لبنى محمود
ياسين: المرأة ليست كائناً فضائياً
الأدب عاجز وحده عن قلب الموازين وحل الإشكاليات المطروحة
كيف تنظرين إلى الكتابة بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى “ضد التيار”؟
نظرتي للكتابة تحددت في مراحل سابقة حينما كنت أجرّب الكتابة
كثيراً قبل نشر المجموعة الأولى. الكتابة عالم جميل وساحر تمكنني من التجول
في عوالم الخيال الخلاق بحرية تامة واقتناص لحظات رائعة. عندما أنهي قصة
أعيد قراءتها مرات عدة وأنا بحالة نشوة وأبقى طيلة نهاري أسيرة الأوراق
التي كتبت عليها.
*
برأيك متى تتحول الكتابة إلى حرفة بعيدة عن الإبداع؟
الكتابة لا تتحول إلى احتراف إلا عندما يستولي على الكاتب الغرور،
فيتوقف عن قراءة ما يكتبه غيره بعدما يعتبر نفسه الأهم، ويمتنع عن فهم
المذاهب الفكرية الأخرى، ويشعر بأنه وصل إلى سقف الإبداع وأنه تمكن من
أدوات اللغة، وربما للزمن دور في ذلك أحياناً. الكاتب المبدع في حالة بحث
عن الذات دوماً، ولا يشعر أبداً بالاكتفاء لأن وصوله للقمة يعني النهاية،
ويعني أنه استنفد كل ما لديه ولم يعد في جعبته ما يقدمه، عندها فقط يقدم
لنا حرفية بعيدة عن الإبداع، وهذا لا يمنع بالطبع وجود الكاتب المحترف
المبدع الذي مازال يبحث عن الجديد ليقدمه.
*
كيف تبحثين عن هذا الجديد؟
أتبنى نظرية الكاتب الكبير توفيق الحكيم “الابتكار هو أن تكون أنت،
أن تحقق نفسك، أن تسمعنا صوتك ونبرتك، أنت أعظم معجزة في الكون للخالق جل
شأنه”، ومن هنا أنا أحاول أن أكون نفسي فقط.
*
قال أسامة أنور عكاشة حين قرأ مجموعتك الأولى : “الأدب الجيد هو الذي يدهش
والدهشة هي الانطباع الوحيد الذي يؤكد الجدارة” فكيف تسعين إلى تحقيق
الدهشة في كتاباتك؟
كتبت قصصي وفقاً لما أملاه عليّ إحساسي، وتبعاً لانهمار كلمات
القصة عليّ. والحقيقة أن هذا الكلام لكاتب كبير مثل أسامة أنور عكاشة كان
له أعظم الأثر في داخلي، ولا أستطيع وصف السعادة التي غمرتني وأنا أقرأ
رأيه، ثم وأنا أحاوره هاتفياً ليؤكد لي أنه سيقرأ أي كتاب يجد عليه اسمي،
لقد أدهشته فأبكاني فرحاً.
*
قرأ مجموعتك الأولى عدد غير قليل من الأدباء والنقاد، وقدموا شهادات جيدة
تبشّر بك قاصة سيكون لها شأن في المستقبل، كيف انعكست هذه الآراء إيجاباً
على تجربتك في ضوء تحضيرك لمجموعة قصصية ثانية؟
حفزتني آراء الكتّاب والنقاد الكبار، فتحية العسال وأسامة أنور
عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن على الإجادة وأعطتني قوة دفع حقيقية جعلتني أنكب
على الكتابة بثقة أكبر وبشعور غامر بالارتياح مصدره كلماتهم الرائعة. من
جهة أخرى أوقعتني آراؤهم هذه تحت ثقل مسؤولية السؤال : هل سيكون كتابي
القادم بمستوى الأول، وهل سيلاقي الصدى نفسه؟ أرجو من الله أن يكون أفضل.
*
كيف تحددين خصوصية مجموعتك الثانية، وبماذا تختلف عن الأولى؟
أعتقد أن مجموعتي الجديدة التي سأطبعها في بيروت بعد طباعة
المجموعة الأولى في القاهرة، ستكون أكثر نضجاً من الأولى التي ضمت قصصاً
كتبتها وأنا في الخامسة عشرة من عمري، فالمجموعة الثانية تحمل هموم المرأة
بشكل أكبر من سابقتها وإن كانت لا تخلو من الهموم الوطنية والإنسانية
والاجتماعية، وهي أقرب إلى ذاتي لخصوصيتها الأنثوية، ربما وكأنني حاورت بها
الأنثى المهزومة التي تقف بعد انهزامها مرة أخرى، متحدية ظرفها الاجتماعي
لتثبت إنسانيتها وقوتها وقدرتها على اتخاذ القرار الحازم الذي يضع حداً
لظلم الآخر وجبروته. المجموعة الثانية التي أنا بصدد طباعتها لم أسمها بعد،
وهي تتألف من 15 قصة كتبتها خلال السنة السابقة وبدايات السنة الحالية.
*
من استمع إلى بعض هذه القصص في الأمسيات الأدبية يدرك تماماً مدى تأثرك
بالكاتبة أحلام مستغانمي، ما رأيك؟
أحلام مستغانمي كاتبة ذات أسلوب شعري نثري مميز، قرأت رواياتها
الثلاث باستمتاع نادر مرات عدة، كما قرأت لكبار كتّاب القصة والرواية، لذلك
أصبحت متأثرة بكل قراءاتي. وأسلوب أحلام يشدني فلا أستطيع أن أتوقف عن
القراءة، وتحملني معها إلى عوالم رواياتها لأعيشها بكل تفاصيلها. الأدب
الجيد المميز لا يمر أبداً دون أن يترك أثراً، وأنا أتمنى أن أترك أثراً في
القرّاء أيضاً كما تترك كتابات أحلام أثرها.
*
في معظم الأحيان تكتب المرأة عن تجربتها الذاتية، وهذا ما يؤكده كثير من
النقاد، هل تؤيدين هذا الكلام وهل ينطبق على مجموعتك الأولى؟
المرأة ليست كائناً فضائياً، هي إنسان بكل خصوصيته، والإنسان عادة
تلامسه تجاربه الذاتية، تؤلمه، تفرحه، تبكيه، تصقله، وبالنهاية تؤثر في كل
ما يصدر عنه. ألم يكتب نزار قباني عن تجاربه الشخصية، عن بلقيس، عن أوجاعه
وغربته؟ المرأة أيضاً تكتب عن تجاربها الذاتية أو من خلال تجاربها، وقد
تمتنع وتحتفظ بها لنفسها، وهذا لا يمنع أنها تكتب باتجاهات أخرى بعيداً عن
تجربتها الشخصية، من خلال ذاتها الأنثوية الأكثر إحساساً لأنها جزء لا
يتجزأ من الوطن والمجتمع ومعاناة الناس من حولها. بالنسبة لي كانت مجموعتي
الأولى خليطاً من هموم الأمة والمجتمع وهموم الإنسان، وربما اقتربت أكثر من
المرأة في مجموعتي الثانية.
*
ما رأيك بمصطلح الأدب النسائي؟
كتصنيف إبداعي ليس هناك فرق بين الإبداع النسائي والإبداع الذكوري،
إنما هناك اختلاف في الرؤى عندما يتعلق الموضوع بحقوق وواجبات كلا الطرفين،
وبرأيي أن مصطلح الأدب النسائي موجود ليس بوصفه تصنيفاً معياره الإبداع
إنما بوصفه تصنيف معياره جنس الكاتب.
عند قراءة مجموعتك الأولى “ضد التيار” نستشف نوعاً من الالتزام
الاجتماعي والسياسي، فما مفهوم الالتزام لديك؟
الالتزام فكر يحكمه مبدأ أخلاقي أو قومي أو ديني أو سياسي أو
اجتماعي. هو أن تؤمن بمبدئك الذي تبنيته إيماناً مطلقاً، فتلتزم به حتى حين
يضعك في مواجهة عاتية مع الآخرين، هو القناعات والمبادئ غير المذبذبة التي
تحكم مسار حياة صاحبها واتجاهاته.
* يقال إن الكتابة عمل ثوري، فهل لمست ذلك عند ممارستك للكتابة؟
نعم الكتابة عمل ثوري، لكنه على صعيد العقل والفكر والتأثير في
الآخرين، أي أنه عاجز وحده عن قلب الموازين وحل الإشكاليات المطروحة، إنه
الشكل الفكري الهادئ للثورة.
*
ماذا عن دور الخيال في الإبداع عموماً وفي كتاباتك خصوصاً؟
الخيال عامل خلاق في العملية الإبداعية، وأعتقد أن كل المبدعين على
مر العصور خاصة في مجالات الأدب والفن اتسموا بخيال خصب ووظفوا خيالهم
بوصفه معيناً لا ينضب في عملية الإبداع. في كتاباتي لعب الخيال دوراً
رئيسياً في خلق أبطال القصص وتوصيفهم ووصف تمازجهم وعلاقاتهم بالأمكنة.
وبعض القصص كانت أكثر جموحاً فكان سير الأحداث فيها خيالياً لا يمت للواقع
بصلة.
صحيفة الخليج 21/7/2005
أضيفت في 24/10/ 2005 / خاص
القصة السورية/ بواسطة لبنى محمود ياسين
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
الكتابة لا تحتاج دوماً إلى جرأة
دمشق: أمينة عباس
بعد أن أصدرت مجموعتها القصصية الأولى "ضد التيار" منحتها جمعية
الكاتبات المصريات العضوية الفخرية تقديراً منهن للإبداع المبكر عندها، كما
أشاد بها الكاتبان المصريان أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن.. عن هذه
المجموعة وعن مجموعتها القادمة كان لنا هذا الحوار مع القاصة السورية
لبنى
محمود ياسين
:
*يقول النقاد : يدل الواقع على انحسار مكانة القصة لصالح الرواية.. هل
توافقين على هذا الرأي؟
**بالرغم من اتجاه الكثير من الأدباء والكتّاب إلى الرواية فإن هناك
أسماء ظهرت على الساحة الأدبية تعمل بإبداع وتميز باتجاه القصة القصيرة..
أنا لا أعتقد أن بإمكان إحداهما أن تأخذ مكان الأخرى، فلكل منهما خصوصيته
وجماليته وفلسفته الخاصة وقراؤه.. والأدب الجيد والجاد والهادف يفرض تواجده
على الساحة الأدبية بقوة مهما كان نوعه، عبر ترشيحه من القارئ الواعي
المثقف .
*لكل قاص أسلوب في إيصال ما يريده.. فما هو الأسلوب الذي اعتمدتِه في
كتاباتك؟
**لا أعتمد أسلوباً معيناً، فأنا لا أفكر بالأسلوب ثم أبدأ الكتابة، بل
على العكس، الفكرة تأتي أولاً وتفرض علي أسلوب إيصالها، فاللغة رمز يجب أن
تلاصق ما ستقوله.. لذا تجدين أن بعض القصص طغى عليه طابع الجمل القصيرة
الشعرية، وأخرى كان سردها واقعياً جداً.. لغتنا العربية لغة غنية مرنة،
تسمح للكاتب بالتجوال بحرية بين أساليب مختلفة، وكما قال الأديب د.طه حسين
: "نحن نمتلك لغتنا العربية" .
*تتسم الحداثة الشعرية بالغموض والتشويش.. فهل ينطبق هذا الكلام على
الحداثة في القصة؟
**الحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول –برأيي- على الغموض
وتجديد اللغة والتخلص من الموروث، وهي تعول على الجمالية اللغوية على حساب
الموضوع، ولهذا المذهب رواده وقراؤه، ويتميز بالجمالية والخروج عن
المألوف.. والأدب عامة لا ينفصل، فما ينطبق على الشعر ينطبق على القصة..
عني أنا شخصياً -ومع احترامي لرواد الحداثة- أجد نفسي في أسلوب السرد
الواضح.. ربما كنتُ متذوقة للأدب الحداثي كقارئة، لكنني لم أكتبه.. قد
أكتبه في مراحل لاحقة .
*كيف تنظرين إلى الكتابة الآن وأنت مازلتِ في أول الطريق؟ وبرأيك متى تتحول
الكتابة إلى حرفة بعيدة عن الإبداع عند الكاتب؟
**الكتابة عالم جميل وساحر، تمكنك من التجول في عوالم الخيال الخلاق
بحرية تامة واقتناص لحظات رائعة.. عندما أنهي قصة أعيد قراءتها عدة مرات
وأنا بحالة نشوة، وأبقى طيلة نهاري أسيرة الأوراق التي كتبتُ عليها.. أما
عن تحول الكتابة إلى احتراف عند الكاتب فهي لا تتحول إلى احتراف إلا عندما
يستولي عليه الغرور فيتوقف عن القراءة للغير لأنه الأهم، ويمتنع عن فهم
المذاهب الفكرية الأخرى ويشعر أنه قد وصل إلى سقف الإبداع وأنه تمكن من
أدوات اللغة، وربما للزمن دور في ذلك أحياناً.. الكاتب المبدع في حالة بحث
عن الذات دوماً، ولا يشعر أبداً بالانكفاء أو بالوصول إلى قمة الإبداع لأن
وصوله للقمة يعني النهاية، فقد استنفذ كل ما لديه ولم يعد في جعبته ما
يقدمه.. عندها فقط يقدم لنا حرفية بعيدة عن الإبداع.. هذا لا يمنع بالطبع
تواجد الكاتب المحترف المبدع الذي مازال يبحث عن الجديد ليقدمه .
*الكتابة الأدبية تحتاج إلى جرأة، فمن أين تستمدين هذه الجرأة؟
**لا تحتاج الكتابة دوماً إلى جرأة، إنما ذلك يتبع الموضوع الذي أعالجه
في كتابتي.. أحياناً تكون الكتابة فعل هروب عندما تعييني المواجهة وتصعب
علي، وهنا أكون بعيدة تماماً عن الجرأة.. وقديماً قال أحد النقاد : "إن
الأدب ليس في إطلاق المشاعر بل هو هروب منها، كما إنه ليس تعبيراً عن
الشخصية بل هو تحرر منها".. وعندما يحتاج موضوع قصتي إلى جرأة يصبح الموضوع
تماماً كاتخاذ قرار عليكِ أن تتخذيه وليس سوى انسياب دم القلم على خد
الصفحة البيضاء هو مصدر لهذه الجرأة .
*كثير من قصص الشباب هو خليط لأجناس أدبية وفنون متنوعة.. لماذا؟
**نحن الآن في عصر العولمة، وقد اختلطت الثقافات وتمازجت بشكل كبير..
الأدب الغربي المترجم يحتل عدداً لا بأس به من رفوف المكتبات، والمواقع
الأدبية على الإنترنت تحمل رصيداً كبيراً من القصص المترجمة.. لذا تجدين أن
الرصيد الفكري واللغوي لدى أغلب فئة الشباب خليط بين الثقافة الأم
والثقافات الأجنبية، وإذا ما أضفت لذلك الميل الحاد الذي يبديه الشباب إلى
تقليد الغرب في كل شيء ودراسة اللغة الأجنبية التي فرضها واقع التقدم
العلمي الذي تتمتع به الدول الغربية مما حدا بالكثيرين إلى دراسة اللغة
الأجنبية إضافة إلى دراستهم الأكاديمية.. كل ذلك أدى إلى كون قصص الشباب
خليط لأجناس أدبية متنوعة .
*غاية المبدع في كل زمان أن يأتي دوماً بجديد.. كيف تبحثين عن هذا الجديد؟
**أتبنى نظرية الكاتب توفيق الحكيم : "الابتكار هو أن تكون أنت.. أن
تحقق نفسك.. أن تسمعنا صوتك ونبرتك.. أنت أعظم معجزة في الكون للخالق جل
شأنه".. ومن هنا أنا أحاول أن أكون نفسي فقط .
*القصة القصيرة ومضة مضيئة.. كيف ينجح القاص في التقاط هذه الومضة ومتى
يفشل؟
**أظن أن التقاط الومضة -لدي أنا على الأقل- هو فعل إرادي تلتقطها
الحواس بدون أن أتدخل أنا شخصياً.. ربما هي نقطة في اللاوعي تلك التي تلتقط
هذه الومضات أو الرؤية المختلفة للتفاصيل اليومية التي يمر بها الشخص الآخر
دون انتباه ويلتقطها الكاتب ويسلط عليها الضوء فيجعل الآخر يندهش أنه مر
بلحظة كهذه ولم تستوقفه.. أما متى ينجح أو يفشل الكاتب فذلك ما يحدده
المتلقي والناقد وليس الكاتب .
*التجريب عند الكاتب في شكل القصة هو هاجس دائم.. فهل هو هاجس لديك؟
**على الصعيد الشخصي أنا أحب التجريب والتجديد، أحب أن أجرب كل ما لم
أمر به من قبل وأجد متعة في ذلك وأعتقد أني على صعيد الكتابة أيضاً أحب
التجريب وخوض الأشياء الجديدة.. لا أحب أبداً أن أقف في مكاني خائفة من
تجربة لم أمر بها من قبل .
*تقول هيفاء بيطار : "إن الكتابة عمل ثوري".. فهل لمستِ ذلك عند ممارستك
للكتابة؟
**نعم.. الكتابة عمل ثوري، لكنه على صعيد العقل والفكر والتأثير في
الآخرين، أي أنه عاجز وحده عن قلب الموازين وحل الإشكاليات المطروحة.. إنه
الشكل الفكري الهادئ للثورة.. عندما يكتب الكاتب فهو يحاول تسليط الضوء على
مشكلة ما في المجتمع أو إشكال ما ليراه الناس جيداً.. الكاتب يحاول التعبير
عن شيء ما، ربما يترجمه إلى صراخ أحياناً ليشعل وعي الناس إنما بطريقة
أدبية .
*ما هي الخصوصية التي تسعين إلى تكريسها عبر كتاباتك؟
**خصوصيتي هي أن أكون أنا ببساطة، وأنا لا أسعى إلى تكريسها بطريقة
مباشرة، إنما أعتقد أن ما أقدمه سيكرس خصوصيتي بطريقة أو بأخرى .
*بعضهم يقول إنه في الشعر يجب ألا نمعن التفكير.. فهل ينطبق ذلك على القصة؟
**الفنون بأنواعها على صلة وثيقة ببعضها.. لا تستطيعين فصلها عن بعضها،
ولحظة الخلق أو لحظة الاشتعال الفكرة لا تخضع للتفكير أو للبحث ولا تأتي
بطريقة مقصودة إنما تأتي بطريقة عفوية من اللاوعي وتنهمر على شكل لوحة أو
قصة أو قصيدة .
*هل توافقين على أن المعاناة هي من أساس العمل الأدبي وهل كانت كتاباتك
تعبّر عن معاناتك؟
**صحيح أن الأدب وليد المعاناة أغلب الأحيان، لكنك تفترضين هنا أن
الأدب تعبير عن شخصية الكاتب، وأنا أرى أن الأدب إحساس، وعملية الإبداع هي
عملية نقل لهذا الإحساس من الشكل الذاتي غير المرئي إلى الموضوعية أو
المادة المرئية سواء لوحة أو قصة أو قصيدة، فأنت لا تقرئين ملامح الكاتب من
خلال قصته، إنما ترين مشهداً أو شخصاً أو موقفاً يتفاعل فيه الإنسان
والمكان والزمان واللون والإحساس لتثير إحساساً في النفس يريد الكاتب
إثارته لديك.. لكن يمكن أن نقول إن هذا المشهد هو غالباً معاناة، وربما
كانت معاناة اجتماعية أو قومية أو إنسانية أو نفسية، ويمكن أن تكون أيضاً
شخصية، وعلى العكس يقال إنه كلما ازداد انفصال الكاتب عن ذاته في عملية
الإبداع اتسم بالقدرة الفنية التي تمكّن الكاتب من الفصل بينه وبين مادة
الإبداع فيعطي قيمة نفيسة لعمله الفني .
*ماذا عن دور الخيال في الإبداع عموماً وفي كتاباتك خصوصاً؟
**الخيال عامل هام وخلاق في العملية الإبداعية، وأعتقد أن كل المبدعين
على مر العصور، خاصة في مجالات الأدب والفن اتسموا بخيال خصب ووظفوا خيالهم
كمعين لا ينضب في عملية الإبداع.. في كتاباتي لعب الخيال دوراً رئيسياً في
خلق أبطال القصص وتوصيفهم ووصف تمازجهم وعلاقاتهم بالأمكنة.. بعض القصص
كانت أكثر جموحاً، فكان سير الأحداث فيها خيالياً لا يمت للواقع بصلة .
*الحزن يلف كتاباتك، فهل هو محرض أساسي على الكتابة؟
**بالرغم من أنني لست حزينة ولا تستعمرني الكآبة، بل على العكس أميل
للمرح إلا أنه يحدث أحياناً أن تتمطى مزاجيتي باتجاه الحزن فأشعر أنه يلفني
تماماً ويعتصرني ثم ينهمر وابل كلمات على الصفحات البيضاء وتخرج قصة، وأخرج
أنا من حزني وينتابني فرح غامر لولادة قصتي الجديدة.. لكن ذلك ليس بقاعدة..
إنه يحدث أحياناً فقط .
*في معظم الأحيان تكتب المرأة عن تجربتها الذاتية.. هذا ما يقوله كثير من
النقاد، هل تؤيدين هذا الكلام؟ وهل ينطبق على مجموعتك الأولى؟
**المرأة ليست كائناً فضائياً.. هي إنسان بكل خصوصيته.. والإنسان عادة
تلامسه تجاربه الذاتية، تؤلمه، تفرحه، تبكيه، تصقله، وفي النهاية تؤثر في
كل ما يصدر عنه.. ألم يكتب نزار قباني عن تجاربه الشخصية، عن زوجته بلقيس،
عن أوجاعه وغربته.. المرأة أيضاً قد تكتب عن تجاربها الذاتية، أو من خلال
تجاربها، وقد تمتنع وتحتفظ بها لنفسها، وهذا لا يمنع أنها تكتب باتجاهات
أخرى بعيداً عن تجربتها الشخصية من خلال ذاتها الأنثوية الأكثر إحساساً
بأنها جزء لا يتجزأ من الوطن والمجتمع ومعاناة الناس من حولها.. بالنسبة لي
كانت مجموعتي الأولى خليط من هموم الأمة والمجتمع وهموم الإنسان، الوطن،
والمرأة .
*من يقرأ مجموعتك الأولى "ضد التيار" يستشف نوعاً من الالتزام الاجتماعي
والسياسي اتجاه الأم، الوطن، الناس البسطاء.. فما مفهوم الالتزام لديك؟
**الالتزام هو فكر يحكمه مبدأ أخلاقي أو قومي أو ديني أو سياسي أو
اجتماعي.. هو أن تؤمني بمبدئك الذي تبنيتِه إيماناً مطلقاً فتلتزمين جانبه
حتى حين يضعك في مواجهة عاتية مع الآخرين.. هو القناعات والمبادئ غير
المذبذبة التي تحكم مسار حياة صاحبها واتجاهاته ويجعلك تتكهنين بردود فعله
من خلال استشفافك لالتزامه بمبدأ ما .
*ما رأيك بمصطلح الأدب النسائي رغم أن مجموعتك الأولى بعيدة عن أي هم
نسائي؟
**مصطلح الأدب النسائي موجود لا كتصنيف معياره الإبداع، إنما كتصنيف
معياره جنس الكاتب، تماماً كما قد تقولين كاتب سوري وكاتب مصري.. إلخ.. أنت
لا تنتقصين هنا من إنسانية الكاتب إنما تحددين انتماءه إلى أبناء جنسه..
كتصنيف إبداعي ليس هناك فرق بين الإبداع النسائي والإبداع الذكوري -إن صح
التعبير- إنما هنالك اختلاف في الرؤى عندما يتعلق الموضوع بحقوق وواجبات كل
من الطرفين.. لنقل مثلاً إن كاتبة وكاتباً أرادا أن يكتبا قصة عن رجل يعيش
علاقة حب خارج إطار الحياة الزوجية.. من وجهة نظر الكاتب سيحاول لفت نظرنا
كقراء إلى تقصير الزوجة الذي دفعه إلى البحث عن الأخرى.. من وجهة نظر
الكاتبة ستنعته بالخيانة.. أما لو كان الموضوع وطنياً أو قومياً أو
اجتماعياً أو حتى نفسياً لا أظن أن هناك اختلافاً سواء في الرؤية أو في
الإبداع، لكن ربما أبدى الأدب النسائي إحساساً مرهفاً أكثر من نظيره
الرجالي أو الذكوري، وأبدى نظيره الذكوري جرأة أكبر في طرح المسائل
العاطفية.. الأنوثة والذكورة جزء رئيسي في تكويننا الشخصي، وبالتالي لا بد
أن يؤثر بطريقة أو بأخرى على كل ما نبديه من أفعال وردود أفعال، أما
بالنسبة لنوعية الإبداع فلا فرق بين الجنسين، والفروق فردية تماماً..
مجموعتي الأولى لم تكن بعيدة تماماً عن هموم المرأة-الأم والزوجة والعاشقة
.
*قرأ مجموعتك الأولى أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن وقدما شهادات جيدة
تبشر بك كقاصة سيكون لها شأن عظيم في المستقبل.. كيف انعكست هذه الآراء
إيجابياً في تجربتك في ضوء تحضيرك لمجموعة قصصية ثانية ستُطبع قريباً؟
**في علم النفس قاعدة تقول إنه لا يحفز النجاح كالنجاح.. من هنا كانت
آراء الكتّاب الكبار فتحية العسال وأسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن قوة
دفع حقيقية جعلتني أنكب على الكتباة بثقة أكبر وبشعور غامر بالارتياح،
مصدره كلماتهم الرائعة.. من جهة أخرى أوقعتني آراؤهم هذه تحت وطأة مسؤولية
السؤال : هل سيكون كتابي القادم بمستوى الأول؟ هل سيلاقي الصدى نفسه؟
*قال أسامة أنور عكاشة حين قرأ مجموعتك الأولى : "الأدب الجيد هو الذي
يدهش، والدهشة هي الانطباع الوحيد الذي يؤكد الجدارة".. فكيف تسعين لأن
تدهشي في كتاباتك؟
**كتبتُ قصصي وفقاً لما أملاه علي إحساسي، وتبعاً لانهمار كلمات القصة
علي.. دهشة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة كان لها أعظم أثر في داخلي، لا
أستطيع وصف السعادة التي غمرتني وأنا أقرأ رأيه ثم وأنا أحاوره هاتفياً
ليؤكد لي أنه سيقرأ أي كتاب جديد يجد عليه اسمي.. لقد أدهشتُه فأبكاني
فرحاً .
*نتفق مع ما قاله محفوظ عبد الرحمن بعد قراءته لمجموعتك الأولى حين قال :
"التجربة الأولى دائماً مأزق فهي تعرفنا إلى الناس، لكنها في الوقت ذاته
تورطنا بصورة دائمة".. بناء على هذا القول ما هي مشاريعك المستقبلية؟ وما
خصوصية المجموعة الثانية التي أنت الآن بصدد طباعتها؟ بماذا تختلف عن
الأولى؟ وما الجديد؟
**أعتقد أنها ستكون أكثر نضجاً من الأولى، فهي تحمل هموم المرأة بشكل
أكبر من سابقتها بشكل عام، وإن كانت لا تخلو من الهموم الوطنية والإنسانية
والاجتماعية، وهي أقرب إلى ذاتي لخصوصيتها الأنثوية ربما، وكأنني حاورت بها
الأنثى المهزومة التي تقف بعد انهزامها مرة أخرى متحدية ظرفها لتثبت
إنسانيتها وقوتها وقدرتها على اتخاذ القرار الحازم الذي يضع حداً لظلم
الآخر وجبروته .
*من استمع إلى قصصك الأخيرة تلمّس مدى تأثرك بأحلام مستغانمي.. ما قولك في
ذلك؟
**أحلام مستغانمي كاتبة ذات أسلوب شعري مميز.. قرأت رواياتها الثلاث
باستمتاع نادر عدة مرات، كما قرأت لكبار كتّاب القصة والرواية.. أسلوبها
ساحر، يشدني فلا أستطيع أن أترك الكتاب من يدي، وتحملني معها إلى عوالم
رواياتها لأعيشها بكل تفاصيلها.. الأدب الجيد لا يمر دون أن يترك أثراً..
أتمنى أن أترك أثراً في القرّاء كالذي تتركه هي عندما أقرأ لها.
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
|