أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتبة: دلال حاتم / 1931-2008

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

ولدت في دمشق عام 1931

نالت الإجازة في الآداب من جامعة دمشق منذ عام 1955.

عملت منذ عام 1962 في وزارة الثقافة في مديريات:

محو الأمية، العلاقات العامة، الإرشاد القومي، مجلة المعرفة، مديرية المراكز الثقافية.

في عام 1968 تفرغت للعمل في الاتحاد العام النسائي حيث ساهمت في إصدار مجلة المرأة العربية

وعملت كسكرتيرة للتحرير فيها لمدة ثلاث سنوات.

في عام 1970 عادت إلى عملها في وزارة الثقافة، فكلفت بالعمل في مجلة أسامة كسكرتيرة للتحرير.

وفي عام 1975 ندبت للعمل في وزارة الإعلام (وكالة سانا).

في نهاية 1976 تسلمت رئاسة تحرير مجلة أسامة ومازالت فيها حتى اليوم.

في عام 1984 حصلت على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن قصة: حدث في يوم ربيعي.

ساهمت في إعداد مسلسلات إذاعية للأطفال كما قدمت مسرحيتين لمسرح العرائس.

عضو جمعية القصة والرواية. 

 

مؤلفاتها:

1- الحمامة البيضاء - قصص مترجمة للأطفال - وزارة الثقافة - دمشق 1974.

2- السماء تمطر خرافاً- قصص للأطفال 1976، وزارة الثقافة.

3- العبور من الباب الضيق - قصص للكبار - وزارة الثقافة - 1979.

4- من الحجر المصقول إلى غزو الفضاء - معلومات علمية مبسطة - وزارة الثقافة - 1980.

5- الديك الأسود - قصة للأطفال - 1980 ط1 1982 ط2 - دار الفتى العربي.

6- ما أجمل العالم - قصة للأطفال - 1980 ط1 - 1981 ط2 - دار النورس (لبنان).

7- حنون القرطاجي - سيرة قصصية - كتاب أسامة الشهري - 1981.

8- بالون ريمه- قصة للأطفال 1982  - دار الفتى العربي.

9-  شجرة زيتون صغيرة - قصص للأطفال - 1982- كتاب أسامة الشهري.

10- حدث في يوم ربيعي -  قصة للأطفال 1983 المديرية العامة للآثار والمتاحف.

11- درس استثنائي- قصص للأطفال - كتاب أسامة الشهري- 1983.

12- مذكرات عشرة قروش- قصة طويلة للأطفال- 1984- اتحاد الكتاب العرب. 

13- أدفأ مكان في العالم - قصة للأطفال 1985. كتاب أسامة الشهري.

14- الزهرة والحجر - قصص للأطفال - 1989- كتاب أسامة الشهري.

15- حالة أرق - قصص للكبار - وزارة الثقافة - 1990.

16- الفطيرة الطائرة - رواية للفتيان (ترجمة) دار الجندي (دمشق) 1990.

17- الحلم الجميل - قصص للأطفال- اتحاد الكتاب العرب 1987.

18- رامي السهم الأبيض - رواية للفتيان (ترجمة) - دار الجندي - دمشق 1990.

19- حجا في الفضاء - قصة طويلة مصورة- دار صحارى - حلب- 1993.

20- طاحونة الأحلام - قصص للأطفال (ترجمة)- كتاب أسامة الشهري -1993.

21- جحا ولصوص التحف - قصة طويلة مصورة- دار صحارى- حلب 1994.

22- قصر المرمر- قصة علمية للأطفال- الجميعة الكوينية لتقدم الطفولة (الكويت).

23- حكايات من طفولة زينب- قصص للأطفال- اتحاد الكتاب العرب- 1996.

24- امرأة فقدت اسمها- وزارة الثقافة 1997.

25- من أساطير الهنود الحمر- دار الجندي.

26- جحا في مدينة الذهب- دار صحارى.

27- عندما احمر وجه القمر- قصص للكبار.

28- كان ياما كان- حكايات شعبية للأطفال.

توفت في 2 أيلول 2008عن عمر ناهز الـ 77 عاماً

نماذج من أعمال الكاتبة

انكسارات

النوم..اليقظة 

 

 

النوم – اليقظة

 

إلى أمي التي افتقدها كثيراً‏

 

أفتح عيني فجأة، وأستيقظ من نوم عميق. أنظر حولي وأستغرب المكان. الجدران بيضاء بلون الثلج وكأنها طليت حديثاً. متى حدث وتم هذا على الرغم من أنني لم أبارح غرفتي؟. أرهف سمعي وأنصت طويلاً لعلي أسمع صوت الساعة التي أنام وأصحو على تكتكتها، أو صوت مذياعي الصغير الذي يستريح دائماً قرب رأسي، فلا أسمع إلا هدوءاً وصمتاً. أين ذهبت الساعة؟ ربما نسيت أن أدير مفتاحها وأملأها، وربما أخرجتها ابنتي الصغرى من الغرفة، لأنها دقاتها الرتيبة تضرب كما تقول على أعصابها وتسرق النوم من عينيها.‏

أجيل بصري في أنحاء الغرفة، فأفتقد خزانة ملابسي والتلفاز والمدفأة التي تقبع في مكانها صيفاً شتاءً. حتى (الكومودينو) الصغيرة وعصاي وسلة أشغال الإبرة اختفت ولم تعد في مكانها.‏

هل استغل أولادي فرصة نومي العميق فنقلوني من غرفة إلى أخرى؟. حدث هذا بالتأكيد ولكن لمَ؟. تقع أنظاري على نافذة عريضة تحتل الجدار من أقصاه إلى أقصاه. أنتبه أن أولادي يتحلقون حولي وأستغرب وجودهم جميعاً، إذ نادراً ما كانوا يجتمعون. وعندما أمعنت النظر في وجوههم وجدتهم نائمين. ناديتهم بأسمائهم واحداً واحداً، قلت لهم: أفيقوا وأسمعوني ضحكاتكم الحلوة. ولكنهم لم يردوا على ندائي وظلوا غارقين في النوم.‏

تململت في فراشي. مددت بحذر ساقي التي تؤلمني وأسمع دائماً طقطقة عظامها فلم أشعر بأي ألم. فرحت، هتفت من قلبي: الحمد لله، أخيراً استجاب الله لدعائي وشفاني. ولكن هل يشفى الإنسان من آلامه التي استمرت أكثر من ربع قرن بين عشية وضحاها؟. لم لا؟ الله قادر على كل شيء، وكم دعوته أن يمن علي بالشفاء، أو أن يخفف عني ولا يجعلني عاجزة تماما أحتاج إلى من يقيمني ويقعدني. حركت ساقي الثانية لأتأكد: لا ألم، حدثت المعجزة أخيراً وفرحي لا يرقى إليه وصف.‏

أحسستني خفيفة كريشة عصفور. أستطيع الآن أن أتحرك وأقوم دون خوف من الألم أو السقوط. سأذهب إلى المطبخ وأحضّر قهوة الصباح، سأحملها إلى أولادي وأفاجئهم، وسنخرج جميعاً إلى الشرفة التي طالما تحرقت أن أخرج إليها، لأرش وأسقي نباتاتها.. لأنظر إلى الفضاء الرحب، لأستمتع بنظر شروق الشمس، وغروبها، وانعكاسات ألوانها الذهبية والوردية على صفحة السماء الزرقاء.‏

تحين مني التفاتة إلى السقف. السقف كله قطعة مرآة صقيلة. أحدق في المرآة. تتحول المرآة جنينة صغيرة يحيط بها صف من شجيرات الورد البلدي، وبين الشجيرات اختبأت بنت صغيرة، تدلت جديلتاها السوداوان على كتفيها، وبيدها جزة صوف وتغزل.‏

-فاطمة.. أين أنت؟.. قلت لك مائة مرة لا تعبثي بمغزلي.‏

تضع البنت الصغيرة يدها على فمها، وتكتم ضحكة قد تفضح مكانها. يتوالى النداء ويقترب. تدنو امرأة من الشجيرات، تنحني بحثاً عن البنت الصغيرة، وعندما تعثر عليها تشدها من يدها:‏

-هاتي المغزل، ولا تعبثي به مرة أخرى.‏

يتوضح وجه المرأة. إنها تشبه أمي التي ماتت منذ زمن بعيد بعيد، ولكن صورتها لا تزال ماثلة من ذاكرتي. أنادي المرأة: أمي. ولكن صوتي لم يخرج من صدري. لم تلتفت أمي إليّ، ظلت مشغولة بالبنت الصغيرة وبانتزاع المغزل من يدها. أخيراً مضت المرأة بالمغزل وجزّة الصوف، ودفنت الصغيرة رأسها بين ركبتيها وأعولت.‏

ناديتها:‏

-كفى عن البكاء يا صغيرة.‏

رفعت البنت رأسها ونظرت إلي. يا الله! كم تشبهني في طفولتي.. كأنها أنا!‏

أجابتني وهي تشرق بدموعها:‏

-أمي لا تحبني. كانت تتمنى أن أكون ذكراً لتفرح أبي، وتتلخص من نقّ جدتي التي تعيرها بخلفة البنات.‏

مددت يدي و… داعبت جدائلها:‏

-لا يمكن أن تكره أم فلذة كبدها، اذهبي إليها واسترضيها، ستسامحك وتشتري كل مغزلاً خاصاً بك.‏

يتألق فرح في عيني البنت الصغيرة. تنقلت بين شجيرات الورد وتبتعد، وأبتسم وأنا أسمع فرقعات قبقابها الخشبي على أرضية الدار.‏

قلت لنفسي بعد أن غابت عني.‏

"كم تتشابه الأحداث مع الناس! وأنا أيضاً عبثت يوماً بمغزل أمي فصفعتني وعندما اعتذرت منها واسترضيتها، أخذتني معها إلى السوق واشترت لي مغزلاً ثم أعطتني قطعة صوف ممشطة، وعلمتني كيف أغزل بها خيطاً صوفياً دقيقاً.‏

نظرت ثانية في مرآة السقف. رأيت باباً فتحته ودخلت.. ورأيت شقيقاتي الخمس يرتدين السواد. بحثت عن نفسي فوجدتني أنزوي في ركن بعيد وأبكي بصمت.‏

قالت أختي الكبرى:‏

-آخذها معي وأربيها مع بناتي.‏

قاطعتها أختي الثانية:‏

-ألا تكفينا غربتك؟ غبت عنا سنوات ولم تأتي إلا عندما علمت بموت والدنا..‏

سآخذها أنا وستبقى عندي حتى يأتي نصيبها.‏

لم تشركني أخواتي في الحديث، وكأن الأمر لا يخصني ولا يعنيني. هو يقررن وأنا أنفذ. فليس مسموحاً لفتاة في الخامسة عشرة فقدت والديها أن تبدي رأياً أو تعبر عن رغبة.‏

وقفت أختي الكبرى وقالت:‏

-اتفقنا، هيا بنا.‏

وقفت، حملت صرة ملابسي وخرجنا من البيت ست نساء يتشحن بالسواد. وقبل أن نخرج ألقيت نظرة أخيرة على شجيرات الورد البلدي، وشجرة التوت الشامي التي كنت أتسلق أغصانها، وأقطف ثمارها حبة حبة، فيفضح فعلتي لونها الدامي الذي يصبغ شفتي ورؤوس أصابعي.‏

تفيض عيناي بالدموع. لم أعد أرى بوضوح. أحاط بي الغبش وكأن ضباباً ملأ جو الغرفة.‏

ينقشع الضباب. وأنظر في السقف. أراه يجلس بين مجموعة من الرجال: شاب قمحي اللون عيناه بلون الشهد، وشعره الأسود مسرح إلى الخلف، لكن خصلة منه تمردت وسقطت على الجبين العريض.‏

لكزتني أختي التي تقف خلفي:‏

-انظري إليه جيداً.‏

قلت مدارية فرحي وخجلي.‏

-لا أعرف، كيف ترينه أنت؟‏

همست:‏

-رأيك هو المهم.. أنت التي ستتزوجين ولست أنا.‏

نظرت ثانية من فرجة الباب الموارب. أحسسته سكَّرة ذابت في قلبي الذي خفق بعنف.‏

خجلت أن أعلن رأيي. أنقذتني أختي من حيرتي:‏

-اسمعي، الرجال لا يطيلون الجلوس في مثل هذه المناسبات، هل نقدم الشراب أم القهوة؟‏

سبقني لساني:‏

-الشراب.‏

ابتعدت عن الباب، دخلت غرفتي، وقفت قبالة المرآة وبدأت أحلم.‏

لماذا أرى كل هذه الصور، في هذا السقف؟ عفا الزمن على ذكريات طفولتي وشبابي. أنستني الأيامُ الحلوة ذكرياتي الحزينة، ثم أنساني الحزن أيامي الجميلة.‏

انظر في السقف. رأيتني عروساً بثوب أبيض، وجديلتان من خيوط القصب تنحدران مع جدائلي حتى أسفل ظهري. تناول عريسي حبة ملبس من سبت العرس وقدمها إليّ، تناولها دون أن أفوه بكلمة. وضع يده الدافئة على يدي الباردة.. نظرت حولي بخوف وكأنني أرتكب إثماً.‏

قال ليهدئ من روعي:‏

-سنعيش معاً إلى الأبد.. لن يفرق بيننا إلا الموت أليس كذلك؟‏  

تابع وقد لحظ ارتباكي:‏

-أنا وأنت على الدهر؟ أم أنت والدهر عليّ؟‏

نسيت وصية أخواتي إلا أكلمه قبل أن يدفع ثمن شعري.‏

أجبت بسرعة:‏

-بل أنا وأنت على الدهر.‏

افتر ثغره عن ابتسامة عريضة. أخرج من جيبه خمس ليرات ذهبية ووضعها في يدي.‏

اختفى الشهد. صارت المرآة رمادية. حملقت في السقف. تداخلت الصور. رأيتني أضم أولادي وأندب زوجي الذي خطفه الموت. رأيتني منكبة على ماكينة التطريز، ينام الناس وأبقى ساهرة خلفها. أرى أولادي يكبرون، يسافرون، يعودون، يتزوجون، يضعون أولادهم في حجري، أضم أحفادي إلى صدري وأبحث في وجوههم الصغيرة عن ملامح جدهم، يكبر أحفادي، أسقط مريضة، أكابر، تستفحل آلامي واستعين بعكاز.‏

ينطفئ نور المرآة. تغدو ليلاً حالكاً بلا نجوم. يرفرف عصفور الكناري الأصفر في فضاء الغرفة. كيف أفلت الكناري من القفص؟. ستجن ابنتي الكبرى إذا هرب.‏

أنادي أولادي واحداً واحداً ليمسكوا به، لكن أحداً منهم لم يلتفت ولم يسمع ندائي. ظلوا يغطون في نومهم العميق.‏

أجلس في السرير، أنزل منه، أقف على ساقي، أقف بسهولة، أمد يدي إلى العصفور وأكاد أمسك به، يهرب العصفور مني، يتحداني أن ألحق به. يقترب من النافذة، يتسلل من شقها الضيق، يرفرف من وراء الزجاج وكأنه يسخر مني. أحاول مرة أخيرة أن أستعيده. أمد يدي عبر الشق، وفجأة أتسلل أيضاً.‏

أنا أطير! كم تمنيت أن أطير، أن يكون لي جناحان يعوضاني عن ساقي المريضتين العاجزتين. تحققت أمنيتي. أمضي إلى الفضاء الرحب. وأترك أبنائي يغطون في نومهم العميق!!‏

 

 

انكسارات

قصص قصيرة جدا

 

-1-‏

 

فرش الفتى ورقة أمام عيني الفتاة. أشار بسبابته: هذه غرفة نومنا وهذه غرفة نوم الأولاد.. هنا الشرفة، سنملأها بأصص النباتات ونمضي فيها أمسياتنا الجميلة.‏

أحمر وجه الفتاة، قالت دون أن ترفع عينيها عن الرسم:‏

- أين سنضع الأرجوحة؟ يجب أن تكون أرجوحة كبيرة لتتسع لنا جميعاً.‏

قال:‏

- الأرجوحة سنضعها في الحديقة، وسيكون لها سقف قماشي ليدرأ عنا حرارة الشمس في أيام الصيف اللاهبة.‏

استدرك وكأنه تذكر شيئاً.‏

- انظري، المطبخ هنا، تعمدت أن تكون له نافذة واسعة تطل على الحديقة تتيح لك مراقبة أطفالنا وهم يمرحون فيها.. وبالمناسبة يجب أن تتعلمي الطبخ لأنني أحب الطعام الطيب.‏

ضحكت:‏

- أنا أيضاً أحب الطعام الطيب، ولكنني أكره الوقوف في المطبخ.‏

قال:‏

- بسيطة، نستأجر طاهية، سيكون دخلنا جيداً وسنتناول طعامنا خارج البيت إن شئت.‏

أشارت بسبابتها إلى مربع في الرسم:‏

- ما هذا؟..‏

قال بزهو:‏

- هذه غرفة مكتب المهندس البارع الذي سأكونه، الدخول إليها ممنوع منعاً باتاً.. عندما أستغرق في عملي لا أسمح لأي كان أن يقطع علي خلوتي و...‏

قاطعته:‏

- حتى لو أتيتك بفنجان قهوة؟‏

ضغط على يدها.. ابتسم.. ابتسمت..نظرت إلى ساعة يدها، هبت واقفة:‏

- تأخرت يجب أن أنصرف.‏

أطل رجاء من عينيه:‏

- دقائق أخرى.‏

- لا أستطيع، تأخرت، أعطني رسم بيتنا سأحتفظ به معي.‏

بصعوبة سحبت يدها من يديه.. ابتعدت.. استدارت.. لوحت له بيدها وجدّولتها، ثم غابت عن ناظريه.‏

في البيت، دفعتها أمها دفعاً بصينية القهوة.. قدمت القهوة وجلست مطرقة، من خلال أهدابها استرقت نظرات إلى الضيف: قدمان ضخمتان محشورتان في صندل، ساقان انسدلت عليهما دشداشة بيضاء بلون الكفن، كرش ضخم استراح على الفخذين، يد والدها تصافح يد الضيف، أمها تطلق زغرودة طويلة، ترفع عينيها إلى وجه الضيف فلا ترى إلاعيني ذئبتين تنهشان جسدها الطفل، تسرع إلى غرفتها، ترتمي على السرير، تبكي بصمت ويدها تقبض بشدة على رسم بيت المستقبل.‏

 

-2-‏

 

ترجل عن الحصان الخشبي، اتجه صوب السيارات الكهربائية، أخرج من جيبه ورقة نقدية كبيرة ولوح بها:‏  

- أريد أن أركب سيارة بكل هذه.‏

اتسعت عينا المسؤول عن اللعبة، هو ذا ولد يملك نقوداً كثيرة.‏

أجابه:‏

- بهذه الورقة يحق لك أن تمتطي سيارة لمدة خمسين دقيقة، لكنني سأجاملك وأعطيك ساعة كاملة.‏

ركب الفتى سيارة حمراء وراح يقودها بمهارة عجيبة، هارباً من السيارات التي تلاحقه، صادماً السيارات التي تعترض طريقه، ملاحقاً السيارة التي تقودها فتاة خضراء العينين، خرنوبية الشعر، وترتدي جينزاً يلتصق بلحمها، ضحك من فرط السعادة، أغمض عينيه وتمنى لو أنه يظل راكباً السيارة إلى الأبد.‏

فجاءة، انقطع التيار الكهربائي وتوقفت السيارات في أمكانها، فتح عينيه رأى أمه تربت على كفته:‏

- أفق يا حبيبي، صينينة الحلوى جاهزة.‏

دعك عينيه المليئتين بالنوم، قام إلى صنبور الماء، غسل وجهه، مر بيديه المبللتين على شعره، وضع قدميه في حذائه البلاستيكي، حمل صينية الحلوى واتجه إلى الباب، تذكر، استدار، أسرع يقبل يدي أمه:‏

- ادعي لي يا أمي.‏

رفعت أمه يديها بالدعاء.:‏

- ليرزقك الله بحسنتنا.‏

خرج من البيت وسار بخطى حثيثة صوب مدينة الملاهي.‏

 

-3-‏

 

قال لها أبوها:‏

- هذه أمك الجديدة، أحبيها وأطيعها كما أحببت أمك وأطعتها.‏

تسمرت الطفلة في مكانها، رفعت عينيها إلى المرأة وتساءلت:‏

- هل يمكن أن تكون أماً ثانية لي؟ ما أبعد الشبه بينهما !!‍ قال أبوها وقد رآها مسمرة في مكانها:‏

- ما بك جامدة هكذا؟.. تعالي وقبلي يد أمك الجديدة، اقتربت الطفلة بحذر، انحنت على يد المرأة، يد المرأة تنتهي بمخالب حمراء، طبعت قبلة مرتعشة على اليد وطبعت المرأة قبلة باردة على خدها.‏

وعندما فتحت المدرسة أبوابها، لم تذهب الطفلة إلى المدرسة، ومع مرور الأيام نسيت ما تعلمته في كتب التاريخ والجغرافيا والحساب، وصارت تتقن مسح البلاط وإزالة الغبار، وتلميع الحنفيات والمغاسل.‏

 

-4-‏

 

قال الرجل ودمعة حارة تكاد تفر من عينه:‏

- أتركها وديعة بين يديك يا سيدتي.. والله لولا الفقر والحاجة لما دفعتها للخدمة في البيوت.‏

اتجه نحو الباب الخارجي، تعلقت الصغيرة بساقه، قالت بلهجة أقرب إلىالبكاء:‏

- خذني معك يا أبي.‏

شدتها السيدة من يدها وأغلقت الباب، رمقتها بنظرة غاضبة، انخلع قلب الطفلة من الخوف وأسرعت تتكوم في زاوية المطبخ.‏

صرخت السيدة:‏

- تعالي يا بنت.‏

اقتربت الصغيرة ورجلاها لا تقويان على حملها.‏

- ما اسمك يا بنت؟‏

رددت الصغيرة حروف اسمها:‏

-مز..مز.. مزنة.‏

لم تتمالك السيدة نفسها، ضحكت بصوت كالرعد:‏

- والله عال.. شيء حلو.. تحضرتم وصارت أسماؤكم على الموضة.. اسمعي، منذ الآن سيكون لك اسم جديد، ماذا نسميك؟ ماذا نسميك؟ فطم.. فطم اسم مناسب تماماً.. اسمك منذ الآن فطم، هل فهمت؟‏

مع الأيام نسيت الصغيرة اسمها الحقيقي، ولم تعد تتذكره إلا حين يهطل المطر.‏

 

-5-‏

 

ثلاث سنوات وهو يبحث عن عمل، طرق كل الأبواب وكان الجواب دائماً: لا مسابقات لا وظائف شاغرة، ثلاث سنوات أمضاها يخرج من البيت صباحاً قبل أن يفيق أهل البيت، ويعود متأخراً بعد أن يناموا. وعندما تضع أمه أمامه شيئاً من الطعام يغص لإحساسه أنه يأكل من حصة إخوته، فإذا وضعت في يده بضع ليرات، غصت عيناه بالدموع وانفلت خارجاً من البيت لا يلوي على شيء.‏

يوماً عاد إلى البيت متهلل الوجه، زف البشرى إلى والديه وإخوته:‏

- فرجت، حصلت على عمل.‏

أشرق وجه الأب، الآن يستطيع أن يتباهى أمام الجميع بأن تعبه لم يذهب سدى وأن ابنه صار موظفاً قد الدنيا.‏

أطلقت الأم زغرودة طويلة وتركت لدموع الفرح أن تغسل وجنتيها الغائرتين.‏

تحلق الصغار حول أخيهم الذي سيلبي أخيراً جزءاً من طلباتهم.‏

غاب الشاب قليلاً في غرفته، خرج بعد قليل، بسط شهادته الجامعية على المنضدة، وبدأ يحيط حوافها وسط دهشة والديه وإخوته بشريط لاصق أسود. علق الشهادة على الجدار، ورفع يديه مغالباً دموعه:‏

- الفا.. تحة على روح هذه الشهادة.‏

بعد أيام، عرفت الأسرة أن ابنها البكر الذي دفعت دم قلبها لتعليمه في الجامعة، والذي نسجت أحلامها الجميلة حوله، قد اشتغل أجيراً عند بائع أقمشة.‏

 

-6-‏

 

عزيزي‏

فكرت كثيراً قبل أن أكتب لك، منذ ثلاث سنوات ونحن ندور في دوامة، حفيت أقدامنا ونحن نبحث عن غرفة متواضعة تجمع شملنا، وكنا نصطدم دائماً بأن راتبي وراتبك لن يكفيا أجراً لمثل هذه الغرفة، ويبقى علينا بعد ذلك نفقات الطعام والشراب والمواصلات والأطباء والكهرباء والتدفئة وأشياء أخرى كثيرة، كنت دائماً أعاند الذين يقولون إن الفقر والحب لا يجتمعان، ولكنني للأسف الشديد، اكتشفت أن حرارة الحب لا تغني عن المدفأة، وأن العواطف لا تغني عن الطعام ولا تدفع فاتورة الكهرباء، تأكد لي أن الحب يهرب من النافذة قبل أن يدخل الفقر من الباب، وأنا وأنت يا عزيزي فقيران، فقيران جداً، ورغم كل محاولاتنا في حماية حبنا إلا أن الفقر قد تسلل إلينا ربما من عقب الباب أو من ثقب المفتاح.‏

الفقراء يا عزيزي لا يحق لهم أن يحِبوا أو يَحبوا فوداعاً .‏

 

-7-‏

 

قال لها بعد أن ملأ أصدقاؤه قلبه شكاً:‏

- لم تتغيبين دائماً يومي السبت والخميس؟..‏

حاولت أن تهرب من الجواب ولما ألح أجابت:‏

- لدي ظروفي وأسبابي.‏

قال:‏

- ولكن محاضرات هامة تقع في هذين اليومين.‏

ضحكت:‏

- شكراً أنك تعيرني دفترك لأنقلها.‏

صباح السبت، لطى الشاب في زاوية، رأى فتاته تخرج من بيتها، لاحقها من بعيد وهي تغذالسير إلى الطرف الآخر من المدينة، حيث الشوارع الواسعة والفيلات الأنيقة، رآها تخرج مفتاحاً من حقيبة يدها ثم تفتح باباً وتدخل.‏

ما قالوه له صحيح، انقلب شكه يقيناً، ماذا تفعل في الداخل؟‏

اندفع نحو باب الفيلا ووضع يده على الجرس، أطلق الجرس تغريداً كبلبل صداح.‏

"تأخرت، سأحطم الباب إذا لم تفتحه".‏

بعد قليل انفرجت درفة الباب، أطلت بنصف وجهها وفي عينيها نظرة رعب دفع الباب، شهقت، شهق.‏

كانت الشابة حافية القدمين، تحزم شعرها بإشارب قديم، وترتدي بنطالاً شمرته حتى الركبتين وبيدها ممسحة للبلاط تقطر ماءً.‏

 

-8-‏

 

أحاطوا به مهنئين غامزين من جانبه:‏

- مبارك الزواج.. هكذا الزواج ، وإلا فلا ثياب جديدة من الطربوش إلى البابوج وعطر فواح وسيارة خاصة وحب ملتهب! ألا تحدثنا عن الحب والزواج؟‏

رد بصوت هامس خجل وكأنه اقترف ذنباً:‏

- شكراً، العقبى لكم‏

لكزه أحدهم في جنبه:‏

- لن ندعك حتى تخبرنا كيف تم الأمر.. أفدنا أفادك الله.‏

احك لنا عن تجربتك، نحن عزّاب ومنك نستفيد.‏

حاصروه بأسئلتهم، سؤال من هنا وسؤال من هناك، فلم يجد بداً من الكلام:‏

- الجنس يا أصدقائي حاجة فيزيولوجية مثل الطعام والشراب والنوم، وبما أنني شاب في الثلاثين ممتلىء صحة وعافية ورغبات، وبما أنني لا أقرب الحرام أولاً وأخشى على نفسي من الإيدز ثانياً ولا أملك من متاع الدنيا إلا هذا الراتب المحترم، لذا فقد عرضت نفسي للبيع في سوق الزواج، فاشترتني أرملة تجاوزت الخمسين تملك بيتاً وسيارة وشاليهاً على البحر وآخر في الجبل ورصيداً محترماً في البنك، أما الحب الذي كنا نتغنى به ونتحدث عنه فصدقوني أنه كلام فارغ، لا وجود له إلا في الكتب والروايات والمسلسلات.‏

 

-9-‏

 

قال الرجل لزوجته وأبنائه الذين التفوا حوله:‏

- لقد شاهدتم يا أعزائي على مدى شهر، وعبر الأقنية الفضائية، برامج ترفيهية ورياضية وصحية متنوعة، وأود في هذه الجلسة أن أؤكد على البرامج الصحية التي أفادتنا بمعلومات كانت غائبة عن أذهاننا، ولا أرى بأساً من تذكيركم بها، وبخاصة تلك التي تتعلق بموضوع التغذية.‏

- اعلموا يا أبنائي أن الجسم بحاجة إلى البروتين الذي نحصل عليه عن طريق اللحوم والبقول، ولكننا لم نكن نعرف أن اللحوم الحمراء، ترفع نسبة حمض البولة في الدم، وتؤدي في المستقبل إلى آلام شديدة في المفاصل لا تنفع معها الأدوية، أما اللحوم البيضاء، فقد عرفنا للأسف أنهم يطعمون الدجاج علفاً مركزاً لتسمينه، وربما يدخل في تركيب هذه الأعلاف مواد لا تصلح أصلاً للدجاج، ممما قد يؤدي لا سمح الله إلى جنون الدجاج كما جن البقر، أما الأسماك فأفضلها ما يؤكل طازجاً فور خروجه من الماء لأنه سريع العطب، ولا شك أنكم تذكرون حالة التسمم التي أصبنا بها جميعاً، وقررت بعدها عدم إدخال السمك إلى بيتنا.‏

- أما السمن العربي والدهون والزبدة والقشدة فكلها تؤدي إلى ارتفاع نسبة الكولسترول والشحوم الثلاثية في الدم؛ وبالتالي إلى إرتفاع الضغط ومشاكل قلبية نحن في غنى عنها، فإذا تحدثنا عن البيض فإن تأثيره مثل تأثير الدهون، كما أن طعمه لم يعد مثل طعم البيض أيام زمان، يوم كانت الدجاجة تسرح وتلتقط رزقها مما يبذره أصحابها أمامها..‏

في تلك اللحظة، هم أحد الأطفال بالكلام، فأسكته الأب بإشارة من يده وتابع.‏

- أما الحلويات والسكاكر فإنها تسبب والعياذ بالله أمراضاً كثيرة أهمها الداء السكري، وهو داء لا شفاء منه؛ كما أنه يسبب الجلطة والتهاب الأعصاب وفشل الكلى وضعف الرؤية والعمى أحياناً، كما أنني لست بحاجة إلى تذكيركم بأن السكاكر التي تمصونها والعصائر التي تشربونها يدخل في تركيبها مواد ملونة غير صالحة للإستخدام البشري، وتصديقاً لكلامي، فإنني اقتطعت لكم من الصحف اليومية قصاصات تشير إلى ذلك، ولا يغرب عن بالكم أن تناول الحلوى ومص السكاكر يؤدي إلى تسوس الأسنان ونخرها، والسن المنخورة لا تؤلم صاحبها فقط بل تؤذي الأسنان المجاورة لها، فهل تريدون لأسنانكم اللؤلؤية الجميلة مثل هذا المصير؟‏

لذا، وبما أنني حريص على صحتكم الغالية، وأرتجف هلعاً من أن يصيب المرض أحدكم، فقد اتخذت قراراً هاماً بأن نتحول إلى نباتيين لأن النباتيين كما رأيتم أكثر صحة وأطول عمراً، انظروا حولكم يا أحبائي لترول كم هي الطبيعة سخية!. إنها تقدم لنا الفجل والبصل والثوم والخيار والبندورة والسبانخ والبقدونس، وبالمناسبة فإن للبقدونس فوائد تجميلية إلى جانب فؤائده الصحية، ويكفي يا زوجتي العزيزة أن تغسلي شعرك بمنقوع البقدونس ليزداد لمعاناً وقوة، وأن تغسلي وجهك بمغلي البقدونس لتزداد بشرتك صفاء ونقاء.‏

أعرف يا أحبائي تمام المعرفة أن أجسادكم الغضة بحاجة إلى البروتين لتقوى، لذا سنلجأ إلى البروتين النباتي الموجود بكثرة في الفول والعدس والحمص، ورحم الله أجدادنا الذين قالوا حكمة بالغة، أرجو أن تحفظوها لتلقوها لأولادكم في المستقبل.‏

"إذا غاب عنك الضاني عليك بالحمصاني"‏

وهل هنالك ما هو ألذ من حساء العدس، وفتة الحمّص، وطبق الفول المدمس وجاط المجدرة!؟‏

عندما انتهى الرجل من نصيحته الغالية، غادر أولاده الغرفة، وعندئذ أمسك رأسه بكلتا يديه، وأطلق لدموعه العنان.‏

 

أضيفت في 07/02/2006/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية