبون
اليخوت وراح يوسف يشرح لي ماذا تعني اليخوت، ومن يمكن أن يراها. اندفع بلمنا
يشق صدر الماء. ولم تعد جهتنا محددة، فقد هبت عاصفة أبعدتنا عن مسارنا، وأقبل
العجاج من بعيد، فتهنا.
قبيل الغروب، فوجئنا بالمطر ينهمر غزيراً، ولم يعد بإمكاننا رؤية شيء، باستثناء
أضواء مدينة بعيدة عنا، وكانت لسوء حظنا عكس التيار. استمر بلمنا مندفعاً بلا
هدف حتى ارتطم أخيراً بصخور. كان المطر قد توقف، والبلم هدأ اضطرابه، أخرج يوسف
الولاعة من جيبه، وأضاء ليرى ماحدث، لاحت الضفة قريبة جداً، وما علينا سوى
مغادرة بلمنا، والسير في الماء قليلاً كي نبلغ اليابسة، حين وطأت أقدامنا
الأرض، شعرت باللزوجة، تملأ جزمتي، كان الطين البارد يعانق قدميّ، جعلني هذا
الدبق الشهيّ أغني، أسكتني يوسف بإشارة من يده، سكتَ، ولحقت به. كانت الرؤية
متعذرة، وأصوات البوم تبعث الرعب، ارتفع أمامنا شجر كثيف، ونقت ضفادع من هنا
وهناك، تقدمنا بين الجذوع الضخمة، حتى وصلنا إلى مكان مليء بأشجار التفاح،
ميزها لنا ثمرها القريب من رؤوسنا، صرنا نقطف حبات التفاح ونلتهمها بشراهة قد
هدنا الجوع واستشرى بنا التعب، غالبنا النعاس، فبحثنا عن مخبأ لجسدينا
المنهكين، لم نجد آمن من النوم متكئين على جذوع الأشجار الضخمة. كان الفجر حين
استيقظا، قد بدأ يوزع خيوط صحوه على رؤوس الأشجار الضخمة، كانت نخيلاً شاهقاً
سمعنا أصوات فلاحين يهبطون الطريق المؤدية إلى النهر راقبناهم، حميرهم تتراكض
محدثة ضوضاء مثيرة، لم يخطر في بالي أبداً أن مراقبة الحمير سوف تكون ممتعة لي
يوماً ما، اختبأنا خلف شجرة جوز عملاقة، وصرنا نتهامس، كان الفلاحون يتكلمون
على عاصفة الأمس وأثرها السيء على الكوسا والخيار.
قالت امرأة: وفوق كل هذا جاء المطر، مطر الصيف لعنة، قال رجل: شيء يحرق القلب.
ومضوا، وجاء غيرهم، وكان الحديث نفس الحديث. حين ابتدأ عملهم، قررنا يوسف وأنا
الخروج والسير إلى وسط المدينة، غادرنا مخبأنا وسرنا على الطريق، لكزني يوسف
وقال: أشعر بأننا في مكان بعيد، قلت: وأنا كذلك فوجئنا بفلاحين يتجهان نحونا،
لم يعد بإمكاننا الهروب، لأنهما شاهدانا، تقدم الفلاحان ببطء، كنا نتعثر في
مشيتنا قلت ليوسف: سنطلب منهما المساعدة، الفلاحون طيبون. اقتربا ثم قالا
السلام عليكم. وتابعا مسيرهما.
كاد عقلي أن يطير حين أدركت أننا لم نغادر مدينتنا. احتضنني يوسف وصرنا نرقص
ونغني كالمجانين.
عدت إلى البيت وقد أثقلني إعياء الرحلة، كان أهلي قد استيقظوا من نومهم، قالت
أمي: أين كنت، فلم أجبها اندسستُ في سريري، وحينما استيقظت، أخبرت همام بالقصة
كلها، فضحك، وقال لي: لابد أنك كنت تحلم...
5ـ فاصلة:
كان بإمكاني، طبعاً، أن أصوغ حكايتي عما حدثتكم به عن قصتنا يوسف وأنا مع البلم
ولكن مثل هذه القصة كانت ستصير مملة، لأنني لاأستطيع أن أكون روبنسون كروزو
جديداً فما أستطيع فعله لايقارن بما فعله ذلك المغامر المشهور.
6ـ تنويه:
وتقضي الأمانة الأدبية بأن أعترف بأنني ربما كنت أحلم أو أهذي حين رأيت هذه
الحكاية وسجلتها، شعرت حين ابتدأت بالكتابة بأن ثمة خللاً ما، وعندما انتهيت
أدركت بأن ما حاولت قوله ونقله لم أنقله ولم أقله، لأن الخيال غلبني فانصرفت عن
حكايتي التي لم تكن وهمية إلى هذه الحكاية الوهمية التي يمكن أن تكون وقعت أو
أنها ستقع. أو...
الفصل الأول
الحركة الأولى:
ـ وكان كالخناق، يغلق المعابر، يطفئ الأضواء، ثم يبدأ تعزيمه لإخراج مافسد من
الروح.
ـ وكان شللاً نصفياً، العقل جامد في حضرته، والبدن مقيد بأرض مقيتة، وعالم فان،
لايشبه سوى الماخور.
ـ وكان، في مرات عديدة، ينهض فيقرأ آيات من القرآن، ويعود ليجلس ساكناً، ثم
يهبط بوجهه على الأرض، يدعو الله أن يغفر الخطأ الذي يرتكبه الجاهلون.
ـ وكان يرى الحلاج في منامه، فينهض مردداً: رأيت ربي بعين قلبي، ويظل أياماً
ينادي: أنا الحق، أنا الحق.
ـ وكان يدق أبواب البيوت الكبيرة بعصاه، وهو يصرخ: الملك لي، الملك لي.
أمضى الشيخ سنتين في السجن، وقيل خلال هاتين السنتين كان جسده نائماً، وروحه
مسافرة، وحين سئل عن هذا قال: أمات الله جسدي، وجعل روحي يدعو الناس قاطعاً
البلاد، إلى وحدانيته جل جلاله وقال بأنه أمضى السنتين متنقلاً بين الصين وبين
الهند، واختلف الكثيرون حول سبب سجنه، فمنهم من يقول: بينما كان الشيخ جالساً
في إحدى الحضرات، فاجأه الهيام الإلهي، فأغلق عقله وجمد عينيه على السقف،
فاندفع وحمل سيفاً، ضرب به رجلاً من الحاضرين، فتدفق الدم من بطن الرجل غزيراً.
اعتقل الشيخ، وأودع السجن، ولو أن الرجل مبقور البطن مات لأعدموا الشيخ، لكن
الرجل لم يمت، بل تقطعت مصارينه، فاضطر الأطباء إلى تركيب مصران كلب له بدلاً
عن أحد مصارينه ويقولون إن عضة ذلك الرجل صارت تسبب الكلب.
ومما قيل عن حبس الشيخ أيضاً: انه شوهد يعبر الحدود الفاصلة بين سوريا وبين
الأردن دون تصريح عبور، وحين أوقفه حرس الحدود، انفجر غاضباً، وشتمهم، فضربوه،
واعتقلوه، ثم وضعوه في السجن.
أما عمره فلا عمر له، الجميع، كباراً وصغاراً، يعرفونه على هذه الصورة، لم
يتغير إطلاقاً، وهو يغيب عن البلد كثيراً ويأتي بعدها يحكي الحكايات المذهلة عن
أسفاره، أكد الكثيرون أنهم شاهدوه يتنقل في باريس، وروما، وبراغ، وقال أحد
الشباب ان الشيخ أعطاه نقوداً في براغ لأنه كان مفلساً حين كان يدرس الهندسة
هناك.
وذهب بعضهم إلى أبعد من هذا حين زعموا بأن الشيخ شوهد مرة يصافح المهاتما
غاندي، وقد صام معه عشرة أيام. وسار معه في طريقه إلى الملح.
لم يكن الشيخ يأكل غير التمر واللبن. وحينما يسأله الناس عن هذا يقول: مافائدة
أطايب الطعام لجسد فان؟ وعندما يقال له: إن لبدنك عليك حقاً، يقول ببرود: بدني
سليم أقوى من أبدانكم، وأستطيع اجتياز الصحارى الشاسعة سيراً على قدمي، الله
أعطاني عظاماً من حديد وزودني بصبر ثلاثين جملاً.
اعتاد الناس رؤيته يلبس كلابية بنية اللون، ويضع على رأسه كوفية بيضاء، منقطة
بالأخضر، على كتفه زوادة لم يعرف أحد ماتحوي، بيده اليمنى قرآن، وأما يده
اليسرى فتشغلها عصا طويلة. قال بأنها مباركة لأنه جلبها من شجرة في بيت المقدس.
ألفته الأزقة الضيقة في كل المدن، واعتادته الحارات المظلمة، كانت عصاه
المباركة تدق الأرض أثناء تجواله ليلاً بين البيوت، محدثة الرهبة من قدومه، ومن
عاداته المعروفة أنه يصعد أسطحة المنازل مطارداً القطط في ليالي شهر شباط كي
يقطع نسلها، لأن القطط، كما يقول بنات إبليس، وإذا ماتت توقف إبليس عن وسوسته
في القلوب الضعيفة. وقد تسبب ظهور الشيخ المفاجئ في بعض البيوت في إجهاض
إمرأتين، وإصابة الحاجة مريم بالجلطة القلبية ووفاتها فيما بعد.
لم يره أحد يخاطب النساء، وإن خاطبنه، وكان يردد: من خلقهن ربهن من ضلع أعوج،
يقدن المرء وإن كان صالحاً، إلى الاعوجاج. كانت غرفته الصغيرة معزولة في طرف
بعيد من المدينة، قرب بساتين البرغوث، تفوح منها روائح البخور، ولاتدخلها
الكهرباء لأنها رجس من عمل الشيطان وعلينا اجتنابها، تنير الغرفة شموع وتكثر في
جنباتها الآنية الفخارية، ولم يكن لها نافذة، مما أضفى على جوها المختنق المبخر
شكلاً من أشكال الحكايا الأسطورية.
الحركة الثانية:
مما يروى عن زهيّة أخت الشيخ أنها كانت جميلة جداً، وأن الرجال كانوا يخافون
النظر إلى عينيها، لأن السحر المنبعث من تينك العينين كان يجعل القلوب تتهاوى
صريعة حبها الذي لاينال.
وقد اعتكفت في كهف الباغوز (1) عشر سنوات، ثم هبطت من الكهف عارية، شعرها
الأسود الفاحم قد نبتت عليه زهور جميلة، ونهداها ينسكب منهما الحليب، فيسيل
أمامها نهراً من أنهار الجنة، ترك الأطفال صدور أمهاتهم وصاروا يلعقون الحليب
من تحت قدميها، وفجأة، انتشرت الزهور التي كانت تغطي رأسها على الأرض، وصار
حليبها يرفد الفرات بدفق غريب، فابيض ماء النهر، كان المشهد يشبه الحلم، زهيّة
تسير فيرفع الفرات موجة ويسلم عليها، تهزّ رأسها فتنحني النخلات الشامخات كأنهن
سكارى أصاب الناس الذعر، لأنهم ماعرفوا زهيّة إلا متعبدة، وكانوا يسمونها
رابعة، فمنذ ولادتها نذرت نفسها لله، فلم يستطع أحد رؤية شعرة من شعرها، ولم
يسمعوها تضحك وكانت ابتسامتها تضفي عليها مسحة من القداسة.
كانت تتلو آيات من القرآن فقط، وتسبح بمسبحتها الطويلة داعية الله أن يرحم
البشر الخطائين الذين انصرفوا عن طاعته، وصاروا ذئاباً ينهش بعضهم لحم بعض.
تساءل الجميع هل من المعقول أن تتحول زهيّة إلى ساحرة؟ وقرر الطيبون أخذها
ليراها السنسي ويدفع البلاء عنها، والسنسي هو جد الآلويسي، كانت زهيّة تتكلم،
تحدق في الوجوه، حاول السنسي أن يلمسها فخرت مغشياً عليها، فأمر بإخراجها لأن
ملك الجان قد سخطها وذوب في روحها منقوع الخرس، فأبكمها.
أخذها ملاّ علي إلى بيته. لتعتني بها زوجته الملاية فضيلة، وما أن أدخلاها إلى
أحدى الغرف، وتركاها، حتى انطفأ القنديل الذي يضيء الغرفة، وسمعت أصوات التكبير
تملأ البيت بأكمله، ويقولون إن الشيخ كان في بغداد يومها، لكن صوته سمع في
طرقات البوكمال ينادي: انهضي يازهيّة، لأن إبليس يريد إغواء روحك الطاهرة أثناء
مرضك، فتمتثلين لأمره، وتصيرين عاصية كافرة.
وحين دخل ملا علي ليرى ما حل بزهيّة، لم يجدها، وإنما شاهد عصفوراً صغيراً يطير
في الغرفة، تخرج من حنجرته كلمات من القرآن، وحين حاول ملا علي إمساكه، مات
العصفور وتحول إلى رماد، ومن يومها لم ير أحد ملاّ علي، وقالوا بأن أفعى
ابتلعته وهو يتوضأ. وأما زوجته الملاية فضيلة فقد أصيبت بالعمى ولم تعد تخرج من
بيتها إلى أن ماتت.
ومن اليوم الذي سمع الناس فيه صوته يتردد في الطرقات ولم يكن هو موجوداً، صاروا
يسمونه الشيخ أخو زهيّة.
-------------
هامش الفصل الأول
1ـ كهف الباغوز: كهف يقع في قرية الباغوز، القريبة من البوكمال
ـ يسميه السكان المحليون "الجهفة"
الفصل الثاني
الحركة الأولى:
كان البيت يعج بالأقارب، وكان الحاج عمر يتنقل بينهم رافعاً ذراعيه إلى الأعلى،
طالباً منهم الدعاء.
أطلت الحاجة أم اسماعيل القابلة، وقالت: ماء ساخن ركضت ابنة الحاج عمر العانس
التي تجاوزت الخامسة والثلاثين نحو المطبخ، أحضرت الماء الساخن ودخلت الغرفة
كان الضجيج يملأ المكان، فبعد يومين من المخاض والألم أذن الله أن تلد نورية
زوجة عاصم بن عمر العاني. استمر حملها عاماً كاملاً، وظن الجميع بأنها ستموت
لكن الله أمدها بالصبر فظلت تحمل جنينها فرحة، منتظرة عودة زوجها من سفره. قطع
أهلها النذور وذبحوا الخراف والعجول لوجه الله، ونذرت الحاجة صبرية أم عاصم أن
تصوم شهرين متواصلين أما الحاج عمر فقد حلف أن يطعم مئة فقير لمدة شهر في بيته.
اقتربت ساعة الفجر، ومازالت نورية تطلق ، ومازالت الابنة العانس تطوف حول
سريرها حاملة وعاء البخور.
غالب النعاس الحاجة صبرية فنامت وهي تتلو آيات من سورة النور، خرج الحاج عمر من
غرفته، وكان التوتر والقلق باديين عليه، مشى عبر باحة الدار ونادى أبا مسلم، ثم
طلب منه أن يذهب فلايعود إلا ومعه الشيخ.
انطلق أبو مسلم، غير مبال بالوحل الذي علق بحذائه، وحين وصل إلى غرفة الشيخ
وجده واقفاً ببابها، وقبل أن يتكلم أبو مسلم قال الشيخ: سنذهب، يا أبا مسلم.
دخلا بيت العاني، فانبعثت روائح العطور من الشيخ وعطرت أجواء المكان، تحلق حوله
الموجودون في باحة البيت، وطلبوا منه الدعاء لنورية المسكينة كي ترتاح من
الألم.
خرج الحاج عمر من غرفته، وعانق الشيخ ثم أدخله معه، بعد قليل، والجميع ينتظرون،
أطل الحاج عمر حاملاً بيده كأساً فيها شراب، لونه أحمر، رائحته زكية. ونادى
القابلة أم اسماعيل، وناولها الكأس، وقال لها:
ـ سمي بالله، واسقها، وإن شاء الله، تلد بالسلامة.
لم تغب أم اسماعيل في غرفة نورية سوى دقائق، حتى انطلقت الزغاريد فانفرجت
أسارير الموجودين في البيت، وتغيرت ألوان وجوههم، ثم علا صوت مكبر الجامع يدعو
الناس إلى صلاة الفجر.
غادر الحاج عمر العاني تملؤه الفرحة مع الشيخ أخو زهيّة للصلاة، وايقظت الابنة
العانس أمها الحاجة صبرية، وبشرتها بالطفل الذي يشبه الملاك، والذي ابتسم،
سبحان الله، فور ولادته.
دخلت الحاجة صبرية غرفة نورية، فوجدتها نائمة يعلو وجهها إرهاق ليال من المخاض
والألم، والطفل مستلقياً إلى جانبها. بسملت الحاجة صبرية وحملت الطفل ثم قرأت
قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
ثم التفتت إلى ابنتها العانس، وقالت:
ـ ألم يكبّر له جده في أذنه؟
كانت الابنة العانس تمسح العرق الذي كان يتصبب من وجه نورية. قالت لأمها:
ـ راح ليصلي، وحين يرجع سيكبر في أذنه.
شعرت الحاجة صبرية بالانقباض، لكنها هزت رأسها:
ـ إيه، الله يكون معك ياحجي عمر، ماتترك الصلاة أبداً...
كان الحاج عمر العاني خيّراً ودوداً. من أثرياء المدينة وهو الصديق المقرب لأخو
زهيّة، فقد اعتادا منذ فترة طويلة أن يقضيا الليل في قراءة القرآن، والحديث عما
يحمله أخو زهيّة من أخبار أسفاره ورحلاته، ثم يعودان كل ليلة مع آذان الفجر إلى
الجامع، فيصليان، وينصرف كل منهما في حال سبيله كأنه لايعرف الآخر.
حين بدأت أشعة الشمس تدخل من نوافذ الغرف عاد الحاج عمر ومعه أخو زهيّة إلى
البيت فطلب الحاج عمر من ابنته العانس احضار الطفل إلى غرفته.
حين وضعته في حضن أبيها، فتح الطفل عينيه وابتسم لجده، فأمر الحاج عمر ابنته
بالانصراف، خرجت الابنة العانس وأغلقت الباب. رفعه إلى الأعلى وصلى على النبي
وآله، ثم أسلمه لأخو زهيّة الذي كان واقفاً، فتناوله ودار به في الغرفة ثم وضعه
على الأرض ودار حوله دورتين، وارتفع صوته يؤذن: الله أكبر، الله أكبر، الله
أكبر، فبدا على وجه الطفل الهدوء.
جلس أخو زهيّة على الأرض بجانبه، وكبر في أذنيه، ثم أخرج من جيبه حجاباً وعلقه
على صدره، ونهض، قال:
ـ ياحجي، سيرتاح في نومه، ولكن عليك أن تسميه حالاً.
أسماه جده زاعماً على اسم جده الاكبر زاعم العاني رحمه الله.
الحركة الثانية:
عاد عاصم العاني ليلاً، ترافق سيره أصوات نباح الكلاب الحارسة، وعواء الذئاب من
البرية القريبة، استعان بالله وصار يدندن ليطرد قلقاً توغل في صدره.
لم يعد البيت قريباً كما كان دائماً، حثّ عاصم خطاه وتعثر، لسعة برد تخز عظامه،
وأحماله على ظهره تثقل كاهله، طارده ظله وصار يسابقه، حتى دخلت يده في جيب
بنطاله، لتخرج المفتاح.
فتح الباب، فأنعشت نفسه رائحةُ شجرة النارنج، واستقبلته باحة الدار المضاءة
بضوء القمر، كان الجميع نياماً.
قطع باحة الدار بهدوء، متجنباً إيقاظ نيام يحلمون، ربما بعودته إليهم، بعد سنة
من الغياب دخل إلى غرفته. كانت نورية مستلقية على ظهرها، فخذاها البضّان يبينان
من تحت اللحاف، لم يحاول إيقاظها، لأن عينيها كانتا تنمان عن حلم جميل.
لم يكن يظن بأنه سيتزوج مثل باقي الناس، وخصوصاً، حين قرأ المنفلوطي وهيكل،
وأسرَتهُ طريقة الحب تلك، فلامست رومنسيته المخبأة. حزم أمره وقرر أن يقع في
الحبّ، وأن يعيش قصة تحكى، يضحي لأجل حبه بالغالي والنفيس، لكنه فشل.
وحين ازداد إلحاح أهله ليتزوج، وافق على طلبهم، فخيروه بين أختين من بنات يحيى
الصافي صياد السمك، وصديق الحاج عمر
قالت أمه:
ـ ياولدي نورية جميلة مثل القمر، وآمنة صغيرة وبيضاء.
قال لها:
ـ ياأمي، أنا لم أرها، فكيف أتزوجها؟
نهره أبوه، وقال له:
ـ تراها؟ استغفر الله، خلص، تتزوج نورية، والله يوفقك.
بإمكانه أن يتلمس مامضى، هذه الفتاة التي لم تتغير، ظلت جميلة محافظة على صباها
وأنوثتها، رغم غيابه المتكرر عنها.
اندس إلى جانبها وقبل جبينها، تململت، وانقلبت على جانبها الأيمن، كان وجهها
الأبيض هادئاً نقياً.
مدّ عاصم ذراعه ليضعها تحت رأسها، لكن نورية استيقظت فزعة وقالت:
ياساتر يا الله، أشكون هذا؟
نهض عاصم بسرعة وأضاء المصباح، وهو يقول:
ـ لاتخافي، أنا عاصم.
اندفعت نورية نحوه، وعانقته، ثم أشارت بيدها إلى الجهة الثانية من الغرفة، كان
الطفل نائماً بهدوء في عبّارته، وقالت:
ـ عندما سافرت كنت حبلى، ومنذ عشرة أيام أنجبت زاعماً، بقيت أحمله في بطني سنة
كاملة.
لم يصدق عاصم عينيه، قفز من بين يديها، وحمل الطفل الذي استيقظ، وارتفع صوت
بكائه، قبله، ونزلت دمعة من عيني عاصم، وهو يحاول إسكات ابنه:
ـ انظري الولد، كم يشبهني.
ـ نعم، كلهم قالوا بأنه يشبهك.
جلس عاصم على طرف السرير ووضع ابنه على ركبتيه، صار الطفل يبتسم، وكانت نورية
تقف قبالة زوجها، فرحة، متلعثمة، لاتدري ماتقول.
--------------------
هامش الفصل الثاني:
1ـ أشكون: مفردة فراتية تعني ماهذا أو ماذا
2ـ العبّارة: سرير الطفل المصنوع من الخشب والذي تهزه الأم
لينام الطفل.
الفصل الثالث
الحركة الأولى:
استيقظ الجميع فزعين، كانت الصرخة قوية جداً أفقدتهم لذة نومهم، ركضت الابنة
العانس إلى غرفة أبيها، كانت الحاجة صبرية قاعدة علىالأرض تولول بجانب زوجها
الهامد لايتحرك. عيناه معلقتان على الجدار المقابل، ويداه مسبلتان. نتفت الابنة
العانس شعرها، وشقت ثوبها. قفز عاصم من حضن زوجته إلى حضن أمه وصار ينتحب، رغم
ظلام غريب. تماسكت الحاجة صبرية ومسحت شعر ولدها المنتحب بكفها، ثم قالت:
ـ أبوك مات، ولن يعيده البكاء، وجاء دورك لكي تحل محله، أبوك أوصى أن تعتني
بالولد، وحين يكبر قليلاً، تأخذه ليتعلم عند أخو زهيّة.
بعد موت الحاج عمر، تغيرت حال الطفل، فازداد بكاؤه، وصار يرفض الرضاعة من صدر
أمه، فأحضروا له مرضعة سكنت معهم. وكانت عمته العانس المتشحة بالسواد على أبيها
تشعل كل يوم شمعة محتفلة بمرور يوم جديد من عمر ابن أخيها، وظلت الحاجة صبرية
تقرأ له من القرآن كل ليلة أما أبوه وأمه فقد شغلا ببعضهما، فازداد اقتراب
أحدهما من الآخر، وكثرت خلواتهما.
كان الطفل يكبر، ويأخذ ملامح رقيقة منسابة، تملأ ضحكته المكان وتثير حركته
المرح. وحين بلغ الثالثة، عاد ليرضع من صدر أمه، فأصاب الحاجة صبرية الذهول،
ولم يدر أحد كيف يمكن أن يظل الحليب يجري في صدر نورية كل هذه المدة.
قاد عاصم ابنه وسارا في شوارع المدينة، كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها
زاعم شوارع البوكمال، وأسواقها.
اتسخ ذيل كلابيته بالطين، وعبث الرجال الكبار ذوو الشوارب بشعر رأسه، حملوه،
رفعوه إلى الأعلى، وقبلوه، كان زاعم مأخوذاً بالمكان، بالأشياء، برائحة اللحم
والخضراوات.
الماكَف يضج بالبشر، تتلاحق كلابياتهم بألوانها المختلفة، وترتفع أصوات الباعة،
التي رغم ارتفاعها، لم تفقد الطفل انجذابه لسقوف التوتياء التي تغطي محلات
القصابين.
سارا حتى وصلا إلى سوق البرغوث، الشاويات بثيابهن المزركشة، المقصبة، يملأن
السوق حركة وضجيجاً، قالت إحداهن وهي ترفع كيساً ثقيلاً لتضعه على رأسها:
ـ كل شيء صار غالي، الله يصبرنا.
كانت عيناه تراقبان ثقوب سقف البرغوث المقبي، أشعة شمس شتاء تتغلغل باعثة
ضوءاً، ينير وجوهاً مثقلة بتعب نهار عمل طويل.
سحبه أبوه من ذراعه، وانخرطا في الزحام، كان أبوه يجره متجنباً الاصطدام
بالعابرين. اخترقا جموع الشوايا وأطلاّ على الفيحة.
شمس تتوسط سماءها، تبهر عيني الطفل فيتحاشى أشعتها بكفيه الصغيرتين، قال عاصم
وهو يتحسس كف ولده:
ـ تعبت؟. هز زاعم رأسه نافياً، فضحك عاصم وأردف:
ـ نزور أخو زهيّة، ما رأيك؟
ابتسم زاعم ابتسامة الموافقة ـ أخو زهيّة، كم تردد على مسامعه هذا الاسم، كم ود
لو أنه يراه، ويعرف من هو، ولماذا يحكي عنه الناس دائماً...
لقد قالت له جدته: لولا أخو زهيّة لما ولدت.
الحركة الثانية:
بساتين تتشابك أشجارها، يمتزج الأخضر بالأخضر في تصاعد نحو أزرق سماوي، طريق
طينية لزجة، نخيل يتطاول رافعاً أكمامه ملوحاً للعابرين.
سار زاعم إلى جانب أبيه، كفه الصغيرة تتشبث بكف أبيه الكبيرة وعيناه دائرتان
ذكيتان تسجلان الحركات المفاجئة لطيور السمن وأبو الزعر.
كان هدوء تتخله أصوات ضفادع تنق من السواقي المنسابة في كل جانب من البساتين،
وأصوات طير الشقرق، تملأ الظهيرة الصامتة، زعيقاً، وهي تطير ساحبة أذيالها
الطويلة وراءها.
ارتفعت عينا زاعم إلى الأعلى: أبو الجراذ يراقب طرائده القلقة تتراكض مرعوبة
وتختفي في جحورها، جرذان البساتين تندس في الثقوب خوفاً من عدو يقف في كبد
السماء يرفرف بجناحيه القويين ثم ينقض كصخرة ملقاة من عل على أحد الجرذان،
فيحمله ويطير.
اجتازا بستان بيت حج عاصي، وصار قلبه يدق سريعاً، إذ لاحت في الطرف البعيد من
بساتين البرغوث غرفة أخو زهيّة، تظللها سحابة، وتحوم حولها شراشيح الماء دائرة
من طيور بيضاء وزرقاء ـ .
شد عاصم على كف ولده وحمله، كان الولد قد بدأ يرتجف، ويصفر لونه، قال عاصم:
ـ لاتخف، أخو زهيّة يحبك، وهو لايخيف أحداً.
حين وصلا إلى الغرفة، خرج أخو زهيّة لاستقبالهما، فبدا وجهه نورانياً تزينه
لحية بيضاء طويلة، أنزل عاصم ولده على الأرض، وقبل كف شيخه، فمسح الشيخ على
رأسه، وهو يردد:
ـ بارك الله فيك.
ثم بدأ يسبح باسم ربه، رافعاً يديه إلى الأعلى، وأمسك الصغير، فقبله، ثم قال
عاصم:
ـ امض في سبيلك، وعد حين آذن لك.
غادر عاصم المكان، وابتسامة رضى غريبة تعلو وجهه...
سحب الشيخ الطفل من يده، ودخلا الغرفة وأجلسه على الأرض.
كان زاعم يرتعش خائفاً، فأعطاه حبتي تمر، وكأس لبن وقال: تقشف، تكن أنظف.
أكل الصغير حبتي التمر، ثم شرب كأس اللبن وحمد الله.
ابتسم أخو زهيّة، وأمسك الصغير من كتفيه، ودفعه إلى الجدار ببطء، جحظت عينا
زاعم، ونزلت دموع حارة على وجنتيه، فرفع أخو زهيّة عصاه إلى الأعلى وقال:
ـ ياعبد، ما أعلمك إلا ماعلمني الله، فكن شفافاً، ولاتكن مسيئاً، ولاتظن بأنك
منقاد معي إلى سوء، بل إلى خير تعلمه آباؤك فكانوا من الفائزين، فدعني أسمو
بروحك، وأنقذك من فساد الأرض.
هدأ زاعم وارتاحت نفسه، كان يستمع إلى كلام الشيخ، وعيناه معلقتان بعينيه
الهادئتين اللتين تنمان عن محبة وصدق. ثم سحبه إلى زاوية الغرفة، وحمل جرة ماء،
وقال له:
ـ اشرب، هذا ماء جلبته بالأمس من بئر زمزم.
تناول زاعم الجرة، وتذكر جدته، كانت تقول له دائماً: الله يحفظك، فتشرب من ماء
زمزم، إنها ماء نبينا إبراهيم وابنه اسماعيل، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام،
حينما كنا في مكة أنا وجدك رحمه الله، كنا نشرب من زمزم، فتقوى أبداننا وتسعد
نفوسنا.
شرب زاعم من الماء، وعلى الرغم من الملوحة، إلا أنه لم يبد أية حركة تنم عن
استيائه، أخذ أخو زهيّة الجرة منه، وأعادها إلى مكانها، ثم أجلسه، فعمّ ظلام
دامس، جعل فرائص زاعم ترتعد ويهتز كيانه الطفل.
وضع أخو زهيّة كفيه على رأس زاعم، وصار يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، قل أعوذ
برب الفلق من شر ماخلق، قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر
الوسواس الخناس. ثم قال:
ـ ياقاهر، هذا عبدك، أسلمك مفاتيح نفسه، اشفع عثراته واعف عن هفواته، يا مطلق،
هذا عبدك، زلزل مايخلف الناس في عقله الغض، فما هو إلا نبتة مفتحة زرعتها يداك
في أرض لم تكن قاحلة، ولن تكون، يارحمن، نحن عبادك تجلت أسرارك في البحر وفينا
لكن أعمالنا عشقنا للقشور عن رؤية حسنك. يامنان، نحن عبادك، أسكرنا من خمر
جمالك وباركنا بالخضوع لك. يارحيم، نحن عبادك، أرواحنا النقية لم يدنسها
الفجور، ولكن أغوتنا الدنيا فتهنا.
صار الشيخ يرتعش، وابتدأ بكاؤه يتسرب من بين كلماته. أبيض وجهه، وسال عرق بارد
من جبينه، تجمد زاعم في مكانه، تتوغل إلى صدره سحابة هدوء مطمئنة.
ارتفع صوت الشيخ يقرأ سورة التوبة، وبعد أن فرغ من تلاوتها أنهض الطفل وقال له:
ـ ياعبد، وأما البركة التي أمنحك إياها بجلوسك معي واستماعك لكلامي فإنها منحة
من ربك لك فتعلم واحفظ يكن لك هذا الكلام ضوءك ودليلك في حياتك.
دخلت أشعة الشمس الغرفة المظلمة، فانارتها، وبعثت الدفء في أركانها.
نادى أخو زهيّة عاصماً، وهو يدور حول زاعم، فلم تنقض بضع لحظات حتى دخل عاصم
الغرفة، فأمسك زاعماً الخائف من يده وقبل كف الشيخ، ثم خرج ساحباً ولده.
الحركة الثالثة:
حين عادا إلى البيت، كان زاعم يرتجف، جسده بارد وعيناه مغرورقتان بالدموع،
تساؤل هادئ يرتسم على محيّاه، وفزع يحيط بحركته، أدخله أبوه وأسلمه إلى جدته
الحاجة صبرية فوضعته في حضنها، وصارت تذكر اسم الله وهي تمسح جبين الطفل وتجفف
دموعه بشاشيتها البيضاء.
نادت الحاجة صبرية ابنتها العانس، فدخلت، ناولتها الصغير وقالت لها:
ـ غطي ابن أخيك جيداً كي ينام.
حملت العمة العانس زاعماً ووضعته في فراشه، ثم غطته ببطانيتين وجلست بجانب رأسه
حتى غفا، وصار يهذي، كان يردد عبارات أخو زهيّة، ويتلو سورة التوبة دون أن يخطئ
في آياتها.
استغربت العمة العانس مايحدث، وحين أخبرت أمها وأخيها، قالت لها أمها:
لاتستغربي، علوم الشيخ لاتمحى، ولن ينسى زاعم مايحفظه، وهكذا كان أخوك عاصم.
قال عاصم:
- الشيخ علم آبائي وعلمني، فلم ينس أحد شيئاً من علمه وسيبقى زاعم محافظاً على
ما يتعلم أيضاً.
صار عاصم يأخذ زاعماً كل يوم لزيارة الشيخ، وحين يعودان يتكرر الحال نفسه،
اضطراب وقلق يحيط بزاعم وهدوء غريب يحيط بجدته وأبيه وعمته العانس.
أما أمه نورية فقد ظلت تراقب طفلاً ينام طيلة يومه خائفاً من شئ ما، وأناساً
يخفون عنها أسراراً - يتداولونها بينهم وحين تحاول الدخول إلى عوالمهم الخاصة
ينقطع الحديث كأنه لم يكن.
وفي يوم، نهضت نورية من نومها مذعورة، وألحت على زوجها كي يخبرها بما يحدث
لوحيدها، فتردد عاصم قليلاً لكنه حسم أمره، وقرر أخبارها بكل شيء فقال لها:
-ابنك يعلمه أخو زهيّة ، وسيصير عالماً بكل شيء، سترين ولدك رجلاً عظيماً.
انفجرت نورية غاضبة، وركضت إلى غرفة ولدها، فأيقظته وهي تصرخ:
- يا ولدي، أخو زهيّة مجنون، لاتسمع كلامه، إنه درويش على باب الله، ولايفهم
شيئاً، إنه لا يعلمك شيئاً.
صار زاعم يبكي وخرج من الغرفة فزعاً، والتجأ إلى حضن جدته فاحتضنته، وهدأت من
روعه، وهي تقول:
- أمك مسكينة، جاهلة ما تعرف، ولكنها ستعرف كل شيء بعد أن تتعلم أنت.
--------------------
هامش الفصل الثالث:
1- الماكف والفيحة وسوق القصابين وسوق البرغوث: أماكن تجمع
البشر للبيع والشراء في البوكمال.
2-الشوايا: سكان القرى الفراتيون.
3-أبو الزعر، أبو الجراذ، السمّن، وشراشيح الماء: أنواع من
الطيور الفراتية.
4-الشاشية: غطاء الرأس الرقيق الذي تضعه النساء الفراتيات على
رؤوسهن.
الفصل الرابع
الحركة الأولى:
أرادت نورية أن يكون لها ولد آخر، تعتني به، وتربيه كما تريد، لأن ابنها
لايستجيب لها، ولايسمع كلامها. وحين أخبرت الحاجة صبرية بما تفكر به، ثارت وجن
جنونها، وقالت لنورية:
ـ لاشكّ أنت تفكرين بالقضاء على وحيدك، ألم تسمعي أخو زهيّة يقول بأن زاعماً
يجب أن يكون وحيداً وبلا أخوة كي تستمر حياته.
دعت نورية على الشيخ بالعمى والطاعون. فنهرتها الحاجة صبرية كي تسكت.
حسم الأمر، وانتهى موضوع التفكير بانجاب ولد جديد وظلت نورية تفكر بهذا في
سرها، حتى رأت في منامها أخو زهيّة يقودها إلى جحيم، نيرانه يشعلها طفل يحرق
بها وجه أخيه، وكان المحروق زاعماً فاستيقظت نورية ترتجف، وأيقظت زوجها، ثم
قصت عليه الحلم، وما كاد الصبح يأتي، حتى ذهب عاصم وأخبر أخو زهيّة بحلم زوجته
وطلب منه تفسيره، أجابه الشيخ بعبارات لامعنى لها، وقال له:
ـ الطفل زينة، والنساء زينة، فأين أنت بين الزينتين، ربك علمني، وأنا علمتك،
فاسمع ماتؤمر به.
وسكت الشيخ لحظة خالها عاصم سنوات، كانت خلالها نجوم تتساقط محرقة البساتين،
جاعلة الناس يتراكضون هلعاً، يقفز بعضهم إلى النهر، فتذوب أجسادهم ويتحولون إلى
ضفادع وأسماك ويطير آخرين معانقين حجارة سوداء فتلتصق أجسادهم بسقف السماء
الأسود، وتسقط عيونهم غرباناً.
عاد الشيخ من سكوته، مسح لحيته وقال لعاصم:
ـ أخبرتني طيور ولدك بأنك مخير بين زوجتك وبين ابنك، فاختر ولاتكن متردداً.
سمع عاصم كلمات أخو زهيّة، فقفز من مكانه وتوجه إلى بيته، وفور رؤيته وجه زوجته
جن جنونه، وأنهال عليها ضرباً حتى سقطت على الأرض وكانت حاملاً فأجهضت، حملتها
العمة العانس إلى غرفتها و وضعتها على سريرها حيث رقدت شهوراً، ولم يعد زاعم
يضحك أو يلعب، وحتى أنه انقطع عن زيارة شيخه.
أحضروا أخو زهيّة ليرى نورية ويشفيها، لكنه خرج من الغرفة يقول:
ـ دعوها، إن الملائكة تحيط بسريرها، ولن يصيبها مكروه.
انقلبت أحوال عاصم، وانصرف عن عمله إلى زوجته يلازم فراشها ويسهر على رعايتها،
وظل صوت بكاء زاعم يتردد في أرجاء البيت، لم تكن نورية تتألم، ولم يبد عليها
بأنها مريضة، كانت تفتح عينيها، كل يوم مرة، فترى المشهد نفسه: وحيدها يبكي إلى
جانبها وزوجها يدخن و هو يذرع الغرفة جيئة وذهاباً.
لم يطعمها أحد شيئاً، وقد أخبرهم أخو زهيّة أن ملاكاً يجيء كل يوم، فيطعمها
أطايب الطعام، ويسقيها الماء المبارك، صبيحة أحد الأيام الحارة في آب، كان عاصم
يغفو إلى جانب زوجته التي نهضت من سريرها دون أن يشعر بها، ولم تكن الحاجة
صبرية والعمة العانس قد استيقظتا بعد. فتحت نورية باب الغرفة، وسارت باتجاه
غرفة صغيرها ، وكانت تحمل بيدها سنبلة قمح وحبة تمر، دخلت غرفة زاعم الذي لم
يبلغ السابعة، فرأته يتلو سورة الكهف. انتظرت حتى فرغ من التلاوة دون أن تحرك
ساكناً، وحين رآها زاعم قفز من مكانه إلى صدرها وتناول ثديها وصار يرضع بنهم،
كانت يداه تتمسكان بخصلات شعرها، وعيناه الدائريتان تجوبان وجهها الأبيض
الجميل أنهى زاعم رضاعته، وجلس على الأرض ينظر إلى عيني أمه السوداوين
البراقتين.
انحنت نورية وناولته سنبلة القمح وحبة التمر، وقبلته، ثم انصرفت دون أن تتكلم
أية كلمة.
فتح زاعم شباك الغرفة ورمى ما أعطته إيّاه أمه لعصفور كان يحط قرب الشباك،
التقط العصفور سنبلة القمح وحبة التمر وطار بعيداً.
بعد قليل عاد العصفور حاملاً لزاعم قطعة من الخبز وشيئاً من الدبس أكلها زاعم
ومسح فمه ثم قال:
ـ الحمد لله الذي أطعمني...
أصابته قشعريرة، وصار يتخبط، تتناوله رياح تقذفه إلى رياح فلا يستقر على مكان،
حتى ساد هدوء، فاختبأ تحت سريره، وغفا:
أحلامه خيول تقطع أودية وجبالاً، وسفن ضخمة تجتاز محيطات جبارة.
الحركة الثانية:
حين أستيقظ زاعم من اغفاءته كانت عربات تجرها أحصنة مجنحة تجوب فضاء غرفته، في
العربات أشخاص وجوههم وردية يحملون سيوفاً مضمخة بدم أحمر قانئ. قفز من إحدى
العربات شخص عيناه حجريتان، ويداه فولاذ، انقض على زاعم وصار يطارده. فتح زاعم
باب الغرفة، كانت شمس آب اللهاب جاثمة على عرشها، تمدّ أشعتها الحارقة. انطلق
زاعم تتقاذفه أسئلة غريبة، تجتاز رأسه طارحة نفسها عليه: من أنت أيها الطفل؟
لماذا تدق بوابات المعرفة، بيديك الصغيرتين؟
كانت غرفة الشيخ حين دخلها: مليئة بالفراشات الملونة تعطرها رائحة أزهار زكية.
جلس زاعم في زاويته المعتادة، وارتفع صوت ثغائه:
ياشيخي... هربت الفراشات وانبعث دخان أسود، حجب رؤيته، وصارت جدران الغرفة
تهتز تحت وطأة ثقل شديد يضغطها من كل جوانبها. فجأة ، برز الشيخ من الدخان
ملوحاً بعصاه المباركة، واحتضن زاعماً محاولاً أن يبعث في نفسه الهدوء
والطمأنينة، قال زاعم وكانت كلماته متشنجة:
- يريدون قتلي، يحاربونني، لأنهم لا يعلمون من أنا. ربت أخو زهيّة على كتفه
وابتسم، ثم قال:
- اهدأ يابني، واذكر اسم ربك، فإني أرى، في البعيد، أطيافهم تدعو للزيارة،
فانهض ورافقني، سنغوص عابرين محيطات مئات السنين التي عبروها، وغاصوا في
أسرارها. أمسك زاعم عصا الشيخ المباركة، فدارت الأرض دورتين سريعتين، وأشرقت
شمس حمراء، أشعتها زرقاء، وظهرت بحور تمخر عبابها سفن ضخمة، وتتقافز في قيعانها
حيتان مخيفة رأى زاعم نفسه يغوص في أحد البحور حتى يصل إلى عمق الأعماق ترافقه
أسراب من الأسماك الجميلة، ويسبق موكبه حوت لونه أبيض، وعيناه براقتان، ظلوا
يغوصون، وكانت الأسماك الصغيرة تغادر الموكب هاربة من أخطبوط صار يهاجمها، حين
بلغوا القاع لاح أمامهم جبل عظيم. بقي زاعم وحيداً، مشى باتجاه الجبل، كانت
صخوره سوداء، يعلوه أخطبوط كبير ينفث من منخريه حبراً أسفل الجبل ثمة كهف صغير
تقف على بابه نجوم البحر.
تقدم زاعم ودخل الكهف، كانت قناديل البحر تضيئه يحركها تيار هادئ في نهاية
الكهف مرآة مكللة بالدرر والأصداف.
وقف زاعم أمام المرآة، فرأى صورة أخو زهيّة يبتسم ويقول له:
- كن معه، يحفظ معرفتك له. فلا تخالفه ، فتخسره.
ظهرت صور كثيرة على المرآة، صور نساء سبايا، ورجال حليقي الرؤوس يجرون أفيالاً،
وزنزج يباعون، ورسل تظهر دياناتهم زتندثر. وفجأة، توقف تلاحق الصور، وظهرت صورة
زاعم العاني الأول، كان قوي البنية ، عريض الكتفين، يتنقل بين الأشجار حاملاً
فأسه يهوي بها على الجذوع بضربات منتظمة جبارة، تتهاوى بسببها الأشجار، فيرمي
فأسه جانباً ويحمل الشجرة على كتفيه ويسير حتى يبلغ الضفة، فيضع حمله على الأرض
ويعود ليقطع شجرة أخرى. جمع ثلاثين شجرة وصار يقطعها فيصنع منها ألواحاً،
مختلفة أطوالها ويضمها إلى بعضها بمسامير صلبة، ثم يربطها بحبال متينة.
استمر عمله شهراً ونصف الشهر، وحين انتهى، كانت سفينة كبيرة تطفو على وجه
الفرات.
جاء أهله، فأمرهم أن يجمعوا زوجين من كل نوع من الحيوانات ويضعوها على ظهر
السفينة، كان أخو زهيّة يقف بين الناس يوجههم، ويرشدهم إلى مخابئ الطيور. بعد
أن أنجز أهل زاعم عملهم، سار فساروا وراءه، حتى وصلوا إلى قريتهم ـ عانة ـ دعا
زاعم الناس ليصعدوا إلى سفينته هاربين من فيضان الفرات العظيم الذي يقول أخو
زهيّة بأنه سيبتلع كل شيء. لبى أهل عانة دعوة زاعم، وساروا معه يحمدون الله
الذي أمدهم برجل يخاف عليهم، ويساعدهم.
وقبل أن يصعدوا إلى ظهر السفينة، قفز هدهد صغير أمام الجموع المحتشدة، وقال:
ـ أيها البشريون، لاتصدقوا هذا الرجل إنه يريد إيهامكم وتضليلكم، لأن السفينة
هذه ضعيفة، ولاتشبه سفينة نبي الله نوح، لقد كنت مع نوح عليه السلام حين بنى
سفينته كانت قوية جداً، فلا تركبوا مع زاعم العاني، لأنكم ستغرقون، وتموتون
جميعاً، ابقوا هنا، وسنصعد الجبل، فنحتمي من الطوفان. توغل الشك إلى صدور
الناس، وصاروا ينظر بعضهم إلى بعض ثم انفضوا من حول زاعم وأهله، وتركوهم يركبون
سفينتهم والخوف يسكنهم.
أبحرت سفينة زاعم حاملة أهله وأحبابه، وقد أشار عليهم أخو زهيّة أن يبحروا عكس
التيار، حتى يبلغوا أرضهم الموعودة.
لم تدم رحلتهم طويلاً، إذ قابلتهم ضفة خاوية تزينها نخلات، فرفع أخو زهيّة عصاه
وقال:
ـ ابشروا، أيها الناس، هذه أرضكم التي كنتم بها توعدون.
نزل زاعم العاني ومن معه، وأنشأوا مدينتهم، ونظراً لانشغال زاعم بالصيد
والبناء، فقد اختار الناس أكبرهم ليكون مختاراً عليهم، كان أبو كمال العاني
أكبر الموجودين، وأرفعهم شأناً وقد عُرفت المدينة باسمه فيما بعد.
حل الرخاء في المدينة، فتزوج زاعم من حورية ابنة عمه المختار (أبو كمال)،
فأنجبت له طفلاً فرح به الجميع، وأسماه أبوه راحلاً.
وكانت لهذا الطفل صفة ليست موجودة في بشري سواه، إذ أنه كان يتنفس بسهولة تحت
الماء كما لو أنه سمكة. تولى أخو زهيّة تعليم راحل، حتى بلغ الرابعة عشرة من
عمره، فركب سفينة أبيه وقرر الرحيل، جاب البلاد والأمصار ولم ينزل إلى البر إلا
نادراً.
كانت سفينته تمخر عباب البحر، وتقطع المحيطات، فجمع اللآلئ والدرر الثمينة
واصطاد الحيتان، وقد تزوج إحدى حوريات البحر، لكنها هربت منه حين أحضر بعض
البشر كي يصاحبوه في تجواله. استمرت رحلة راحل العاني عشرين عاماً، عاد بعدها
إلى البوكمال يحمل ثروة هائلة، لكنه صعق فور وصوله بخبر وفاة والده ووالدته
بسبب مرض الطاعون، فأصابه الحزن عاماً وظل يبكي عاماً.
في سنة الجوع الأولى ـ أيام العثمانيين ـ مات الكثيرون، إذ لم يبق في المدينة
طعام، وقد نفدت ثروة راحل كلها. جاء الناس يستشيرون أخو زهيّة في الأمر، فصمت
شهراً ثم طلب من راحل أن يعد سفينته ويسافر إلى الآستانة ليتزود من بلاد
الأتراك بالمؤونة التي يحتاجها أهالي البوكمال الجياع.
جمع راحل بحارته، وجهزوا سفينتهم، ثم أبحروا، وحين وصلوا إلى الآستانة، صاروا
يتجولون في شوارعها وأسواقها باحثين عن الأرزاق، فأمسك رجال الدرك البحارة، أما
راحل فقد هرب والتجأ إلى كوخ فيه فتاة غادرها أبوها صياد السمك ولن يعود قبل
يومين.
فكر راحل كثيراً ثم اتخذ قراره، بما أن رجاله لن يعودوا فعليه أن يفر بجلده،
قبل أن يأتي صياد السمك، صاحب الكوخ، ويراه، ولأن الفتاة التركية الجميلة قد
تركت في نفسه أثراً فقد حملها معه بعد أن أقنعها بالزواج منه.
رجع راحل إلى البوكمال على ظهر سفينته ترافقه الفتاة، وبعد يومين من عودته،
تزوجها، كان اسمها ازدهار، فعم الخير في البلد.
انجبت ازدهار لراحل صبياً، أسمياه زاحماً، وكان راحل يعمل في صيد السمك، ولم
يمض شهران على ولادة الطفل، حتى جاء الأتراك يبحثون عن ابنتهم المخطوفة ازدهار،
وحين وجدوها، حاصروا راحلاً فقتلوه وأحرقوا جثته على مرأى من الجميع، ولم يستطع
أحد مساعدته لأن العسكر كانوا أكثر من الشعب. أخذ الأتراك ابنتهم وولدها زاحماً
وساروا إلى الآستانة.
كبر زاحم وتعلم صيد السمك، فقد كان جده الذي صار مسؤولاً عن أسطول الصيد
العثماني، يصحبه إلى الصيد على ظهر المراكب الكبيرة وظلت أمه تحكي له عن أبيه،
وتصف قوته وعظمته، وخبرته في الحياة، وكان أخو زهيّة يزوره بين الحين والآخر
ليذكره بمدينته الجميلة المليئة بساتينها نخيلاً، ويعلمه العلوم التي تعلمها
آباؤه.
وحين تزوجت ازدهار أحد رجال الجندرمة، فرّ زاحم من الآستانة، يرافقه أخو زهيّة
حتى وصلا إلى أرمينيا ولم يكن زاحم قد بلغ العشرين من عمره.
في أرمينيا، سكن في بيت بوغوص الخنزير كما يسميه أهل قريته الصغيرة التي تقع
على الحدود التركية.
كان بوغوص صانع عربات ماهراً، طيب القلب كثير الضحك يجيء إليه الناس من كل مكان
ليصنع لها العربات القوية التي تجرها الخيول، وكانت لبوغوص ابنة جميلة تعيش معه
في بيتهما المتواضع، اسمها ليزا.
تعلم زاحم من بوغوص صناعة العربات وصار يعمل معه في ورشته. وكان يتعلم الأرمنية
والروسية من ليزا، التي صار بإمكانه أن يسرق منها بعض القبلات بين الحين والآخر
ونشأت بينهما علاقة حب علم بها الآخرون سريعاً، إذ أن أم ميسروب العجوز
الثرثارة نقلت الخبر إلى الجميع.
كان الأرمن، طيبو القلب، يعاملون زاحماً وكأنه واحد منهم، يدعونه إلى بيوتهم
ليتناول معهم العشاء المعد من لحم الخنزير أو ليشرب كأساً من النبيذ المعتق
الذي يخزنونه في أقبية بيوتهم وكانوا يسمونه زاخيم.
قرر زاحم أن يتزوج ليزا ابنة بوغوص وأن يبني بيتاً ويستقر في هذه القرية
الجميلة، لكن أخو زهيّة جاءه ذات مساء، وأمره أن يجهز نفسه للرحيل نحو مدينة
آبائه، كي يفرح الناس الذين ينتظرون عودته في تلك الأرض الطيبة.
حاصره التفكير المضني أياماً، حتى اتخذ قراره في النهاية وأخبر بوغوص وابنته
بأنه لابدّ أن يسافر، فالطيف الذي كان ينتظره جاء، ولم يعد بقاؤه ممكناً.
ودعه أهل القرية والدموع تملأ عيونهم، أما ليزا فقد قصت ضفيرتها الشقراء
الطويلة، وأعطته إياها كي تحرسه.
انطلق زاحم عبر الجبال والأودية، لم يكن يعرف أين تقع مدينته التي لم يرها.
أوصله تنقله إلى منبع الفرات، فسحره ذلك الدفق المائي العجيب، وأحس باختلاج
وظمأ غريبين، فانحنى للماء وصار يشرب حتى ارتوى، وزال اختلاجه، كان الناس
الموجودون حول المنبع يراقبونه مستغربين، تقدم منهم، وسألهم بالأرمنية والروسية
عن مدينته المفقودة، فلم يلق جواباً، سار يومين كان يقتات خلالهما على السمك
الذي يصده، وكلما مرّ بجماعة من الناس، سألهم باللغات التي يعرفها عن مدينته
التي لا يعرفها، وكلهم أخبروه أنهم لم يسمعوا بها من قبل.
نام زاحم متعباً، فرأى نفسه، في المنام، يسبح دون تعب، أياماً وأياماً، ثم يصل
إلى مدينته الجميلة.
استيقظ فرحاً، فاستحم، واصطاد سمكة كبيرة، فالتهمها، ثم جلس على الضفة حتى
المساء، لاح له على وجه الماء أخو زهيّة، يمشي مشيراً له بيديه بأن يسبح كما
رأى في منامه.
رمى بجسده القوي إلى الماء واحتضن موجة صغيرة، جرفه التيار، فصار يسبح دون أن
يحرك يديه أو قدميه.
مرت به المراكب العابرة، وطلب منه ملاحوها أن يركب فلم يركب، ومرّ بالصيادين
على الضفاف مجتمعين، فلم يتوقف ليسألهم. ثمة دافع مايدفعه للمواصلة، لم يكن
يستطيع التوقف، لأن الوصول إلى مدينته هو حلمه الأكبر الذي رمى بنفسه إلى لجة
لايعرف نهايتها، أراد أن يصل ليرتاح.
ظل يسبح عشرين يوماً لم يشعر خلالها بالتعب أو النعاس وأخيراً قذفت به موجة
سريعة على ضفة هادئة قرب نخلة صار يهزّها بكلتا يديه، فيتساقط على رأسه رطب
شهي، أكل منه حتى شبع، ثم غفا يحلم بالوصول.
نهض ولم يكن يعلم كم نام، دفعته قدماه فسار في طرقات مدينة صغيرة، شوارعها
طينية، وبيوتها متلاصقة، أقبل عليه أهلها وسلموا عليه، ثم أخبروه بأنهم يعرفونه
لكنه لم يفهم ماقالوا، وظل حائراً حتى احتضنه الحاج زهدي بن أبي كمال العاني
وخاطبه بالتركية، قال له:
ـ أنت الآن في البوكمال، وقد أخبرنا أخو زهيّة بأنك ستجيء، انك ياولدي تشبه
أباك راحلاً رحمه الله.
أخذه الحاج زهدي معه إلى بيته، فتوافد الناس يسلمون عليه، وقد بدأ أخو زهيّة
يعلمه العربية. ولم يمض شهران حتى اتقنها تماماً فاشترى قارب صيد، وعمل صياداً
للسمك ثم أدخل صناعة العربات التي تعملها من الأرمن إلى المدينة.
في موسم الحج غادر الحاج زهدي وزاحم إلى مكة، فتاجرا وحجّا ثم عادا إلى
البوكمال، حيث تزوج زاحم من راجحة ابنة الحاج زهدي، وكان أخو زهيّة يصاحب
زاحماً أينما ذهب.
في أحد الأيام سافر زاحم وأخو زهيّة مع أربعين وليا إلى دمشق لزيارة مقام الشيخ
ابن عربي، وحينما عادوا اتجه الحاج زاحم إلى التصوف، فانقطع عن الناس تماماً،
ولم يخرج من بيته إلا
حين مات، وهو لم يبلغ الأربعين.
كانت راجحة زوجة زاحم حاملاً حين مات، وبعد شهر من وفاته أنجبت ولداً، فأطلق
عليه جده الحاج زهدي اسم عمر، وحين كبر عمر قليلاً عهد به إلى أخو زهيّة
ليعلمه.ترعرع عمر في كنف جده، ترعاه عيون ساهرة، وتحيط به معرفة يقدمها له
الشيخ، وبعد بلوغه العاشرة اتجه لتعلم الصيد وصار يتردد على مجالس الصيادين حتى
اعتبروه واحداً منهم.
بعد أن شبَّ قليلاً، قرر أن يسافر باحثاً عن الأرض، فعمل صياداً في المتوسط ثم
سافر على ظهر احد المراكب التجارية إلى المغرب، وفي المغرب انضم إلى المجاهدين
وقاتل معهم ضد الفرنسيين، ثم اشتغل فلاحاً في حقول الزيتون، وكانت السلطات
الفرنسية تطارده، فهرب إلى مصر. واختبأ طويلاً في الصعيد المصري حيث أنشأ مع
أحد الدلتويين محلاً صغيراً يصنعان فيه العربات الخشبية ثم تحول ليصير صياداً،
وسافر إلى الاسكندرية فمكث فيها أعواماً، كان خلال هذه الفترة الطويلة لم يلتق
بأحد ممن يعرفهم، وبينما هو يمشي متجهاً إلى منزله في إحدى الحارات القديمة في
الاسكندرية، شاهد أخو زهيّة حاملاً عصاه المباركة يشير إليه ليتبعه، تبعه عمر
حتى وصلا إلى سفينة كانت ترسو على الشاطئ.
قال أخو زهيّة:
ـ يا بنيّ، ألفت أرضاً غير أرضك، وابتعدت بقلبك عن ربك، فاركب سفينة آبائك،
واجعل الماء الذي أحضرك يعيدك، فما ترى الشمس بعد شهر إلا في البوكمال.
صعد عمر إلى السفينة، فوجد فيها ملاحين ضخاماً يشيرون إلى دفة السفينة، أمسك
الدفة وأمرهم أن يرفعوا الأشرعة كي تبتدئ الرحلة.
نقلهم بحر إلى بحر، وتعددت الشموس فوق رؤوسهم، يحدوهم حلم الوصول، فلم يتوقفوا
حتى ارتطم مركبهم بالضفة الطينية الرخوة.. اختفى ملاحو عمر فجأة، وحين نظر إلى
الضفة كان أخو زهيّة واقفاً عليها يلوح بيديه.
أحزنه خبر وفاة جده الحاج زهدي وأمه، لكنه تمالك نفسه فلم يبك ولم يحزن، وإنما
أفرح الناس بزواجه من ابنة خاله صبرية، ثم صار يعمل بتجارة السمسم والتمور،
فازداد ماله وتغير حاله، وسافر مع زوجته إلى مكة، فأديا مناسك الحج، وأقاما
بجوار النبي عاماً كاملاً، ثم عادا إلى البوكمال يحملان ابنتهما الأولى التي
أسمياها مكة.
بعد أن استقرا وعاد الحاج عمر إلى عمله وتجارته، أنجبت الحاجة صبرية غلاماً
فمات وغلاماً آخر فمات أيضاً أصابهما الحزن هو وزوجته لأنهما تمنيا على ربهما
أن يرزقهما بولد يحمل اسم عائلة العاني، وحين أخبر الحاج عمر الشيخ بأمنيته،
ضحك أخو زهيّة وأعطى لعمر عشبة قال له: انقعها بالماء يومين، ثم اسقها لزوجتك،
وسيأتيك ماتريد وحدث ماقاله الشيخ، فحملت صبرية وانجبت طفلها المنتظر أسماه
أبوه عاصماً، وما أن تجاوز أعوامه الأربعة الأولى حتى تولاه أخو زهيّة فعلمه
علوم دينه ودنياه، ورافقه إلى أن حصل على البكالوريا، واتجه بعدها ليعمل في
التجارة مع أبيه، فازدادت أموال العاني وصاروا مصدر حسد.
ولكنهم ظلوا محافظين على حب الناس لهم، يعطون للفقراء كي يبارك الله فيما
يكسبونه.
قال الناس عن عاصم الكثير، قالوا بأنه مجنون، ويحب العزلة، ويكره السفر، وكلما
حاول أخو زهيّة أن يدفعه ليسافر كان يغضب ويعتبر هذا تدخلاً في شؤونه.
زوّجه أبوه نورية بنت الحاج يحيى العاني. فأحبها لكنها لم تنجب له ولدا، يعيد
البهجة إلى قلبه، وبعد مضي عامين على زواجه قرر السفر باحثاً عن رزقه في الأرض،
فسافر إلى الشام، وركب الطائرة إلى قبرص، فعمل هناك بحاراً، وتاجر سمك، وانضم
إلى إحدى المنظمات الفلسطينية، فسافر مع مقاتليها إلى لبنان وتدرب على السلاح،
وحاول مع إحدى المجموعات التوغل إلى فلسطين لكنهم فشلوا.
عاد عاصم إلى قبرص، وواصل نشاطه التجاري، واشتغل حتى ازدادت ثروته، وكان قلبه
يحثه دائماً على الرجوع إلى مدينته لكنه ظل متردداً إلى أن أيقظه أخو زهيّة من
نومه مرة وطلب منه الرجوع، فركب الطائرة إلى دمشق ثم عاد إلى البوكمال. فوصل
إليها بعد منتصف الليل.
ظل عاصم يردد في سره دائماً: آه لو انني عشت الحياة التي اشتهيها، آه لو أنهم
لم يلاحقوني، ويضعوا تصرفاتي في قوالبهم.
الحركة الثالثة:
خرج زاعم من اللجة تقذف به صور أسلافه إلى عالم يتشرد سكانه في غابات لامخارج
لها، وضع رأسه على ركبة أخو زهيّة ونام، تتراقص الأشجار محتفية به، وتغني
الأنهار له. كان أخو زهيّة يردد:
ـ طقوس ما ألفها بشر، يداك اللتان تقبضان على جمرة المعرفة تضيئان عالم الظلام،
وتنيران كهوف النفس البشرية البائسة، حمل أخو زهيّة زاعماً على كتفيه، وسار
تنزل من عيني الغلام دموع لونها طيني، سار أخو زهيّة تحمله طريق رخوة إلى بيت
العاني، وما أن وصل إلى هناك حتى صار يؤذن، فاندفع حشد من الناس بلاعيون وصاروا
يدورون حولهما.
استيقظ الغلام وأطلق صرخة اندفع لها عاصم الذي كان نائماً. أمسك عاصم كف ابنه
ثم حمله وأراد أن يدخل، لكن أخو زهيّة أوقفه قائلاً:
ـ يابني، ابنك، ابنك، أحرق له البخور كل ليلة، واجعل بينك وبينه خيطاً يصله بك،
ويصلك به، وأما أنت فقد انصرفت عن بارئك إلى سواه، فأضعت ماصنعته لك، تب إلى
الباري فما من طريق خيرة غير طريقه.
بكى عاصم بكاءً مراً تلك الليلة، فأيقظ الجميع صوت نحيبه. صار يصل الليل مع
النهار يبكي ويصلي لربه، وهو يرى ملاكاً لايبتسم يحوّم حول سريره.
وذات صباح توقف صوت نحيبه، واخترقته أشعة الشمس، فصار شفافاً تحركه ريح غريبة،
تداعب أعضاءه وأطرافه، سكنته النشوة، فلم يعد يتكلم بل ان إنشاده ملأ المكان،
وصار الناس ليلاً يسمعون صوتاً جميلاً يتردد في البساتين، فهربت السعلوية التي
كانت هناك تطارد الصغار في أحلامهم وحلّ محلها صوت عاصم العاني يغني بصوت رقيق،
وقيل للصغار:
ـ ناموا ملء جفونكم، لم يعد ثمة سعلوية في البساتين، إن الملائكة تسكنها الآن
ترعى نخيلنا الطاهر وتحرس الغرب. كان الملاك الذي لايبتسم يحمل سفوديه ويقف
قبالة عاصم، لم يره أحد سواه، أشعل الملاك ناره وصار يدور حولها أياماً ثم أجلس
عاصماً بين يديه وأشار إلى النار، فاندفعت ألسنتها وارتفع صوت تآكلها، أمسك
الملاك عاصماً من يده وقال له:
ـ جئتك حاملاً بشارة خلاصك، وجهك سيبهت لونه، وجسدك المتوقد ناراً سيخبو، ويظل
صوتك مقيماً، فأحملك معي كل ساعة لتسمع صوتك، وأكتبك، والآن، سأفتت جزيئات روحك
النقية، وأحملها إلى حيث تجتمع الأرواح المحبة لبارئها.
شهق عاصم شهقة قوية، وأفرغ هواء صدره ثم تصلب جسده وانطلقت روحه طائرة، تحوم في
فضاء الغرفة، وكان الملاك الذي لايبتسم يطاردها بسفوديه، حتى انبعثت صرخة قوية
أوقف الروح في مدارها، وعمّ تشنج غريب، جعل الجسد يطلب روحه، ولكن الملاك الذي
لايبتسم كان قد حمل الروح وطار بها، أنارت شمس مشعة الغرفة، واصفرّ لون شجرة
النارنج، وصارت رائحتها أشبه برائحة الطحالب على وجوه السواقي.
حين دخلت الحاجة صبرية، وجدت عاصماً متجمداً، هزته هزة عنيفة، فارتسمت على وجهه
ابتسامة وهمد.
الحركة الرابعة:
اتشح البيت بالسواد، نائحات جئن من كل مكان، كان زاعم يقف في غرفته يطل من
الكوّة الصغيرة على النائحات.
وجوههن تحكي تاريخ فجيعة متصلاً لاينقطع.
دخلت صبيحة الخبازة، وصاحت (يبو)، فأجبنها النائحات وانهمرت دموعهن مدراراً،
قالت عائشة زوجة اسماعيل الكهوجي وهي تلطم:
لو صحت عليهم عليّ صوتج حيل
هذول أهل الكرام الساريين بليل.
كانت مكة العمة العانس تضرب رأسها بالجدار، وتدق على ركبتيها، أما نورية فإن
دموعها جفت في مقلتيها، ولم يعد يخرج من حنجرتها سوى صوت أنين مرّ.
عينا زاعم تطوفان على النسوة، تقطر منها دموع حارة سوداء، ويداه تمسكان حديد
الكوة خشية السقوط، كانت الحاجة صبرية تجلس بين النائحات، بين أصابعها تتلاحق
حبات المسبحة، صاحت نائحة (ياويلي) فارتفعت الأصوات ترد عليها، وظلت الأكف تلطم
الوجوه.
في زاوية الغرفة كانت ناجية تولول وتبكي، وناجية تزور المعادات، فتبكي الميتين
كأنهم أهلها. النسوة يتعلمن منها التعديد، وإلى جانب هذا فإنها تقرأ الموالد.
وتكتب الحجب، صاحت ناجية:
شلّي بالديار من بعد أهلها
لحطها بيد دلاّل وأبيعا
ردت عليها صبيحة الخبازة، وهي تنتف خصلة من شعرها المحنى:
لو صحتي عليهم عليّ صوتج حيل
هذول أهل الغنايم الساريين بليل.
كانت أذناه مصغيتين، أصوات تشق حاجز البكاء المخنوق، وتفتح الثغرات في النفوس
الملتهبة حزناً فيصير النواح حاضراً يوشيه هدوء الحاجة صبرية وتماسكها.
وشجرة النارنج تهتز في الحوش فوق الرؤوس المنتوفة، والوجوه التي فارقها النوم
وسكن البكاء عيونها.
---------------------
هامش الفصل الرابع:
1ـ السعلوية: السعلاة، وحش خرافي
2ـ الغَرَب: شجر فراتي
3ـ يبو: ياويلتاه.
4ـ المعادة: مجلس عزاء النساء
5ـ التعديد: ما
تقوله النساء أثناء البكاء على الموتى.
الفصل الخامس
الحركة الأولى:
استمر الحزن أربعين يوماً بنهاراتها ولياليها، كان زاعم خلالها حبيس غرفته،
رهين الصراخ والسواد.
في اليوم الأربعين، أنار الغرفة نور شديد بعث فيها دفئاً، وارتفعت قامة أخو
زهيّة يبتسم ابتسامته المطمئنة، عانقه زاعم واسند رأسه إلى صدره وصار يبكي، قال
أخو زهيّة:
ـ وما أدرك أباك غير حق، أدرك الجميع من قبله، إلاّ من خصهم الله بالخلود.
فلاتحزن وابحث عن روحك الخائفة المرتعشة. علمتك كيف تقرأ عالمك، فتعلم كيف
تكتبه.
ثم غادر أخو زهيّة دون أن يسمع كلمة من زاعم، الذي شعر بالطمأنينة وارتاحت
نفسه.
نظر من الكوة إلى السماء، كانت النجوم تخط خطوطها الضوئية البديعة، وتتقاطر
حاملة أسرارها، عربات تخبئ دهشة في عقل المراقب الطفل، الذي بدأ جسده يقشعر
وطغت عليه حالة من اللاوعي، فرأى أجداده يصعدون إلى تلك العربات ويقذفون التنين
الممتد فوق النجوم بالماء، فيهطل المطر الناري على الأرض ويحيل الحجارة نجوماً
تتصاعد ضمن مجرة تمتد حتى تشمل الأرض بأشجارها وبيوتها وجبالها لكن البحور التي
كانت تظهر فجأة وتختفي بين النجوم، جعلت الغلام يقفز مانحاً يديه حرية التقاط
النجمات الصغيرات ورميها مباشرة إلى الماء حصى يصنع دوائر تتسع وتتسع ثم
تختفي...
حين أخبر أخو زهيّة بما رأى، قال له:
ـ رجّ عقلك، الفضاء يتسع لك، وتحيط الملائكة بأغصان معرفتك رجّ عقلك، خلصه من
جدب الأرض وجفافها، حينها ستصل إلى رحمته، دون وسيط بينه وبينك.
الحركة الثانية:
في المدرسة ازداد التصاق زاعم بمقعده، وضاقت المسافة بينه وبين الكلمة التي صار
يلتهمها، كان يروي لأقرانه حكاياه، فيقودهم معه إلى عوالمه، ويغرقهم في بحور لم
يألفوها، ولم يعتادوا سماع أصوات حيتانها.
تجمع حوله أساتذته، واندفعوا إليه، يحرضهم كلامه للولوج أكثر فأكثر إلى قصصه،
واكتشاف حيوات سابقة، حيوات أشخاص جابوا الأرض، واجتازوا اللجج المخيفة، غير
هيابين أو مرتعدين. لم يكن يتعلم بل كانوا جميعاً يتعلمون منه، صامتين يصغون
إلى أحاديثه التي ماحدثهم آباؤهم بمثلها.
كان يعود من مدرسته كل يوم، ويسير إلى غرفة أخو زهيّة تدفعه نفسه دفعاً فلا
يستطيع التوقف.
عمّ الخير البوكمال، فكثرت أمطارها، وقل عجاجها وقيظها صارت نخلاتها تبدو
للناظر من بعيد مآذن تتلى فيها صلوات الشكر لله، واحتوت المدينة الوافدين إليها
فتغيّرت معالمها، وازداد عدد بيوتها، وانتشرت أخبار زاعم في كل المدينة، وصار
الناس يتناقلون قصصه الغريبة التي يرويها، فيضيفون عليها ماتيسر لهم، يقولون
مثلاً: كان زاعم جالساً مع أخو زهيّة، فأمطرتهم السماء، وبلل المطر رأسيهما،
فبقيا أياماً طويلة لايشربان الماء ولايأكلان الزاد، لأن بركة الله تحيطهما.
كان زاعم مولعاً بصيد السمك، يحمل دلوه وصنارته، ويسير إلى النهر تحركه شهوته
لمراقبة الماء المنساب منذ ملايين السنين، والاستماع إلى هذا الخرير الأبدي.
كان يجلس على سفينة آبائه، ويمد خيط سنارته إلى الماء فلايعود إلى البيت إلا
وقد ملأ دلوه بالأسماك.
في إحدى المساءات جاءه أخو زهيّة وأخبره بأنه مغادر ولن يعود إلا بعد سنة،
فانفصل زاعم عن شيخه وتلبسه عقل غريب. لقد كان جلوسه مع الشيخ يجعل حضور العقل
أمراً استثنائياً بل إن الشيخ كان يطلب منه قبل كل شيء أن يضيع ولايفكر بشيء،
وحينما يبدأ الشيخ بالنقر على الدف كان يهز كيانات مختلطة يأتي بعالم أشد
شفافية، إيقاعه ينتظم مع استمرار النقر على الدف والتنشيد، وجهه الأحمر الممتلئ
يزداد انسيابية وتصير ملامحه هادئة جداً، يذهب الغلام معه، يغيبه تماماً، فلا
يستطيع الرجوع، إلا منطفئاً، وكان الشيخ بعد هذا يحمل جرته التي لاينفد ماؤها،
ويسقي الغلام حتى يرتوي.
أما العودة إلى البيت فكانت أشد إيلاماً للبدن من مفارقةالروح لأنها كانت تعني
الانفصال، ولو مؤقتاً، عن كوخ تتراقص فيه ألوان قوس قزح محتفية بجلال الخالق،
باعثة الدفء والرعشة في الخلايا الملتصقة بأرض مهما امتّد بقاؤها، فإن الفناء
مصيرها.
فكيف يبعده عنه عاماً؟ كيف يخرجه منه، وينثره كأنهما ليسا كياناً واحداً؟ ظل
زاعم واجماً بلا شيخه، مصاباً بالذهول، هي حالة تمزق تصيب عقلاً مازال معلقاً
بين بين، فلماذا يتركه؟
ولماذا يريد أن يجعله يصارع أسئلته وحيداً؟
الحركة الثالثة:
اختفى الشيخ من البوكمال تماماً، ولم يعد يسمع صوت عصاه تدق الأرض أثناء مروره،
وقد حاول بعض الناس زيارته لكنهم لم يستطيعوا الدخول إلى غرفته لأن هواء غريباً
أغلق بابها فجعلها محصنة لايدخلها أحد ولايرى مابداخلها أحد.
صار زاعم أشد عزلة، وانصرف عن كل شيء إلى كتب كانت مكدسة في البيت يقرؤها،
ويراقب النجوم في الليالي، وكان يغادر البيت ساعات، ولايخبر أحداً بمكانه.
مرت سنة ثقيلة على المدينة، تمنى خلالها الناس أن يأتي أخو زهيّة، لحظات فيرى
ما يحدث في غيابه: غبار ثقيل على الأسطحة، ورياح عاتية تباغت الناس في لياليهم،
شتاء جاف بارد أحرق الأشجار فانقطعت ثمارها، وجاع الناس. كانت هذه سنة الجوع
الثانية، ويذكر بعض الناس أن آباءهم حدثوهم أن سنة الجوع الأولى جاءت حين كان
أخو زهيّة غائباً عن المدينة، أيام راحل العاني رحمه الله، وقال بعضهم: حين عاد
الشيخ، أرسل راحلاً إلى الآستانة ليحضر الطعام.
في ظهيرة أحد أيام أيلول، نهض زاعم فزعاً من قيلولته، كان أخو زهيّة يحيط به
ويقبله، سرى الدفء بين الشيخ وبين الغلام وعلا صوتهما يقرآن معاً آية الكرسي،
لم تكن نافذة الغرفة مفتوحة، لكن أخو زهيّة دخل مخترقاً الجدران كأنه الطيف،
وكأنه الحلم العذب المنتظر بفارغ الصبر.
بدأت الغيوم تملأ فضاء الغرفة، تحيط بكل غيمة هالة من ضوء غريبة خاطفة للبصر،
تمنح الناظر إليها شعوراً بالطمأنينة، انتشرت الفرحة في قلبي المتعانقين، ومرت
لحظات كأنها انسياب جدول صاف، تحول زاعم إلى حالة من التساؤلات القلقة، تغطي
حجم حنينه لزائره الطيفي المنتظر ذي البركات والشفاعات، معلم المعرفة:
ـ أين كنت؟، جعلتني أتثاءب باسمك، وأقضي الليالي مستحضراً كلماتك. أين كنت؟
مامرت غمامة في سمائي، إلاّ رأيتك في بياضها، فرجوتها أن تمطر، فتمنحك لي، ولو
قطرة، قطرة واحدة، للحظة واحدة، كانت كافية لتجعلني أعود فأحبو على الأرض،
باحثاً بين الحشائش، وبين ذرات الرمل عن صوتك الدافئ. بهت الشيخ، وهز الغلام
هزاً عنيفاً، كان الغلام يرتجف، وكانت يداه قد تحولتا إلى قبضتين جبارتين
تمسكان يدي أخو زهيّة الهزيلتين، تردد صدى بكائهما في الغرفة الملتهبة قيظاً،
لكن الشيخ تمالك نفسه، وكفكف دموعه ثم قال:
ـ يابنيّ، قد أنطقك الله، فيسّر لك لغة شيوخ تقاة وعلماء، فما أنت الآن سوى آية
من الكلمات الربانية، فامض في معرفتك، وابحث عن خلاصك من طمي الأرض لتصل إلى
عمق المعرفة الإلهية في جوف المحيطات العظيمة، وأهرب من شمس تحرق بضوئها صفاء
سريرتك وجهل ذاتك، كن مع الله يكن الله معك.
وأما أنا فكنت عنده يهدهدني جواره، وتطفئ نيرانَ قلبي رحمته، قد شابت روحي
بابتعادي عنه، وقد غفوت في أعماق يمكث فيها أسلاف لي يبحثون عني، واستأذنتهم
لأجلك، وها أنذا عدت إلى البيت.
التصق جسداهما، وفاضت عليهما أنسام عليلة، وتلاحقت صور الذين راحوا، يشيرون إلى
الفتى العاني، وجوههم الباسمة تثيره، تجعله يلتصق أكثر فأكثر بصدر الشيخ الذي
كان يسلم على صورهم، ويتلو آيات من القرآن، صار يتعرق وهو يمسح جبين زاعم، ثم
انطلق صوته يردد مرتجفاً:
ـ أبرأ جسدي، جل جلاله، وعافاني، نفض عني هموم عمر عشته بين جسوم لاتشعر، وجدتك
ياضالتي، فارتحت من ضياعي، ووجدتني بعد أن كنت مضيعاً. اختارك الله، واختاروك،
فاخترتك كي تكمل مابدأته، هذه الأرض، غايتي، وما جئت إلا لأخلصها، وما جئت إلا
لتفعل الفعل نفسه.
اختفت كلمات أخو زهيّة، وصار يتلاشى، تحول إلى مياه، ثم إلى طيور، فسكنت زاعماً
رعشة جعلته يغفو، تتلاحق في مخيلته صور الذين راحوا، ينادونه ليتبعهم.
الفصل السادس
الحركة الأولى:
تجاوز زاعم السابعة عشرة، ومازالت أخباره تنتقل بين الناس صانعة له حكايا
غريبة، كثرت القصص عن إيمانه الشديد وانصرافه عن الحياة إلى البحث في أسرار
الخليقة حتى صار له مكان بين كبار الشيوخ والأتقياء، وحلّ معلماً في الجوامع
لتلاوة القرآن، فكان يقوّم اعوجاج سلوك تلامذته، وانحرافاتهم في سبيل الله.
ولم يكن يبدو للآخرين متكبراً بما يملك من مزايا وثروات تركها له أبوه وجده بل
كان بسيطاً رقيقاً هادئ الطبع وقد ظل باراً بوالدته حتى ماتت حين كان يقوم
بزيارة لمقام أحد الأولياء في تركيا، كان يطلع على علوم الناس وثقافاتهم من
خلال الكتب التي يجلبها له رفاقه من سفراتهم، وقد استمرت لقاءاته الحميمة بأخو
زهيّة فلم ينقطعا عن بعضهما أبداً.
بينما كان زاعم منشغلاً بقراءة احياء علوم الدين للغزالي فاجأه المذياع بنبأ
الحرب، فأصابه مسّ ، وارتج جميع بدنه. هذه الغابة التي تسمى الأرض مازالت
ضباعها طليقة تنتهك حرمة أرانبها، وتنشر روائحها الكريهة في كل مكان، تباً لهذا
العالم الذي لايقيّد هذه الضباع وينزع أنيابها ومخالبها، لابد أن تزول هذه
المخلوقات النتنة التي تلتهم الجمال كي يعود للعالم صفاؤه وحريته.
لابدّ أن المذياع يمزح، كانت الشمس تطوق المدينة بسياطها، فتجعل النفس يضيق.
استمر المذياع يعلن البيانات العسكرية ويبث الأغاني الثورية وكان صوت هادئ
دافئ يندفع بين الحين والآخر يبعث الرعشة في صدره ويجعله يقفز من على كرسيه ثم
يعود فيهبط بوجهه على الأرض، محدثاً ضوضاء لاتحتمل.
دخلت الحاجة صبرية الغرفة، فوجدته يتطاير كورقة خريفية تتناهبه ريح خوف وموجات
مذياع لايهدأ.
حاولت الحاجة صبرية، التي كبرت كثيراً، إمساكه، لتطمئنه، لكنه استمر حتى صار
رأسه يصل إلى السقف فيضربه بشدة باعثاً صوتاً أشبه بقرع على طبل، سال الدم من
أنفه، ومن قمة رأسه فأحدث بركة دموية على أرض الغرفة.
سجدت الحاجة صبرية ودعت الله أن يعيد إلى حفيدها هدوءه وينير بصيرته المرتبكة
بسبب مايقرأه من الكتب التي أثقلت عقله المضاء بنور من الله وبركة من أنبيائه.
قال المذياع: استمر القصف الجوي طيلة الليل الفائت، ويقدر الخبراء أعداد
الشهداء بالمئات، وأما الجرحى فقد ملأت المستشفيات أجسادهم، إنهم يقتلون
الإنسانية، وسنرد كيدهم إلى نحورهم.
وعاد ذلك الصوت الدافئ الذي يشبه أصوات الملائكة ينساب كنهر صغير تلامس قطرات
مائه الصافي رمال قلب زاعم المحترقة، فتعيد إليه توازنه، وتجعل من هيجانه حالة
كانت، ولم يبق من أثرها سوى دماء تشكل دائرة على أرض الغرفة.
جلس على الأرض، وصار يضمخ يديه بدمائه، ويمسحها بزجاج النافذة المطلة على
الشارع، وقالت جدته وهي تمسك رأسه وتحاول ايقاف نزيف الدم الشديد:
-العين، أصابوك بالعين، لا يصلّون على النبي حين تمر، لعنهم الله، ووضع النار
في عيونهم.
رفع رأسه إلى الأعلى ونظر إلى عيني جدته الدامعتين وصار يردد كلاماً لامفهوماً،
ثم أمسك يدها ونهض، وقال وهو يسير معها إلى خارج الغرفة:
الحرب ياجدتي، قال الشيخ إنها تأكل الأخضر واليابس.
ثم خرجا من الغرفة، وسارا عبر باحة الدار حتى وصلا إلى غرفة جدته، وهناك
استلقى، وغطّ في نوم عميق تخلله صوت مذياع يعلن نهاية الحرب، وصوت مذياع آخر
ينبعث منه نشيج أخو زهيّة.
حين استيقظ من نومه أيقظ جدته وطلب منها أن ترافقه إلى غرفته، نهضت الحاجة
صبرية وتبعتها العمة العانس وحين دخلوا الغرفة لم يجدوا أثراً لبركة الدم،
وإنما وجدوا بعض سنابل القمح المحترقة تغطي جثة عصفور مرَّعلى موته أيام. دهشت
الحاجة صبرية والعمة العانس، أما زاعم فأنه سار ببطء، فحمل جثة العصفور ووضعها
على حافة النافذة فجاء عصفور جميل وحمل العصفور الميت وطار عالياً، حين التفت
زاعم إلى الوراء رأى سنابل القمح المحترفة تطير في فضاء الغرفة، وتندفع واحدة
بعد الأخرى من النافذة، وكانت كل سنبلة منهن تقطر دماً أثناء طيرانها، لكن
قطرات الدم لم تكن تكاد أن تصل إلى الأرض حتى تتحول إلى حجارة صغيرة، جمع زاعم
الحجارة ووضعها في جيبه، ثم قال:
ـ انظروا القمح والطيور رحلوا، ستكسو وجه الأرض الحجارة، وعلينا أن نغادرها
لنصير طيوراً أو ضفادع أو أي شيء.
أنا سأرحل قاطعاً المحيطات، باحثاً عن أرض لايقتتل أهلها. اندفع صوت المذياع:
وكان على الأطفال أن يختفوا في جحورهم لكنهم خرجوا، فأصابتهم القذائف، ومزقتهم.
الحركة الثانية:
بدا كل شيء أمام عينيه خراباً، عفناً، لاجدوى منه، وكان قادراً على الصمت
والمكوث، رغم رائحة القذارة التي يشعر بها تملأ خياشيمه، صار يحس بأنفاسه
الثقيلة تصدر فقاعات وقد جعل بينه وبين جميع الناس حاجزاً من ضوء يحجبه عنهم،
ويحجبهم عنه، فلا يراهم إلاّ أطيافاً، ولايرونه إلاّ سراباً مستلقياً على ظهره،
رافعاً ذراعيه إلى الأعلى.
تردد عليه الشيخ كثيراً، وكان كلّ مرة يسحبه، فيخرجه قليلاً من خلف حاجزه
الضوئي، حتى نجح أخيراً في جعله ينبض ثانية، ويشرق وجهه.
نادت جدته العابرات السماويات اللواتي يقبعن على شجرة النارنج، وهي تقول:
ـ اهبطن، إنه ينهض الآن، اهبطن، ترين بساتينه الخضراء فلتنقرن حبوب الحنطة التي
أعدت لكنّ، ولتغسلن ريشكن النوراني بمياه جسده الطاهر.
هبطت عصافير ملونة، وصارت تخترق جدران غرفته، وتحوم فوق رأسه مصدرة أصواتاً
تشبه أصوات الصقور الجائعة.
دار زاعم في الغرفة، ودارت الطيور حوله، ثم اندفعت مادة مناقيرها باتجاهه،
مخترقة جسده، ثم خرجت من الجانب الآخر يحمل كل واحد منها حبة حنطة بمنقاره.
انتشرت الروائح الغريبة كأنها روائح الحروب، وظهرت صور لاحصر لها على جدران
الغرفة، ازداد تنفس زاعم صعوبة وسال دم أحمر قانئ من بطنه، صارت السماء تمطر
فتدخل قطرات المطر من سقف الغرفة وتغسل بقع الدم.
كان يرتعد، والطيور تحوم حوله بسرعة، أصوات أجنحتها تصم الآذان، وصراخها أشبه
ببكاء الأطفال، تخبط زاعم بين الطيور ولوّح بيديه يطاردها، حتى فرت ولم يبق لها
أثر.
قالت جدته، وهي تدخل حاملة صينية عليها أطباق الطعام:
ـ هبطوا فطهروك، وتطهروا. باركوا روحك، وتباركت أرواحهم. جاؤوك من آخر الدنيا
لتعود إليها. لقد غبت عنا أياماً، كنت فيها من الأموات ولست ميتاً، هائماً، وآن
أوان نهوضك، فانهض وعد إلى شمسك.
عاد إليه لون وجهه، وهدأت نفسه، جلس يراقب عيني جدته، يلوح في مخيلته طيف أخو
زهيّة.
بعد أن تناول طعامه، قام فصلى لربه ركعتين، ونام قرير العين ثم استيقظ، واتجه
مباشرة إلى غرفة جدته.
كانت مكة عمته العانس تفرك ظهر أمها وهي تغني:
غريبة من بعد عينج يايمه محتارة بزماني
يهو اللي يرحم بحالي يايمه لو دهري رماني.
وكانت الحاجة صبرية تسبح بمسبحتها الطويلة وتهز رأسها. انتفضت العمة العانس حين
رأته، وسترت ظهر أمها وهي تلومه لأنه دخل دون أن يستأذن، أسكتتها أمها، وعانقت
حفيدها، وقالت له:
ـ معليش ياولدي، لاتزعل من عمتك، وادخل أي مكان تريده، ولاتفكر يوماً باستئذان
أحد.
قبل زاعم جبين جدته، وانحنى على كفها العظيمة فضمها، ثم رفع رأسه إلى حضن جدته
وصار يغني مع عمته، التي واصلت فركها لظهر أمها. كان يراقب بطرف عينيه ثوب جدته
الذي بدأ ينحسر عن نهدين جافين متهدلين، جلدهما متغصن، اقشعر بدنه، وأشاح بوجهه
بعيداً، تذكر ثديي أمه، كانا أملسين، لونهما أبيض مثل لون الحليب الذي كان يخرج
من حلمتيهما الريانتين نزلت دموعه على وجنتيه حين تذكر أمه، التي ماتت دون أن
يقبلها، حتى أنهم دفنوها قبل عودته من سفره، قالت جدته حين رأت دموعه:
ـ لماذا تبكي، افرح لقد خلصك الله من همك، وجعل لك أناساً يساعدونك، حيثما
اتجهت، فاتبع شيخك تغنم.
نهض، في قلبه تجتمع رغبة قوية لمعانقة أخو زهيّة، وفي عينيه قلق، تبعته، أثناء
سيره، غمامة سوداء، ولم تفارقه، كان يتعثر في خطواته، مرتبكاً، تمنى أن يصل أن
يعانق شيخه الذي يخلصه دائماً والذي يضيء الطريق أمامه ليمضي دون خوف.
الحركة الثالثة:
كان يحث خطاه، مبيحاً لنفسه، للحظات فقط، الوقوف والنظر إلى الخلف لرؤية
الغمامة السوداء، التي خالها نذير شؤم فتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم، وحين
ابتدأ يوغل في بساتين البرغوث أكثر، صارت الغمامة تتضاءل حتى لم يبق منها شيء
حين وصل إلى غرفة الشيخ التي كان ينبعث منها صوت رقيق يتلو آيات من القرآن
تتطاير كلماتها عابرة فوق أشجار الزيزفزن والحور والصفصاف حتى تعانق رأس أعلى
نخلة تنتصب على ضفة الفرات، إلى جانبها نخلات صغيرات ينظرن إلى شموخها، ويلوحن
بأكمامهن للطيور المتجمعة بين أعذاقها كأنهن يرددن: متى سنعلو، فنصير مثلها؟.
ولج الغرفة فلم يجد شيخه، وإنما وجد طفلاً صغيراً يشبهه تماماً حين كان صغيراً،
كان طفلاً يجلس مثل أخو زهيّة. ويضع على رأسه العمامة نفسها، فجأة صار الطفل
يكبر وتنبت له لحية ثم يشيب شعره وتملأ التجاعيد وجهه حتى يصير أخو زهيّة.
تمايل زاعم في مكانه وسقط مغشياً عليه في حضن شيخه، كانت شفتاه ترتجفان ويداه
تمسكان بركبتي شيخه الذي لم يحرك ساكناً، وإنما ظل يتلو آيات من القرآن وهو
يراقب نجوماً تتهاوى في نهر الفرات، فتضيء ماء النهر وتزيد جريانه.
وضع أخو زهيّة كفه على جبين زاعم، وردد:
ـ أمثل أمامي، أيها الروح الحائر، أنقلك خارج هذه الأرض لاتكن إلا ما أرادك،
فإنني كائن ماأراد، قدّامك تزهر معرفتي، تخضّر أشجارها الغضّة، وما أنا سوى
أنت، فامثل أمامي، أبارك كل نقلة قدم تنقلها.
انهضه واجلسه أمامه، لم يفتح زاعم عينيه، كان مغيباً تماماً، مأخوذاً بحالة سكر
غريبة، يدور رأسه مع كل كلمة تنطق بها شفتا الشيخ الجافتان.
استمر الحديث ينقله إلى أماكن جديدة، ساعات مرت سريعة، زار خلالها بلاداً وعرف
أشخاصاً، وحين خرج من غيابه إلى حضوره، غادر غرفة الشيخ، وحكى للناس عما رآه،
قال: ـ وهناك كنت أمر بالناس، وأحكي لهم عنكم، وعن مدينتنا لقد أمضيت أياماً
في مدينة كبيرة يلاحقني رجال شرطتها، لأنهم حسبونني فارّاً منهم، التجأت إلى
بيت علم وأدب، فتعلمت الحساب، وقرأت من الشعر الكثير.
قال شجاع السالم:
ـ يازاعم، البارحة رأيناك في الجامع، فكيف غبت وسافرت، وأنت لم تغادر البوكمال؟.
تابع زاعم كلامه وكأنه لم يسمع:
ـ قررت أن أستقر، لكن أخو زهيّة طلب مني الرجوع، فركبت سفينتي وعدت إليكم.
قاطعه مجيد العلي الذي يدرس التاريخ في جامعة حلب:
ـ ماتقوله دجل، وكذب، أنت تحلم.
كانت أذناه مغلقتين، لاتصغيان، حديثه لم يتوقف، كان يقص على المجتمعين قصصه
المثيرة، في كلامه سحر غريب جعل الجميع لا يفارقونه، يتكلم بلغة مهذبة جميلة،
تدفع المتحلقين حوله للبقاء والاستماع، حتى ناصر بن زهري الحايج الذي عرف في
البلد بأنه لايحب الكلام والمتكلمين، والذي حارب أخو زهيّة واعتبره دجالاً
وحاول كثيراً أن يؤلب الناس عليه، لكن الناس نفروا منه وقاطعوه واضطر أبوه مرات
عديدة للاعتذار من اخو زهيّة ومن الناس مدعياً أن ولده فقد عقله.
حين نهض زاعم من مجلسه، رأى الذين كانوا حوله غمامة سوداء تتبعه، فتحجبه عن
الأنظار.
قال شجاع وهو يشعل سيجارة:
ـ ياجماعة، زاعم لايكذب، ربما يكون وقته لايشبه وقتنا، وأنتم كلكم تعرفونه، انه
مؤمن يصلي ويعبد ربه.
قال تمام الشريف:
ـ والله صحيح، قال لي أبي يجب أن أصير مثل زاعم ليرضى عني، ضحك مجيد، وهز
كتفيه، تفرق الجميع إلا ناصر فقد بقي جالساً في مكانه تحت شجرة التين العتيقة،
يفكر ويعيد على نفسه سؤالاً متكرراً: ربما، ألا يمكن أن يكون زاعم امتداداً
لهذا الشيخ العجيب الذي لايعرف أحد من أين جاء أو متى؟.
الحركة الرابعة:
عاد ناصر إلى بيت أهله يجر خطاه الثقيلة، بيت زهري الحايج يعملون منذ زمن بعيد
في (حياكة البسط)، وفي حوش بيتهم توجد (جومتان) يعمل في واحدة أبو ناصر وفي
الأخرى يعمل ولداه أيوب وناصر.
جاء زهري الحايج إلى البوكمال منذ سنوات مع زوجته، فاشترى بيتاً، واستقر في
النّكرة أحبه الناس ووثقوا به لأنه كما يقولون طيب وابن حلال.
وقد نشأت بين زهري وعاصم العاني صداقة فسافرا سوياً وتاجرا بالسمسم والتمور،
لكنه بعد وفاة عاصم عاد إلى عمله السابق، فحبس نفسه في جومته يعمل ليلاً
ونهاراً، ويقولون ان زهري الحايج إذا خرج من بيته إلى السوق تاه في البلد لأنه
لم يعد يعرف شوارعها نتيجة انقطاعه الطويل.
كان ولداه يعملان معه، رغم أن ناصراً يعمل موظفاً في مصلحة النفوس، إلا أنه يرى
دائماً أن مهنة أبيه تشرفه، وعليه أن يتعلمها جيداً حتى تؤمن لهم حياة هانئة.
دخل ناصر غرفته، استلقى على سريره، يطارده شبح زاعم الشاب الغريب الطباع، ناداه
من داخله هاتف وطلب منه أن يصدق زاعماً وأن يبتعد عن التصرفات السيئة التي
يعلمه إياها رفاق السوء الكفرة.
على الجدار قبالته كانت صورة ما تمد لسانها له، نهض ناصر وانقض على الصورة
فمزقها، وعلى الكتب المكدسة على الطاولة الخشبية العتيقة فصار ينثرها أرضاً،
كأن يداً قوية تدفعه ليفعل كل هذا. تراجع إلى الجدار وصار يلهث، سيطر عليه
التعب، وأرهقته ثورته المفاجئة، لم يكن يعرف ماالذي عليه أن يقوم به، فتح باب
الغرفة وخرج.
قادته قدماه إلى بيت العاني القريب من بيتهم، دخل غرفة زاعم الذي بادره بالقول:
ـ علمت أنك ستأتي، لأنك طيب، هم حاولوا إفسادك، لكن أصلك الطيب أعادك إلى
صوابك، يقول لك الشيخ: اطع ربك، تنل ماتبتغيه، ولاتكونن من العصاة المكذبين.
أجهش ناصر بالبكاء، وأثقلت صدره هموم سنين ضياعه، وفساده بين الكتب المخربة،
والأصحاب الشياطين، احتضنه زاعم الذي كانت عيناه تحملان بريقاً سحرياً، بريق
انتصار لايمكن أن يمتلكه أحد سواه.
جلسا في الغرفة ساعات، يقص زاعم خلالها حكايات أسفاره، فيثير خيال سامعه ويجعله
مأسوراً له.
حين خرج ناصر من البيت، كانت قبرة تحط على رأسه، لكنه لم يحاول إبعادها، أحس
بأنها دليل خروجه إلى عالم جديد وشعر مع كل خطوة يخطوها أن قدميه تسيران إلى
سبيل فيه خلاصه، ربما يكون مخطئاً، وربما يكون قد أسلم نفسه لدجال وساحر، لكنه
على كل حال لن يخسر أي شيء.
لم يكن يؤمن أبداً بالخرافات والمحتالين، لكنه سيتبع زاعم العاني حتى
النهاية....
ارتبك تنفسه، وتردد قليلاً، أراد أن يعود إلى بيت زاعم ويحطم رأسه، لكنه رفع
يديه إلى الأعلى وتابع طريقه وهو يردد في سره: على كل حال لن أخسر شيئاً، لن
أخسر.
-----------------------
هامش الفصل السادس:
1ـ حياكة البسط: حياكة السجاد المحلي، المصنوع من قطع القماش.
2ـ الجومة: نول الحياكة، وهو عبارة عن حفرة في الأرض لوضع
القدمين، يثبت فوقها النول الخشبي المتحرك.
النكرة: حي قديم من أحياء البوكمال.
الفصل السابع
الحركة الأولى:
اعتاد زاعم في الآونة الأخيرة الخروج إلى الشارع، والاجتماع بالناس، وكان كل
يوم يزداد قرباً من بعضهم، وبعداً عن بعضهم، حاربه الكثيرون لأن الكلام الذي
يقوله عن فسادهم وضياعهم كان يثيرهم، وصدق الكثيرون ما قاله فرددوه، وصاروا
أصحابه المقربين، وكان ناصر الحايج قد ابتدأ يأخذ مكانه على أنه الصديق الأقرب
لزاعم.
زارا معاً غرفة أخو زهيّة، وصارا يعملان في التجارة التي تركها آل العاني
لابنهم، وقد لاحظ الناس أن ناصراً لم يكن يفارق زاعماً إطلاقاً، بعد أن كان
يحاربه ويحارب أخو زهيّة.
كان أصحاب زاعم حوله يحيطون به وكأنهم جنوده، يقفون إلى جانبه أثناء الصلاة، ثم
يتحلقون تحت شجرة التين القديمة يستمعون إليه يحدثهم عن ليلته الحافلة التي
تجول خلالها وسافر إلى مصر وتونس ولبنان، لم يشكوا بكلامه، وكان لديهم إحساس
قوي بأنه يقول الصدق، وكان أخو زهيّة يظهر أمامهم فجأة فيركضون إليه ويقبلون
يديه فيقودهم إلى غرفته حيث يعلمهم علوم السنين، وأخبار الناس السابقين.
جاء رمضان فاعتكف زاعم وناصر وتمام الشريف في المسجد، فلم يعد يراهم أحد، حتى
الذين يذهبون إلى الجامع أو يقيمون فيه، فظن الجميع أن أحد أبواب غرف جامع عمر
المظلمة، التي تفوح منها روائح الرطوبة صيفاً، شتاء، قد أغلق عليهم، ولم يعد
بإمكانهم الخروج.
وفي الليلة العشرين من الشهر المبارك، ارتفعت ثلاث غمامات سوداء وأمطرت فوق
مئذنة الجامع، فانبعث الثلاثة متشكلين من قطراتها، وهبطوا إلى فناء الجامع يحمل
كل واحد منهم في يده قرآناً، وبين شفتيه حبة تمر يمصها.
انتشر الهرج والمرج بين المصلين، وعلت أصوات التكبير، والشهادات، قال الحاج
قدوري:
ـ سبحانك ياربي، ولا إله إلا أنت، أرسلتهم إلينا مع الغيم وقد أصابنا اليأس من
عودتهم.
أعمل الثلاثة أيديهم في الأرض، وصاروا يحفرونها حتى تدفق ماء من الحفرة الكبيرة
التي لم يستغرق حفرها سوى دقائق معدودات.
تقدم أخو زهيّة منهم، فصلى على النبي ومسح وجوههم ثم أشار إليهم فتبعوه، وخرجوا
من الجامع تظللهم غمامة سوداء كبيرة ويرافق سيرهم الهادئ الواثق صوت مقرئ يقرأ
سورة النور استمر سيرهم أياماً لم يتوقفوا خلالها إلاّ للصلاة، وظلت أصواتهم
تسمع في الجامع تدعو الناس إلى الخروج والنهوض من الرقاد الذي طال.
رأى الثلاثة بأعينهم أخو زهيّة يسير على الماء، ويطير في الجو كأنه أحد الطيور،
لم يكونوا مندهشين مما يرونه، لكنهم ظلوا صامتين يجولون بأبصارهم يراقبون حركات
الشيخ، وأفعاله، ويصغون إلى أية كلمة يقولها لهم.
في صبيحة عيد الفطر، أثناء صلاة العيد، كانوا يقفون بين الناس خلف امام الجامع
الكبير الحاج صادق الذي خطب في الناس بعد انتهاء الصلاة، وحدثهم أن أخيراً
وفيراً سوف يصيب مدينتهم، إذا طردوا شرورهم، وأحقادهم وتبعوا طريق الله.
قال زاعم للناس حين انتهى الحاج صادق من خطبته:
ـ أيها الناس، أبلغني الشيخ أننا هالكون إن لم نصلح حالنا، ونرجع إلى خالقنا.
هتف الجميع: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله.
وساروا خلف زاعم ورفيقيه، خرجوا إلى الحسيان، وسجدوا لله طويلاً حتى ملأ التراب
عيونهم، كان رائد الخلف ينشد والرؤوس تهتز وتترنح الأجساد كأن أصحابها سكارى،
تعالت أصواتهم يكبرون حين انبعثت من خلف جبل الحسيان، إمرأة، ملاك بجناحين
نورانيين، وتاج كأنه تاج إحدى الملكات الأسطوريات، قد تعرت تماماً من ثيابها،
وانتصب نهداها الرمانتان الجميلتان، وأنساب فخذاها نهرين رقيقين، كانت شفافة
ترى التلال البعيدة من خلالها.
ذهل زاعم لرؤية جسدها الأبيض المتلألئ، وتدلى لسانه من فمه أحس بجسده تشعله نار
قاتلة، ونسي ماكان يردده من كلمات صار يركض إلى الجسد الشفاف ويحاول بلوغه،
لكنه كلما اقترب، كان الجسد يبتعد عنه.
تبعه الكثيرون وكان من بينهم صديقاه ناصر وتمام، ظلوا يركضون ساعات، والجسد
ينسحب من أمامهم شيئاً فشيئاً.
أخيراً، هبط زاعم على الأرض لاهثاً، وضاق تنفسه، كان يشعر برغبة جامحة تعشش في
صدره وبين فخذيه، تمنى أن يلمس الجسد الشفاف أن يخترقه بكليته، كان يراقب الصدر
الجميل ويتذكر صدر أمه وصدر جدته، أحرقته، الشهوة، فابتعد عمن تبعه، وعاد
وحيداً إلى بيته، وهناك انزوى في غرفته، يتقلب في سريره، وكان يرى الجسد في
منامه ويقظته، يطوف حوله، وقد نام إلى جانبه مرات استيقظ بعدها ليجد نفسه
متعرقاً يحتضن الوسادة أو البطانية.
الحركة الثانية:
مرت الأيام ثقيلة عليه، حتى جاءه أخو زهيّة عابساً غاضباً، وصار يؤنبه لأنه نسي
ربه، وانشغل عنه بالخطيئة التي لاتغتفر، تلعثم ولم يجد جواباً، كان الشيخ
يحاصره بالكلام، حتى أنه شتمه، وأطلق عليه صفات لم يعتدها، ثم قال له:
ـ يافاسق أغوتك نفسك الأمارة بالسوء، فابتعدت عن ربك ولكن اعلم أنه يراقبك، ولن
تخلص من عقابه لأنك نسيته، هل تريد أن تهدم كل مابنيته لك ولآبائك التقاة
الورعين؟
كان يمص شفتيه، يتلذذ بلعابه المالح، وأخو زهيّة يقرأ آيات من القرآن ليهدئ
روحه، لكنه لم يكن يفكر أو يسمع شيئاً، عيناه شاخصتان على الجدار، ثمة تقبع
المرأة ذات الجسد الفضي والنهدين الرمانتين.
طاردها أخو زهيّة ، حمل عصاه وضربها، لكنها ظلت تنير بابتسامتها الغرفة
الموحشة، بينما زاعم يمد لسانه ويلعق جسدها، كان لعابه يملأ سرتها ويسيل على
فخذيها.
بعد أن تعب أخو زهيّة غادر الغرفة مطأطأ الرأس، يلفه صمت خيم عليه وصار يسحبه
كي يغادر، سار: خطواته فقدت أثرها وبدنه الصلب يتمايل كشجرة طرية في العاصفة،
تحطمت قواه فسقط على الأرض وصار يتفتت: امتزج بالتراب، وارتفعت عصاه المباركة
شجرة ملأت رائحتها العبقة جو الغرفة، كانت المرأة تدور حول الشجرة وتحمل
التراب/ أخو زهيّة وتنثره ليتطاير مع الهواء البارد الجاف الذي صار يدخل صدر
زاعم فيحوله إلى كهل يشبه شيخه تماماً.
كانت المرأة تضحك وهي تعرّي زاعماً / الكهل ثم تضاجعه فيزداد كهولة، ويشحب
لونه، ضغطته بثقلها، وتراقص جسدها الجميل فوقه، كانا يتعرقان، كلاهما متصل
بالأرض، تنتشر الزهور الجميلة حولهما.
وضعت بين شفتيه حلمتها الكرزية، فصار يرضع الحليب ويصرخ:
ـ جئت تخلصيني، ياأماه، من خطيئتي، جسدي ماامتد عروشاً لولاك، وعيناي
الذابلتان، ما كان لهما أن تتوهجا لولا ضياؤك.
ابتسمت المرأة وهي تنهض عنه، وتغادر الغرفة دون أن تتكلم. حل ظلام دامس، وبقي
أخو زهيّة واجماً ينظر حوله، يبحث عن زاعم والمرأة.
الحركة الثالثة:
لم يعد زاعم موجوداً، اختفى كأنه لم يكن، حاول أصدقاؤه البحث عنه، لكنهم لم
يجدوه، كأن الأرض انشقت وابتلعته بينما اعتزل أخو زهيّة الناس وقبع في غرفته
لايحدث أحداً.
وكان الحاج قدورى مؤذن الجامع يقف كل يوم ويدعو الله أن يعيد الغائب الذي
يحبونه.
في إحدى ليالي الأربعاء، قادت الحاجة صبرية النساء وهبطن عبر البساتين إلى نهر
الفرات، وكانت كل واحدة منهن تحمل بضعة شمعات وقطعة من الخشب، كانت الحاجة
صبرية في المقدمة حاملة القرآن، تتبعها ابنتها العانس.
دموع تسيل من عيونهن، والتصاق أقدامهن بالطين الدبق يؤثر في حركتهن، فيتدافعن
ويتقاربن، يلفهن سواد الليل وسواد عباءاتهن.
حين وصلن إلى الضفة، وضعت كل واحدة منهن شمعاتها على قطعة الخشب، وانتظرن
انتهاء الحاجة صبرية من صلاتها، انهت الحاجة صبرية ركعتيها، ووضعت القرآن
أمامها ثم بدأت تقرأ سورة ياسين بصوت مرتفع، لم تكن أية واحدة من النسوة
المجتمعات خلفها تستطيع القراءة مثلها، كن واقفات بصمت، ينخر البرد عظامهن،
وتلسعهن ريح كوانين بسياطها.
نهضت الحاجة صبرية وسارت إلى الأمام حتى لامس الماء طرف ثوبها. انحنت وغسلت
وجهها، ثم أشارت إلى ابنتها العانس فأشعلت عود ثقاب وطافت به على الشمعات.
تقدمت فتاة جميلة من النسوة، واقتربت من الحاجة صبرية، ثم جلست قربها، وقالت:
ـ يعني سيعود الغايب ياعمتي؟
هزت الحاجة صبرية رأسها، وهي تردد: إن شاء الله، يرجع...
صارت كل امرأة تدنو فتناول الحاجة صبرية قطعة الخشب وعليها الشمعات المضاءة، ثم
ترجع إلى الخلف، وكانت الحاجة صبرية تضع القطعة الخشبية على سطح الماء، فتطفو
وتمشي مع التيار اندفع موكب الشموع وسار مهتزاً، والنسوة ينشدن:
يارب ياعالي ترجع الغايب
يارب ياعالي يعودوا الحبايب.
وبحت أصواتهن وهن يطلبن من زاعم أن يعود، لأن الناس يحتاجون إليه كما هم بحاجة
إلى الماء والهواء.
وبينما هن كذلك، جاء أخو زهيّة يحمل بيده شمعة، وصار يقترب من الحاجة صبرية، ثم
ناولها شمعته، فأشعلتها، ورمت بها عالياً في الجو، فصار أخو زهيّة يكبر ويدعو
الله أن يخلص النساء من جنونهن، وأن يحبسهن في بيوتهن لأن في خروجهن فتنة
للصالحين.
كانت الشمعة ترتفع، وتنشر ضياءها فوق وجه النهر الهادئ.
كن يبكين من فقدن، ويتمسحن بثياب أخو زهيّة ويطلبن منه أن يعفو عنهن، لأنهن
عصين ربهن.
الحركة الأخيرة:
ظللته سحابة قلق، وأحاط به إرهاق شديد، لم يكن العالم سوى حفنة تراب متبقية،
وعليه أن يجتاز حدوداً كثيرة حتى يبلغ ماأخبرته به الأحلام.
سوى دوائر سقيمة لم يتبق له، ومداره الشاسع الذي تخيله وطار لأجله، تهاوى
وحطمته أسئلة تبثها، فزعة عيناه المغروزتان بجدران مبكاه الأخير.
كلما التصق بجدار أسند رأسه، وانهالت عليه ضربات موجعة تمتد من سماء بعيدة.
عليه أن يبدأ الآن، أن يسافر مع الحلم الذي تعلمه، ثمة عوالم تنتظر هبوطه عليها
مبشراً بمياه تتدفق من عينيه العسليتين، فتحيل اليباس خضاراً.
آن للمخزون الذي في داخله أن يخرج، ويبث صفاءه في عالم حرب وقتل، أجساد مدماة
تتناهبها طرقات شاحبة، تثير عقله، طرقات طينية على جوانبها نخيل وامتدادها هبوب
نسائم الحرية، طرقات طينية على جوانبها جثث تسمو رافعة أذرعها، تتوسل إلى هذا
القادم من جوف بحر عميق حاملاً أسراراً لم يطرق أبوابها أحد، جسده تتقاذفه
أمواج من كلمات، رددها وعلمها عصاه المباركة التي تدق الأرض وظهره المحني هما
ارثاه اللذان يؤرقانه.
نهض، تقوده قدماه، سيره الهادئ تجمع فيه عشق غريب، كان الطين الذي ألف قدميه،
صغيرتين، يألفهما، فجأة كبيرتين، تتركان أثراً على الطين الذي صار يتمسك به
ويحاول أن يبقيه ملتصقاً أكثر فأكثر به، اندفعت ذرات الطين وعانقت قدميه، فجعلت
حركته صعبة، أراد أن يتخلص من هذا السحب القوي الذي يدفعه للوقوف والنظر إلى
القمر الممتلئ بوجهه الفضيّ المجعّد، لماذا لم يفكر بتأمل القمر طيلة أعماره؟.
تحركت داخله كائنات غريبة واثارته. صار يحصي دقات قلبه ويقارنها بالحصى
المتناثر على جانبي طريق البساتين الموحل، ملّ مراقبة القمر، وداهمته رغبة في
البكاء، دفعت هذه الرغبة صورة زاعم الذي رحل ترتسم على وجه القمر، يبتسم ثغر
الصورة له، فيرى نفسه ينطلق بجناحيه يرفرف ويحوم، ويحاول إمساك القرص المتلألئ
/ زاعم الذي كان شاحباً.
وانطلق عائداً إلى الجامع الكبير، انضم إلى المصلين...
صبياً في لباس شيخ وجسد عتيق لايتبدل، وكان يفكر أين سيجد روحاً جديداً يسكنها
جسده الذي لايبلى.
--------------------------------
مخرج
- 1 -
تروى في البوكمال الكثير من القصص الممزوجة بالأسطورة
أشياء لاتصدق
طقوس كربلائية
أعياد وثنية
نساء خارقات
ورجال ليس لهم مثيل في الدنيا.
طرقات البوكمال وبيوتها مجمع الأسرار، وليعذرني الياس خوري.
إنها مدينة نسيها الجميع، حتى أهلها، ولم تعد الخرائط تهتم
بأمرها، أو تكترث لما يحدث فيها.
وإذا كنت تسير في أحد شوارعها فقد يصادفك أحد سكانها الحالمين
ليحدثك عن سنة الجوع وسنة الحالولة وسنة الجدري، والثكنة الفرنسية، ووووو....
يستطيعون بسهولة أن يجعلوا قطرة المطر تملأ برميلاً، وثغر فتاة
جميلة أصغر من حبة الرمان.
- 2 -
طقس الشموع المذكور في الحركة الثالثة من الفصل السابع يسمى
(نذر شموع الخضر) وهو نذر لله ان أعاد الغائبين.
هو طقس خاص بالنساء الفراتيات، وكثيراً ماشاهدت النساء يطوفن
الشموع على وجه النهر وهن واقفات على الضفة.
وقمت هنا بتغيير صيغة الطقس فصار للطلب، لا لإيفاء النذر.
- 3 -
فصل من حوار حقيقي مع أخو زهيّة
ـ من أين جئت؟
ـ ما أعرف وجدت نفسي هكذا
ـ كم عمرك؟
ـ ما أعرف، يمكن ثمانين، تسعين، أكثر، أقل، ماأعرف
ـ ياحاج...
ـ أنا لم أحج
ـ لكنك تقول بأنك زرت مكة؟
ـ لا ياولدي، هم قالوا، والحقيقة هي أن مكة هي التي تزورني (ثم
غادرني ولم أره بعدها).
- 4 -
القارئ المهتم بالنحو سيجد عندي خطأ يتكرر، وهو تعاملي مع اسم
(أخو زهيّة) دون مراعاة حالاته الإعرابية، كونه من الأسماء الخمسة التي يتغير
حرفها الأخير بتغير إعرابها،
ولقد تعمدت ترك الاسم على حاله حفاظاً على خصوصيته التي رأيت
إخلالاً بمكانة صاحبها تغييرها، فلو قلت: أخا زهيّة، أو أخي زهيّة، لما استطعت
كتابة كل ما كتبت.
------------
هذا الكتاب
دعوة إلى الإيمان والاتحاد مع الطبيعة وصولاً إلى نبذ القتل والعنف والعودة إلى
الله وهزيمة من يخالف شريعته السماوية بالعقل والعلم والفكر.
وقد عبّر الكاتب عن ذلك بلغة موشحة بالشعر مستفيداً من العناصر الاسطورية
والشعبية والدينية المتوارثة والمتشبثة بالرموز والدلالات المعبرة
|