مقطع من رواية /
رائحة لأشيائه...
حدث الحب فجأة وانطفأ
توالدت مدن الياسمين والأودية الزرقاء...
ومرة أخرى،
هذه المرة لم ينطفئ الحب، انطفأ القلب...
حدث الحب فجأة ولم ينتظر
أغلق كل صباحاته...وأخذ كل منا قطاره..ومضى...
الآن فقط يمكنني أن أقول ان الحب ونحن كنا دائما بحالة رحيل...
وكل المدن التي منحتنا ودها...ذبحتنا بعد حين...
وكل البوابات أدخلتنا لتسكننا دروبا حزينة وماطرة...
لا شيء سوى فراغ المدن الزجاجية...وبقايا أحلام...
لا شيء سوى رائحتكَ تملأ المدى...
الجزائر...
وصراخ المدن البيضاء يتعالى الى ذاكرتي المصبوغة بالدماء، الممتلئة
بآ لاف الوجوه الحترقة والمشوهة...
الحب الساكن فينا لهذه المدن يستدرجنا نحو موت نستقبله في هدايا
أطفالنا وبيوت أحبتنا...
الجزائر...
والرعب يملأ الشوارع...يحيلها بقايا معارك فاشلة...ويحجب الدخان
فجأة ما تبقى منها وتدوي صفارات الانذار واذا بكل الأعين شاخصة تنتظر ما
اذا كانت اقنبلة الموقوتة لن تنفجر...
الجزائر...
وأقف صارخة في الأشياء أن تبعثري، تشكلي بأحجام أخرى وألوان أخرى...
أصرخ في وجه مدينتي أن أعيديهِ...
لماذا تقتلين الذين جاؤوك حبا وفرحا؟لماذا تنحرين ابتسامات الذين
كتبوك لحنا على قلوبهم فماتوا بكِ غناءً...؟
وتصمت كل المدن...
لكن السؤال يتواصل رنينه الجارح في داخلي: من لي بعدكَ؟
من يوقف طواحين الحزن التي يشتد دورانها حولي؟ومن يعلمني حدود الفرح
حين يواجه البكاء؟
أجلس اللحظة عارية من كل الدفء ومراسيم الفرح ومن الأحلام...أتذكر
تلك الجملة التي حملتها الي رسالتكَ ذات صيف[أيتها الحالمة لا توقفي الحلم
فليس بمقدورنا أن نحيا بلا أحلام].
وتخرج الكلمات متعبة لتعلن لك أنه لم يعد بمقدوري أن أحلم
كيف لي أن أحلم دونك؟
وأن أعيد تشكيل حلم كبير توقف َ كان أنت؟
أنتَ...وذاكرتي المشحونة بالموت الأزرق والأيام الرمادية تتواصل
مرارتها في حلقي...
أنتَ...وأشيائي بعدك صامتة يغلفها الوجع...
وأخطئ اذ أنتظر أن تعود...
وأنسى أن الموتى لا يعودون ولو أفنينا العمر انتظارا لهم...
وها انا أحبك من جديد واكثر مما توقعت...
يسكنني وجهك ورائحة اشيائك...
رائحة جسدك وانا انام في صدرك تذكرني بأني امراة فقدتك...
وفقدتْ سرير انوثتها...
وأجرب أن أنسى وأتعزى ب-مؤيد-عنك لكني أكتشف انك رجل
يصعب معه النسيان
ويؤلم معه التذكر
فكم يلزمني من الأيام لأنسى؟
وأي المدن ستنسيني...؟
وانا أغرق في رائحتك وتفاصيل تلك اللحظات التي جمعتنا أتذكر تلك
المرأة التي جربت تصرح بعد ان وصلت الى قمة المجد وفشلت في حبها: ليس صحيحا
الى حد كبير أن الأيام تنسينا الأحزان وتضمد جراحنا العاطفية وتحمل الينا
العزاء.
فكيف ستنسيني اياك الأيام؟
برجل آخر وأنا التي اختصرت فيك كل الرجال؟
أم بحلم أعرف مسبقا انه سيكون قبض الريح اذ كنت كل الحلم؟
يوم رايتُ ذاك الرجل...
رحت أتبعه...بدا لي من الخلف كأنه أنت...
بقيت أتبعه وانا أنتظر أن يمتد سحر رائحتك فيملأ حواسي...
اقتربت منه أكثر...كدت الامس كتفه...
لكن شيئا ما أيقظني...اكتشفت أنني اتبع رجلا غيرك...اذ لم تكن
رائحتك...كانت رائحة أخرى...
اللحظة أبحر في جسدك...
أتشمم رائحة أشيائك الصغرى...
أشياؤك في كل مكان...
هنا خزانة ملابسك...أفتحها، امسك بتلك الملابس وأدفن رأسي فيها
وأبكي صمتا...
هنا سريرنا،مازالت رائحتك تنبعث منه...أضم الوسادة التي كنت تضمها
بين يديك وانت تتأملني كلما رحت اسرح شعري...
كنتَ تقول لي دائما:كم أحب شعركِ.له سحر يجعلني أنسى انك
امرأة...أتصوركِ عروس البحر...كنت أقول لك: أتؤمن بعروس البحر؟وكنت َ
تجيبني: حينما أراكِ نعم أصدق بوجودها....
كم كنت رائعا يا رجلا ابحث عنه في أشيائه...عن حب حولني الى كائن لا
يستوعب معنى أن تستدرجنا أحلامنا نحو موت مؤكد...
تغزوني رائحتك...
اقوم يسبقني خيالك الى كل الأشياء...
تبتسم وأنت تفتح لي ذراعيك على ذاك الكرسي قرب سريرأحلامنا...
أركض نحوك واذا بي يضمني الفراغ وصدى كلماتك يتردد يأذني:
اقرئي لي قصيدة –بايرون-...تلك التي أحب...
كنتُ اتلوها عليك بالفرنسية وانا أجلس على ركبتيك وأمد ذراعي
نحوك...
لم أكن أتقن العربية جيدا...وقررت بعدها أن أحفظها بالعربية...
أذكر انني أخبرتك يوما أنني احضر لك مفاجأة...شددتك الى الكرسي
ذاته، طلبتُ ا تغمض عينيكَ ورحت أقرأ بعربية طليقة:
حينما افترقنا في صمت ودموع
وقد حطم الفراق قلبينا
واعترتهما برودة أشد من برودة قبلاتك
كانت الساعة ايذانا بالعذاب الطويل
................................
وحين توقفتُ قمتَ مندهشا وأنت تصفق.
ضممتني وأنت تقول: رائع صوتك كان أشبه ما يكون بصوت آت من السماء.
قلتُ لك ضاحكة: حتى أؤكد لك أنني لست فرنسية ولساني عربي النطق.
كيف حدث ان كنتُ أنا اللحظة أجلس لأكتب عنك ولأقول لك أشياء بلغة
عربية لم أتصور يوما أني سأتقنها وأني سأتمكن من الكتابة بها؟
كيف يحدث هذا معي وأنا التي لم أتقن غير لغة-كورناي-و-راسين-و-هيغو-؟
كيف يحدث وانا ما أتقنت لغة غير تلك اللغة التي درستُها ورحتُ
أُدرسها بعد ذلك؟
ما حدود الحب؟
وما حدود الموت؟
أسألك بعد كل الذي حدث وأتجول في أرجاء هذه الغرفة باحثة عنك في
أشيائك...
وفي رائحتك...
واذا انت تسكن ذاكرتي ...تتوحد بي...
من قال ان الموت وحده ينتصر فقد أخطأ.
اكتشفت بعد كل الذي حدث أن ذاكرتنا تهزم الموت...
وحدها تظل تختزن كل الأزمنة، كل الحب وكل الجنون...
الذين نحبهم لا يموتون...
وذاكرتي عالم كبير...أستقبلك فيها...أحدثك...نتذاكر أشياء ...
تبتسم...وأراك ايضا ملفوفا في رداء أبيض...
يا لهول ذاكرتي...
(ان الذاكرة هي
الفردوس الذي لا يستطيع أحد طردنا منه كما أنها الجحيم الذي نعجز عن الهرب
منه.
هذا ما توصل اليه-سبالدينغ- بعد أن خبر الحياة...
أتكون ذاكرتي جحيما وهي تحتفظ بك؟
خاطئة فلسفتك سيدي فأنت ما عرفت-اياد- وما أحببته مثلي...
من يعرف رجلا ك-اياد- يصعب عليه تجاهله...
رجل يصعب معه االحب
ويصعب معه النسيان.
صوتك وأنت تقرأ علي تلك القصائد يذكرني بك حد البكاء.
-بيتهوفن-
والسمفونية الخامسة والبحر يمتد نحونا وضصوتك يملؤني فاءذا انا نورس يحلق
في فضاء بعيد...
أتذكر يوم أسكنتني صدرك في البحر ورحت تقرأ...
حينما تضحك في الروح امراة...
أشتهي صدرا لهذا النورس الهائم لكي يقر
عندما تصحك في النور امرأة
أشتهي غيما على نافذتي
كي أهب الروح المطر...
.............................
لرسائلك رائحة الحب،
ولدمشق وجه امراة عاشقة
وبلهفة أضم رسائلك...
أتحسسها بيدين مرتعشتين وأعيد قراءتها...
لم أعد أذكر كم مرة قرأتها...
أضيفت في
05/06/2006/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
قمر... ونساء...
على الضفة الأخرى للفرح كنتُ أحلم...
يدي: ستبقين عبأشرع أبواب الآتي وأقرأ تفاصيل صدقكَ في يدي...يوم
قالت لي عيناك ويداك الدافئتان تضمان ق ايامي وأجمل أحلامي على الاطلاق.
وامتد القمر الأزرق في عيني جسرا...كانت المدن الملونة تركض على
حواف الجسر ويتطاير زهر الياسمين، وكنتُ أصعد حتى ألامس السماء...وينتابني
شعور بالفرح وانا ألتقط النجمات من فضاء بعيد وانثرها فتتحول الى فراش
مخطوط على الأرض...واستفيق من الحلم وادا انا مرة اخرى مع الحزن...مع
عمرأطفأته في لمسة قمر...يغزوني الحزن كعادته و يعيدني للسؤال داتهك لم حدث
كل هدا؟.
يوم تعرفتُ اليك كنت ُ قد استعدت وعيي على سرير في المستشفى حيث
عيناكَ ضمتا جسدي الممدد امامك واب-الصيروم-تزين دراعي...لم اقل شيئا، فقط
كنتُ أبكي بمرارة...كانت دراعي ملفوفة في قماش أبيض...
رايتكَ تبتسم وشفتاك تتحركان...{أية كلمة تلك التي قلتها فسمعتها
باءحساس أنثى فشدتني اليكَ عمرا آخر؟}.كنتُ قد بدأت أنسى مادا يعني
الحلم...
ألغيتُ كل تصوراتي عن الرجل في وطن لم يقتلنا الا رجاله، ولفني
الصمت في ثناياه...تركتني الاشياء وتركتُها...بدأت أتعلم كيف أعيش بلا
أشياء وبلا حلم...وبلا أحد كنتُ {وكم كان بردي كبيرا يوم فقدتك...وحدتي
الآن تؤكد لي كم كنتَ تعني في حياتي}.
ياقمري المكسور...يا غيمتي الدافئة...لمَ كل هدا الغياب؟ رد لي سحرك
وأعدني الى دهشتي بك يوم كنتَ وحدك سيد أيامي وانت تغسل وجهي بضوئك وتزرع
بعيني ألف حلم قابل للحياة{كان كل الحكايا وقمري الأزرق وبقية اللمسات
الناعمة وهو يدخلني صدره وادا القمر ثالثنا وهو يضيء المكان...كم هو قاتل
صدق الرجال حين يطعنون ببراعة}.
غاب قمري يوم دمرتُ حياتي بين يديه...سلمته مفاتيح داكرتي وانا
أبعثر خلفه ما تبقى من أيامي بعد أن أطفأ الرعب كل اقماري وناء علي
الصمم{كان الحلم كبيرا...وكان القلب يركض معك على روابي زمن أخضر...لكنك
خدلتني كعادة كل الرجال حين يستبيحون أفراح النساء بعد أن يسلبوهن آخر
فتائل الدفء}.
يومها كنتُ أملأ داكرتي بقصص الأبطال وانا أراه بعيني وطنا، بعد أن
صار الوطن نارا لا تنطفىء...كنتُ أستعيض بهمسه في أدني بأنه يحبني-بصوت لا
اسمعه-عن صوت الرصاص وسيارات الشرطة والاسعاف كلما وقعت مجزرة...كنتُ أنسى
في شفتيه طعم المرارة والملح الدي يسد حلقي كلما رأيت ُ الدم قد اجتاز ضفة
المطر وغطى الشوارع{ما كنتٌ أدري أنك َ كنت تخدر حواسي لئلا أكتشف وجهك...
وما كنت أدري ان الرجل في هدا الوطن يشبه آلهة الأساطير...مجرد الى مزيف}.
قال لي: الحلم شكل آخر للحياة هكدا قال -نيرفال- فلا تضيعي
أحلامك...وصدقته...مازلت أدكر تلك الليلة...يومها غاب القمر والعاصفة تهز
المدينة...الكهرباء أيضا لم تصمد في وجه العاصفة فخلفت المكان للظلام...
يومها رأيتُ جسد أخي الممزق...كان راسه المقطوع يغرق في دمائه
وعيناه الدافئتان غائرتان...كان صديقك، أدكر انكما تخرجتما في اليوم نفسه
من مدرسة الشرطة...ويومها تعرفت اليك...{كم هو مؤلم موت الدين لم نتوقع
موتهم،وكم يتركون أعماقنا جافة وباردة}.
موت -يوسف- تركني مشلولة...وصماء...كان عائلتي كلها بعد ما تبقى لي
وحده...وصرتُ بلا أحد...دابت أزمنتي كلها في لحظة حزن كاسر...شعرتُ أن
العالم قد انتهى وانتهيت معه...هاجمني الألم دفعة واحدة فسلبني رغبة الركض
في جداول القمر الأزرق وباتت كل أشيائي صامتة...
سكنتُ عالما آخر تتحرك فيه الأشياء دون صوت...سكون تام أنساني مع
الأيام أنني موجودة....شعور بالخوف يملؤني كلما أظلم الليل، فأتصور-أغوالا-تفاجئني
لتلتهمني وأشعر أن كل ما حولي يتربص بي وانا اغرق في صمتي الكبير...تدكرتُ
كيف قضوا أعمارهم أولئك الدين حرموا نعمة السمع...
وغرقت في عزلتي وصمتي...اختصرت ايامي في الكتب نهارا وفي القمر
ليلا...أقرأ عن الأبطال وحين يبزغ القمر أجلس لأتأمله واسافر في ضوئه الى
جزر بعيدة ومدن اجمل من التي أقرأ عنها في الكتب...
القمر... وصمتي وايام ترحل{ لمَ لا انسى أنكَ كنت جرحي وخيبتي
الكبرىظ لم لا أنسى أن الرجل لم يتعلم بعد كيف يحب في هدا الوطن؟}.
علمني القمر أن أنسى وحدتي بعد ان ألفته ولم يعد لي سواه...كنت
أحدثه لساعات وأشعر ان ضوئه يمتد ليلامس قلبي...وأسافر فيه الى آخر حدود
الشوق ويتحول تدريجيا الى طائر أبيض يطير بي في أجواء بعيدة....اعادني
القمر الى أمنياتي الطفولية واشيائي الصغيرة...جعلني اضحك من جديد كلما
امتد بصري اليه{لمَ لم اكتشف يومها زيف تعاليمك وانت تحدثني عن الحب
والأفراح القادمة؟لم صدقت كلماتك وانا أدري أنها تجرني الى غابة شوك
قاتل؟}.
ووقفتَ أمامي...أقسمت لي بحرارة انك ستحبني الحب كله،وأن ما حدث لم
يغير من حبك لي شيئا...توسلتني وأنت تقرأ على شفتي شعرا وتنثر بلمساتك على
يدي وردا...وأخيرا صدقتك...وتزوجتك...صرتَ قمرا مشعا بعيني وأنت تزرعني في
قصة حب جميلة{ما كنت أدري أن مبالغة الرجل الكادب في الحب دليل على أنه
يخون وباصرار...وما كنت أدري أن قبلاتك كانت سما تديعه بشفتي لئلا تستنطقك
فيبدو وجهك المخادع}.
يوم رأيتكما اكتشفتُ كم كنت تخدعني وكم كنت اصدقك بغباء
أنثوي...كانت صديقتي وكنتما في سريري...صمتتْ وحاولت أن تعتدر وتبرر...
يومهل لم تثرن لمساتك وأنت تحاول أن تستبقيني...كانت أصوات كثيرة
تملأ رأسي...شيء يشبه البرد طغى على جسدي وكنت أبكي...طلبت اليك أن توصلني
الى بيتي...لم أكن مستعدة لأكثر من الصمت...{كم كانت الطعنة قاتلة وانت
تبدي لي وجهك الحقيقي...وكم كنت حزينة}.
وجدتُني مرة أخرى مع الصمت المخيف وبكاء مر في صدري....حملت نفسي
الى الشرفة...كان القمر شاحبا...صرخت به في صمت، لمَ تركتني اصدق أحلامي؟
لمَ لمْ تكشف لي كدبه؟ لمَ تركته يخدعني ووحدك تدري كم كنتُ أحبه؟ ولم
أنتبه الا وأنا آخد شيفرة حلاقة وأمزق شرايين يدي وبحقد...
حين رايتك وأنا على سرير المستشفى كنت ضائعة في الفراغ وأنت تبتسم
بدفء...كتبتَ على ورقة جملة واحدة ووضعتها أمامي: لست وحدك...سنموت معا ادا
كان لا بد من الموت...
ومرة
أخرى نسيت خيبتي وتبعت القمر...تلاشيتُ كدخان في حفلاتك كل ليلة...الموسيقى
والكؤوس ونساء نسيتُ أشكالهن وألوانهن، ونسيت معهن أيامي وغابت كل
أقماري...قلت لك: تعبت من السهر وكل تلك الوجوه....قلت لي: عليك أن تحبي
عالمي ما دمت تحبينني{ هل أحببتك؟ أم فقط كنتُ أهرب فيك لأنسى؟ وأنت تراك
أحببتني أم هو فقط شعورك بأنك قمر يضيء درب كل النساء ثم يمر على جثثهن
ببرود كبير؟}.
أدري انني دمرت حياتي يوم قبلت بزوجي الأول...وما كنت أدري أن داك
الدمار كان كافيا لتدمير كل ما سيأتي...أقلب صفحات الكتاب وأقرأما
قاله-كافافي-ألا ترى أنك يوم دمرت حياتك في هدا المكان، فلقد دمرت قيمة
حياتك في كل مكان آخر على وجه الأرض؟.
يبكي القمر في داخلي...وأهرب الى المزينة لتجعل مني دمية زوجي التي
يقدمها في كل سهرة لوجوهه على كرسي متحرك...يحدقون ويتكلمون لكني لا أسمعهم
وأكتفي بابتسامة صامتة تبدو على وجهي وانسحاب من القاعة...
يرقصون ويترنحون وأبقى وحيدة مع الكرسي المتحرك...أهرب الى
الشرفة...أهرب للقمر...ووجها لوجه ألتقي بك...شفتاك غارقتان في صدرها...كان
القمر مضيئا كشف لي وجهيكما...
أدرت الكرسي لأعود الى القاعة...أمسكتَ بالكرسي وأدرتني اليك...كان
وجهك غائبا...قلتَ أوتوهمتكَ تقول: لقد توهمت...لم يحدث شيئا.قلتُ لك: لم
تبرر وأنا لم أتهمك بشيء؟.
قطعت ُ الصالة...لم يتوقفوا عن الرقص...لم يشعروا بوجودي...وصلتُ
الى باب الشقة وانتبهت خلفي...كان كل شيء غائم في عيني، تمنيت في تلك
اللحظة لو أنني أيضا لا أرى...
أضيفت في
14/03/2006/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
شيء كالحب...
الحب خدعني ...أم أنت؟
هذا وجهك مازال شاهدا على موت الحكاية، وذاك قلبي المزروع بكلماتك
والحلم:(أقبل عينيك كل ليلة وأدعو الله أن يحفظهما لي...عيناك نجمتا أفق في
روحي تشرقان).مازال صدى كلماتك يأتي الى القلب فيهزني كشلال حب ويفتح عمري
لهدير شوق يجرفني مرة بعد مرة لأشد صورتك الى صدري وأبكي كطفلة ضائعة غيابك
المفاجىء وأنت هنا تولك في عيني ودمعي ورسائلي اليك...
أكتب اليك كل ليلة...لم أنس عاداتي معك...أذكر انني قلت لك يوما:
أجمل ما أحب فيك رسائلك...عدني بأن تكتب الي دائما وألا يقتل زواجنا شوقك
ورسائلك الي...يومها ضحكتَ ثم وعدتني قائلا: سأظل كاتبك المفضل...أرجو فقط
ألا تكتشفي يوما زيف رسائلي...لم انتبه لتعليقك لكنني فرحت بوعدك، كان
تأكيدا آخر لي بانك تحبني الحب الذي أريد...كتبت لك بعدها( أريد أن أحبك
هكذا...بكل جنوني ورغبتي في أن أتوحد بك...كن عاشقي دوما...).
كان كل شيء يسحبني اليك وبقوة...كنتَ تمتص ايامي بلذة وأنت تقرأ في
عمري اجمل تفاصيل عشق أنثوي...كان صدقي الوجه الآخر لحبك الذي تنفسته زمنا
على الورق...
أقرأ رسالتك في هذا الصباح الماطر وأقرأ معها أزمنة الملح الذي يسد
منافذ المدن السحرية...
أعيد قراءتها وأركض في الشوارع والدمع يسبقني...تعيدني الشوارع
ذاتها لكل الأقمار المطفأة في وطن انطفأ فجأة في عيوننا...لماذا تقتلنا
أوطاننا بقسوة؟ أسألك في صمت وأنا أقف في المكان ذاته الذي ودعتك فيه آخر
مرة...أجمع كل أحلامي الصغيرة وأنا أنثر وردا هنا ووردا هناك...أنسق المكان
وكأني أعد مجرة لقادم جديد...أشعلت شمعتين وكتبت لك على بطاقة الهدية(الى
الرجل الذي أضاء عمري...ستبقى دائما فرحي ودهشتي...).
كان العام الثاني لزواجنا...وكان الحب ثالثنا...طال انتظاري وأنا لا
أزيح بصري من على ساعتي والشرفة المفتوحة على الحب تعيدني الى ليلنا
الجميل...موسيقى-شومان-وقصائد-بايرون-وحبك الكبير...كم كنت أحبك
يا-خالد-وكم كان بعمري من أحلام...
أعود الى ساعتي والشمعتين الذائبتين...اعيد الاتصال بهاتفك المحمول
ومرة أخرى أجده مشغولا...لمَ تأخرت؟ كيف تنسى عيدنا؟ عذرك غير مقبول،
أعاتبك في داخلي وأرسم الجواب لأسئلتي: الجامعة تأخذ الكثير من وقتي...انها
تأخذني منكِ لكني لا أنسى أشياءنا الجميلة...وتدخلني صدرك فأنسى كل عتابي
وأستسلم لدفئك والكلام الجميل...اقف مرة اخرى لأطل على الشارع...أرى مكان
سيارتك فارغا والظلام قد بدا يغزو المدينة...الساعة تجاوزت التاسعة...اشتد
خوفي وبدأت الظنون تتلاعب بي...أدير رقم هاتفك للمرة التي لم أعد أذكرها
ولا شيء...
ماذا حدث؟ أين أنت؟أسأل والصمت وحده يلفني...أوقفت المسجلة وداهمني
الدمع وأنا أتأمل ساعتي التي تجاوزت العاشرة...اسمع جرس الباب، فأركض بلهفة
نحوه وأنا في قمة فزعي وانهياري ورغبتي في أن تضمني بقوة...فتحت الباب دون
أن أسأل كعادتي فاصطدمت ب-عمر-صديقك...تراجعت الى الوراء وقد عقدت الدهشة
لساني...كان صامتا فخرج السؤال من فمي بصعوبة: ماذا هناك؟ -خالد-لم يعد لحد
الآن...هل...وقبل أن أكمل سؤالي قاطعني:أنا آسف يجب أن تأتي معي...قلت: الى
أين؟ قال: الأمر يتعلق ب-خالد-...انه بالمستشفى...ودون أن أدري تبعته وقد
تاهت كل الأشياء مني...
وصلنا الى المستشفى...سألته: في أية غرفة هو؟ قال:
تعالي...سترينه...ووقفت أمام غرفة كبيرة لا تحمل سوى حرفين بالفرنسية لم
أفهم الام يرمزان...فتح الباب فتعالى الىُ صوت بكاء مر... ودخلت...كانت
صناديق كثيرة أمامي وجثث ممددة على الأسرة يتقاطر منها دم...عرفت للتو أنني
في الغرفة التي يحفظون فيها الجثث...أنساني صراخ المرأتين اللتين أمامي
خوفي فانتبهت الى -عمر-وسألته: أين -خالد-؟ماذا حدث له؟لم جئت بي الى
هنا؟وقبل أن يقول شيئا، تقدم مني رجل وقادني الى سرير في آخر القاعة...رأيت
قطرات الدم قد أحدثت على الأرض بقعة كبيرة...كان قلبي يكاد يخترق
صدري...قال الرجل وهو يزيح الرداء: انه زوجك...نريدك أن تتعرفي على
جثته...وطالعتني كتلة لحم ممزقة...ولم أفق بعدها الا وأنا على سرير
المستشفى...كان-عمر-الى جانبي وكان صمت كبير يخيم على الغرفة...كان سؤال
واحد يتردد في داخلي: لم تركتني؟ولم تموت الأشياء الجميلة في هذا الوطن؟
أقلب اللحظة رسالتك وأقرأ(تراك مازلت تقرئين رسائلي؟كم كنت رائعة
وأنت تتشكلين بحروفي في كل يوم أمر به على أحلامك...وكم أحببتك
بألواني....سأكتب اليك دائما...) كيف أصدق موتك وأنا لم أر غير كتلة لحم
معجون؟أخبروني أنهم قتلوك في حاجز مزيف، لم تكن الوحيد...كان معك
كثيرون...لم أعرف لم كنتَ بتلك المدينة وكل مدننا صارت تسد منافذا الحواجز
المزيفة.كيف أصدق موتك ورسائلك تأتي لتذكرني بأنك مازلت حيا...لم لمْ
تعد؟ورسالتك لا تحمل عنوانا...هل يمكن أن تعود؟وأنا مازلت أتفقد الأمكنة
الصامتة بعد رحيلك وأرفض أن أغادر ذاكرتي...أرفض موتك وأنت تقيم بأيامي
وتستوطن عيني...أريد أن أهرب بك بعيدا...نرحل معا في غيمة أو نتكسر معا على
مشارف أرض سحيقة ونتوحد بعدها...لم تركتني؟ لو تدري كم تغيرت الأشياء بعدك
يا-خالد-؟ ولو تدري كم أنا يقتلني الحزن من بعد رحيلك؟ورسائلك تأتي
بانتظام...لكني لا أعرف لها مصدرا...هل تختبر حبي؟ هل تظاهرت بالموت فقط
وستعود فجأة ؟ كنتَ تقول لي دائما أنك تعشق ذاك الشاعر الذي ذاب في
عيني-ريتا- وهو يردد بأن الشعراء هم أول القتلى وآخر من يموت...ولم اعد
ادري ان كنت أعيش معك حيا أم ميتا فحملت رسائلك الى-عمر- وطلبت اليه أن
يتحقق من موتك...سألني: أما زلت تعشقينه؟ يجب أن تعتقدي بموته، ليس الرجل
الوحيد على الأرض...قلت له:-خالد-لم يكن رجلا...كان وطني وحلمي وكل ما آمنت
به من مثل وجمال...أكدت عليه أن يتحقق ومضيت...
ووصلتني رسالتك التالية...كان على جهتها الأخرى عنوانا...ركضت
كالمجنونة الى الشارع وأخذت سيارة أجرة، أشرت الى العنوان...ووصلت...وقفت
أمام الباب...تذكرت أنني زرت هذا المكان يوما معك...كان معرضا للرسم
أقامه-عمر-ودعا اليه كل أصدقائه المقربين فقد كان مولعا بالألوان...كان
صديقك منذ جمعتكما-دمشق-وظل صديقك بعد أن جاء الى -الجزائر-وأقام فيها...لم
تنسه-الجزائر-دفء السوريين ورقتهم...يومها طال بنا الحديث عن
الرسم...عن-فان غوغ-و-دالي-و-سيزار-وغيرهم...أتذكرأنك قلت لي يومها و-عمر-
يعرفنا الى لوحاته: أتدرين أن هناك من النساء من تنحاز الى الرسام وتترك
الشاعر؟قلتُ لك: أما أنا فلا أرضى بغير جنون الشعراء...يومها قال لي -عمر-:
لا تكوني واثقة سيدتي من الشعراء فهم أو ل من يحب وأول من يخون...فقلت أنت
معلقا: اعترف بأن للشعراء سحرهم...
لم أنتبه في غمرة دهشتي للعنوان...كان بيت صديقك-عمر-...قرعت الجرس
ثم مددت يدي وفتحت الباب بعد أن طال انتظاري...تعالت الى موسيقى
هادئة...تقدمت بخطوات بطيئة الى داخل الرواق فطالعتني لوحة كبيرة، كانت
لوحتي...اندهشت أكثر وأنا أتقدم الى الداخل، كان كل جدار يحمل لوحة
لي...وجاءني الصوت من الخلف: مرحبا...انتبهت، كان-عمر- يتأملني...سألته: كل
هذه اللوحات لي؟قال: انها أجمل ما رسمت...قلتُ: اذن لم يكن -خالد-هو الذي
يكتب لي كنت أنت...قال:كان يجب أن تعرفي...سلمني ظرفا ، قلت : ما هذا؟ قال:
انه لك... تركه لك -خالد-، زارني في تلك الليلة.فتحت الظرف كان يحوي جملة
واحدة(كم تمنيت أن أكون كما تعتقدين...أعتذر لأني خدعتك).
عرفت بعدها أنك كنت تخونني باستمرار...وأنهم يوم قتلوك كانت الى
جانبك امرأة أخرى...وكانت زوجتك الأخرى في تلك المدينة...شعرت بدوار وأنا
أتعرف اليك في جلسة حزن دعاني اليها-عمر-...أدركت أنك سرقتني منه...كان
الرجل الذي أحبني بصدق وأنا التي رفضت ألوان وفضلت قوافيك/قوافيه...تهدمت
قصائدك الواهمة في عيني وأدركت كم كان الحب وأنت تخدعاني...ماجت بداخلي
الأشياء وكنت وحيدة...دفعني جنوني بك الى هذا الدمار الكبير وهذا
الخواء...أحاول أن أشد بقايا قلبي المكسر لأحتمل الريح...خرجت من منزل-عمر-
وقد وعدته بأن أحب الألوان يوما...
أضيفت في
16/01/2006/ * خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
مملكة الندى
كثيرا ما كنت أحلم بامرأة تشبه الضوء...يظل نبعها في عيني شعاعا
يمتد الى المدى فيبعث في القلب رغبة الفرح والركض من جديد...كثيرا ما كنت
أحلم بامرأة تعانقني كموجة وتتسلق صدري كزهرة ياسمين فأضمها بين راحتي
وأنام ملء القلب...((منذ الصغر وأنا أحلم ببيت في شرفة الجبل ...بيت جميل
له سقف من قرميد أحمر،يزنره غمام أزرق، يرف حوله سرب من الصنوبر الأخضر،
وعلى شرفته تتفتح الأودية السحيقة والآفاق البيض...كنت أكبر وفي قلبي يكبر
هذا الحلم الشهي الملون...)).
كثيرا ما كنت
أحلم...
غير أن نبع الضوء انطفأ في القلب فجأة وأعلن الحزن احتلاله لدواخلي
بعد أن أحالني على دروب الوحدة والصمت وليالٍ أكثر بردا وغيما((...دائما في
الأفق مدن خضراء وممالك من ندى للذين يحبونها ويحلمون بالغوص في حضورها
ودهشتها...)) قالت لي في الحلم يوم رأتني أركض خلف قمر مكسور...داعبت حزني
أو فرحي وأدخلتني مدنها الملونة ...قلت لها ((انكسر الحلم الشهي وذاب البيت
الذي به كنت سأهزم هذا الشجن الداكن...القرميد هاجر خارج الحلم...شرفة
الجبل مازالت تنتظر، غير أن القلب اجتاز ضفة الحلم...المدى الذي من بنفسج
مازال ينتظر،غير أن الضحكات والأطفال والأغاني والقصائد ولدت بلا
أجنحة...هكذا فر الحلم من القلب أو فر القلب من الحلم...ارتمى المساء
الرمادي الشاحب في القلب فأعتمت الجهات...)).
أتحدث الى البحر
الساكن عن امرأة شقت صمتي وتسللت الى كهوفي المغلقة وأقامت مملكة من ندى في
يدي...أوقدت في أعماقي فتيلا أزال عتمتها...وكنت قبل أن أراها أتدحرج نحو
انهياراتي المؤكدة...كنت أرقب موت أشيائي في صمت، وكانت الأمنيات تغادرني
تحت وطأة خوفٍ شرس زاحم ذاكرتي وقد كانت تلوح فيها صورة امرأة تشبه الضوء
أو البحر...
منذ فتحت دار
النشر هذه وأنا أنتظر أن تأتي تلك المرأة التي تراود حلمي...وضعت لوحة
للبحر في واجهة مكتبي، وزينت كل الزوايا بنبا تات مختلفة انتقيتها
بدقة...وكنت أشتري باقة ورد كل صباح لأدفىء بها المزهرية الجاثمة أمامي...
وانتظرتها
...بين صباح ومساء أستقبل زبائني...أ ودع وجوها وألتقي وجوها...لكن وجها
واحدا بملامح باهتة يلاحقني...يتراءى لي في الكتب وفي الكلمات...وجه امرأة
تكتب، تنصهر في دمع الآخرين ولا يتعبها سفرهم فيها...امرأة تتوزع في
الأشياء فتمنحها ألقها الدائم...تذكرت أن النساء في هذا الوطن قد اكتسبن من
جباله وصحاريه شموخهن وطيبتهن...من /كاهنة/ ملكة الأوراس و/تنهينان/أميرة
الصحراء، الى/نسومر/و/حسيبة/...النساء في هذا الوطن يشبهن حلما غامضا لكنه
يبعث الى آخر حدود الرغبة...وكنت أنتظر يلك المرأة التي بدأت أحبها بغموض
ودهشة كبيرة...بدأت أتمدد في تعرجات جسدها الطري وأنا أرسم تفاصيله بكلمة
واحدة رددتها مرارا: أحبكِ ...أردت أن أنقش وجهها على طراز جزائري فيه من
العنفوان الكثير ومن الدهشة أكثر...وكتبت لها أولى رسائل الحب((أراك في
ذاكرتي شمسا لمدن مررتِ بها فتركتِ بها عطرك وداعبت يداك شوارعها وأنت
تقرأين أسفار عشقك فارتسمت في الأفق قصائد من غيم بنفسجي...)).كنت أدري أن
امرأة تكتب تغريها الكلمات وتدهشها...تفقدها مقاومتها...وانتظرت أن أهديها
رسائلي لأبقيها لي وأذيبها في عمري ليتجدد...
ووقفت أمامي
فجأة...ابتسمتْ كفجر مشرق...تقدمت، وتقدمت معها مدن مضيئة سحبتني اليها
برفق فأدهشني حضورها وذهلتُ فما احتواني المكان...جلستْ قمرا مشعا فأضاءت
عمري الغائم...سألتها بعد صمت:لمَ تأخرتِ كل هذا العمر؟قالت:الكاتب هو
الرجل الوحيد الذي يلغي العمر من حساباته ولذلك تأتي كل أشيائه
متأخرة...صمتُ مرة أخرى وضوء عينيها يتوزع في المكان بينما أتابع حركات
أصابعها وهي تحاول التخفيف من ارتباكها... ها أنا أخيرا أجدها...انها ضوئي
وبحري وغيمتي الدافئة...قلتُ في نفسي وأنا أدقق في وجهها...قالتْ:جئت لأنشر
ديواني الأول فهل أستطيع؟ ضحكتُ في أعماقي وأنا أقول:أجل .انه الخيط الذي
سيشدها الي...الطبع حلم كل امرأة تكتب...سأضمن حبها بنشر ديوانها...ثم
أجبتها: طبعا...نحن في خدمتك...قالت: أنا زوجة صديقك/منير/...كان يحدثني عن
صداقتكما قبل زواجنا وظل دائما قريبا منك حتى بعد ما غيرنا اقامتنا لكنه لم
يجرؤ على أن يطلب اليك طبع ديوان زوجته وها أنا قد جئت بنفسي اليك...أترك
لك الديوان لتقرأه على مهل ...سأتصل لاحقا...
وغادرتِ
المكان...تركتني صامتا ومذهولا وغابت في الفراغ بعد أن دفأني حضورها للحظة
وأضاءت عيني...حدقتُ في لوحة البحر، امتدت أمواجه نحوي...، شكوته وحدتي
وحلمي المنطفىء في ديوان شعر تركته امرأة تشبه الضوء على مكتبي...أخذتُ
الديوان فطالعني عنوانه: مملكة الندى...قلبت صفحته الأولى وقرأت(( يفقدنا
الكلام أحيانا ما ربحناه بصمتنا)) يقول الاسبان...أدركت أن امرأة الندى قد
أنستني صمتي وجرتني غصبا الى مملكتها لكني حسدت صديقي على مملكته...
وطن الرجال
اليوم وبعد الذي حدث لم أعد أسأل ولم تعد الأقمار تومض
بدمي...أحرقت أصابعي وتلبست بكل الألوان...منحته العمر وطفولة الأشياء
فدفعني الى المدن القاتلة...اليوم لم تعد في القلب سوى تموجات لطيف سكن
العمر ذات زمن، وصرت كلما مررت على البحر الذي فقد ألوانه وعشاقه أدركت أنه
كان رجل من صدى وهبة ريح...((يبقى الحب دوما ذاك الشعاع الذي نرسم من خلاله
أحلام الزمن الآتي حتى نحتمل أوجاع الآن وانكسارات الامس...)) قال لي ذات
خريف وهو يراني أتلحف بقايا عمري المكسور وأهرب من منفى الى منفى ولا شيء
معي سوى ذاكرتي التي أختبىء منها خلف الحروف والكلمات الباردة...يومها لم
يكن أمامي سوى أن أحبه لأعود قطرة ماء يمكن للمطر ضمها من جديد...
غادركِ الجميع...غادرك البحر والمطر والشاعر الذي طاف بكِ
الأقمار...غادرك الجميع وأنت تعاندين وتصرين على عيش الحكاية التي أيقظتكِ
نهايتها فلم يكن الشاعر عاشقا بل كاذب خبأتِ له دفء البحر فباغتكِ بصقيع
المنافي...كيف غدرت بكِ كل الاشياء وصدقتْ هواجسك الخائفة ليتحول كل ما
حولك الى رماد؟كيف وقفتْ كل الاشياء ضدك حتى الحب؟ما أكذب الأحلام التي
وهبكِ اياها على الورق((...سامنحكِ مملكة من الياسمين...ستكونين أميرة
اشيائي...)).
الآن فقط وبعد أن صار البحر بلا لون ولا نوارس يمكنني أن أقول:ألا
ما أكذب الشعراء في صدقهم...الآن وبعد ان انهارت كل ممالكي التي من حلم
تأكدتُ أنكَ لم تمنحن الا الفراغ وملوحة الأيام...تبعثرني الطرقات
وتتقاذفني المنافي الى المنافي...أفتش عن وطن..عن رجل يأخذ شكل وطن...أفتش
عن شيء في داخلي لم يتجمد بعد، لكني لا أجد شيئا...وحده الحزن المدمر يملأ
القلب ويمتد الى هذا البحرالذي غدرتْ به مثلي كل الأشياء فلزم الصمت وبكى
دون دموع...كم كنتُ أحب البحر يوم كان للاشياء طعم الفرح والضياء...تمنيتُ
دوما أن يتحول البحر الى رجل دافىء بيدين كبيرتين فيرفعني الى أعلى حتى
أصير نجمة في الفضاء البعيد، تمنيت أن أركض مع رجل أعشقه على امتداد البحر
وأتحول الى عروس البحر ثم ابدأ الغناء...لكن الأشياء تغيرت...واضاع البحر
وجهه في وطن صار بطعم-الدِفلى-...!.
ماحجم الحب في وطن صار عاجزا عن الحب؟ما حجم الحزن؟يوم سألتُ
–منصور-عن سر الوطن الذي يتآكل يوما بعد يوم...قال لي: الوطن أجمل أمنية لا
تتحقق في حياتنا أيتها الشاعرة! أجمل اشيائنا نعجز عن تحقيقها...الا
تعتقدين؟يومها حزنتُ ثم ضحكت لفلسفته المقنعة...ما كنتُ أدري أنه سيكون
امنيتي الأجمل التي عجزت عن تحقيقها والتهمها دوني الوطن الجائع!
–منصور-كان الحقيقة التي أهداني اياها الوطن-جثة متفحمة-والتي بقيت لسنوات
أرفض تصديقها! أرفض أن أقتنع بأنني ودعته ذات ثلاثاء حزين وأنه لن
يعود...! لن ينتظرني كعادته ليدخلني معطفه فأمتلىء دفئا...لن يأخذ يدي بين
يديه وينفث فيهما حرارة كلما كان البرد قارسا...لن يقيني من مطر الطريق
الجارح...ما كنتُ ادري أن حلمه الكبير سينتهي به-جثة متفحمة-في سيارة أكثر
تفحماً...كان حلمه أن يلبس تلك البذلة الزرقاء الداكنة...ان يكون
شرطيا...مازلتُ اذكر يوم التحق بثكنته،باغتني وأنا أغادر الجامعة بزيه
الوظيفي...اندهشتُ وفرحتُ غير أني لم أُخف خوفي عليه وأنا أدري أن موت شرطي
يعني انتصارا في عرف الذين حولوا الوطن الى لعبة دموية...! غير أن الحلم ما
لبث أن غدربي وسرق الوطن أجمل فرح اعتقدته لن يضيع...! .
ما أوحدني ...! صرتُ كالبحر الذي فقد ألوانه وعشاقه...! عادت مرة
أخرى الطبول المرعبة تدق بصدري الممتلىء وحشة...عدت الى غربة الأيام من
جديد...ومن جديد صارت الأشياء تخيفني بعد ان احتميت بصدراحترق واحترقتْ معه
ذاكرتي واشيائي الجميلة...احترق العالم بعيني ولم يبق سوى الدوران حول
الهواء ظنا مني أن الأحلام قد تعود...! .
يا عمري الموجوع...! يا مدني الباكية...!((عيناكِ.يا مدني
الخضراءنوفصولي التي أحب...! )).أعيديه يا كلماتُهُ الى صدقه
الأول...أعيديه يا-دمشق-فوحدكِ تعلمين انه أقسم لي مرارا أنكِ
ستحبينني...باركيهِ بقطرة من مائك ليعود اليه صفاؤه الأول وهو يرددلي((جمعنا
حب تشكل دون رحم ولكنه تخلَق في وطن يعرف تماما معنى الحب كما يعرف معنى
الدمع...! )).كم كنتَ كاذبا يا شاعر الريح! وكم كانت لهفتي عليك! الآن فقط
أعترف أنه ربما جمعتنا كل الاشياء الا الحب وانك ما عرفت معنى الدمع ابدا...!
.
مهلا أيها الحزن...لا شيء تبقى سوى مدن الفراغ...لا حب فيك يا مدن
الفراغ ولا حلم...احترق البحر...واحترقتُ دونك...ظننتُ انني توحدتُ به
حينما جاءتني كلماته((على الشرفة المفتوحةن أمام المدينة التي تحترق-جزائرها-يجلسان
جنبا الى جنب...في عينيها حزن من ينغلق أمام خطواتها الطريق الجميل وفي
وجهه كىبة جبل ينهار من الداخل...يغوصان معا في قرارة الأشياء...)).يومها
قررتُ أن أهرب من مدن الفراغ لأسكن مدينتك...ما كنتٌ أدري أنني وحدي سأظل
أحترق...وحدها مدني ستظل الريح تؤسسها...أكان ممكنا يومها أن أصمد أمام
دفئك وهو يغزوني في جلسة شعر؟ أكان ممكنا أن أظل صامتة ورسائلكَ تأتيني
مطرزة بالياسمين؟
اعترفتَ بكثير من الحزن أنك فقدت امرأة...واعترفتُ بأن رجلا كان كل
أحلامي اختطفه الموت ...حدثتني عن كل ما مضى حتى صرتُ أقيم معك في ماضٍ لا
علاقة لي به سوى أنكَ عشته...حفظتُ حديثكما..أحلامكما...هديتك الأولى لها
وقبلتك الأولى...حفظت مراسيم احتفالك بعيد ميلادها ...طقوس البحر وشعرها
الطويل...حفظت أدق تفاصيل الحكاية...وحاولتُ أن أصمت...أن أبكي...حاولت أن
أهرب لكني فشلت...تساءلتُ أكثر من مرة: لمَ أعذب نفسي بك؟ ولم تصر على أن
تعذبني؟وعرفت...لقد أحببتك...دفعتني اليك كل جراحي وهذا الوجع الممتد
أشواطا في دمي...دفعني اليك وطن لم يمنحنا الا أكفان أحبتنا...دفعني اليك
الموت فاءذا بالموت أيضا يدفعك الي...! .
كنتَ جميلا أيها البحر فلمَ غادرك عشاقك؟لم غادرتك عرائسك؟أتدري أن
الشاعر الذي أقسم لي يوما أمامك أنني حبه الكبير قد رحل وأن كل وعوده كانت
كاذبة؟كان حبا على الورق...كان شوقا وهميا أهداني اياه ((...كان مكتفيا
بمعرفة أن ثمة في مكان ما من الأرض مدينة اُختُطف فيها قلبه،وأن طعم هذه
المدينة ما يزال بين شفتيه انه ايضا مسكون بالشوق اليها...حين ينسكن
الانسان بالشوق تبدا الحياة تأخذ معناها ...حين تكتسي الحياة بالشوق تصير
أجمل...حين تصير أجمل تقترب من الشعر ثم ربما تصير شعرا...تكبر المدينةن
وتنفتح بواباتها السبع لتدخلها المدن كلها...! )).
شيء ما في ذاكرتي تكسر...وأشياء اخرى في داخلي احترقت...وصرتُ كلما
فتشت عما تبقى منكَ في داخلي لا أجد الا أشواقي التي فرت يوما لتسكن مدينتك
البعيدة واذا أنا أنسكن بحزنك وصمتك...
ابكي الآن في هذا الفراغ...ابكي عمركِ المزروع شوكا...! جاءكِ وقد
غير الأسماء والأشياء...قال لكِ: هذا الياسمين وبلهفة مددت يديك فاءذا
الصبار يدميهما...يداك المذبوحتان بالصبار تمتدان الآن في الفراغ
الكبير...تُذكرانك بأنك رحلتِ معه يوما وفي عينيك ألف مدينة بعيدة يملؤك
عطرها ويمتد في قلبك شجرها...قال لكِ أمام البحر: لنودع الحزن
هنا...سأمنحكِ أجمل مدن الياسمين يا سيدة الفل والياسمين! قلتِ له بصدق
الأنثى: وسأمنحك زمنا أخضر تأخذ فيه الأشياء شكل الطفولة الأولى! ما كنتِ
تعلمين أنه سيطحن طفولتك كالقصب اليابس وستفقدين ملا مح وجهك الهادىء...وبأنه
سيعذبك وبسخاء! اعتقدتِ دائما –وبتفكير طفولي-أن الحب الكبير يغير العالم!
لمَ لمْ تفكري بأن الحب قد يقف ضدك يوما وأنتِ تلتقين برجل يغير كلماته كما
يغير أثوابه؟ لمَ كنت تصرين على أن الطعنات من الخلف عادة لا تكون قاتلة بل
تؤكد أننا في المقدمة؟.
ابكي الآن أكثر...توزعي في مدنك الفارغة...لا أحد يسمع عواءك الجريح
في مدن الموت...كان مجرد صدى...تزوجتِ رجلا من صدى...ترك أشياءه مع امرأة
قبلك وتركتِ معه أشياءك...كرر معك الحكاية بتفاصيلها...يعيش معك
ومعها...يداعب شعرك الطويل ويغيب في عينيها...يحملك بين ذراعيه واذا به
يحملها...التفاصيل ذاتها لم تتغير...كنتِ تعلمين الأماكن التي سيأخذك اليها...الشاطىء
نفسه، الكافيتيريا نفسها، المتحف أيضا...حتى الكلمات ذاتها...شيء واحد لم
يأخذك اليه مثلها...القبر...تمنيتِ أكثر من مرة أن لو يحملك الى جانبها
ليريحك من عذاباتك...تمنيتِ أن تفقدي ذاكرتك لتنسي...لكنك بقيت
ساكنة...مشاعرك تذوب ومعها تذوب أيامك الرتيبة الى جانبه...صرتِ نسخة أخرى
لامرأة ليست أنتِ...عشت عمرها مع رجل تخيلتِ في لحظة أنه عالمك الكبير وأن
عمرك لن يكفي أبدا ثمنا لسعادته...عشتِ وهْما جميلا تراءى لك من خلف
الكلمات الملونة فصدقتِ حبا على الورق ورجلا أقسم لك أنك لست كالنساء وأنه
نسي كل النساء وما ان رآها حتى فرً من يديك فقط لأنها تشبهها...تشبه امرأته
الأولى...قال لك ببرود: آسف...انها كل ما أتمنى...ورحل معها...
صمتِ ثم انسابت دموعك...صدقتِ اخيرا أن الطعنة قاتلة حتى ولو كنتِ
في المقدمة...خرجت الى الشارع...صفعك العالم البارد...انتابك شعور بالتعاسة
وبالغضب...ركضتِ بجنون وأنت تمرين بالوجوه الكثيرة، اكتشفت كم هو بارد وطن
الرجال! اكتشفت خيبتك ...تذكرت ملامحه المغروسة في أعماقك...اختلطت دموعك
بالمطر الذي بدأ يسقط للتو...رأيته أمامك...مد يديه اليك...تراجعتِ الى
الخلف، اصطدمت بالجدار.انتبهتِ ، كان سائق –التاكسي-يسألك: أين تنزلين
آنستي...؟ أشرتِ له وعدتِ تقرأين الرسالة اذ توقفتِ عند جملته:...عيناك
جميلتان...كذلك شعركِ...لماذا كان قصيرا...؟
رجل المساء
جاء...ومعه اتسع عمر الأشياء ورأيتها تتوالد من جديد...وقبله غاب
القمر الأزرق
واختنق المكان، ومعه كنت أنا أختنق ويسد منافذي الظلام الكثيف...
جاء...وركضتُ في
عينيه، صرخت في صمت: لا تغب أيها القمر...ظلام الأمكنة يخيفني...
ردتْ عيناه
وسأل: من تكونين؟ أنا أجهل قراءة عيون البشر حين تبعدهم المسافات ...صرختُ
مرة أخرى في صمت: لماذا أضعتني؟لماذا تركتني أتوهم مدنا ليست لي وأحلام
ليست لي؟.
الحلم بالسفر ظل
يدفعني الى جزر غريبة ومدن بعيدة...ظل يملأ ذاكرتي بوجوه كثيرة لرجال
يشبهون مدنهم الجميلة...
الحلم بالسفر سد
كل مسامات روحي لحب أشيائي هنا...فكرهت أن ينتهي بي العمر في هذه المدينة
المنسية...كرهت وجوه الآخرين التي تذكرني بتعاسة أيامي بينهم...وكرهت حبك
لي...كان قيدا لا بد من كسره...كان الوتد الذي يمكن أن يربطني بهذه المدينة
الى الأبد...تصورتني الى جانبكَ امرأة بلا أحلام وبلا وجه...وجهي تصورته قد
ضاع في رتابة الأيام وصعوبة العيش...تصورتني أحمل تعاسة نساء الأرض جميعا
وأنا أجلس كل مساء أنتظر عودتك متعبا لتسمعني موال الاقتصاد اليومي:أنا
أشقى..لا تبذري...استغني عن اللحم في الغداء...استغني عن الحليب
مساءً...فاتورة الكهرباء كانت مرتفعة هذه المرة...لن أتمكن من تلبية كل
المتطلبات...
هكذا تصورتني
الى جانبك...أفقد طعم الأشياء شيئا فشيئا لأتحول الى جسد يطحنه الملل
وتشابه الأيام في عيني... قلت لي يوم وقفت لأودعكَ: الحب أقوى من
المسؤولية...قلتُ: مخطىء...لا يقتل الحب الا المسؤولية...قلتَ: حبنا
سينتصر...قلتُ: الحب وحده لا يكفي...للواقع شروطه...قلتَ: وأحلامنا؟قلتُ:
سننساها...الايام كفيلة بمنحنا أحلام أخرى...
وجهك كان ضائعا
في متاهات اللحظة التي جمعتنا لنودع بعضنا...لم أقل شيئا بعد أن رأيت ملامح
وجهك تغيب...احساس بالألم داهمني ما لبث أن تحول الى رغبة في الهروب...رغبت
في أن أنهي اللقاء بسرعة وأغيب عن وجهك الذي بدا لي ساعتها غريبا...بلا دفء
وبلا لون...طال صمتك وطال وقوفي أمامك...نطقتُ بصعوبة...قلتُ لك:وداعا...لا
تنسى أنني أحببتك...والآن لا بد أن أحب أحلامي أكثر...ومشيت...قلتَ أو
سمعتك تقول: -أخاف عليك من أحلامك...أخاف أن تضيعكِ وأخاف أن تضيعيها فيصعب
عليك امتلاكها من جديد...وتمزق وجهك في ذاكرتي ليتلاشى بعدها...نسيته وأنا
أستعد لتشكيل أحلام جديدة...ووجوه جديدة...كان لا بد أن أقتل تلك اللحظة
التي جمعتني بك أول مرة وظلت أجمل ما حدث في العمر...قلت لي يومها: أريد أن
أحبكِ أيتها الطفلة القادمة من جبال الجليد...قلتُ لك ضاحكة: أخاف عليك من
مناخاتي المتجمدة...طفلة الجليد تدري أنها وحدها القادرة على التكيف مع
الفصول المتعِبة ولا تخيفها مدن الثلج القارة...قلتَ : سأعشق لأجلك صقيع
البوادي وسأبني لك قصرا على قمة الجبل...أتحبين قصرا من الثلج؟ سنملؤه دفئا
وتملئينه فرحا...أعدكِ...
وأحببتك...وأحببت قصر الثلج...أحببتك تأتي كل مساء محملا بزهر أبيض، تزرعه
في شعري الليلي وصدقت ُ الحكاية...وصرتُ أميرة لقصر الثلج...وما كنت أدري
أن الثلج سيغزو أيامي ويحولني الى أميرة بلا قصر...قصر الثلج الذي مجرد
حكاية صار في ذاكرتي ألما وسكينا يوخزني فيدفعني لأن أرفض مواويل الحب
الجافة وأبحث عن حلم آخر...ورجل آخر يمكنه أن يهبني قصرا لا يذوب لأنه من
الثلج...
قصور الثلج ذابت
...وذابت معها طفلة الجليد...هوت كل جبالها في لحظة قررتْ فيها ذات مساء أن
تذوب في مدينة أخرى...مع رجل آخر لتسكن القصر...أكان ممكنا بعدها أن أعود
من مدارات الغياب لأن أبدأ الحلم فيك من جديد؟أكان ممكنا هو الوقوف أمامك
لاعلان مساحة أخرى للنسيان أو للتذكر؟.
أتيه في المدن
البعيدة...أتفقد الوجوه المدهشة، والمتوزعة في امتداد اتها...أقسم في داخلي
بألا أعود الى ذاك الوطن...أن أدفن ذكريات الماضي هنا لأولد من جديد...أكرر
لنفسي كل يوم: اياك أن تفشلي...يجب ألا تفشلي...الفشل يعني نهاية
الحلم...يعني العودة الى هناك...الى اللاشيء...
ثلاث سنوات من
التشرد في المدن الغريبة...أفتش في عيون أكثر غربة...المحلات والنوادي
ومجلات الموضة ...السيارات والمقاهي وفنادق البرد لم تحل المشكلة...مشكلتي
كانت في نبضي الذي تجمد...أدركت بعدها أني كنت أفتش عنكَ في تلك الأماكن
وتلك الوجوه...أعيش بلا حب في بلاد تبحث عن الحب...قال لي زوجي بعد ثلاث
سنوات: أنا ما أحببتكِ أبدا...زواجنا كان صفقة...كنتِ تريدين ثراءً وكنتُ
أريد أطفالا...وجهكِ يذكرني بفشل أحلامي...يعيدني الى ماضِ لا أرغب به...أردت
لحظتها أن أقول له: ووجهكَ يذكرني بتعاسة ايامي معكَ...تركت لأجلكَ رجلا
كان يحبني كل الحب...لكني قلتُ له: وجهك ينسيني الماضي الذي لا أرغب به...قال:
لن نتفق...قلتُ: لنؤجل تكهناتنا قليلا...لنحاول مرة أخرى...
ومرة أخرى
وجدتني أتمزق على حواف المدن الهائجة أحاول تجميع الخيوط التي انفلتت من
يدي...وأحاول أن أشيائي القتيلة...قتلت ُ كل أشيائي يوم تركتك ومضيت...ووقف
أمامي زوجي مرة أخرى...قال: أخرجي من عالمي...لا أريدك...نظرتُ اليه وقلتُ
ببرود: أنا أيضا لم أعد أريدك...تعبت من هذا الفندق البارد الذي نسكنه
كغريبين ...تعبت من كل شيء...
وعدت ذات
مساء...عدت بعد أن سلبتني مدن الريح كل أحلامي...وسلبتني حتى وجهي...ووحده
وجهكَ ظل ملتصقا بداخلي يحثني على أن أعاود الحلم مرة أخرى...ماذا تراه فعل
بعد غيابي؟ أمازال ينتظر عودتي؟ تساءلت وأنا أدخل مدينتي
الأولى...مدينتنا...
رأيته...والمساء
يأتي طافحا بالدفء...حدقت بعينيه...لم تتغيرا...نظر الي طويلا ثم حول بصره
ناحية الطفل الذي كان يمسك بيده...نظرت الى الطفل...كان يشبهه...أردتُ أن
أركض نحوه لأقول له: أعتذر...لقد عدت...ضيعت كل أحلامي ولكني اتجهت نحو
أمي.. .سالتها عن الجار الذي يقابل بيتنا...قالت: لقد اشترى هذا البيت رجل
آخر منذ ثلاث سنوات تقريبا...يعيش مع ولديه وزوجته...انه رجل رائع
حقا...لقد تزوجتَ اذن...لم تنتظرن...لن تكون لي أبدا...لماذا لم تنتظرن؟
سالتُ وتخيلتك تجيبني: نحن لا ننتظر من يبيعون أحلامنا...
وقررتُ أن أملأ
أيامي بدفئك حين أراك كل مساء...لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من أن تشعر
بالغيرة من امرأة هي زوجتك...
الرهان
الليل يشد رواحله نحوي بكل البرد المعتاد وجنونه في اقتحام ذاكرتي
بنيرانه،وباقترابه تكبر حظوظ الموت ويصبح من الصعب التكهن برؤية الفجر من
جديد...
الليل ووقْع لحظاته الرصاصية ولا شيء غير الريح تعصف بشوارع مدينة
يداهمها الخوف بقدومه...تحرك أغصان القلب المشدود الى ليالي الدفء
والأغنيات...
وتعصف من جديد...تعصف بقوة...أسمع صوت شيء ضخم يرتطم خلفي
بالأرض،وبحركة رعبٍ كبير أتجه خلفي مصوبا الرشاش الذي أحمله بين يدي متربصا
بالموت كل ليلة...
أتبين من خلال ضوء خافت أنه لم يكن سوى صوت كيس من تلك الأكياس
المكومة قد سقط...أغمض عيني وقلبي يكاد يخترق صدري...ودمعة مكابرة أحبسها
بمقلتي فقد تعلمت أن الدموع لا تليق برجل أمن...وضعت يدي على رأسي وتحسست
جبهتي فاءذا ببرودة جافة تشل يدي [ أيمكن أن يكون هذا هو الوطن؟أيمكن أن
يصبح الوطن لحظة موت مرعب لا غير؟].
تسري بجسدي كله برودة قاسية...ويشتد عصف الريح...أتأمل الشوارع من
جديد وأنا مازلت بالمكان ذاته من وراء أكوام الأكياس...لا شيء سوى الريح
بصفيرها الرهيب تواصل اضطهادها للمدينة النائمة تحت الرعب والموت الملون...
أحدق في الفراغ الممتد وأرفع عينين دامعتين نحو الأعلى فتقابلني
السماء التي لم تعد تزيدني الا اقتباضا وترقبا لليالي أكثر بردا
وموتا...انطلاق رصاصة من مكان ما أمر صار بالنسبة لي أكثر من متوقع[لم يعد
مهما أن نكون في القمة أوعلى رصيف الشوارع ما دمنا في كلتا الحالتين نموت
دون أن ندري سببا لموتنا...ولم يعد مهما أن يتفق أولئك مع هؤلاء أو أن
يختلفوا ما دام الموت لنا ولم يدخل في اتفاقياتهم...].[من قال ان الأشياء
لا تموت فقد أخطأ...الحب...يموت.والفرح...يموت.والوطن أيضا يموت...وكيف
ماتت كل أشيائي أنا الذي ظننتها لا تموت؟].
وراهنت عليكِ...عليكما...على ما تبقى من الحلم المرفوض...راهنت على
أن حبكِ سيهزم كل الرصاص وكل الأيدي التي ستمتد اليك ستتشكل فراشات تتطاير
في الفضاء ناعمة بربيع لم تعشه[أليس محزنا أن يصل الانسان حدّ المراهنة على
الموت؟ويصبح الرهان في علم الغيب وقد يتحول الى كابوس تصعب حتى مشاهدته على
شاشة عرضٍ؟].
راهنتُ...وكسبت ذاكرتي المتجمدة الرهان لأعيش ألمه أكثر من
مرة...فقد كان ليلا آخر للحزن...وللموت...ورأيت تلك الأجساد
المقطوعة...رأيت الدماء تجرف آخر شذرات الفرح المسروق من خوفنا
المتواصل...وتجمدت الأشياء من حولي...هاهو الموت يصل الى بيتي...اليكِ أنت
التي راهنتِ قبلي على وطن أبيض وأمنية طالبتني أنا بتحقيقها بدلا من ذاك
الذي رفضتِ دفنها معه...
وأقول لصديقي:لا شك أنهما قد قتلتا...مارأيك؟سيكون لك ما تريد اذا
وجدتهما على قيد...يقاطعني صديقي:لا تراهنّي على شيء لأني لم أعد أريد شيئا
بعدما فقدت كل شيء...لقد تساوت عندي الأمنية بالموت ومادام الموت يلغي
الأمنيةفي النهاية...أمنيتي كانت أن أعود اليها بعد سنتين لتحضن
حلمي...كانت تنتظر لحظة أدخل عليها فيهتزلي قلبها بدل عينيها اللتين
ودّعتهما الشمس فتتلمس الحائط وهي تردد:انه أنت يا -علي-أليس كذلك؟ وكنت
أودع حضنها كل تعب المسافات وغربة المدن الهائجة...لكني يوم عدت، كان الموت
يتربص بي في كل ركن ولم تكن هناك...كان التراب قد احتواها ولم يكن الا
التعب وحرقة الدمع تعوي بداخلي ولا حضن يذيب جليد القلب...القنبلة التي
ألقيت في الحي كانت كافية لتقتل المئات ولأنها لا ترى فقد اختنقت...قتلوها
كما كل شيء جميل يقتل...وقررتُ ألا أعود الى ذاك البيت...وها أنا أغيّب
ذاكرتي في زجاجة خمر وأواصل الحياة أو اللاحياة...
تهزني كلمات-علي -...تغلغل أوتادا مزروعة بقلبي وتزيدني رعبا...اذن
كيف سأجدكما ؟أم أن التراب سيتكفل بكما؟ويطول الليل أكثر...يفتح بداخلي
أبوابا أخرى للفجائع والتوقعات...ويسلبني كل أمل في انتظار الفجر...
ويأتيني هاتف مبكر،نرجوك ألاّ تحضر فأنت مراقب.وتزداد ذاكرتي افرازا
لصور الدمار وأزداد رغبة في العودة...لم أعد أذكر منذ متى لم أعد الى ذاك
البيت وأجد نفسي فجأة مراقب وطارد...ممنوع من العودة الى مدينتي.ها هي
مدينتي تطردني ن تسلمني للريح والضياع وتجعلني فريسةللشوق والظنون...وكان
لا بد أن أعود.ماذا بعد الموت؟حضنك حلمي والعمر في الكفة الأخرى،ليكن طعما
للموت لقاء رؤياكِ.
وعدت...
كل ما راهنت عليه قد مات...وها أنا أجدكِ جثة مشلولة رفضتها
الحياة...وأجدها جسدا مشوها...
ها هو الوطن يأتي الي في صورة أمٍٍ مشلولة لأنها لم تحتمل خبر موتي
الكاذب فشُلت، وصورة أخت امتدت اليها قذيفة فتركتها حطام امرأة...وها أنا
رجل يغادر مدينته مطاردا برصاصهم،ومطارد بذاكرته من مدينة الى أخرى...هارب
من فزع الى آخر...ويظل يراهن على أشياء يعرف مسبقا أنها ستموت...لكنه يرفض
أن يوقف حلمه...
الجزائر:1998
مطعم الكذب
عيد زواجنا...
وأفتح عمرا للأحلام الخضراء...
تدفعني كلماتك الأولى، في ليلنا الأول الى الركض...أذكرها بدفء تلك
الكلمات((ستظلين شمسا تضيء كياني...لكِ وحدك سأوقد العمر فوانيس حب لا
تنطفىء)).وأتلاشى في صوتك وأنسى ما دونك...تذكرتك في عيدنا الأول وأنت
تهمس لي في مطعم-العشاق-الهادىء:حبكِ وحده غيًر تصوراتي للأشياء وجعلها
أكثر بهاءً ، أعهد بأحلامي اليك فاحضنيها بدفء...يومها بكيت اذْ امتلأتُ
حبا، وعكست أضواء المطعم الدمع المتلألىءبعينيك الصافيتين...أذكر أنك نهضت
من مقعدك وصرخت في الحاضرين:اشهدوا كلكم أنني احب هذه المرأة الجميلة
بجنون...واتجهتْ كل العيون نحونا متفاجأة ثم تعالت ضحكاتهم
وتصفيقاتهم...كنت أضحك وفرح كبير يهزني...شعرت بان عيون الحاضرات من النساء
ترمقني بحسد فازددت التصاقا بك...سألتني: هل أنت سعيدة؟قلت لك: أسعد امرأة
لم تذكرها -شهرزاد-في لياليها...
كأن الزمن توقف
فجاة...
وكأني ورثت
أخطاء النساء جميعا...
كأني أنا قتلت
الحب، فقتلتني الاشياء بردا وصمتا...
أخاف وجع الليل
المزروع في خاصرة الحلم المطفأ بعواصف الملح...أخاف الجمر الممتد بين
أصابعي وأنا أقف أمام هذه اللوحة اخلط الألوان وأرحل الى جزر منسية أبدعتها
ذاكرتي...صرت أكره الألوان فجأة...وصار مرسمي يفتح أفواه جروحي وأنا أذكركَ
عاشقا للباليت ولي،اكتشفت كذبه حين ذابت كل الألوان...كنت ضائعة في حلم
كبير هو أنت...كان كل شيء في عمري أقترب منه انما هو أنت...أبدعت في الحبر
وفي الرسم لكني لم أرسم الا وجهك أنت،ولم أبدع سوى جملة واحدة هي لك((سأختصر
أحلامي كلها في حبك،اختصر في عيني عمرك ولنبدا من جديد)).
صوتكَ في دمي
يزرعني في افق لازوردي...يعيدني للحظة قلت َ لي فيها((حين نرسم،نحتاج الى
وجه جديد يغزونا...وجهكِ يتجدد في روحي كما الحلم...ستبقين لوحتي الأجمل
والوجه الوحيد الذي يؤسس ذاكرتي.)).
لمَ أبكي وحيدة
في هذا الدغل المشتعل من عمري؟ لمَ أحترق كعود ثقاب في عتمة هذا الليل الذي
صار أطول كلما تهتُ في التفاصيل المتعِبة؟.
عيد زواجنا...
ويسرقني مني
وجهك الممتد في عيني كجسر وردٍ ملون...أتوارى منه خلف الكلمات الجميلة وقد
طرزت القلب...
أخلط الالوان من
جديد وأحاول أن أرسم...أجمع ما تبقى في ذاكرتي من وهْم وأواجه اللوحة
البيضاء...أستعرض مهارتي مع الريشة والخطوط...هناك رأيتكما...في مطعم
-العشاق- الذي شهد ليلة حبنا تلك...رأيتكما في الطاولة ذاتها، تقبل يديها
وربما تردد لها الكلمات نفسها التي رددتها لي ليلتها...ذهبت لأحجز لعيدنا
الثاني في المطعم ذاته...طلبتُ الطاولة التي شهدت فرحنا الكبير...طلبت
ورداً أحمر وتعلمت رقصة الفالس لأجلك...
وعدت وقد اضعتك هناك ترقص على قهقهات صوتها...ودخلتَ...تغني
كعادتك...أدرت الشريط وانبعث الصوت الدافىء((كل عام وأنتِ
حبيبتي...)).شددتني من يدي اذ وقفتُ أتأملك الى علبة الشموع وباقة
الورد...قلتَ لي وانت تضع ذاك العقد الثمين حول عنقي: كل عام وأنا
أحبكِ.عذرا فلم أجد ما يليق بجمالك...ابتسمتُ واعماقي تئن تحت وطأة خيانتك
لي...قلتُ لك: أما أنا فقد رسمت لك لوحة...وشددتك الى المرسم...ووقفتَ
صامتا...سألتكَ: ما رأيك؟انها لوحتك...أطلقتُ عليها مطعم الكذب...انتبهتُ
الى انني للمرة الأولى لم أرسم وجهك كعادتي...كانت صورة لرجل بلا وجه...
2004
حديث لرجل لم يعد
حيا...
وأنزلق من رابية الحلم واستوطن المدينة العتيقة...قابلتني بشوق
وقالت أشياء كثيرة...أشياء ذات معنى وأشياء لم استوعبها وعادت...واستوت
الريح تدق طبولها في داخلي وكان الضجر يخرج من كل ماحولي، يتفقدني بعد ان
حنطني واسلمني لهول الآتي والماضي...
وها انا مرة
اخرى...أواجه هذا الضجيج...وأتمدد داخل هذا السجن الذي يرعبني بصمته وهذا
القلب الخاوي الا من دقات الحزن النازف...
-فرِحة أنا
بعودتك هذا المساء...كل الذين أعرفهم كانوا أقسى من الذين قتلوك...وحدكَ
كنت الطيب...
رغبة اخرى
تجتاحني، أرغب أحيانا في تخطي هذا العالم واختراق قوانينه وتعدي الحدود
الخانقة...لكن هذا الذي يحدث يهزمني...يعيدني الى سهوي وشرودي ويبعثر كل
قواعدي وقراراتي...
الحب
والكذب،الموت والصدق،غربتي والحلم وبكاء الوطن المتواصل ورغبتي في أن أوقف
الزمن أو أتمرد عليه...أن أعيد الذين مضوا واحتضن رجلا خارقا بشوق...
-لمَ تأخرتَ؟
أصرتُ أضجرك الى حد أن تخلفني للصمت وعزلة الايام حين تذبح أحلامي مع مطلع
كل فجر؟ويتسع المدى امامي...وتخترقني أصوات الباكين والذاهبين لردم أحبتهم
وألهث وحيدة...باردة الأعضاء ويثقل راسي ويكبر حزني فيتحول جبلا صلبا يسد
أعماقي...
-منذ رحيلكَ
وأنا أبحث عن طيًب أصادقه...ظل حلمي أن يضمني بدفء كما أنت كنت تفعل...
-أما اشتقتني؟
تحملني الخيالات
...تزرعني حولك...من بعدك لا شيء يدفئني...وماتت لهفة الحلم...
وتصر المدينة
على ان تسمعني مواويلها...تفتح بصدري شهوة أخرى للموت...أوتدري أنني نذرت
العمر بعدك للوجع وتشهي الاقامة في فجوات الموت المتنامي...؟
عودتك هذا
المساء فتحت بالذاكرة بابا لدخول الفرح الذي لحق بك مخلفا القلب الطافح
بالشوق جزيرة يمارس اهلها كل فنون البرد والقتل ولا يستصيغون طعم الشمس
والحلم...
حضورك الليلة
افسد عليهم درس البرد الذي يلقنونه لي وجعلني بينهم شاذة ومجنونة تتحدث الى
الصمت والمدى...فها أنا أحبك على مرأى منهم وأمنحك نفسي أمام أعينهم لكنهم
يواصلون احتفالهم بشفائي...يرددون لي التهاني وأنا أبتسم...أبتسم حين
يهنئونني على شفائي منك...هل شفيت منكَ أنا التي سرقوك مني في ليلة تجملت
لك فيها بأجمل الألوان...؟أنا لم أرتو منك...
أستحضرك وأنا
اسمع قولهم: قتلوه وانتهى الأمر...لم يكن الرجل الوحيد على الارض...غيره
كثيرون ممن يتمنونكِ...استحضرك وأنا أبتسم لهم وفي القلب ألف دمعة مكابرة
تريد أن تخترق صمتي فتبدو لهم لكي يوقفوا شلال ابتساماتهم الصقيعية...
واريد ان أصرخ
فيهم...أن أخنق قهقهاتهم المتعالية،لكني ابقى صامتة وبيني وبينك تتمدد
مساحات الوجع والشوق وأبقى معك معلنة ولائي للريح التي تحمل الي نسماتك
الدافئة وأظل أحدثك عن مدينتنا التي تحرقها الشمس في حين يسد الثلج أفواه
أهلها...
1997
الحب...والرصاص...
هذه المدينة الباردة...وكهوف ملتهبة من الوحشة ورحيل في عُري ينبض
وحشية...يُربكني فرحي المتحجر منذ آلاف الأزمنة على صدري يمارس سيزيفية
حلمه المنكسر[لماذا نبكي عندما تموت بداخلنا الأشياء؟][لأننا نفقد قدرتنا
عن الاستمرار].
تتكوم في جوفي متتالية حزن شرس...تدفعني لأن أنفجر دمعا في وجه
الحلم الجائر[بالأمس حلمت بك طائرا أسمر...يملأ الكون غناءً بدويا...لماذا
رحلت؟][لأن الرصاص يخنق صوت الطيور،ويسرق منا فرحة الغناء.].
يسقط مني الفرح...يتبعثر على أرصفة المدينة...أمر به صامتة...يتسلقني...أركض
في اتجاه البرد وأتركه مرميا[لمَ يتحول الفرح فجأة طيرا جارحا؟][لأنه يصبح
مطاردا بحزننا الطاغي وأحلامنا-كوابيسنا-المرعبة].
أحاول أن أصمد في وجه الريح الهائجة بعدما شهدت مصرع حبنا[لم لا
تعود؟][لأن الدماء أغرقت المدينة والمطر استقال من سمائنا].أصمت صارخة
بعدما لم يعد صوتي يتقن الغناء...أنحدر من رابية الحلم المشتهى فاءذا بي
محاصرة بضباب المدينة الثلجي...
وتمطر...تمطر حقدا يتوزع من حولي فاءذا أنا كُرة أحلام محترقة في
سماء المدينة،واذا أنا دخان يحجب أزقتها ويحيلها بحيرة دم متحركة...أبحث عن
وجهي فلا أجده...ويدي أيضا ربما فقدتها...أركض خلف كتل الدخان المتسارعة...بقية
من عيني تلمح هذه الكتل الهاربة فاءذا بها أجساد لرفاق،لأحبة كنا نقطن
المدينة نفسها...و-منير-طفلي الوحيد يفقد احدى يديه...-منير- يتقدم نحوي ،
يلف ذراعه اليمنى في -جبس وقماش-أبيض.يقف أمامي ودمعة تنحدر من عينيه.يقول
ببراءة:أنظري لقد لفوا ذراعي لمدة شهر...بماذا سأكتب؟ وأضمه الى صدري وصوت
يردد له في داخلي: لقد فقدتها أبدا...لن تكتب بعد اليوم...ولن...ويخونني
صوتي الباكي فأركض بلا مبالاة[ أناديك بملء القلب دمعا:لمَ غادرتني؟][
الرصاص كان أقوى من كلماتي...لكني لم أغادرك فأنت والمدينة جزء من هذا
القلب...ومن هذا الموت..].
ويجرفني هدير المدينة النازف وهي في طريقها لدفن أبنائها، وكنت أنا
مدينة قبل سنة...يوم ذهبت لأوْدعَك ترابا باردا أنتَ الذي ما عرفتُ الدفء
الا يوم عرفتك...واذا بأحزاني تصبح فرحا أنيقا تولد بقلبي...
أدخل المتحف نفسه...يسكن الزمن...وتتعلق عيناي بك...برجل اختزل
زوايا العمروحولني بلحظة الى مدينة تعانق المدى بشموخها...لم أسألك
يومها:هل يكفي العمر لأن أحبك؟لكني سألتك عن اسم شجرة-تاروت-قلت: انها شجرة
لا تنمو الا بهذا الوطن...شجرة لا تتعبها الفصول، تظل خضراء
دوما...وضحكتَ...ضحكتك تتردد بأعماقي...تمنحني دفئا غريبا...ويدك التي كانت
تبعث في طعما للحياة أفتقدها الآن كما أفتقدك...لم لا تعود؟.أية لعنة هاته
التي جعلتني أفقد يديكما أنتما الاثنين...يدك ويد -منير-الذي كان يمسح على
وجهي كلما رأى دموعا تنفلت مني في صمت شوقا اليك...كان يردد لي:أنا أيضا
اشتقته مثلك...سأطلب اليه ألا يتركنا حينما يعود...؟
كانت الكلمات تغادرني وأنا أسمعه ...واليوم عاد ليسألني عن
عودتك...كانت الدموع تتلألأ في عينيه وهو يقول :لقد غاب-سليم- اليوم عن
المدرسة...يقولون بأن والده قد مات بالمستشفى بعد أن طال وجود الرصاص في
جسده...أبي سيعود أليس كذلك؟أنا أكره الموت جدا...
أردت أن أقول له ما قلته لي يوما: الموت هو الحقيقة...يجب أن يأخذ
دوره في حياتنا كالولادة وكالفرح...لكنه لن يفقه ما أقول...فكيف أجيبه؟وبم
أجيبه؟كيف أخبره أنه فقد يده والى الأبد؟ وأنك رحلت أيضا والى
الأبد...؟ليتك تعود فتجنبني كل هذا الخوف...ليتك تعود لأقتنع أن الأشياء
الجميلة يمكن أن تتجدد بهذا الوطن...
ويأتي العيد...والمدينة تغرق في دمارها...آثار الدماء ما تزال
بشوارعها وبقايا الجثث المحترقة مترامية هنا...وهناك...ووجهي ما يزال
مشوها...مازلت أبحث عنه ولا أجده...و-منير-ما يزال يشد ذراعه الملفوفة في
الجبس وهو لا يدري أنه فقدها...وسؤاله مازال يتكرر كل ليلة: متى يعود أبي؟
لم تبق سوى أيام عن حلول العيد...ومدينتنا لم تعد جميلة...لقد أغلقت معظم
محلاتها...وعمي -مختار-الذي كان يبيعنا الحلوى قرب المدرسة وجدوه مذبوحا في
مكانه...حين يعود أبي سيحمي مدينتنا ولن أكون سوى شرطيا مثله...لمَ يحدث كل
هذا يا أماه؟ يكرر سؤاله...وأصمت...-سليم- كان يقول لي :اسأل والدتك فقد
تجيبك، أما أمي فاءنها لا تدري...[أسألك أنا: بمَ أجيبه؟ ليتني مثل -أم
سليم-....] لكنه سيعرف ولو بعد زمن...بل يوم ينزع ذاك القماش الذي يلف
ذراعه...سأضطر لأن أخبره...سأضطر لأقول الحقيقة لأنها ستنكشف لحظتها
أمامه...سيدرك أن الحب هزمه الرصاص...وستظل يده شاهدا على الموت في هذا
الوطن...
|