سباحة
بلغا نقطة يصعب الارتداد عنها.
حين التفتا الى الوراء كان البحر يضيع في لفافة من الغمام موحدا لون
السماء بلون الماء. لون داكن شفيق يشبه انحدار القلب في حالة توقه الغامض .
إنهما الآن في اللحظة القاسية أو الشرسة . يتشبثان بقوة الدفع والتعب يفت
في جسديهما بكل حواس الوهن . يذوبان في احضان الامتداد الخرافي من يشاهدهما
من بعيد يدرك ان الرحلة المضنية وحدت فيهما هاجسا غريزيا للبقاء رغم انهما
لم يكونا في ذات النقطة .
امرأة ورجل .
لم يكن أحدهما يدرك وجود الاخر قط على مبعدة منه ، ولا يدرك لهاث
الرحلة ا لمضنية والحلم الشارد في غيهب الاقتراب من الغرق . في النقطة التي
كانت فيها لم تكن ترى شيئا سوى الماء. هو أيضا كان لا يرى شيئا سوى ذلك.
هبطت الشمس قليلا. اقتربت لتلامس البرزخ الواقع بين امتداد البصر والخط
الافقي البعيد. في حلقة دائرية تدور المرأة كما تدور الفراشة حول نفسها
بحركة لولبية تقترب بدائريتها من الضوء الذي به تحترق . تمنح حركتها للموج
ولذلك الاحتدام العاصف بخلايا الجسد. تنوس في الوحشة لتغتسل حورية وهبت
نفسها للابحار فوجدت وجه الموت .
من يمنع انحدارات الشهيق فيك عن خلاياي؟
حتى أنت لا تستطيع ! بفراقك لا تستطيع . حين لا أعول على وجودك أيها
الحبيب معي يكون حضورك أقوى ما يكون في. الحب بصيرة لا بصر.
أيها الحب ... أية سطوة لبرازخ الفردوس والجحيم في جنباتك ؟
ايتها الطبيعة .... ايها البحر.... أية سطوة لرياح الفردوس والجحيم في
قاعك ؟
كلاكما لا يأتي الا مرة واحدة . حين يأتي فردوس الحب يمنع لقيا الجداول
بالخرير فينقلب الى الجحيم وحين تأتي شهوة البحر يجىء الفرق ... بعدها
ترتبك بوصلة الجهات كلها حدس ما يثير فيه صدى ضعيفا لمزامير التيه . كان
كمن يلهو بالنجوم والنيازك ويقترب من بواباتها المفتوحة والمشرعة على متاهة
الذوبان أو الفناء. ان عالمه لم يكن يساوي شيئا مقابل هذا الخضم الشرس الذي
سيسلب منه الوجود. وهو على الشاطىء معها وقبل ان يدخل لعبة البحر سألها:
- لماذا انت محتدمة الى هذا الحد؟
- ان كان ارتحالنا معا في زورق الحياة لم يوحدنا فإننا لا نليق ببعض .
- صراعاتنا كلها ساذجا.
- لو كانت كذلك لما تشبثت كل لحظة بمحاولة فرض سيادتك واذلالي .
- انك انت التي تغامرين بحبنا مقابل إثبات وهمي للذات .
- أ لم يكن تميزي وحريتي الداخلية هي التي ابهرتك في ؟ ثم من قال إن
اثبات الذات شي ء وهمي أو أنه نقيض الحب ؟ كل شي ء في اصبح يزعجك وهكذا نحن
ندور في دورة لا تنتهي.
قررا أن يختصما أو يفترقا. ان ينأى طريق كل واحد منهما عن طريق الآخر.
في لحظة القرار الصعب أراد أن ينزع عن نفسه سطوة القلق والضيق سلم نفسه
لأمواج البحر واعتلى الاصداف ممسكا بصهيل مكتوم يكاد يخنقه . لم يلاحظ بعد
ذلك كيف كانت تتأمله في حيرة وكيف حين دخل البحر حتى ذاب فيه رمت نفسها هي
الاخرى لهذيان اللجة وشهوة السباحة دون ان تدرك او يدرك هو فيما بعد
اختلاجه الوقت القادم والبحر يلقى بشفرة المخاض والترصد فيهما. كل واحد
يصارع لحظة موت لا لحظة حب ، لحظة بقاء لا لحظة صراع فج .
انك بعيد أيها الرجل كبعد نجمة في سمائها. لو كان بإمكاني أن أرى ذرات
هذه النجمة كان بامكانك ان تواني. هكذا انت في اللامحدود والمطلق والوهم
وهكذا أنا أترقبك كما يترقب البحر بريقا بعيدا.
هل رأيت كيف تتوحد خارطة الأزمان ؟
هل رأيت كيف يستفيض القدر بالذي تجيئك امرأة طازجة وشفيقة كالصباح وانت
تعتمها بمسائك . الساعدان يخفقان في وجه الأشباح البحرية الضاجة بالصخب
والحصار،. ينتفض الموج وترتعش المياه تحت سكون الروح واحتدامها وهي تسلم
ارادتها لشيء من الوهن .
في لحظة أخرى حرجة التفتت ... كانت تبحث عنه . لمحته يتخبط مثلها في
الماء. يرفع رأسه تارة ويفرقها في الموج تارة أخرى. بصعوبة شقت المسافة
الافقية بينهما. لم تكن الا برهة وهو يصرخ باسمها اقتربت منه أكثر قرأت في
وجهه كل أيقونات النداء والشوق والفرح .
على هامش الموت وولادة الأسرار اتكأ على احد ذراعيها فأخذت تبلبط
بالذراع الاخرى. لا نأمة غير المجهول والارتياب . مرتجف في حضرتها وفي
غواية المفاجأة . مقتربا من تخوم المعرفة الرهيفة حين تضج اللحظات بالغياب
. هذه المرة هي التي اتكأت على ذراعه وهو الذي جعل يتخبط في الماء بالذراع
الاخرى. هكذا معا اتقنا فعل التناوب لتخطي بوابة العدم وهكذا كانا معا
كأبهي ما يكونان دون مساومات من يتفوق على الآخر.
وهكذا ببساطة قال لها:
- في ازمان غابرة كنا معا. كنا شيئا واحدا.
قالت له :
- وفي هذا الزمان نحن أيضا معا.
- كنا معا حتى انفصل النصف عن نصفه الاخر ثم ظل يبحث عنه وما إن يجده
يعود ليفرط فيه .
- هل كنت نصفك الحقيقي؟
- والا ما أحينك كل هذا الحب
- ربما بعد ان اقترب الموت وكاد اليم
- الحب لا يكتسب بريقه الا في الازمات .
- هل نسيت ما نحن فيه . ركز فقط على النقطة التي يجب ان نصل اليها.
- قد يكون هدفا بعيدا.
- وقد لا يكون !
في الحضن الذي دخل فيه استمد قوة وحضورا. الطلاسم تحتشد وتفتت حصار
الغياب . مسكون بها وهي مسكونة به وحدهما يدركان الان سر اللعبة وسر تلك
الاحابيل التي يمارس الانسان طقوسها وهو يعتقد ان حياته مبنية على قوة
مستمدة من تفوق وهمي. يتوحدان . جسدان بزغا عنوة في غفوة الماء. يتحركان
كما لو كانا نائمين . تهرول الاطراف مرفرفة على البحر الصاخب . تستل من
شظايا الروح رعونة أزلية انقلبت الى غريزة خالدة للبقاه.. وربما قبلها أو
بعدها الى غريزة الحب والاكتمال . تزداد الهوة اتساعا.. هكذا تخيلا فجأة
وهما يتكئان على بعضهما في سباحة تبادلية جديدة . يتحسس كل منهما أنفاس
الاخر.
- ان نجونا لن نعود الى تلك الرعونة
- ان نجونا.
تكتظ كائنات البحر بهما. ترفو لهما قاربا يخوض في الجهات كلها ولا يتعب
.
- الحياة امرأة ورجل .
- بهما تكتمل العناصر كلها
-هل تعتقدين اننا سنصل الشاطىء بأمان ؟
-هل تعتقد اننا سنصل الى انفسنا؟
لو نجح الموت في الانقضاض على المسافة الباقية .. لحظتها لا يجدي شىء.
اصيب بالدوار والوهن . تماسكت. أصيبت بالدوار والوهن . تماسك . اليأس يلقي
بحباله فوقهما ويهرول بعيدا لينسج شبكة عنكبوتية من التوغل في العتمة
والغموض لم ينحسر الوقت عن الزبد... لم يعد بإمكان احدهما ان يستل اطرافه
من الانتفاضة الضائعة في سطوة البرزخ المتذبذب بين الموت والحياة .
ألمهما يشبه الم الطهارة . يتطهران من نتوءات وهمية استنفذت اجمل ما
فيهما وفي العلاقة الصمت المشدود يدرب حواسهما تلك اللحظة على المجازفة
الاخيرة . همس بصعوبة :
- كأني أرى أول القيامة
- هل هي نبوءة ام مجرد لحظة متشائمة
همس ايضا:
-البحر لا يبتلع المتمرسين
- التجربة وحدها تولد التمرس
يتخبطان معا في المجازفة . لماذا يجعلهما العراء صدفتين ذائبتين في
القاع . لم يحتملا عدوان الطبيعة ورغم ان الهواء يسترق وهافته من وجهيهما
الا انهما لم يجرا على فعل الاسترخاء فوق سطح الماء.
-هل هو ناموس العلاقة ان يوجد دائما ما يكدرها؟
- تتحدث وكأنك درويش
هكذا يتوسدان البحر. يستلقيان على ظهريهما ويتجولان بعينه في الحزم
الضوئية للسماء يغمضهما اتفعل مثله ؟ تجد نفسها في رهبة جديدة تعانق
الطبيعة فيها أطرافها الفسيحة . ولاول مرة : يتوقفان عن الكلام . يتركان
جسديهما متقابلين تلامسهما ارتجافات دفيئة تتسرب من القاع ومن الحزم
الضوئية الشفيفة . لكأنهما في بكارة الخلق الاول .
لحظة خرافية يدخلانها اول مرة يتوحدان فيها بجسد البحر... المزمور
الاول في الطبيعة الساحقة او الحنونة كجسد الام المفقود. يستعيدان اساطير
الاجداد حول الراحة المفقودة منذ ان تم الانفصال . ينقلبان . الدفقة
الجديدة من الطمأنينة تضرب الماء بساعديهما وترفرف بالقدمين . من يردهما من
بعيد يوقن انهما في نشوة السباحة أو انهما أول الرحلة .
الليل البهيم
فصل من رواية (القلق السري)
ما سر الليل؟
لماذا تذهب الأفكار فيه بعيدا، وتتشح المشاعر بحضورها الكامن، وكأنها
على وشك الانفجار، من تلك النقطة الهيولية، التي لم أعد أذكر شيئا عنها،
بدأت المراوغة بيني وبين الليل. تعاودني الأسئلة ذاتها، وأنا أقرأ صفحته
المدلهمة. وكما في فنجان قهوة، تتعرج الخطوط في سواده وتتداخل، لتجيء غجرية
غامضة، فتفك الإشارات، أحاول بحواسي المتنافرة، أن أقرأ البياض في أفق
الفنجان الأسود. ورغم ما يتيحه هذا الليل من قدرات، تتواثب في كل ما فيه،
بشكل سري وخفي، إلا أن الحدقة تبقى متطلعة دوما، إلى ضوء يتسرب مع الفجر
بعده. تصحو كل الكائنات بعدها وتنام حواس!ى، فالليل هو موعد الصحو مع
الكمون، وتلك العوالم الداخلية الغريبة، التي قد تتبدى حيناً أحلاما مشحونة
بالدلالات، وتتبدى حينا أخر كوابيس تنشب أظفارها في ورم هواجس داخلية
مرعبة، فتهيئه للطفح وإخراج ما فيه، لأن الذي يحدث لم يحدث، أو هو قد حدث
قبل أن يحدث، وإنما في سياق آخر وفى زمن آخر. في ظلال ذلك الصمت، يدخل كل
شئ، هدوءه وربما صخبه، وهو يحاول أن يستأنس، فورة الظلام المتكاثف في فضاء
ملغز. مأخوذة بالكثافة والأسرار التي ترافق الأمكنة، عشق يستبد في حينه،
تجاه ما هو مستور، وتخبئه الكائنات في حين خلوتها مع ذاتها، أو مع الآخر
الذي يشبهها كثيرا، إن صح التقدير. جموح طافح في أن أعيش حيوات الآخرين
كلها دفعة واحدة" لا يفت في عضدي، الإحساس بأنها قد تكون مجرد حيوات
متكررة، فليس ذلك وحده، هو ما يثير الفضول، الهاجس يصل إلى ما هو أبعد، إلى
سبر حدود الأغوار البعيدة في النفس، والتي عادة تتكشف أكثر في الليل
البهيم، وسبر تجليات الطبيعة بجبالها وهضابها وبحارها، وما تتبادله مع
الكائنات من ألغاز وغموض.
وتلك اللحظات الاستثنائية، التي يدلهم فيها الليل، فيوارى خلف حجبه،
آهات مشتركة تنبعث من ملايين الأفواه في لحظة واحدة، وكل خلف جدار بيته
الموصد، حينها ينزلق الوقت نحوهم، ويؤجج فيهم الحب، ثم يتوقف الوقت عن
سريانه، ليصطاد معهم، تلك البرهة الحميمة، والخارجة من إطار الجسد المحدود
إلى أفاق الروح اللامحدودة، ولولا ذلك لعاش البشر كحيوانات البرية،
يضاهونها في شراستها. ولكن لم الحيوانات بالذات رديفة المنفلت من الطبائع؟
هي أيضا تعيش ما يعيشه البشر، تسرق من الزمن وقتها الخاص، وحميميتها
الخاصة، وربما تدرك أكثر من غيرها، طبيعة ما تهدر به الغرائز، فتتصرف معها
بتلقائية، دون أن تعبأ كثيرا أو تبالي بالفخاخ المنصوبة، وهى في استرخائها،
أو النواميس لأنها لا تعرفها، أو الزوايا المحفوفة بالخطر، لأنها لا تراها،
خطر الكائنات الأخرى، القادرة بوحشية ذكائها المعقد والمركب، أن تلقم لها
الموت بطعم رخيص. هكذا، وحدهم البشر، سلالة العنف المنظم، قادرون على الفتك
الأقصى، بكل شئ بما فيه أنفسهم. تتساوى في ذلك الحكمة والحماقة، فلكل منهما
تضاريسه وأساليبه، وهم منفلتون نحو خلق الغايات، التي تبدو في ظاهرها منظمة
بالقوانين، وهى في حقيقتها وجدت لتتيح لهم مزيدا من الفتك، وأن يستبدوا بكل
شئ وفى أية لحظة، والقانون في النهاية لا يحمى المغفلين … آه ما أكثرهم!
هؤلاء المغفلين
أي سر لهذا الليل؟
ومن أين تجئ الوجوه المتعددة والرموز المتناقضة لكينونته؟ مثل شجرة
النار أو عاشقة الغابات المحترقة، مثل نيرون الذي أحرق مدينته، لينتشي
بمشهد الحريق وألسنة اللهب، مثل أولئك النوبيين الذين يؤمنون بسكان قاع
النهر ويتصورونهم يسكنون مدنا ليلية كاملة، بقصور وشوارع وطواحين، بل
وبسواقي أيضا وهم في جوف الماء الحالك… كل هؤلاء وغيرهم يأخذ فعلهم بهاءه
ويستمد رونقه في الليل ا حضارات بأكملها، تأخذ بعضها، صفة بلادتها وتخلفها،
من الوجه الأول لليل: الظلام… فيستبد القائم على شؤون الخلق، بطغيانه،
ويكشر عن أنيابه الصفراء ضمن طقوس، قيل إنها، ظلامية، يتربحن فيها بكل ما
هو، خارج المعتقد الأسمى للحضارة البليدة، ولو كان غرفا أو تقليدا بائدا.
مثل كل ذلك وغيره، هناك أيضا ما جمع بين خواص الليل، سره، وخواص الوهم.
كثيرا ما تكون الحقيقة مجرد وهم، ويكون الوهم هو الحقيقة، مادام الليل عيه
ويستمد لباسه من تعاليم الظلام. أكثر شرائع القتل والخراب، تأتى من الوهم،
الذي يأخذ لباس اليقين أو الشك... ثم تدخل الضحية عمها أو كابوسها.،. بهما
وحدهما تقتل الملك، وتدمر هيكله، وتلعب بصولجانه... مجرد حلم وتنفيس عن
العجز الواقعي، فلا تجد أمامها إلا الحلم، تتوحد من خلاله السلطة العليا،
بسلطة الذكورة المستبدة بتفاصيل الحياة... والضحية تقتل الاثنين معا...
مجرد كابوس ويمضى، ويخال لها إنها قد قتلت الأب أيضا، ذلك الأب المحكوم
بشكوكه وتعاليمه، فهل أنجزت في الليل والنوم ما كان ينبغي إنجازه في النهار
والصحو؟.. الضحايا تعتقد ذلك، ولا يبقى لأحدها، إلا أن تناجى بعدها الأعضاء
والحواس، وغالبا ما تكون النساء. في المناجاة تود لو تقول إن اليدين ليستا
لمجرد الترتيب المنزلي، ولا العينين لمجرد رؤية ما هو تافه، ولا العقل
لمجرد ترديد التعاليم الجامدة، ولا القدمين لمجرد الدبيب الأبله في الطرقات
الملتوية لمدينة رملية، وليس الجسد لمجرد التغطية والمواراة، أو كوعاء
للحمل.. فالحواس تومئ بمدائحها لما هو أسمى وأعلى في الكشف، إنما هي هكذا
سادرة في اللافعل، وفى فراغها، تحت حماقة الوصايا المحفوفة بالأسيجة
والظلام.. ها فعل آخر لرموز الليل هنا!.. ما السر أيضا؟ ليس الخارج أو
الظاهر، هو ما يشي به، وإنما ذلك البرهان الداخلي أو الباطني على وجود
الشيء فيوجد، الإنسان صنيعة فكره ومعتقداته وليس صنيعة الحقائق.. ألهذا
يعطى الليل مثلا كل المساحة الفائضة، للالتقاء بعوالم الخفاء؟ أهو الليل،
صديق الأسرار والألغاز والمبهم.. مؤازر الجنون والهذيان والكوابيس
والأحلام، تقارن العتمة الداخلية، التي للنفوس بعتمته، ليبقى الجهل بالنفس،
وتلك المناطق المتوارية أكبر من أي جهل، لا يكشفها الإنسان إلا في لحظات
بصيرة خاطفة. مثل السنابل تتمايل برهافتها وضعف هسيسها، وفى لحظة بصيرة
غريزية تتضح لها الرؤية.. أن ريحا قوية قادمة لتقتلعها، فتنحني لها مادامت
باقية، لتعاود بعد ذلك استقامتها.. ألا يشبه ذلك ما تفعله النفس البشرية
الجاهلة بأدغال عتمتها الداخلية، إنما بصيص إدراك خاطف، يتيح لها روية
مباغتة للضوء فتتصرف وفق بصيرتها في أفق ليلى ممتد. طبيعتنا ذاتها تشبه
الليل، التخفي والمبهم وغير المنظور مرة أخرى. مثل الليل نبطن أكثر مما
نظهر. قادرون على الإيهام، أكثر من قدرتنا على الكشف والإفصاح أو الوضوح.
ومثل الليل أيضا ينقلب المخفي فينا على ذاته بغتة، وإلى نقيضه. فينا جميعا
ذلك السري الذي لا يراه أحد، كالمساحات المجهولة في الطبيعة، حين لقائها
الدوري بالليل، حتى الريح العاتية، ليس بإمكانها أن تبدد ذلك السري، قد
تجعل من المياه المنسابة، في الممرات السرية للطبيعة، أو للنفس، مجرد صوت
غامض، يتسرب من بعيد، دون أن نعرف مصدره. ما الذي بإمكاننا إذا أن ندركه
غير أوهامنا عن ذواتنا والآخرين. وتلك الرحلة المضيئة من أجل أن نفهم أكثر
أو نعى ما لا نعيه، إلى ماذا تؤول في نهاية المطاف. وهل حياة واحدة، في مدى
زمني قصير، تكفى لسبر غور كل ما حولنا، وهى تنام في خفائها بعد كل شيء،
ومساحات الليل فيها تفوق كثيرا المساحات المضيئة والمكشوفة! قد نصل في برهة
خاطفة أو فالتة إلى فهم المعنى.. ما الذي خلق تلك البرهة الكاشفة؟ هل هو
الارتحال نحو الخارج أم نحو الداخل في أنفسنا؟ أم هناك اشتراط لأسبقية
أحدها على الآخر؟ وهل الوعي يسعف في الكشف، أم أن وعينا قادم من الوعاء
الذي يوضع فيه أي شئ، فتتحول الأوهام إلى حقائق في مخلطه!. أمن أجل هذا
تكون الكائنات الفطرية، وغير الواعية، أقرب بغريزتها وحدسها، إلى الارتباط
بحدس الطبيعة؟ وبالنسبة للبشر، لماذا الحب بكل تجلياته الإنسانية المتفرعة،
وحده قادر على كشف المخزون الهيولي الرابض فينا. وحين تتداعى الكائنات نحو
ذاتها الشفيفة، تكون قدرتها على الكشف أكثر، رجحانا للاتصال بطبائع
العلاقات ذات الغور البعيد. مثل فطيق يناوش أحدهما الآخر برغباته المحمومة،
حتى إذا اكتملت المناوشة، وفعل إله الرغبات فعله، هدأ.. القطان قليلا،
بعدها يستسلم الطرف الرافض، لفعل المباغتة التي كان يرفضها، لأنه يدرك
بغريزته أن الأمر في حقيقته لم يكن اعتداء، وإنما مراوغة
حواسية واستنفار لما هو موجود فيه وكامن.. وتعبير عن الرغبة المتبادلة
في الاتصال الحميم، كل مع الذي يشبهه... مجرد وجه آخر للغريزة أو للطبيعة،
هكذا يتمكن الطرف الأول من سبر الغور البعيد في داخل الطرف الآخر حتى لو
كان قطا وقطة.
ثم ماذا؟ قد يدخل الليل بعدها، في فوضاه، وجنونه، وشغبه. وقد تعصف
الريح به، وبكل ما ي!خبئه في ظلاله المعتمة، وقد تجئ عاصفة رملية تقلب كل
هدوئه العميق والمسترخي. قد تجيش حينها، العناصر كلها، وتستنفر طقوسها
الكامنة، وهى تواجه العصف الفجائي.. قد وقد… ولكن كم هي وقورة العناصر، حين
تقتفى فلول الليل، تناوش إغواء الشرك المستفحل، في عزلة جسورة، فيما
الدوامة الرملية العاصفة، تلعب ببقايا خرابها، ثم ل! تجد أمامها إلا أن
تخجل أخيرا من المقاومة الضارية للعناصر، لها ولقوتها الحمقاء، ينكمش الرمل
على نفسه، ويعود إلى طبيعته كعنصر متوحد ملكما هو، مدارياً خجله في أحضان
الليل المستتر، والذي لا يكشف سره أبدا، مهما واجه من عتوّ، وجبروت، وليبقى
إلى الأبد، رمزا لما هو سري وغامض ومدتم في الطبيعة وفينا.
|