عروة بن الشوك
دعيني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شُّرُهمُ الفقيرُ قليل ذنبه،
والذنب جمّ ولكن للغني رب غفورُ
"
عروة بن الورد"أشهر الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي
وصل عروة بن الورد إلى مدينة حلب، حطّ الرحال في ساحة سعد الله
الجابري، تطلّع الناس إليه بدهشة: " رجل في هذا العصر يرتدي زيّاً قديماً،
ويحمل سيفه ! " . ظنّوه مهرّجاً أو مجنونا.
اقترب منه شاب يافع، تأمله باستغراب، وقد وضع إحدى يديه في جيبه،
وحمل سلسلة مفاتيح باليد الأخرى، يلوح بها باستهتار. نظر عروة بن الورد إلى
الشاب ليرى وجهاً صبوحاً، وثياباً حديثة الطراز، وشعراً مصففاً. سأله الشاب:
- من أنت ؟!
- أنا عروة بن الورد
ازدادت دهشة الفتى: -عروة بن الورد ! هل تمزح معي ؟! أنت ممثل تقلد
شخصيته، عروة بن الورد شاعر جاهلي مات منذ زمن بعيد.
- أنا عروة، عدت إلى الحياة، وجئت إلى عصركم لأكتشفه.
ضحك الفتى: - أنت رجل ظريف ! هل أستطيع مساعدتك في اكتشاف عصرنا ؟!
عروة بن الورد : نعم أحتاج لمرشد لي في هذه المدينة ، ولكن يجب أن
أستريح قليلاً ، فأنا متعب من السفر .
تطلّع الفتى إلى الحديقة العامة أمامهما: - تعال لنجلس في الحديقة !
مشى الاثنان باتجاه باب الحديقة ، جلسا على أحد المقاعد أمام
الشلالات ، سأل عروة الفتى :
-ما اسمك ؟
-عروة الحلبي.
- اسمك عروة أيضاً، مصادفة جميلة !
تابع الفتى: يلقبونني عروة بن الشوك لسلاطة لساني، وشغبي وشقاوتي.
ابتسم عروة بن الورد:-لكل وردة أشواكها، يبدو أن الورد لي والشوك لك
!
شمس نيسان أضاءت وجه الفتى، تسللت أشعتها إلى الغبار الذي يعفر ثياب
عروة بن الورد الذي اتجه إلى صنبور الماء ليغسل وجهه، وينفض الغبار عن ثيابه،
عاد إلى مقعده منتعشاً، نقل بصره
بين الشلالات، والأشجار، والأزهار: - جميلة هذه الواحة !
النسمات الربيعية الدافئة داعبت العروتين، قال عروة بن الشوك:
-إذا كنت حقاً عروة بن الورد، حدثني عن حياتك !
- ألم تصدقني بعد ؟!
- لا
- أنا أيها الشوكي عروة بن الورد بن زيد بن عبس بن مضر، فارس،
وصعلوك، وشاعر من العصر الجاهلي، تمردت على المجتمع، وناصرت الفقراء والضعفاء،
كنا نغزو القوافل، والقبائل، للحصول على الغنائم، وكنت أساعد الصعاليك إذا
أخفقوا في غزواتهم، وأجمعهم، لذا لقبوني بعروة الصعاليك، ألم تسمع بقصيدتي
المشهورة التي أقول فيها:
أفرق جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء، والماء بارد
- نعم أحفظ بعض أبياتها التي تصور الكرم بشكل رائع:
إني امرؤ عافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني إن سمنت وأن ترى بجسمي مس الحق ، والحق جاهد
- يسعدني أن تحفظ أشعاري، وأحب أن أتعرف إليك أكثر.
تطلع إليه عروة بن الشوك بتمعن، أخرج من جيب قميصه علبة سجائر(
مالبورو)، أسند مرفقه إلى المقعد بشكل استعراضي، رسم ملامح الجدية على وجهه
وكأنه شاب في الثلاثين، مد رجله اليسرى أمامه، أسند اليمنى إلى طرف المقعد، مال
باتجاه عروة بن الورد، وهو يخرج من جيبه قداحة ثمينة، قدم علبة السجائر إلى
عروة بن الورد
- هل تدخن ؟
- لا
- نسيت، أنت من العصر الجاهلي، لم يكن لديكم سجائر.
أشعل عروة بن الشوك سيجارته، بدأ ينفث دخانها غي الهواء، وهو يتأمل
الأشجار.
-أنا شاب في الثامنة عشرة من عمري، أدخن علبتي مالبورو في اليوم،
يتيم الأب منذ الحادية عشرة من عمري، توقفت عن الدراسة في منتصف المرحلة
الثانوية رغم تفوقي كي أتعلم الخياطة وأعمل بها، مللتها، اتجهت إلى التجارة،
وأنا أعمل منذ عامين مندوب مبيعات.
- ماذا تبيع ؟
-كل شيء، أعمل مع تاجر جملة يبيع أنواعاً كثيرة من المواد، أسافر
إلى معظم المدن السورية، وإلى بيروت لأبيع البضائع.
- هل تسافر وحدك ؟
- نعم.
- في زمني كنت أغزو القوافل مع أصحابي، وأوزع الغنائم عليهم، حين
كان يهزمهم الفقر يهرعون إليّ قائلين: "يا أبا الصعاليك أغثنا !". فأخرج لأغزو
بهم، وأنت كيف تعامل أصحابك ؟
- أصحابي !ليس لدي أصحاب، أنا لا أثق بأحد، ولا أصادق أحداً، ولا
أعادي أحداً أيضاً، أترك شعرة معاوية بيني وبين الآخرين.
- أنت منافق لا تحب أحداً.
- أنا واقعي ابن هذا الزمان.
- كنت نصيراً للفقراء والضعفاء، أجمعهم وأجزل لهم العطاء، وكل
غزواتي على الأغنياء هدفها إنصافهم، وتوزيع الغنائم عليهم، ولم أكن أبغي الكثير
لنفسي، فمثلي الأعلى تحقيق العدالة والإنصاف، فما هو مثلك الأعلى ؟!
- مثلي الأعلى هو مصلحتي، والحصول على المال لبناء مستقبلي.
- حدّثني عن والدك.
- والدي رحمه الله كان قوي الشخصية، طيباً مع الناس، حنوناً، يحب
أمي، ويحبنا أنا و أخوتي.
- وأمك ؟!
- أمي رائعة وحنونة، تحبني أكثر من أخوتي السبعة، فأنا أصغرهم،
وأرضيها دائماً، وأجلب لها الهدايا حين أسافر.
- كأنك لست ابناً لأمك وأبيك !
ضحك عروة بن الشوك بسخرية: -زمانهم غير زماني !
كان عروة بن الشوك يتحدث بحماس وهو ينفث دخان سيجارته، ويتطلع إلى
سيف عروة بن الورد المعلق على كتفه: -ارني سيفك.
أعطاه السيف، أخرجه من غمده، تأمله: -سيفك لا يصلح لزماننا..
- ولم ؟!
ضحك عروة بن الشوك باستهتار، مدّ لسانه، أشار إليه بإصبعه:- هذا
اللسان الذي تراه أمامك هو سيفي الذي أحارب به الأيام والظروف، هذا زمان الكلام
لازمان السيوف.
- وهل يغني الكلام عن السيف ؟!
- ليس الكلام فقط، بل الحيلة والدهاء، في عملي أجنّد كلّ حيلي
وشقاوتي للنجاح، أصادق الزبائن، أحدثهم بأسلوب ناعم لطيف، في البداية لا يشترون
بضائعي، لكنّي أصرّ على زيارتهم دائماً كصديق حميم حتّى يشتروا منّي خجلاً،
أخفض الأسعار أكثر من غيري حتّى أكسبهم، وبعد ذلك أزيدها بالتدريج، وحين يأمنون
جانبي، وتسنح لي الفرصة، أبيعهم بسعر مرتفع.
- بالك من محتال !
ضحك عروة بن الشوك ضحكته الساخرة، وقف، بدأ يحرك رجليه ويرقص.
- أنت بارع في الرقص..
- هذه رقصة حديثة تعلمتها على يد مدرّب خاص، لابدّ أنك جائع !
- نعم
- انتظرني قليلاً، سأحضر بعض الطعام من مطعم قريب، ونأكل في أحضان
الطبيعة.
حين ذهب عروة بن الشوك، تأمل عروة بن الورد الناس الذين يمشون في
الحديقة، ويتطلعون إلى هيئته باستغراب، أحسّ بحنين إلى الصحراء، إلى عصره
الذهبي، كانت مدينة حلب آخر محطّة في رحلته إلى هذا العصر الذي لم يعجبه،
استغرق في أفكاره وتأملاته التي قطعها عروة بن الشوك، وهو قادم باتجاهه يحمل
صندويش همبرغر وشاورما، ابتدآ يأكلان، مرّت بجانبهما فتاة يافعة، ابتسمت لعروة،
لوّحت له بيدها: -هاي عروة..
لوّح عروة بيده، وتابعت الفتاة طريقها.
-من هذه ؟
-صديقتي ريما.
-تقصد حبيبتك ؟!
-لا، هذه مجرّد صديقة، أنا أحبّ لمى .
- اسمها لمى؟! اسم جميل !
- لمى حبيبتي الرائعة التي أشعلت الشمع في قلبي ، وأنارت لي الطريق
الجميل ، وأوقدت نواقيس الفرح في حياتي ، أحببتها منذ الخامسة عشرة من عمري ،
وحاولت إحدى صديقاتها أن تفرّق بيننا ، فأوهمتني أنّ لمى تحب غيري ، فجنّ جنوني
، كنت عندها في السادسة عشرة من عمري ، كتبت لها قصيدة أقول فيها :
" ماذا ؟!أ كنتِ بي تهزئين ؟! وفي حبك لي تكذبين ! نفسك يا غادرة
تخدعين ! اعلمي ! ما كنتِ أبداً فتنة للناظرين، أو كأس خمر يسكر الشاربين، ما
كنتِ إلا مائدة جميلة، تركت عليها البقايا للآخرين.."
هتف عروة بن الورد: هل تسمي ما قلته شعراً ؟! هذا كلام لا علاقة له
بالشعر، بينك وبين الشعر مسافات.. اسمع هذه الأبيات:
أقلّي عليّ اللوم يا بنت منذر ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري
ذريني ونفسي أم حسان، إنني بها، قبل أن لا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى، والفتى غير خالد، إذا هو أمسى هامة فوق صيّر
ذريني أطوّف في البلاد، لعلّني أخلّيك أو أغنيك عن سوء محضري
توقف عروة بن الورد عن الإنشاد: - لعلّك تعرف قصيدتي "أقلّي عليّ
اللّوم "
- نعم أعرفها، وأحفظ بعض أبياتها، لكن الشعر في زماننا أصبح
مختلفاً..
- ما قلتَه قبل قليل لم يكن شعراً..
- أنا مجرّد هاو، أكتب الخواطر لحبيبتي، ولست شاعراً مشهوراً مثلك..
- نعود إلى لمى، ماذا حصل بعد ذلك ؟
- اكتشفت أن لمى تحبني، وخاب كيد صديقتها الماكرة، وتعلقت بها أكثر،
وحين سافرت مرّة مع أهلها للاصطياف، كتبت:" اليد ترتجف، والقلب ينبض بقوة،
والعين تدمع لرحيلكِ، كيف ذلك بحق السّماء ؟! بكت الجوامد لفجيعتي، حزن الأعداء
لنكستي، وجاءني الكرب باكياً."
- أتكون لمى جميلة مثل اسمها ؟!
- نعم جميلة ، وطيبة جدّاً ، لا تحقد على أحد،تحبني أكثر مما أحبها
، وتحترم آرائي وتقدّرها .
- لابدّ أنّك أحببتَها من أول نظرة !
- وهل يوجد حب من أول نظرة ؟! هذا في أفلام السينما فقط ، كنت أبغي
التسلية وقضاء الوقت ، فوقعت في الحب دون أن أدري ، وأحسست أن لمى هي التي
تناسبني ، وأريدها ، وقررت أن
أو قف غرامياتي، لأحب لمى فقط.
-غرامياتك! أنت مجرد فتى في الثامنة عشرة من عمرك !
-صحيح، لكنني محبوب جدّاً من الفتيات، وكنت ألاحق طالبات المدارس
الإعدادية، وراهقت منذ الحادية عشرة من عمري حتى الرابعة عشرة، ثم أحببت لمى.
توقف عروة بن الشوك عن الحديث، تطلع بتمعن إلى عروة بن الورد:
-لابد أنك تستغرب ما أقوله لك !
-نعم، أنت تثير فضولي، واستغرابي..أكمل حديثك..
- في مرحلة المراهقة كنت أقف أمام مدرسة البنات القريبة من مدرستي،
وحين أرى الطالبات يخرجن من المدرسة، أتطلّع إليهن، وأطلق بعض التعليقات
الطريفة لأثير ضحكهن، فكما تعلم الفتيات يحببن الشاب الظريف، بعد ذلك تجرأت
أكثر، فصرت أختار الفتاة التي تعجبني، أتطلّع إليها بإصرار حين تمر أمامي، دون
أن أحدثها، وأثابر على ذلك عدّة أيام، حتّى أثير فضولهن لمعرفة ما أريد، عندها
أحدّثها، وأحييها بألفة كصديق قديم، وفي غمرة دهشتها، تنسى حذرها، وتحدثني،
وترافقني، وتتباهى بين صديقاتها بمعرفتي، وقد تحضر صديقتها معها،
عندها أغتنم الفرصة للقاء صديقتها دون علمها، وبعد ذلك أتهرب منها، أغير طريقي،
أبتعد عن المدرسة إلى مدرسة أخرى، أحياناً أقنع صديقة لي أن تصادق فتاة تعجبني
كي تعرّفني إليها، مرة تعلقت بي إحدى الفتيات كثيراً، وأردت التخلص منها،
فاضطررت لتهديدها بفضحها أمام أهلها، لتجنب مضايقاتها الهاتفية، مرة تحالفت
فتاتان ضدي، وخسرتهما معاً، فقد التقتا مصادفة في أحد الأعراس، وتعرفتا على
بعضيهما، كل واحد ة حدثت الأخرى عن خطيبها عروة الذي هو أنا، واكتشفتا أنهما
تحبان نفس الشخص، وأنه يخدعهما معاً، ومرة عرفت طالبتين في إحدى المدارس، أوهمت
كل واحدة منهما أنني أحبها، وحين عرفتا الحقيقة، اصطدمتا، وتضاربتا بالأيدي،
وكانت معركة طريفة، وفضيحة، اضطررت بعدها للابتعاد إلى مدرسة أخرى، وحارة أخرى.
-يبدو أنك تتسلى بقلوب الفتيات !
-ولم لا تقول إنني أسليهن، وأمنحهن بعض الذكريات الجميلة، أنا أريد
أن أظل صورة لطيفة في أذهان الفتيات، تتحسر كل واحدة علي إذا رأتني في الطريق.
- الرجل الحق يا عروة الشوكي يحب مرة واحدة في حياته، أنا لم أحب
سوى زوجتي سلمى بنت المنذر من قبيلة كنانة، وقد سبيتها في إحدى غزواتي، أعتقتها
وتزوجتها، فكانوا يعيرون أولادي منها بأنهم أولاد السبيّة، فلم تهن عليها
كرامتها، وطلبت العودة إلى أهلها الذين سقوني الخمر، حتى سكرت، ورضيت بردها
إليهم، وندمت على ذلك، فقلت:
" فلا والله لو ملكت أمري ومن لي بالتدبر في الأمور
إذاً لعصيتهم في حب سلمى على ما كان من حسك الصدور"
- زوجتك لم تكن تحبك، ولذا تخلت عنك.
- كانت تحبني، لكن كرامتها كانت أغلى مني، أثنت علي قائلة: إنني
طويل العماد، كثير الرماد، راضي الأهل والجانب، وكنت أعرض نفسي للأخطار، ولا
أهاب الموت من أجلها، ومن أجل أولادي، وقومي الفقراء.
- مسكين أنت ! أحببت واحدة تزوجتها، فتخلت عنك، أما أنا فقد عشت
حياتي كما أريد، وتمتعت بأوقاتي، ولم أتزوج حبيبتي كي لا تقف عقبة أمام
مستقبلي، فعلي أن أنهي خدمتي العسكرية الإلزامية، وأشتري بيتاً، وغير ذلك. .
سألتني أم لمىعن نهاية حبي لابنتها، طلبت مني أن أتزوجها، ولكن ليس باليد حيلة،
كنت أضعف أحياناً، وأقرر الزواج منها، ثم أتراجع. قال لي أصدقائي: تعرف على
غيرها لتنسى حبها، لكن معرفتي بغيرها زادت حبي لها، وجعلتني أحس بالذنب، وأرقني
عذاب الضمير، وعدت لأراها، ومازالت مشكلتي معلقة ليس لها حل … هل لديك حل
لمشكلتي ؟!
ضحك عروة بن الورد: - حل مشكلتك بيدك لا بيدي، يبدو أنك تتسلى.
عروة بن الشوك: - هذه المرة أنا جاد، انتهت مرحلة الطيش، وأفكر
بمستقبلي.
كانت الشلالات تتراقص أمامهما ، والحديث الطويل استغرقهما ، فلم
يحسا بالوقت ، بدأت الشمس بالغياب ، والمساء يزحف رويداً رويدا .
قال عروة بن الورد: حديثك شيق، لكنك صدمتني بآرائك وتصرفاتك
الغريبة.
- أنا ابن هذا العصر، أتكلم لغته، لو كنت تعيش في عصرنا لما حدثتني
عن المثاليات، والجرأة، والشجاعة، والشهامة !
- -مخطئ أنت، لكل عصر فرسانه، وشعراؤه، وشجعانه تعال معي إلى
الصحراء، علك تطهر نفسك من الشوائب ….
- وهل أغامر بترك مدينتي برفاهيتها لأذهب إلى صحراء ليس فيها سوى
الرمال ؟! لك صحراؤك، ولي مدينتي، لك سيفك، ولي لساني، لك إخلاصك وشهامتك، ولي
واقعيتي، وشطارتي.. ألن تتجول في المدينة ؟! حلب جميلة في الليل.
- لا.. لا أريد رؤية الكثيرين من أمثالك.. سأعود سريعاً إلى عصري
وعالمي.. وداعاً أيها الشوكي !
قفز حصان عربي أصيل أمامهما، خاطبه عروة بن الورد – اقترب يا حصاني
أنا بانتظارك..
شهر سيفه، امتطى حصانه، واختفى..لم يبق أمام الشلالات سوى عروة بن
الشوك يجلس وحيداً، على المقعد، يكمل تدخين سيجارته، وينظر إلى ساعته، فلديه
موعد هام ينبغي أن يسرع إليه.
حلب
خيانة
كتبت الشاعرة قصيدة تتغنى فيها بابتسامة حبيبها، قرأها فاتهمها
بالخيانة، ظن أنها تتغزل بابتسامات الآخرين، قرأها الآخرون فظنوا أنها لهم،
وصاروا يبتسمون لها كلما رأوها.
حبّ
أحبها كثيرا، صنع لها تمثالا من الشوكولا، حين أقبل الصيف، خشي أن
يذوب التمثال، فأكله، وانتهت قصة الحب.
لعبة الحب
تعرف عليها في حوار عبر الإنترنت، كانت تناديه دائما: حبيبي...،
أراد أن يتأكد من إخلاصها، غيّر اسمه وحدثها، نادته أيضا: حبيبي.... غيّر اسمه
عدة مرات، فاجأته الحقيقة المرّة...تتحدث مع الجميع بنفس الطريقة، تغازل
الجميع، إنها فتاة لعوب، مخادعة، تدعي البراءة والإخلاص، تجسس على بريدها
الإلكتروني اكتشف أنها ترسل كثيرا من الرسائل للآخرين وتتلقى منهم الكثير،
قابلها عدة مرات، لم يصارحها باكتشافه لحقيقتها، خشي أن تكرهه وترفض الزواج
منه، فقد قرر الزواج منها، كي يثبت لنفسه أنه أفضل من كل المعجبين بها، وربما
أحب خداعها وكذبها وقوله أنه فارس حياتها الوحيد. حين عرض عليها الزواج، رفضته،
قالت: لا أريد الزواج الآن، يجب أن أنهي دراستي في الجامعة، أنا ألعب لعبة الحب
عبر الإنترنت.
خيبة
بعد أحاديث طويلة مفعمة بالعواطف الحارة عبر الإنترنت مع رانية، بعد
صفحات طويلة تبادلاها عبر البريد الإلكتروني، وافقت أن تقابله في أحد المقاصف،
حاول كثيرا أن يقنعها بالحديث معه عبر أسلاك الهاتف رفضت بحجة الظروف
الاجتماعية القاهرة، قالت له: ستراني بقميص أزرق وبنطال جينز وشعري أسود
قصير.دخل إلى المقصف، لم يرها، رأى شابا يتطلع إليه، ثم اقترب منه قائلا: أنا
رانية. صعق، أتكون رانية شابا؟ قال الشاب: تفضل اجلس معي كي أشرح لك القصة.
جلسا إلى الطاولة، قال الشاب: أنا سامي أحب المزاح والتسلية، أعتذر إذا كنت
جرحت عواطفك، لكن القدر انتقم مني، فقد خدعني شاب آخر ادعى إنه فتاة، وتسلى بي،
أحسست بفظاعة ما فعلته معك، لذا وافقت أن أراك وأنهي قصة الخداع.
اليد الخفية
كم يثير حنقي ذلك الرجل
؟! يأمرني وعلي أن أطيعه، شبه كبير بيننا، وجهي بحيرة صافية تتفجّر تألقا
وعنفواناً، بينما تركت الأيام بصماتها على وجهه، وحفر الزمان أخاديد كثيرة على
جبهته.
يحدّث أصدقاءه بفخر: هذا
نسختي !
تعال يا بشر.. اذهب يا
بشر..استنسخني كي يستعبدني ، حتّى اسمي يشبه اسمه! ينادونه الأستاذ بشير،
والسّيد بشير..وأنا بِشْر..نكرة..مجرّد كائن بلا شخصيّة.
يمشي ملوّحاً بيده
الاصطناعيّة ، فقد أصيبت يده اليسرى بحادث سيّارة في فجر شبابه، زاد حقدي عليه
، شعرت أنني في خطر حين زارنا الدّكتور الجرّاح برهان، تأمّلني بنظرة فاحصة
أثارت شكوكي جلس مع السيّد بشير في صالة الاستقبال ،حين أحضرت لهما القهوة
توقفا فجأة عن الحديث ، جلست على الأريكة ، نظر إلي السيّد بشير محرجاً ، قال
آمراً: اخرج يا بشر ..لديّ حديث خاص مع الدّكتور برهان .
خرجت من الغرفة ،وفضول
كبير يتملّكني ، أنا أعرف كلّ أسرار السّيّد بشير ..لماذا لا يريدني أن أسمع
هذه المرّة؟ّ! تسمّرت قدمي عند باب الصالة المغلق أسترق السّمع، ويا لهول ما
سمعت !
الدّكتور برهان يقول
للسّيّد بشير :
اطمئن ! العمليّة ناجحة
تماماً ، دورك في المستشفى بعد أسبوع ،لن يعرف بِشر، سنضع له مخدِّراً في
الشّراب ،ثمّ نقطع يده ، ونلصقها بذراعك فوراً ، حين يصحو ويكتشف الأمر، يمكنك
أن ترضيه ببعض المال ، وتشتري صمته .
إذن ستكون يدي قطعة
تبديل للسّيّد بشير دون علمي ..بصعوبة شديدة تمالكت نفسي، خرجت إلى حديقة
البيت لأستنشق الهواء النّقي..الآن عرفت لماذا استنسخني..أنا مجرد موزع لقطع
التّبديل يستولي على يدي لأصبح إنساناً مشوّهاً ..ألست كائناً بشريّاً ؟ أنا
نسخة ، لكنّني أحسّ وأتألّم .يبدو أنّنيي أعيش مع مجرم هجرت الرّحمة قلبه ..ما
ذنبي إذا خسر يده في حادث سيّارة ؟ هل أنا المسئول عن عاهته ؟
_أهذا أنت يا بِشر ؟ كيف
حالك ؟
تناهى إليّ صوت السّيّد
بشير ، التفتّ إليه لأراه يبتسم ببراءة مصطنعة ، وودّ كاذب ، كان يسير مع
الدّكتور برهان مودِّعاً .
كيف حالي ؟ …وكأنّه
يهتمّ بي ؟ ..يدّعي البراءة ويخطّط لقطع يدي كي يصبح إنساناً كاملاً .
عاد السَّيِّد بشير ،
مرّ أمامي ، قال :أنا متعب وجائع ، أحضر طعام العشاء إلى غرفتي .
يريد أن يأكل ..بكلّ
وقاحة يطلب منّي أن أجهِّز له الطّعام ، سأضع السّمّ في طبقه ، ولكن أخشى أن
تكتشف جريمتي وأعاقب بالسِّجن … لا..سأفكِّر بطريقة أخرى لحلِّ مشكلتي..لديّ
أسبوع للتفكير ..سأهرب منه ..ولكن أين أذهب ؟ ! أنا تابع له ، خادمه ،
وسكرتيره ،ومدير أعماله ، ليس لديّ أصدقاء أو أقرباء ألجأ إليهم .
قدّمت له العشاء ، كان
ممدّداً في سريره ، نهض ليأكل ، ليته ظلّ ممدّداً إلى الأبد!
هل أدعهم يرتكبون بحقّي
هذه الجريمة دون أن أحرِّك ساكناً ؟! سأتّصل بالشّرطة ..ماذا أقول للشّرطة
؟!ليس لديّ أيّ دليل ضدّهما ..سينكران ، سيدّعيان أنّني أتّهمهما ظلماً
وعدواناً ، بعد تنفيذ الجريمة لن تفيدني الشّكوى للشرطة ،إذا خسرت يدي من
الأفضل أن ألتزم الصمت وأرضى بمبلغ من المال يساعدني في شؤون الحياة .
رنّ جرس غرفته ، يدعوني
إليه ، هرعت مسرعاً ، قال لي وهو يتثاءب : سنسافر قريباً في رحلة طويلة إلى بعض
الأماكن الجميلة ، ونقضي أيّاماً رائعة
ابتسمت ، تظاهرت
بالسعادة ، تابع كلامه :
سأسافر غداً في رحلة عمل
عدّة أيّام ، جهِّز لي حقيبة السفر، وتولّ أمور العمل أثناء غيابي.
هكذا إذن ! سوف يأخذني
في رحلة نقاهة كي أغفر له إساءته .
لم أستطع النوم وأنا
أفكِّر بحلّ لمشكلتي، مع بزوغ الفجر بزغت فكرة رائعة في ذهني، شربت قهوتي
باستمتاع في حديقة البيت، حين تأكَّدت من سفر السيّد بشير، تناولت سماعة الهاتف
بجرأة وتصميم اتَّصلت بالدّكتور برهان: آلو..دكتور برهان..أنا الأستاذ بشير ،
أرجو أن تؤجِّل إجراء العمليّة عدّة أشهر لأنّني سأسافر في رحلة عمل طويلة .
أجابني : كما تريد
أستاذ بشير ، اتّصل بي حين تعود كي أحجز لك غرفة في المستشفى .
انطلت الخدعة على
الطّبيب، فصوتي يشبه صوت السَّيِّد بشير، تفاءلت بنجاح خطّتي، حين عاد
السَّيِّد بشير أخبرته أنَّ الدّكتور برهان اتصل هاتفيّاً وأبلغه بتأجيل إجراء
العمليّة عدّة أشهر بسبب سفره في بعثة علميّة طارئة، وأنّه سوف يتّصل به حين
يعود. تساءلت ببراءة: ما هي العمليّة الّتي ستجريها ؟ لم تخبرني أنّك مريض.
أجابني بهدوء : إنّها
عمليّة بسيطة ، استخراج كتلة دهنيّة من صدري .
تظاهرت أنّني صدّقته، في
اليوم التالي قرر أن نسافر في رحلة استجمام إلى مدينة ساحليّة جميلة كي نستمتع
بالسّباحة، قضينا فترة طويلة في تلك المدينة، أظهر لي السّيّد بشير حناناً
كبيراً، بينما كنت أفكِّر بالوقت المناسب لقتله، تبلورت الخطّة في ذهني، لم يبق
سوى التنفيذ، تردّدت، شعرت بالإثم للفكرة الجهنّميّة الّتي تمخّض عنها دماغي،
هل أنا مجرم؟ لكنّني أدافع عن نفسي …
ربّما ورثت الميول
الإجراميّة عنه، ألست نسخته ؟
سبحنا في البحر كثيراً،
تسابقنا، فزت عليه، قلت له مستفزّاً: أنا أمهر منك، لن تستطيع التّغلّب علي
مهما حاولت .
قال بغضب: أنا سبّاح
ماهر وسوف أسبقك، هيّا نبدأ السّباق..
سبحنا بعيداً إلى أعماق
البحر، تعب كثيراً، قاوم تعبه، أصرّ أن يهزمني، بدأ يلهث، ضاق نفسه صحت به: لن
تفوز أبداً.. أسرعت حتّى تجاوزته بمسافة كبيرة.
زاد سرعته، تشنّجت
عضلاته، نظر إليّ مستغيثاً وهو يقترب منّي، تجاهلت وجوده، صممت أذنيّ عن صراخه،
أمسك بي، أبعدته عنّي بعنف، غمرت وجهه في الماء، لم تكن لديه القوّة للمقاومة،
استسلم للبحر وغرق. عدت مسرعاً إلى الشاطئ، أطلب البحث عن أخي الّذي اختفى في
البحر، بعد تفتيش طويل اهتدوا إلى الجثّة، أحضروها إلى الشاطئ، بكيت كثيراً على
أخي العزيز، عدت إلى مدينتنا بصحبة تابوته،دفنته باسم بشر، وانتحلت شخصيّته،
صار اسمي الأستاذ بشير رجل الأعمال الغني، اتّصلت بالدكتور برهان لأبلغه أنّني
أجريت العمليّة في مدينة أخرى، وأنّ بشر نسختي مات غرقاً بعد إجراء العمليّة،
تابعت حياتي باسمي الجديد، تراودني دائماً مشاعر الإثم، أطردها، أتطلّع إلى
يدي، أحمد الّله أنّها لم تقطع، أحاول أن أغفر لنفسي الجريمة الّتي ارتكبتها،
أتابع حياتي بهدوء وقد أسدلت ستاراً كثيفاً على جريمة تؤرّقني، وتفسد عليّ
سعادتي
الكلب
1- الوليمة:
اقترب منها، هز ذيله،
لوى رأسه يمنة ويسرة بفرح، قال لها: - اشتقت لك كثيرا
تأملها بهدوء، قال:-وضعك
لا يعجبني، ما هذا؟!
تساءلت بدهشة:- ماذا
تعني؟!
أجاب:- لن تفهمي قصدي
أبدا، اسكتي، لا يحق لك أن تتكلمي، أرني لسانك
مدت لسانها، التهمه
بشغف، قال متبجحا:- أرحتك من هذا اللسان اللعين
تطلع إلى أنفها، لمسه
بيده، قالت:- أشم رائحة كريهة
قال:- أنت لا تشمين إلا
الروائح الكريهة، سأريحك من هذه المشكلة
التهم أنفها بسرعة، نظرت
إليه مستهجنة، أرادت أن تصرخ احتجاجا، تذكرت أنه أكل لسانها، أزعجته نظراتها،
قال:
-أنت ترين كثيرا من
الأشياء التي لا ينبغي رؤيتها
أكل عينيها، كسر
جمجمتها، أكل المخ وهو يتلمظ، ويحرك لسانه، قال:- أرحتك من التفكير لأنه يتعب
دماغك
استمر في التهامها،
اليدان، الرجلان، فصفص العظام بشهية، رماها قرب حاوية قمامة كبيرة، بصق عليها،
جمعها ثانية، شكلها هيكلا عظميا، نبح بضراوة، صاح بها: أغربي عن وجهي
لم تتحرك، ضربها بشراسة:
- هيا اذهبي، ولكن احذري الكلاب المتوحشة في الشارع، إنها تنبح وتعض
مشت متثاقلة، وهي تئن
وتتطلع إلى هيكلها العظمي، وتتساءل:
- هل أبقى هذا الكلب مني
شيئا للكلاب الأخرى ؟!
2- قبل الوليمة:
التقاها في الطريق، هز
ذيله، كشر عن أنيابه بشبح ابتسامة، نبح وهو يقترب منها، ابتعدت عن طريقه خائفة،
توقف عن النباح، بدأ يتكلم بلطف ووداعة، أخفى ذيله، غير ملامحه، صار يشبه
الرجل، قال لها:
- لم تخافين ؟! أنا رجل
لطيف
- تساءلت مستغربة: - هل
أنت رجل حقا ؟! ظننتك كلبا !
ضحك، أخرج بطاقته
الشخصية من جيبه، قربها من عينيها، قرأت: الاسم: فلان الجنس: ذكر
ذكر يعني رجل ! ......
كيف حسبته كلبا ؟!
استعاد بطاقته الشخصية
منها، مسد على شاربيه متباهيا:
- هل صدقت أنني رجل ؟!
هذه الشوارب لرجل هو سيد الرجال
حدثها عن عدد النساء
الهائل اللواتي وقعن في شباكه، عن بطولاته في السرير، المعارك الغرامية التي
خاضها وانتصر فيها، النساء اللواتي أسرهن بحنكته وقدراته الحربية، استغرق في
أحاديثه الكثيرة وهي تستمع بتعب وذهول، فقدت ذاكرتها ووعيها، داهمتها الغيبوبة،
فوجد الفرصة سانحة لالتهامها
3- بعد الوليمة:
مشى الكلب في الشارع وهو
يتطلع حوله وينبح، كان يفتش عن فريسة أخرى، لأنه شعر بالجوع رغم الوليمة
العامرة، فجوعه أبدي، اقتربت منه فتاة جميلة في الخامسة عشرة من عمرها، نظر
إليها بحنان مفتعل، وقد أسبل عينيه
- كيف تمشين وحدك يا
طفلتي ؟! الشارع خطر والكلاب كثيرة، سأحرسك.. هيا..لا أسمح لك أن تذهبي وحيدة،
بعد قليل ستعم الظلمة.
- اطمأنت الفتاة، مشت
قربه تحتمي به، وكان طوال الطريق يحذرها من الكلاب كي يلتهمها وحده، دون أن
يشاركه أي كلب آخر صيده الثمين.
فيروسات
كان صيفاً كئيباً
استقبلتني فيه عيادة طبيب الأمراض الهضمية عدة مرات ، واستقبلني مخبر التحاليل
كثيراً ، أكّد التحليل وجود جراثيم وطفيليات تصرّ على الصّمود في جهازي الهضمي
. منذ زمن طويل أعاني من حساسية مفرطة في المعدة والقولون ، كل فترة تهاجمني
تشنجات القولون الحادّة ، فتحيل حياتي جحيماً .قال الطبيب : تجنبي البرد ،
والأطعمة الدسمة ، وابتعدي عن الانفعالات والتوتّرات.
تطلعت إلى الطبيب
مستغربة ،سألته : هل يمكن للإنسان أن يتوقف عن الإحساس والانفعال ؟!
أجابني وهو يكتب لي
قائمة طويلة من الأدوية : حاولي أن تتعاملي مع الحياة بهدوء ولامبالاة ،وإلاّ
لن تنفعك هذه الأدوية ، أمراضك نفسية المنشأ ، وعلاجك أن تفرحي وتضحكي وتتجاهلي
المشاكل .
أعاني أيضاً من حساسية
تجاه تغير الطقس ، وغبار الطلع ، والرطوبة ، و ، و ، الخ …
الجراثيم والطفيليات تجد
في جسدي مرتعاً خصباً لها ، والفيروسات تحبني وتجد مأوى عندي في كل فصول السنة
، منذ طفولتي كانت حياتي معركة دائمة ضدّ فيروسات الحياة التي تدمّر مقاومتي
ومناعتي ، الأشنيات والطحالب تطفو على نهر حياتي الجاري لتعيق مسيرته وتحوله
إلى نهر راكد لتفسد صفاءه ، وتشوه صفحته ، حرب استنزاف رهيبة لا تنتهي . كلما
حاولت أن أهرب من المتاعب طاردتني ! ولم تكفني همومي بل حملت على عاتقي هموم
الجنس البشري ، أشعر بعجزي أمام لغز الحياة ، تتفاقم حالتي المرضية .وزاد الطين
بلة ذلك الكائن العجيب الذي حلّ ضيفاً على بيتنا منذ أكثر من عام ونصف وسبب لي
كثيراً من الأزمات ، لم يرض أن يشرّفنا بحضوره إلا بعد أن دفعت له مهراً مبلغاً
محترماً من المال ، استدنته ومازلت أدفع أقساطه ، أصابني بأزمة اقتصاديّة خانقة
، توقفت عن شراء الملابس والكتب وألغيت النزهات والرحلات من مخططاتي اليومية .
في البداية عارض أفراد
الأسرة وجوده بيننا لأنه سيحتل مكاناً في البيت ، ويسبب إرباكاً للجميع ، رضخوا
أمام إصراري .ظننت أنه سيعينني في أمور الحياة ويحمل عنّي جزءاً من أعبائها ،
فتحول إلى هم جديد يستنزفني، كائن متطلب عليّ أن أعتني به دائماً ، أنظفه
وأرتبه ، وأشتري له الأشرطة الموسيقية والبرامج المتنوعة ليتسلّى بها ، ويجب أن
أعامله بلطف كي يرضى عنّي ويحدّثني ،ولا ينفجر صائحاً أو مصفِّرا .أعادني إلى
العصر الذّهبي لكتابة الرّسائل ، يكتب لي رسائل عتاب على أخطائي غير المقصودة ،
ويكتب رسائل إنذار إذا تكررت الأخطاء ، أضطرّ للرّضوخ لمتطلّباته كي لا يكفهرّ
وجهه ،ويثور غضبه ، وقد تتحطّم جمجمته ، وتتطاير في أرجاء الغرفة ، أويحرد
ويتوقف عن الكلام والعمل ، كائن غامض له برامجه ومخططاته الكثيرة ، يتحدّث عدّة
لغات ، ولا يمكن أن أعرف نواياه أبداً ، يفاجئني كلّ مرّة بأمر غريب يوتّر
أعصابي ، فيزداد تشنّج القولون ، وأتجرّع الأدوية والمسكّنات . ومثل كلِّ
الأزواج الشرقيين، بدأ حكايته معي بإرهاقي بمتطلّباته الكثيرة ومحاسبته الدقيقة
، ومحاولته الهيمنة على كلّ شؤون حياتي ، وإلغاء اهتماماتي الأخرى ، بعد فترة
قصيرة من قدومه إلى بيتنا حرن وأصيب قلبه القاسي بتوقف عن الخفقان ، فشلت كلّ
محاولات الإنعاش ، اضطررت لوضع قلب جديد له ، مرّ بفترة نقاهة طويلة ، كنت
خلالها أعامله بلطف شديد كي لا يمرض ثانية ، ، وظلّت مناعته ضعيفة يصاب بين
الحين والآخر بالزّكام أو السعال الحاد ، رغم وضعي الصحّي السيئ اعتنيت به فهو
حسّاس تجاه الفيروسات كلّ مرّة يهاجمه فيروس جديد ، فيكتب لي رسائل شكوى، أفحصه
أو أحضر الطبيب المختصّ كي يفحصه ،ويطرد الفيروس الّذي يزعجه ويزلزل كيانه .
كان مثلي يكره الحرارة الشّديدة ويمرض بسببها فاشتريت له مكيّفاً ، وزادت
ديوني ، ولم يكن يتحمّل الرّطوبة والغبار ، وحين أشعلنا جهاز التدفئة في بداية
الشّتاء كتب رسائل شكوى ، فأطفأنا جهاز التّدفئة ، وقضينا شتاءً بارداً إكراماً
لخاطره .
مع مرور الزمن تسلّل إلى
تفاصيل حياتي ، وسرق كلّ شيء منّي ، بدأ بأخوتي الثّلاثة الّذين صاروا
ينافسونني على قلبه ومشاعره ، يحاولون فهم شخصيته الغامضة ، وفكّ طلاسمه ،
يتسابقون على العناية به ، ثمّ سرق صديقاتي اللواتي يأتين لزيارتي ، تكاثرت
زياراتهنّ ، ينظرن إليه بفضول ، ويحسدنني على صلتي به ، يقتربن منه ، يلمسن
وجهه المشرق ، وأزرار بذلته النافرة ، ويتغزّلن بوجهه النوراني ،وثقافته
الواسعة ، ولطفه ورقته ،حتّى شعرت بالغيرة منه ، وصرت أغار عليه من نظراتهن ،
وأعتذر عن استقبالهن .أطفال الأسرة كان لهم صولات وجولات معه ، أسرهم بألعابه
المسلية ، يتجمعون حوله ، يحكي لهم الحكايات ، ويلعب معهم ألعاباً غريبة .
يوماً بعد يوم شعرت أنني أخسره ، فهو رغم حساسيته وأمراضه يستحوذ على اهتمام
الجميع ، فكّرت أن أطلّقه ، ألا تكفيني فيروساتي كي أبتلى بكائن مريض وحسّاس
مثلي للفيروسات ؟! ولكن دفعت له مهراً كبيراً وسوف أخسر المهر الّذي دفعته،
وفرشت غرفة جميلة ، واشتريت مكيّفاً من أجله ، اعتدت وجوده في البيت ، وأحببته
رغم كلّ متاعبه ، رغم تعب دماغي في فكّ طلاسمه ، ويدي في لمس أزراره ، وعينيّ
من تأمّل شاشته ، ورقبتي من متابعة رسائله على الشاشة أمامي ، ليس أمامي خيار
آخر ! سأتابع مسيرة حياتي مع الوافد الجديد ، جهاز الكمبيوتر العزيز .
|