الصور تموت في ذي القعدة
لقد أخبرني عامل التصوير يومها لكنني لم أتنبه ببصيرتي. قال لي إن شخصاً
غيري أتاه قبل عشرة أيام أو تزيد بالصورة نفسها وطلب منه قصها إلى جزأين ثم
تكبيرهما، كل جزء على حدة. لكن عامل التصوير لم يكن يحمل في وجهه عينين
تريان بلون الدم ولم يكن يحمل في جسده قلباً ينبض بحزم الموت وتصميمه. أما
أنا فطلبت تكبير الصورة أولاً ثم قصصت الجزء الذي يحمل وجهه ورميت وجهي
-بعد أن أتلفته أصابعي- في السلة. كنت الذي ظن أنه ناج منهما.
كانت صورة قديمة التقطت لنا أنا وأخي في نَهار عيد. كنا واقفين على الباب
الحديدي الخارجي لبيتنا وكنت أمرر ذراعي القصيرة من خلف رقبته لتستقر أطراف
أصابعي على كتفه الأيمن بينما الشمس تنتصب كمسطرة فوق رؤوسنا. أستغرق
متأملاً في الصورة فألمح بوضوحٍ الجذلَ يرقص في باحة عريضة فوق رأسينا على
أصوات الألعاب النارية التي تشقشق هدأة السماء وزرقتها اللذيذة. كانت صورة
قديمة، لكنها الصورة الوحيدة التي أحتفظ بها بين أشيائي الثمينة.
* * *
صار عارف أخاً لنا -أنا وأختي التي تكبرني بعام ونصف العام- منذ اليوم الذي
جاء به أبي من دار الأيتام وعمره لا يتجاوز الخمس سنوات. فرحتنا به كانت
بريئة ومميزة. أتذكر عينيه الصغيرتين كسراجين لا ينفد وقودهما فلا ينطفئان
أبدا. صار أبي -منذ ذلك اليوم- أبانا وصارت أمي أمنا فاقتسمنا كل شيء..
الماء، والغذاء، والهواء، وحب أبوينا. عشنا لصيقين على الدوام حتى خالنا
الكثير توأماً رغم أن وجهينا لم يكونا يحملان من الشبه مقدار ذرة.
قضى عارف معنا ما يقارب العشر سنوات، ثم عاد إلى دار الأيتام بتوصية من
قريب لنا حيث أصبح بالغاً وأختي لا تزال تعيش معنا في البيت. مرت سنتان كنا
نزوره خلالها في دار الأيتام كل أسبوع تقريباً حتى تزوجت أختي بانقضائهما
لأحد أبناء الحي، ثم عاد إلينا عارف ليعيش في كنفنا من جديد.
كان الوقت مساءً وكان الشهر ذا القعدة. دخلت عليه غرفته عندما أردت أن
أصطحبه معي ذات عشية لنمشي سوياً. لم أطرق الباب لأني ما تعودت على ذلك،
ولاحظت أنه لم يرتبك ولم تتعثر كلماته وحركاته كحاله إما دخلت عليه وهو في
حالة لا يحب أن يراه أحد بها. وجدت تلك العشية أنه يحتفظ بدفتر صور (ألبوم)
يجمع فيه صور الذين أخذهم قطار الموت ولا عاد بهم. صورهم تتباهى بأبعاد
الدفتر متوسط الحجم: أصدقاء، وأقارب، وزملاء دراسة، وبعض من سكان الحي. كل
صورة موضوعة داخل جراب ورقيّ القفا بلاستيكيّ الغلاف شفافِه. ما أثارني
وسرق انتباهي هو أن جميعهم كان يبتسم ابتسامة ناقصة، فانحدر السؤال بغتة من
مكان من حلقي:
- من هؤلاء يا عارف؟
- هم السابقون الذين خلصوا إلى منتهاهم..
عندما أتت حروفه وكلماته مختلطة بغصة طفح أثرها على محاجر عينيه، انتظرت
قليلاً ثم تابعت ملاحظاً:
- كلهم يبتسمون!
- نعم، وهم الآن يبتسمون أيضا ابتسامات كاملة.. ابتسامات أغلى وأبقى من هذه
التي تراها الآن على وجوههم..
- ربما.. ولكن ما الذي أدراك عنهم؟!
- أعرف، وسنلحق بهم على كل حال..
قالها وهو يطبق دفتر الصور، فسقطت صورة أعرفها جيداً. لقد كانت صورتي التي
لم تكن تقبع في جراب وإلا لما سقطت. ارتبكت ولم أسأله عن سبب وضعه صورتي في
الدفتر، إذ كان ينثر دموعه بسخاء على آخر ضيف على الدفتر. أجّلت السؤال
لوقت مناسب لأنه عندما يصمت فإن الأمر أكبر مما يحتمل، فلا نجرؤ على سؤاله
أبدا.
على كل حال، مشيت تلك العشية لوحدي حتى غابت الشمس.
* * *
منذ اليوم الذي اطلعت فيه على الدفتر، أي أكثر من أسبوع تقريباً، وصورتي
تتبدى أمام ناظري كجدار. صحيح أن صورتي لم يغمدها عارف بعدُ في مخدع
بلاستيكي شفاف كما الأخريات، لكنها كانت تسأل الموتى عن أحوالهم وتوطئ
لانضمامي إليهم. رأيت الصورة فكان أن استحال نومي موتاً أصغر. أغرق كل ليلة
في لجج عاتية حتى تنسد أذناي وأهبّ من نومي وشهقاتي تبدد ركود الغرفة. لقد
كان صعباً جداً أن أموت كل ليلة على هذا النحو المفزع! كانت ثواني الذعر
تقضمني قضماً صامتاً ولا تذر من بنياني المشنوق شيئاً، فكنت أحمد الله كلما
مطت اليقظة جفوني وحاشت فلول النوم عني وأصلي صلاة الشكر التي لا يدعني
خيال الموت في سجداتها.
أكثر من أسبوع والموت ينشر جنده في داخلي ويعلن حالة استنفار. أراه في كل
شخص أمامي، أراه في الحيطان والمركبات والأشجار والدواب. أسمعه يدب في دمي
واهناً كدبيب النمل على صفاة.
عشت أخشى الموت منذ سمعت به رغم أنه كان يجلّي الدنيا في عيني. كانت الكلمة
تتربص بمسامعي كغول يفغر فاه لينكشف عن أنياب طويلة ترتعد لرؤيتها القلوب.
وبفعل التحذيرات التي أسمعها توزع في كل مكان وفي كل مناسبة انطبعت في
داخلي حتمية الموت في كل خروج عن جادة الطريق:
- تموت لو فعلت هذا الشيء.. أو تموت لو اقتربت من ذاك..
أما اليوم فقد نضح هلعي بفعل فاعل أيضا. كنت فزعاً أن أصطدم به في أقرب
حركة أو أقرب سكنة لأني على يقين أنه يتربص بي ويحيك لي ثوبه.
* * *
عقدت عقدة الموت في بياتي ثم صحوت على خطة الانتقام من ابتزاز الموت. أخذت
سكيناً قديمة أحتفظ بها وشحذتها على طرف حجر نضعه ليمنع الباب من الانطباق،
وعندما حركت شفرة السكين على وجه إبهامي انقطع قليلاً وبكت إبهامي دماً.
ولأني لا أجسر على رؤية الدم وشم رائحته فقد أسقطت فكرة أن أقتله بسكين من
رأسي.
اقتربت من عارف وهو جاثم في غرفته تحرضني سكاكين الموت التي تشحذ أصابعي
وأضراسي. وكلما اقتربت منه أكثر أكاد أسمع خفقان قلبه كضربات كف عجوز على
دف بارد بينما نظراته تزيغ وحنجرته تتلعثم، وهو غارق في صمت بارد كأنه لا
يريد التخلص منه، أو يعجز عن التخلص منه. أطبقت بيديّ المرتبكتين على
اسطوانة رقبته، وقلبه كطائر أطبقت عليه يد ناعمة فلم تترك سوى رأسه يتنفس
بصعوبة بالغة. خنقته فجف كل شيء فيه حتى التصق لسانه الأبيض قليلاً بسماء
حلقه. كانت أوداجه تنتفخ على نحو سريع بينما تنفر عروقه ويفر الدم منه في
كل عرق بحثاً عن ملاذ آمن. وكما كانت الثواني تتكسر ببطء على أصابعي
المطبقة على حلقه كنت أرى من عينيه أراضي لم أرها من قبل. رأيت البريق الذي
يشع من عينيه اللامعتين -الآن- كسراج تهب عليه رياح الموت فيشتعل فجأة قبل
أن يذوي، كشمعة تنشط أخيراً قبل أن تموت.
كانت الحشرجات التي تخالط أنفاسه النازفة أيادٍ تتباسق في السماء وأفواهاً
تستصرخني أن أُحجم، ولكني مضيت في إحكام يديّ حول رقبته. كما أن الزرقة
كانت تزحف تحت جلده زحف سيل ينداح على وجه منبسط من الأرض. سرقت ابتسامة
ناقصة كانت مرسومة على وجهه بينما تعقف برودة الموت أصابعه. وخلال ثوان شخص
بصره نحو سماء الغرفة فاتسع البياض المنتشر من حدود عينيه حتى كاد أن يغطي
كامل العينين، فتدلى الطائر حول قبضة اليد الناعمة ولم يعد يتنفس.
الموت الذي ظل ينهش كل شيء فيّ قتلته الآن، فخمد كعجز شجرة نخرها جور
الأرضة في وهن التراب.
قدتُ نفسي وقشعريرة تعصف بجلدي وتقتلع بقايا شعيرات الإحساس فيه. وبعد
لحظات من البحث عثرت على دفتر الصور في درج قصي من غرفته. فتحتْه يدا
الخطيئة وقلبته أصابعها وإذا برائحة قوية تفوح منه فتتغلغل في سراديب
الغرفة وتغلف أسطحها كموجة من الغبار المثلج.
حدقتُ في الصور التي رتبتها يد الموت ترتيباً عجيباً. أخذت أقلب أوراق
الدفتر بيد مرتعشة وباليد الأخرى المرتبكة أوثق الإمساك بصورة أخي الذي
تسربت روحه بين أصابعي منذ قليل. ارتعد قلبي وانعقد لساني لرؤية الابتسامة
اللامعة على وجه أخي في حين تنتصب الشمس كمسطرة فوق رأسه. جزء من ذراعي
القصيرة الممتدة من خلف رقبته لا يزال ظاهراً في الصورة. ورأيت صورتي
الأخيرة التي كانت مقابلة لها، داخل الجراب البلاستيكي الشفاف هذه المرة.
حينها وقّع على طرف النافذة سربٌ من غربان الندم التي لا أدري كيف رأيتها
من خلف الستارة الجاثمة، فأعدت النظر إلى الجثة المسجّاة خلفي لأتأكد من
ترتيب الصور كما تبدو في ذلك الدفتر. تذكرت أنني كنت أخشى الموت، أما الآن
فإنني لا أخشاه لأنه -بلا شك- سيقتلني قبل أن يجف الدم في عروقي، وسيفتح
عيني بُعيد ذلك ليقول لي هذه بتلك، وقد يضحك بأنيابه ضحكة أخيرة. حسبتُ
فإذا بشهر القعدة يتبقى على نهايته خمسة أيام..
المِزاج العصيّ
يبدأ أبو العشرة، وهذه كنيةٌ خُلِعت عليه من عدد أبنائه، يومَه المهنيّ من
المطبخ. يبدأ بالأطواق المرسومة على الجدران الداخلية لأكواب الشاي
والقهوة، والتي عمرها يومٌ إلا قليلاً. يزيل تلك الأطواق بإسفنجة الغسيل
الرَّيانة بالماء المُصَوْبَن، فتنبعث من بطن حوض المغسلة رائحةُ ورق الشاي
المطبوخ ممزوجةً برائحة حبّ الهيْل المهروس، مشكِّلتَين مزيجاً يقتحم الأنف
دون انتظارِ موافقة.
اختلف عليه ذلك المزيج منذ شهرٍ، فالكابتشينو التي أخذ يتدرب على نطق اسمها
أياماً أصبحت تزاحم القهوة والشاي في المطبخ. بل غدت النكهة المفضلة لموظفي
الدائرة وازداد انتشار قبولها بينهم، بعدما تعددت النكهات التي تُوائِمُ
أذواقهم زمناً طويلاً. تغيّر حالُ أبي العشرة وحركته، فبدلاً من أن يحمل
إبريق الشاي من عروته ويدور به على المكاتب، أصبح يحمل أكواباً ممتلئة في
صحنٍ ضئيلِ الأطراف قد يميل مع أية حركة.
قبل ذلك لاحظ أنّ إعدادَ كوبٍ من هذه النكهة الجديدة يفوق مهارته العتيقة
في صنع الشاي والقهوة العربية اللتين رضع طريقةَ إعدادهما منذ نعومة
أظفاره. حاول كثيراً أن يتقن تحضيرها وإعدادها -رغم بساطته-لكنه لم يحظَ
بغير اللوم والتقريع في كل مرة. لم يحصل قطّ وأن تعرض لشيء من التوبيخ قبل
اليوم الذي عرف هذه النكهة فيه. ولهذا السبب تزعزع وقاره ولم يعد الشخص
المدلل لدى الموظفين.
لم يحتَجْ أبو العشرة لأكثر من ذلك حتى يتصاعد حنقُه عليها. فجعل يسبُّ
مرةً مَن يشربها، ومرةً أخرى يلعن من جاء بِها، ولا يعتقد أنّهم غير
الإفرنج، ومرةً ينسبُها للشيطان.
وذات يوم مشؤوم، وبينما كان يسحب رجليه في المكتب، عثرت قدمه في حافّة
بلاطةٍ ترتفع قليلاً عن لصيقتها. اختل على إثرها توازنه، فارتفع بالصحن عن
جسده عالياً وجاهدَ ليمنع سقوط الأكواب. ونجح في ذلك بالفعل، إلا أن لساناً
من فم أحد الأكواب اندلق على ثوبه فخلق بحيرةً طينيّة اللون لوّثت ما تبقى
من نهاره. تفرَّق دمُه بسرعةٍ على وجهه بينما تفرقت كرامته بين أفواه
الموظفين الذين فغروا أفواههم ضاحكين مالئين المكتبَ بتعليقاتهم الساخرة.
لطالما أيقن أن الكابتشينو التي تتحدى قدراته على التكيّف مع التقنيات
الجديدة في معالجة أمزجة الموظفين، لطالما أيقن أنها تقرض خبرتَه وتهدّد
بقاءه في وظيفته التي لا يحسن غيرها. وها هي تصل به إلى منتهى. وزّع
الأكواب على عجل، وعاد بالصحن الذي تقطر أشداقه. ولمّا آب إلى مطبخه الذي
هو عبارة عن غرفةٍ صغيرةٍ أعشاه طول المكث فيها، شعر أن جدران الغرفة
الصفراء تقترب من بعضها وتضيّق الخناق عليه. أحس أن الغرفة مكتومة، رغم
نافذتها الصغيرة. بصعوبةٍ عالج النافذة التي أبت أن تنفتح بسبب الدهانات
التي تمّ طلاؤها بها غير مرّة وتسرّبت داخل المسارات الخاصة بدفّتَيها.
قرر في لحظةٍ انتقاميةٍ أن يسكب أكياس الكابتشينو في حوض المغسلة. هرع إلى
الدولاب وفتح كل الأكياس وثرّ مسحوق الكابتشينو في الحوض، ثم على أرضية
المطبخ بعد أن فاض الماء عليها من كل جانب. جفف يديه بثوبه، وغادر يحث
الخطى. في مغادرته سمع جدران المبنى تتجشأ وتفوح برائحةٍ أسرعَ بسببها في
الخروج. وتخيّل لساناً طينياً يلاحقه دون أن يلتفت.
طاولة الحزن
لا يؤجل الفرح لأكثر من مرة، وإلا انقلب حزناً أكيداً. اليوم هو يوم زواجها
بعد أن أجّل في المرة الأولى بسبب شخص وظرف لم يكونا داخل دوائر الحسبان
ولا قريباً منها. استبشر خيراً بذلك التأجيل، لكنه غدا اليوم أكثر إيماناً
بأن للأماني حدوداً لن يبلغها ولو لعق السماء ببطن رجله.
حينما نهض من سريره كانت الشمس قد تجاوزت نافذته ثم أطبقت جفنيها ونامت في
دعة البحر منذ دقائق. بدا البيت ككرتون ورقي خال إلا منه. ود لو يصرخ ليسمع
صدى صرخته توقظ ذرات الكرتون النائمة في لون الطين ورائحته. كان قد أوكل
مهمة إيصال أهله إلى صديقه وابن الجيران فأمسى شبه عاطل.
راغ إلى كرت الدعوة الملقى فوق الأريكة اليتيمة في غرفة نومه ليتفحصه.
يسكنان في حي واحد، ولهذا وصل كرت الدعوة إلى يده وعينيه فأصاب قلبه ورمى
به في غياهب الحزن. قلّب دعوة الحزن بين أصابعه فتأكد أن هذا المساء مساء
اليوم المشهود، ولما امتلأت عيناه باليقين رمى بالكرت دون أن ينظر على أي
أرض وقع. خرج من دفء جدران الكرتون لا يلوي على شيء.
مضى إلى المقهى الأقرب إلى قلبه والأبعد إلى بيته. في سماء الشارع لا شيء
يدل على النشاط. القمر يشوب وجهه لون النعاس المائل للبرتقالي والنجوم لم
ترفع عنها -بعد- لحف القيلولة بعمر يوم كامل. اعتاد أن يلتقيها على طاولة
قصية من ذلك المقهى. يجعل وجهه نحو الشارع بينما تقابله جاعلة الشارع خلف
ظهرها. يقبع المقهى في آخر الشارع المتعرج الذي يضيق حيناً ويتسع آخر.
الموسيقى التي تولد من كبد المقهى تفصل ما بينهما وبين الشارع بينما وجهها
القمري يعزله عن العالم بأسره.
* * *
كان أول ما فعله عندما اختار الطاولة ذاتها أن حدج باب المقهى العريض
نسبياً بنظرة أكثر من عابرة. كان ابن عم لها أصابته لوثة في عقله دائم
الافتراش للأرض حذاء باب المقهى. يمضي وقته في الكتابة بأصابعه في الهواء
والتمتمة بأحرف مبعثرة سرعان ما تحتفل بخروجها من فم المعتوه وجوفه. لكن
تلك المساحة خالية الآن من المعتوه ومن كلماته وأحرفه.
بقايا ذكريات تخشب قدميه المتسمرتين حول جذع المائدة الذي لم يكن طويلا.
كانت ركبتاه تصطكان بركبتيها فتلتقي أعينهما الضاحكة وتبارك هذا التماس.
أما الليلة فركبتاه تتحركان في تيه وأظافره لا تتيح لشفتيه وأسنانه
الانطباق طرفة عين.
النادل النشيط يحفظ رغباتهما عن ظهر قلب، عندما اقترب من شروده صافحه بسؤال
في ثوب تقرير:
- اثنين قهوة، واحد سكر خفيف وواحد سكر زيادة؟
- لا! واحد قهوة.
- .....؟
- سكر خفيف.
حتى في الرغبات والأذواق يختلفان. يقفز هذا الاكتشاف المتأخر جداً إلى رأسه
فيعرض أمام ناظره لحظات لقاءاتهما المتكررة في المقهى. لم تكن أحاديثهما
تختلف في لقاء عن آخر.
- أنا العقرب المنهك، وأنتِ ساعتي.
قال لها ذات ليلة وعيناه تنشدان الهدى في مهامه عينيها.
على الحائط شنقت ساعة كانت العقارب المنهكة تدور في فضائها بلا كلل. ما
يعزيه ويخفف عنه هو إيمانه بأن هذا قدرها وعليها أن تتزود من الرضا في
دورانها السرمدي. وهو في أمس الحاجة إلى زاوية تضم قلقه وضياعه، نظر إلى
الطاولة أسفل من عينيه فوجدها دائرية هي الأخرى.
كان يستغل لحظة تمد يدها نحو قهوتِها، فيلتقط كفها من أصابعها ويشم ظهر
الكف العائم في فضاء الطاولة. لم يكن يعلم أن الوردة التي يشم ستكون من
نصيب غيره الذي سيلتقطها ويعطر حياته بعبقها الذي يجلب السّكْر اللذيذ.
أُجّل زواجها بسبب موت ذاك المعتوه ابن عمها قبل حوالي الشهر. لأنه معتوه
-كما روى عدد من الذين شهدوا الحادثة- ارتطم بسيارة مسرعة عشية الزواج
ففغرت الأفواه وتحركت السواعد لدفنه وإقامة مراسم عزائه. لم يتقابلا بعد
تأجيل الزواج أكثر من بضع دقائق امتلأت بالصمت العارم.
تطلع إلى باب المقهى العريض مرة أخرى فتمنى لو يبعث ابن عمها من قبره
ويصطدم بسيارة ثانية فيؤجل الفرح مرة ثانية. لكن العالم الخارجي يحشر نفسه
في رأسه على نحو مزعج، والضوضاء كأنما تساق من فم الشارع لتستقر أخيراً في
أذنه حيث يجلس على الطاولة القصوى من المقهى. ذلك لأن الوجه القمري لم يسجل
حضوره على الطاولة. ونظرات النادل في ذرعه للمقهى لا تفتأ تستدر مكنون
الرجل من الذكريات العذبة ومن الكمد الطافي على محياه. قد تكون انكسرت
ساعته، لكن عليه -وهو العقرب- أن يواصل الدوران في صمت.
قطع صمته ثلة من الصبيان يتراكضون على وقع المزامير والطبول. أدرك أنه موكب
الفرح والحزن. بمرور الموكب تبدى له الشارع في شفافية تامة. اختفت الجلبة
للحظة وعمّ سكون غريب. عندما تجاوز موكب الفرح باب المقهى كان موكب من
الحزن يلج من الباب ويزف إليه. انخفضت دقات قلبه وشعر كما لو أنه يهوى به
من مكان سحيق. ودَّ لو يحظى بمقدار من الأمان فبسط ذراعيه على مائدة الحزن
أمامه، وبصوت واهن أعاد خطا النادل إليه:
- واحد سكر زيادة يا معلّم!
طرفُ العباءة
كنت أتبع أمي ممسكاً بطرف عباءتها. أتلفع بها في وجه الشمس. أمسح بها عرقي.
أنظف بها أنفي عند الحاجة. أفعل كل شيء، بشرط ألا أتأخر خطوة أو نصف خطوة
فتكتشف هذا. مراتٍ أرغمها على الوقوف. أشدها من طرف العباءة فتتوقّف كصخرة
كانت تتدحرج. كأنني ممسكٌ بها بلجامٍ. أشير إلى دكانٍ أو عربة بائعٍ جوّالٍ
أو صبيةٍ يلعبون. تنظر في طلبي الذي يكون صامتاً في أغلب الوقت ثم نواصل
السير في الشوارع الضيقة. مراتٍ كثيرة ترغمني هي. تقف فجأة فأصطدم بوركِها
أو أطأ قدمها. تلعن الذي خلّفني. في أحسن الأحوال كانت تقول شيئاً عن
المحقِ والبركة. السيارات ترشقنا بكلمات مُرّة. بعض المرارة يسبقه توددٌ
سخيفٌ وغادر. لم تحكِ أمي عن هذا لأحد ولم تشرح لي شيئاً. من ناحيتي لم
أعلّق.
كانت تحمل معها ذلك اليوم ما تحمل من قهوة وتمرٍ أو لبنٍ تصدَّقَ به أحدٌ
علينا. علفُ الجارات. يقضين الضحى بعد التهامه في قضم الحكايات ولَوْكِ
الأسرار. يظللهم بيتُ أبي دَلادِح. أبو دلادح عاطلٌ عن كل شيء. يفرح بي
كلما زرناه. لم يقُل هذا أبداً لكنني كنت أقرأ عينيه بوضوح. ربما لأني
الذكر الوحيد الذي يتسنى له رؤيته. أسأله أن يقصّ عليّ حكاية مُصبِّغ
آذانِه بالدمّ فيسكت قليلاً ويعتذر لي ضاحكاً بأنه نسي. أنسَتْه السبعون كل
شيء ما عدا التمر والقهوة. يستلقي على ظهره في أي غرفة من غرف البيت وينصب
ساقاً فوق ركبة. يغنّي مقاطعَ بائسةً لا تكتمل أبداً، ويطلّ على الصالون
كلما نقص عنه الزاد. لا يرفع ثوبه إمّا انزلق عن فخذه إلا أن تنهره ربة
البيت:
- أبو دلادح! لا حيا ولا حشادة.. لا من الله ولا من خلقِه!
تزوغ نحوه الأعين فيغطي ما انكشف من عورته ببطء. قليلٌ ويستأنف الصالونُ
ضوضاءَه. ليس هو وحده. أنا لم أُترك. قالت إحداهن لأمي التي لم تبدِ
اكتراثاً:
- ورعك هذا شُحْط. شوفي ايش طوله!
وأردفت أخرياتٌ بتذمّر:
- إي والله! لو تجوّز.. يمدي ولده يباريه!
يزفرُ الصالونُ من بين الحكاياتِ والأسرارِ روائحَ شتى. بخورٌ نافذ..
وأعشابٌ مخلوطة ومطحونة.. وروائحُ تنطلق من الكُتل التي تكاد تلتصق
بالأرض.. العجوز المستلقي على ظهره يشاركُ أيضاً.. تدور الروائح وتدور
أجساداً غاية في اللطافة. تتلاشى أخيراً بعد أن تبعثرها المروحة أو ينهكها
الحَوَمانُ فوق الكتل.
ذلك اليوم سألني أبو دلادح عن أخبار الرجال. كنت أحكي له عن الأيادي التي
تبذر الحقول بعد المطر عندما ارتفع شخيرُه. قمت متجهاً إلى الصالون حتى
وصلت بابَه. وهناك انقضّت عليّ عينا مليحة كعَيْنَي سحليّةٍ بائضٍ لا تطرفُ
إلا لتواصلَ التحديقَ بحدّة أكبر. هي المرأة الأكبر سناً. المرأة التي
يتحلّقن حولها وهي تمد رجليها الناشفتين كاللحاء. تقتصد في كلامها الذي
يتفرق ما بين نبرة الأمر ونبرة النهي. كانت تتكلم وقتها عن الوِحام. سدّت
أنفها بأصابعها وقادت نظرَها نحو القاعداتِ، ففهمتُ أنها تتّهمني بريحٍ لم
أطلقها. رأتها القاعداتُ فسددن أنوفهن واحدةً تلو الأخرى. أجزم أن نصفهن لم
يشمُمْن شيئاً. فقط أكملن ما بدأته مليحة. ثم صاح صوتٌ فيه تقرير:
- هذا اللي بقي!
وصاح آخر:
- ورعك يا غنيّة.. ما ربّيتيه!
فار الدم في وجهي لما وقع نظري على وجه أمي. قفزتُ إلى وسط الدائرة هائجاً.
حاولت إحدى القصيرات منعي. ضربتُها على يدها. هبّت الكتلُ من مقاعدها وصاح
الصائح، فدفعت بنفسي للخارج. لم أهتم للقصيرة مرة أخرى وهي تمنعني من
الخروج. كانت بناجِرُها العريضة من ذهب تجلجل وهي تخدش معصمي.
مرقتُ من الباب الأخير ولم أدر وجهي نحو مجلسهن، بل واصلت طريقي في شوارع
القرية. أثناء ركضي اعترتني نشوةٌ بأني أصبحت من عِداد الرجال. وضعت ثوبي
في فمي واخترقت النهار. أعثر وأقوم. في عثراتي أقترب من الأرض. أسمع صيحات
الرجال يبذرون الحقول. يبنون البيوت. يفتحون الطرقات. أنظرُ، راكضاً، للدم
ينزّ من خدوش معصمي. تنتشي لسعةُ الذهبِ في دمي، وأُصاب بشيءٍ يشبه الضحك.
|