أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتب: يحيى الصوفي

الحب الضائع1

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الرواية

 

الرواية

الفصل الرابع

الفصل الثالث

الفصل الثاني

الفصل الأول 

الفصل الخامس

الفصل السادس

 

 

"نارين" الحب الضائع الجزء الأول

كتبت هذه الرواية وأنا أتابع بطلتها نارين

فأشعر بالخوف حيث خافت وبالحزن حيث حزنت !.

وبالفرح حيث فرحت !...كنت أكتب عنها وأتبعها كملاك حارس ...كظلها

ولا أخفي عليكم بأنني كنت أضحك عندما تضحك...وكنت أبكي عندما تبكي...

 وكنت أشعر ببدني يقشعر وشعري ينتصب مثلها تماما !...

حتى أنني لم أتوانى من أن يمتلكني الغضب عندما تغضب

 ولا أمنع نفسي من الصراخ عندما تصرخ !.

كنت أعيش في داخلها ومن خلالها !...فأفكر بعقلها... وأرى بعيونها وأسمع بأذنيها

وأصرخ بفمها وأراها وأنا أسطر مشاعرها وكأنها ها هنا أمامي ... وكأنني بداخلها ...!؟

وكطفل صغير فرحت ... وحزنت... وغضبت وخفت... وضحكت ... وبكيت... حتى الشبع.

يحيى الصوفي حمص في25/ 09 / 1998

بدأت الكتابة في هذه الرواية في 25 / 8 / 1998 وانتهيت منها في 25 / 11 / 1998 وبدأت بطبعها ووضعها على صفحات موقع المحيط في 25 / 10 / 2003 كل فصل حسب تاريخ طبعه، وقد كتبت هذه الرواية من محض الخيال وليس لشخوصها أي رابط مع ما يمكن أن تتشابه به في الحياة ولذلك وجب التنويه.

 

 

الفصل الأول: في المنزل

 

يا له من صباح عاصف وبارد... تمتمت نارين من خلف نافذة غرفة الجلوس وهي ترمق الشارع وقد تحول بفعل الأمطار إلى ما يشبه النهر الهائج !. لم هذا يا الهي ؟... وهو يوم زيارتي لوالدتي وقد تواعدت معها للتنزه وقضاء يوم جميل برفقتها.....  والصباح ؟... أين هو؟... وقد كنت على موعد معه كالعادة... ينساب قاهرا ظلام الليل... ليدخل بإشراقه بعض من السرور إلى نفسي !...

 

تململت نارين ثانية وهي تزيل غطاء الصلاة عن رأسها ثم همست تكلم أختها الكبرى:

-أتعرفين يا رغد أنني أشفق على أولئك العمال الذين يقومون بتنظيف هذه الشوارع في وقت مبكر من كل يوم... وفي كل الظروف.... تعالي انظري ... يبدو وكأن المطر قد نظفهم هو بدوره !....

وهي تضحك:

-وقد أزال ما علق بهم من زهور الأشجار الهابطة معه...

 وبقهقهة عالية:

- هم هكذا متعادلون... ينظفون ويتنظفون ؟!...

 

صاحت رغد:  

-بالله عليك يا نارين ستوقظين أخوتك، كفى قهقهة وسخرية وتعالي معي للصلاة والدعاء.

 

أجابتها نارين بحدة:  

-لقد فعلت وانتهيت قبلك !.

- ولكن لم تدعو ربك كالعادة !.

- نعم لقد دعوته !.

وبشيء من الخمول:  

-وبعد كل هذا... ماذا سيفيدني الدعاء هو لم يجب لدعائي قط .!... ربما لأنه لا يحبني !...  

-وهل فعلت ما يحببه بك ؟.  

- أجل... أجل... أنت تعرفين، لقد وضعت الحجاب وأقمت له الصلاة على غير عادتي... وناديته من كل قلبي أن يسامحني ويغفر لي ويسعدني... تخليت عن الكثير من صديقاتي اللواتي عشت طفولتي معهن... لأجله تركت ما كنت ألهو به برفقتهن... الحفلات والنزهات وكل ما يتبعه من مغامرة ونكتة وشغف... وها أنا ذا أتبعك في طريقك... طريق التقوى والصلاة والدعاء !...

-يا عزيزتي... أنت بالكاد على مشارف العشرين من العمر والحياة بكل ما فيها من سعادة لازالت أمامك فاتحة ذراعيها... وبالحب والصبر تنالين ما تريدين... ورفقتك اللواتي تأسفين بعدك عنهن لا يناسبون ما عزمت أن تكوني عليه... فتاة طيبة ورقيقة وربما زوجة وأم يحلم كل الشباب بها ! 

-أي نعم !... أنت قلتها ... بوجهي الصبياني وشعري "المطعج" المنفوش وقصر قامتي وهذا الجسد الذي لا أعرف له علاج، لإيناسه ثوب ولا بنطال...ولا هم يحزنون ...سيطير عقل الشباب بي كما قلت !.

 

 

انتفضت رغد من على سجادة الصلاة متوجهة إلى حيث تقف أختها نارين ثم أخذت برأسها الصغير بإحدى ذراعيها وضمتها بالأخرى إلى صدرها وأخذت تداعب شعرها كما تفعل مع القطط ... وتقول:

-أنت تتمادي على الله قليلا يا حبيبتي... وأنت جميلة كما أنت وبك فتنة ووداعة ورقة قلّ ما وجدتهم عند الفتيات في عمرك... وأنت تعرفين حق المعرفة بأن ما بك من جمال يخيفنا من نظرات المعجبين الذين يحاولون التهامك بنظراتهم كل ما مررت بهم !.

 

نارين هازئة:  

-هه قصدك الأطفال... الأولاد الذين يصغرونني بسنوات ويظنون بأنني من جيلهن طفلة صغيرة لم تبلغ الثانية عشرة بعد !!!... نعم عندك حق في هذا !؟.

ثم أضافت بحزن:

-أنا لم ألفت اهتمام الشباب يوما ؟!... هم لم يهتموا لي يوما لا بالكلام ولا بالنظرات... ليس بي ما يثير حماسهم... وعندما أكون برفقة صديقاتي أظهر وكأنني إحدى أخواتهن الصغار ...على كل هذا أحسن فأنا لن أشيخ باكرا !...  

وهي تضحك:

-لازال أمامي متسع من الوقت لكي ألهو وألعب كالصغار دون أن أدان أو أتهم بقلة الأدب !.

 

رغد وهي تشد بيدها على كتف نارين:

-ستبقي رغم كل ذلك أختي الصغرى الشقية وسأتحمل دلعك وقلة أدبك ... ولكن احذري أن تثيري غضب خالتك فأنت تعرفين بأنها تتصيد أخطائنا لكي تديننا أمام أباك ولتجد الأعذار لكي تحرمنا في النهاية من زيارة والدتنا المعتادة في مثل هذا اليوم !...

ثم تابعت:

-هيا تعالي لنخلد إلى النوم فلازال الوقت باكرا علنا نفوز بحلم جميل يبعد عنا بعض من الخوف الذي نعيشه.

 

التفتت نارين بحدة نحو أختها وهي تحاول أن تتخلص من ذراعيها:

-الخوف؟!... أنت تخافين؟  

 

أجابتها رغد بعصبية ظاهرة:

-كل الناس يخافون وما عنيته هو الخوف الذي صاحبني في نومي من حلم لا أحبه !.

-ها وتحلمين أيضا ؟... ردت عليها نارين وهي تقهقه:

-لم تحدثينني يوما عن أحلامك ؟!.

 

رغد وهي تسير متجاوزة الممر نحو غرفة نومهم:

-وماذا تظنين حتى القطط تحلم.

 

ضحكت نارين وقد بلغت معها الغرفة وقفزت على السرير وهي تحتضن دبها البني الضخم:

-القطط فقط أم الدببة أيضا ؟.

-الدببة أيضا إذا شئت ... وكفي عن الهزأ !.

 

انقلبت نارين على ظهرها وهي لازالت تضم دبها الضخم حتى اختفت تحته ثم مدت رأسها من خلفه وهي تقول:  

-أنا أيضا رأيت حلما !... ولكن غريب بعض الشيء !.

 

نظرت رغد بشفقة على نارين وهي تحاول التمدد على سريرها:

-حلم وغريب ؟! ...وما الغرابة فيه ؟.

 

اعتدلت نارين في جلستها وقد قذفت بالدب بعيدا عنها !... وقد سرها أن تثير اهتمام أختها بحديثها وقالت:

- اجل غريب ولكن جميل... وجميل جدا ولم اشعر بحياتي ما شعرت به من سعادة واطمئنان.... وعندما استيقظت وقد فارقني ما حلمت به كنت كمن كان على موعد للقاء ثان معه ؟!... هو بدا مألوفا جدا ووديعا جدا... هذا الحلم ؟ !

 

وبشيء من الفضول وقد أثارها ما سمعت قالت رغد:

- هيا تابعي قصي علي حلمك...؟!

ثم تابعت:

- أنا لم أعرفك قط أكثر حماسا مما رايته بك هذا اليوم... هه تابعي !.

 

 

استقامت نارين في سريرها وهي تحاول أن تتربع في جلستها، وقد أخذت بأطراف قميص نومها فجعلته بين ساقيها وكأنها تتجهز لتفضي بأمر جلل:  

-أتعرفين؟!... لقد رأيت في حلمي وكأنني مسحورة بطيف لشاب لا ملامح له ولكن شعرت بجماله في رقة انسيابه نحوي وشعرت بحبه لي وبحنوه علي وقد اخذ يطوف حولي كملاك لا بداية له ولانهاية...

ثم تابعت كالحالمة:

-هو أن شئت كان يحتضنني كسحابة وديعة ... وشعرت بأنفاسه كنسيم منعش في مساء صيف حار يدغدغ رقبتي ويتسلل بلطف من خلال قميصي فشعرت به يلامس نهدي... أتعرفين ؟!... لأول مرة اشعر بان لي نهدين يمكن أن يلمسا... وهكذا رحت ألاحق تسلله اللطيف وأنا خجلة... لقد بدا وكأنه مألوف بالنسبة لي، فلم أتردد بالاستسلام له... وتمنيت وقد طوقني من الخلف لو أستطيع أن أصل أليه لأقبله، أحسست به يلامسني ويداعبني ولم استطع حتى أن المسه... فقد كنت معلقة معه في الهواء ؟!...

ثم تابعت وهي تهذي:

-وأخذنا نرتفع سوية ونطير كسحابة دخان ضاق بها المكان لتتسرب من الشقوق... وفي الفضاء الواسع انتهيت وإياه على مقعد وثير في حديقة غناء مليئة بالزهور... وبأشجار ضخمة لا حدود لظلالها !... وأذكر أيضا بأنني رأيت حمامتين وقد حطتا بقربي !... مددت يديّ الفارغتين وكأنني أريد إطعامهن حتى يقتربا مني أكثر لعلني أحظى بهن... وعندما هممت بالإمساك بهن طارتا إلى غصن شجرة قريبة وقد أخذتا ترمقانني بنظرات ملؤها الريبة والخوف...حاولت مرة أخرى أن اجذبهن إلي بحركات من يدي وأصابعي وأنا اردد...تا تا ..تا تا  .. فلم انجح ...كنت جد مضطربة ألا أستطيع الحصول على ثقتهن... وبي رغبة لو أستطعت الإمساك بهن لأداعبهن ولكي أبرهن لهن بأنني لا أريد إيذائهن... ولم أتمالك نفسي وأنا في حيرتي من المحاولة ثانية ... وثالثة... لكي اجذبهن ألي وكأن هاتين الحمامتين هما لي... قطعة مني وقد انفصلتا ولا أستطيع العيش دونهن... انقبضت على نفسي بأسى وقد أخذت رأسي بين ذراعيّ كمن يلعب "الغميضة" ورحت بغيبوبة خفيفة أتلمس من وقع أقدامهن على الأغصان مقدار اضطرابهن علي... وما هي حتى لحظات حتى حطتا بقربي !... واحدة على يميني وواحدة على يساري !... بعدها لم استطع الحراك فأنا أريدهن قربي... وخفت أن أنا تململت في مكاني أن يبتعدا -مجددا- عني ؟!  ... وعللت نفسي بالصبر أن أنا أردت أن أفوز بهن...؟ وما هي إلا لحظات حتى أحسست بمن يجذبني من أطراف قميصي وكأنهن يطلبن الحماية بي؟! ... ففسحت لهن مكان تحت ذراعيّ وأنا انتظر بفارغ الصبر أن أحظى برؤوسهن الوديعة وقد أطلت تستجدي بعضا من الحنان والدفيء... ولم يطل انتظاري حتى كانتا هاتين الحمامتين في حضني ؟!... أنزلت ساقيّ بلطف وحذر نحو الأرض... ولشدة حيائي أن يتكشف قميصي عن ساقي وقد آخذا يتقافزان في حضني بقيت بلا حراك لفترة اطمأنتا بها ألي ... وعندما بدأت تلمسهن براحة كفي وإذا بهن يتحولن إلى طفلين وديعين جدا ووسيمين ؟!... وهما يتحدثان بلغة لم افهمها وكأنها طيور تغرد! ... ولشدة فرحي بهما أخذت الأول بذراعي اليمين والآخر بذراعي الشمال وضممتهما إلى صدري... ولا اعرف بعدها لماذا ساد صمت رهيب من حولي واستسلما لي وغفيا بين ذراعي ؟!... وعندما استيقظت على صياح المؤذن يؤذن لصلاة الفجر أحسست بهما معي في سريري !... ولشدة تعلقي بألا اخسرهما واخسر هذا الحلم الجميل بقيت هكذا متصلبة احتضن الفراغ حولي حتى نهرتني منادية علي الاستيقاظ للصلاة.

ثم تابعت وهي تحدق بأختها رغد التي كانت تحاول أن تخفي ما فاضت به عينيها من دموع:

-هه ما رأيك بكل هذا ؟

-خير كله خير يا حبيبتي... ويبدو بأنك ستجدين فتى أحلامك قريبا... وستسبقينني إلى عش الزوجية... وما الطيرين إلا خبرين سعيدين سيزفان إليك قريبا إن شاء الله.

 

- هه وماذا عن حلمك لم تخبريني عنه ؟.

- لقد سبقتني إليه وخففت عني ما كنت اشعر به من خوف وتممت وبوضوح ما رأيته وما خفت منه ؟!.

-كيف ؟ ... أجابتها مستغربة ؟.

- لقد رايتك في حلمي وكأنك قد تركتني على شاطئ رماله بيضاء ناصعة كالثلج... وقد قذفت الريح بمركب كنت تلهين فيه إلى عرض البحر بعيدة عني... ولا أعرف لماذا لم أتجرأ الخوض في أمواجه كمن يفقد الأمل مسبقا في الوصول إليك... وعندما حاولت الصراخ لأطلب النجدة لم يخرج من فمي إلا صفير لريح وكأنني فقدت حلقي ؟!...

وبحسرة تابعت:

-كم كنت خائفة ألا أجدك بقربي بعد استيقاظي ؟!

وبشيء من الهذيان:

-الحمد لله... الحمد لله...  وهذا ما يفسر بأننا سننفصل قريبا ولكن بالخير يا عزيزتي... بالخير... أنت إلى عش الزوجية قبلي وأنا هنا مع أختك الصغرى "هند" ومع دراستي... وهكذا ربما ستعيشين حياتك كما رغبت وتبتعدين عن جو هذا البيت المشحون بالبغض والكراهية ؟!... وربما موعد اليوم مع الخاطبين الذين سيزوروننا سيبرر حلمي وحلمك... بالخير أن شاء الله...

ثم تابعت:

-هيا لننام قليلا فلازال الوقت باكرا للشقاء هيا وهي تجذب أطراف غطائها تصبحين على خير.

تيبست نارين في مكانها وقد تفتحت عيناها عن حدقتين مشدوهتين وواسعتين:

-تصبحين على خير ؟!.   

وبشيء من السخرية تابعت:

-بل قولي صباح الخير ؟ ... وأنت الصادقة ما حلمت به لا ينطبق إطلاقا على زيارة الخاطبين لي هذا المساء، فأنا أحس بكل شيء وان لم اعرفهم... فإحساسي يقول لي بان ما حلمت به شيء وما سأراه اليوم شيء أخر وبعيد كل البعد !!

وكالحالمة:

-إن حلمي يا عزيزتي هو حلم لا يشبهه من الواقع في شيء.. وما شعرت به من سعادة ونشوة لا يملكها بشري من هذه الدنيا !!...  

وبشيء من الغرور:

-كل الرجال وشباب هذه الدنيا يسعون لشيء آخر غير الذي أتمناه وحلمت به !

-كفى ثرثرة ودعيني أنام أرجوك... فأنا متعبة.

- اجل نامي يا قارئة الأحلام... ليتني لم أخبرك بحلمي... واحتفظت به وحدي فلقد فقدت بذلك بعضا من نشوتي وبعضا من الإثارة التي أحبها !.  

ثم تابعت بشيء من التهكم:

-هكذا بكل بساطة... سأتزوج ... سننفصل... هكذا بكل بساطة... !!!

وهي تجذب أطراف الغطاء:

-النوم أفضل كما قلت... !

وهي تحدث نفسها:

ما أبشع أن يفقد الإنسان بعض من أسراره... أن يفقد حلمه.

---------------------------------

نهاية الفصل الأول مع تحيات المؤلف: يحيى الصوفي   جنيف في 28 / 10 / 2003

 

 

 

الفصل الثاني: مع والدها

 

 

استيقظت نارين على صوت طرقات قوية على الباب وأخذت تصيح:

-هه أجل ...أجل أنا قادمة ؟!...

ومن خلف الباب كانت خالتها تقف صائحة:

-لقد تجاوزت العاشرة وأمامنا الكثير لكي نعمله هلا استيقظتما لتساعداني...

-نعم... نعم... أجابت نارين وقلبها يخفق بسرعة:

-سأكون عندك ريثما أبدل ثيابي ثم اتجهت نحو أختها رغد ...

-هيا إن خالتك تنادينا ... هيا...

 

بدلت نارين ثيابها على عجل وخرجت تقصد خالتها وهي تقول:

-هل أستيقظ أبي؟ وهل غادر المنزل؟

 

أجابتها خالتها:

-لقد استيقظ إلا انه لازال يتناول فطوره بالمطبخ... لماذا تسألين؟ ... هل تحتاجين لشيء؟

- أجل أريد أن أحدثه بأمر الخاطبين هذا المساء... لا... أنا خائفة... أرجوك خالتي هلا طلبت منه أن يسمح لي بشراء ألبسة في هذه المناسبة؟

-لماذا ؟ هل ألبستك لا تليق... ولماذا تشتري ثيابا أخرى... يجب أن تكوني طبيعية في مثل... هذه المناسبة وتلبسين ثيابا عادية... لا حاجة لشراء أي جديد!  

 

نارين وهي تتلعثم:

-ولكن... خالتي أنا أحتاج إلى ثوب وحذاء جديدين... أرجوك...

-أنت حرة لقد أخبرتك رأيي... سأخبر والدك بالأمر... وان ثار عليك فذنبك على جنبك... أذهبي للاغتسال... ثم وافيني إلى المطبخ.

 

عادت نارين إلى غرفتها لتحضر منشفتها وهي تجهش بالبكاء في حين كانت رغد تغير ملابسها وقد فاجأها منظر أختها الحزين فقالت لها بشيء من الفتور

-ماذا هناك.؟... ماذا حدث.؟ ...هل تشاجرت مع خالتك ثانية.؟

 

 -لا... أجابتها نارين: ولكن أريد أن أكلم أباك لشراء ألبسه هذا المساء، وطلبت مساعدتها، فأنت تعرفين بأنني لا أقوى على مواجهة والدي فهو متوتر ومستعجل دائما ويتلقى تعليماته منها وكأنه أجير عندها !...

 

-أنت دائما على عجلة... لماذا لم تخبرينني... سأتدبر الأمر بنفسي... ووالدك سيستجيب لي... وأن فعلت أنت يستجيب لك ولكن أنت سيئة الظن به!... لا تهتمي للأمر واتركيه علي.

 

 

تناولت نارين منشفتها تقصد الحمام للاغتسال في حين توجهت رغد تسعى خلف أباها فوجدته في المطبخ يتناول فطوره:

-صباح الخير...

خاطبت رغد أباها وهي تجلس إلى جانبه على المائدة.

-صباح الخير ... كيف الحال، كيف أختك هند لقد تغيبت عن المدرسة اليوم أيضا... يبدو أن الحرارة قد عاودتها من جديد... لقد أعطيتها مخفضا لها!.

ثم تابع:

-هل ستذهبين إلى السوق مع أختك نارين لشراء ما تحتاجه ... لقد أخبرتني خالتك ...

وهو ينهض:

-هاك بعض المال وتدبري الأمر ومري في طريق عودتك من السوق إلى العيادة لأرى ما اشتريتم وان احتجتم لأي مبلغ إضافي فلا تترددي...

 

رغد وهي تفتح فاها مندهشة:

-شكرا با با ... ستفرح نارين بهذا ... شكرا ؟!...

 

وفيما جلست رغد إلى المائدة لتناول الفطور، كانت نارين تتسلل من خلف خالتها وأباها كالقطة نحو المطبخ وبهمس نادت أختها رغد:

-أخبريني... ماذا قال لك؟.

-اهدئي لقد أعطاني المال لك حتى دون أن أطلبه !

نارين وبشيء من الاستغراب:

-ولم يتذمر؟!  

-لا... أبدا... لابد أن خالتك قد أخبرته قبل وصولي.

 

نارين وهي فرحة:

-رائع ... سأشتري ما أريد ... أنت حقا قوية يا رغد ... قوية جدا.

-ولكنني أخبرتك بأنه قد أعطاني المال دون أن أطلبه وأنا لم أفعل شيء...كفي عن نواياك السيئة هذه وأقبلي الأمر... بأن أباك يحبك ولا يتمنى لك إلا السعادة. وكفي عن محاولاتك في ابتزازه واشتراطك لاستقبالك لكل خاطب جديد ثياب جديدة... أتظنين بأنه لم ينتبه للعبتك تلك؟.

-ما العيب في الأمر، هو يجبرني على استقبال أي كان حتى لا يقطع في نصيبي وأنا أدفعه ثمن طاعتي... وهي ليست رخيصة.

-كفي عن هذا بالله عليك. ومن ثم عليك أن تتخلصي من كوب الماء الموجود في البراد... وكفاك له تنقلا من مكان إلى آخر... فلقد ضاق به على ما يبدو وسألني لمن هو...؟... ولماذا لا نشربه أو نرميه.

 

نارين وبشيء من الفضول المليء بالخبث:

-أتراه هو خائف أن يشربه لاعتقاده بأنه مسحورا ؟ !

-كفي عن لعبتك الطفولية هذه... أتريه يهتم ويخاف لما تفعلينه... هو حتى لا يصدق الخرافات !

-أصبحت بريئة الآن يا رغد وأنت من بدأ بهذه الحركات لإزعاجه هل نسيت عندما بدأت أنت بلعبتك تلك وذلك عندما عرضت كأس الماء ذاته لأبيك وأنت تصرين عليه بأن يشربه وبرغم عدم اكتراثه لمحاولاتك الصبيانية استطعت وبمهارة إثارة الشك لديه ووضعته في حالة من العصبية والتوتر وربما الخوف لأيام... أتريه حقا شعر بالخوف؟... لا... أباك لا يخاف أبدا... ومن ثم فأنا اشعر بالشفقة عليه ربما نحن نظلمه فيما نفعل !.

 

 

 

ثم تابعت:

-هو الذي جنى على نفسه، لماذا طلق والدتنا واحل محلها هذه الرعناء الشمطاء !

-صه... كفاك ثرثرة ربما تنصتت خالتك علينا... فتمسك بالبرهان ضدنا ما يشفي غليلها فينقلب فرحك حزنا... هيا... انتهي من طعامك وجهزي نفسك للنزول إلى السوق... هيا ...  ثم تابعت:

-ولا تنسي أن تيقظي أختك هند لكي تفطر ... هيا.

- دعيني أساعدك بترتيب المطبخ وتنظيف البلاط أولا فأنت ترهقين نفسك لأجلنا !

 

رغد بشيء من العصبية:

-لا عليك... وهي تتوجه نحو المغسلة:

-أنا استمتع بذلك !  وهي تهم في فتح صنبور الماء لغسل الصحون بدأت تمتمتها بآيات من القران الكريم كعادتها...

-حسنا... وهي تغادر المطبخ... وبشيء من التهكم:

-أجرك على الله يا عزيزتي 

وهي تضحك:

-تودين أن تحجزي مقعدك في الجنة باكرا ؟.

 

لم تجب رغد على أختها لأنها تعرف بان الصبر والتماس العمل الصالح والتضحية في سبيليهما هو الأساس لما تتلقاه من دروس الدين مع الأخوات الصالحات. وقد عاهدتهم على ذلك. ولهذا ورغم ما تشعر به من امتعاض وضيق فهي تتصنع الابتسامة والهدوء حتى تضمن حماية أختيها وتكسب ود ومحبة والدها ورضا والدتها.... وبينما هي تتابع عملها تدخل خالتها وهي تترنح في مشيتها وقد أسندت خاصرتها بإحدى ذراعيها لتخفف عن نفسها ثقل الجنين الذي تحمله وبينما هي تهم بالجلوس بادرتها رغد قائلة:

-لماذا لا ترتاحين خالتي ؟ ... فأنت في شهرك الثامن... وفي اشد الحاجة للراحة فيه.

 

خالتها وهي تلهث:

-اعرف... اعرف ولكن أنا قلقة على أختك هند... لأنها لم تذهب إلى المدرسة هذا الصباح.

-لا تقلقي خالتي فهي مريضة بعض الشيء ومساء البارحة كانت حرارتها قد تجاوزت 38 درجة... أنت تعرفين فهي صغيرة جدا... وبعدها عن والدتها سبب لها اضطرابا غير عادي ... وكل ما نفعله لأجلها لإعادة الاطمئنان باء بالفشل.

-طبعا... طبعا... كان على والدتك أن تلم شملكم وترتضي البيت الذي استأجره أباك لها ولكم وكذلك نفقتكم... بدلا من أن ترحل لتتزوج وتبتعد عنها لسنتين... وفي أقاصي الأرض ؟ !

-أرجوك خالتي هذا الأمر لا يخصك ووالدتي حرة تفعل ما تشاء بحياتها بعد أن طلقها والدي وحللت مكانها... وهي على كل حال لا تتدخل في شؤونك.

-لماذا أنت عدائية معي... وتفسرين كل حوار معك وكأنه تدخل في شؤونكم. وما ذنبي أن تزوجني أباك، فهو الذي سعى خلفي... ولست أنا وان أنا لم أتزوجه ستكون هناك واحدة أخرى مكاني وربما كانت أكثر جفاء وقسوة !

-هه... أتعتقدين هناك جفاء وقسوة وأنت موجودة... لا... سامحيني لا احبك تلعبين دور المسكينة.

 

 

لم تتمالك خالتها نفسها من البكاء وهي تتلقى كلمات رغد القاسية كالسهام، ففضلت الانسحاب وعلامات اليأس بادية عليها خاصة وأنها اعتقدت - وقد أمنت ما يلزمهم من مال- بأن ذلك سيعزز المحبة بينيهما ويجعل رغد أكثر ألفة وتسامح... وفيما هي تهم بالخروج عادت نارين وهي تمشط شعرها وتقول:

-رغد… أرأيت أين وضعت "مطاطتي" لأربط شعري.

 

صاحت رغد:

-أنت هكذا ترمين حوائجك يمينا ويسارا وتريدينني أن ألتقطهم خلفك !

وبشيء من العصبية تابعت:

-متى ستكبرين يا الهي ...متى !  

ثم أضافت:

-وتريدين أن تتزوجي أيضا ... يا له من معتوه من سيرضى بك !

 

نارين وبشيء من السخرية:

-ما بك تركتك هادئة منذ قليل... تراك تغارين مني... وما بها خالتك ؟... رايتها تخرج من هنا باكية !

-هه ...أجابتها رغد:

وتأكلين همها... لم أحدثها قط... هي تكلمت عن والدتك وأنا أجبتها بكلام لم تحبه ولم يعجبها !

-ولكن رغد لا تنسي بأنها هي من سعت لتحصيل المال لي... تراك انزعجت من ذلك أيضا لأنها سرقت الفضل منك في ذلك !!!  

وبشيء من الخبث واللامبالاة:

-لا أعرفك تغتاظين لأمك بسهولة... تحبينها ألي هذا الحد ؟!.  

 

أجابتها رغد وبشيء من العصبية:

-كفى أرجوك، لا ينقصني أنت أيضا... حصل ما حصل واتركيني انهي عملي حتى لانتأخر.  

 

نارين بشيء من الجدية:

-أنت دائما هكذا تتهربين من الحقيقة وترفضين المواجهة.

-أي مواجهة

-المواجهة مع نفسك ... أنت تخافينها وتتخفين منها خلف أي خطأ ومهما كان بسيطا من قبل خالتك لتبررين وقاحتك معها... لابد انك تتعرضين لأزمة ضمير معها ؟  

 

رغد بعصبية ظاهرة تركت ما بين يديها من أطباق واتجهت نحو الباب لتغلقه:

-يا الهي أنت من يقول لي هذا ! …تراك نسيت - وفي مقابل بعض المال الذي حصلت عليه عن طريقها - كل أفعالها... أنت رخيصة على هذا يستطيع أي كان شراء مشاعرك... وببعض القروش ! وهي توكز على أسنانها تابعت:

-أنسيت كيف أعفت الطباخة من عملها بحجة إنها ست بيت ولا تحتاجها. ولتوفر بعض المال كما تدعي... وهي لا تنفك تستخدمنا كالخادمات في كل أعمال المنزل وحجتها  بأنها ستسعى لكي تجعل منا "ستات" بيوت محترمات؟ ... والغريب بالموضوع أن أباك يصدق كل ما تقوله له…نسيت كيف أعفت الخادمة من أعمال التنظيف اليومي وقلصت حضورها إلى يوم واحد بالأسبوع لنفس الحجة... تراك لو لم تشغلنا بكل أعمال المنزل كنت تركت دراستك باكرا، فأنت حتى لم تحصلي على "البكلوريا" وأنا أتعثر بدراستي بعد إن كنت من الأوائل... تراك نسيت كيف كنا نعيش كالأمراء قبل حضورها، كل شيء مؤمن لنا وبيتنا نظيف ولدينا ما يكفي من الوقت للدراسة واللعب ورؤية الأصحاب والتنزه، كل هذا على حساب من... ولأجل من... هه... أجيبي !!! وهي تلكزها بسبابتها في صدرها وكمن يفقد صوابه:

-أنا من يعاني أزمة ضمير مع نفسي... مع ضميري... هيا... أجيبي... ؟ ...

وقد شعرت بأنها كسبت الجولة تابعت:

-لقد لزمت الصمت الآن ... وتريدين أن تبرئيها من كل آلامنا وتعاستنا من اجل بعض قروش... نسيت على ما يبدو بأنها أموالنا... أموال أبيك تلك التي حصلت عليها !

 

نارين وبشيء من الخجل:

-أنا اعرف ذلك ولكن لم استطع أن أراها باكية وحزينة هكذا... لا أحب أن اسبب الأذى لأي كان.

-هه... وعاطفية وحنونة !… لا أعرفك تخافين على مشاعرها وأنت لا تنفكين تضايقينها بمناسبة وبغير مناسبة... نسيت على ما يبدو كيف مزقت وسائدها ووسائد والدك بحجة انك تلمست بالصدفة لأشياء مريبة بداخليهما وأنت ترتبين سريرها... تراك كنت فعلت هذا لأمك ترتبين غرفتها كالخادمات... هي حتى لا تخجل من أن تطلب منك هذا وباستمرار.  

-ولكنها هي حامل الآن... ولا تنسي بان ما تحمله في أحشائها هو أخ لنا من أباك. وأنا رغم عدم محبتي القوية لأباك... افعل ذلك إكراما للجنين ومن ثم أنا لم أمزق وسائدهم إلا بعد إن وافقتني أنت في ريبتي وتعرفين جيدا بأنني كنت محقة... ولقد وجدنا بداخليهما على كتابات مشئومة فسرت لنا الكثير من طباع والدك المتقلبة اتجاهنا وحبه الأعمى وانصياعه الغير محدود لخالتك !!!... تراه حقا كان مسحورا بهذه الكلمات... وهل تعتقدين بان بعض الكلمات المخربشة وغير مفهومة يمكن أن تؤثر على قلوب وطباع الناس؟ !.

-طبعا... طبعا !  

 

وقد شعرت ببعض الانتصار تابعت:

-ألا تؤمنين بالسحر لقد ذكره الرسول (ص) وتعرض له على أيدي اليهود !

 

وقبل أن تكمل قاطعتها نارين:

-ولكن والدك حتى لم يهتم لكل هذا بل كافأنا على اكتشافنا المثير ذاك بالتأنيب والتهديد واعتبر تصرفاتنا... تصرفات عدوانية ومشينه بحق خالتك واستهزأ بنا وسخر حتى تعب.

-طبعا كيف لا وقد قلبت خالتك الآية علينا وادعت بأننا نحن من مثل هذه المسرحية التافهة عليه وبأننا نحن من وضع الأوراق وبمساعدة والدتنا في وسائدهم لكي نزرع الشقاق والكره فيما بينهم !

-تراه لازال حانقا علي ويكرهني لهذا ؟... أو تراه لازال غاضبا مني ولهذا فهو يتحاش مجرد تبادل الحديث معي؟!...هل أخطأت فيما فعلت ؟  

-لا تؤنبي نفسك بأكثر مما تستحق وأنت لم تفعلين أكثر من إظهار خوفك عليه من زوجته الملعونة... هي محاولة لكي تلفتي اهتمامه عليك وعلينا مرة ثانية بعد أن خطفت خالتك منه كل اهتمام... وتقولين بأنه ليس مسحورا ؟! اقسم... اقسم بأنها تكتب له السحر وألا لما كان مجنونا هكذا بها !

 

نارين وقد استعادت بعض من نشاطها وبخبث:

-لا تنكري بأنها جميلة وفاتنة وصغيرة.

 

رغد وبشيء من الغيظ:

-هو يراها كذلك... فأنا لا أجد ما يفتن بها سمراء كالهنود انه مغرما بها حتى الجنون... ألم تلاحظي بأنها تتصدر معظم لوحاته التي يرسمها... حتى انه رسمها قبل أن يتعرف إليها... لابد إنها كانت في عقله الباطني... يتغنى بها في رساماته... وهي على النقيض تماما عن والدتك... فهو على ما يبدو كان متيما بها حتى قبل أن يعرفها... يعتبرها حوريته المفقودة وملهمته الضائعة التي يبحث عنها...

وبشيء من السخرية تابعت:  

-ولقد وجدها... فالسحر موجود قبل أن توجد... أما زلت تؤمنين بالسحر... وأنت خير من يعرف أباك !.

 

رغد هازئة:

-ليس هذا أكثر من تأثير إقامته في ألمانيا... حيث الشقراوات كثيرات والسمراوات لقلتهن يمثلون لديه حنينه لجذوره ولوطنه... لا أكثر ؟

-أتعتقدين أن "شقار" والدتنا وعيونها الزرقاء هم المشكلة في الكره المتأصل بينهم ؟

-هكذا بكل بساطة لخصت كل الخلافات بينهم... كم أنت بسيطة وساذجة... هم منذ أيام خطوبتهما الأولى كانا على خلاف وشقاق... ورغم جمال أمك وفتنتها لم يبال بها منذ أيام لقاءه الأول معها رغم ما يعنيه الشقراوات في بلدنا على ندرتهن وجاذبيتهن والتي يبحث عنها كل لناس هنا كمقياس أول للجمال !...

 

وبشيء من التأسف تابعت:

-لقد كان زواجا مدبرا وبالإكراه لإرضاء أخاه الكبير لا أكثر... وهانحن ندفع الثمن.

 

رغد وقد عاد إليها بعض الهدوء:

-لقد تعبت من هذا الحديث... يكفي... يكفي...

وهي تفتح باب المطبخ ثانية:

-هيا اخرجي لتتجهزي وأختك هند ودعيني انتهي من أعمالي... فلقد تأخر الوقت.

 

نارين بشيء من السرور وكمن افرغ كل ما في قلبه وتخلص مما في نفسه من هموم وهي تخرج:

-كما تشائين ... كما تشائين.

---------------------------------

نهاية الفصل الثاني مع تحيات المؤلف: يحيى الصّوفي   جنيف في 30 / 10 / 2003    

 

 

 

الفصل الثالث: مع والدتها

 

 

كانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة ظهرا عندما قرع جرس الباب في شقة بسيطة ومتواضعة قريبة من وسط المدينة التجاري حيث تقطن والدة نارين .... ومن خلف الباب كانت نارين وأختيها رغد وهند يتململن وقد بدا على وجوههن شيء من الاضطراب... صاحت نارين:

-ماما ... ماما هيا افتحي الباب...

 

قالت رغد وهي تبعد يد نارين عن الجرس:

-تحلي بالصبر... الم تسمعي... هي آتية... كفى...!

 

وفيما هن تتخاصمان، فتح الباب ليطل من خلفه رأس والدتهم وقد توشحت غطاء الصلاة وهي تقول بصوت يشيبه النحيب:

-لحظة... لحظة... لقد أخفتموني... لما هذا الصراخ... أهلا... وهي تقبلهم... أهلا حبيباتي... ادخلوا... هيا.

 

نارين وهي ترتجف من الغيظ:

-ألم تلبسي ثيابك بعد... أنت تعرفين بأن علينا الخروج إلى السوق للتبضع...

-لا... لا أعرف... أجابتها والدتها بشيء من التهكم... وما المناسبة ؟ ...

- لنشتري ثيابا لي..

-ولكن انتم تفاجئونني !... وهي تتوجه حديثها لنارين:

-وأنت تعرفين بأنني لا أستطيع أن أكون تحت تصرفكم متى شئتم... فلدي مواعيدي والتزاماتي...

ثم تابعت:

-وأختك "سو" لم تعد من المدرسة بعد. وعلي انتظارها ومن ثم أنا لم أقبض راتبي المعتاد من جدك ونقودي لا تسمح لي بمشتريات جديدة لكم !

-آه ماما... أنت خائفة على مالك... لا تخافي .. لقد أعطاني البابا ما أحتاج ... أنا أريدك فقط أن تنزلي إلى السوق معنا... فأنت بارعة في المساومة ومعظم تجار المدينة يعرفونك ويخصمون لك !                                                               

-أسمعي لا تبدئي بحديثك المهين هذا معي أرجوك فأنا لم أقصر معكم أبدا... وكنت أنتظركم في منتهى الأحوال على الغداء... ولقد حضرت لكم أكلتكم المفضلة... "البيتزا" باللحم والجبن والبيض...

ثم تابعت:

-أتركي أختك هند عندي وأذهبي برفقة أختك رغد فهي شاطرة أكثر مني... هيا حبيبتي... ولا تتأخروا...

 

 

 

أمسكت رغد بأختها نارين من معصمها وهي تقول:

-هيا نارين سنتسوق سوية ثم نعود... هيا... أتركي والدتك تهتم بالمطبخ حتى لا نؤخرها... هيا...

 

خرجت نارين من بيت والدتها ممتعضة وقد أخذت كعادتها تتلفظ بكلمات سريعة ومتقطعة قل من يفهمها ونزلت الدرج نحو الشارع بسرعة !..هبطت رغد ورائها مسرعة وهي تقول لوالدتها:

-سنعود خلال ساعتين على الأكثر... لن نتأخر.

وما أن وصلت بمحاذاتها حتى جذبتها من طرف قميصها وهي تقول: 

-توقفي قليلا... نارين... لقد أتعبتني... لما هذه العجلة... لازال الوقت مبكرا... ولما كل هذا الغيظ ... عيب عليك أن تتركي والدتك مغتاظة منك هكذا... وهي لم تفعل شيئا !؟

 

نارين وقد توقفت:

-أنت تقولين هذا... ألم تسمعيها... هي مشغولة... دائما مشغولة وخائفة على مالها... هي أصلا لا تعتبرنا أولادها... تتهرب دائما من واجباتها... نحن أولاد "الدكتور شلهوب" المحترم والمشهور... هاهي تقطن لوحدها ولديها غرفة فارغة... لماذا لا ترضى أن نقيم معها... لماذا لا تريد أن نبقى بقربها ونعيش كأسرة ؟... لماذا تريدنا عند والدنا وتريدنا عندها في نفس الوقت ؟ فقط لكي تغيظ والدي... ترسلنا إليه لنعيش معه برفقة زوجته.... وان تأخر عن إرسالنا إليها تثير زوبعة وان أرسلنا إليها فهي مشغولة دائما... ماذا تريد بحق الله... ماذا تريد...؟ تلعب بنا وتتسلى بوالدك وخالتك !... إنها أم حقيرة وانتهازية هذا هو ما هي عليه !                                 

- توقفي... توقفي عن الصراخ... كفى... كفى نارين... أنت تثيرين الزوابع مع الجميع أنت دائما غاضبة ولاشيء في الدنيا يرضيك... قدري ظروفها !

-ظروفها أنت تقولين هذا !... ظروفها أن تتركنا لتسافر إلى المكسيك لكي تتزوج ؟!.. تركتنا نحن أولادها الخمسة خلفها وكأنها لم تنجبنا... أنسيت كيف جنت على أخويك "جمال" و"لولا" وقد أرسلهم أباك إلى ألمانيا حيث يعيشون بعيدين عنا... وهم لم يتجاوزوا الرابعة عشرة من العمر !؟

-كفى نارين كفى أرجوك... لا يد لها بإرسالهم إلى ألمانيا... كانت رغبة والدك وليست رغبتها !

-هه...وماذا فعلت هي...لم تفعل شيئا... لو كانت حقا تحبنا وتغار وتخاف على أخويك لكانت منعته من إرسالهم إلى هناك !

-كيف بالله عليك وكأنك لا تعرفين أباك ؟

-كيف ؟... طبعا بأن ترضى ما عرضه عليها والدك... بأن تقبل العناية بنا والبقاء بقربنا... لا أن ترحل إلى أقاصي الأرض لتتزوج وتتركنا خلفها وكأنها لم تحملنا في أحشائها... ولم تلدنا... ولم تعرف لوجودنا من خبر !

ثم تابعت:

-أم تراك هي فعلت هذا لتقض مضجعه بأولاده الخمسة وتعكر صفوته مع زوجته ومن ثم لتثبت له بأنها لازالت مرغوبة وبأنها هي أيضا قادرة على الزواج وبناء حياتها ومن رجل يتجاوزه أهمية وثراء ؟!... فرد عليها بأن تخلص من أخويك وأبقانا نحن البنات الثلاثة بقربه لعله يهجننا قدر ما يستطيع. بالترهيب... والترغيب... فالتأثير وإدارة أمور ثلاثة يبقى أخف عبئا من خمسة !؟

-كفى...كفى... أنظري إلى الناس ينظرون إلينا !                               

 

نارين وبشيء من العصبية:

-ليذهب الناس إلى الجحيم... لا يهمني الناس... الناس تعرفنا وتعرف قصتنا... أنا لا أطيقها... أتسمعين أنا لا أطيقها... لو أنها ماتت لكان أحسن لنا... كم اشتهي الموت لها !

-اهدئي نارين... اهدئي... يكفي هذا لقد أفرغت غضبك والأحسن عندما نعود ألا تذكري شيئا من هذا لأي من والديك... دعي كل واحد منهما يعيش حياته كما يحب وإذا قدر لنا أن نعيش بينهما هكذا فليكن... وأنا أقسم لك بأن أرعاك وأختك وأدافع عنكما وأحميكما قدر ما أستطيع... ولكن يجب أن تتعاوني معي فأنت لست صغيرة !... وعلينا نحن -أن هم لا يحبوننا كما يحب الأهل أولادهم ويستغلوننا لمصالحهم - أن نستفيد من كل واحد على قدر ما يستطيع... حتى يقضي الله أمرا كان مقضيا...

 

نارين وهي تمسح دموعها وتحاول أن تعيد الابتسامة إلى شفتيها خاصة وقد نبهتها أختها رغد عن اقتراب أحدى القريبات وهي تلقي التحية:

- حاضر

 

إحدى القريبات:

-مرحبا نارين

 

نارين وهي تبتسم:

-أهلا كيف الحال هناء... وكيف هي والدتك ...لم نركم منذ زمن بعيد...

 

رغد مصافحة:

-أهلا كيف الحال ؟

-أهلا... بخير والحمد لله... تذهبون إلى السوق ؟

-طبعا ... طبعا وأنت؟.

-وأنا كذلك ... سنترافق إذا

نارين وهي تمشي بقربها: 

-كيف الحال الم تتزوجي بعد ؟                                

-لا ليس بعد... وأنت؟

نارين وبشيء من الغرور:

-أنا يزورونني الخاطبين كل يوم تقريبا... وأنا لا اخفي عليك...إنني في بعض الأحيان أرفض الدخول إليهم لمجرد السلام... خاصة إذا لم يعجبني مظهرهم...

ثم تابعت: 

-فانا ابحث عن عريس لقطة !

-الله يحقق ما ترغبين ويرسل لك ما تحبين...

ثم أضافت موجهة الحديث لرغد:

-كيف هي خالتك... وأباك... والبيبي... متى ستلد ؟

-خلال شهر على الأكثر... نحن بخير والحمد لله... وأنت تعرفي كم يحبنا والدنا وكيف هي خالتي لطيفة معنا وهي لا تتأخر في تلبية طلباتنا !

-الحمد لله... الحمد لله...

ثم أضافت:

-تنزلون السوق للتسوق أم للتسلية ؟

نارين وقد أفرحها السؤال:

-للتسوق... سأشتري بعض الثياب... اليوم سيزورنا عريس من عائلة ثرية... هكذا يقول والدي... شاب في الثلاثين ولديه محل لبيع الأدوات الكهربائية وشقة وسيارة !

-هل أعجبك ؟

-لا لم أره بعد... هذا كلام والدي وخالتي... وأنت تعرفين لو لم يكن يناسبني لما وافق والدي على استقباله... سيأتون أهله هذا المساء وسأخبرك بالنتيجة !

-على خير... أتمنى لك التوفيق... فأنت تستحقين كل خير...

-وما هي أخبار خالك...؟ الم تعثروا له على عروس... منذ أن افترق عن ابنة عمي ؟ 

-لا فهو ذوقه صعب جدا... وأنت تعرفي أولئك الذين يعيشون في أوروبا لا يعجبهم العجب !؟...

ثم تابعت:

-ومن ثم أنت تعرفين بأن له ظروفا خاصة جدا... فهو لديه ولدين من زوجته الأجنبية وهو يرعاهم ويخاف عليهم... ويكرس كل وقته لأجلهم ! وبشيء من التأثر تابعت:

-تصوري له ثلاث سنوات منذ أن ترك زوجته... شاهد وتعرف خلالها على العديد من الفتيات ومن أجملهن في هذه البلد... ولأي سبب مهما كان تافها يغير رأيه...فهو قليل الثقة بالنساء على ما يبدو وتجربته المريرة مع زوجته وخوفه على أولاده لا يدعه قادرا على اتخاذ إي قرار !؟

نارين وبشيء من الخبث:

-لماذا لا تعرفينني عليه... فأنا سوف أروضه وأخطف قلبه !

-آه... أنت لا تعرفينه هو "شايف" حاله كتير وأنت صغيرة بالنسبة له !

نارين وهي تقاطعها مستهجنة:

-صغيرة ؟ أصبح عمري عشرين عاما... ومن ثم هؤلاء العائدين من الغربة يفتنهم الفتيات الصغيرات ويفتتون قلوبهم... خاصة وإنهم يتزوجون هناك ممن يقاربهم سنا... ولهذا سيجد الفرق سريعا !... ولا أظنه سيقاوم فتنة الشباب وهو في ريعان تفجره ! وهي تضحك...

-لا يبدو عليك... تبدين في السابعة عشرة... أنت أنهيت الإعدادية منذ سنتين تقريبا أليس كذلك ؟                                

نارين وهي تضحك:

-طبعا... أرأيت كم أنا صغيرة ؟  

ثم تابعت:

-اضحك... اضحك... أرجو ألا تتضايقي من مزاحي.

-وخالي ليس كبيرا... كان في الرابعة والثلاثين عندما ترك زوجته وله الآن ثلاث سنوات يبحث عن زوجة لطيفة وتخاف الله... ولشدة خوفه من أن يظلم وأولاده في زواج لا يأتي إليه بالراحة والأمان والهدوء... فهو كثير التريث... يبدو بأنه خائف من بنات هذه البلد... وهو على فكرة لا يعطي عمره أبدا... فهو مليء بالحيوية والنشاط ودائم الابتسام وكأنه لم يتعرض بحياته لأي مشكلة... أنا لا اعرفه إلا مبتسما والدنيا كلها لاتهمه !

 

نارين ساخرة:

-كفى... كفى... جعلت منه ملاكا... وأنا كنت امزح معك ولكن صدقيني ومنذ أن سمعت به وبخطبته بإبنة عمي فانا اهتم لأمره ولأمر ولديه وكأنه أخ لي دون أن اعرفه أو أراه... وأنا كنت اعرف بان ابنة عمي لا تناسب شاب في مركزه وثقافته ولطافته كما علمت منها ! 

ثم تابعت وبإصرار:

-هذا بالإضافة إلى انه يبحث عن زوجة وأم كما أخبرتني... وابنة عمي لا تملك من هذه الصفات من شيء... وهي مدللة على ثلاث شباب ولا تعرف حتى أن تقلي بيضة...

وهي تضحك:

-كنت اعرف بأنهم لن يستمروا سويا... وإذا أردت فأنا عندي له عروس حلوة وصغيرة وابنة ناس وهي صديقتي... واراها جدا منا سبة له... سأتصل بها لأخذ رأيها وأخبرك بالنتيجة.

-شكرا ولكن لا أضمن لك خالي فهو حساس جدا... وفي بعض الأحيان يرفض أن يرى الفتاة قبل أن يوافقوا على كل شروطه لأنه وكما قال لنا مرهف الحس ويخاف إن هو قابل فتاة جميلة وفاتنة أن يطرق الحب باب قلبه فيعصى عليه اتخاذ قراره ويهدر تحت تأثير الغواية حقوق ولديه... فهو متعلق جدا بهم !... ولقد عاف لأجلهم الملايين... ولا يحب أن يعيش إي قصة قد تؤثر عليه أو عليهم...

ثم تابعت بشيء من الجدية:

-ولا تنسي ثلاث سنوات دون زوجة يكفي انه يظهر مدى تضحيته... وهذا أمر لا يطاق !.                                  

نارين وهي تضحك !

-لا تخافي عليه... الرجال يدبرون أنفسهم... خاصة وانه يسافر دائما لأوروبا ولا أظن بأنها خالية من الفتيات الجميلات وأنت تعرفين بان الموضوع سهل هناك...

 

-لا... لا تظلمي خالي، فهو شاب عصامي ونظيف وصاحب مبادئ ولولا ذلك لما وصل إلى ما وصل إليه من نجاح في عمله وحياته ولا أظن ولديه ما يشغله وهمومه أن يكون لديه الوقت الكافي لمغامرات كهذه... وإلا لما حاول العثور على زوجة !؟.

-ربما من اجل ولديه فقط ؟!.

-لا ... لا تظلميه أرجوك، فلو عرفته لغيرت رأيك نهائيا.!

 

نارين متملقة:

-عرفيني عليه إذا...  ثم أردفت مصححة... إنني امزح... تعرفين كم أحب المزاح في هكذا مواضيع... ولكن صدقيني سأعثر له على زوجة... أنا أراهنك... سأطبق له عروس على قياسه... لدي الكثير من الصديقات وسأدلك عليهم واحدة... واحدة...  

وقد وصلوا السوق نارين تتابع متسائلة:

-ستدخلين السوق معنا... أريد أن اريك ما سأشتريه... واعرف رأيك ؟...

-عفوا أنا لا أريد أن أتأخر عن والدتي...اعرف بأنك مزوقة...

ثم أضافت:

-سأرى ما ستشتريه عندما تلبسيه في الخطبة... أم انك لن تدعونني !؟

-كيف هذا ؟... أنت تعرفين عندما ستتقرر خطبتي فأنت أول المدعوات.

-هذا يسرني... أترككم بعناية الله ولا تنسي أن تتصلي بي....

وهي توجه حديثها لرغد:  

-دعينا نراك... تحياتي لخالتك ووالدك.

-طبعا سنراكم في القريب العاجل... تحياتي لوالدتك... سلام.

-وعليكم السلام

وهي تلوح بيدها مبتسمة

-ليوفك الله... حقا كنت أتمنى لو تكوني لخالي... فستأخذين البقية الباقية من عقله.                                 

-لا تقلقي... إن لم يرغب بالتعرف بي...

وهي تضحك سأراه بخطبة العروس التي سأختارها له بنفسي... وداعا... سلمي على الجميع.

 

 

رغد وهي تنهر نارين:

-أنت كثيرة الثرثرة وتدخلين نفسك في أمور لا تعنيك... وتهزئين من الجميع... هذا عيب... توقفي عن سخريتك بالآخرين.

-ولكن أنا جديّة... لم أكن يوميا جديّة مثل هذا اليوم وإذا أردت رأيي فانا لا اعرف لماذا أنا مشدودة لهذا الشاب... خالها !... رغم إنني لم أشاهده... ولكن لكثرة ما سمعت عنه اشعر من داخلي بأنني الفتاة الوحيدة التي تناسبه !

-لا تنسي بأنه كان خاطبا لابنة عمك.

-أنت تعرفين بان ابنة عمي لا تناسبه إطلاقا... أما أنا فاعرف كيف أسعده واهتم بأولاده.

-أنت لا تدركين ما معنى أن يكون متزوجا وله أولاد.

-ولم لا... فهو لازال شابا وأولاده متربيين في سويسرا ولا أم لهم لكي تعلمهم عليّ وأنت تعرفين بان معظم الشباب يتزوجون أثناء دراستهم في الخارج من أجنبيات وهذا الزواج لا يحتسب عليهم وهذا أفضل من أن يكون في كل يوم مع عشيقة وكذلك هي فرصة لي لكي أسافر معه وربما زيارة أخويك في ألمانيا... وسيكون أكثر من غيره متفهما لظروفي... لأنه عاش معظم حياته في الخارج !

-أنت فعلا خيالية وتنسي على ما يبدو بان اليوم هو يوم زيارة العريس الذي رضيت رؤيته.                               

 

نارين وهي تقاطعها:

-أنا لم أرضى به أنت وأباك وخالتك تضغطون علي لكي أراه واستقبل أهله وحججكم بأنني إن لم أرى الناس فكيف علي أن احكم عليهم دون أن أراهم...

ثم أضافت:

-وعلى هذا فانا سأوافقكم وامشي بدربكم إلى النهاية.

-كفاك غطرسة من يسمعك يظن بان "حمص" هي إمارة وأنت أميرتها... تريدين كل الناس على ذوقك !

-أنا كذلك... لماذا ؟ أيزعجك أن أكون دقيقة باختيار الشاب الذي سأقترن به لنهاية حياتي !

-أنت تضخمين الأمور... وأنت لست أول ولا آخر فتاة تتزوج.... بسطي الأمور وخذيها كما هي ولا تكوني هكذا صعبة ومن ثم أنت تعرفي بأنه ولا احد منا يضغط عليك أو يستعجل عليك الزواج، بل على العكس نحن نريد أن تتمهلي في اختيارك لأننا لا نرغب إلا بسعادتك. ولكن أنت تستعجلين زواجك وكأنك على سباق مع الزمن... ثم تابعت نسيت بأنك صغيرة على هذا وأصدقائك لازالوا بالمدرسة لم ينتهوا من "البكلوريا" بعد. والفتيات في هذه الأيام لا يتزوجون قبل الجامعة. إي اقل شيء خمسة وعشرون عاما !

-وما ذنبي إذا كانت "البكلوريا" ممنوعة عني ولا تحبني...

ثم تابعت هازئة:

-ماذا عملت "البكلوريا" والجامعة للكثيرين وقد غدرهم الزمن وهربت من بين أيديهم فتنتهم وشبابهم...؟ يا عزيزتي شباب هذه الأيام يحبون الفتاة الصغيرة والفاتنة والتي لم يبوسها من "تمها" إلا أمها ويخافون من بنات الجامعات... أنت تعرفين بلدنا !

-ليس كل الفتيات مثل بعضهن وكفاك ثرثرة وادخلي لتختاري ما تحبين لأنني بدأت اضجر من هذا الحديث، الله يسهل لك هذا اليوم لكي ترتاحي وتريحينا... هيا...

وهي تدفعها إلى داخل المحل...

-هيا ادخلي !

-لا بأس... لا بأس لا تقولي لي بأنك تغارين...

وهي تضحك...

-إياك أن تغاري...

وهي تدخل أضافت وكأنها تسعى لأغاظتها: ...

-إياك...

---------------------------------

نهاية الفصل الثالث مع تحيات المؤلف: يحيى الصّوفي   جنيف في 01 / 11 / 2003   

 

 

  

 

الفصل الرابع: ذكريات

 

 

كانت الشمس قد بدأت تعطي شيئا من الظلال للأشجار الباسقة المنتصبة على طول الشارع العريض المقابل لشقة الدكتور "شلهوب"... حيث نسمات الهواء الغربي الرطب تضفي على هذا اليوم الدافئ من أوائل تموز بعض من الانتعاش والسرور على ملامح نارين التي كانت تقف وقد أسندت ذراعيها على طرف الشرفة بالطابق الثالث وهي تترقب الشارع بشيء من التأمل !... تتفحص المارة كمن يبحث عن شخص ما تتمنى أن تراه... وتراقب السيارات العابرة وكأنها على موعد. وفي زحمة الأفكار التي بدأت تراودها حول ردة فعل والدها وخالتها للاستعدادات التي قامت بها وإخوتيها بمناسبة عودتهم من المستشفى مع المولودة الجديدة...أختها الصغيرة... كانت تقفز إلى مخيلتها بعضا من ذكريات الطفولة الضائعة، حيث كانت وفي مثل هذا الوقت ومثل هذه الأيام الدافئة من كل عام تنزل إلى الشارع وأخويها التوأمين جمال ولولا ليلعبا "بالبيتناج" وهم ينزلقون يمينا ويسارا على طول الشارع الذي عادة ما يكون خاليا في مثل هذه الساعة من النهار... وكم كانت متعتها لا تفوقها متعة وهي تثير أنظار العابرين -على قلتهم- في مهارتها بالانزلاق... تنهدت نارين وهي تتذكر وبدأت تحدث نفسها:

(أين أنت الآن يا أخي العزيز "جمال"... وماذا تفعلين الآن يا أختي الحبيبة "لولا".... كيف تنامون ؟... كيف تأكلون ؟... ومع من تتحدثون وتلعبون ؟... هل لازلتم يا ترى كما تركتمونا تمتازون بالمرح والطرافة والنكتة ؟... والمقالب المضحكة... وهذه "الفيراندا"... وهذا الشارع ؟... والبقال ؟... أنسيت البقال يا "جمال"؟... البقال "فرحان" حيث كانت والدتنا ترسلك لشراء بعض حاجيات المنزل فكنت لا تعود إلا بمقلب !... نعم كنت تعود بمقلب يضحكنا ولا يعود عليك إلا بالشتيمة والضرب من أباك !... أتراك كنت تفعل مقالبك قصدا منك أم أنت حقا معتوه ؟!... أم هو الذكاء الفائق يتفجر شلالا من الحركات والتصرفات المؤذية المشينة !... أتتذكر يا ترى كيف أحضرت صفد البيض فارغا إلا من قشوره من عند البقال !... وعندما سألك والدك عنهم ادعيت بأن البقال أعطاك إياهم هكذا !... يا لعقلك الساذج !... وبعد الصفعة الأولى أقريت بأنك فقدت ما بداخلهم من صفار البيض وأنت تلعب بهم على الطريق ؟!... )

وهي تضحك... ( كم أنت غبي يا "جمال"...! كيف خطرت لك تلك الخاطرة بان تجمع أولاد الحي حولك لتريهم بأن هناك "صوصا" يتحرك في كل بيضة بعد ان أفرغتها مما في جوفها وأدخلت إصبعك بداخلها من الخلف لتلعب تلك اللعبة البهلوانية ولأي سبب ؟... الم تفكر بالنتيجة يا ترى !... أم أن ذهنك الصغير كان مشغولا بأشياء أخرى كثيرة وكثيرة جدا يدفعك لهذا الشرود وهذا التمرد ؟!... اهو يا ترى أسلوبك للاعتراض على معاملة أباك القاسية لوالدتنا من شتيمة وضرب !... اذكر بأنك كنت تتأثر كثيرا برؤيتهما يتشاجران باستمرار... وكان هذا يسبب لك في أحيانا كثيرة الامتعاض والحزن !... ربما كنت اصغر من أن تتعود على هذه السيمفونية البغيضة التي اعتدنا عليها نحن الأكبر سنا... حتى لأننا فقدنا الإحساس بها عندما تعزف؟! ... وسباق الدراجات ؟!... اجل أنسيت كم كنا -وعلى طول هذا الشارع- نتسابق على الدراجات ولا نمل !... وعندما كنا نتعب كنا نتوقف لشرب الكولا أو تناول المثلجات... تراك لازلت على عادتك تشرب الكولا مع الطعام لابد أن تكون الكولا لذيذة أكثر عندكم في ألمانيا من هنا، فهي على الأقل أصلية ولا تزعجك بغازاتها المفرقعة وطعمها كالسكر المحروق ؟!... آه كم اشتقت إليك والى "لولا"... أنت أخي الوحيد تذهب رغم صغر سنك لتستوطن الغربة وتنسى أختك التي تحبك وتحب اللعب معك، بل أكثر... أن تمشي بقربك مزهوة بان لها أخا ككل الأخريات من أصدقائي ؟.

 

 

 

وأنت يا "لولا" هل لازلت كما كنت بابتسامتك الرائعة ونظراتك الفاتنة الساحرة ورقة قلبك... وهل أنت سعيدة حيث أنت، كم افتقدتك وأخاك... وكم أشعر بالغربة والحزن هاهنا مع أخوتي ووالدي وخالتي وفي بلدي وبين أصدقائي !... ولا أعرف إن كنت سأحسدكم على بقائكم بعيدين عنا... أم اطلب لكم العزاء... لا أعرف... لا أعرف ؟!...

 

كل ما أعرفه بأنكم رغم افتقادكم لنا وحنينكم لوجودنا قربكم لا تشعرون بالغربة كما اشعر بها وأخوتي هنا، حيث كنتم قد تولعتم بحاضنتكم وزوجها "شلوتر" رغم امتعاض والدتي منهم وكرهها ألا محدود لهم لأنهم أخذوكم منها كما تدعي ؟!!!.

 

أظن بأنكم تستمتعون بوقتكم برفقتهم. خاصة وإنكم عندما عدتم... عدتم إلى الوطن الذي ولدتم فيه وأمضيتم السنين السبعة الأولى من طفولتكم فيه، فكيف إذا ستتضايقون وتضجرون وانتم في كل الأحوال وكما السابق رهن هذه العائلة الرزينة... ومنذ ولادتكم... اجل منذ ولادتكم... فلقد كان والديكم وعندما سمعا خبر استيطانكم في الرحم رافضين قطعا أن تروا النور ورغم محاولاتهم التعيسة بان يتخلصوا منكم وانتم لازلتم نطفة !... خاصة محاولاتهم للسفر إلى "بولونيا" حيث القوانين لا تعارض ذلك كما هي الحال في "ألمانيا" ؟!... انتصرتم رغما عنهم... وأبصرتم النور بعد أن اقنع العم "شلوتر" وزوجته والديكم بالعناية بكم وتبنيكم أن هم ليسوا مستعدين لذلك ؟!!!... أو يا ترى ألم يهتز لصرختكم الأولى وانتم تخرجون إلى هذا العالم الظالم ؟!...الم يهتز لوالديكم إي من مشاعر الفرح ؟!... الم تستجب لصراخكم البائسة البريئة إي رحمة ؟!... أو شفقة...أو إنسانية ؟!... وكيف هي والدتكم أرضعتكم من ثدييها كل هذا الحليب المفعم بالدفء لم يردعها على أن تمضي قدما في مشروعها بان تترككم بين أيدي الغرباء ليعتنوا بكم !!!؟؟... أم هو التحدي المليء بالبغضاء والكبرياء هذا الذي استحكم بها وبوالدكم... وكمن يعض كل واحد منهما إصبع الأخر حتى يدفعه إلى الاستسلام !... تحملوا كل هذا الألم بالاستمرار بلعبتهم دون أن يصرخوا أو ترف لهم أي جفن من الحياء ؟!... هذا ما يسمونه الكره يا الهي ؟!... هذا ما يسمونه البغض ؟... هذا هو التحدي والانتقام !... يعجز أي قلب بشر ومهما كان خسيسا في هذا الكون من أن يصدق !...)

وقد عاد إليها بعض الهدوء تابعت: (أعرف بأنكم رغم سعادتكم باستعادتكم لحريتكم... بالعودة إلى وطنكم... إلى الهدوء... تشعرون ببعض الامتعاض وربما الحقد...!... أن تكونا ها هناك لوحدكم دوننا وبلا سبب...!... أم إن لكم وبعد السنين الستة التي مضت باغترابكم سببا تعزون إليه كل آلامكم... وبه تداوون جروحكم التي لم تندمل بعد...!... آه كم أنا حزينة وأشفق عليكم... فأنا في كل صلاة لي أدعو لكم بان يحميكم الله ويوفقكم ويسعدكم !.)

 

 

وقد بدا عليها شيء من التعب وكأنها دخلت في غيبوبة باتت تتمتم لهم بالدعاء وقد اغرورقت عينتاها بالدموع وخيل إليها وهي تنظف أنفها من غير شعور بطرف كمها وكأن أخويها يلوحان لها من طرف الشارع وهما يصيحان... "نارين"..."نارين"...هي..."نارين" فلم تتمالك نفسها -وقد أصابتها قشعريرة عابرة وشعرت لأول مرة في حياتها وكأن شعرها قد انتصب- من الصراخ..."جمال"..."لولا"... وبصراخها ذاك انتبهت إلى نفسها وأخذت تتلفت حولها يمينا ويسارا خوفا من أن يكون أحدا ما قد رآها !... وحمدت الله وأخذت تقرأ مستعيذة... قل أعوز برب الناس... وتمسح بيديها على وجهها وصدرها... وهي تهمس ... لا ... إلا الجنون... هذا أبعد من أن أتصور نفسي فيه... ثم توجهت إلى المغسلة لتغسل وجهها وترتب شعرها... عندما سمعت الباب يفتح ويطل منه والدها وهو يحمل الطفلة الوليدة وخلفه زوجته ووالدتها وأختها الكبرى رغد !... فهللت فرحة وهي تطالب بإصرار أن تحمل أختها لتراها... في حين كان والدها يصر بان تراها من بعيد خوفا من التقاط إي مرض كان فهي لازالت صغيرة...وهشة وفيما سعى الجميع لتامين الراحة لخالتها والمولودة الجديدة جذبت نارين أختها رغد من طرف ثوبها وهي تقول:

-لقد كنت بانتظاركم على الشرفة ... هل رأيتموني؟؟؟.

-لا ؟!...

-الحمد لله وهي تبتسم...

وباستغراب أجابتها رغد:

-لماذا ؟... ماذا هناك؟

- لاشيء... لاشيء.

-تعالي خلفي إلى الغرفة لنتحدث

لحقت نارين أختها رغد إلى غرفتها كهرة صغيرة تتبع والدتها... وما أن دخلتا الغرفة وأغلقا الباب كالعادة حتى بادرت رغد أختها نارين السؤال عن حالتها المزرية التي رأتها فيها... ولم تتجرأ نارين من الخوض في الحديث عن ذكرياتها وتأثرها بها... بل جرت نحو المرآة لتكمل زينتها وهي تقول:

-كيف تمت الأمور بالمستشفى ؟... ولماذا تأخرتم هكذا ؟. 

 

 

رغد وهي تخلع معطفها:

-على أحسن حال، لقد انتظرنا الطبيبة حتى تتمم إجراءات خروجها ومعاينتها والطفلة قبل العودة إلى المنزل... ثم تابعت كيف جرت الأمور بالبيت ؟... هل أصبح كل شيء جاهز لاستقبال الضيوف والمهنئين هذا المساء ومن ثم أنت لم تجيبي... ما بك ؟... لقد بدوت وكأنك كنت على عراك مع احد... هه ما الأمر ؟.

 

نارين وهي تضحك:

-كنت أتعارك مع نفسي...! ... ألا تعرفينني... أتضايق بدون سبب !.

 

ثم أردفت بعد لحظة من الصمت:

-كنت أفكر إذا ما كان والدك قد أعجبه طبخي ؟... فهو لم يعلق كعادته ؟!... وأنت تعرفين بأن طباعه وذوقه صعب جدا على الطعام ؟... ولا أخفي عليك بأنني كنت أرتجف وبعد كل لقمة يضعها في فمه وأنتظر بين لحظة وأخرى تعليقه المعتاد... ولكنه لم يفعل هذه المرة ؟!.

وبشيء من المرارة تابعت: ليته فعل لأنني بقيت طيلة الوقت وحتى مغادرته المنزل قلقة من أن يفاجئني بالتأنيب المعتاد !... لقد تعذبت أكثر بانتظاري أن يفعل... وسبب لي القلق والتوتر... وهو أقسى من أن يقول رأيه مباشرة...هه وأنت ما رأيك ؟.

 

-انه لذيذ كما تفعلينه... باستمرار طعامك لذيذ ولا ينقصه شيء... أنت فقط كثيرة التذمر والخوف... وفي كل الأحوال أنت من يدفعه إلى التعليق على طعامك لكثرة تفوهك بالحماقات ... مثل أكلي ليس ناجح... ناقص ملح... كان طيب ولكن نزعته بعد إن أضفت عليه كذا وكذا... وهكذا فأنت تنبيهيه إلى أشياء لم يكن لينتبه إليها أبدا... كم أنت غبية... ومن ثم هو كان شارد الذهن اليوم لأنه على موعد لإحضار خالتك ولهذا ربما لم يستطعم بطعامك !...

وهي تهزأ تابعت:

-اطمئني أخيرا هو مشغول البال ولم يفطن بك ليؤنبك إذا أردت !.

 

-لا... ولكن أنت تعلمين بأنني أحاول قدر المستطاع أن أرضيه واعمل المستحيل لكي يشعر بأنني لا أجيد التذمر فحسب بل لي حسناتي كذلك. فانا أجيد العناية به وبأخوتي وارتب له غرفة نومه وأنظف الحمام والمطبخ كما يجب... واطبخ... واقلق لراحته ساعة ينام... أتراه لم يشعر بكل هذا... الم يشعر بان لديه فتاة ماهرة وست بيت وتستطيع العناية به وتحبه...

 

رغد مستغربة:

-وتحبينه ؟.

-اجل... أحبه وهل هناك من فتاة لا تحب أباها... وأسعى دائما لإرضائه !... ولكن هو لا يهتم بتاتا لكل ما أقوم به لأجله... هو أصلا لا يشعر بوجودي بتاتا... وألا لقالها تلك الكلمة السحرية الحلوة التي يتمناها كل إنسان بعد إنجازه عمل ما !... كا "يسلموا ها الديات"، طعامك لذيذ، أنت بنت شاطرة، الله يرضى عليك... الخ الخ الخ بدلا من التذمر باستمرار ولا يعجبه العجب !.

-ربما يستحي أن يقول هذه الكلمة السحرية.

وبشيء من السخرية تابعت:

-هو حتى لم يكن ليقولها لوالدتك حتى ليقولها لك.

-لماذا يا ترى؟... لم يتعود على الكلام الجميل ككل الناس ؟... لماذا لا يلاطفنا ويلاعبنا ككل الآباء ؟... هو معقد يا ترى ؟!... أم انه بلا مشاعر ؟!.

-بل قولي ربما هو لا يقولها لأنه يعتقد بأنه يدفع ثمنها... وككل من يدفع ثمن طعامه ولباسه والعناية به... فهو لا يجد نفسه مضطرا لان يضيف عليها كلمات الشكر... ومن ثم أنت تهتمين لأمره كثيرا على غير عادتك ؟!...

-كيف لا... فهو أباك ولقد قلت فهو يدفع الثمن، ثمن العناية بملبسنا ومأكلنا هذا بالإضافة إلى إنني بدأت اشعر به أكثر خلال فترة غياب خالتي عن البيت... أحسست به أكثر لطفا !...

وقد بدا عليها الاهتمام لما تقول أضافت:

-هل هي محاولة ليكفر عن غضبه علينا خلال وجودها... هل شعر يا ترى بأنه كان ظالما معنا ؟... وأراد بلطافته تلك أن يرسل لنا إشارة ما ينبهنا بها عن محبته لنا واهتمامه لأمرنا !.

ثم تابعت وقد بدا عليها الحزن:

-ولماذا يا ترى هو عاجز دائما عن الكلام، عن البوح عما في داخله إلينا لنقف إلى جانبه وندعمه في معاناته... أنا اشعر به من داخلي بأنه ليس سعيدا بما يكفي معها. أم تراه يفعل ما يفعله معنا من سوء ليرضي به تذمرها ويدفع عنه وعنا غضبها... لماذا لا يحدثنا ؟... لماذا لا يبوح بما يشعر به ؟... لنعذره ونسامحه وناسف له ونحبه... لماذا ؟.  

 

رغد وقد شعرت بان أختها قد أصابت في كلامها صميم المشكلة وهي محقة:

-الله... الله... لقد أصبحت شاعرة يا أختي الصغيرة...أتعرفين إنني أتفاجأ في بعض الأحيان بك !... وبأفكارك... وبشيء من الزهو تابعت: أنت واعية وذكية، كيف تتوصلين إلى هذه النتائج... لابد انك تتمتعين بإحساس مرهف جدا... ولكن رغم تفاؤلك بمحبة أباك لنا وكتمان كل هذا عنا فانا أرى بان والدك ليس بالسهولة لكي تقحمي ما يكن ويضمر بنفسه فهو كالأحجية المغلقة بعدد شعر راسك... وكلما استطعت أن تفتحي واحدة منها لتقرئي عما بداخلها تجدين أخرى... وهكذا ستتعبين وأنت تتعقبين الحقيقة المحضة والممنوعة في نفسه... وقد تشيخين وهو لا يزال في ريعان الشباب !... وقد تهلكين وأنت تجرين خلفه وهو ممدد يحتسي العصير !...  انه صلب كالحجر... بل هو حجر وعندما خلقه الله خلق به الروح ليتحرك ولكن منع عنه كل المشاعر... ولذلك فهو لا يحب أحدا... لا يحب إلا نفسه !!!؟؟؟.

-يا الهي خلتك ستشجعينني على اهتمامي به وستناصرينني على تحليلي للطفه الأخير وهدوءه الغير معتاد... ولم أكن أتصور بأنك ستشبهينه وترسمينه لي كوحش !.

-أنا لم اقل هذا، بل وأنت تعرفين أكثر من غيرك بان أباك فاقد للمشاعر ومشغول دائما عنا وعن غيرنا ولا يحب إلا نفسه. وان هو حاول اطمئناننا ببعض من لطافته وبأنه يحبنا ويهتم لأمرنا فما ذلك بالنسبة له أكثر من أسلوب يعتمده في حياته مع الجميع ولكن... (وهي تكز على أسنانها)...بلا مشاعر !.

 

 

نارين بشيء من العصبية وكأنها أرادت أن تدافع عن مشاعرها واكتشافها الجديد بأبيها:

-لماذا لا تقولي بأنه يحبنا بكل جوارحه وبأنه يكن لنا ككل الآباء كل حنان. ويخاف علينا ويهتم بمستقبلنا ويكره أن يؤنبنا أو يشتمنا أو يضربنا وان هو فعل هذا أمام خالتي فلكي يقي غيظها ويخفف من غضبها... ولهذا فهو هادئ خلال غيابها... أليس هذا صحيحا ؟.  

-كما تريدين... ولكن لو كان كذلك لكان حدثنا بالأمر على انفراد حتى لا نغضب منه !.

-لا أظن يستطيع ذلك وهو يعرفنا تمام المعرفة بأننا ننقل كل ما يدور داخل هذا البيت إلى والدتك. وهو يعرف بأنه لا يريد أن يفرحها بتمثيله لدور الأب الذي لا يحب زوجته ويتآمر مع أولاده عليها !. وقد تصل عن طريقها الفتنة وتملئ بالوشاية قلب خالتك بالغيظ، وهو لا يريد أن يفتح بابا لتعاسته !.

-قد يكون كذلك ولكن لو علمنا على محبته وصدق مشاعره معنا لكنا تعاونا معه واحتفظنا بأسراره ؟.

-أنت تعرفين بان أباك يخاف منا ولذلك فهو لا يأتمن لنا... ولا تنسي بأننا وخلال سنتين من زواجه بخالتك كنا شركاء لوالدتك في كل قلقه... لماذا لا نتصالح معهم ونعمل هدنة ونحاول أن ننسى الماضي ونعيش معهم بسلام.

-أنت طيبة جدا يا حبيبتي... نسيت على ما يبدو كل الآلام التي سببتها لنا... نسيت على ما يبدو إظهارنا وفي كل ساعة ودقيقة أمام أباك بأننا كاذبات... كسولات وبأننا لا نطيقها، أنسيت كيف زرعت الشك في قلب أباك اتجاهنا !... بان لنا علاقات مع الشباب وبأنه إذا ما تأخرنا عن المنزل فلأننا على موعد ما مشبوه مع شخص ما... ولهذا فهو يترصد خطواتنا على غير عادته ويحسب المسافات من البيت إلى المدرسة بالدقيقة والثانية حتى انه لم يتوانى عن ملاحقتنا عن بعد ليتأكد من سلامة سلوكنا... أباك لم يكن هكذا من قبل... لم يكن شكوكا !... وقد كان يثق بنا كل الثقة... لا أظنك نسيت كل هذا وبأنها ستعاود الكرة حتى تستعجل علينا الزواج من إي كان وبأي ثمن حتى نترك لها هذا البيت وبأسرع وقت ممكن !.

-إذا أنا مخطئة إذا اهتممت به وبطعامه ؟!.

-ومع ذلك فأنت لم تنالي الشكر ولم تجني إلا النقد، وربما أنت تستمرين رغم مضايقته لك وعدم إحساسه برضاه عليك... تستمرين في السعي لكسب حبه وعطفه ومودته فقط ... فقط لتشعريه بأنك ممكن أن تكوني بديلة عن زوجته، ربما كنت تحاولين أن تلعبي هذا الدور وتصرين عليه رغم ما تتعرضين له من أذى منه لمجرد رغبتك بلعب دور الزوجة البديلة، وهذا إن صح خطير جدا جدا يا نارين !!!.

وكمن انتبه إلى اكتشاف خطير ومثير تابعت:

-أنبهك يا نارين هذا خطير جدا ويسمونه بعقدة "الكترا" وأباك وبما انه طبيب نفسي ربما انتبه إلى هذا وهو يحاول بتأنيبك وأغاظتك إبعادك عن هذا الدور... حتى لا تستقري به وتتحول حياتك إلى جحيم !!.

 

نارين بقلق:

-ماذا؟!... ماذا؟!... ما هذه عقدة "الكترا" وما هذا الكلام ؟... أنا لا افهم شيئا ؟!.

 

وقبل أن تجيبها سمعت والدها ينادي عليهن:

-هيا الباب يقرع... لقد حضر الضيوف على ما يبدو... نارين... رغد... هيا افتحوا الباب...

ومن خلف الباب وبصوت واحد أجابتا:

-حاضر بابا... حاضر.

 

 

خرجت نارين على عجل لتستقبل الضيوف في حين استمرت رغد في تبديل ملابسها... وكم كانت مفاجأة لها أن تجد مع أول ضيوفها صديقته "هناء"

-أهلا... أهلا وسهلا تفضلوا... وهي تفتح باب الصالون على مصراعيه تفضلوا

 

هناء وهي تدخل وتنزع عن رأسها الحجاب:

-كيف الحال ؟... كيف خالتك و"البيبي" ؟... مبروك العروسة الحلوة.   

 

نارين وهي تأخذ "المانطو" من يد هناء:

-بخير والحمد لله تفضلوا.

 

وهكذا وعلى مدى ساعة كانت نارين ورغد يتناوبان في فتح الباب واستقبال الضيوف وتقديم القهوة وتبادل أطراف الحديث على أنواعه... وبين الحين والآخر كانت نارين والتي بدا عليها شديد الاهتمام بهناء تتبادل الإشارات عن بعد وعندما تحين الفرصة لهن يتبادلان بعض الكلمات، فالصالون كان يغص بالضيوف ولهذا لم يتسنى لهن الحديث على انفراد.

وبما أن نارين لا تستطيع أن تصبر دون أن تتحدث بأمورها أشارت على هناء لكي تأتي إليها في المطبخ لمساعدتها... فلم تتأخر هذه الأخيرة باللحاق بها.

وما إن دخلت المطبخ حتى بادرتها القول:

-كيف الحال أنت لم تلبسي الخاتم بعد ؟... ماذا حصل مع العريس ؟.

 

نارين متعمدة عدم فهمها للحديث:

-أي عريس ؟!.

-ذاك الذي حدثتني عنه في السوق.

-آه... ليس هو فقط بل غيره كثير لم ارغب حتى بالتحدث بالأمر!.

-ولكن هذا الأخير الذي حدثتني عنه يبدو مناسبا جدا !.

-كذابون... وهو سمين وقصير وبشع... يا الهي كم هو دميم !... لقد خفت منه عندما رأيته !... وعندما أصرت والدته على تلبيسي "الشوفه" ساعة وخاتم رفضت وقد خرجوا من عندنا كالمطرودين !...

ثم تابعت بشيء من الاستنكار:

-يخرب بيت ها العالم شو كذابين قالوا عنده محل وسيارة وبيت... طلع المحل لأباه وهو يعمل عنده ولا يوجد سيارة والبيت عبارة عن سطح سوف يبنيه بالمستقبل ويريدونني أن أقيم مع والدته وأخوته في بيت واحد ؟!.

 

 

ثم استطردت:

-وقالوا عنه شب حلو وأشقر... طلع مثل الضبع. الله يخرب بيت خالتي وأمها المنحوسة كيف بدهن "بدن يدفروني" من هون... والغريب أن أبي يصدق كلامهم ويرضى باستقبال هكذا ناس في بيته ولابنته الصغرى !... هل أنا دميمة ؟... هل أنا مصيبة حتى يبيعني بهذه السهولة ؟!... إنها أفعال خالتي وأمها !!!... وأنا لا أريد أن أغيظك فهم يقربوك ولا أحب أن تتضايقي ولكن ضعي نفسك مكاني ؟!.

-لا باس أنا اهتم بك فقط ولا يهمني غيرك بتاتا. وأنت لا تتزوجي إلا بمن تحبين... ولا تستعجلي أبدا أبدا.

-لا تخافي اعرف ما أريد... هه... ما هي أخبار خالك ؟... أخبرتني صديقتي بأنكم ذهبتم لرؤيتها... كيف وجدتموها ؟.

-في الحقيقة... لا اعرف... لم نعطهم جوابا إلى الآن الأمر بيد خالي... وهو الأساس.

-أتعرفين لقد اتصلت بصديقتي وأخبرتني بزيارتكم وطلبت مني أن اشرح لها كل شيء عنه وأنا في الحقيقة حكيت لها كل شيء.

ثم تابعت ببعض الخبث وكأنها تريد أن تصل إلى مقصد في نفسها:

-وطلبت مني أن أصفه لها، وبما إنني لم أشاهده فلم استطع... أليس لديك صورة له لكي أعطيها إياها !...

-في الحقيقة لا... ولكن تستطيعين أن تريه متى شئت فهو الآن هنا حضر منذ أيام من السفر... وهو يأتي إلينا كل يوم تقريبا ليأخذنا إلى مزرعته لكي نسبح.

نارين تتصنع الإعجاب:

-عنده مسبح في المزرعة وهل مزرعته جميلة ؟...

هناء بشيء من الفخر:

-طبعا فيها فيلا جميلة وحديقة وأشجار فاكهة وهي ليست بعيدة عن هنا إنها في البساتين القريبة خلف الملعب.

-وهل أستطيع أن أتي معكم للسباحة ؟.

-لما لا فهو ظريف ويحب الضيوف... وغالبا ما يأتي معنا الكثير من الأصدقاء وهو يترك لنا المكان لنلعب ونأكل ونسبح على هوانا... فإذا أحببت اتصل بك غدا لأخبرك متى تأتون إلينا حيث يمر إلينا ونصطحبك معنا.

نارين وقد بدا عليها الفرح:

-وهل من مانع إذا اصطحبت أختي الصغرى هند معي ؟.

-أبدا أنا أخبرتك بان خالي يحب الضيوف ويحب الأولاد ومزرعته مليئة دائما بالناس.

-ولكن هل تعتقدين بان أبي يوافق... آه نسيت...

نارين وهي تتصنع الأسى:

-لا أظن ؟!.                           

-إذا أحببت أنا اكلم خالتك بأننا عزمناك وأختك معنا وهي ستحدث أباك.

-صحيح خالتي... إذا الموافقة مضمونه.

وهي تصف الفناجين المغسولة والأطباق:

-شكرا على مساعدتك لي... ولكن متى ؟.

-في القريب العاجل إن شاء الله ربما يوم الجمعة القادم ما رأيك ؟.

نارين وقد على وجهها بعض من علامات الانتصار:

-حسنا لما لا...ونأخذ أغراض السباحة... هل سنسبح ؟.

-إذا أحببت اجل... اجل.

-وخالك يبقى هناك ؟.

-لا ... لا "تاكلي" همه... فالمزرعة كبيرة وهو بالعادة يتخذ لنفسه ركنا بعيد عنا ويسلي نفسه بالمطالعة.

نارين: إذا اتفقنا... وهكذا أستطيع أن أصفه لرفيقتي وبالتفصيل ربما تستعجل باتخاذ القرار.

وفيما هن يتحدثن تدخل والدة هناء وهي تقول:

-هيا لقد تأخر الوقت.

هناء موجه الحديث لنارين:

-إذا وداعا والى اللقاء.

نارين وهي تقبلها مودعة:

-إلى اللقاء... انتظر هاتف منك

هناء وهي تلبس:

-لن أتأخر... مع السلامة.

---------------------------------

نهاية الفصل الرابع مع تحيات المؤلف: يحيى الصّوفي   جنيف في 05 / 11 / 2003     

 

 

 

 

الفصل الخامس: اللقاء الأول

 

 

 

لم تتمالك نارين نفسها من الفرح وقد حطت رحالها برفقة أختها هند في بيت صديقتها هناء، لتحظى بذلك بيوم عطلة ممتع وجميل برفقتها في مزرعة خالها الموعودة.

 

ها أنا ذا أخيرا مع أهله... تنهدت نارين وهي تتململ على كرسيها وقد أطلت برأسها من على الشرفة ترمق الشارع منتظرة كغيرها قدوم خالها زاهر بسيارته المغلقة ليقلهم جميعهم إلى مزرعته ...

وكأنها تحدث نفسها: (من يصدق بان هذا الشاب زاهر المليونير الصغير كما يسمونه ينتمي إلى هذه العائلة الوديعة البسيطة المفعمة بالمحبة والابتهاج... ليتني أستطيع أن أكون فردا من هذه العائلة الرائعة...ليتني...!.)

وبينما كانت شاردة في تأملاتها نكزتها أختها هند وهي تقول:

-هيا... لقد أتى... هيا.

 

نزلت نارين كجميع أفراد العائلة الطوابق الثلاثة قفزا وكأنها تتبارى إلى الوصول قبل الجميع لتجد نفسها وجها لوجه أمام زاهر... شاب وسيم وهادئ... يرحب بجميع أفراد عائلته بدون استثناء كبيرا كان أم صغيرا... وبمنتهى الوداعة كان يساعد الجميع في نقل حاجياتهم إلى داخل السيارة.

 

ولأنها لا ترغب أن يبدو عليها الحرج وقد تسمرت في مكانها وهي تسترق النظر إليه من طرف عينيها بذهول... اقتربت من المقعد الأمامي من السيارة لتلقي التحية على والدته وولديه وكأنها على علاقة قديمة وجيدة معهم... تبادلت التحيات وكلمات المجاملة بمنتهى السهولة، لتخفي بعضا من الاضطراب الذي أصابها... فلقد كانت تتخيله رزينا أكثر من هذا ورسميا واكبر سنا... تخيلته ربما كأخوالها صارما وجديا وهي في ذلك لديها الحق... أليس هو خال أيضا...!... ولم تكن لتتصور ولا للحظة واحدة بأنها ستجده هكذا بسيطا ووديعا... يلبس جينز ازرق وقميص اصفر من لون الشمس ويخفي عينيه بنظارات "ريبان" الشهيرة...!... هي لم تكتشف من ملامح وجهه أكثر من ابتسامته التي تكشفت عن أسنان بيضاء لامعة وهذه النظارات... كان يبدو لها كممثلين السينما... لا يشبه شباب هذه البلد... بل لقد كان مألوفا جدا لها ولهذا فهي استطاعت أن تتغلب بسهولة على الحرج الذي وجدت نفسها فيه وأخذت تشارك وكأي فرد من أفراد العائلة بترتيب الحوائج بالسيارة... ومما زادها اطمئنانا ترحيبه الشديد بها وبأختها هند وكأنه يعرفهم مسبقا ولم يعلق بتاتا على وجودهم مع العائلة أو انه ربما لا يعرف كل أفراد عائلته الكبيرة وظن أنهن منها بكل بساطة، أم انه معتاد على العائلة وضيوفهم... وكان يحرص على الجميع وكأنهم أولاده وهو يحذرهم وبمنتهى الهدوء بالابتعاد عن الباب لأنه سيغلقه وسينطلق..!

 

وما أن انطلقت السيارة تخترق شوارع المدينة باتجاه البساتين الحدود الطبيعية للمدينة، حتى بدأ الجميع بالتصفيق والغناء مشاركين بذلك أصوات الموسيقى المنبعثة من جهاز التسجيل في السيارة، فأدخلت كل هذا الهيصة والمرح سرورا عظيما إلى قلبها، ولكي لا تبدو غريبة عنهم فلقد شاركتهم تصفيقهم وغنائهم... حتى أنها لم تتوانى من إخراج "كاسيت" لأحد مطربيها المفضلين وهي تطلب مازحة أن يستمع الجميع إليه!. وقد سرها أن يتقبله زاهر منها شاكرا دون تردد، بل أبدى إعجابه بالمطرب وبصوته وبموسيقاه... وكان هذا بمثابة المكافئة التي كنت تنتظرها لتبدو مطمئنه وسعيدة وتشعر بنفسها حقا وكأنها كأي فرد من أفراد العائلة، فهذا يشجعها أكثر لكي تكون طبيعية جدا معهم.

 

 

 

لم تدم رحلتهم أكثر من عشر دقائق كانوا بالنسبة لها ثوان قليلة... وكانت تتمنى لو أن تطول أكثر فأكثر... ربما النهار كله!.

 

انتظر الجميع داخل السيارة ريثما ينزل زاهر ليفتح باب المزرعة الخارجي بنفسه ويسوق بهم إلى الداخل... حيث بدؤوا بالتدفق كل مع حوائجه. وذكرها هذا المنظر برحلات المدرسة عندما كانت بالإعدادية.

 

نزلت نارين مع أختها هند لكي تتبع الجميع نحو الحديقة وكانت تأمل عند وصولها حيث جلس الجميع أن تراه هناك فلم تجده...فكان يبدو عليها وكأنها قد أضاعت شيئا كانت تملكه... ثم جالت بنظرها الحديقة الغناء ببساطها الأخضر وأزهارها الجميلة والمسبح الصغير الذي يحتل إحدى أطرافها فلم تعثر عليه. وخيل إليها لوهلة بأنها رأت هذه الحديقة وبأنها قد زارتها يوما ما وجلست بها !. وكان ينتابها شعورا غريبا بأنها مألوفة لديها !. ولكي لا تلفت الأنظار إليها صاحت مازحة وهي توجه الحديث لهناء:

-هذا هو المسبح الذي سنسبح به؟.

 

هناء وهي تضحك:

-لا... وأشارت إلى الدرج المؤدي لأعلى "التيراس" والمسبح الكبير.

نارين صاعدة الدرج وهي تصيح من الفرح:

-ياي... هيا... هيا للسباحة

-لنأكل أولا.

-لا أنا أريد أن أسبح أولا...  هلا تدلينني على "المشلح" لأبدل ثيابي.

 

امتثلت هناء لطلب صديقتها وهي تقول:

-كيف وجدت خالي... أعجبك؟!.

 

نارين وقد امتقع وجهها بحمرة الخجل وهي تحاول أن تجيبها متصنعة عدم فهمها للسؤال ومدعية البلاهة:

-أين هو؟... هل أتى!؟... إذا أنا لا أستطيع السباحة!.

 

هناء وهي تضحك:

-لا لقد ذهب ليتفقد أشجار الفاكهة... فهو يعشقها ولن يأتي قبل ساعتين أو ثلاثة... ولكي لا تسبب لها حرجا أكثر تصنعت هي الأخرى بأنها اكتفت بجوابها فتركتها لتغير ملابسها وذهبت لتلتحق بالآخرين.

 

كان قد مضى قرابة الساعتين على غياب زاهر داخل المزرعة يتفقد أشجار الفاكهة فيقطف من كل نوع من الأنواع المتوفرة في فصل الصيف كالتفاح والأجاص والدراق وكذلك العنب وكما هي عادته عندما تجتمع عائلته... وكان يهتم بعد قطافها بغسلها وترتيبها في صوان كبيرة ويحضرها بنفسه. ولكي لا يسبب الحرج لضيوفه صاح مناديا هناء لتأخذ الفاكهة... فلم تتوانى هذه الأخيرة من تلبية طلبه وهي تقول:

-لا يوجد احد تفضل خالي لتجلس معنا... والدتك تريد أن تراك.

-وضيوفك ؟.

-أنهم يسبحون في الأعلى... لن تراهم ؟.

-وأنت الم تسبحي؟.

-لقد سبحت مع الجميع وانتهيت... لقد كانت المياه باردة جدا... ومنعشة !.

-والأولاد أين هم؟.

هناء وهي تضحك:

-مع ضيوفي يسبحون منذ تركتنا وهم في الماء لا يريدون الخروج... إنهم يستمتعون جدا باللعب معهم... وكأنها أرادت أن تشير إلى شيء مهم... صديقتي نارين تهوى اللعب في الماء ويبدو أنها استولت على اهتمامهم فهم يلعبون معها ويلازمونها كظلها وكأنهم على معرفة قديمة... لا يفارق أحداهما الآخر...

وهي تصر قالت:

-تفضل هيا.

 

وبينما كان يهم بالعبور بجانب جدار المسبح باتجاه الحديقة لاحظ نارين وقد تخفت خلف منشفة كبيرة وهي تهم بالقفز إلى الماء، فبدا عليه بعض من الضيق والحرج... لأنه لا يحب أن يلعب دور المتطفل الذي يضايق ضيوفه على حين غرة... ومع ذلك لم ينتبه إلى الغاية من إصرار العائلة له للانضمام إليهم... وما أن وصلهم حتى حياهم جميعا، فنادته والدته وهي تبتسم لأن يجلس إلى قربها.

 

فانقاد إليها طائعا وهو يقول والابتسامة لا تفارق وجهه:

-كيف الحال والدتي هل أنت مرتاحة؟.

-أجل الحمد لله بني... طالما أنت مبسوط ومرتاح...

ثم أضافت:

-أرأيت تلك الفتاة... صديقة هناء.

-اجل ما بها ؟.

 

انظر إليها كيف هي سعيدة مع ولديك...تلاعبهم ... إنها طفلة رائعة ومنذ أكثر من ساعتين وهم يلعبون ويسبحون سويا... الق نظرة عليها قبل أن تأتي.

-كيف هذا عيب !... أنا لا أريد أن أحرجها أو أن أضايقها وهي أمانة عندنا !؟.

-ليس هذا... أريد أن اعرف إن هي أعجبتك... انظر إليها... هاهي تصعد ثانية وتهم بالقفز في الماء.

 

زاهر وهو يلقي نظرة خاطفة:

-أرجوك والدتي إنها طفلة...!؟

 

-هكذا تبدو... لأنها كثيرة الحركة ومليئة بالحيوية... إنها تذكرني بنفسي عندما كنت في عمرها... وهي ليست صغيرة كما تظن... إنها في العشرين من العمر... وأظن وقد اتفقت مع ولديك وأحبوها فهي ستكون رفيقة وزوجة مناسبة... ما رأيك...؟

-ولكن نحن على موعد مع أهل الفتاة التي زرتها منذ أسبوع، وهي صغيرة ومتعلمة ورائعة الجمال... وقد أشعرتني باهتمام خاص بي... وانتبهت إلى أنها كانت تصر على أهلها بالموافقة السريعة وهي فرصة جيدة أن أجد فتاة متحمسة لي لهذا الحد...!؟

-ولكن لم ترى ولديك ولم تتعرف إليهم بعد... واعرف تماما بان موضوعهم يأتي بالمقدمة بالنسبة لك... ولطالما بدلت رأيك بأكثر من خطيبة لمجرد انك لم تشعر بالمحبة والوئام يغمر قلوبهم... أليس كذلك.

 

 

ثم تابعت دون أن تتيح لزاهر العثور علي عذر متصنعة عدم سماعه:

-وهي هذه معنا الآن وقد بدأت من حيث تحب... بالأولاد... ويبدو أنهم مولعون جدا بها فهي تلاعبهم كإخوتها وبدون تكلف.

 

-اجل خالي... وافق أرجوك... دعنا نفرح بك... فهي لطيفة جدا وحسب طلبك... دعنا نعرفكم ببعض... فلا شيء يلزمك... وهذه مناسبة جيدة الآن... كونها معنا.

-أليست هي الفتاة نفسها التي ذكرتم لي إياها منذ أكثر من عام... أظن بان والديها مطلقين... لا... لا... هذا خطأ فادح... أنا ابحث عن أهل لي وليس زوجة فقط... أهل يهتمون بي وبعائلتي ويغمرونني بالحنان ويعوضون علي سنين غربتي... لا... انسي الموضوع.

 

هناء مقاطعة:

-على العكس سيكون لك بدل بيت أحمى واحد بيتين... تسعد بهم!.

 

والدته مقاطعة وقد بدا عليها الغضب خوفا من أن تخسر ما قد بدأت به مع زاهر:

-لقد أخبرتكم أكثر من مرة بان لا تقاطعونني عندما أتحدث... ثم عادت موجهة الحديث إلى زاهر... تعرف إليها فقط فان لم تعجبك فكأن شيء لم يكن.

-لقد تذكرتها... هي ابنة الدكتور "شلهوب" أليس كذلك...؟.

 

هناء متدخلة مرة ثانية وكان تعليق خالها بداية موافقته:

-نعم هي... إنها ابنة عم خطيبتك السابقة.

 

زاهر بشيء من التوتر:

-لا... لقد أخبرتكم رأيي بالأمر... لا أريد أن اسمع بهم.

 

والدته محتدة وموجهة الحديث لهناء:

-قلت لك ألا تتدخلي بالأمر ولا تقاطعي حديثي... لقد بدا راضيا منذ قليل... ومن ثم اذهبي لتلتحقي بضيوفك... يبدو أنهم خرجوا من الماء... ربما يحتاجونك.

وهي تغمزها:

-هيا قومي إنها لابد تبحث عنك.

 

ثم تابعت موجهة الحديث لزاهر:

-الأمر ليس كما تظنه حبيبي، وعائلة الدكتور "شلهوب" تختلف تماما عن عائلة أخاه وهو أب متعلم وهادئ جدا... لم نراه إلا مبتسما ومن ثم هو متزوج من امرأة متفقة تماما مع أولاده فهم يحبونها كثيرا ويتسابقون فيما بينهم للعناية بها وتمشيط شعرها وهي أكثر من أم بالنسبة لهن فهن يحبونها كثيرا... أما عن والدتهن فيبدو وبعد إن عادت من المكسيك بعد زواجها الفاشل هناك قد تابت إلى الله وهي تتوشح الحجاب وتلبس الشراب السميك وتصلي وتقيم الليل ... وكما علمت فهي مريضة قليلا ولا احد يهتم لأمرها... ومن ثم هذا خير لك لأنك بذلك ستلقى العناية من بيتين... ولك بذلك عم وحماتين... وستدلل كثيرا.

 

زاهر وقد أصغى إلى والدته بشيء من الشرود:

-لم لا سأتعرف إليها... ماذا سأخسر... لاشيء ملزم لي بتاتا. ولكن هل هي على علم بأي شيء.

 

-نعم لقد تحدثت مع هناء... ويبدو أنها مغرمة بك وتريدك...حتى قبل أن تراك... وهاهي تغرم بطفليك... ماذا تريد أكثر... هي أم أهلها. ثم تابعت: عاملها بلطف أرجوك...هاهي قادمة...ولا تخجلني...

ثم استتلت وأساريرها تنم عن انتصار كبير... وهي تستقبل نارين:

-أهلا... أهلا حبيبتي...

وهي تقبلها:

-نعيما... تعالي إلى جانبي... تعالي !...

 

نارين وقد خانتها شجاعتها وشعرت حتى أنها لا تقوى على الوقوف... وقد وجدت بترحيب والدته شيئا من الموافقة على أمر تدبروه جيدا:

-سآتي حالما انتهي...

وهي تحاول إخفاء ارتباكها وتوجه الحديث إلى هناء:

-هل لديك شيء من كريم "النيفيا" من فضلك؟.

ثم تابعت وقد شعرت بأنها استعادت بعض من شجاعتها وهدوئها ووجدت منفذا للهروب من هذه المفاجئة:

-هيا سأتبعك لتحضرينها... ثم ذهبت خلف هناء وهي تقفز كعادتها.

 

-أرأيت كم هي وديعة وواثقة من نفسها وهي تحبنا كثيرا. ونحن نعرفها ونعرف أهلها منذ زمن بعيد...تربطنا بهم علاقة قربى.

 

لم يشأ زاهر أن يضايق والدته بسلبيته في هكذا أمر وهو يعرف جيدا بأنها آخر من يمكن أن يؤذيه... وبأنه يثق ثقة عمياء بمحبتها له ورغبتها بان تراه سعيدا ومنعما بالهدوء والسكينه. ولهذا فلقد حركت كلمات والدته فيه حبه المعروف للاستطلاع عن الفتاة التي يمكن أن يقترن بها يوما... ودون أن يثير أي كان أبدى بعض من الاهتمام بنارين. فبدأ يتبعها بنظراته... ويترصد حركاتها، فلم يجد بها أكثر من فتاة عادية جدا ولا يبدو عليها بأنها مضطربة من هكذا لقاء، بل على العكس بدت واثقة من نفسها... اجتماعية ولطيفة وتتصرف وكأنها فرد من العائلة، حتى إنها أعطت الانطباع لزاهر بأنه غير موجود بتاتا، أم هو موجود ولكن على معرفة مسبقة بها فلا شيء يثير الفضول أو الاستغراب!؟... لقد نجحت إذا في أن تثير اهتمامه دون أن تشعر بأنها تهتم به. وهذا عكس ما قد سمعه منذ قليل من والدته بأنها مغرمة به وتريده !.

 

وتساءل: (لابد إن والدتي تبالغ بالأمر فانا لم اشعر بتاتا بأنها مهتمة بي ...ثم تابع... على كل حال إذا كانت حقا على علم بأنني قد ارغب بالتعرف إليها لماذا إذا لم الحظ عليها إي توتر أو خجل كما كان يحدث مع كل الفتيات اللواتي التقيت بهن... هل يا ترى لم اثر اهتمامها بما يكفي؟... فلقد عبرت من أمامي وكأنني لست موجودا أصلا...حتى أنها لم تلق التحية!!!... ما هذه اللعبة التي يلعبونها بي ؟... لابد أن والدتي تريد بذلك إثارتي ومعرفة ردة فعلي قبل أن يفاتحاها بالأمر... أو ربما أرادوا من وراء تعريفيهم لي بها أن يضعونني أمام الأمر الواقع ليروا كيف سأتصرف ؟!... اجل...وما مجيئها المزرعة في هذا اليوم بالذات بمجرد صدفه بل هو أمر مدبر وفخ نصب لي ووقعت فيه بسهولة...)

ثم أدرك وكأنه عثر على جواب: (آه...اجل ... لقد نصبوا فخا لي وها أنا ذا أسير لعبتهم... وألا لماذا اهتم هكذا بها... نعم... أنني بدأت أفكر بكل هذه المسالة هو انتصار لهم. ولهذا علي بالإسراع بصرف اهتمامي الواضح والسريع بها إلى موضوع آخر... نعم ...موضوع آخر... أي موضوع كان، حتى لا أصبح مدعاة للسخرية، فأنا عاجز حتى من النظر إليهم أو توجيه الحديث لهم، لابد وإنهم انتبهوا لشرودي ذاك ولذلك فمن الأحسن أن أتابع قليلا هكذا.)

 

 

وكأنه يتأمل بأمر ما تساءل مع نفسه: (لما لا ابدأ بالسؤال عن الأولاد... ومن ثم أتفقد المسبح وبحيرة السمك... وأنظف أحواض الورد من الأعشاب... هكذا اصرف أنظارهم عني واستعيد بعضا من أنفاسي !!؟.)

 

ودون أن ينبس بأي حرف ناد على ولديه عامر ونادر:

-عامر... نادر... أين انتم تعالوا... هيا لنتفقد حوض السمك...

واتجه يسبقهم إلى بحيرة السمك وقد اخذ بيده بعض من فتاة الخبز لإطعامهم... وعند بحيرة السمك جلس يتأمل الأسماك الملونة تنساب في الماء بمنتهى الهدوء. وما أن وضع إصبعه وبدأ يحركها حتى تهافتت تلك السمكات وبمنتهى الأمان إليها لتلعقها كالعادة، فأخذ يداعبها وهو يحرك قطع الخبز بإصبعه يمينا وشمالا بشيء من المتعة والسرور... من ثم بدأ "بالتفقيش" بكلتا إصبعيه ليثيرها أكثر... وبنفس الوقت كان ينظر خلسة يمينا ويسارا وكأنه يستطلع طريقا للفرار... فوجد الجميع منشغلين بتناول الفاكهة وبتبادل النكات والأحاديث الظريفة، فتنفس الصعداء وتوجه إلى داخل المزرعة حيث أشجار الفاكهة ليتفقدها... وبينما هو يتحرى أشجاره تفاجأ بولديه يركضان إليه...

فصاح:

-هه... ماذا تفعلان هنا...؟     

 

أجابا سوية:

-نري نارين المزرعة وأشجار الفاكهة... إنها هنا برفقة هناء !!؟.

 

اضطرب زاهر قليلا لسماع هذا النبأ وهم بالخروج لو لم يستدعيه ضميره للتريث... وتساءل: (لما هذا التوتر والخوف... منذ قليل لم تعر هذه الفتاة أي اهتمام... لماذا أنت هكذا خائف من التعرف إليها ومواجهتها...؟ ... لماذا لا تتصرف كما كنت تتصرف مع الجميع بمنتهى الهدوء والثقة بالنفس، هل يا ترى أصابت مرمى من قلبك دونما تدري... وهكذا بسهولة.... لا...لا تكن سهلا... لا... لا أنا لست سهلا لكي أقع بغرام فتاة لم تكن حتى موجودة منذ قليل... ولكن ما يغيظني أنها لم تهتم لأمري... إنني شديد الثقة بأنني أثير الاهتمام... لم هي لا.... لابد أن استطلع الأمر لاقف على الحقيقة... لا ... وان هي تحاشتك ولم تظهر أي من المودة لك... ماذا سيحل بكبريائك... ماذا ستصبح بنظر اهلك... مسخرة... لا... يجب أن تدع الأمور تجري هكذا من نفسها... دعهم يأتون إليك... دعهم يتملقونك... حافظ على هدوئك وكبريائك ولاتكن سهلا... ووضيعا هكذا...)

ثم استطرد متسائلا: (ولكن ما علاقة الكبرياء ؟!... أنها ضيفتي... وهي برفقة ابنة أختي لما لا أتصرف كمن لا يعلم شيئا وأرافقهم للتعرف على المزرعة كما كنت افعل مع الجميع... لا... هي ليست كالجميع... هي تثير الغيظ لأنها قد لا تهتم بأشجارك.... يبدو أنها حتى لا تشعر بوجود الأشجار... ألا تراها تتحدث مع هناء بأمور أخرى... بأحاديث النساء... يا لها من فارغة، الأحسن أن انصرف من هنا واترك الأمر كما هو على حاله، فانا لا أحب أن أتعرض للمهانة، خاصة إذا كانت تنتمي لفصيلة الجهلة التي تلوح بالموافقة على كل أمر اذكره دون اعتراض... لا... انتظر لماذا تتسرع هكذا بالحكم على الناس ؟... وماذا لو كانت حقا تهتم لك وتريد حقا التعرف إليك... وما انصرافها المفاجئ منذ قليل إلا لتخفي حرجها. ولم هي الآن هنا برفقة هناء... إن هي إلا محاولة للفت نظري ليتم التعارف بعيد عن الأنظار... لما هذا التردد... وهذا الخوف... وهذه الكبرياء.... كن طبيعيا واترك نفسك على هواها تتحدث... ألا تثق بنفسك ؟!...أنت الواثق دائما... الموهوب بالأحاديث الشيقة وبالكلام... هيا لن تخسر شيئا... هو مجرد تعارف لا أكثر!؟.)

ثم تابع متسائلا: ( وان تحول الأمر لأكثر من هذا... لا... لا أظن، فلا يوجد أي شيء مميز أو مثير بها !... إنها ككل الفتيات اللواتي التقي بهن في كل يوم، لاشيء يثير القلب لكي أخاف...! إذا لماذا أنا مضطرب هكذا ؟... ربما لأنني فقدت مهارتي بالمناورة وخرج عن سيطرتي حبي بأخذ المبادرة ففقدت بإهمالها لي بعضا من البريق الذي أحب أن أجد نفسي فيه... فهو عزائي...!...!؟.)

ثم ستتلى بشيء من الإصرار: (اخرج من هذه الحماقات وهذه الفلسفة التي لا طعم لها وانطلق باسما وهادئا كما أنت !.)  

 

 

 

وعلى هذا بدأ يلهي نفسه بمسح نظاراته فتسنى لنارين أن تخطف النظر نحوه لتتأمله وهو يقترب نحوهما فوجدته بعينيه الصغيرتين حنونا وخجولا على غير ما توقعت. ولم تستطع قراءة ما تبقى من وجهه لإعادته لنظاراته الملونة على عينيه وكأنه يخفي شيئا. وما إن وصل إليهم حتى أدى التحية وبادر سائلا هناء:

-هل أريتها المزرعة بالكامل... وهل أعجبتها الفاكهة على الأشجار!؟...

وقبل أن يستمع إلى الجواب وليزيد الألفة معها استطرد:

-أتعلمين كنت دائما أتمنى رؤية ثمار الفاكهة على الأشجار. وكنت أتساءل دائما وعندما أرى الفاكهة بالسوق كيف تكون هي عليها ولقد كنت سعيدا جدا أن أرى أشجاري تكبر كأطفالي...ثم تزهر... ثم تثمر... ومتعتي الكبرى أن أراها ها هنا على الشجرة ناضجة على أن أأكلها... هل تشاطرينني الرأي يا ترى ؟.

 

أجابت نارين ضاحكة:

-أنا يهمني أن أأكل الفاكهة التي أحبها من على الشجرة... من عند البائع... المهم إذا كنت أحبها فسألتهمها بغض النظر عن مصدرها !.

-تعليق ظريف وهل تذوقت التفاح من على الشجرة؟

-أنا أحبه اخضر. ولقد قطفت واحدة منذ قليل واكلتها...

وهي تضحك:

-ربما لم يتسنى لك أن تتأملها... يرحمها الله...!.

 

-هنيئا لك... أنت تشبهينني في ذلك أنا لا أأكل الفاكهة إلا من على الشجرة مباشرة. وما أود أن أأكله لا أتأمله... فالتأمل للتفاحة التي لا أستطيع أن أنالها... وغالبا ما تكون في أعلى الشجرة ولذلك فهي في مأمن عني...!.

-إذا هناك من يفلت من أسنانك !

-ولكن لن تفلت مما هو اشد وأبشع... خاصة عندما يكتمل نموها وتصبح ناضجة... وتكون فريسة سهلة للدبابير والحشرات... ومن ثم السقوط... ثم تابع وكأنه يلمز إلى شيء:

-فمن الأحسن لها أن تستمتع بلحظات شبابها الأول... بلمسات من يعشقها ويريدها !.

 

 

تدخلت هناء لتغير الموضوع قائلة:

-دعونا من حديث الفاكهة والأشجار ولنعرفكم على بعض أولا...

وهي تشير إلى خالها:

-زاهر... وهذه نارين...

-تشرفنا ... أهلا وسهلا... يبدو بأنك شديدة الفراسة وكلامك على لسانك...!.  

-أهلا... تخيلتك اكبر من هذا !... عندما حدثتني عنك هناء وقالت بأنك تبدو اقل من عمرك فقد أصابت أنت تبدو اقل عشر سنوات وتصرفاتك لا تدل على مركزك !.

-ما شاء الله يبدو انك تعرفين كل شيء عني ! ... الم تخبئ هناء إي شيء لي لكي أخبرك به !.

-لا خالي، لازال الكثير... فأنا لم اخبرها إلا بما اعرفه... ومالا اعرفه كثير... كثيرا جدا على ما أظن...!؟.

-لا يهم... طالما أخباري تعجبك وهي بيد أمينة... اسمعي...

وهو يحاول أن يضع يده بمنتهى الرقة على كتف نارين التي حاولت التخلص منه بأدب وهي تقول مقاطعة حديثه:

-لا تحاول هذا مرة ثانية فنحن لسنا في أوروبا، نحن في حمص ولنا عاداتنا وتقاليدنا وأنا لست أوروبية...!!!؟.

 

زاهر وقد بدت عليه المفاجئة:

-أنا متأسف جدا لم اقصد الإساءة... بل كنت أحاول أن ابعد الأغصان القاسية حتى لا تؤذيك!... وفعلت هذا خوفا عليك لا أكثر !...

ثم تابع وكأنه لا يريد أن يسمع جوابها وبمنتهى الثقة:

-في الحقيقة يبدو لي بأنك فتاة طيبة ولك جاذبية خاصة لم أتعرف إليها قبل أن أتحدث إليك.... وأنا وكما تعرفين... وربما قد أخبرتك هناء ابحث عن زوجة !!!.

 

ساد صمت مفاجئ قبل أن يتم حديثة قائلا:

-هل يهمك أن اطلب يدك... إذا كان الموضوع يهمك فلنجلس ونتحدث بالتفاصيل !.

 

وما إن انتهى من كلامه حتى كانت نارين في وضع لا يحسد عليه، فلقد تفاجئت به يحدثها مباشرة وبصراحة بطلبه. وقد كانت تتوقع أن تطول أحاديث اللمز والغمز وتبادل الآراء قبل أن يصل إلى هكذا طلب. ومفاجئتها تلك لم تأتي من كونها لا تتوقعه ولكن ليس بهذه الطريقة، فلقد افقدها الإثارة. وطعم الحب التي كانت تحلم أن تعيشه....؟. هكذا وبكلمة واحدة حول أحلامها يلقياه والتحدث إليه إلى جلسة عمل وتفاصيل وكانت تتمنى أن تتحدث إليه ويتحدث إليها بأي شيء إلا بالتفاصيل...؟؟؟. ( لما هو هكذا على عجلة...؟)

تساءلت نارين ثم استلت: (لا يهم فهو يعجبني أولا وثانيا أنا أحب الدخول بالتفاصيل لأطمئن عن وضعي ومستقبلي معه... ومن ثم يأتي الحب وتأتي المغامرة، فأمامنا الحياة كلها... لما لا إلى التفاصيل هيا....؟.)

خاطبت نفسها وقد اطمأنت نوعا ما لما أعطاها إياه عقلها من تفسير مريح لما وجدت نفسها فيه من إرباك...؟... فأجابت بعد أن تاهت ردها من الوقت مع نفسها تستشيرها:

-في الحقيقة لقد تفا جئت بذلك، رغم معرفتي بأنك تبحث عن فتاة للزواج ؟...ولكني لم أتوقع أن أكون المطلوب ولم أكن اعرف بان زيارتي للمزرعة ستتحول إلى طلب زواج... هذه خدعة من هناء...؟.

 

 

لم تجب هناء على تعليق نارين لأنها تعرف الحقيقة وهي غير ما تقول.

 

نارين متابعة:

-ولكن هذا فخر لي ولو إن القرار بيدي لما تأخرت ولكن هذا الأمر يعود لوالدي وعليك أن تفاتحهم بالأمر إن أردت...؟.

-ما يهمني رأيك أولا، ثانيا أريد أن اعرف هل تتعارض رغبتك مع رغبة والديك، أم هم يوافقون على ما تختارينه...؟.

-طبعا الرأي لي أولا... ولكن ولدي لهم رأيهم أيضا... وهم يوافقون إذا ما كنت راضية ولكن إن لم يرضوا فلا أستطيع أن اعترض على قرارهم فنحن في سوريا وليس في أوروبا....؟

-دعونا نجلس هاهنا قليلا.

 

وقد وصلوا إلى مقعد للراحة قريب من حوض السمك.

 

زاهر تفضلوا ثم تابع:

-أنا سأعرفك بنفسي باختصار وارجوا ألا تقاطعينني... ثم سأنتقل لكي انقل لك رغباتي التي أريدها في زوجتي وقبل أن اسمع جوابك أريدك أن تفكري جيدا وأنا لا أحب أن اسمعه مباشرة... أمامك أسبوع... فان وافقت واهلك عليه فلا عودة عنه وان لم توافقوا فكل في حال سبيله... وارجوا المعذرة لأنني مستعجل قليلا في إتمام زواجي قبل السفر أمامي شهر تقريبا ولهذا ارجوا أن تتبعينني بكل اهتمام... ولا تعتبري كلامي انتقاصا لك، فانا إن اتفقنا إن شاء الله رجل وفي إلى ابعد الحدود وحبي للتي سأقترن بها مضمون... وإسعادها سيكون شغلي الأول والأخير... ولهذا أنا هكذا مباشر وأحب أن انتقل إلى التفاصيل !.

 

هناء متدخلة:

-يعني خالي بأنه يحب الصراحة والصدق ولا يحب الثرثرة في أمور ناقشها سابقا.

 

نارين وقد شعرت ببعض العجز في فهم ما تحب أن تفهمه:

-ولكن أسبوع ؟ أليس بالمدة القصيرة لكي نتخذ هكذا قرار ؟.

 

-اسمعي نارين، أولا أنا شاب كما عرفت من هناء لدي ولدين، هم أغلى ما لدي. وان أنا تركت سويسرا وجئت إلى حمص معهم فانا أولا وأخيرا لكي احميهم وأحسن تربيتهم... وان أنا ابحث عن امرأة فانا لا ابحث عنها لذاتها. بل ابحث من خلالها عن صديقة وعشيقة وزوجة وأم... وعلى هذا فانا لا أحب المرأة التي تهتم بالمظاهر ويشغلها الناس وزياراتهم...؟.

 

نارين مقاطعة:

-انك تشبهني في هذا، فانا لا أحب قصص النسوان ولا أحب التصنع...!.

 

زاهر متابعا:

-وأنا إن أحببت الخروج فأحب الخروج برفقة زوجتي وعائلتي فلا سهرات للعازيين عندي ولا أصدقاء للعب الورق والثرثرة بحكايات الناس والمجون.

 

نارين مقاطعة للمرة الثانية:

-تشبهني في هذا أنا أحب أن أرافق زوجي في زيارات عائلية ولا أحب زيارات النسوان.

 

زاهر متابعا:

-وكذلك في السفر والتنزه أحب أن ترافقني عائلتي فاصنع بوجودهم قربي ذكرياتي.

 

نارين مقاطعة مرة أخرى:

-أنت تشبهني تماما فيما أحب واشعر وكأنك تتحدث بلساني وتعبر عن مشاعري...!.

 

 

زاهر وكأنه لم يسمعها:

-أحب البساطة، التواضع، أحب أهلي، ووفي لأصدقائي... لا أحب الخداع والكذب.. ولا أحب المرأة الضجرة التي تهتم لكلام الناس وقصص النسوان ومشاكلهم... والخطوط الحمراء عندي والتي لا أحب أن تتجاوزها زوجتي هما خطان: الأول هو الأولاد والثاني هو الشرف وبتجاوزهما لا تسامح ولا غفران....؟... وبالنقاش معي تحصلين على كل شيء وبالعناد والتذمر لا تحصلين إلا على الإهمال... لا تقاطعينني أرجوك... لأنني في النهاية فانا ابحث عن الزوجة الصديقة والشريكة وست البيت ومقابل دورها هذا فانا لن أتخلف عن إسعادها بكل الوسائل....!!!.

 

نارين وقد تنفست الصعداء:

-أنا لا اعرف بما أجيب أنا اشعر بحديثك رغم صراحته البليغة بالكثير من الارتياح، بل لقد اطمأننت كثيرا وشعرت بأمان لم اشعر به في حياتي من قبل وكنت خائفة أن تكون ككل شباب هذا البلد، تحب الخروج لوحدك لتتركني وحدي بالبيت أو تحب أن تتزوج لبيتك وأطفالك فقط... كما يفعل الجميع دون اهتمام بزوجاتهم وبمشاعرهم....أنت في الحقيقة قرأت ما في نفسي واشعر وكأنني أعرفك منذ زمن بعيد... أنت خاطبت كل ما أحب في نفسي وكل ما أتمنى... ولا اشعر وأنت تحدثني بان شابا يحدثني لأول مرة... أنا لا اعرف كيف اعبر لك...! لقد أشعرتني بالألفة ولا اشعر بنفسي غريبة عنك أو معك...؟.

 

وقبل أن تنهي كلامها تابع:

-إذا ما من مشكلة اتفقي واهلك وحددوا يوما نزوركم فيه للتعرف على والدك لكي أطلبك رسميا منه وارجوا ألا يتأخر جوابكم.

-أنت مستعجل دائما على ما يبدو...

وهي تضحك تابعت:

-وأنا أيضا لا أحب المماطلة

 

زاهر وقد هم بمغادرتهم:

-ارجوا أن تكوني قد استمتعت وأختك بوقتكم هنا... كما ارجوا إلا أكون قد أزعجتك...أتركك بخير.

 

ثم تابع ساخرا وهو يتجه ثانية إلى داخل المزرعة:

-انظروا الجميع هادئ وصامت هناك، أنهم ينتظرون النهاية بصبر، فليفرحوا إذا بلقائنا إن كان هذا يسعدهم.... سلام...؟.

 

 

استغرب زاهر وهو يبتعد عنهم داخل مزرعته تسرعه في طلب يدها وهو بالكاد يعرفها...

واخذ يحدث نفسه: (هل هذا أسلوب رجل متعلم ومثقف وعاش بالغرب لأكثر من عشر سنوات...؟ وهل وصل الحد بي أن اقطع العهد مع من لا اعرفه إلا منذ ساعات وهكذا ببساطة في أمر حيوي ومصيري كهذا الأمر...هل جننت...؟.)

 

ثم أردف يعاتب نفسه ويتساءل: (وما نفع التريث والانتظار في هذا البلد... ومع فتيات هذه البلد... لا تأخذ منهم لاحق ولا باطل... ماذا ينفع أن يخطب فتاة لأشهر أو سنوات ويعيش قصة كاذبة معها تزين له نفسها والحياة معها كنعيم ثم يكتشف بعد الزواج على كل مخابئ نفسها... الجيد والسيئ فيها... وما نفع العشرة والمعرفة مع زوجته الأجنبية وانتظار أربع سنوات من الزواج والوفاق والاتفاق قبل أن ينجب أولاده....!. وكيف تبدلت وتغيرت ونكست بالاتفاق والعهد بعد ولادتهم فصار ما صار إليه من حزن وفراق وألم...؟... ما نفع أن يتعرف الإنسان إلى شريك حياته، يسامره ويتواعد معه، إذا كانت -رغم قلة العشرة بسبب العادات والتقاليد-هذه المعرفة أسيرة التمثيل والخداع والكذب... وكيف عليه أن يتعرف عن مكنونات نفس شريكة حياته وان طالت فترة خطوبته معها وقد زوقت بكل أشكال التنميق والإثارة والفتنة...؟. ومن يضمن له صدق مشاعرها وهي لم تعاشره معاشرة الأزواج... فالتعارف والخطوبة شيء والحياة سوية شيء أخر... لا... لا...أنا لم أخطئ... هكذا هي بلدنا ومجتمعنا...؟... الفتاة فيها "كالجوزة" المقفولة لا تعرف ما فيها إلا بعد الزواج مهما طالت الخطبة أو قصرت...؟... والظاهر منها في تربيتها وبيئتها يتكلم عما في داخلها وطالما هي تربت في بيت محافظ ووالدها طبيب ومثقف فكيف -رغم كل عيوبها إن وجدت - لم تأخذ مما يحيط بها بعضا من دماثة الخلق وطيب المعاملة وأدب المعاشرة...؟.)

 

توقف زاهر قليلا يتأمل أشجار الزيتون وقد ناءت بحملها من الثمار وبلا شعور تناول "سيكارة" من علبته وأشعلها... ثم اخذ نفسا عميقا وكأنه يسترجع بعضا من أفكاره المشتتة الضائعة وبدا بترتيبها ثانية منذ البداية، بداية أول نظرة جادة يلقيها على تلك الفتاة... وكما اعتاد بذهنه الإداري والحسابي في ترتيب أمور تجارته أحب زاهر أن يبدأ من الصفر...؟. وكأنه يعشق لأول مرة عاد ثانية بشريط ذاكرته الحديث إلى حيث بدء معها الكلام لأول مرة...؟. فوجد أن تسلسل الأحداث معها كان سليما. وبان لتسرعه في طلب يدها ما يبرره، فهو اخطأ ربما بملاطفتها ودون سابق معرفة. وكذلك أخطا عندما حاول أن يأخذها بذراعه بعيدا عن الأغصان... واخطأ أن يكون هكذا ودودا وبدون سبب من أول لقاء... ولهذا كان عليه أن يبتعد عنها كل الشكوك التي يمكن أن تراودها حوله. وتعيد لنفسه ولشخصيته بعضا من مصداقيتها ونظافة نواياها... ويتيح له -أن هي قبلت بعرضه وخطبت له كما يتمنى- أن يطلعها عن كل مكنونات نفسه الطيبة، مشاعره... زوقه... وكل ما يحب ويكره. وبذلك يكتمل التعارف ويصبح وقد انتهت إليه -كل ما يحول بينه وبينها من حذر في خبر كان-...؟.

 

وهكذا وبينما كان زاهر يبحث عما يبرر تصرفاته مع نارين... كانت هذه الأخيرة تتبادل أطراف الحديث مع هناء حول الموضوع نفسه.

أرأيت؟ قالت نارين مخاطبة هناء ثم تابعت:

-أرأيت كيف كان يحدثني وكأنه يريد أن ينجز عملا ثقيلا ومملا ومن ثم غادرنا هكذا بسرعة إلى مزرعته وأشجاره...؟... الم ترق له الجلسة معي... أم انه هكذا هو جدي لا يحتمل الدعابة... أنا لم يتسنى لي حتى أن انظر إليه لكي أتأمله...؟.

 

هناء مقاطعة:

-ومن منعك من ذلك ؟.

-الم تريه، لم يترك لي الفرصة حتى أن أقول رأيي... كان يصل حديث بأخر دون توقف...كان مستعجل جدا لإنهاء الحديث وكنت أتمنى أن يسألني مثلا عن دراستي... عن حياتي... عما أحب واكره... أن يتحدث عن رأيه بي... إن أنا أعجبته حقا أم لا... هو حتى لم ينظر إلي...؟!... كيف سيعرف أن كنت أناسبه أم لا...؟.

-هو أراد فقط أن يتعرف إليك لأول مرة... ويعرف رأيك بالخطوبة... كل هذا يأتي فيما بعد... ولا تنسي أنني كنت بينكم...!... وربما كان هذا عائقا ليفصح كل واحد منكم عما بنفسه... ومن ثم أنا اعرف خالي فهو إن لم يكن يهتم بك وتعجبينه لما كان تحدث أليك أصلا... فلقد بدا لي مطربا قليلا الم تلاحظي... يبدو بأنك أصبت الهدف....؟.

 

نارين وقد عاد الهدوء إليها وتكشفت أسارير وجهها عن بعض من انتصار:

-إذا تعتقدين بأنني أعجبته...؟... وبدأت أثير اهتمامه...؟... أنا خائفة إلا يكّن لي نفس المشاعر التي أكنّها له... فانا ولأول مرة بحياتي اشعر بحاجة ماسة أن أبقى بقربه وأحدثه... اشعر بحاجتي إليه... فلقد شعرت وكأنني أخاطب شخصا اعرفه منذ زمن بعيد... فهو ودودا جدا وحنون... أم أنا أتخيل....؟!... لا اعرف يا الهي... قولي لي بالله عليك هل أنا محقة أم هو محض خيال...!.

-أنت هكذا مضطربة دائما وبدون سبب... ومن ثم لديك متسع من الوقت لكي تفكري بكل هذا على روية... من ناحية خالي أنا اعرفه وكوني مطمئنة فهو جاد جدا فيما حدثك به وسترين عندما تتحدثين إليه أكثر وتعاملينه... انه كتلة من المشاعر الصادقة... صدقيني...

ثم تابعت:

-هيا جدتي تنادينا فلنذهب إليها.

 

نارين وبشيء من الاضطراب:

-اذهبي أنت أولا سألاعب السمك قليلا ثم الحق بك.

 

وبينما كانت هناء تغادر المكان كانت نارين تمسح بكلنا يديها على وجهها وأطراف عينيها وكأنها تريد أن تمحو عن عينيها صور متشابكة لأحداث جرت بسرعة ولم تستطع أن تتحكم بها... بعدها أخذت تفرك عينيها وكأنها شعرت بوجود شيء ما تحت جفنيها... وبشيء من العصبية أعادت الكرة... هي ربما حاولت أن تختار الصور الأكثر جمالا والتي التقطتها عينيها منذ لحظات وتريد أن تبعد ما يفسد عليها سعادتها بلقاء كانت تتمناه منذ زمن بعيد... ولهذا كانت تستعيد وبجهد تلك الصور الجميلة وكالقطات الفلاش -عن أول حضور له في ذاكرتها- نظرتها الأولى إليه عندما كان يوضب الحوائج بالسيارة، طوله المميز ببنطاله الجينز... كتفيه العريضين... تسريحة شعره الرزينة، ابتسامته التي كانت لا تفارق شفتيه والتي كانت تغطي المرآة في السيارة... لطافته بتقبل شريط الكاسيت... ومن ثم نظرته الوديعة فيما هو يقترب إليها ولمسته الحنونة التي طوق بها كتفها وهو يجنبها بعيدا عن الأغصان (يا الهي كم كنت حمقاء أن أكون جلفة معه ومقيتة)

ثم تابعت وكأنها تحدث نفسها: (لماذا عاملته هكذا بفظاظة وأبعدت يده عني!... وان لم يكن يتحجج بالأغصان...؟... فهي حجة مليئة بالألفة أن يقترب مني ويلمسني...لابد إذا لهذا السبب كان فيما بعد جديا معي ورسميا ولم يحاول بعدها أن يلاطفني أو بتابع الحديث معي....؟... لابد أن أكون قد جرحته وهو لم يفعل شيئا معيبا قط...!.لا... لا...)

وكأنها استدركت نفسها عن هفوة ارتكبتها تابعت: (لا...لا ...كنت محقة أن أصده هكذا... فانا لست فتاة رخيصة وربما لكان موقفه مني قد تبدل نحو الأسوأ ولفهم قبولي بمعنى أخر ومشين.)

 

ثم تساءلت: ( ولكن ألا يكون الحب هكذا أن يتلامس الحبيبان...وما فعلته لم ينتقص من كرامتي ولا من هيبتي ولا من سمعتي وهناء موجودة بيننا... لا... لا أظن إن ما فعله ينم عن نية سيئة أو يخفي خلفها إي معنى مشبوها...لا ... ليس من شخص كزاهر... واثق من نفسه وفخور بها... لا أظنه يفعل هذا بنية فاقدة للحشمة... لابد وانه تصرف معي هكذا محاولا احتضاني كما يفعل مع أخته أو قريبته ولم يفكر حتى بهذا... بل ربما فعلها بدون شعور... ولكن ماذا لو كان يريد أن يعرف ردة فعلي وفعل هذا قصدا الم يكن من حقي أن أرده وأبعده وأبين له موقفي...؟... وماذا لو تأثر بهذا... وتضايق وشعر وكأنني أصده عن معروف أراده.... لا... مهما كانت أعذاره فانا محقة ومهما كانت خسارتي بان افقد لمساته الحنونة التي تمنيتها فما فعلته هو دفاع عن النفس...وان جرحت مشاعره فليكن فهو المذنب...ولكن إي ذنب...؟... لم يقترف ذنبا قط...؟.)

وبشيء من الضيق تابعت: (يا ألهي لقد بدأت أضيع بزحمة هذه الأفكار اللعينة... وهذه الصور التي اكرهها لا تزال تقتحم خيالي مبعدة الأجمل منها نحو الخلف...)

وبشيء من الشرود وكأنها تحدث نفسها: (سأعرف موقفه مني بعد قليل...لازال الوقت باكرا لكي احكم على نفسي من أول لقاء... وأنا رغم كل هذا لم افعل شيئا مشينا ويجب أن أكون راضية عن كل ما حدث فهو لم يحدث إلا بنية طيبة وحنان كبير....!.)

 

 

وفيما كانت هكذا شاردة مع أفكارها تفرك جفونها شعرت بمن يجذبها من ساعديها كل من جانبه وكمن يريد أن يستكشف سر هذه الحركات المهلكة للجفون... تناهى إلى سمعها صوت الطفلين عامر ونادر يسألونها إن كانت تشعر بما يضايقها...وبصوت واحد كما تعودا دائما أن يخاطباها وألفاظ تشوبها لكنة ناعمة فيها شيء من الموسيقى الحارة:

-نارين هل تلعبين معنا ؟.

 

وفجأة وكما لو أن الفرج قد أتى من حيث لم تتوقعه وبسرعة فائقة التقطتهما بكلتا يديها وهي تضحك وتقول:

-لقد أمسكت بكما لن تهربوا مني هذه المرة.

 

وبينما هما يصارعانها للفكاك من قبضتها قفزت إلى مخيلتها صور مذهلة لأحداث عايشتها وتركن في مكان ما من ذاكرتها الغضة وترفض الحضور... مما زاد من توترها فشدتهما بساعديها أكثر وهي تحاول احتضانهما وكأنها تريد استسلامهما لها بأي ثمن... وبدا عليها وكأنها تعصر أفكارها العنيدة لصور تريدها أن تكون حاضرة هاهنا وتحت الطلب...!!! أغمضت عينيها بشدة حتى بدت وكأنها داخلة في غيبوبة طارئة ومقصودة... فلقد ساد صمت رهيب حولها حتى لكادت تسمع من جوانبها قلبي الطفلين الصغيرين تخفق بسرعة في حين كانت هي تتلمس من انقشاع الصور السريعة التي حلت في خيالها عن جواب !!!... لتجد نفسها في الحديقة الواسعة الغناء تنازع الحمامتين حضورهما...!!!؟.

 

يا الهي صرخت نارين فجأة:

-انه الحلم... انه حلمي... الحديقة... الحمامتين... الطفلين...!!!...

ثم تابعت وكأنها وجدت ضالتها بعد بحث وعناء طويل وأخذت تعض كل من عامر ونادر في كتفيهما مداعبة وقد بدا شعاع من الفرح يغمر وجهها وهي تقول: 

-سأكلكما بأسناني... هيا... هيا لنلعب...!.

 

وما أن افلتا من قبضتها راكضين حتى سعت خلفهما كطفلة صغيرة يملأ قلبها السرور والرضا وأخذت تصيح:

-أنا آتية سأمسك بكما...؟؟؟.

 

كانت نارين تعيش لحظات من البهجة العارمة وهي تلاعب عامر ونادر ودونما أدنى اهتمام لما يجري حولها كانت ربما تبحث عن لحظات ضائعة من طفولتها البريئة التي افتقدتها... أو لعلها وبدون أن تشعر وجدت نفسها بين أخويها... أو ربما تحاول بشكل أو بأخر أن تكافئ نفسها عن أشياء قد قامت بها وحسبتها في غير محلها...؟ وكانت في تصرفاتها تلك محل اهتمام زاهر ووالدته اللذان لم ينفكا يتتبعانها بشيء من الذهول مما دعا زاهر إلى التعليق وقد بدا على وجهه ابتسامة مليئة بالوجل والحبور:

-يا الهي أنها طفلة ولعوب... هل تعتقدين بأنها قادرة على إدارة المنزل ومساعدتي في تربية الأولاد...؟.

 

 

-على الأقل هي تفعل ما يحلو لها دون خجل أو تمثيل وهي خير من اللواتي يظهرن كياستهن وهن لا أكثر من الشياطين في لباس الملائكة... أنا هكذا كنت مثلها في سنها العب مع والدك حتى نتعب ويكفي أنها تحبهم على ما يبدو...!؟.

-وهل يكفي أن تلعب معهم لكي تؤكدين محبتها لهم.

-إن هي حقا لا تحبهم فهم على الأقل يحبونها وفرحين بها وهذا ما لم تجده عند كل من خطبتهم قبلها أليس كذلك...؟.

-في هذا الأمر أنت محقة... ولا اعرف يبدو أنها سحرتهم بلطافتها... كما هي فعلت معي دون كلفة أو مواربة !.

 

ثم تابع وهو يحدث نفسه: (لا اعرف لماذا اشعر بالارتياح إليها... هل يا ترى أوقعتني في حبائلها عن غير قصد...!... وهل هي ماهرة إلى درجة أن تخطف اهتمامي واهتمام ولدي بها...؟... أم إنني وإياهم ضعاف لدرجة إننا وقعنا في هيامها دون أدنى مقاومة !!!.)

 

ثم استطرد وقد شعر بالحرارة تغمر بدنه وتغسله بقطرات من العرق شعر بها تنزلق من تحت إبطه حتى ساعديه: (لهذا إذا أنا ملت إليها بسهولة وشعرت بالألفة نحوها دون أدنى تردد...!... إحساسي بأنها مدعاة للثقة وقد استسلم أهم ما عندي لها بدون تردد هذا إذا سبب أطمأناني لها وسبب جاذبيتها الطارئة التي كنت ابحث عن تفسير لها دون هوادة...!.)

وقد أرضى نفسه بهذا التحليل وبدا يستعيد حيويته وانتباهه إلى والدته التي لاحظت شروده تابع وبصوت مسموع:

-يبدو أنها نجحت بامتحانها الأول والاهم وارجوا من الله أن كانت خيرا لي ولعائلتي أن يتمم علينا بالخير.

 

والدته وبشيء من الفرح وكأنها تنتظر جوابه بفارغ الصبر:

-انه كذلك سوف ترى كم ستسعد بفتاة مثلها طبيعية وصادقة ومن عائلة محترمة...!.

 

ثم استلت وهي تصرخ بأعلى صوتها:

-نارين... عامر... نادر... تعالوا...

 

وما هي إلا لحظات حتى وصل عامر ونادر وقد بدئا بالمنافسة لاحتجاز مكانيهما المعتاد في حضن والدهم فيما وصلت نارين وهي تلهث من التعب وقد بدا عليها الإعياء والخجل وبدأت موجهة الحديث إلى زاهر وكأنها تعرفه منذ زمن وبدون أي كلفة:

-أنهم يمتازون بروح الفكاهة والذكاء وبنشاط غير عادي... لم أتوقع أن يتغلبوا علي ويخدعونني بسهولة وأنا كنت اعتبر نفسي خير من يلعب "الغميضة" وينتصر بها...؟... يا الهي لقد أتعبوني...؟...

ثم تابعت وهي تأخذ كرسيا لتجلس عليه وتحاول أن تمسح العرق عن وجهها:

-أنهم لا ينخدعون بسهولة وصعب السيطرة عليهم...!... وهي توجه الحديث إليهم:

-سأتغلب عليكم بالمرة القادمة، سوف ترون، فانا لا استسلم بسهولة...؟.

 

الجدة وهي فرحة:

-لم تتذوقي الفاكهة ولم أراك بما فيه الكفاية أو أتحدث إليك ولقد اشتقت لحديثك... اخبريني الآن كيف وجدت زاهر...؟ هل أعجبك ؟.

 

نارين وقد أصيبت بالحرج:

-اسأليه هو إن أنا أعجبته... يبدو بأنه يطمح لفتاة أكثر هدوء !.

 

-هو يحب اللعب أكثر منك، ربما انه يخجل منك ليبدو صامتا ورزينا هكذا... قريبا ستتعرفين إليه وتتفاجئي...؟.

 

زاهر وقد تضايق من صراحة والدته:

-إنها تبالغ...وأنا معجب بطبيعتك الاجتماعية وروحك المرحة وثقتك بالنفس... فهي حقا ملفتة للنظر....؟.

 

نارين وبشيء من الخبث وهي تبتسم:

-لا تتفاءل كثيرا فانا قادرة على الإزعاج...

تابعت وكأنها تريد أن تدرك حماقة تفوهت بها:

-لا... لا... أنا امزح، أنا بنت مهذبة وحبابة وتجيد أعمال المنزل واطبخ أصعب الأكلات حتى لأنك ستهرب سريعا إلى المطعم... أو تبقى جائعا صائما طوال النهار...!...

ثم استطردت وبشيء من الفكاهة:

-امزح... امزح... أرجو انك ستحتمل دعابتي ومزاحي.

 

زاهر وبشيء من الجدية:

-لا يهم فانا أصلا لا اهتم لكل هذا... الأهم عندي هي المعاملة الطيبة واللسان الحلو...؟.

ثم تابع

-لا تخافي أتحمل المزاح واستذوقه...!.

 

الجدة وقد شعرت بان نارين تسرع كثيرا في إظهار كل ما لديها من الألفة:

-وهل اتفقتم على موعد لزيارة اهلك...؟.

-سأخبر والدي هذا المساء لكي نحدد موعدا للزيارة، لان والدي كثير الانشغال خاصة وان أختي الصغيرة يعاودها المرض باستمرار.

-على خير... انظروا لقد غابت الشمس هلا ضببتم الحوائج قبل أن تهبط العتمة...

 

وهي توجه الحديث لزاهر:

-ما رأيك...؟.

-اجل ...اجل، فانا جاهز في كل وقت.

 

وبينما راح كل من جهته يوضب حوائجه ويحملها إلى السيارة كان زاهر يتفقد مزرعته كالعادة ويرتب الكراسي ويجمع الأغراض المتناثرة المنسية...وما هي إلا لحظات حتى كان الجميع قد صعد السيارة وقد أصبح الجميع جاهزون للعودة... وما أن وصل زاهر أمام سيارته حتى وجد نارين وهناء يتبادلان أطراف الحديث وباقترابه منهن دعته هناء بإشارة من يدها وكأنها تريد أن تهمس بأمر مهم. اقترب زاهر محييا وبابتسامته المعتادة خاطب نارين مازحا:

-أرجو أن تعيدي زيارتك لنا... هذا إذا راقت لك... لا... أحب أن أقول بأنني انتظر موافقة أباك بفارغ الصبر فلا تتأخري بالإجابة علينا.

هناء تأخذ المبادرة بالجواب:

-هذا ما أحببت أن أخبرك به، ما رأيك بيوم الاثنين القادم... فوالدها لا يعمل بعد الظهيرة، فقد يكون مناسبا لكما...؟.

 

نارين وبشيء من التمني:

-ارجوا ألا تكون مشغولا...!.

-إي بعد يومين، ثم تابع... ليس لدي ما يشغلني أهم منك، فانا جاهز.

 

نارين وقد فرحت بجوابه:

-أهلا وسهلا يسرني أن استقبلك في بيتنا ونتعرف على والدي وعائلتي...

ثم تابعت وكأنها تريد أن تبعد كل حرج لجراءتها،

-أنهم ينتظروننا هل نرحل...؟.

 

زاهر وهو يغلق الباب:

-هيا لقد أظلمت الدنيا...هيا...

 

أدار زاهر المحرك وأضاء أضواء السيارة ومن ثم أشعل جهاز التسجيل لتنبعث منه الموسيقى وكما هي الحال عند قدومهم...! وبدأت السيارة تزحف في الطريق الضيق المظلل بأشجار السنديان كالأفعى في ظلمة ظاهرة وهي تتسابق مع الصخب المنبعث منها... حتى وصلت أطراف المدينة حيث طلبت هناء أن يتوقف ليس بعيدا من الشارع العريض المقابل حيث تقطن نارين.

 

وكم كانت مفاجئة زاهر كبيرة ألا يكون مسكنها بعيدا عن مزرعته... فلم يتوانى عن التعليق وقد أوقف سيارته أمام منزلها وهم بفتح الباب:

-إنني أمر من هنا في كل يوم تقريبا ولن يكون من العسير علي اصطحابك إذا شئت... تحياتي لوالدك.

نارين وهي تقفز من السيارة برفقة أختها وهي تبتسم:

-إلى اللقاء

وهي تلوح بيدها:

-"باي"..."باي".

---------------------------------

نهاية الفصل الخامس مع تحيات المؤلف: يحيى الصّوفي  جنيف في 17 / 02 / 2004

 

 

 

الفصل السادس: مع الحلم

 

 

تفاجأت رغد بعودة أختيها نارين وهند وقد امتقع وجهيهما بحمرة مميزة لا يحصلان عليها إلا على شاطئ البحر، بل أكثر من هذا فلقد بدا على هند الإعياء والتعب وكأنها عائدة من رحلة في آتون الصحراء اللاذعة المغبرة، في حين كانت نارين -رغم حروق الشمس البادية على وجنتيها وانفها- في كامل نشاطها ويشع من عينيها بريق غريب ينم عن نشوة عارمة تجتاحها وانتصار كبير كانت قد جاهدت كثيرا لاقتطافه. وعلى هذا فهي لم تتوان من معانقة أختها رغد وهي تشدها إليها بعنف وتقول:

-باركي لي... باركي لي... سيأتي لزيارتنا لكي يطلب يدي من أباك... يا ألهي إنني فرحة لقد التقيت به أخيرا !؟.

 

وفي حين ذهبت هند إلى الداخل لتستحم كانت رغد وهي تحاول التخلص من نارين- وقد ذهلت مما سمعت- تقول:

-اهدئي... اهدئي... وعن أي شيء تتحدثين ؟.

-زاهر... خال قريبتنا... لقد تعرفت إليه وأعجب بي !... وبشيء من الزهو:

-وطلب يدي...

ثم تابعت:

-هل أباك هنا... وخالتك....؟.

-اجل أنهما في غرفة الجلوس... اذهبي للاستحمام وعودي إلى رشدك قليلا... ولا تظهري كل هذا الحماس لان والدك وخالتك مضطربين كثيرا لحالة أختك... المولودة الجديدة... فهي لم تتخطى الخطر بعد وحرارتها ترتفع فجأة دون سبب...؟.

-يا الهي يجب أن أحدثه بالأمر، لان زاهر مستعجل جدا... وسيسافر !.

-اذهبي أنت الآن لتستحمي وتغيري ملابسك... سنتحدث بالأمر لاحقا...؟

 

وفيما كانت نارين تلملم حاجياتها لتلحق بأختها هند كانت رغد تتوجه إلى غرفة الجلوس حيث والدها وخالتها يتتبعون البرامج المعتادة على التلفاز... وما أن أخذت مكانها بينهم حتى بادرها والدها قائلا:

-هل عادت نارين وهند ؟... وهل تمتعتا برحلتهن ؟

-اجل أنهما تستحمان... ويبدو أن الشمس قد تركت أثارا واضحة على وجهيهما !.

 

د. فؤاد بعصبية كعادته:

-يا ألهي... الم يفهمن بعد بأن عليهن أن يحترسوا من الشمس خاصة في أول مرة...؟ لقد نبهتهن مرارا لذلك... وقد تصيبهن الحمى....؟... وبشيء من الامتعاض:

-أنهن لا يطيعونني...!؟.

 

رغد وهي تحاول اطمئنانه:

-لا تقلق أبي إنهن يبدون بصحة جيدة ومعنويات عالية وبالأخص نارين فهي تبدو سعيدة جدا... خاصة وأنها لم تسبح وتتحاشى الذهاب إلى البحر معكم منذ أن وضعت الحجاب ولهذا لا تنغص عليها فرحتها أرجوك... فلا شيء يستحق غضبك...؟

 

 

د. فؤاد وقد عاد إليه بعض الهدوء:

-لا ولكن أنت تعرفين بان أختك مريضة وهذا يضايقني ولا أحب أن اشغل نفسي بمرضى آخرين... يكفي كل ما ألقاه يوميا في عيادتي...؟ وهو يضغط على جهاز التحكم ويتنقل من محطة إلى أخرى:

-هذه البرامج السخيفة.... خمس محطات ولا يوجد فيها ما يسلي....؟

 

-لماذا لا تركب صحنا لالتقاط محطات أخرى كجيراننا ؟

-هذا ما ينقصني... حتى تتعثروا بالدراسة وتتأثر أفكاركم بمشاهد خالية من الحياء.

-أنا أقول هذا لأجلك أبي ! أما من ناحيتنا فلا أظنك لا تؤمن لنا، لان الفتاة الشريفة لا تحتاج من يراقبها... لأنها لو أحبت البحث عن الفسق وقلة الحياء فهي لا تنتظر المحطات الفضائية لكي تفعله ؟!.

 

روعة (زوجة الأب) وقد راقت لها الفكرة:

-لما لا فهناك حوالي خمسمائة محطة... ويمكن أن تكون مسلية لي خاصة وأنني لا اخرج من المنزل... ما رأيك ؟... لو تركب لنا واحدا ؟... وهي تنظر إلى زوجها بتملق:

-على الأقل تستطيع أن تتابع المحطات الأجنبية التي تفهمها وستكون نافذة ثقافية لك تشبع عطشك لكل ما هو جديد في عالم الطب والعلوم والبحث العلمي ؟!.

-فكرة جيدة... لما لا... ولكن أنا لم أنتهي بعد من ديوني وأقساط الشاليه... وكذلك الضرائب الجديدة المفروضة علينا... سوف استطلع الكلفة... وقد اركب واحدا.

 

 

 

وفيما هم يتبادلون أطراف الحديث دخلت نارين وقد لبست ثياب النوم المزينة بصور توم وجيري المشهورة وقد وضعت طبقة ظاهرة من الكريم المرطب للجلد على وجهها وهي تحاول تجميع ورفع خصلات شعرها لربطها بمطاطة كما هي عادتها... وقد علا وجهها ابتسامة ظاهرة... ثم ألقت التحية على الجميع وأخذت لنفسها مكانا بالقرب من أختها رغد محاولة استباق إي تعليق من أباها بالمبادرة بالسؤال:

-كيف هي "البيبي" ؟ ارجوا أن تكون قد استعادت حرارتها الطبيعية... لقد اشتقت إليها.

 

د. فؤاد محاولا التهرب من الجواب:

-هل استمتعت وأختك بالرحلة ؟... ولماذا لم ترغبي لكي آتي لإحضارك حيث أوصلتك كما اتفقنا ؟!.

-لقد أخبرت رغد بالهاتف ألا أزعجك بذلك لان صديقتي هناء أصرت ألا أتواعد معك لأنها تخاف أن نتأخر عليك على الموعد وهذا سيضايقك بلا شك ولقد أوصلونا إلى باب المنزل.

-كيف ؟

-بسيارة خالها زاهر... انه شاب مهذب وظريف واجتماعي على غير ما توقعته.

وقد بدا على وجه أباها علامات تدل على السرور والرضي... أضافت نارين وبمنتهى الثقة والشجاعة:

-انه يملك مزرعة جميلة جدا وبها مسبحين واحد للكبار وواحد للصغار وحوض للسمك... وهي ليست بعيدة من هنا خمس دقائق بالسيارة... ثم تابعت وهي تتنهد:

-لو تشتري لنا مزرعة قريبة مثلها هنا لكان أحسن من الشاليه فنحن بالكاد نذهب إليها... لأننا محرومين من الخروج إلى البحر أو السباحة...؟

-إننا لم نسدد ثمنها بعد... من أين لنا بالمال لشراء مزرعة...؟

-في المستقبل... أدعو الله أن يرزقك ثمنها أبي... فلقد استمتعنا كثيرا اليوم وخاصة برفقة عائلته ووالدته التي أولتني كل اهتمام ورعاية فهم يعرفونك ويعرفون خالتي ويقربونها... تصور لديه حديقة جميلة وقد زرع بها المرج الأخضر وقد ذكرني ذلك بألمانيا منذ أن دخلتها خاصة رائحة العشب المقصوص... وبشيء من الزهو تابعت:

-أنا لم أرى مثلها في حمص من قبل !...

ثم أردفت وقد لاحظت والدها هادئا ومسرورا على غير عادته:

-لقد دعتنا والدته مجددا وأصرت أن تكون أنت وخالتي ضيوفا عندها في المرة القادمة... ستروق لك أنها ست محترمة ولطيفة وتتمتع بذاكرة رائعة لمن هو في سنها وحديثها سلس وممتع ولا تمله... ولها روح النكتة وتحب مجالسة الصبايا فهي كما تقول لا تشعر بأنها مسنة وروحها شابة و...

روعة مقاطعة:

-أنها جدة زوجة أخي ونحن نعرفها جيدا وهي ست تفرض احترامها على الجميع دونما عناء وجلستها ممتعة ولقد دعتنا لأكثر من مرة لزيارتها.

 

 

 

نارين محاولة استغلال هذا الدعم الغير متوقع من خالتها تابعت وبشيء من الدعة:

-لقد دعوتهم بدوري لزيارتنا ولقد أبدت الجدة كل امتنانها لذلك... حتى أنها ولشدة محبتها لي قالت وبمنتهى الصراحة (الله يجعلك من نصيبنا وعندها لن نتأخر في زيارتكم)

وهي تنظر بعيني أباها لتقرأ وقع كلامها عليه استتلت وبحياء ظاهر:

-أنها تخطب لابنها زاهر، ولقد أحبتني ولم تتوانى طوال الوقت من احتضاني وتقبيلي كأبنتها...؟

 

د. فؤاد وهو يحاول إخفاء اغتباطه بما سمع وهو يعرف ابنته ويعرف زوقها الصعب وتعنتها في اختيار الخطيب المناسب:

-وهو... زاهر هل كان موجودا ؟.

-هو دائما بمزرعته يرعى أشجاره كالأغنام... لقد كان غائبا طوال الوقت في الداخل ولكن والدته تنتظر رأيك بالأمر قبل أن تفاتحه بالموضوع ؟.

-وأنت كيف وجدته ؟...

وبشيء من الخبث المبطن وبسخرية:

-هل أعجبك ؟.

 

نارين وبشيء من الثقة رادة سخرية أباها بتهكم واضح:

-إذا أعجب ابنة عمي وأهلها فكيف لا يعجبني ؟؟؟

-لقد سمعت من عمك بأنه ذو حس مرهف وصعب الطباع... ومن ثم لا يجوز أن نقبل بعد تخليه عن ابنته دون تفسير واضح.

 

روعة متدخلة:

-هذه قسمة ونصيب... ولا يهم أن هو أعجب ابنة أخاك أم لا...؟...

وهي توجه الحديث لنارين:

-المهم هو رأيك أنت ؟.

 

نارين وقد سعدت لدعمها لها:

-عندما ستتعرف عليه سترى مباشرة ومن خلال سلوكه بأنه لم ينفصل عنها بدون سبب فهو يبحث عن ست بيت ترعاه وأولاده.

 

د. فؤاد ساخرا:

-وأنت تتصورين بأنك ست بيت ؟...

ثم تابع:

-هل كويت قميصا من قبل ؟...

وكأنه تذكر أمرا قد أغفله:

-هل تحدثت إليه ؟.

 

نارين محرجة:

-لا... ليس مباشرة... فأنا اعرفه قبل أن التقي به... من أحاديث ابنة عمي وابنة أخته... لا تنسى بأنني كنت أبحث أنا شخصيا عن عروس له...؟. 

 

 

 

-لم أعرفك راضية وواثقة من نفسك هكذا من قبل !... أرجو ألا يكون هذا مجرد إرضاء لغيرة تحتبس في داخلك منذ زمن... فأنا أعرفك غيورة وتحبي دائما أن تحصلي عما يملكه غيرك حتى وان لم تكوني بحاجة له... أو حتى تمقتينه !.

نارين محتدة وهي تحاول أن تدافع عن نفسها:

-هو لم يصبح ملكها بعد لكي أحاول الحصول عليه !... ومن ثم هو افترق عنها وأنت تعرف كم حزنت لابنة عمي لأنني كنت اشعر ومن خلال حديثها عنه مدى تعلقها به... وأنت تعرف بأنني لا أقوى على إيذاءها لأنها صديقتي وهي تحبني ولا يمكن أن أخون وفائها لي !...

وقد انهمرت من عينتيها بعض من عبرات واختنق صوتها:

-إذا كان يفرحك فأنسى الأمر... فهو لا يهمني كما تتصور !.

د. فؤاد بصوت متهدج وبه بعض من حنان:

-أتظنين بأنني لا أتمنى لك السعادة... ولكن أنا أحب أن أكون واثقا من مشاعرك ؟!... لأنك مزاجية... وقد تكون هذه الحمى التي تنتابك... وهذا الإعجاب الغير متوقع عارض !... فمشاعر الناس ليست لعبة وأنا لا أحب أن أفاجئ بك تغيرين رأيك كما تفعلين دائما... وهذا يضعني في وضع حرج جدا ولا احتمله.

 

نارين وقد استعادت هدوءها وأخذت تتنفس بشكل طبيعي:

-أنا لا أحب أن أقول لك بأنني واثقة جدا من مشاعري لأنك ستسخر مني... ولكن اشعر بارتياح عجيب اتجاهه واتجاه عائلته...

نارين وكمن يخفي سرا:

-أنا لم أتحدث إليه بما يكفي لكي احكم على مشاعري... ولهذا هم سيزورننا إن وافقت لكي يتعرفوا علينا وتتعرف عليهم... فلماذا تتردد في استقبالهم ولم تكن تفعل هذا مع من هم اقل شئنا ؟!...

وبشيء من العتاب تابعت:

-هل أصبحت تخاف علي وعلى مستقبلي !؟.

-الأمر مختلف... لأنه مطلق ولديه ولدين... وهناك فارق في السن...

ثم تابع مستطردا:

-ومن ثم هناك الفارق الثقافي والاجتماعي !؟...

وبشيء من السخرية:

-أنت لم تنهي الإعدادية إلا بصعوبة؟!...

ثم تابع:

-أتظنين نفسك قادرة على إرضاءه وتلبية مطالبه ؟!.

- وابنة عمي الم يكبرها ورغبت به كما هو؟...

وقبل أن تنهي كلامها أجابها متدخلا...

-هي اكبر منك بخمس سنوات... وهي جامعية... ومثقفة وقريبة في هذا منه أكثر منك ؟!.

نارين محتدة ومستاءة:

-ولا تستطيع أن تقلي بيضة... هو يبحث عن زوجة وست بيت وليس عمن يتناقش معه ويتفلسف!...

وقد بدأت تفقد السيطرة على أعصابها وبغضب:

-خلتك ستكون مسرورا باختياري... لطالما شعرت بأنني عالة عليك وتريد الخلاص مني...

وهي تبكي:

-أم تحب إغاظتي وتريد دائما أن تفعل عكس ما أحب ؟!...

وقد انتفضت من مكانها مغادرة الغرفة وبصوت متعثر وشبه مبحوح:

-أنا أصلا لا اهتم بالشباب... ولا بالزواج... هكذا أحسن وطالما تريدني أن أبقى بقربكم فسأطرد كل من سيأتي لطلب يدي لان الموضوع لا يهمني...

وهي تغلق الباب خلفها بعنف ؟!.

-تصبحون على خير...

د. فؤاد موجها حديثه لرغد:

- لما هي هكذا ؟... لا تحب أن نوجهها وتغضب بدون سبب ؟... أنا لا أحب إلا الخير لها وأنت تعرفين ذلك ولكن علي أن احذرها فهذا اقل ما يمكن أن يفعله أب اتجاه ابنته !؟.

-لا تقلق أبي، هي هكذا دائما متسرعة...

وهي تنهض لتخرج من الغرفة:

-سأتحدث إليها.

د. فؤاد مستوقفا رغد:

- لتعلم بأنني سأفعل كل ما يسعدها، ولكن وحدها تتحمل النتائج !.

-لا شيء يستحق الإنذار أبي... ومن ثم لم يحصل شيء بعد حتى تقلق هكذا... هو أن حدث فلم يكن أكثر من زيارة تعارف ولديك الوقت الكافي لكي تريها إن كانت حقا مخطئة!.

وهي تخرج:

-تصبحون على خير.

- وأنت بخير...

وهو يوجه حديثه إلى زوجته وبشيء من الخبث وكأنه أصاب هدفه:

-الغبية هي لا تعرف بأننا نحن من دبر لها هذه الزيارة؟!.

-ولكن كنت قاسيا معها ؟.

د. فؤاد وقد على وجهه مسحة من زهو المنتصر:

-أنني اعرف أولادي وبالأخص نارين... فهي تفعل دائما عكس ما نريده، وأنا أريدها هذه المرة أن تتمسك بما تتخيل بأنها حصلت عليه بشطارتها... ولوحدها... وكمن يعتقد نفسه راشدا وواثقا حتى لا تخجلنا كما فعلت بالمرات السابقة!؟.

-وهل تعتقد بأنه يناسبها؟.

-على الأقل هو واع أكثر منها... ولديه خبرة واسعة في الحياة... ولذلك ستكون فرصتها اكبر بالنجاح معه... على غير ما هي الحال مع غيره، ممن لا يعرفون بالفتاة ويطلبونه منها ابعد من أنوفهم!.

-ولكن هي لا تعرف حتى ما ينتظرها... زوج وولدين... أتعتقد بأنها قادرة على تلبية طلباته!؟.

-هذا ما حاولت أن اشرحه لك... هو الأنسب لكي يعلمها كل ما لا تعرفه عن الزوج... المسؤولية... واعتقد بان هي أحبته فستتعاون معه وتطيعه... وان هو أحبها فسيعتني بها ويحميها !؟.

 

 

د. فؤاد وهو يحاول أن يشعل سيجارة ليلهي نفسه بها وقد شعر ببعض الامتعاض بان يشارك في كل هذا على غير علم من ابنته... وخاف وهو يبحث عن المبررات التي تريحه أن يكون بفعلته تلك يخون ثقة ابنته به ويرمها في أحضان المجهول!...

وكمن يدفع هذه الأفكار البغيضة تابع وبشيء من العصبية:

-لا اعرف كيف سأرضيها... لا اعرف... الأحسن أن اذهب للنوم !.

-وأنا كذلك

د. فؤاد وهو يطفئ الأنوار:

-أحس بالإرهاق... هدئي بالها غدا واستعلمي أكثر عن الشاب وموعد زيارته وعائلته لنا فانا لا ارغب بأكثر من سعادتها!.

روعة وهي تخرج خلفه إلى غرفة النوم:

-حسنا... لا تقلق ... لا أظنها ستعثر عمن يناسبها أكثر منه فهو كامل من كل الجهات!.

وهم يدخلون الغرفة د. فؤاد:

-تصبحين على خير.

روعة وهي تغلق الباب:

-تصبح على خير.

 

 

يتبع تتمة الفصل السادس قريبا

 

نهاية الفصل السادس مع تحيات المؤلف: يحيى الصّوفي  جنيف في 17 / 02 / 2004  

 

أضيفت في 05/01/2006/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية