إيحاءات جديد
جاء مغبّر الوجه، أشعث الشعر.. وفي عينيه الملائكيتين دموع طفل هو..
إن كان يدرك قليلاً.. فإنّه يدرك جيداً... أنه رأى بيته يخرب بالجرّافات..
قال لأمه الجالسة على قارعة الطريق:
-الأوغاد.. خربوا بيتنا يا أمي... رأيت سريري، ومسدسي تحت الأنقاض.
ضمّته إلى صدرها، امتزجت دموعه بدموعها...
قالت له بحزن يتولّد منه التّحدي:
-عدْ.. وفتّشْ عن مسدسك ياولدي.
.......
كانت الشمس تغرب خلف جبل (أبو غنيم).
وأقسمت أن تبقى.. لتشرق من جديد.
إيحاءات جديد
2
كنت قرب صديقتي في سيارتها الفارهة، ونحن في طريقنا إلى مُنتدى
(المانجو).. مررنا تحت جسر تشرين.. كانت السيارات تنطلق كالسيل.. ثم تتوقف
فجأة مبدية احتراماً شديداً، وولاءً للإشارة الحمراء.
في لحظة التوقُّف هذه، هرع طفل في يده قطعة قماش، عيناه تلمعان
كخرزتين زرقاوين.. تبحثان عن رزق حلال، من خلال زجاج مغبّر. سألَ صديقتي:
- مدام هل أنظف سيارتك؟
- لا
لكنَّه نظفها، وحين مدَّ يده ليأخذ الأجرة، أصبحت الإشارة خضراء..
فهمّت بالانطلاق قائلة له:
-حتى تسمعَ الكلام.
وصلنا (المانجو) صعدنا إلى ذلك المكان الجميل بنوافذه المطلّة على
ساحة واسعة تتوزّع حولها الطرقات.. طريق إلى رعاية الشباب، وطريق إلى مقاهي
العزيزية (الشلال.. والكرم... ووانيس)، وطريق إلى الميدان.
جلستُ في مكان يتيح لي رؤية جامع التوحيد، بمآذنه الأربع البيضاء...
كما تبدو لي أيضاً قباب وأجراس كنيسة قديمة.. وكلٌّ من الجامع والكنيسة،
يتقابلان بتودُّد كبير.
كنتُ صامتة.. حتى نقَّرت صديقتي على المنضدة.
نظرتُ إلى وجهها المشرق.. وعينيها الجذّابتين، وشعرها اللامع
المجعّد، عادت لي صورة الطفل التعيس.. قلتُ في نفسي أي قبحٍ يخفيه هذا
الجمال؟
وحين هممنا بالمغادرة.. أصرَّت على أن تدفع عن كلينا مبلغاً كبيراً
يتلاءم مع عظمة المكان..
ألقيتُ نظرة وداع إلى المآذن البيضاء..
وهي تعانق زُرقة السماء بمودّة..
إيحاءات جديد
3
بسرعة عجيبة مزقت أوراق رزنامتي.. بسرعة عجيبة طويت عاماً بعد عام.
وبسرعة أكثر عجباً.. خلفت ورائي كثيراً من السنين، سلسلة قدمت بدايتها،
وقربت نهايتها.
لم أكن أعلم أن هذه السرعة ستوصل التجاعيد إلى وجهي، والتعب إلى
قلبي، والرعشة إلى أصابعي، والضعف إلى نظري.
ماأشد يأسي.. مازلت أحب الحياة مثلما كنت دائماً.. فكيف أفنى...؟
وإذا كان جسدي قد شاخ.. فروحي ظلت ترقص فرحاً للغيوم والجداول
والينابيع، روحي ظلت، بريئة معطاءة، مسامحة. فإذا فني جسمي..؟؟؟ كيف تفنى
هذه الروح؟؟
ومن وميض حزني ويأسي.. أشرقت نفسي بسعادة غامرة.
رحت أجمع كتبي.. أضمنها إلى صدري أقول:
لن ينتهي عمري.. فعمري يكمن في كتبي.
إيحاءات جديد
4
أملأ كفي بضوء الصبح.. وأغسل وجهي.
آخذ شعاعاً من ظلام الليل.. وأكحل عيني.
أعبئ كأس ماء من (زمزم) وأشربه.
أقطف بلحا أحمر من شجرة نخيل عالية.. ثم آكله بتؤدة.
أتوضأ بهسيس الروح، ونشوة القلب.
أقف على سجادة تعلو بي إلى ربي.
أخشع لمن خلقني.. تصفو ذاتي، ترق أحاسيسي كغلالات بيضاء.
أجد الدنيا بما فيها من ملذات.. لاتعادل لحظة توحد مع الذات
الإلهية.
أحلم بالجنة الأبديّة.. وأن أرى ثمة وجه اللَّه العظيم.. ووجه
الرسول الكريم.
أحلم أنني على درجة عالية من الرضا.. لأنني كنت كما أمرت به أن
أكون..
وأستغفر اللَّه فيما لم أستطع أن أكونه.
يسامحني ربي.. ويفغر لي.. هو الغفور المسامح.
يقرع جرس الباب بقوة... أخلع ملابسي البيضاء وأفتح.. تدخل ابنتي
عائدة من عملها.. تسألني: ماالطعام اليوم..؟ يتجسد سؤالها بحرارة الواقع..
يهرول تفكيري من المسافات الشاسعة.. يتضاءل... يتضاءل..
ثم يسجن بإجابة مُقتضبة عن قوت اللاّيموت.
إيحاءات جديد
5
مازال (البولمان) القادم من حلب إلى دمشق يوغل في المدينة الأقدم..
هاهو جبل المهاجرين مزنّر بالأضواء.. هاهي شوارعها مزدانة بالشجر
والياسمين.. هاهي بيوت الكتاب هاجعة ومتواضعة وفي داخلها تسمو الروح..
وتتألق الكلمات.. وتتبرعم المبادئ والقيم.. وهذا هو (سوق الحميدية) شريانها
النحاسي، يتصدّره الجامع الأموي الكبير، يرصف مع أحجاره القديمة المجد
والعراقة.
ومن اتحاد، إلى متحف، إلى جبل، إلى ساحة الأمويين، إلى مكتبة الأسد،
إلى فندق الشام، أماكن تزار ولاتعد كلها في بوابة التاريخ (دمشقة).. نقطة
الصمود والعروبة، والاتزان. هي المجد العام والمجد الشخصي.. ولقد جعلتها
مزاراً.. ورسمتها لوحة... ومثلتها رمزاً.
وحين اقتربت منها، وهمست لها:
-أحبك يادمشقة... أحبك ياعبق ماكان.. وقبلة الآن.. فهل تسمعين... هل
تدركين.
إلا أنَّ دمشقة لم تسمعني.. وكانت تنظر إلى جبل قاسيون بثبات لايحيد.
إيحاءات جديد
6
بعد انتظار وتسابق.. اتّخذت مكاني في المقعد الخلفي من (السيرفيس)
الذي ضم بمن فيهم أنا، امرأتان وثلاثة رجال.. غمرتني متعة فائقة.. حين
انطلق السائق.. وبعد أن وضع النقود في كاس مائل أمامه... وضع شريط أغنيات
بلغة غير عربية... وراح يدخن لفافته ويدمدم سعيداً.
قالت المرأة الجزائرية بلغتها المغرقة في المحلية:
-ويش يدير هادا الخماش..؟
وقال الرجل بلهجة خليجية:
-راك تسمعنا، شي، مو زين ياريّال أنت.
تابع المصري يقول:
-إيه ده يا راكل.. ده كلام مانفهموش خالص.
وانبرى السوداني يقول:
-قَتْ تحطلنا كلام مش عربي... قَتْ نغادر.
حينئذ قلت بلهجتي السّورية الحلبيّة:
-خيّو، ماعندك غير هالشريط التخّان..؟
أطفأ السائق لفافته، وصاح بغضب:
-عطوني سكوتكن.
قلتُ في نفسي:
ليتنا نتكلم نحن العرب لغة عربية.. (فصحى مبسّطة) لنكون أكثر قدرة
على الحوار والتفاهم. ولكن قبل هذا.. علينا أن نحافظ على لغتنا العربية...
التي هي على الرغم من عظمتها وجمالها.. أصبحت (كقربة السوّاس) تتّسع للغة
التركية، والفارسية، والإنكليزية، والفرنسية، والطليانية، والصينية، بل
والهندية أيضاً.
على أن أكثر ماأخشاه..
تغلغل اللغات الأخرى في نسيج لغتنا،
كما تتغلغل الخُنْفساء.. في طرقات الغابة الجميلة.
إيحاءات جديد
7
على المنضدة المرمرية، كان الإناء الخزفي يجمع أنواعاً من الزهر،
وفوق الإناء ينعقد زكاء العبير الصاعد أبخرة لاتُرى، من عطر الورد، وشذى
القرنفل، ورائحة الفل.
كعادتي، جلست أنظر وأتأمل.. وخيّل إلي أنني أسمع حواراً بين امرأة
تقمصت الزهر... ورجل تقمص الحجر.. فكأنَّ المرأة تقول:
-خلق الله الزهر ليرمز إلى الحب والجمال.. وخلق الحجر للتعبير عن
الكره.
وكأنَّ الرجل الحجر يقول:
-وهل يكون الإنسان مطمئناً، لولا السكنى في بيت من حجر..؟
-الحجر جامد.. لانبض ولاعبير.
-أما الزهر، فيجذب النظر زمناً قصيراً.. ثم يذبل ويموت.
-حياتي قصيرة.... ولكنها معطاء خيرة.
-أما أنا فلا أزول.. يفنى الجميع وأبقى.. وتجف الأنهار، وأبقى..
وتصمت دقات القلوب، وأبقى.
-بقاؤك ليس مهماً، حين تكون مرمياً على قارعة الطريق... أو ساكناً
في حضن جبل، أو راسباً في قاع نهر.
-لكنني مهم حين أنحت تمثالاً.. أو أبني بيتاً.. أو أصبح معبداً.
-أنا أكثر أهمية منك.. أهدى بالحفلات.. أزين القاعات... أبهج
النفوس.. ولقد وهبني الله، الألوان، والأريج، والشكل الساحر.
-ومن الأحجار حجر كريم، يشع بالشوق كالياقوتة الحمراء، ومنها
مايتلألأ بالضياء كالماس.
وهناك حجر أثري باق منذ آلاف السنين.. ينبئ عن تاريخ أناس قدماء.
......................
في أوج التفاخر والتنابذ بالألقاب حدث زلزال عنيف.. هدم البيوت،
وقتل الزهور. ودفن الناس أحياء.
وكعادتي وقفت أتأمَّل ذلك القبر.. وفوقه هاتيك الزهور.
إيحاءات جديد
8
أحببتُها مذ ألِفتُ الحبَّ.... حوّلتها إلى تعويذةٍ أقدِّسها...
وهدف أسعى إليه.
أحببت أحجارها، وأشجارها... بواباتها.. عبق تأريخها، وقلعتها
الرابضة كالأزل. صمَّمتُ أن أقدِّم لها قرباناً كلّ عام.. جوهرة أصقلها كل
يوم، ثم أصعد لأقدِّمها لها، حتى أهديتها ثلاثين جوهرة، تعكس ألوان حبّي،
وانتمائي إليها.
على الرغم من هذا، كانت قاسية عليَّ.. لم تشعر بي، أو تبادلني
الحب.. أغضبُ منها، أعاتبها، تبقى صامدة، وصامتة كأحجارها.
عندما ضعُفَ بصري.. وبدأت أتعب من الصعود إليها.. وتقديم القربان
لعظمتها.. ابتعدتُ عنها.. اعتكفت في بيتي، ألملم جروحي.
وإذا بها تهبُّ من جبروتها، لتصافحني... وتقدم لي إكليلاً من
الغار.. وتاجاً من الاعتراف والاعتزاز. وألبستني عباءة مرصعّة بالحب
والعرفان.
حدث ذلك العناق بيني وبينها.. في نهاية شهر، ونهاية عام.
اتّحدنا معاً.. وإذا بها أنا.. وإذا بي هي.
وكوَّنا معاً.. معزوفة عذبة اسمها..
حلب** الشهباء
|