أدب التصوف
بقلم الكاتب: ميثم الجنابي*
من الصعب تحليل جميع آراء المتصوفة للبرهنة على نموذجها المتميز في مواقفه
ونظراته من أدب السلوك . فالمتصوفة تشترك أيضا في تباينها. بصيغة أخرى إن
تباين الطرق الصوفية في "تقنين" سلوكها يقوم في افتراض كل منها كون المبادي،
الأولية لطريقته هي الأسهل والأدق لتربية المزيد في بلوغ ما أسمته الصوفية
بدرجات التوحيد. فالنقشبندية على سبيل المثال بنت طريقتها على ما دعته بـ
"التعرض والقاء الجذبة المقدمة على السلوك " ، في حين أن بقية الطرق تقوم
في تقديم السلوك على الجذبة . ولهذا قالوا: بداية الطريقة النقشبندية نهاية
الطرق ! وهناك من جعل العكس هو أسلوب التربية الصوفية ، أما في الواقع فليس
هنا من تناقض جوهري. فالمتصوفة لم تبحث في ذلك عن أسس نظرية لقناعاتها أو
تنظير عقلاني لأطروحاتها وممارساتها. لقد حاول كل منهم اكتشاف حقائق
اللانهاية بطريققه الخاصة .
الا أن لهذه "المحاولة " أسسها الفكرية والثقافية . فقد استمدت المتصوفة
سواء في منطلقاتها الفكرية الأولية أو في حوافز وعيها الاخلاقي، الكثير من
قيم اسلام الدعوة والرسالة . أي من ذلك الرصيد الذي لم تشوهه بعد مهارة
الجدل ومكر السياسة ومصالح السلطة . وقد وجد ذلك انعكاسه ليس فقط في مبدأ
الزهد، بل وفي مبدأ نزع الارادة الظاهرية من خلال صياغة مبدأ الارادة
المجردة أو الكيان اللا مرئي الذي يتحكم في كل ما هو موجود. أو هو ذاته
الرجوع الى المبادي، الأولى في ادراك حقيقة الوجود ومعنى الفعل (الانساني)
.
واذا كانت هذه المحاولات الأولى قد سارت في أدب السلوك الاسلامي التقليدي
(السني أو العرف المتسامي) فلأنه الاسلوب الواقعي الممكن لظهور وتبلور
المجرد (الحقيقي). فقد سلكت المتصوفة الأولى في سلوكها أسلوب ما ينبغي. الا
أنها لم تنظر اليه نظرتها الى غاية نهائية وحتى حال غياب تجزؤ الغاية
والوسيلة كقيم وكيانات قائمة بحد ذاتها في منظوماتها اللاحقة ، فانها لمن
تعترف ، إن جاز التعبير، إلا بشرعية النفي الاخلاقي. وفي هذه العملية
الدائبة والمتناقضة تبلورت تقاليد أدب الروح الصوفي .
فالتصورات الشائعة عن أدب التصوف وقواعد سلوكه تتضمن عنا~ متكافئة في خطئها
وسطحيتها سبراء أيدت ، أو عارضت ، مدحت أو ذمت ، أقبلت عليه أو أدبرت عنه .
والقضية هنا ليست فقط في أن الثصوف "بحر مفرق " ، بل وفي تلك الميوعة التي
لا يمكن الامساك بها إلا من خلال رمي قيود النفس ،.أي بلوغ تلك الحالة التي
تنقشع فيها قواعد "الجهل المعرفي " وفي ميدان السلوك تلك الحالة التي تصبح
فيها قواعد التصوف "المجردة " خلفية وأسلوب وباعث الممارسة الحياتية في
سعيها نحو المطلق . غير أن هذه الحصيلة النظرية في تاريخيتها كانت نتاجا
معقدا لتفاعل وتداخل التاريخي والوجداني _ المنطقي ، الذي بحث عن تآلف له
في منظومة فريدة في عالم الاسلام .
فأدب السلوك الصوفي بهذا المعنى هو نتاج لعالم الاسلام ، وهو في الوقت نفسه
نفي لأدب العوام وديانات الامم . انه المثل النخبوي لقواعد الحق (المطلق )
في السلوك . الا أن المتصوفة لم "تنظر" لهرمية التعالي ، بل لهرمية التسامي
ولكن في وحدة الكل . وهذا ما يمكن العثور عليه في استيعابها الخاص لعلاقة
أدب تربيتها وسلوكها بآداب الاسلام .
فقد صاغت المتصوفة آدابها بالطريقة التي رأت فيها نموذج الحقيقة الناصعة
لروح الاسلام . أي أنها طابقت سعيها التربوي وقواعد سلوكها بالصيغة التي
تتجاوب فيه تعاليم الاسلام مع ثلاثية العلم والحال والعمل . ولهذا انطلق
سراج الدين الطرسي (ت - 378هـ) في استعراض مقدمات الأدب الصوفي من الآية
القرانية : لايا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نار الا معتبرا اياها
تحذيرا ووصاية على ضرورة التربية والأدب والتعلم من أجل وقا يتهم ، اما
القشيري (ت-475هـ) فانه استند الى الآية : ( ما زاغ البصر وما طغى)
باعتبارها التمثيل الأعمق لحفظ آداب الحضرة الالهية
(1).بينما استفاض السهر وردي (ت _ 632هـ) في تأويلاته للآية الآنفة الذكر
بحيث وضعها في أساس نظرية متكاملة عن الأدب والسلوك أو ما أسماه بـ "آداب
الحضرة الالهية لأهل القرب "(2)
ان افتراض المتصوفة وجود "آداب الحضرة الآلهية " أو "أدب القرب " هو
النموذج الثقاذ - التاريخي للمطلق ، أو وحدة الاسلامي - الانساني أو الأنا
- الجميع أو السر - المعنى. وهذا ساجعل من الممكن الحديث عن النبي محمد
تيئو كمجمع للآداب ظاهرا وباطنا، ومن الآية ط ما زاغ البصر وما طفى9تجل
رمزي للممارسة . فالمتصوفة في ددتنظيرهادد لأدب السلوك لم تنهمك بتضحية
"الأولوية " و" الثانوية "، الجوهري والعرمي، بل بأدب الفعل المتوهج بالسر
الروحي للقناعة الذاتية . وقد فسح ذلك المجال لتنوع هائل في خضم الوحدة .
ولكنها أبقت مع ذلك على كيان التجربة الفردية كنموذج لتجلي "الاعتدال
المطلق ". ولهذا كان من الممكن بالنسبة للتنظير الصوفي لأدب السلوك أن يجد
في أقوال المتصوفة تأييدا لاطروحاته العامة . وقد أعطى ذلك لعلمها وعملها
في أدب السلوك تنوعا هائلا. الا أن اتجاهيته العامة كانت تقوم على تجاوز
أدب العوام الى أدب الحق (المطلق ). أي تجاوز أدب العوام في الشريعة أو
الطريقة والحقيقة . أي في مكونات الوجود الجوهري للعلم والعمل . غير أن هذا
التجاوز لا يستند الى آلية رد الفعل أو التصور المسبق عن ضرورة "البديل "،
بقدر ما أنه ينبع من مقوماته الجوهرية كنبع الدمع من العين .
إن سعي الصوفية للو حدة أو الكل أو الفناء في التوحيد ما هو إلا الصياغة
الظاهرية لإبداع وحدة الهم الداخلي ، الذي يضمحل هو ذاته حال بلوغه . ويهذا
المعنى فان أدب المتصوفة الروحي هو أدبهم الجسدي. والعكس هو الصحيح .
والقضية هنا ليست في تبديل العبارات والمفاهيم ، بقدر ما إن تقاليد الصوفية
وسعاها النهائي ينصب في اتجاه الفاء وتذليل ثنويات الروح والجسد، بل وكل
ثنويات الوعي واشكالاته المدرسية . وبالقدر الذي تشكل ثلاثية الشريعة
والطريقة والحقيقة مستويات وثنويات الوعي الثقافي في تاريخيته ورمزيته
الدينية - الميتافيزيقية ، فانها تمثل في الوقت نفسه أسلوب تذليلها.
فالجوهري في هذه الثلاثية لا يقوم في قواعدها العامة أو الخاصة ، بل في
مصدر يتها وروحها الداخلية . فالمتصوفة لم تبن آراءها هذه استنادا الى
ادراكها أهمية الأدب في سلوك الطريق فحسب ، بل ولا دراكها وعورة قواعده
ذاتها. ففي هذه الوعورة يكمن معيار وأسلوب شحذ أدب امتلاك الأدب . أي وعي
النفي الدائم في السمو الاخلاقي. ولهذا أكدت على أن الأدب هو كمال الأشياء
ولا يصفو إلا للأنبياء .
والصديقين -. في حين وجد القشيري حقيقة الأدب في اجتماع خصال الأدب ~ أ:.
الا أنهم لم يقصدوا بالأدب هنا سوى أدب الفعل لا أدب القول . وأن تشديد
المتصوفة على أن الأدب أدبان : أدب قول وأدب فعل لا يسعى لوضع أحدهما بالضد
من الآخر، بقدر ما إنه يعبر عن أهمية الفعل وجو هريته في سلوك الطريقة .
ويرتبط هذا التشديد بأولويات التصوف أي بضرورة الفعل كمقدمة للسير في "طريق
الحق" . اذ أن أدب الفعل كما يقول كلثوم الغساني، فاقرار الصوفية بدرجات
الأدب يتضمن في آن واحد الاعتراف بتباين المستويات (العوام والخواص )
وواقعية وتفاؤلية التطور الأخلاقي (الأدبي). فالمتصوفة لم تصغ مبدأ
النخبوية الاجتماعية بل مبدأ التسامي الأدبي. وأن أسلوبها في تربية المريد
هو أسلوب تذليل الأنا الاجتماعية الضيقة باسم المبدأ الأعلى . أي أنه
التجاوز الواقعي (الثقافي ) والمثالي (الأخلاقي - المطلق ) لأدب العوام .
فالمتصوفة لم تضع قيودا خارجية في الأدب . واذا كانت القواعد الأدبية
المرعية في سلوك الطريق تتخذ صيغة المبادي، الصارمة ، فلأنه أسلوب تذويبها
في "القهر" الأدبي. أو ما سبق وأن عبر عنه التستري (ت - 273هـ) بعبارة :
"من قهر نفسه بالأدب لم فهو يعبد الله بالاخلاص"(6) غير أن قهر النفس
بالأدب هو من مصير العارفين . وقيما بين قهر العوام والخواص يكمن ذلك البون
الشاسع ، الذي لا يذلـله سوى عملية "بذل الروح" ، التي تفترض توبة الحقيقة
كمقدمة فعلية للتأدب الشامل . أي مريق التربية الذي يبدأ وينتهي بوحدة
العلم والعمل كأسلوب لتهذيب القلب (الاخلاقي). فالجوهري في أدب التصوف هو
طهارة القلوب ومراعاة الأسرار. أي عالم الروح الأخلاقية . فهي لا تخضع في
آدابها لقوى ما خارجية مقننة . بمعنى أنها تزيل مفعول وشرعية القوانين
الرسمية لتستعيض عنها بقواعد الروح الاخلاقية . ولهذا قال ذو النون المصري
(ت- 245هـ) بأن ددأدب العارف فوق كل أدب لأن معروفه مؤدب قلبه ". أي أنه لا
يخضع إلا لما يمليه عليه قلبه الصوفي أو حقيقة القلب . وقد جعل ذلك من
أدبها في مظهريته يبدو كنفي لقواعد العرف أو التقاليد، أو انتهاكا لقيم
وقواعد الفقه . الا أن هذا التصور هو مجرد انعكاس ايديولوجي لـ"سوء الأدب
".
لقد بحثت المتصوفة في نموذج أدبها وقواعده عما يمكنه أن يكون وسيلة رقيها
الاخلاقي. ويهذا تكون قد افترضت طريقا نخبويا للخير المطلق لا يتعارض في
الكثير من سماته مع حقائق الوجود الكبرى. فدخول الطريق الصوفي يستلزم في
قواعده الأدبية الاقرار اللساني - الفعلي بالتوبة الحقيقية. أي تذليل
الرذيلة وتحقيق الفضيلة . وحدد ذلك لدرجة كبيرة الوحدة المتناقضة أو
الديناميكية الحية للسمو الاخلاقي، التي "يفزلها" تفاعل التجربة الفردية
والسلوك الطرائقي.
إذا كان التصوف مبنيا بمعنى ما على أساس ايجاد النسبة الحقيقية بين الظاهر
والباطن ، فان تجلياتها الأدبية تصل الى الذروة التي ينبغي أن تنحل فيها كل
مماحكات الوعي وتباينات الوجود الشرطية ففي الوقت الذي يشكل الظاهر تجلي
الباطن ، فانه يقيده في اتجاه تطهيره . والعكس هو الصحيح . وبغض النظر عن
تباين أطروحات المتصوفة بصدد أولوية الظاهر أو الباطن في أدب السلوك ، الا
أنهم يتفقون في ضرورة وحدتهما الداخلية وحركتهما الدائمة . والخلاف الذي
يمكن أن يحدث هنا ينبع من تباين المبادي، وأولويتها في تربية المريد، أو
نتيجة لحال الصوفي وأحكامه في درجات التربية . ويهذا المعنى يمكن فهم مضمون
الاتفاق في الاختلاف بين عبارات الجنيد(ت- 297هـ) وأبي حفص (ت – 260هـ)،
عندما اعترض الأول تأدبا على الثاني بعد أن شاهد ما شاهد من سلوك اتباعه
قائلا : لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين !! فأجابه أبو حفص : حسن الأدب في
الظاهر عنوان حسن الا أدب في الباطن ! (7) لقد طالب الاول بحريه - الروح
الصوفية وتلقائية الأدب القلبي، بينما لم يجد الثاني في أدبهم "السلطاني"
سوى تجلي الأدب الباطني (الصوفي ) . ولهذا قال بعضهم : الزم الأدب فناهرا
وباطنا. فما أساء أحد الأدب فلاهرا إلا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب
باطنا الا عوقب باطنا(8).
فالمتصوفة لا تعمق هنا تجربتها الخاصة فحسب ، بل وتجارب التربية الاخلاقية
ككل . الا أن منظورها الحاد يتسم بالحساسية المرهفة في قواعد سلوكها بفعل
وحدته الداخلية . فهي لم تعن بالعقوبة هنا سوى عرقلة تسامي الروح . فالأخير
تستلزمه الطريقة بالترو الذي يحدد هو بها سلوك الصوفي في تجاوز "مقامات
اليقين". أي أن الأدب يلعب هنا دور المرشد الصوفي أو شيخ الحقيقة السري.
فهو يمثل هنا دور الملازم الدائم في تقوية السعي نحو ادراك جوهر الحقائق
الكبرى. واذا كان الفكر الصوفي قد أبدع في منظوماته المختلفة صياغة مضامينه
الخاصة لعلاقة الأسماء والصفات والافعال (الالهية )، فانه لم يتطرق اليها
في تقاليد الجدل الكلامي واجتهادات الفرق بل في إطار الكل الاخلاقي وتكامل
الذات الانسانية (الشيخ –
القطب ). أي أنه حولها الى عالم السلوك الأدبي كمثل أعلى . ويهذا يكون
بإمكانها أن تتحول في مجرى الطريقة الى معالم بلوغ الحقيقة . ولهذا قال
بعضهم على لسان الحق : أدمن ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب .
ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب . فاختر أيهما شئت الأدب أو العطب
(9). أي تلك العملية التي تؤدي حسب عبارة السهر وردي (ت- 932هـ) الى أن
تتلاشى الآثار بالأنوار مع لمقات نور عظمة الذات وقد أدى ذلك ال تباين
المتصوفة في شخصياتهم . الا أن ما وراء سلوكهم الأدبي تكمن تلك الوحدة التي
لا يمكن تحسسها ولمسها أي كيانهم الخاص . وان هذا الكيان في ميدان الطريقة
يقوم بالاقرار بأولوية الأدب وضرورة التمسك به حسب اقتضاء الوقت والحال .
أي القضاء الذي ينبغي أن تحدده يقينية القناعة الذاتية المتدفقة في وحدة
العلم والعمل . فالأدب بهذا المعنى يؤدي في الطريقة وظيفة الرابط لحلقاته
اللامتناهية . غير أن هذا اللامتناهي المجرد يتخذ على الدوام في تجلياته
الملموسة قيم الثقافة السائدة كأسلوب للتعبير عنها. وفي حالة الأدب الصوفي
شكلت الشريعة النموذج السائد والأساس الثقافي _ العقائدي ، والمحك الوجودي
لقواعد السلوك (الصوفي ). وبالتالي كان أدب الشريعة بالنسبة للمتصوفة
موازيا لأدب السلوك العقائدي، أو بصورة أدق لأدب السلوك الأخلاقي.
ذلك لا يعني بأن المتصوفة نظرت الى الشريعة نظرتها الى وسيلة ظاهرية . على
العكس ! فأدب الصوفية ظل في أعمق أعماقه أيضا أدبا إسلاميا. ولكن لا
بالمعنى الفرقي أو المذهبي أو حتى العقائدي، بل بمعنى الوحداني .الحقائقي .
أي أنهم نظروا الى الشريعة بعين الحقيقة . ويهذا تحولت نصوص الشريعة الى
رموز الروح الاخلاقي. فالعلاقة القائمة فيما بين الشريعة والحقيقة في طريقة
المتصوفة هي ليست علاقة أطراف سائبة ، بل علاقة الحركة الدارجة في السير
نحو الحق . "قد عبر القشيري عن نموذج معين في استيعاب هذه العلاقة عندما
كتب يقول : "الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية . فكل
شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير
محصول . فالشريعة جاءت لتكيف الخلق والحقيقة أنباء عن تصويف الحق .
فالشريعة أن تقيده والحقيقة أن تشهده . والشريعة قيام بما أمر والحقيقة
شهود لما قضى وقدر(11) . وقد ترتب على ادراك هذه العلاقة والتمسك بها مواقف
متباينة في نوازعها وغاياتها، تجلت فيما دعته المتصوفة بآداب الشريعة التي
يقوم فحواها في اظهار العنصر الاخلاقي لا الفقهي الباطني لا الظاهري مع
الاحتفاظ بوحدتهما الحقة .
واذا كانت المتصوفة في أدبها تمثل تقاليد الأدب الاسلامي الورع في تقليديته
الظاهرية ، فانها امتثلت في خميرة افكارها تجارب الحق الانساني في مثله
المطلقة . وهذا ما يفسر أسباب تحررها الفردي وتساميها الروحي وقدرتها
المرنة على توليف التباين الثقاذ في وحدة مبدئية متجانسة . فهي لم تسع في
آدابها الا لمشاهدة الربوبية (الحق ) أي أن أدبها هو ليس أدب الخضوع
والخنوع لغاية ما معينة ، بل أدب الارتقاء الروحي لأجل تقبل وحدة الكل .
ان وحدانية الأدب الصوف وكليته تستلزمها دوامة الانقطاع والمواصلة بين قطبي
قطع العلائق (بالعالم ) وازالة العوائق (من القلب ) بالانتساب الى المطلق
(الله) . ولهذا ما كان بإمكان المتصوفة كما يقول الطرسي ، أن يتخلفوا عن
استعمال الأدب لأنهم تركوا المكاسب وقطعوا العلائق وانقطعوا الى الله
ونسبوا الى الله (12). فالطابع الوجداني لأدب الصوفية متأت من جوهر
ممارستها ولهذا تكلم المتصوفة أيضا عن مقام الصلاة . أي أنهم لم يتطرقوا
اليها من وجهة النظر الفقهية ومفاهيم الفرض والواجب ، بل في إطار ومسار قطع
العلائق في درجات التوحيد. بصيغة أخرى، إن عملية النفي الدائمة التي
يفترضها مسار السلوك الصوفي في آدابه من جدلية الفناء والبقاء ومستوياتها
الطرائقية - العملية (المقامات ) وتجلياتها الوجدانية -
الاخلاقية (الأحوال ) هو الذي يدرج في مجرى صقل الروح تقاليد العبادات
بتحويلها الى جزء من الكل الأدبي الشرائعي. ولهذا وجدوا في الصلاة "مقام
الوصل والدنو، والهيبة والخنوع والخشية والتعظيم ، والوقار والمشاهدة
والمراقبة والاسرار والمناجاة مع الله . وقد جزء بعض المتصوفة هذه الفكرة
أو حد سنانها الأدبي من خلال التلاعب الظاهري بالكلمات . أي أنه حاول ربط
الوجدان بالمعاني الكبرى للحروف ، حيث طالب المريد في أن يكون مصحوب قوله
اته : التعظيم مع الألف والهيبة مع اللام والمراقبة مع الهاء (14) ، فتكون
كلمة اته في فمه تجل للتعظيم والهيبة والمراقبة . واذا كان من الممكن تباين
آراء المتصوفة في الموقف من أساليب الأدب وأشكاله في الشريعة ، فان هذا
التباين يبقى من حيز الاجتهاد الطرائقي. فعندما حاول القشيري ان يكشف عن
هوية المتصوفة التقا ليد الاسلامية فانه وجد فيها الاستمرارية الأرقي في
عصرها – "الصفوة المحمدية ". أي النموذج في الأدب (الدين )(15) . بصيغة
أخرى، أن حقيقة الأدب الصوفي في مجال العبادة يقوم كما لخصه الجنيد بعبارته
عندما سئل عن فريضة الصلاة قائلا :"هي قطع العلائق وجمع الهمم والحضور بين
يدي الله "(16) أي نفس العلاقة التي نعثر عليها في أدب المتصوفة تجاه كل
أنواع ومستويات العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج .
فالصوفي لا يبحث عن غاية ما قائمة بحد ذاتها. اذ ليست هذه الغاية سوى السر
الذي يكتشف فيه المرء بفعل غنى عمق تجربته الفردية ملامح رؤيته له . ولهذا
أصبح من الممكن تحول الأدب الى وسيلة الصوفي وغديته . وبالتالي الى أسلوب
تذليل خلافهما من خلال العملية الدائبة لبلوغ البقاء في الفناء. وقد جعل
ذلك ممكنا البحث الدائم عن معنى الكل في جميع دقائق الأدب . ولهذا ليس من
الغرابة أن يقول الشبلي (ت –334هـ) يوما لرجل : "تحسن أن تصوم الأبد؟
وعندما تساءل الرجل : "فكيف الأبد؟ أجابه الشبلي : "تجعل ما بقي من عمرك
يوما وتصومه (17). أي تجاوز الصوفية في ممارساتها واحكامها لحدود الفقه
ونصوص الشريعة الظاهرية باسم الحق . فهم يعرفون ، كما يقول الطرسي ، مقدار
الزكاة ولكنهم يلزمون أنفسهم بالكل . وقد ترتب على ذلك نتيجة جوهرية في
مجال العبادات تقوم في تجاوز أدبهم شريعة التقليد الظاهرية .
وقد نبع من ذلك طابع التسامي النخبوي المميز للأدب الصوذ، وأولوية الروح
على النص . ولهذا لم يلزموا أنفسهم بحدود صارمة باستثناء حدود الأدب العامة
وتجلياته الخاصة في ميدان الشريعة . فقد سعت المتصوفة في جميع آدابها الى
التكامل . ويهذا المعنى فان أدبها الشريعي هو أدب التكامل والوحدة . وأن
تبايناته تؤدي في حصيلتها العامة الى وحدة الكيان الصوفي لأنه أدب يستند
الى قواعد عامة تشكل في جمعيتها ما يمكن دعوته بروح الأدب .
ان الجوهري في أدب التصوف ، هو بذل الروح . ولا يعني ذلك سوى التمسك بتلك
القواعد التلقائية التي يحددها" حسب عبارة الصوفية ، حقيقة الوقت . بصيغة
أخرى أن أدب المتصوفة في بذل الروح لا يطالب بشيء مقابل فعله سوى لذة
المعنى. أي أنه أدب المعنى الباحث عن القيم الكبرى. انه أدب البحث عن
المعنى في كل فعل وعن قيمته الوجدانية . أي أنه الاستدامة المعمقة لاحتواء
العالم في الذات . وقد جعل ذلك منه ، إن أمكن القول ، أدب الوفاء بالبلاء.
أو أدب الربط الدائم بين العلم والعمل . ولهذا كرهوا كما يقول الجنيد، أن
يجاوز لسانهم معتقد قلوبهم . في حين قال أبو تراب النخشبي (ت- 245هـ) :منذ
عشرين سنة لا أسأل عن مسألة الا كانت منازلتي فيها قبل قولي "(18). وقد
أعطى هذا الاهتمام بالكلمه قوى تعادل في فعاليتها معنى الفعل . ولهذا اتخذ
ربط الحقيقة بلسان الحال قيمة دائمة يتعمق محتودها في ممارسة أدب بذل الروح
، التي يقطعها الصوفي في طريقه الخاص . ويهذا يمكن فهم مغزى العبارة التي
تفوه بها يوما أبوبكر الزقاق ، عندما قال : "سمعت من الجنيد كلمة في الفناء
منذ
أربعين سنة هيجتني وأنا بعد في غمارها"(19) .
أن روح الأدب الصوذ وكينونته المتعاظمة في مسار بذل الروح هو التجسيد
الأخلاقي لأحد الحلول النموذجية التي أبدعتها ثقافة الاسلام (الثقافة
العالمية ككل ) في التعامل مع معضلات وتناقضات الوجود الانساني وسعيه نحو
المطلق . وسواء جرى الاقتناع بصحة آرائها وأحكامها عنه وسبل بلوغها إياه
لا، فإنه مما لا شك فيه إسهامها الهائل في تعميق الروح الاخلاقية . اذ أنها
وضعت بلوغ الحقيقة في صلب آدابها، وليس صدفة أن يقول أحدهم : "اذا رأيت
الفقير قد انحط من الحقيقة الى العلم ، فاعلم انه قد فسخ عزمه وحل عقده.
وليست هذه الحقيقة سوى حقيقة البذل الدائم . أي التمسك الأدبي بقواعد الروح
الاخلاقية المؤدية الى صقل القلب وتسوية الارادة . من هنا يبدو واضحا بأن
أدب المتصوفة لا يخضع لـ" قواعد" جامدة . وأنه في جوهره أدب تجاوز الحدود
الظاهرية . أي أنه يذوب الحدود الظاهرية في بوتقة الأدب الطرائقي. ويهذا
المعنى تكف فكرة الحواجز عن
أن تمتلك معنى في ذات الصوفي ولهذا قال أبو يعقوب السوسي في آداب السفر:
"أن المسافر يحتاج في سفره الى أربعة أشياء : علم يسوسه وورع يحجزه ووجد
يحمله وخلق يصونه (21) اي نه بحث عن "اشياء" الباطن . بينما "اشياء"،
الباطن في العرف الصوفي هي السر، والكيان اللامرئي
المتحكم في الوقت نفسه بحقيقة الفعل . فعندما قال رجل من الصوفية في مجمع
"أنا جائع " !! رد عليه آخر: "كذبت !
وعندما قيل للأخير: "لم قلت له ذلك ؟" أجاب : "أن الجوع سر من سرالله ،
موضوع في خزائن من خزائن الله لا يضعه عند من يفشيه "(22). أي انه مثالبه
بأدب الصمت الصرفي والتأمل المعرفي _الاخلاقي للذات السائرة .
فقذ رفعت الصوفية مبدأ المراقبة (الذاتية ) الى مصاف الأدب الدائم ، أو
الخلفية التي تنعكس فيها حقائق الوقت وتجليات السر. إلا أن مراقبة النفس
عندهم لم تكن لتلبية احتياجات ومتطلبات السياسة والقوى ، بقدر ما إنه يعبر
عن فاعلية القيمة الاخلاقية في الكيان الصوفي ككل . فهي لا تشكل قاعدة
بالمعنى الشكلي للكلمة . انها العصب اللا مرئي في وجود الصوفي الذي لا يقف
عند حدود المراجعة الانتقادية أو عند عتبات التقويم القسري. ولهذا لا تعترف
ولا تشجع المتصوفة قيم وقيود وسيكولوجية القادة _القاعدة ولا مؤسساتها، بل
تضع على الدوام مهمة التفتيش الذاتي كجزء من العملية الدائبة لنفي الرذيلة
. أي أنها تعي شسور الذات الأخلاقية كأسلوب لتسوية الارادة وصيرورة الهم
الموحد. فللووح أيضا قوانينها التي تتطابق في التصوف مع القناعة الفردية أو
اليقين الحق . ولهذا كان بإمكان المتصوفة أن تقول بأن العوام يمكنها
الاستعانة بتقليد العلماء، أما المتصوفة فلا تقلد الا الحق . وقد حدد ذلك
بالضرورة أهمية التجربة الفردية في الأدب الصوفي ، أو التمسك الصارم بن حدة
العلم والعمل . أي الأدب الصارم لمراقبة دقائق الروح والفعل . اذ يحكى في
نوادع الصوفية أن رجلا جاء الى أبي عبد اثو أحمد بن يحيى الجلاء وسأله عن
مسألة في التوكل ، فلم يجبه . ثم دخل بيته وأخرج اليهم هوة فيها أربعة
دوانق وقال اشتروا بها شيئا، ثم أجاب الرجل عن سؤاله . وعندما استفسروا عن
ذلك أجاب :"استحيت من الله أن أتكلم في التوكل وعندي أربعة دوانق (23).
ويحكي عن المزن الكبير (تـ328هـ) أنه كان في سفره مع ابراهيم الخواص
(ت-291هـ) فاذا عقرب يسعى على فخذه ، فقام ليقتله فمنعه قائلا: "دع كل شيء
مفتقر الينا ولسنا مفتقرين الى شي ء".(24) أي كل تلك الممارسات التي عبر
عنها الخواص في أحدى كلماته قائلا: "لا يحسن هذا العلم الا لمن يعبر عن
وجده وينطق به فعله ".
ان هذه القناعة الجارفة بحقائق التصوف ، التي تلازم بلورة إرادة المريد
تتحول بالارتباط مع ارتقائه ال كيانات نوعية (مقامات وأحوال ) وتبقى في
الوقت نفسه هي هي ذاتها. فالجوع ، كما يقول يحيى بن معاذ
(ت – 258هـ) هو "للمريدين رياضة ، وللتائبين تجربة ، وللزهاد سياسة ،
وللعارفين مكرمة"(25). واذا كان من الصعب المطابقة بين الرياضة والتجربة
والسياسة والمكرمة في عرف ومنطق وقواعد التحليل العلمي الشكلي ، فان هذه
الخلافات تضمحل في "منطق" الروح الاخلاقي. اذ ليست هذه الخلافات في الواقع
سوى درجات بذل الروح التي تخلق في تجلياتها صيغ الروح الأدبي (الصوف ). ومن
الممكن أن تتخذ هذه الصيغ الأدبية في القناعات الفردية أشكالا غاية في
التباين ، الا أنها تعكس في وحدتها ثبات القناعة ، أن أدب القناعة الفردية
يدفع بالصوفية الى أن يسلك السلوك الوحيد الضروري. أي أدب التجربة الفردية
ولا يقصد هنا بفردية الأدب نزعته الانزوائية . رغم أن الانزواء يشكل بحد
ذاته جزءا من "منظومة" تسوية الارادة الصوفية .
ففي الوقت الذي يفترض الأدب الصوفي التمسك بقواعد الحق وتسوية الارادة ،
تستلزم الروح الأدبية تأثرها بهما. وقد حدد ذلك ما يمكن دعوته بديناميكية
التقيد بالمطلق وأدأبه . ففي الوقت الذي يستلزم على سبيل المثال ، تربية
المريد وجود الشيخ ، فإنها تطالبه ببذل الروح الفردية . وف الوقت الذي .عتلك
الشيخ قواعد طريقته الخاصة في السلوك ، تتعايش في "ذاكرته" اللانهائية
سلسلة الوجود الصوفي في شيوخها وحكمائها. ولهذا كان بامكان أبي علي الدقاق
ان يقول بأنه أخذ الطريق (الصوفي ) عن النصر ابادي عن الشبلي عن الجنيد عن
السري السقطي عن معروف الكرخي عن داوود الطائي عن التابعين(26). ويقف عند
هذا الحد. وكان بامكانه ان يربطه في نهاية المطاف بالحق (الله ) والا يقف
عند ذلك ، بفعل سيطرة "الأن الدائم " وحقائق الوقت التي تطالبه على الدوام
بتسوية الارادة . ولهذا قال الجريري (ت-311هـ) في أدب العزلة عندما سئل
عنها : أدهي الدخول بين الزحام وتمنع سرك الا يزاحموك ، وتعزل نفسك عن
الانام ويكون سرك مربوطا بالحق "(27) في حين قال ذو النون المصري : "ليس من
احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله (28) ولا يعني الاحتجاب بالله
هنا سوى الظهور بدوافع الحق وغاياته . اذ اننا لا نعثر على صوفي لم يتحدث
عن سعيه للحق . بل يمكن القول ، بأن ما يميز الصوفية في التراث الاسلامي
كونهم "السائرين الى الحق" وكونهم "أهل الحق" . فقد حولت المتصوفة مفهوم
الحق الى بؤرة وجودها الجوهرية . وجعلت منه وسيلة وغاية وجودها الأدبي
الأخلاقي. بل إنها أعطته كل "صلاحياتها ، وبنت عليه نظرياتها ومواقفها تجاه
كل قضايا الفكر والوجود الكبرى.
وحاولت في سعيها العملي وآدابها ان تجسد نفسها باعتبارها ممثلة الحق في
يقينيته . ومن غير الممكن توقع ميدان آخر لهذه اليقينية غير ميدان الروح
الاخلاقي. فهو الاطار الوحيد الذي يمكنه أن يحوي نفسه والمطلق.
*الكاتب
ميثم الجنابي
بروفيسور عراقي يعيش في موسكو
الهوامش:
1- القشيري: الرسالة القشيرية في علم التصوف، القاهرة
1957،ص128.
2- السهروردي: عوارف المعارف ( مع ملحق احياء علوم الدين
للغزالي) بيروت، دار المعرفة(ب.ت)، ص 150.
3- الطوسي: اللمع في التصوف، ليدن 1914، ص142.
4- القشيري: الرسالة القشيرية، ص129.
5- الطوسي: اللمع، ص142.
6- القشيري: الرسالة القشيرية، ص129.
7- القشيري: الرسالة القشيرية،ص 129.
8- السهرودي: عوارف المعارف ص 151.
9- القشيري: الرسالة القشيرية ص 129.
10- السهرودي: عوارف المعارف ص 153.
11- القشيري: الرسالة ص43.
12- الطوسي: اللمع في التصوف ص 150.
13- نفس المصدر السابق ص150.
14- نفس المصدر السابق ص152-153.
15- القشيري: الرسالة القشيرية ص7.
16- السهرودي: عوارف المعارف ص168.
17- الطوسي: اللمع في التصوف ص166.
18- الطوسي: اللمع في التصوف ص179.
19- نفس المصدر السابق ص181.
أضيفت في
10/06/2006/ * خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات
صوفية)
إشكالية المنهج وتأويل النص الصوفي
بقلم الكاتب: شريف هزاع شريف
" طـريـقـنا طـريق الكـيـمياء "
نجم الدين الكبرى
تتوخى الحركة النقدية المعاصرة بدراساتها المكثفة الوصل إلى مرحلة
الاستقرار في بلورة المناهج النقدية وتوطيد دعائم ثابتة لا تنغلق في قوالب
نظرية بحتة .. بل بتطبيقات واسعة مستبعدة الأسس الأيديولوجية التي تضفي
عليها الطابع الدوغمائي، وقد تكون حركة النقد حالياً هي الممهد لظهور
المنهج الكلي في المستقبل. إلا أنه لازال العامل التكثيري سائداً على
النوعية وكأنه إرهاص بإفلاس النقد، فما الذي يدفعنا لرصد إشكالية المنهج
والتطبيق.. هل هو عقم المناهج الحديثة؟. الحقيقة إن إشكالية المنهج ليست
قضية القرن بل هي مسألة تاريخية من عصر الفلاسفة قبل افلاطون مروراً
بأرسطو، ومثلما ظهر افلاطون من أجل هيدكر الذي أنهى الفلسفة بشكل تراجيدي
معلناً العودة إلى أسلافه (لإعادة النظر) لكن ضمن رؤية جديدة هي (التأويل)
وهو في حقيقة الفعل، قام بإحياء الفلسفة التي وصلته ميتة، فممارسة التدوير
بمحور جديد بتطبيق منهج نقدي يحمل في طياته (الإحياء) وإن كان قد سد باب
الفلسفة إلا أنه من خلال المنهج الجديد فتح لنا فيها باباً لن ينسد عن طريق
(التأويل) الذي منهجه غادمير ومن بعد ايزر وياوس وهابرماز وغيرهم، من أجل
إيجاد مفاتيح اللعبة (اللغوية) أو الفكرية للتراث الغربي. أمام هذه
المعطيات الكثيرة وقف النقد العربي لحظة تأمل أمام الكم الفكري الهائل
لنتاجه (التراث) عبر العصور، وفي خضم الصرعات النقدية الجديدة أراد هو
أيضاً (إعادة النظر) طارحاً تساؤلات جوهرية عميقة لم تقفها الدول المصدرة
للنقد! دارساً بشكل جدلي التراث والمعاصرة، ورغم توقفه تماماً أمام إشكالية
خطيرة هي: (هل نطبق النقد القديم على النص القديم والمعاصر، أم النقد
المعاصر على النص المعاصر والقديم؟). فانقسم النقد العربي/ الناقد العربي،
وتأطرت كل جهة بمنطلقات قطعية جامدة أوقفت الحركة التطورية المنشودة للنقد
المعاصر في الساحة العربية، والحقيقة أن لكل التطبيقات، مهما تنوعت، نتائج
معينة تتحدد على ضوئها معيارية التقرير، وسنبقى بحاجة لإنشاء منهج لا يهدف
للوصول إلى الحقيقة! بقدر ما يسعى للاقتراب من حدودها، والأمر ينطبق على
دراسة النص الصوفي ومحاولة تأطير منهج نقدي بمستواه، فالأدب الصوفي طفرة
نوعية في تاريخ (الانسكلوبيديا) العربية منذ تأسيسها، كما أن له أوجه تشابه
كبيرة بالأدب المعاصر (كيميائية الكلمة) إلا أن التصوف يقع تحت تأثير
المنظومة الدينية الثابتة على الرغم من ابتكاراته التعبيرية الكثيرة
والمتجددة من عصر لآخر، بينما يتشكل النص المعاصر تحت تأثير حركة الفكر
المتغير الذي لا يتسم بالثبات كما هو في الدين، فتمحور الأدب الصوفي ضمن
ثوابت ومتغيرات هي:
ثابت متغير ثابت
الأسس ــــ الشكل ـــــ المعنى
الدين النص (الذي يتضمن
المفهوم الديني)
تقع إشكالية تأويل النص الصوفي بدراسة (الشكل/المتغير) الذي يتميز بسياقات
متنوعة مرنة لا تخضع للمرجعية اللغوية (المعجمية) إنما تشكل قاموساها الخاص
ومفرداتها وتركز على دور المصطلح (اختزال الجملة الصوفية، أو الحالة
الوجدانية) الذي يحيل إلى دلالات مبتكرة ومنفتحة على عكس محصورية العلاقة
بين الكلمة والمعنى في اللغة، أو في الخطاب، التي تنحصر في دلالات ثلاث:
1)ـ الدلالة العقلية. 2)ـ الدلالة الطبيعية. 3)ـ الدلالة الوضعية.*
أما في التصوف فإن الدلالات (معظمها) دلالة عرفانية أو ما تسمى بمصطلح
التصوف (ذوقية) وعليه أنشيئ للتصوف لغته الخاصة وشكل له دائرة لغوية تشترك
فيها الكلمات وضعاً فقط مستمدة وجودها وشرعيتها من العلاقة التي تربطها
باللغة الدينية، لكن بدلالات خاصة تمثلها بمرجعية إشارية مثلما نجدها في
المصطلحات الآتية**:
الكلمة المعنى اللغوي المعنى الصوفي
الحيرة عدم التوجه لشيء موقف من اليأس والطمع
في الله
العرش سرير الملك، البيت تحقيق مظهر العظمة
الستائر من.. الستر: الحجاب صورة الأكوان ومظاهر
الأسماء الالهية
الحرق النار تجلي جاذب إلى
الفناء
ومن ترابط هذه الكلمات يتولد النص الصوفي بشكل يختلف عن تولد النص الآخر،
فالنص الصوفي يركز على رؤية (المعاني ـ الثابتة) من خلال جوانب روحية
واستنسال دلالات كثيرة بتمثلات لفظية كثيرة (مصطلحات) فيتشكل النص
* المنطق/ محمد رضا المظفر/ بغداد،1982، ص37.
** ينظر: معجم المصطلحات الصوفية/ عبدالمنعم الحفني/ دار المسيرة،بيروت.
ومعجم ألفاظ الصوفية/ حسن الشرقاوي/مؤسسة مختار، القاهرة.
(الشكل ـ المتغير) حيث أن اللغة الصوفية تنشأ من آلية مختلفة عنها في
اللغة/الكلام هي:
اللغة الصوفية معاني دلالات كلمات
عَ عَ
ع ـ علاقة باطنية غير ظاهرة بربط إشاري لا منطقي تحتاج إلى تأويل.
اللغة / الكلام كلمات معاني دلالات
عَ عَ
ع ـ علاقة ظاهرية بواسطة نظام منطقي تركيبي لا تحتاج إلى تأويل.
حضور المعاني عند المتصوفة يخضع لما قبله (الاستعدادات القبلية ـ التجربة
الصوفية على العالم) وهي تحضيرات مسبقة منظمة (أذكر، أوراد، قراءات..إلخ)
تتولد من مخاضاتها (اللغة الصوفية)، هذه التحضيرات تكون (الحال ـ مصطلح
صوفي) وهو مرحلة تلقي المعاني دون إرادة أو اختيار فتنصب على القلب دون قصد
كإحدى حالات الغيبوبة أو التحليق في عوالم روحية تجريدية غير مرتبطة
بالواقع المادي، وبعد هذه الحالة تتم عملية الربط والبحث عن دلالات لتشكيل
النص الصوفي لنقل تقرير وجداني (للعالم ـ الصوفي) وهي ما نسميه بمسألة
(الشكل ـ المتغير) حيث يختلف النص الصوفي من متصوف لآخر قياساً لعمق
التجربة أو درجتها؛ فالأقدم انتساباً في التصوف والتزاماً بقواعده أكثر
عمقاً وتنوعاً في (النص) فالمريد (المرحلة الابتدائية في التصوف) قد يصرخ
صرخات متتالية أو يتأوه أو تتكسر الكلمات في فمه أثر وقوعه في دائرة
(الحال) فلا يستطيع تكوين (نص) بينما الشيخ (من المراحل النهائية في
التصوف) يستطيع نقل مجمل خالات الوجد مكوناً (النص) إلا في حالة (الفناء ـ
مصطلح صوفي) التي يعجز هو أيضاً عن نقل تفاصيلها.. فإنه يصبح في درجة
المريد لكن في (مقام) أعلى، أما إذا حاول نقل الحالة تلك فسوف تكون لغته
غير مفهومة ولا يمكن تأويلها كقول:
(1)ـ" قهرم طمس هوالم صعنح، ذلكم الله ربكم يا يا يا ".*
(2) ـ" في القدوم العياني إلى نزل التداني على نياق التجريد الجثماني بعد
التجريدات على الاعتلاقات الحشاوية بتجليات الاعراق الطهاوية".**
(3) ـ" كأنها كأنها كأنها كأنه كأنه كأنه كأنها كأنها كأنه كأنه كأنه
كأنها".***
فالنص الصوفي ينقسم إلى :أولاً: ما يؤول. ثانياً: ما لا يؤول. وقضية
التأويل يجب أن تكون بمستوى من التنظيم والمنهجية العلمية على أن لا تقع في
الانغلاق أو الهدم الذاتي، بتوجه فلسفي لتكوين أسس صحيحة لبناء (المنهج)،
والمنهج التأويلي يستند في أساسه على مجموعة من المنطلقات الفلسفية وعلى
تصميم يخضع لهندسة دقيقة من الافتراضات وطرائق البحث، إلا أن المؤول يقف
أمام اختيار الفرضيات واختيار طريقة البحث بما يلائم فضاءات العمل المطروح
لديه.
هوامش:
*رسائل ابن سبعين/تحقيق؛عبدالرحمن بدوي/الدار المصرية،ص183.
**نور الهداية والعرفان/الحلاج/تحقيق؛محمد أسعد/المطبعة
العلمية، مصر،ص84.
***الطواسين/الحلاج/تحقيق؛ماسينيون/مطبعة الأوفسيت،
بغداد،ص77.
في الأدب الصوفي؛ بتكوينه وماهيته (نقدياً) لا يخرج عن
ثلاثة أنماط وصفية تحدد درجة التلقي، التأويل، الفهم..إلخ، أو بمعنى آخر
تحدد لنا أولاً؛ مشروعية التأويل قبل الشروع فيه، وهذه الأنماط هي:
أولاً: نص صوفي تتسم لغته بالبساطة والمباشرة، لا يستخدم
دائرة اللغة الصوفية بل يعتمد على نقل الدلالات العرفانية من خلال اللغة
المتعارف عليها (تداولاً) أو من اللغة الدينية، ويتميز هذا النص بوضوح
الطرح والأسلوب وظاهرية المعنى وترابط الدلالات في السياق النصي بشكل منطقي
أو أدبي مفهوم لا يحتاج إلى وسيلة تأويلية لبلوغ الغاية (الفهم)، ونجد هذا
النموذج واضحاً في تصوف (عبدالقادر الكيلاني، الغزالي، ابن عطاء الاسكندري،
الشاذلي،..إلخ).
ثانياً: نص صوفي تتسم لغته بالتعقيد والمجازات اللغوية
المتفردة التي تستمد مفرداتها من دائرة اللغة الصوفية فتنقل المعاني بواسطة
دلالات معقدة أو بعيدة عن الإدراك إلا بواسطة التأويل ورد المفردة إلى أكثر
من مرجع للوصول للمعنى. وعادة يطرح هذا النوع من النصوص قضية أو تجربة
صوفية من خلال مفهوم (الذوق).وهذا ما نجده واضحاً في أكثر مؤلفات (ابن
عربي) ونجده أحياناً عند (ابن سبعين) و(الحلاج) في بعض الأسطر والرسائل.
ثالثاً: نص صوفي مغلق تماماً لا يمكن فهمه وتأويله، ومحاولة
تأويله ضرب من الالتواءات النقدية التي ترسم معان ونتائج مسبقة دون نظر
وتحليل علمي مشروع. وقد وضحنا نماذج من هذه النصوص كما عند (ابن سبعين،
الصاحب النقشبندي، الحلاج).
من خلال هذه الأنماط الثلاثة نستطيع تحديد ماهية النص
الصوفي قبل الشروع بتأويله، الذي يمارس على ما هو قابل للتأويل لتبيان
إشكالات النص والمفهوم والتلقي والخطاب واللاتقليدية ليظهر آلية اللغة
النصية، فلسفتها، ماهيتها، دورها،..إلخ. وإذا كان التأويل ممارسة خطيرة فلا
بد أن يكون النص (..).
*
شريف هزاع شريف: كاتب من العراق.
أضيفت في
10/06/2006/ * خاص القصة السورية
/ أنظر (شخصيات
صوفية)
الإبداع والتصوف
بقلم
الكاتب:
عمر الحمود
-هل المبدع متصوف؟...
-هل المتصوف مبدع؟....
نزعم أن الإجابة القاطعة نسبية..
لكننا نقول إن للمبدع صوفيته الخاصة، وللمتصوف إبداعه الخاص.
وكلاهما يمضي حياته مابين انتكاس وانتعاش.
وبشكلٍ عامٍ نجزم بأنَّ هناك عدة نقاط تلتقي فيهما التجربة الإبداعية
والتجربة الصوفية (سنهتم بالتجربة الصوفية الإسلامية لوضوح معالمها).
فهما تجربتان إنسانيتان راقيتان...
-الإبداع شكل راقٍ للنشاط الفكري والأدبي عند الإنسان.
والتصوف شكل راقٍ للنشاط الديني والروحي عند الإنسان.
1-كلٌ من التجربتين تبدأ من قلقٍ وحنين إلى الخير المطلق.
في الأولى عبر تأمل جمالي.
وفي الثانية عبر تأمل ديني.
ويحاول التأملان السمو بالروح إلى الأعلى، وإن اختلفت الوسيلة.
-وسيلة الإبداع روعة العمل الفني وجماليته وما تُثيره في النفس.
-ووسيلة التصوف تفكير وتطهير من الدنس الإرادي وما يفعله في النفس.
والإبداع ينتهي إلى معرفة الله، المبدع الذي يُبْدِعُ ولا يُبدَع، ويخلق
ولا يُخلَق.
ولا يخفى على الجميع أنَّ السريالية حين ثارت على المألوف كانت تسعى إلى
تصوفٍ من نوعٍ جديد.
والمعرفة عند الصوفية هي المعتقد، وتعبير عن العلاقة بالله وهي علاقة حب،
وتقول إن لم نعرف الله كيف نحبه؟...
2-الصوفية ليست علماً يستمد من الكتب،
وإن كان لها شروط إرادية لنيل المقامات، وحين تبلورت امتلكت تنسيباً وطرقاً
وفرقاً واختبارات روحية وجسدية يخضع لها السالك أو المريد.
إنها تستند إلى مجاهدة، يتم بموجبها التخلص من سيطرة النفس الأمّارة
بالسوء، واتباع سلوك خاص يحتاج إلى جهدٍ نفسي يبذله السالك ليكبت رغباته،
ويزيح الطاقة النفسية من موضوعٍ إلى آخر تصاحبها هبة ترد إلى القلب من غير
تعمد، تنال بها الأحوال، وترتقي المقامات إلى كرامات.
فالتصوف تجربة روحية تحتاج إلى إرادة استثنائية وهبة ربانية وهذا لا يتيسر
للعوام، بل لنخبةٍ من الأبرار.
-الإبداع لا يستمد من الكتب والتعليم، وإلا لصار كل دارس مبدعاً، وإن كان
للإبداع نوادٍ ومؤسسات تهتم بالمبدعين في عدد من الأماكن.
للإبداع شروط خاصة إرادية وغير إرادية من موهبة وجهد واطلاع ومعاناة لصقل
الموهبة وتعزيز المعرفة والتقاط الفكرة وإلباسها ثوباً يليق بها لتخرج إلى
الجمهور كعروسٍٍ في يوم زفافها تحفة تبهر الأنظار.
يقول ابن خلدون: ((الخبرة والمران من شروط تنشيط الملكة الإبداعية وتهيئتها
للإبداع)).(1).
أجل، فالإبداع باعتقادنا حشد الإمكانات العقلية وإعداد وتأهيل علمي مع
الموهبة وتهذيب الإشراقات الإلهام، وما يصاحب هذا من متاعب ومباهج، وهذا
يصعب على العوام، ويَسهُل على ذوي العقول.
3-لكلٍ من التجربتين أسرار صعبة المنال.
الأسرار الصوفية لا تُحصّل إلا بعد سلوك درب وعرة، يراعى فيها الكتمان، فإن
تعرضت لسوء فهم أو تأويل كانت مصدر خطر على أصحابها (اتهام الجنيد
بالكفر-سجن السهروردي- تعذيب النوري-صلب الحلاّج...).
يقول ابن عربي: ((لا يستطيع العارفون أن ينقلوا مشاعرهم جملة إلى غيرهم من
الناس، وكل الذي يستطيعونه أن يرمزوا بها)).(2).
وكتب الحلاج كتاب الطواسين وهو في السجن معتمداً على الاختزال والترميز
والتجريد والأشكال الهندسية ليكون مأمناً لأسرار عجز عن حفظها.
وقد يكون الترميز والتجريد قناعاً لستر ما يريدون ستره عن بقية البشر،
لأنهم يعدون أنفسهم من الخاصة، وليس من باب الخشية، فهم لا يملكون شيئاً
يخشون عليه.
وإن مُدَّ الصوفي بكرامة يكتمها، ومنهم من يظهرها عند الضرورة القصوى.
-وللإبداع أسراره الخاصة، ولا تُحصّل بسهولة، وقد تعرّض مواقف المبدع
صاحبها للخطر لتمسكه بمبادئه ونتائج إبداعه (سجن، نفي، قتل...).
فانتشر الترميز في الإبداع ليساهم بجانب وظيفته الجمالية في التخفيف من
المخاطر التي تجابه المبدع.
4-المبدع الحقيقي يحمل الكثير من أخلاق المتصوف
كالتواضع والزهد والتفاني في سبيل الهدف.والمتصوف نذر نفسه لله، ويكتفي
بكسرة خبز وشربة ماء، ويسعى للفوز بمحبة الله عبر الانتقال من عالم الدنيا
إلى عالم القداسة بعد المرور بمفاوز يعارك فيها مغريات النفس والدنيا.وقد
وصف ابن شبهة في كتاب تاريخ الإسلام السهروردي في حالةٍ يُرثى لها.
-والمبدع يكتفي بقليل من الدنيا، ونذر نفسه لرسالته.
وقد قيل في زمنٍ ما: المبدع نصف إله.
والكثير من المتصوفة أبدعوا فكراً وشعراً ونثراً (نصوص، أشعار، قصص
الكرامات والرؤيا...) نذكر منهم الحلاّج وابن الفارض والغزالي وذو النون
وابن عربي.
وعجز التهميش الذي جابهوه من السلطة والعامة آنذاك من إفراغ نصوصهم من
بُعْدِها الإبداعي الأدبي واختزالها إلى خطاب ديني.
و((من الخطأ التمادي في الاعتقاد بأن الخطاب الصوفي هو خطاب يقع في جانب
الدين، والتجربة الصوفية تجربة معرفية عاطفية، كما أنها تجربة في الكتابة
الإبداع)).(3).
ونستطيع القول إن القص الصوفي بما فيه من رمز وخيال وسرد وحدث وخوارق لون
قصصي متقدّم تاريخياً، وإن لم تنضج فيه شروط القص الفنية بالشكل الأمثل.
وامتاز الشعر الصوفي بلغة جميلة ومكثّفة ومركّزة ومتمردة على اللغة
المألوفة بمعانيها ورموزها.
والأدب الصوفي يحتاج إلى عارفٍ خاص لفك رموزه.
عارف له معرفة دقيقة بالاستنباط ونصوص القرآن وما يتصل بها، ومعرفة واسعة
باللغة ومراتب الصوفية وأحوالها ودرجاتها، فمفردات هذا الأدب من حب وغزل
وخلّة وكأس ووجد وسماع وخمرة تستعمل استعمالاً مغايراً لاستعمالها عند بقية
الشعراء.
والنص الصوفي الظاهر أو الثابت ليس إلا غطاءً يستر نصاً آخر، فمفردة الخمرة
تعني لديهم خمرة المعرفة. (4)، يشربها العارفون، فتحدث النشوة أو السكرة.
والنشوة انبساط وانشراح بذكر الله والتقرب إليه بدرجة.
يقول ابن عربي:
أدين بدين الحب
أنّى توجهتْ ركائبه
فالحب ديني
ديني وإيماني(5)
والمقصود بالحب حب الله.
والصوفي الصادق يرحب بدين الحب، ويستغرق في مشاهد الجمال الإلهي المطلق،
والحب ليس عاطفياً أو غريزياً بقدر ماهو نزوع إلى نور الحق الإلهي وحنين
إليه.
وتقول رابعة العدوية عن الخليل: وتقصد به اللهI:
قد تخلّلتَ مسلك الروح مني
ولذا سمي الخليل خليلا
أنت همي وحديثي
ورقادي إذا أردت مقيلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي
وإذا ما سلكت كنت الخليلا(6)
ومفردة الكواعب تعني الحِكَم الإلهية والإشارات العلوية والعيس تعني
الهمم.
والظبية تعني اللطيفة الإلهية.
والحادي هو الشوق الذي يحدو لهم إلى منازل المحبة، والديار تعني المقامات.
والربوع الدارسات آثار العارفين.
والطلول أثر منازل الأسماء الإلهية في قلوب العارفين.
(ومن أراد المزيد فليقرأ ترجمان الأشواق لابن عربي).
ويوجد مبدعون طبعوا نتاجاتهم بالمفردات الصوفية، أو تأثروا بالفكر
الصوفي.
5-هناك نشوة صوفية، وهناك نشوة إبداعية.
تدرك الأولى أثناء السكرة الروحية، أو الغيبوبة ودخول النفس في حالةٍ
متعالية على بقية الأحوال يُذهل فيها الصوفي عن العالمين، ويفقد إحساسه،
وتسلب إرادته، فيتفوّه بكلامٍ غامض غريب يعارض الخطاب السائد، ويقبل
التأويل،تسبقه حركات أو صياح أو صرخات (شطحات) وهو يهتز نشوةً ووجداً
وطرباً كأن يقول أحدهم: (سبحاني ما أعظم شأني). ولا يترجم هذه الشطحات
إلاَّ قلة عارفة بدرجات الصوفية وأجوائها وطرقها ومسالكها وأحوالها.
ويعرّف الطوسي الشطح بأنه: ((كلام يترجمه اللسان عن وجدٍ يفيض معدنه مقرون
بالدعوى إلا أن يكون صاحبه مستلباً ومحفوظاً)).(7).
وحالة الذهول أو الإلهام قد تحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك
استقامة كما عند السحرة، وهذا استدراج لهم، فشرط الكشف الحقيقي هو
الاستقامة كما يؤكد ابن خلدون في مقدمته.
-أما النشوة الإبداعية فتُدرك أثناء الخلق والابتكار، أو تلقي الإلهام، أو
ما يسميه البعض شطحات الخيال، وتحدث في أوقات معينة حين ينعزل المبدع عن
العالم، وكأن قوة فصلته، أو سلبت لبه فينهمك في الابتكار دون أن يشعر بمن
حوله وينتج عن هذا وليده الإبداعي.
فالمبدع والصوفي يقومان بعملية ترويض.
-المبدع يروض فنه.
-والصوفي يروض نفسه.
6-الإلهام الإبداعي قد يتواتر، أو يتقطّع،
يأتي ومضات مستمرة، أو متقطعة والذهول الصوفي قد يستمر، وقد يتقطّع.
وقد تمر سنون والمبدع في حالة عقم إبداعي، وكأن قوى الإلهام قد هجرته.
وقد تمر سنون والصوفي بعيد عن الذهول الصوفي.
ومن نجح في ابتكارٍ نتيجة الصدفة لا يعد مبدعاً، فمن شروط الإبداع وجود
تجربة تراكمية، وإمساك بمفاتيح الفن، وبالمقابل ليس كل من أتى بشطحةٍ إثر
صدفة يعد صوفياً، فالتصوف سلوك يكرّس لإرضاء الله أو الفوز بلفتةٍ منه.
7-التجربة الإبداعية استفادت من التراث الإنساني،
بكل ماتعنيه كلمة تراث، وخاصة الإرث الديني الصوفي باعتباره فصلاً من
التراث الإنساني.
فالعديد من النصوص الإبداعية فيها اقتباسات أو إيحاءات أو تناص مع النصوص
الدينية كقصص القرآن وأخبار السيرة النبوية والأحاديث الشريفة ووقائع
الإسراء والمعراج (رسالة الغفران)، للمعري تتقاطع مع تلك الوقائع (وعدد
كبير من الاختراعات العلمية استفادت من القرآن الكريم).
-والتجربة الصوفية بعد أن ترسّخت وظّفت أشكال التعبير الإبداعية الممكنة
كالرسائل والخطب والشعر والقصة والنص لإيصال رسالتها إلى الجمهور وخلق حالة
تواصل وتفاعل معه بعد مرور فترة قطيعة في بدايات تلك التجربة.
ونجدها سخّرت أغراض شعرية مشهورة كالغزل والخمريات كما عند ابن الفارض وابن
عربي.
والنص الصوفي الظاهر لا يبعد كثيراً عن التراث الشعري العربي فهو يقف على
الأطلال، ويناجيها ويصف الطبيعة والراحلة.
وإن نظرنا إلى قصص الكرامات والرؤيا والمعارج لوجدنا أن لها طبيعة حكائية
كما في بقية أنواع السرد الأدبي إضافة إلى محاكاتها للنصوص الدينية، فكتاب
الإسرا إلى مقام الأسرى لابن عربي حاكى فيه قصة الإسراء والمعراج، ونستطيع
أن نعده نصاً لاحقاً بُنيَ على نصٍ سابق.
والتراث الإنساني عرّف الصوفية: ((هناك تصوف عند معتنقي الأديان السماوية
والشرائع الأرضية)) فكلمة تصوف العربية تقابلها كلمة صوفيا اليونانية وتعني
الحكمة، وكَثُرَ المتصوفة عند الأحناف (دين إبراهيم عليه السلام)، ومنهم
الشاعر أمية بن أبي الصلت وكان أشعر بني ثقيف، وقبيل الإسلام كان لورقة بن
نوفل صوفيته الخاصة، وقد قال عنه النبي محمد (ص) : ((رأيت القس ورقة بن
نوفل في الجنة، وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي، وصدقني)). (8).
وبعد مجيء الإسلام تنوعت تيارات التصوف (حب وعشق، فناء، حلول....).
واستندت إلى القرآن الكريم(9)، فهو المعين الرئيسي الذي استقى منه المتصوفة
مكونات تجاربهم وهو الفضاء القابل للتأويل الذي يقوم به أولو الألباب
والمتفكرون، فهناك قصص الأنبياء ومعجزاتهم الخارقة كمعجزة الإسراء
والمعراج، وقصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف، وهناك آيات
فسّرها المتصوفة تفسيراً يعزز أفكارهم، ومنها: ((ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد)) (سورة ق.الآية 16)، ((هو معكم أينما كنتم.......))، (سورة الحديد
–الآية4).
وأحاديث نبوية شريفة مثل: ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني،
وأحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي
يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، وإن استعاذ بي
لأعيذنَّه)).(10).
وعزلة المتصوفة في الخلاء أو بعيداً عن الناس في بحثه عن الحقيقة واستعداده
لتلقي المعرفة يشبهها المتصوفة بعزلة النبي محمد (ص)في غار حرّاء الذي كان
يتعبّد فيه قبل نزول الوحي.
8-يُنَعَتُ المتصوف والمبدع بالجنون أو الشذوذ في أحايين كثيرة.
-قد لا يبدع المبدع إلا في طقوس غريبة، فيعيش عالمه الخاص، وعالم الآخرين
حوله، فتعكر حياته سحب الحزن والكآبة ويعاني ضروباً من الاضطراب النفسي،
وقد يورث له هذا عقدة نفسية فيصاب بمرض نفسي.
وهناك نسبة من المبدعين راجعت عيادات الطب النفسي، أو أصيبت باضطرابات
نفسية كالعقاد(11)، وصلاح عبد الصبور وأنيس منصور عانى الحزن والخجل الشديد
والانطواء على الذات وحاول الانتحار في نهر النيل كما يروي في كتبه.
ومنهم من دخل المصحات العقلية، وختم حياته بالجنون كما حدث للأديبة مي
زيادة والمؤرخ البلاذري.
وقد تتشكل شرارة الإبداع بعد اضطراب نفسي، أو يترك هذا الاضطراب أثره على
العمل المبدع كآثار الكآبة والتشاؤم لدى المعري والاكتئاب لدى العقّاد
وصلاح عبد الصبور.
وإن زادت الاضطرابات النفسية عن حدّها الطبيعي تطفئ شعلة الإبداع، وكثيرون
أُسدِلَ الستار على حياتهم الإبداعية حالما نزلوا المصحات العقلية.
-والمتصوف ببعده عن زخارف الدنيا ونزوعه للخلاص من طغيان العالم الأرضي
ليصل إلى شفافية عالم السماء عبر حالات تهديم الذات دون الاهتمام بالألم،
أو عدم الشعور به يعيش عالماً خاصاً ثرياً خصباً فيه الذِكْر والتفكير
والبر والصفاء والسعي لإرضاء الله، ويعيش عالم الآخرين حوله، فيرون فيه
تشتت الفكر أو السقم أو الغفلة وقصور النظر.
وإن دخل السكرة الروحية أو الذهول عندما يصعد في مدارج السلوك، ويتعمّق في
طقسه الغريب، ويُمدُّ بكرامات تخرق قوانين الطبيعة، ويجود بشطحاتٍ يصفه
الكثيرون في حالة الهلوسة، والجنون والشذوذ أو الزندقة والإلحاد أو في خانة
الملامة في أحسن الأحوال.
وكَثُرَ هذا في القرن الثالث والرابع للهجرة.
9-هناك صور ورموز صوفية (معانٍ باطنة تحت كلمات ظاهرة)،
فالحق والنار للدلالة على الله، مستند هذا في القرآن الكريم كما يقولون:
((ويعلمون أن الله هو الحق المبين....)). سورة النور، الآية (25).
((آنس من جانب الطور ناراً....)). سورة القصص-الآية (29).
((الله نور السموات والأرض....)، سورة النور، الآية (35).
والطائر رمز البعث: ((إني أخلف لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون
طيراً بإذن الله)). سورة آل عمران، الآية (49).
وصور المرأة والطبيعة والخمرة فضاءات جمالية فيها فسحات من الجمال الإلهي
المطلق.
والكأس والشراب ترميز لمراسيم تولية الأولياء المقربين في الجنة: ((يطوف
عليهم ولدان مخلدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معين....)). سورة
الواقعة-الآيتان (17 و18).
وغيرها من المصطلحات والرموز كالكشف والأنيس والحب والذكر والرجاء والخليل
والحادي والطلل....
-وللإبداع رموزه ومصطلحاته التي يعرفها النقّاد والعارفون بالعلم والفن.
ما سردناه إشارات سريعة ومقارنة بسيطة بين الإبداع والتصوف الإسلامي،
فالعلاقة بينهما تحتاج إلى كثير من الدراسات لتسليط النور الكامل عليها،
ونأمل من الباحثين فعل ذلك.
الهوامش:
(1)-فلسفة الفن والجمال عند ابن خلدون، عزت السيد أحمد،
الصفحتان (83 و84)، دار طلاس للنشر، دمشق.
(2)-الصوفية في الإسلام، رينولد ألن نيكلسون، الصفحة (101)،
ترجمة: نور الدين شربيه، مكتبة الخانجي، مصر 1951م.
(3)-الحركة التواصلية في الخطاب الصوفي، آمنة بلعلي، الصفحة
(18)، منشورات اتحاد الكتاب العرب سورية، 2001م.
(4)-الموقف الأدبي، العدد (364)، الصفحة (19)، شهر آب 2001،
دمشق، بحث جمالية التصوف، د.حسين جمعة.
(5)-الصوفية في الإسلام، د.رينولد ألن نيكلسون، الصفحة
(103)، ترجمة: نور الدين شربيه، مكتبة الخانجي، مصر 1951م.
(6)-شهيدة العشق الإلهي، رابعة العدوية، الصفحة (120)، عبد
الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية-القاهرة، 1962م. الطبعة الثانية.
(7)-الحركة التواصلية في الخطاب الصوفي، آمنة بلعلي، الصفحة
(167)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سورية 2001م.
(8)-حركة التصوف الإسلامي،محمد ياسر شرف، الصفحة (19)،
وزارة الثقافة، سورية 1984م.
(9)-المرجع السابق، الصفحة (37).
(10)-الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية،تصحيح وتعليق
محمود أمين النواوي، الصفحة (134)، دار الجبل، بيروت، د.ت.
(11)-سلسلة عالم المعرفة، العدد (280)، الحكمة الضائعة:
د.عبد الستار إبراهيم، الصفحة(18 و19)، طبعة الكويت عام 2002م.
أضيفت في
10/06/2006/ خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات
صوفية)
ترانيم الحب الإلهي
بقلم الكاتب:
منير عتيبة
ما أعذبُ بيت شعر قالته العرب؟
وما أجملُ بيت شعر قالته العرب؟
وما أرقُّ بيت شعر؟
كانت هذه الأسئلة وأمثالها ترِد بكثرة في مجالس الخلفاء والشعراء والعلماء
والنحويين وغيرهم.. وكان كلٌ يختار البيت أو الأبيات التي يراها أعذبَ أو
أجملَ أو أرقَّ ما قيل في العربية من شعر.. وتطوَّر هذا الأمر حتى وجدنا
مختارات الشاعر الكبير أبي تمّام فيما عُرف باسم "ديوان الحماسة".. لكن
الشاعر فاروق شوشة لا يكتفي باختيار عشوائي لما يناسب ذوقه للإجابة على هذه
الأسئلة.. فهو في كتابه "أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهى" (مكتبة الأسرة/
القاهرة/ 1997) يختار موضوعًا محددًا هو الحب الإلهي.. ثم ينتقي أحلى عشرين
قصيدة في رأيه لتمثِّل هذا الموضوع خير تمثيل متوخيًا أن يكون الاختيار
شاملاً لرقعة زمانية ومكانية كبيرة.. لذلك فيمكن أن توجد عشرات القصائد
الأخرى الجميلة التي تمثِّل هذا الموضوع، والتي لا تقلّ جمالاً وأهمية عما
اختاره فاروق شوشة في كتابه.. وهو نفسه لا ينكر ذلك..
في المقدمة الممتعة الطويلة للكتاب (87 صفحة من 224) يؤصِّل فاروق شوشة
لفكرة الحب الإلهي، ويتتبَّعها من جذورها متناولاً مراحل تطوّرها وأعلام من
تكلّموا فيها..
فقد وردت فكرة الحب الإلهي في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها:
* (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة آية 54).
*(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران
آية31) .
* (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ) (البقرة آية 165).
كما وردت نفس الفكرة في أحاديث عديدة وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-،
منها قوله: "من أحب الله فليحبَّني، ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب
أصحابي فليحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد". وعَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالْعَمَلَ الَّذِي
يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ
نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) (رواه الترمذي- 3412)، وما
ورد في الكتاب والسنة كان الأساس الذى بنى عليه كبار الصوفية فكرتهم عن
الحب الإلهي..
وكانت رابعة العدوية أول من أجلى هذه الفكرة في القرن الثاني الهجري..
وتطوَّرت الفكرة بعد رابعة العدوية على أيدي الكثيرين أمثال ابن الفارض
وابن عربي وأبي يزيد البسطامي وسهل بن عبد الله التستري وأبي عبد الله
القرشي والشبلي وابن عطاء الله السكندري والحارث المحاسبي والجنيد وعبد
الله بن المبارك ويحيى بن معاذ وأبي الحسن الشاذلي وغيرهم..
وقد تبلور الحب الإلهي من خلال هؤلاء الأعلام، "فهو ليس تعلقًا بالأجساد
وصورة المادة، بل هو حب للمعاني العقلية والكاملة، وتعلُّق بالمثل، وهيام
بمصدر الكمال والجمال، ومن هنا فالحب عند الصوفية طريقة إلى الزهد في متع
الدنيا جميعًا، وحرب على النفس، وسبيل إلى العزوف عن مغرياتها... وشرط
الوصول إلى الحق عن طريق الحب أن يكون المحب جميل الروح، وأن يهتمّ بمخلوق
جميل الروح، ولو لم يكن جميل الجسم، لأن جمال الروح هو الذي يفتح أمام
المحب الطريق للتأمُّل والفكر اللذين هما السبيل للوصول إلى الغاية من الحب
عند الصوفية، فجمال الخلق يمكن أن يتَّخذ سبيلاً لمعرفة الحق، والحب هو
الطريق لمعرفة الحقيقة".
ولا يصل المحب إلى درجة الحب مرة واحدة، فهناك أحوال ومقامات لا بدَّ أن
يمرَّ بها، وقد أوضحها أبو الحسن الشاذلي بأنها تبدأ برياضة النفس والسيطرة
عليها، ثم القدرة على التحكُّم في شهوات القلب، ثم إذا استطاع المحب سياسة
روحه، وتمَّت له المعرفة هبَّت عليه أنوار اليقين شيئًا فشيئًا إلى تمام
نهاياته.. يقول الشاذلي: "وهذه طريقة العامة، وأما طريق سلوكه فتضمحل
العقول في أقل القليل من شرحها".
ويرى فاروق شوشة أن موضوع الحب الإلهي عند الصوفية يصدر عن مبدأين يحكمان
الأمر كله؛ أولهما: "أن العقل الإنساني وحده غير كافٍ في الهداية إلى الله،
فليس فيه غناء في هداية الإنسان إلى الإيمان الحق، ومن هنا فهم جميعًا
يلجأون إلى القلب واستشعار الحب الإلهى طلبًا لنور الهداية والإشراق
العلوي، وهي السبيل المألوفة للنجاة عندهم، فالعقل -في رأيهم- لا يستطيع حل
كثير من المسائل"، أما المبدأ الثاني: "فهو أن العاطفة لا العقل هي السبيل
إلى الوصول إلى الله"، وفي هذا يقول الغزالي: "كان ذلك أول حال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- حين تبتَّل، حين أقبل إلى غار حراء، حين كان يخلو فيه
بربه ويتعبَّد، حتى قالت العرب: إن محمدًا عشق ربه".
ويؤكِّد فاروق شوشة أن قصائد من اختارهم ومن هم فى طبقتهم تدلّ على "تجارب
حياتية صادقة لدى هؤلاء المتصوفة الحقيقيين الذين لم يكونوا فى طريقهم أو
مذهبهم بأدعياء.. ولقد كان الصدق دعامة الأدب الصوفي في عصوره الأصيلة قبل
أن يدركه التقليد على أيدي فقراء الموهبة وفاقدي التجربة"..
ومع ملاحظة أن الأدب الصوفي في معظمه هو أدب الهروب من الحياة، والانسحاب
من الواقع الظالم المتخلِّف ماديًا ووجدانيًا، لأنه أدب يدعو إلى الانخلاع
عن الدنيا، والالتجاء إلى رب الدنيا، إلا أن الحبَّ عند الصوفية كان
"يتَّسع مجاله لحب الإنسان وخدمته والرثاء له وهدايته دون بغض لأحد أو
انتقام من أحد".
ويبدو أن انشغال الشاعر فاروق شوشة باستجلاء فكرة الحب الإلهي التي هي محور
كتابه ومختاراته جعله لا يهتمّ كثيرًا بتتبع الجوانب الفنية للقصيدة
الصوفية.. لكنه في عالم "أحلى 20 قصيدة حب" يسبح ونحن معه في طول مكان
وزمان العالم الإسلامي.. بداية من الإمام الشافعي المولود بغزة والمتوفَّى
بمصر سنة 204هـ حتى محمود حسن إسماعيل في القرن العشرين مرورًا بأبي حمزة
الخراساني، والبرعي، والشهرزوري، وابن الفارض، وابن عربي، والصرصري،
والسهروردي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، وأبي العباس المرسي، وابن
عطاء الله السكندري، وابن أرقم النميري الأندلسي، وابن الجيّاب الأندلسي،
واليافعي، ومصطفى البكري، وأحمد الحلواني، والشيخ علي عقل..
وأنت مع هذه القصائد وهؤلاء الناس تتاح لك سويعات تنخلع فيها من الزمن
الرديء وتنقشع عنك همومه الغليظة.. فآه لو أمكنك التمسُّك بتلك السويعات
لتصبح أيامًا وشهورًا وسنوات.. أو تصبح العمر كله؛ وتقضيه في رحاب المحبوب
الأعظم
مختارات من أحلى 20 قصيدة في الحب الإلهي
الإمام الشافعي:
تعاظمني ذنبي فلما قرنْته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب، لم تزلْ تجود وتعفو منّةً وتكرما
الإمام عبد الرحيم البرعي:
إلهي أقلْني عثرتي، وتولَّني بعفوٍ فإن النائبات لها عُنفُ
خلعت عذاري ثم جئتك عامدًا بعذري فإن لم تعفُ عني فمن يعفو
الإمام جمال الدين الصرصري:
وأنتِ لا تجزعي يا نفسُ من بِدعٍ مضلة وضياءُ الله هاديكِ
أجاركِ اللهُ لولا درعُ سُنتهِ لكان سهمُ الهوى الفتّاك يُرديكِ
شهاب الدين عمر السهروردي:
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها لما دروا أن السماحَ رباحُ
ودعاهمو داعي الحقائق دعوةً فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سفن الوفا ودموعهم بحرٌ وشدّة شوقهم ملاَّحُ
أحمد البدوي:
إلهي ثوب جسمي دنَّستْهُ ذنوبٌ حِملُها أبداً ثقيلُ
إلهي جُد بعفوك لي فإنى على الأبواب منكسر ذليلُ
إبراهيم الدسوقي:
شهدتُ وشاهدْنا وطابت نفوسنا وقد لذَّ لي ذُلِّي إليه وخشيتي
أحنُّ على ذلٍّ وأهوى على هدى وأسري على علمٍ لأنوار طلْعةِ
أبو العباس المرسي:
والنفسُ بين نزولٍ في عوالمها كآدمٍ وله حواءُ في قّرنِ
والروح بين ترقٍّ في معارجها وهي الموافقُ للتعريفِ والمننِ
ابن الجيّاب الأندلسي:
محبته شرطُ القبولِ، فمن خلتْ صحيفتُه منها، فقد زاغَ واشتطَّا
به الحقُّ وضّاحٌ، به الإفك زاهقٌ به الفوزُ مرجوٌّ، به الذنبُ قد حُطَّا
الشيخ علي عقل:
وهل غير ذات الله للنفس مطلب حرامٌ سوى الرحمن يدخلُ في نفسي
وما اتخذت روحي سوى الله غايةً فتمَّ الهدى للروح والقلب والحسِّ
طاهر أبو فاشا:
عرفتُ الهوى، مذْ عرفتُ هواكا وأغلقتُ قلبيَ عمَّن سواكا
وقمتُ أناجيكَ يا منْ ترى خفايا القلوبِ ولسنا نراكا
أضيفت في
10/06/2006/ خاص القصة السورية / أنظر (شخصيات
صوفية)
مع مقاربات التصوف
وقفة مع المقاربة اللغوية - المصطلحية
بقلم الكاتب:
د.
أحمد غاني
يتناول هذا المقال بالدراسة والتحليل آليات الخطاب الصوفيمن مجاز
واستعارة وكناية واعتماد الإشارة عوض العبارة و الرمز و غير ذلك
إن المقاربة اللغوية - المصطلحية تنصف الصوفية وتدرك بعضا من حقيقة
خطابهم، فالصوفية يستعملون كل الآليات اللغوية المعروفة، والتي إن أنكرناها
فإن كل الخطابات سيكتنفها الغموض، وتصبح دلالتها معرضة إلى أن تحمل على غير
محملها، ومن هذه الآليات المجاز والاستعارة والكناية والعام الذي يراد به
الخاص، والخاص الذي يراد به العام واعتماد الإشارة عوض العبارة إلى غير
ذلك، ففي لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص وإطلاق اللفظ
وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم، ولهذا
يقولون :'' نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة'' والإشارة لنا والعبارة لغيرنا
''. وصار هذا سببا لفتنة طائفتين :
طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم.
وطائفة : نظروا إلى مقاصدهم ومغزاها، فصوبوا تلك العبارات وصححوا
الإشارات، فطالب الحق بقلبه ممن كان ويرد ما خالفه(1)•من القضايا التي يمكن
أن تضيء المقاربة اللغوية جوانبها قضية استعمال الرمز في اللغة الصوفية،
وهو أمر يعود '' إلى قصور اللغة الوضعية نفسها، إذ أنها لغة وضعية اصطلاحية
تختص بالتعبير عن الأشياء المحسوسة والمعاني المعقولة، في حين أن المعاني
الصوفية لا تدخل ضمن نطاق المحسوس. وقرر الغزالي ذلك الأمر أيضا•في قوله :
'' لا يحاول معبر أن يعبر عنها (أي الحقيقة الصوفية)•إلا اشتمل لفظه على
خطإ صريح، لا يمكنه الاحتراز عنه''•
ومن الملاحظات المهمة حول طبيعة (الرمز) الصوفي لجوء الصوفي اضطرارا
إلى استخدام الأمثلة المحسوسة في التعبير عن معان غير محسوسة وغير معهودة،
وهذا ما وضحه الغزالي في قوله :'' اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات
الحواس''، وهو ما أثبته - فيما بعد - الباحثون سمة ملازمة لطبيعة الرمز
الصوفي.
•إن هذه الطبيعة المزدوجة المتناقضة في التعبير عما هو غير محسوس
بمثال محسوس تضفي على الرمز الصوفي قابليته للتأويل بأكثر من وجه، ولهذا
يصادفك أكثر من تأويل واحد للرمز الواحد، مما يجعل الرمز الصوفي بقدر ما
يعطي من معناه فهو في نفس الوقت يخفي من معناه شيئا آخر، وهكذا يكون الرمز
خفاء وظهورا معا وفي آن واحد. فهو على نقيض الرمز الرياضي الذي أريد له أن
يضبط الدلالة ويقصي بعيدا أية إمكانية أو مرونة للتأويل أو التفسير الذي قد
تحمله العبارات اللغوية الاعتيادية''(2)
•إن مسألة حجاب الرمز الذي قد يحول بين القارئ وبين النص الصوفي هي
من أعوص المشكلات، باعتبار أن حجاب الرمز هذا قد يكون وراء كثير من
التشوهات التي تلحق فهم القارئ للنص، وبالتالي إلى تشوه الرؤية الفكرية
للتصوف ككل، ومن هنا كان من الضروري التوسل بآليات فهم النص الصوفي كي لا
تقع في هذه المزالق، خصوصا وأن ''مؤلفات وأقوال المتصوفة تزخر بالرمز،
والرمز من حيث هو رمز، له قابلية لتأويلات شتى، لذا شدد المتخصصون على وجوب
الحذر، يقول عفيفي:'' كان لزاما على الناظر في أقوال الصوفية أن يكون على
حذر في فهمها وتأويلها والحكم عليها، وإلا صرفها إلى غير معانيها، وقديما
أنشد أحد الصوفية:
إذا نطقوا أعجزك مرمى رموزهم وإن سكتوا هيهات منك اتصاله (3)•
إن القراءة الجامدة التي تقصي البعد الوجداني في النص الصوفي هي
قراءة واقعة في خلل الفهم لا محالة، فالرمز الصوفي ''عالم خاص لكي ندخله لا
بد أن نتجاوز'' العقل'' (4)،لأنه إنما يعمل وفقا لمبدأ الذاتية وعدم
التناقض والرمز على العكس من ذلك يحتضن الأطراف المتناقضة وهو لا ينكشف لنا
عن طريق التصورات المجردة، وإنما يكشفه الحدس الذي يمس باطن الذات فيجلو
لها حقائق تجل عن الفهم، لو أردنا أن نتناولها بعدة المنطق التقليدي
والمعرفة العقلية، ومعنى هذا أن التجربة الصوفية ينبغي أن تفسر بمنطق آخر
عاطفي وجداني،لأننا لسنا في مجال فيزيائي يعتمد على المعطيات الحسية، وهذا
المنطق المفسر للتجربة الصوفية بما فيها من وضعية روحية وما فيها من أذواق
وتلويحات وظواهر نفسية ووجودية على إثبات التمزق والوحدة المتوترة التي
تستقطب الأطراف المتقابلة.•
وتوضيح ذلك أن الصوفي إنما ينشد خلاصه ويحقق علوه وهو مغروس في طينة
هذا العالم الذي يبدو موقفا نهائيا مفروضا، لكنه في ارتباطه بالعالم يستوحش
مما سوى الله لأنه هو الوجود الحق المطلق. وهكذا تنمو النزعة الصوفية تحت
تأثير ديالكتيك وجداني يتسم بالتوتر.
وهاهنا ينبغي أن نميز بين لغة موضعية ولغة رمزية وفقا للتمييز بين
ما هو فيزيائي وما هو نفسي حيوي، ومن البديهي أن التجربة الصوفية لا يجدي
في تناولها اللغة الأولى لأنها تجربة ذات طابع نفسي حيوي، ولذا نجدها لغة
مرموزة توائم ما تعبر عنه من أحوال نفسية ووجودية عالية'' (5).
وتجرنا المقاربة اللغوية إلى المقاربة الإبداعية الأدبية، وهو مجال
للصوفية فيه الباع الطويل باعتبار ما أنتجوه من أدب عال شعرا ونثرا، وإن
كنا سنجد أن البعض يؤاخذ الصوفية نظرا لبعد غور الرمزية التي يستعملونها في
أدبهم، والحقيقة هي ما عبر عنها صاحب اتجاهات الأدب الصوفي الذي يقول: ''
التصوف في حقيقته إيثار وتضحية، وهو نزوع فطري إلى الكمال الإنساني
والتسامي والمعرفة، والواقع أننا إذا تأملنا أدب الصوفية شعرا ونثرا•وجدنا
رمزا غريبا، ونمطا عجيبا، وبعدا عن التصريح، وإيثارا للتلويح، واعتمادا على
الإشارة، وعلاقات خفية في التجوز بالكلام، ودرجات بعيدة بين المعاني
الحقيقية والمعاني اللزومية لا يكاد يفهمها فاهم، ولا يصل إلى جوهرها عالم
أو حالم"•وليس الرمز في الشعر الصوفي راجعا إلى الكنايات البعيدة وحدها،
وإطلاق أسماء من قبيل الرموز الخفية على مسميات لا يراد التصريح بها،
كإطلاقهم الخمرة على لذة الوصل ونشوته.والمعاني الحسية التي يستعملها
الصوفية في الدلالة على المعاني الروحية يرمزون بها إلى مفاهيم وجدانية على
الرغم من الرداء المادي الذي تبدو فيه، ومن ثم استعمل الصوفية الوصف الحسي
والغزل الحسي والخمر الحسية وأرادوا بها معاني روحية.
وسبب ذلك هو عجز الصوفية في طوال الأزمان عن إيجاد لغة للحب الإلهي
تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال، والحب الإلهي لا يغزو القلوب إلا
بعد أن تكون قد انطبعت عليه آثار اللغة الحسية، فيمضي الشاعر إلى تصوير
عالمه الجديد، فالصوفية يطلقون الخمر والعين والخد والوجه، ألفاظا ترمز إلى
مدلولات غير تلك التي تعارف عليها الناس في دنيا الحس. والرمزية في
الغزليات والخمريات ليست بالغريبة عن الشعر الصوفي في الإسلام، بل إنها لم
تبد في غير التصوف بمثل هذا الغنى وعلى نحو من ذلك الصدق، ومع ذلك ابتكر
الصوفية ألفاظا جديدة لهم هي أقرب إلى المصطلحات العلمية التي لا يقف على
معانيها إلا الواصلون إليها. إن الصوفي لا يشرك في الحب أبدا، محبوبه واحد
لا يريم عنه، ومعشوقه ثابت لا يتغير ولا يتبدل، ولكنه يعبر عنه بتعابير
مختلفة، وذلك لإظهار الهيام وألوانه. وقد يكون سببه إظهار الحيرة، والصوفي
الحق يرتاح إلى الحيرة كما يرتاح الجاهلون إلى اليقين، وأحيانا يكون الرمز
أيضا بكثرة اللوازم والوسائط المستعملة بين المعنى الحقيقي والمعنى
المجازي، ولهذا نظير في الكنايات البعيدة والاستعارات البعيدة في البيان.•
وأحيانا أخرى يكون سبب الرمز أن الأديب لا يتحدث بلغة العقل، بل
بلغة الروح والباطن والمشاعر الخفية، وأنه يعبر عن معان عميقة لا يمكن أن
يفهمها العامة ولا كثير من الخاصة، وغير ذلك من الأسباب. والرمزية
الموضوعية التي قد يكون من أسبابها الموضوع نفسه أو استعمال الأقيسة
المنطقية والمقاييس الفلسفية، والأولى قد يمكن أن تعرف بأنها الإغراق في
أوجه البديع والبيان، وخاصة الاستعارة والمجاز والتمثيل والتورية. وهكذا
نجد الرمزية شاعت شيوعا كثيرا في كتابات الصوفية نثرها وشعرها وقد يكون
الصوفية مضطرين إلى استعمال الرمز لأن الحاجة ألجأتهم إليه لأنهم يعبرون عن
معان ومشاهد وإحساسات نفسية لا عهد للغة بها ولا بالتعبير عنها••''(6)•
الهــوامش:
1 ابن القيم ، مدارج السالكين ، ج 3 ص .330
2 ناجي حسين جودة ، المعرفة الصوفية) دراسة فلسفية في
مشكلات المعرفة) ص 129•
3 ناجي حسين جودة، المعرفة الصوفية "دراسة فلسفية في مشكلات
المعرفة" ص .129
4 العقل هنا بمعناه اليوناني، انظر في هذا الصدد كتاب تجديد
المنهج في تقويم التراث، د• طه عبد الرحمن
5 د• عاطف جودة نصر، شعر عمر بن الفارض : دراسة في فن الشعر
الصوفي ص،143 .
6 الدكتور علي الخطيب، اتجاهات الأدب الصوفي، ص .11
*
د.
أحمد غاني أستاذ باحث في أصول الفقه
أضيفت في
10/06/2006/ خاص القصة السورية /
أنظر (شخصيات
صوفية)
نشأة وتطور الأدب الصوفي
في المغرب الأوسط
بقلم الكاتب: الطاهر بونابي / جامعة المسيلة
الأدب الصوفي هو الأدب الذي أنتجه الزهاد والصوفية بمختلف اتجاهاتها السنية
والفلسفية ويبحث في النفس الإنسانية بعمق فلسفي يسعى لتطهير النفس والروح
من حب الدنيا وزينتها وإدخال الطمأنينة إليها. ويطرح في اكمل صوره الفنية
التجريدية كوامن النفس من حب وجمال وقيم أخلاقية ومعرفة. وفي مضمونه أيضا
الخطوات التي يتدرجها السالك - المريد - في تطهير نفسه والبلوغ بها مرتبة
الكشف.
كل ذلك يعكس الروح الدينية العالية عندهم وهو آما قصائد منظمة أم نثرا فنيا
راقي البيان وأغراضه هي : الامتداح النبوية - رسائل الشوق إلى الأماكن
المقدسة - الأحزاب والأوراد - التوسلات - الحكم - الرسائل الصوفية
(المكاتبات السنية) - الحكايات الكرمية - شعر الزهد - شعر التصوف السني -
شعر التصوف الفلسفي 1.
مقدمات الأدب الصوفي :
مثلما مهد لنشوء التصوف في المغرب الأوسط خلال القرن 6 هـ /12 م بحركة
زهدية امتدت من القرن 3 هـ /9 م إلى القرن 6 هـ /12 م أنتجت التصوف بتيارات
المتنوعة كان الأدب الزهدي أيضا قد سبق الأدب الصوفي من حيث الظهور وتعدد
الأغراض. فقد برزت خيوطه الأولى في قصائد الشاعر بكر بن حماد بن سمك بن
إسماعيل الزناتي التهرتي ت 295 هـ /909 م الذي تأثر في رحلاته إلى المشرق
ورحلاته المتكررة إلى أفريقية (تونس) بشعرائها وعلمائها وصوفيتها.2
ومن أبرزهم بالقيروان الزاهد الفقيه سحنون بن حبيب التنوخي ت 240 هـ / 845
م فتجرع عنه منهجه القائم على الزهد في الدنيا والتبعد وفق الشريعة 3 لذا
كانت أشعاره تتمحور حول محاسبة النفس والتذكير بالموت كقوله.
لقد جمحت نفسي فصدت أعرضت
فيا أسـفي مـن جـنح ليل يقودها
إلى مـشهد لابـد لي مـن شهوده
ستأكلـها الديدان في باطن الثرى وقد مرقت نفسي وطال مروقها
وضوء نهـار لا يزال يسوقها
وجـرع المـوت سوف اذوقها
ويذهب عنها طيـبها وخلوقها4
وكذلك أشعاره في الزهد والتذكير بالموت قوله :
الموت أجحف بالدنيا فخـربها
فالان فابكوا فقد حق البكاء لكم
ماذا عسى تنفع الدنيا مجمعها وفعلـنا فـعل قـوم يموتونا
فالحـاملون لعرش الله باكونا
لو كان جـمع فيها كنز قارونا5
وفي الجملة تعكس أشعاره تجربته الزهدية التي عبر فيها عما يختلج في نفسه
والتي سمحت لنا بتصنيفه ضمن الزهد الوجداني الذاتي وقد دخلت المغرب الأوسط
مع الزاهد قاسم بن عبد الرحمان التهارتي الذي تلقاها مباشرة عن شاعرها
بالقيروان وعن طريقه انتشرت بحواضر المغرب الأوسط.6
أما المظهر الثاني لأدب الزهد في هذه المرحلة المبكرة فيعود إلى أواخر
القرن الرابع للهجرة - 10 م عندما شارك الزاهد احمد بن نصر الداودي المسيلي
ت 402 هـ / 1013 م من تلمسان 7 فقهاء القيروان بزعامة عبد الله بن أبي زيد
القيرواني ت 389 هـ /999 م 8 في ردهم على الطائفة البكرية التي مثلها عبد
الرحمان بن محمـد بن عبد الله البكـري ادعى رؤيـة الله في اليقظة 9 بتأليفه
كتابا بعنوان "الرد على البكرية" اقتفى فيه اثر ابن أبي زيد القيرواني في
الجدل حول إثبات كرامات الأولياء فكان هذا المصنف أول كتاب في الأدب الصوفي
بالمغرب الأوسط لم ينكر فيه الداودي كرامات الأولياء إلا انه تبنى موقف ابن
أبى زيد القيرواني في التشدد على التصوف المائل إلى الشعوذة.10
وفي ذات السياق ظهرت مناهج زهدية متفرقة ارتبط أصحابها في علاقاتهم الأدبية
بحواضر العالم الإسلامي فبينما ارتبط أبو محمد بن عبد الله التاهرتي ت 313
هـ /905 م برباط سوسـة واختص بفلسفة زهدية فكـرتها المحبة والشرق 11 وثق
احمد بن مخلوف المسيلي المعروف بالخياط ت 393 هـ /1003 م وعبد الله بن زياد
الله الطبني ت 410 هـ /1011 م صلتهما بقرطبة فلتزم الأول منهجه العملي
القائم على المرابطة 12 واختص الثاني في أدب التنسك في حين وسع أبو القاسم
عبد الرحمان الهمذاني المعروف بالخراز والوهراني ت 411 هـ /1018 م 13من
علاقاته بحكم رحلته العلمية التي استغرقت عشرين سنة وشملت بيئات الزهد
والتصوف كالبصرة وبغداد والحجاز ومصر وخرسان ونيسأبور ثم الأندلس صنع من
خلالها طريقة زهدية جمع فيها بين الالتزام بالسنة النبوية والانقباض والعلم
14 والورع والسخاء والمروءة.15
وكذلك استفاد احمد بن واضح من رحلاته إلى المشرق في القرن 5 هـ /11 م
تعكسها تلك المناظرات التي خاضها مع فقهاء بجاية والتي تمثل أحد اوجه
الجدال بين الفقه وأدب الزهد.16
وفي المقابل تلقى أدب الزهد بالمغرب الأوسط جرعة قوية على يد النزلاء من
الزهاد الأندلسيين ببونة حيث أطر أبو عبد الملك مروان بن محمد الأندلسي ت
440 هـ /1048 م نشاطه الزهدي بتأسيسه لرباط درس فيه العلم وصنف فيه
المصنفات 17 بينما اقتصر الزاهد علي بن محمد التدميري ت 347 هـ /958 م على
التأليف في الفقه وأدب الزهد 18 وحتى نهاية النصف الأول من القرن 5 هـ /11
م كان أدب الزهد بالمغرب الأوسط يستمد أفكاره ومواضيعه من أدب الزهد
والتصوف الذي عرفته مدينة القيروان قبل خرابها من طرف القبائل الهلالية سنة
449 هـ /1057 م وكذلك من قرطبة والبصرة وبغداد والحجاز وقد نتج عن هذا
الارتباط ظهور على المستوى العملي تيارين زهديين يعتمد الأول منهج المجاهدة
العملية من خلال المرابطة في الثغور والسواحل لحراستها من الخطر المسيحي
وتيار ثاني التزم أصحابه الزهد في الدنيا والاعتكاف على المجاهدات
والمكابدة على نشر العلم الذي يعد أدب الزهد أحد محاوره الرئيسة.
مصادر نشاة وتطور الأدب الصوفي :
الثابت من الناحية التاريخية أن أدب الزهد إلى غاية نهاية النصف الأول من
القرن 6 هـ /12 م لم يكن يرقى في نصوصه المنظومة والنثرية إلى مستوى يسمح
بإدراجه ضمن أدب التصوف إلا بعد أن شهد المغرب الأوسط خلال النصف الثاني من
نفس القرن دخول مجموعة من المصنفات الصوفية المشرقية والأندلسية والمغربية
في فترات زمنية يصعب ضبطها ضبطا دقيقا مع فقهاء والعلماء العائدين من
المشرق أو بواسطة صوفية المغربين الأدنى والأقصى الذين استقر بهم المقام
بحواضر المغرب الأوسط 19 أو مع الأندلسيين المهاجرين إلى بجاية وتلمسان
بقصد تجديد أنفاس الرحلة ذهابا وإيابا أو بغرض الاستقرار وكان لهؤلاء دور
بارز في شرح وتبسيط محتوياتها لجمهور الطلبة والمهتمين.20
ومن اكثر المصادر المشرقية والمغربية والأندلسية التي نهل منها أدب التصوف
أفكاره. كتاب الرعاية لحقوق الله للحارث بن أسد المحاسبي ت 243 هـ /858 م
وقوت القلوب لأبى طالب المكي ق 3 هـ /9 م والرسالة القشيرية لأبي القاسم
القشيري ت 465 هـ /1072 م وإحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالي ت 505 هـ
/1111 م وهي مصنفات في التصوف السني تطرح الخطوات التي يقطعها السالك
بواسطة المجاهدات للوصول إلى النجاة من عقاب الله كما حددها المحاسبي 21
وإلى تقويم النفس وتهذيبها عن طريق الإرادة والرياضة لبلوغ بها مرتبة
الأنبياء والصديقين والصلحاء 22 ثم النزوع إلى الكشف عن عالم الغيب وهي
مرحلة فراغ القلب عما سوى الله كما تبينها الرسالة القشيرية وإحياء علوم
الدين.23
وقد أصبحت هذه المصنفات منذ النصف الثاني من القرن 5هـ /11 م متداولة بين
القراء في حلقات الدرس بتلمسان وبجاية وقلعة بني حماد حيث كان الصوفي عبد
السلام التونسي ت 486 هـ /1093 م يدرس برابطته بتلمسان رعاية المحاسبي 24
ويدعو في أوائل القرن السادس 12م إلى قراءة أحياء علوم الدين وقد افلح في
تحسيس الوسط الفكري في تلمسان بأهمية الأحياء وقيمة أفكاره الصوفية وبهذه
الطريقة شرع التلمسانيون في نسخ الأحياء وحفظه.25
وبقلعة بن حماد انتصب الصوفي أبو الفضل ابن النحوي 513 هـ /1119م مدرسا
للإحياء واستنسخه في ثلاثين جزءا فإذا دخل شهر رمضان قرا كل يوم جزءا 26
ولشدة تمسكه بالإحياء نقل عنه قوله : (وددت أني لم أنظر في عمري سواه) 27
واستطاع أن يؤلف من حوله كوكبة من القلعيين ينهجون أفكاره الغزالية 28
وكذلك في بجاية التي حل بها أبو مدين شعيب ت 594 هـ /1189 م منذ 559 هـ
/1163 م ومكث بها خمسة عشرة عاما جعل من الكتاب إحياء علوم الدين افضل كتب
التذكير لديه وأكثرها قراءة في مجلس تذكيره كما درس الرسالة القشيرية واطلع
الطلبة على رعاية المحاسبي.29
أما معاصره أبا علي الحسن بن علي المسيلي توفي أواخر القرن 6 هـ /12 م فقد
نسج على منوال الأحياء كتاب (التفكر فيما تشتمل عليه السور والآيات من
المبادئ والغايات) 30 أحاط فيه بالفقه والتصوف حتى لقب بأبي حامد الصغير
وأضحى الكتاب متداولا بين البجائيين وغطى بشهرته شهرة الإحياء آن ذاك.31
وفي أواخر القرن 5 هـ /11 م وأوائل القرن 6 هـ /12 م هاجر من تلمسان وجزائر
بني مزغنة كوكبة من الأطر الزهدية إلى الأندلس للتمدرس عن كبار صوفيتها إذ
قصد كل من المحدث يوسف بن علي بن جعفر التلمساني والفقيه حجاج بن يوسف
الجزائري إشبيلية. واخذوا به الإحياء عن القاضي أبي بكر بن العربي ت 543 هـ
/1148 م 32 بينما قصد كل من الفقيه أبي الحسن بن أبي القنون ت 557 هـ /1162
م والزاهد أبى موسى عيسى بن حماد الأوربي ويعقوب بن حمود التلمساني مرسية.
واخذوا بها عن القاضي أبي علي الصدفي (ت في النصف الأول من القرن 6 هـ) 33
وأخذوا عنه (آداب الصحبة للسلمي) و(رياض المتعلمين) و(حلية الأولياء) لأبي
النعيم الأصفهاني 34 ولما عادوا إلى مواطنهم عملوا على نشرها بين الطلبة
والمريدين.
كما شكلت مصنفات المغرب الأقصى أهمية كبيرة في بلورة أفكار الأدب الصوفي
وصنع مخياله من خلال مؤلفات أبي محمد صالح الماجري ت 631 هـ /1234 م شيخ
رباط أسفي التي دخلت بجاية وقلعة بني حماد مع الصوفي أبي عبد الله محمد بن
أبي القاسم السجلماسي ت في النصف الثاني من القرن 7هـ /13 م 35 وهي كتاب
(بداية الهداية) 36 و(تلقين المريد) 37 وشرح المقصد الأسني في شرح أسمـاء
الله الحسنى لأبي حامد الغزالي وشـرح الرسالـة القشيرية 38 فضلا عن كتاب
(قطب العارفين ومقامات الأبرار والأصفياء الصديقين) لعبد الرحمان بن يوسف
البجائي في النصف الثاني من القرن 6 هـ / 12 م 39 وإسهامات أبي زكريا يحي
بن محجوبة القريشي السطيفي ت 673 هـ /1278 م من خلال كتابه شرح أسماء الله
الحسنى.40
ويكاد دور صوفية المشرق الطارئين على المغرب الأوسط يكون بسيطا في جلب أو
تبسيط مضامين المصنفات الصوفية إذا لم نعثر سوى على حضور الصوفي أبي محمد
عبد الله الشريف الشامي وجهوده في التدريس كتاب الإرشاد لأبي المعالي
ببجاية غضون القرن 7 هـ /13 م 41. في حين شكلت حركة هجرة صوفية الأندلس إلى
المغرب الأوسط على مدار القرنين 6 و7 الهجري /12 و13 الميلاديين عاملا
رئيسيا أدى إلى دخول المصنفات الصوفية ورواجها. فألف عبد الحق الإشبيلي ت
581 هـ /1185 م ببجاية مجموعة من المؤلفات الزهدية أبرزها كتاب (الزهد)
وكتاب (الصلاة والتهجد) وكتاب (أشعار زهدية في أمور الآخرة) فضلا على كتابه
(العاقبة في ذكر الموت) 42 وقد ضلت مؤلفات عبد الحق الإشبيلي خاصة كتابه
العاقبة مصدرا زهديا نهل منه الصوفية واعتمدوه مرجعا في كتاباتهم حيث اعتمد
عليه عبد الرحمان الثعالبي ت 875 هـ /1475 م في تاليف كتابه (العلوم
الفاخرة).43
ولما اضطربت أوضاع الأندلس بفعل نشاط الثوار الطامعين في الحكم وتعاظم نشاط
حركـة الاسترداد المسيحي التي بلغـت أوجها عام 633 هـ /1236 م بشرق
الأندلس. 44 تقاطر أعلام الأندلس فرارا نحو بجاية وتلمسان وحملواi
معهم مصنفات التصوف فادخل أبو الحسن عبيد الله النفزي الشاطبي 642 هـ /1224
م مختصره على حلية الأولياء لأبي النعيم وعمل على تلقينه للطلبة. وكذلك درس
أبو الحسن علي بن احمد المعروف بابن السراج الإشبيلي ت 675 هـ /1277 م قوت
القلوب لأبي طالب المكي والإرشاد لأبي المعالي وبسط مضامينهما للطلبة 45
فضلا على تلقين أبي العباس احمد بن احمد المالقي ت 660 هـ / 1261 م للطلبة
كتاب الإرشادات والتنبيهات لابن سينا هذا الكتاب الذي يتضمن فلسفة التصوف
الإشرافي اصبح له قراء ببجاية.
ناهيك عن تلقين أبي العباس أحمـد بن عجـلان القيسي ت 675 هـ /1277 م لجمهور
العامة طرق ومناهج الصوفية والصالحين 46 وتدريس أبي عبد الله محمد بن صالح
الكناني الشاطبي ت 699 هـ /1300 م لعدد من المصنفات المشرقية والمغربية مثل
كتاب (فضل قيام الليل) و(فضل تلاوة القران) للإمام بكر الأجري 47 واقتصار
أبي جعفر احمد بن محمد المكتب في القرن 7 هـ على تدريس قوت القلوب 48 وإلى
جانب هذا الدور قاموا بإدخال إنتاجهم الصوفي إلى بجاية وتلمسان ونجحوا في
تشكيل اتجاهات صوفية لم تكن معروفة بالمرة في المغرب الأوسط فبالنسبة
للصوفي محي الدين بن عربي ت 638 هـ / 1240 م الذي يصمم بعض الباحثين إدراج
مؤلفاته ضمن قائمة المصنفات التي أدت دورا بارزا في نشاة اتجاه وحدة الوجود
في المغرب الأوسط من منطلق تأليفه لكتاب (مواقع النجوم) بالمرية قبل دخوله
بجاية 49 ومن زاوية تعليق فقيه بجاية أبو العباس احمد الغبريني عليها في
قوله : (وفيها ما فيها فان قيظ الله من يسامح ويسهل ويتأول الخير سهل
المرام ويسلك فيه سبيل الأفاضل الكرام. وان كان ممن ينظر بحسب الظاهر ولا
يسامح في نظر ناظر فالأمر صعب والمرتقى وعر).50
أما تلمسان فنزل بها الزاهد أبو عبد الله بن عبد الرحمان التجيبي ت 610 هـ
/1214 م منذ عام 574 هـ /1188 م وأثرى الأدب الصوفي بمؤلفات أبرزها كتاب
(الأربعين في الفقر وفضله) وكتاب (الحب لله).
كان يدرسها على الطلبة والمريدين وفي مضمونها دعوات إلى ترغيب النفوس في
ترك الدنيا وحب الله والإقبال على التصوف لما فيه من فضائل ومزايا مستعملا
في تبليغ هذه الأهداف الروحية أسلوب الوعظ والتذكير على طريقة شيخه الزاهد
عبد الحق الإشبيلي ت 581 هـ / 1185 م 51 كما أنتج أبو العيش محمد بن أبي
زيد عبد الرحيم الخزرجي في نفس السياق أشعارا دعى فيها إلى القول بوحدة
الوجود. 52 ووضع في نفس المضمار كتاب (شرح أسماء الله الحسنى) 53 وكذلك دعى
عبد الرحمان الفازازي القرطبي أوائل القرن السابع الهجري في أشعاره الزهدية
إلى ضرورة التشدد إزاء أهل البدع.54
وهناك من الصوفية من اضطرهم طبيعة المناخ الفكري السائد في الأندلس إلى
مغادرتها نحو تلمسان ومن هؤلاء أبو إسحاق بن دهاق المعروف بابن المرأة ت
610 هـ / 1214 م مؤلف كتاب (شرح أسماء الله الحسنى) وشرح كتاب (محاسن
المجالس) لأبي العباس بن العريف ت 536 هـ /1141 م. 55 وصاحب الصوفي أبو عبد
الله الشوذي الحلوي ت أوائل القرن 7 هـ /13 م وكلاهما على الطريقة الشوذية
في الوحدة المطلقة. 56 بالإضافة إلى أبي علي بن أحمد الحرالي ت 638 هـ
/1239 م الذي دخل بجاية ومكث فيها زمنا غير معلوم 57 وألف خلالها عدة
مصنفات (شمس مطالع القلوب وبدر طوالع الغيوب) وكتاب (صلاح العمل لانتظار
الأجل) 58 وأذكار لحزبه كان يتلوه عقب صلاة الصبح وأشعار صوفية تجلي اتجاهه
على طريقة السهروردي الإشرافية 59 وكذلك أدى وجود الصوفيين أبو محمد عبد
الحق المعروف بابن سبعين ت 669 هـ / 1270 م وتلميذه أبو الحسن علي الششتري
ت 668 هـ /1269 م في بجاية منذ سنة 624 هـ /1227 م إلى انتشار مؤلفاتهما
وتواشيحهما وأشعارهما في الوحدة المطلقة بين نخبة من طلبة بجاية. 60 ومن
أشهر مؤلفات ابن السبعين (بدء العارف) و(عقيدة المحقق المقرب الكاشف وطريق
السالك المتبتل العاكف) وكتاب (لمحة الحروف) وكتاب (كنز المغرمين في الحروف
والأوقاف) ورسائل عبارة عن نصائح صوفية، أما الششتري فقد ألف (المقاليد
الوجودية والرسائل القدسية في توحيد العامة والخاصة) و(المراتب الأسمائية)
و(ديوان شعر).61
وبعد هذا العرض لمصادر الأدب الصوفي بالمغرب الأوسط خلال القرنين السادس
والسابع الهجريين /12 و13 الميلاديين يتضح أن كل محاولة لفهم نصوص الأدب
الصوفي المنظوم والنثري بدون العودة إلى هذه المصادر هي محاولة يائسة لا
يمكنها أن تؤدي إلى الوقوف على خصوصيات أدب التصوف بالمغرب الأوسط في العصر
الوسيط. بل أن كل الأدب الصوفي الذي أنجز بعد نهاية القرن السابع الهجري
/13 م حتى نهاية القرن التاسع الهجري /15 م استقى كل خصائصه وأفكاره من هذه
المرحلة المتطورة من عمر أدب التصوف بالمغرب الأوسط.
أنواع الأدب الصوفي :
الرسائل الحجازية والأمداح النبوية وتعتبر من ذيول السيرة النبوية وهي
البذور الأولى للشعر الديني كما أنها وثيقة الصلة بالزهد والتصوف بل أن بعض
الباحثين اعتبروها من فنون الشعر التي أذاعها التصوف.
وكذلك الأحزاب والحكم والأوراد والحكاية الكرامية وشعر التوسلات
والابتهالات والرسائل الإخوانية وشعر الزهد وشعر التصوف السني وشعر التصوف
الفلسفي الذي تلون كثيرا بالفلسفة وحافظ على صورته الجمالية فضلا على أن
القائلين به لم ينظموه على سبيل الصناعة الشعرية وإنما على سبيل الممارسة
والاطلاع والشهود.
الهوامش:
1- حول مفهوم واسع للأدب الصوفي انظر، نور الهدى الشريف
الكتاني : الأدب الصوفي في المغرب والأندلس في عصر الموحدين، أطروحة
دكتوراه، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، شعبة اللغة
العربية وآدابها 2000/2001، ص 19 وما بعدها.
2- حول هذا الموضوع انظر، بونابي الطاهر: الحركة الصوفية في
المغرب الأوسط خلال القرنين السادس والسابع الهجريين / 12 و13 الميلاديين،
رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم التاريخ
1999-2000، ص 20 وما بعدها.
3- أبو عبيد الله البكري : المغرب في ذكر بلاد إفريقية، نشر
مكتبة المثنى، بغداد، د.ت، ص68 ؛ أبو زيد عبد الرحمان الدباغ : معالم
الإيمان في معرفة آهل القيروان، ج2، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور ومحمد
منصور، مكتبة الخانجي، القاهرة 1972، ص 281 ؛ محمد بن محمد بن مخلوف : شجرة
النور الزكية في طبقات المالكية، ط 1، دار الكتاب العربي، لبنان 1349 هـ، ص
72
4- ابن مخلوف : المصدر نفسه، ص 72
5- سليمان بن عبد الله الباروني : الأزهار الرياضة في أئمة
وملوك الإباضية، القسم الأول مطبعة الأزهار البارونية، د.ت، ص 72
6- الدباغ : معالم الإيمان، ج 2، ص 283 ومابعدها ؛ الباروني
: المصدر السابق، ص 72
7- أبو القاسم خلف بن بشكوال : كتاب الصلة، القسم الأول
الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966، ص 84
8- عبد الرحمان الثعالبي : كتاب الجامع، مخطوط زاوية طولقة،
ورقة 59 ؛ أبو القاسم الحفناوي : تعريف الخلف برجال السلف، ج2، المؤسسة
الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر 1991، ص 429 - 430.
9- الهادي روجي إدريس : الدولة الصنهاجية، ج2، ترجمة حمادي
الساحلي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1992، ص 337
10- أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي : ترتيب المدارك وتقريب
المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك تحقيق احمد بكير محمود، ج2، منشورات دار
الحياة ودار مكتبة الفكر بيروت 1967، ص 337 ؛ الهادي روجي إدريس : المرجع
السابق، ج2، ص 336.
11- أبو عبد الله بن محمد المالكي : رياض النفوس في طبقات
علماء القيروان وإفريقية وزهادهم ونساكهم وسير من اخبارهم وفضائلهم، ج2،
تحقيق البشير البكوش، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1401 هـ /1981 م، ص 182
وما بعدها.
12- عياض : المدارك، ج4، ص 628.
13- المالكي : المصدر السابق، ج2، ص 182 وما بعدها.
14- عياض : المدارك، ج4، ص 690 ؛ ابن صعد الأندلسي : روضة
النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، مخطوط المكتبة الوطنية
الجزائر، رقم 2596، ورقة 342.
15- عياض : المدارك، ج4، ص 533.
16- من اشهر مناظراته تلك التي تبارى فيها مع الفقيه ابن
الشقاق عياض : نفسه، ج4، ص ص 445 - 446.
17- نفسه، ج4، ص 710 ؛ برهان الدين بن فرحون : الديباج
المذهب في معرفة أعيان المذهب، مطبعة السعادة، مصر 1329 هـ /1913، ص 345.
18- عياض : المدارك، ج3، ص 354 - 355.
19- عن نشاط صوفية المغربيين الأدنى والأقصى في المغرب
الأوسط انظر. ابن الزيات التادلي : التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي
العباس السبتي تحقيق أدولف فور مطبوعات إفريقيا الشمالية، 1958 ص 78 - 79.
20- حول نشاط الصوفية الأندلسيين في بجاية وتلمسان، انظر،
أبو العباس احمد الغبريني : عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء من المائة
السابعة ببجاية، تحقيق رابح بونار، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر
1981، ص 145 وما بعدها ؛ وكذلك انظر، أبو زكريا يحيى بن خلدون : بغية
الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد، ج1، تقديم وتحقيق عبد الحميد
حاجيات، المكتبة الوطنية، الجزائر 1981، ص 109 وما بعدها.
21- الرعاية : تحقيق عبد القادر احمد عطا، ط2، القاهرة
1970، ص 52 - 105 ؛ عبد الرحمان بن خلدون : شفاء السائل لتهذيب المسائل،
نشر الأب أغناطيوس عبده، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، د.ت، ص 34 - 43.
22- ابن خلدون : نفسه، ص 34 وما بعدها.
23- أبو حامد الغزالي : إحياء علوم الدين، ج3، ط1، دار
الكتب العلمية، بيروت 1986، ص 82 - 83.
24- ابن الزيات : التشوف، ص 92 - 93.
25- نفسه، ص 158.
26- نفسه، ص 73.
27- احمد بن محمد ابن القاضي : جذوة الاقتباس فيمن حل من
الأعلام بمدينة فاس، طبعة حجرية 1891، ص 346.
28- حول طلبة ابن النحوي انظر، محمد بن عبد الملك بن الأبار
: التكملة لكتاب الصلة، ج2، عزت العطار، مطبعة السعادة، مصر 1953، ص 676 -
677.
29- ابن الزيات : التشوف، ص 58 وما بعدها.
30- احمد بابا التمبكتي : نيل الابتهاج بتطريز الديباج،
مطبعة السعادة، مصر 1329 هـ، ص 104.
31- الغبريني : المصدر السابق، ص 67.
32- يحي ابن خلدون : المصدر السابق، ج1، ص 114.
33- الغبريني : المصدر السابق، ص 215 ؛ يحيى ابن خلدون :
المصدر السابق، ج1، ص 100 - 101.
34- احمد بن محمد المقري : نفح الطيب من غصن الأندلس
الرطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1988، ص 91 - 92 ؛ اشتهر أبو
علي الصدفي بتدريسه لهذه المصنفات للطلبة خاصة كتاب آداب الصحبة ببطحاء
بلنسية سنة 495 هـ، 1101م. عمر بن حمادي : الفقهاء في عصر المرابطين، شهادة
التعمق في البحث كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ص 427.
35- الغبريني : المصدر السابق، ص 132.
36- ابن القنفذ القسنطيني : أنس الفقير وعز الحقير، نشر
أودولف فور ومحمد الفاسي، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط
1956، ص 63.
37- حسب الباديسي، فإن أبا محمد صالح ألف كتاب تلقين المريد
نقلا عن كتب صوفية. المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف،
تحقيق سعيد أعراب، ط2، المطبعة الملكية ،1993، ص 102.
38- ابن القنفذ : المصدر السابق، ص 63.
39- عادل نويهض : معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى
العصر الحاضر، مؤسسة نويهض الثقافية للتاليف والترجمة، ط2، بيروت 1980، ص
36.
40- الغبريني : المصدر السابق، ص 120.
41- عنوان الدراية، ص 177.
42- ابن مخلوف : شجرة النور الزكية، ص 156.
43- العلوم الفاخرة في نظر أمور الآخرة، ج1، تحقيق محمد بن
مصطفى بن خوجة، طبع احمد بن مراد التركي، د.ت، ص 6 - 7.
44- ابن خلدون : العبر، ج6، ص 359.
45- الغبريني :عنوان الدراية، ص 176 وما بعدها.
46- نفسه، ص 116 وما بعدها.
47- أبو عبد الله محمد العبدري : الرحلة، تحقيق محمد الفاسي،
الرباط 1968، ص 28.
48- الغبريني : عنوان الدراية، ص 321.
49- المقري : نفح الطيب، ج2، ص ،176.
50- عنوان الدراية، ص 158 - 159.
51- ابن الأبار : المصدر السابق، ج2 /579 ؛ ابن مخلوف :
شجرة النور الزكية، ص 173
52- يحيى ابن خلدون : بغية الرواد، ج1، ص 103 - 104.
53- عبد الله محمد بن مرزوق الخطيب : المجموع ،نسخة مصورة
عن مخطوط الخزانة العامة، الرباط، رقم 20، ورقة 13.
54- التنبكتي : نيل الابتهاج، ص 163.
55- يحيى بن خلدون : المصدر السابق، ج1، ص 128.
56- ابن مخلوف : المصدر السابق، ص 173.
57- العبدري : المصدر السابق، ص 136 - 137.
58- حاجي خليفة : كشف الظنون، ج2، ص 1061 وما بعدها.
59- الغبريني : المصدر السابق، ص 157.
60- نفسه، ص 148.
61- المقري : نفح الطيب، ج2، ص 185 وما بعدها.
أضيفت في
10/06/2006/ خاص القصة السورية / من مصادر مختلفة / أنظر (شخصيات
صوفية)
مسألة
السماع بين الصوفية والفقهاء
بقلم الكاتب:
سعيد جاب الخير
مقدمة عامة
للبحث
:
لا شك أن
التصوف بوجه عام والطرق الصوفية بشكل خاص،كان لها تأثير كبير على الثقافة
والفنون في الجزائر والمنطقة المغاربية عمومًا. وقد توسّلت المرجعيات
الصوفية من الزهاد والعارفين وشيوخ الطرق، منذ وقت مبكر بالفنون والثقافة
الشعبية لتقوم بوظيفتها في نشر و تجذير خطابها الديني والروحي والاجتماعي
وحتى السياسي أحيانًا في الطبقات السفلى من المجتمع (البسطاء والفقراء)
التي شكّلت الخزّان الذي لا ينضب والمحرّك الأقوى لدواليب الحركة الصوفية
من خلال تركيز شيوخ الطرق عليها والتصاقهم بها في اليومي المعيش وحتّى في
الشعار الذي اختاروه لأنفسهم وتسموا به (الفقراء). وقد اتخذ الجانب الفني
منذ وقت مبكر دورا محوريا في العملية التربوية عند الصوفية وذلك من خلال
الإنشاد الفردي والجماعي للأذكار والأوراد بالألحان والطبوع الموسيقية، ما
أدى إلى تطوير الجانب الفني عند المسلمين وخاصة في مجال الغناء والإنشاد
الذي بلغ قمته مع الطريقة المولوية التي تعتبر من الطرق الصوفية التي فصلت
في موضوع الغاية والوسيلة في مجال الغناء بشكل واضح بحيث أدركت أن الآلة
الموسيقية ما هي في النهاية إلا وسيلة وبالتالي فإن الحكم الشرعي يقع على
الغاية لا الوسيلة، وسنرى ذلك بالتفصيل فيما بعد. وكما ساهمت الطريقة
المولوية بشكل كبير في تطوير الفنون الموسيقية والغنائية في المشرق (بما
يشمل تركية وإيران والجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقا و...)
ساهمت الطرق الصوفية في الجزائر والمنطقة المغاربية عموما في تطوير تلك
الفنون. وتأتي الطريقة العيساوية في الجزائر على رأس القائمة في هذا المجال.
1ـ
تعريف التصوف
:
-يعرف
أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، التصوف في كتابه (التعرف لمذهب أهل
التصوف) بقوله : " إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها"..
وينقل أيضا عن بشر بن الحارث الحافي قوله : " الصوفي من صفا قلبه لله"..(1)
ولعل أشهر ما يتميز به الصوفية من الصفات، هو تسامحهم وسماحتهم، فقد سأل
رجل لسهل بن عبد الله التستري :
"
من أصحب من
طوائف الناس ؟ فقال : عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكثرون ولا يستنكرون شيئا،
ولكل فعل عندهم تأويل، فهم يعذرونك على كل حال" (2
)
ويعرف
القاضي تاج الدين السبكي الشافعي، الصوفية بقوله
:
(إنهم
أهل الله وخاصته، الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي
الله عنهم وعنا بهم. وللقوم أوصاف وأخبار اشتملت عليها كتبهم. قال الأستاذ
أبو القاسم القشيري رحمه الله : جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم
على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه. جعل الله
قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث
للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق. ومن أوصاف هذه الطائفة :
الرأفة، والرحمة، والعفو، والصفح، وعدم المؤاخذة.) (03)
ومن هذه
النصوص تظهر أهم المفردات التعريفية للتصوف فيما نرى وهي
:
صفاء القلب
والسريرة (صفاء النية) والتسامح والانفتاح على الآخر وقبوله كما هو، لا كما
نريده نحن أن يكون..
2ـ تعريف
السماع وحكمه عند الصوفية
إذا كان
الصوفية قد عرفوا منذ الزمن القديم بانفتاحهم الديني والفكري و ابتعادهم عن
التزمت الفقهي فإن ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى عشقهم للحرية وحسهم الفني
والجمالي المرهف،وفي باب الحرية ينقل القشيري في رسالته أن (الحرية أن لا
يكون العبد تحت رق المخلوقات،ولا يجري عليه سلطان المكونات) (4) وفي هذا
السياق كان الصوفية دوما يستشعرون الحرية في العديد من المائل التي يفتي
فيها من يطلقون على أنفسهم (فقهاء الرسوم) أو الفقهاء الرسميون، ومن ذلك
مسألة السماع أو الموسيقى ...حتى و عن كانت للصوفية أصولهم الدينية في هذا
الموضع،فالقشيري في رسالته يستدل بقوله تعال ( فبشر عبادي الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه) و يقول "إن اللّام في قوله تعالى ( القول) تقتضي
التعميم والاستغراق، والدليل عليه أنه مدحهم باتباع الأحسن، وقال تعالى (
فهم في روضة يحبرون) وجاء في التفسير أنه السماع،واعلم أن سماع الأشعار
بالألحان الطيبة و الأنغام المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورًا...مباحٌ
في الجملة.ولا خلاف أن الأشعار أنشدت بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلّم ـ و انّه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز استماعها بغير
الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن تسمع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر" (5)
هذا كلام
صوفي ولكنه أيضا قبل ذلك فقيه شافعي كبير،جامع بين الشريعة الفقهية و
الحقيقة الصوفية من أعيان القرن الخامس (ت 465هـ).
ويعرّف
الجنيد السماع على أنه " وارد حق يزعج القلوب إلى الحق،فمن أصغى إليه بحق
تحقق ومن أصغى إليه بنفس تزندق" (6) ، ويرى الشبلي أن " السماع ظاهره
فتنة وباطنه عبرة،فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة،و إلّا فقد استدعى
الفتنة وتعرّض للبليّة" (7) ، أمّا الكُلّاباذي من أعيان القرن الرابع
فيقول " السماع استجمام من تعب الوقت،وتنفّس لأرباب الأحوال ، واستحار
الأسرار لذوي الأشغال.و إنما اختير على غيره ممّا تستروح إليه الطباع لبعد
النفوس عن التشبث به والسكون إليه،فإنه من القضاء يبدو وإلى القضاء
يعود...فالسماع إذا قرع الأسماع أثار كوامن أسرارها،فمن بين مضطرب لعجز
الصفة عن حمل الوارد،ومن بين متمكّن بقوّة الحال" (8).
وينقل
الكلّاباذي عن أبي القاسم البغدادي قوله " السماع على ضربين، فطائفة سمعت
الكلام فاستخرجت منه عبرة،و هذا لا يسمع إلا بالتمييز وحضور القلب،وطائفة
سمعت النغمة و هو قوت الروح،فإذا ظفر الروح بقوته أشرف على مقامه و أعرض عن
تدبير الجسم،فظهر عند ذلك من المستمع الاضطراب والحركة" (9) ، وفي هذا
إشارة واضحة إلى أن التواجد والحركة التي تصاحب الصوفية عند السماع هي
كلّها أمور لا يملكونها، بل لعلّها فوق إرادتهم عندما يكونون في حالة تركيز
حسّي وروحي مع السماع.
وينقل
الكلّاباذي عن أبي عبد الله النباجي قوله " السماع ما أثار فكرة واكتسب
عبرة،و ما سواه فتنة" (10) وفي هذا إشارة واضحة إلى التزام المضمون أو
المحتوى في السماع الصوفي،وهذا فيما نرى تأسيس نظري لما يعرف اليوم بالغناء
الملتزم،وينقل الكلّاباذي أخيرا عن الجنيد قوله " الرحمة تنزل على الفقير ـ
أي الصوفي ـ في ثلاثة مواضع: عند الأكل فإنه لا ياكل إلا عند الحاجة،وعند
الكلام فإن لا يتكلم إلا للضرورة،وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد"
(11) وهذه الرؤية الجينيدية للسماع تجعل منه حالة تزّل للرحمة الإلهية
وبالتالي حالة إلهية صرف، أي انه من الله تعالى، وهذا أقصى ما يمكن ان يقال
فيه.
2
– 1 -
رأي السراج الطوسي في السماع:
ويحتج أبو
نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي في كتابه (اللمع) على إباحة السماع
وربما سنيته واستحبابه أيضا بقول الرسول (ص):
(ما
أذن الله تعالى لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت) (12)
الحديث
صحيح، أخرجه البخاري في كتاب التوحيد برقم : 7544، ومسلم برقم : 792 في
كتاب صلاة المسافرين، من حديث أبي هريرة.
وقوله (ص) :
(لقد أعطي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود) لما أعطي من حسن الصوت. (13)
والحديث
صحيح، أخرجه البخاري برقم : 5048 في كتاب فضائل القرآن، ومسلم برقم : 793
في كتاب صلاة المسافرين، من حديث أبي موسى الأشعري.
وحديث عبد
الله بن مغفل المزني وأنس بن مالك (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوم
الفتح فمد مدا، وكأنه كان يرجع) (14)
حديث صحيح،
أخرجه البخاري برقم : 4835 في كتاب التفسير، ومسلم برقم : 794 في كتاب صلاة
المسافرين.
وقوله (ص) :
(زينوا القرآن بأصواتكم) (15)
حديث صحيح،
أخرجه البخاري تعليقا في كتاب التوحيد، ووصله أبوداود برقم : 1468 في كتاب
الصلاة، والنسائي برقم : 1016 في كتاب الافتتاح، وابن ماجه برقم : 1342 في
كتاب إقامة الصلاة، من حديث البراء بن عازب. وصححه الألباني، صحيح الجامع
برقم : 3580 .
قال الطوسي
: (وقد ذم الله تعالى الأصوات المنكرة بقوله عز وجل : إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير – لقمان 19 – وفي ذمه الأصوات المنكرة محمدة للأصوات الطيبة.
وقد تكلم الحكماء في معنى الأصوات الحسنة، والنغمات الطيبة، وأكثروا في
ذلك، فقال ذو النون رحمه الله وقد سئل عن الصوت الحسن :
مخاطبات
وإشارات إلى الحق أودعها كل طيب وطيبة.
وعن يحيى بن
معاذ الرازي رحمه الله أنه قال
:
الصوت الحسن
روحة من الله تعالى، لقلب فيه حب الله تعالى.
ومن اللطيفة
التي جعل الله في الأصوات الطيبة : أن الطفل في المهد يبكي لوجود ألم،
فيسمع الصوت الطيب فيسكت وينام. ومشهور : أن الأوائل كانوا يعالجون من به
العلة من السوداء بالصوت الطيب، فيرجع إلى حال صحته. ومن السر الذي جعل
الله في الأصوات الطيبة التي فيها إنداء، ترى في البوادي إذا عييت الجمال،
وقصرت عن السير، يحدو لها الحادي فتستمع وتمد أعناقها وتصغى بآذانها نحو
الحادي، وتجود في السير حتى تتزعزع محاملها من شدة سيرها، وربما تتلف
أنفسها إذا انقطع عنها حدو الحادي من ثقل حملها وسرعة سيرها بعدما كانت لا
تحس بذلك من إصغائها إلى حدو حاديها واستماعها إلى حسن نغمته وطيب صوت
حاديها). (16)
وينقل
الطوسي عن بندار بن الحسين قوله : (كل من لم يحب السماع الطيب من الآدميين
فلنقص في حاسته، لأن كل تمتع يتمتع به الإنسان فيه تكلف وإن كان من
المباحات إلا السماع، فإنه إذا خلص من المقاصد الفاسدة إباحة لا تحتاج إلى
التكلف. وكل من سمع السماع من طريق الطيبة والتلذذ بالنغمة واستحسان الصوت،
فليس ذلك محرما عليهم ولا محظورا، إن لم يكن قصدهم في ذلك الفساد والمخالفة
واللهو وترك الحدود). (17)
قال الطوسي
: (ومما يستدل بذلك على إباحة السماع قوله تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون
– الذاريات 21 – وقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم – فصلت
53 – ، وما أرانا الله في أنفسنا، وأبصرنا ذلك في الحواس الخمس التي قد
يميز بها بين الشيء وضده، كالعين تميز بالنظر بين الحسن والقبيح، والأنف
يميز بين الرائحة الطيبة والمنتنة، والفم يميز بالذوق بين الحلاوة
والمرارة، واليد تميز باللمس بين اللين والخشن، وكذلك الأذن تميز بين
الأصوات الطيبة وغير الطيبة والمنكرة. قال الله تعالى : إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير – لقمان 19 – ففي مذمته للأصوات المنكرة محمدة للأصوات الحسنة،
ولا يميز بينهما إلا بالسماع وهو الإصغاء والاستماع بحضور القلب، وإدراك
الفهم، وإزالة الوهم). (18)
ويستدل
الطوسي على إباحة السماع بحديث النبي (ص) أنه دخل بيت عائشة رضي الله عنها
فوجد فيه جاريتين تغنيان وتضربان بالدف، فلم ينههما عن ذلك، وقال لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه، حين غضب وقال : أمزمار الشيطان في بيت رسول الله (ص)
؟ فقال :
دعهما يا
عمر، فإن لكل قوم عيدا). (19)
الحديث
صحيح، أخرجه البخاري برقم : 952 في كتاب الجمعة، ومسلم برقم : 892 في كتاب
صلاة العيدين، من حديث عائشة ولكن المذكور في الحديث أبو بكر وليس عمر.
قال الطوسي
: (ولو كان الغناء محظورا لكان سواء في العيد وغير العيد، والأخبار في مثل
ذلك تكثر.) (20)
ويستدل
الطوسي أيضا بحديث النبي (ص) أنه قال : (إن من الشعر لحكمة(
الحديث
صحيح، أخرجه البخاري برقم : 6145 في كتاب الأدب، من حديث أبي بن كعب.
قال الطوسي
: (ولما صح جواز الإنشاد للشعر، فسواء كان إنشاده بالنغمة الطيبة والصوت
الحسن، أو يكون إنشاده بالحدو، والحدر، والنصب، والرمل، والرجز، إذا لم يكن
لذلك مقاصد فاسدة، وإرادة باطلة، ومجاوزة الحد ومخالفة ومعاندة... وقد رخص
في السماع واستجازه جماعة من أئمة العلماء والفقهاء، منهم مالك بن أنس. فقد
ذكر عنه أنه سمع رجلا في وقت الهاجرة مجتازا بباب داره وهو يغني ويقول
:
ما بال قومك
يا رباب/ خزرا كأنهم غضاب ؟
فقال له
مالك : لقد أسأت التأدية ومنعت القائلة..
والمشهور
عنه وعن أهل المدينة أنهم كانوا لا يكرهون ذلك. وفي تجويز ذلك أخبرا عن عبد
الله بن جعفر رضي الله عنه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وعن غيرهما
من الصحابة والتابعين.
وقد أجاز
الشافعي، رحمة الله عليه، أيضا السماع والترنم بالشعر ما لم يكن فيه إسقاط
المروءة.
وقد ذكر عن
ابن جريج أيضا أنه كان يرخص في السماع، فقيل له : إذا أتي بك يوم القيامة،
وتؤتى بحسناتك وسيئاتك، ففي أي الجنبتين يكون سماعك ؟
قال ابن
جريج : لا يكون في الحسنات ولا في السيئات، لأنه شبيه باللغو لا يدخل في
الحسنات ولا في السيئات، قال الله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم) البقرة :
225. (21)
كما استدل
الصوفية على إباحة السماع وربما سنيته أيضا بحديث أنس رضي الله عنه أن رسول
الله (ص) كان ينقل اللبن (بكسر الباء) مع القوم في بناء المسجد وهم يرتجزون
ويقولون : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة.
الحديث
صحيح، رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب الجهاد. (22)
واستدلوا
بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي (ص) إلى خيبر،
فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟
وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول
:
اللهم لولا
أنت ما اهتدينا/ ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء
لك ما اقتضينا/ وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين
سكينة علينا/ إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح
عولوا علينا
فقال رسول
الله (ص) : من هذا السائق ؟ قالوا : عامر بن الأكوع. قال : يرحمه الله.
فقال رجل من القوم : وجبت يا رسول الله، لولا أمتعتنا به... الحديث رواه
البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب الجهاد. (23)
واستدلوا
بحديث سعيد بن المسيب قال : مر عمر في المسجد حسان ينشد ، فلحظه عمر (أي
نظر إليه نظرة إنكار) فقال : كنت أنشد وفيه من هو خير منك (يريد رسول الله
صلى الله عليه وسلم) ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك بالله أسمعت رسول
الله (ص) يقول : أجب عني، اللهم أيده بروح القدس ؟ قال : نعم.
حديث صحيح،
رواه البخاري في كتاب الصلاة ومسلم في باب فضائل حسان بن ثابت.
واستدلوا
بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) كان يضع لحسان منبرا في المسجد
يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله (ص). ويقول الرسول (ص) : إن الله يؤيد
حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله (ص).
حديث صحيح،
رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة.
وذكر الإمام
الشاطبي في كتابه (الاعتصام) أن أبا الحسن القرافي الصوفي يروي عن الحسن
البصري أنه قال : (إن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : يا
أمير المؤمنين، إن لنا إماما إذافرغ من صلاته تغنى. فقال عمر رضي الله عنه
: من هو ؟ فذكر الرجل. فقال : قوموا بنا إليه، فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا
تجسسنا عليه أمره. قال : فقام عمر رضي الله عنه مع جماعة من أصحاب النبي
(ص) حتى أتوا الرجل وهو في المسجد. فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال
: يا أمير المؤمنين ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق
بذلك منك أن نأتيك، وإن كانت الحاجة لله فأحق من عظمناه خليفة رسول الله
(ص). فقال له عمر : ويحك بلغني عنك أمر ساءني. قال : وما هو يا أمير
المؤمنين ؟ قال : أتتمجن في عبادتك ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين، لكنها عظة
أعظ بها نفسي. قال عمر : قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك، وإن كان قبيحا
نهيتك عنه. فقال
:
وفؤادي كلما
عاتبته/ في مدى الهجران يبغي تعبي
لا أراه
الدهر إلا لاهيا/ في تماديه فقد برح بي
يا قرين
السوء ما هذا الصبا/ فني العمر كذا في اللعب
وشباب بان
عني فمضى/ قبل أن أقضي مني أربي
ما أرجي
بعده إلا الفنا/ ضيق الشيب علي مطلبي
ويح نفسي لا
أراها أبدا/ في جميل لا ولا في أدب
نفس لا كنت
ولا كان الهوى/ راقبي المولى وخافي وارهبي.
فقال عمر
رضي الله عنه
:
نفس لا كنت
ولا كان الهوى/ راقبي الموللى وخافي وارهبي.
ثم قال عمر
رضي الله عنه : على هذا فليغن من غنى.) (24)
ويقول
الإمام النووي :(لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان مدحا للنبوة أو
الإسلام، أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق، أو الزهد ونحو ذلك من أنواع
الخير). (25)
ويقول
القاضي أبو بكر بن العربي المالكي :(لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان
في مدح الدين وإقامة الشرع). (26)
واستدلوا
بحديث أنس رضي الله عنه أن النبي (ص) كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال
له أنجشة. فقال النبي (ص) : رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير. قال أبو قلابة
: يعني ضعفة النساء.
الحديث
صحيح، رواه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب فضائل الصحابة.
قال الفقهاء
: ويلتحق بالحداء هنا الحداء للحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر
الكعبة وغيرها من المشاهد، ونظيره ما يحرض أهل الجهاد على القتال. (27)
2 – 2 -
رأي شهاب
الدين عمر بن محمد السهروردي الشافعي المتوفى سنة 632 هـ
:
يقول
السهروردي في كتابه (عوارف المعارف)
:
(ما
كان من القصائد في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار ووصف نعم
الملك الجبار، وذكر العبادات والترغيب في الخيرات فلا سبيل إلى إنكاره.
ومن ذلك القبيل قصائد الغزاة والحجاج في وصف الغزو والحج، مما يثير كامن
العزم من الغازي وساكن الشوق من الحاج... وقد قيل إن بعض الواجدين يقتات
بالسماع ويتقوى به على الطي والوصال، ويثير عنده من الشوق ما يذهب عنه لهب
الجوع. فإذا استمع العبد إلى بيت من الشعر وقلبه حاضر فيه، كأن يسمع الحادي
يقول مثلا :
أتوب إليك
يا رحمن إني / أسأت وقد تضاعفت الذنوب
فأما من هوى
ليلى وحبي / زيارتها فإني لا أتوب
فطاب قلبه
لما يجده من قوة عزمه على الثبات في أمر الحق إلى الممات، يكون في سماعه
هذا ذكر لله تعالى... وسئل رويم عن وجد الصوفية عند السماع فقال : ينتبهون
للمعاني التي تعزب عن غيرهم فيشير إليهم : إلي إلي، فيتنعمون بذلك من
الفرح، ويقع الحجاب لوقت فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يمزق ثيابه، ومنهم
من يبكي، ومنهم من يصيح.) (28)
وينقل
السهروردي عن الشيخ أبي طالب المكي الذي يعترف له بالعلم الوافر بالسن
والآثار مع اجتهاده وتحريه الصواب، قوله
:
(إن
أنكرنا السماع مجملا مطلقا غير مقيد مفصل، يكون إنكارا على سبعين صديقا.
وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء والمتعبدين، إلا أنا لا نفعل
ذلك لأنا نعلم ما لا يعلمون، وسمعنا عن السلف من الأصحاب والتابعين ما لا
يسمعون.) (29)
ويشرح
السهروردي سبب استلذاذ الإنسان عموما والصوفي على وجه الخصوص للنغمات
والألحان كما يلي
:
(..
ويكون الوجد
تارة من فهم المعاني يظهر، وتارة من مجرد النغمات والألحان.. ووجه استلذاذ
الروح النغمات : أن العالم الروحاني مجمع الحسن والجمال، ووجود التناسب في
الأكوان مستحسن قولا وفعلا، ووجود التناسب في الهياكل والصور ميراث
الروحانية، فمتى سمع الروح النغمات اللذيذة والأحان المتناسبة، تأثر به
لوجود الجنسية، ثم يتقيد ذلك بالشرع بمصالح عالم الحكمة، ورعاية الحدود
للعبد عين المصلحة عاجلا وآجلا. ووجه آخر : إنما يستلذ الروح النغمات لأن
النغمات بها نطق النفس مع الروح بالإيمان الخفي إشارة ورمزا بين المتعاشقين،
وبين النفوس والأرواح تعاشق أصلي ينزع إلى أنوثة النفس وذكورة الروح،
والميل والتعاشق بين الذكر والأنثى بالطبيعة واقع، قال الله تعالى : وجعل
منها زوجها ليسكن إليها – الأعراف 189 – وفي قوله سبحانه : منها ، إشعار
بتلازم وتلاصق موجب للائتلاف والتعاشق. والنغمات يستلذها الروح لأنها
مناغاة بين المتعاشقين، وكما أن في عالم الحكمة كونت حواء من آدم، ففي عالم
القدرة كونت النفس من الروح الروحاني، فهذا التآلف من هذا الأصل : وذلك أن
النفس روح حيواني تجنس بالقرب من الروح الروحاني، وتجنسها بأن امتازت من
أرواح جنس الحيوان بشرف القرب من الروح الروحاني فصارت نفسا، فإذا تكون
النفس من الروح الروحاني في عالم القدرة كتكون حواء من آدم في عالم الحكمة.
فهذا التآلف والتعاشق ونسبة الأنوثة والذكورة من هاهنا ظهر، وبهذا الطريق
استطابت الروح النغمات، لأنها مراسلات بين المتعاشقين ومكالمة بينهما...
واعلم أن للباكين عند السماع مواجيد مختلفة : فمنهم من يبكي خوفا، ومنهم
من يبكي شوقا، ومنهم من يبكي فرحا.) (30)
وينضم
الجنيد لرأي السهروردي في هذا الجانب حيث ينقل عنه أحمد النقشبندي الخالدي
في كتابه (جامع الأصول في الأولياء) قوله
:
(سبب
اضطراب الإنسان عند السماع، أن الله تعالى لما خاطب الذر في الميثاق الأول
بقوله : ألست بربكم، تشربت الأرواح عذوبة سماع ذلك الكلام وتعلقت كليتها
بسماعه. فإذا جاء السماع، هيجها ذكر ذلك. وقال سهل بن عبد الله : السماع
علم استأثر الله تعالى به، ولا يعلمه إلا هو.) (31)
ويذهب ابن
عجيبة الحسني أبعد من ذلك حيث يعرف السماع بقوله
:
(السماع
هو استماع الأشعار بالنغم والموسيقى) (32)
ونقل
الشعراني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول
:
(مما
يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن.) (33)
و(أنه من
أسرار الله تعالى في الوجود.) (34)
ونقل الوزير
لسان الدين بن الخطيب عن أبي علي الروذباري أنه سئل عن حقيقة السماع فقال :
(المنطق
الذي ظهر الحق به، ونطق به في الأزل.) (35)
ومفهوم هذا
الكلام أن الألحان والموسيقى تدخل ضمن اللغة الإلهية الأزلية.
ويعرف
القشيري السماع في رسائله بقوله
:
(السماع
إدراك الغيوب بسمع القلوب بفهم الفؤاد لحقائق المراد، الوقوف على إشارات
الحق عند وجود عبارات الخلق، الترقي مما يقرع سمع الظاهر إلى ما يوجب جمع
السرائر، إصغاء القلب إلى خطاب الغيب، إشارات ترد على الأسرار عند عبارات
تسمع من الأغبار، انطلاق لسان السرائر إذا سكت لسان الظواهر، جريان لسان
الفؤاد والعبد ساكت بين العباد، مفاوضة الأحباب وسكوت اللسان عن الخطاب.)
(36)
ويقول أبو
طالب المكي : (تعرف مواجيد أصحابنا عند السماع.) (37)
وقد ذكر
الشعراني أيضا صوفية كانوا يستعملون الآلات الموسيقية في السماع، وكتب عن
عمر بن الفارض أنه (كانت له جواري يغنين له، فيقوم ويتواجد، وكان يتعالى في
شرائهن لأجل حسن أصواتهن.) (38)
أما
الفيتوري فيقول : (يجوز ضرب البندير والرقص كذلك إذا كان من تواجد.) (39)
ويقول عماد
الدين الأموي : (لا بأس إذا كان في السماع آلة من دف أو شبابة، ولا بأس
بالرقص في السماع.) (40)
2 – 3 -
آداب
السماع عند الصوفية
:
وقد اهتم
الصوفية بآداب السماع وتحدثوا عنها حيث يقول يحيى الباخرزي :
(من
آداب الصوفية في السماع أن يصلوا قبل الحضور في مجلس السماع، ويسألوا
البركة من الرب عز وجل، وأن يقعدوا فيه بالهيبة والوقار، ويلازموا السكينة
والإخلاص.) (41)
ويقول عبد
السلام الأسمر في وصيته
:
(إخواني
: تأدبوا معها، أي حضرة السماع، وأحسنوها واخشعوا فيها كما تخشعون في
الصلاة، اللهم إلا إذا نزل بكم أمر غالب من وجد أو شوق أو ذوق أو حال أو
جدب.) (42)
أما أبو
حامد الغزالي فقد أطال في هذا الموضوع في كتابه (إحياء علوم الدين) حيث
يعتبر من بين آداب السماع
:
(أن
يكون مصغيا إلى ما يقول القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجواب،
متحرزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد، مشتغلا
بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره، متحفظا
عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم. بل يكون ساكن الظاهر، هادئ الأطراف متحفظا
عن التنحنح والتثاؤب، ويجلس مطرقا رأسه، كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه،
متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف
والمراءاة، ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بد، فإن غلبه الوجد
وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم...
الأدب
الرابع:
أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه. ولكن إن
رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة، لأن التباكي استجلاب
للحزن، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط.
الأدب
الخامس:
موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير
رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من
الموافقة، فذلك من آداب الصحبة.) (43)
وعن تأثير
السماع في نفس الصوفي يقول الطوسي
:
(إن
سهل بن عبد الله كان يطول عليه الوجد حتى يبقى خمسة وعشرين يوما أو أربعة
وعشرين يوما لا يأكل فيها طعاما. وكان يعرق عند البرد الشديد وعليه قميص
واحد. وكانوا إذا سألوه عن شيء من العلم يقول : لا تسألوني فإنكم لا
تنتفعون في هذا الوقت بكلامي. كما نقلوا عن السري السقطي أنه ذكر يوما عنده
المواجيد الحادة في الأذكار القوية وما جانس هذا مما يقوى على العبد، فقال
: نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يحبسه.) (44)
وخلاصة
القول في هذا الموضوع
:
-إن
الصوفية ومعهم بعض الفقهاء كابن حزم وغيره،يؤكّدون انه لم يرد نص صريح في
القرءان حول تحريم السماع،لا بآلة ولا بغير آلة.
-إن
الصوفية ومعهم بعض الفقهاء يؤكّدون أنه لم يرد نص صحيح ثابت في السنة يحرّم
السماع،وقد احتجّ ابن حزم الظاهري مطوّلًا لهذه المسألة في كتابه الموسوعي
(المحلّى) كما سنرى فيما يلي.
-و
من هنا انطلق الصوفية في بحث هذا الموضوع على أساس المصلحة الإنسانية
الشرعية والاعتماد أيضا على أن الأصل في أفعال العباد هو الإباحة حتّى يرد
النص المانع.
-وللأمانة
العلمية ينبغي أن نسجل هنا أن بعض الصوفية يمنعون استعمال الآلات الموسيقية
في السماع.
3 –
السماع
بين الصوفية والفقهاء (الرؤية الفقهية):
3 – 1 –
رأي
الإمام ابن حزم
:
ناقش ابن
حزم، وهو إمام المذهب الظاهري، بشدة وبنفس طويل جدا في موسوعته الفقهية
(المحلى) وفي رسالة أخرى مطولة، موضوع السماع والغناء من الناحية الدينية
الفقهية حيث قال بصريح العبارة
:
(وبيع
الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير حلال كله ومن كسر شيئا من
ذلك ضمنه... وكذلك يجوز بيع المغنيات من الجواري وابتياعهن. وأساس الجواز
في كل ما ذكرنا قوله تعالى : خلق لكم ما في الأرض جميعا – البقرة 29 –
وقوله : وأحل الله البيع – البقرة 275 – وقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم
– الأنعام 119 - ). ومن كلام ابن حزم يتضح أنه ينطلق في رؤيته الفقهية من
القاعدة الأصولية التي تقول إن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الدليل
وأنه لا تحريم إلا بنص واضح. وقد فصل الله تعالى ما حرم في كتابه وعلى لسان
نبيه (ص) ولم يأت نص ثابت بتحريم شيء مما ذكر. وذكر ابن حزم أن أبا حنيفة
يوجب الضمان على من كسر شيئا من آلات اللهو. وإيجاب الضمان معناه ضمنيا
جواز استعمالها والاستفادة منها شرعا، لأن ما يحرم استعماله شرعا لا يوجب
الفقهاء الضمان على من أتلفه..
وفي سياق
مناقشة القائلين بتحريم السماع والغناء، قال ابن حزم
:
(واحتج
المانعون بآثار لا تصح، أو يصح بعضها ولا حجة لهم فيها.. منها حديث عائشة
رضي الله عنها عن النبي (ص) قال : إن الله حرم المغنية وبيعها وثمنها
وتعليمها والاستماع إليها). قال ابن حزم : (وفيه من الرواة ليث، وهو ضعيف.
وسعيد بن أبي رزين، وهو مجهول لا يدرى من هو، عن أخيه، وما أدراك ما عن
أخيه، هو ما يعرف وقد سمي فكيف أخوه الذي لم يسم ؟.. واحتجوا بحديث علي رضي
الله عنه في حديث طويل قال رسول الله (ص) : إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل
بها البلاء... واتخذوا القينات والمعازف، فليتوقعوا عند ذلك ريحا حمراء
ومسخا وخسفا).
قال ابن حزم
: (في رواة هذا الحديث : لاحق بن الحسين وضرار بن علي والحمصي مجهولون،
وفرج بن فضالة متروك.. واحتجوا بحديث معاوية رضي الله عنه قال : نهى رسول
الله (ص) عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن الآن. فذكر فيهن الغناء والنوح).. قال
ابن حزم : (في رواته محمد بن المهاجر ضعيف، وكيسان مجهول... واحتجوا بحديث
أبي داود بسنده عن شيخ عن ابن مسعود يقول : سمعت رسول الله (ص) يقول : إن
الغناء ينبت النفاق في القلب).. قال ابن حزم : (الرواية عن شيخ عجيب جدا..
من هذا الشيخ ؟... واحتجوا بحديث أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي (ص) يقول
: يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يضرب على رؤوسهم بالمعازف
والقينات، يخسف الله بهم الأرض). قال ابن حزم في مناقشة سند هذا الحديث :
(معاوية بن صالح ضعيف، وليس فيه أن الوعيد المذكور إنما هو على المعازف،
كما أنه ليس على اتخاذ القينات، والظاهر أنه على استحلالهم الخمر، والديانة
لا تؤخذ بالظن... واحتجوا بحديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله (ص) : من
جلس إلى قينة فسمع منها، صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامة) والآنك هو
الرصاص المذاب. قال ابن حزم : (هذا حديث موضوع فضيحة، ما عرف قط عن طريق
أنس... واحتجوا بحديث مكحول عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله
(ص) : من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه). قال ابن حزم : (مكحول لم
يلق عائشة، وهاشم وعمرو الراويان مجاهيل... وهناك حديث لا ندري له طريقا
وهو : نهى رسول الله (ص) عن صوتين ملعونين، صوت نائحة وصوت مغنية.. وسنده
لا شيء... واحتجوا بحديث أبي أمامة : سمعت رسول الله (ص)
يقول : لا
يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، وثمنهن حرام. وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله
وهو : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها
هزؤا – لقمان 06 – والذي نفسي بيده، ما رفع رجل قط عقيرته بغناء، إلا
ارتدفه شيطانان يضربان على صدره وظهره حتى يسكت).. وقد نظر ابن حزم في رواة
هذا الحديث فوجدهم بين ضعيف ومتروك ومجهول..
ولعل أهم ما
ورد في هذا الباب ما رواه البخاري تعليقا عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول
الله (ص) يقول : (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير والخمر
والمعازف).. ومعلقات البخاري يؤخذ بها عند الفقهاء والمحدثين، لأنها في
الغالب متصلة الأسانيد، لكن ابن حزم يقول إن السند هنا منقطع، حيث لم يتصل
ما بين البخاري وصدقة بن خالد راوي الحديث.. ومن هذا المنطلق قال ابن حزم
عن تحريم الغناء
:
(لا
يصح في هذا الباب شيء أبدا، وكل ما ورد فيه موضوع. والله لو أسند جميعه أو
واحد منه عن طريق الثقات إلى رسول الله (ص) ما ترددنا في الأخذ به)..
وعن قوله
تعالى في سورة لقمان : (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) الآية ينفي ابن
حزم أن تكون نزلت في الغناء أو تتحدث عنه ويقول : (إن نص الآية يشرح المراد
منها، فإن من يريد الإضلال عن سبيل الله واتخاذها هزؤا، كافر بإجماع
المسلمين... ولو أن امرءا اشترى مصحفا ليضل عن سبيل الله لكان كافرا).. (45)
3 – 2 -
رأي قاضي
القضاة تاج الدين السبكي الشافعي (ت 771 هجرية)
:
يقول قاضي
القضاة تاج الدين عبد الوهاب السبكي في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم) : (
ومن الفقهاء فرقة متنسكة تجري على ظواهر الشرع، وتحسن امتثال أوامر الله
تعالى، واجتناب مناهيه، إلا أنها تهزأ بالفقراء، وأهل التصوف، ولا تعتقد
فيهم شيئا، ويعيبون عليهم السماع، وأمورا كثيرة. والسماع قد عرف اختلاف
الناس فيه. وتلك الأمور، قل أن يفهمها من يعيبها. والواجب تسليم أحوال
القوم إليهم. وإنا لا نؤاخذ أحدا إلا بجريمة ظاهرة، ومتى أمكننا تأويل
كلامهم، وحمله على محمل حسن لا نعدل عن ذلك، لا سيما من عرفناه منهم بالخير
ولزوم الطريقة... وقد جربنا فلم نجد فقيها ينكر على الصوفية، إلا ويهلكه
الله تعالى، وتكون عاقبته وخيمة.... لأن هؤلاء القوم لا يعاملون بالظواهر
ولا يفيد معهم إلا الباطن ومحض الصفاء. وهم أهل الله تعالى وخاصته، نفعنا
الله بهم. وأكثر من يقع فيهم لا يفلح.)
(46)
وأخرج
الطبري من طريق ابن جريج قال : سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء، فقال :
لا بأس به، ما لم يكن فحشا.
وقال ابن
بطال : ما كان في الشعر والرجز ذكرا لله تعالى وتعظيما له ووحدانيته وإيثار
طاعته والاستسلام له، فهو حسن مرغب فيه، وهو المراد من الحديث (إن من الشعر
حكمة). وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم... ومحصله : أن الحداء بالرجز والشعر
لم يزل يفعل في الحضرة النبوية، وربما التمس ذلك، وليس هو إلا أشعارا توزن
بأصوات طيبة وألحان موزونة.
وقال الفقيه
خليل النحلاوي الدمشقي في كتابه (الحظر والإباحة)
:
(وأما
سماع السادة الصوفية رضي الله عنهم، فبمعزل عن هذا الخلاف، بل ومرتفع عن
درجة الإباحة إلى رتبة المستحب كما صرح به غير واحد من المحققين. (47)
3 – 3 –
رأي
الشيخ محمد الغزالي
:
ومن بين
العلماء المعاصرين نورد رأي المرحوم الشيخ محمد الغزالي في كتابه (السنة
بين أهل الفقه وأهل الحديث) ص 70 حيث يقول
:
(إن
الله ما ذم قط من روح عن نفسه بشيء من اللهو ليعينه على الكثير من الجد،
وإنما الأعمال بالنيات. ولا حرج على مسلم أن ينظر في بستان متنزها، أو
يتنقل هنا وهناك متفرجا ليريح طبعه المكدود.. والحق أن الغناء كلام، حسنه
حسن وقبيحه قبيح.. هناك أغان آثمة، تلقى في ليال ظالمة مظلمة وإن كثرت فيها
الأضواء، لا تسمع فيها إلا صراخ الغرائز أو فحيح الرغبات الحرام.. وهناك
أغان سليمة الأداء شريفة المعنى، قد تكون عاطفية وقد تكون دينية وقد تكون
عسكرية تتجاوب النفوس معها وتمضي مع ألحانها إلى أهداف عالية)..
4 -
السماع
بين الصوفية والفقهاء (الحالة الجزائرية):
إن التصوف
والطرق الصوفية التي كانت ظاهرة دينية اجتماعية حضارية عامّة في المجتمع
الإسلامي، ظهرت في وقت مبكّر بالجزائر. ذلك أن أفكار محيي الدين بن عربي قد
انتشرت فيها قبل العهد العثماني بزمن طويل، كما أن حسن بن باديس صاحب
السينية، قد تحدّث عن الشيخ عبد القادر الجيلاني و طريقته في القرن الثامن
الهجري. ومن جهة أخرى تحدّث محمّد الزواوي الفراوسني صاحب (المرائي
الصوفية) عن الطريقة القادرية في القرن التاسع الهجري.
وقد شاع
التصوف في الجزائر بفضل مدرسة سيدي عبد الرحمن الثعالبي ومحمّد بن يوسف
السنوسي و أحمد زروق وغيرهم. ولم يكن الانتماء إلى طريقة من الطرق الصوفية
يُعد نقصًا أو عيبًا، بل إن أخذ الطريقة كان شيئًا يعلن عنه ويشاع بين
الناس ويمارسه العلماء والتجار والساسة والجنود فضلًا عن العامة. (48).
و من بين
الفقهاء الجزائريين الذين مالوا إلى التشدد في الحديث عن السماع او
الموسيقى،احمد الونشريسي في كتابه (المعيار) حيث روى من جهة أن احد العلماء
سئل في حكم الغناء فأجاب بأن سماع الإنشاد الذي يحرّك المشاعر السامية لا
بأس به،بل هو مندوب عند فتور النفس (49)
غير أن
الونشريسي يتشدّد على غرار غالبية الفقهاء عندما يتعلّق الأمر بتوظيف
الآلات في السماع،حيث يقول " إن معظم العلماء يكرهون الغناء بغير آلة
طرب،أمّا بآلة ذات أوتار كالعود والمزمار فممنوع... (50) وخلال المرحلة
التاريخية نفسها كان الصوفية يجيزون بل يحبّذون السماع ـ الموسيقى والغناء
ـ حيث اعتبروه من العلوم التي تجمع بين المعاملة والمكاشفة ونقلوا جوازه عن
بعض العلماء والعارفين امثال أبي مدين شعيب بن الحسن الأندلسي،دفين
تلمسان،و أبي القاسم الجموعي و أب الحسن الشاذلي والشطيبي وغيرهم، فقد أخبر
محمّد بن سليمان عن جواز سماع الموسيقى للصوفي الحقيقي، و أخبر أن شيخه
موسى بن علي اللّالتي كان حسن الإنشاد و أنّه إذا أسمع و أنشد يكاد قلب
السامع من تأثيره ينفطر وينهدّ، و أن شيخه كان يقول " ورثنا هذا المقام عن
داود عليه السلام" (51)
.
و بعد حوالي
قرن، فصل الورتلاني في هذه القضية ، فهو كرجل من اهل التصوف أباح استعمال
الموسيقى والإنشاد لأهل التصوف، ومنعه عن غيرهم لأنه يؤدّي في نظره إلى
الاختلاط والفساد..فالغناء في نظره دواء لأهل العشق الصوفي، ولكنه وسيلة من
وسائل الشيطان لغيرهم..وهو يعني بأهل العشق الصوفي أصحاب الحضرة الصوفية"
(52).
و هناك من
الفقهاء غير الصوفية من كان يتذوّق الموسيقى في ذاتها ويحلو له الإنشاد
وسماع آلات الطرب..فقد روي عن عبد الواحد الونشرسي (وهو لسخرية القدر ابن
أحمد الونشريسي الفقيه المتشدّد في موضوع الغناء والموسيقى) أنّه كانت له
أزجال و موشّحات و كان رقيق الطبع يهتز عند سماع الألحان وآلات
الطرب،لاعتدال مزاجه وقوام طبعه...(53)
و أخبر ابن
حمادوش في رحلته أنه يعلم علوما شتّى من بينها علم الموسيقى الذي قال إنه
تعلّمه بطريق الإجازة.وفي (الرحلة القمرية) لابن زرفة أنّه قد ورد على
الباي محمّد الكبير عالمان حنفيان من مليانة، أحدهما مفتي البلدة والثاني
فقيه، و أن كليهما كانا من الموسيقيّين المهرة.و قد عرفنا من حياة المفتي
أحمد بن عمّار أن بعض علماء مدينة الجزائر،وهو منهم، كانوا يصوغون
الموشّحات المولدية ونحوها وينشدونها في المولد النبوي بالألحان
المطربة.وتذكر المصادر ان الفقيه محمّد القوجيلي قد استأذنه أحد علماء تونس
في سماع الموسيقى فأجابه بقوله : كلّ ذي كرم من شأنه الطرب.
(54)
ويذكر
الورتلاني أن الشيخ علي المهاجري كان عازفا مشهورا على المزمار بلغ الغاية
في صنعته حتى أصبح الناس يشترطونه في الأعراس (55).
5 –
الاهتزاز
في الذكر والسماع (الرقص) بين الصوفية والفقهاء
:
5 – 1 –
رأي
الشيخ عدة بن تونس
:
يقول الشيخ
عدة بن تونس المستغانمي في رسالته الموسومة (وقاية الذاكرين من غواية
الغافلين) :
(ورد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود
والنصارى أن في ديننا فسحة.
قال الشيخ
العزيزي : قاله يوم عيد الحبشة وقد رآهم يرقصون بالدرق والحراب. أخرجه أبو
عبيدة في الغريب والخرائطي في اعتلال القلوب عن الشعبي مرسلا. وأخرجه
البخاري في صحيحه بلفظ : دونكم يا بني أرفدة. قاله والحبشة ملتبسون بعملهم
ذلك. ويفهم من سر التعبير من قوله عليه الصلاة والسلام : حتى تعلم اليهود
والنصارى أن في دينا فسحة، أنه يريد أن ينوه بسماحة الدين، وأنه دين لا حرج
فيه على المؤمنين، وذلك مصداق قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج.
أخرج الإمام
أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه
والبيهقي في شعب الإيمان : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجانين.
وحسبما يفهم
من هذا الحديث الشريف، أن المؤمن إذا لم يذكر الله بمثل ما تذكره به
الصوفية قياما بجميع الجوارح فهيهات أن يقال فيه مجنون، وهيهات أن يبلغ
الغاية المنشودة من الذكر الكثير من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا
اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا. هو الذي يصلي عليكم وملائكته
ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
روى الحاكم
في المستدرك والترمذي عن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن أبي الدرداء
بإسناد صحيح : سبق المفردون المستهترون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم
أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا.
قال الشيخ
الحفني رحمه الله : قوله المستهترون أي المولعون بالذكر. يقال استهتر فلان
بكذا إذا ولع به. وفي رواية : المشمرون، أي في الجد والاجتهاد في الذكر.
وفي رواية :
قالوا يا رسول الله من المفردون ؟ قال : الذين يهتزون في ذكر الله يضع
الذكر عنهم أوزارهم وخطاياهم فيأتون يوم القيامة خفافا.
ومن ذلك ما
روي أيضا عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال له عليه الصلاة والسلام
: أشبهت خلقي وخلقي. قيل فقام يهتز بحضرته ولم ينكر عليه ولم ينهه.
وبالجملة،
فمن تأمل هذه الأحاديث النبوية والآثار الشريفة، وتصفحها بقلب سليم، يعترف
ولا جدال أن اهتزاز الصوفية بذكر الله هو من السنة بمكان ولا ينكره إلا من
لم يتمكن حب الله من قلبه، والذين آمنوا أشد حبا لله.) (56)
واستدل
الصوفية أيضا على إباحة الحركة والاهتزاز في الذكر بما أخرجه الإمام أحمد
في مسنده والحافظ المقدسي برجال الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال :
(كانت الحبشة يرقصون بين يدي رسول الله (ص) ويقولون بكلام لهم : محمد عبد
صالح. فقال (ص) : ماذا يقولون ؟ فقيل : إنهم يقولون محمد عبد صالح. فلما
رآهم في تلك الحالة لم ينكر عليهم وأقرهم على ذلك.) (57)
قالوا : وفي
الحديث دليل على صحة الجمع بين الاهتزاز المباح ومدح رسول الله (ص) وأن
الاهتزاز بالذكر لا يسمى رقصا محرما، بل هو جائز لأنه ينشط الجسم للذكر
ويساعد على حضور القلب مع الله تعالى إذا صحت النية. فالأمور بمقاصدها،
وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. (58)
ويستدل
الصوفية أيضا بحديث الإمام علي رضي الله عنه الذي ورد في تاريخ الحافظ ابن
كثير الدمشقي المسمى (البداية والنهاية) ج 8 ص 6 حيث قال
:
(والله
لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئا يشبههم. لقد
كانوا يصبحون صفرا شعثا غبرا، بين أيديهم كأمثال ركب المعزى، قد باتوا لله
سجدا وقياما، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا
فذكروا الله مادوا – أي تحركوا – كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت
أعينهم حتى تنبل والله ثيابهم.) (59)
والشاهد في
هذا الحديث قوله (فإذا أصبحوا فذكروا الله، مادوا كما يميد الشجر في يوم
الريح) فهو صريح في الاهتزاز، ويبطل قول من يدعي أنه بدعة محرمة، ويثبت
إباحة الحركة في الذكر مطلقا.
5 – 2 –
رأي
الشيخ عبد الغني النابلسي
:
وقد استدل
الشيخ عبد الغني النابلسي بهذا الحديث في إحدى رسائله على استحباب الاهتزاز
بالذكر وقال : هذا صريح بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحركون حركة
شديدة في الذكر. على أن الرجل غير مؤاخذ حين يتحرك ويقوم ويقعد على أي نوع
كان حيث إنه لم يأت بمعصية ولم يقصدها. (60)
5 – 3 –
رأي
العلامة أحمد زيني دحلان
:
ويقول مفتي
الشافعية بمكة المكرمة العلامة أحمد زيني دحلان في سيرته المشهورة :
(وبعد
فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين
وهم ستة عشر رجلا. فتلقى النبي (ص) جعفر وقبل جبهته وعانقه وقام له ثم قال
: ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟ وقال (ص) لجعفر
:
أشبهت خلقي
وخلقي. فرقص رضي الله عنه من لذة هذا الخطاب، فلم ينكر عليه (ص) رقصه، وجعل
ذلك أصلا لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر
والسماع.) (61)
5 – 4 –
رأي
العلامة الآلوسي
:
ويقول
الألوسي في تفسيره لقوله تعالى (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم) : (وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعروة وابن
الزبير وجماعة رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا
يذكرون الله تعالى، فقال بعضهم : أما قال الله تعالى (يذكرون الله قياما
وقعودا) ؟ فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم، على أن مرادهم بذلك
التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها.) (62)
وبالجملة
يقوم الاستدلال الفقهي عند الصوفية على إباحة بل واستحباب الاهتزاز في
الذكر على المعادلة التالية
:
الحركة في
الذكر مباحة شرعا بدليل النصوص المتقدمة، بالإضافة إلى أن الأمر بالذكر
مطلق يشمل جميع الأحوال. فمن ذكر الله تعالى قاعدا أو قائما، جالسا أو
ماشيا، متحركا أو ساكنا، فقد قام بالمطلوب ونفذ الأمر الإلهي. ومن هنا
فالذي يدعي تحريم الحركة في الذكر أو كراهتها هو المطالب بتقديم الدليل،
لأنه يخصص بعض الحالات المطلقة دون بعض بحكم خاص. وعلى كل، فإن الصوفية لا
يشترطون الاهتزاز لصحة الذكر، ولكنهم يقولون إنه وسيلة للنشاط فيه.
5 – 5 –
رأي سيدي
أبي مدين الغوث
:
أما الولي
الصالح سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنه فقد قال رأية في الموضوع شعرا :
وقل للذي
ينهى عن الوجد أهله / إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا
إذا اهتزت
الأرواح شوقا إلى اللقا / نعم ترقص الأشباح يا جاهل المعنى
أما تنظر
الطير المقفص يا فتى / إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ؟
يفرج
بالتغريد ما بفؤاده / فتضطرب الأعضاء في الحس والمعنى
كذلك أرواح
المحبين يا فتى / تهزهزها الأشواق لعالم الأسنى
أنلزمها
بالصبر وهي مشوقة / وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنى ؟
فيا حادي
العشاق قم واشد قائما / وزمزم لنا باسم الحبيب وروحنا. (63)
5 – 6 –
رأي
السهروردي
:
ويرفض
السهروردي القول ببدعية الحركة والاهتزاز في الذكر
:
(..
وقول القائل إن
هذه الهيئة من الاجتماع بدعة يقال له : إنما البدعة المحذورة الممنوع منها،
بدعة تزاحم سنة مأمورا بها، وما لم يكن هكذا فلا بأس به. وهذا كالقيام
للداخل، لم يكن، فكان في عادة العرب ترك ذلك، حتى نقل أن رسول الله (ص) كان
يدخل ولا يقام له. وفي البلاد التي فيها هذا القيام لهم عادة، إذا اعتمد
ذلك لتطييب القلوب والمداراة لا بأس به، لأن تركه يوحش القلوب ويوغر
الصدور، فيكون ذلك من قبيل العشرة وحسن الصحبة، ويكون بدعة لا بأس بها
لأنها لم تزاحم سنة مأثورة.) (64)
ويقول أيضا
:(ربما صار الرقص عبادة بحسن النية إذا نوي به استجمام النفس) (65)
ويقول عماد
الدين الأموي :(لا بأس بالرقص في السماع إذا لم يكن فيه تكسر) أي تخنث. (66)
ويقول
الفيتوري : (يجوز الرقص في السماع إذا كان من تواجد وحالة.) (67)
5 – 7 –
رأي ابن
عجيبة الحسني
:
يقول ابن
عجيبة الحسني : (الأصل في الرقص هو الإباحة. وقد صح القيام والرقص في مجالس
الذكر والسماع عن جماعة من أكابر الأئمة. وقد تواتر النقل عن الصوفية قديما
وحديثا، شرقا وغربا أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله ويقولون ويرقصون، ولم
يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم. وقد رأيت بقاس بزاوية
الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب، مع
توفر العلماء، فلم ينكر أحد عليهم.) (68)
وفي معرض
الرد على الذين يعترضون على السماع والرقص أو الاهتزاز والحركة في الذكر،
يقول ابن عجيبة
:
(اعلم
أن اعتراض أهل الظاهر على الصوفية لا ينقطع أبدا. هذه سنة ماضية، وخصوصا في
السماع والرقص. وهو معذورون لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتا ترقص وتشطح، ولا
يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح، فيحملون ذلك على خفة العقل
والطيش، فيقعون فيهم إلا من عصمه الله بالتسليم. ولذلك كان التصديق بطريقة
القوم ولاية، والاعتراض جناية. وقد رأيت للطرطوشي اعتراضا كبيرا على
الصوفية في الرقص حتى قال فيه : إنه ضلالة وجهالة، وذلك لما قلناه. قال
تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما ياتهم تاويله.) (69)
ويلتحق
الشيخ ابن عباد بهذا الرأي حيث يقول
:
(لا
تجعلوا لأهل الظاهر حجة على أهل الباطن.) (70)
وينقل
السهروردي عن السري السقطي قوله
:
(شرط
الواجد في زعقته أن يبلغ إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لا يشعر فيه بوجع. وقد
يقع هذا لبعض الواجدين نادرا، وقد لا يبلغ الواجد هذه الرتبة من الغيبة،
ولكن زعقته تخرج كالتنفس بنوع إرادة ممزوجة بالاضطرار.) (71)
8 –
الخلاصة
:
من خلال ما
سبق، يتبين أن الصوفية لا ينطلقون من الفراغ فيما يتعلق بمسألة السماع
وأنهم يقفون على قاعدة صلبة من الاستدلال الفقهي، قد يتفق معها البعض
ويختلف آخرون وهذا أمر مشروع. كما يظهر تعسف الفقهاء الذين ينكرون على
الصوفية بشكل مطلق أو يمنعون السماع بشكل مطلق، أو الذين يقولون ببدعية
الأسلوب الصوفي في الذكر دونما تمحيص. وتبقى خصوصية الحالة الجزائرية في
هذا الموضوع، جديرة بالدراسة والبحث العميقين، لأنني أتصور أن المنطقة
المغاربية عموما والجزائر على وجه الخصوص، كانت على طول التاريخ العربي
الإسلامي بالمقارنة مع المشرق، تمثل خصوصية سياسية في التعامل مع الحكام،
وخصوصية فقهية في دائرة العمل، وخصوصية فلسفية في دائرة العقل، وخصوصية
روحانية في الدائرة العرفانية.
الهوامش
1ـ
الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت :
دار الكتب العلمية،2001)، ص 09-10.
2
ـ
السابق، ص20.
3 –
السبكي
(تاج الدين عبد الوهاب) : معيد النعم ومبيد النقم، (القاهرة : دار الكتاب
العربي، 1948 )، بتحقيق : محمد علي النجار، أبو زيد شلبي، محمد أبو العيون،
ص 120
.
4
ـ
القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت:
دار الكتاب العربي،بدون تاريخ)، ص 100.
5
ـ
السابق، ص 150.
6ـ
الحفني (عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة،
1980)،ص134.
7
ـ السابق
.
8
ـ التعرف
لمذهب أهل التصوف، ص 178.
9
ـ السابق
.
10
ـ
السابق، ص 179.
11
ـ
السابق.
12 –
الطوسي
(أبو نصر عبد الله بن علي السراج) : اللمع في تاريخ التصوف الإسلامي،
(القاهرة : المكتبة التوفيقية، بدون تاريخ)، ص 275
.
13 –
السابق،
ص 276
.
14 –
السابق.
15 –
السابق.
16 –
السابق،
ص 277
.
17 –
السابق،
ص 280
.
18 –
السابق،
ص 281
.
19 –
السابق،
ص 282
.
20 –
السابق.
21 –
السابق،
ص ص 284 – 285
.
22 -
عيسى
(الشيخ عبد القادر) : حقائق عن التصوف، (بريطانيا، ديوان براس، بدون
تاريخ)، ص 197
.
23 –
السابق،
ص 198
.
24 –
السابق،
ص ص 200 – 201
.
25 –
السابق،
ص ص 201 – 202
.
26 –
السابق،
202
.
27 –
السابق،
203
.
28 –
السهروردي (شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله البغدادي الشافعي)
: عوارف المعارف، (بيروت : منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، ط 1
، 1999 )، ص 106
.
29 –
السابق،
ص 112
.
30 –
السابق،
ص 116 – 117
.
31 –
الخالدي
(أحمد النقشبندي) : جامع الأصول في الأولياء، (بيروت : مؤسة الإنتشار
العربي، ط 1 ، 1997 ) بتحقيق أديب نصر الله، 2 / 383
.
32 –
ظهير
(الشيخ إحسان إلهي) : دراسات في التصوف (القاهرة : دار الإمام المجدد، ط 1
، 2005 )، ص 160
.
33 –
السابق.
34 –
السابق.
35 –
السابق،
ص 162
.
36 –
السابق،
ص 163
.
37 –
السابق،
ص 169
.
38 –
السابق،
ص 171
.
39 –
السابق.
40 –
السابق.
41 –
السابق،
ص 172
.
42 –
السابق،
ص 173
.
43 –
السابق،
ص 175
.
44 –
السابق،
ص 184
.
45 –
ابن حزم
(المحلى) : كتاب البيوع.
46 -
السبكي
(تاج الدين عبد الوهاب) : معيد النعم ومبيد النقم، (القاهرة : دار الكتاب
العربي، 1948 )، بتحقيق : محمد علي النجار، أبو زيد شلبي، محمد أبو العيون،
ص 88
.
47 –
عيسى
(الشيخ عبد القادر) : حقائق عن التصوف، (بريطانيا، ديوان براس، بدون
تاريخ)، ص ص 203 – 204
.
48
ـ سعد
الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي،
ط1، 1998)، 1 / 187
49
ـ
السابق ،2/437.
50
ـ
السابق
.
51
ـ
السابق، 2/438.
52
ـ
السابق، 2/439.
53
ـ السابق.
54
ـ
السابق، 2/440
55
ـ
السابق،2 /442
56 -
بن تونس
(الشيخ عدة) : وقاية الذاكرين من غواية الغافلين، (مستغانم : المطبعة
العلوية، ط 2 ، 1369 هجرية) ص ص 24 – 25
.
57 –
عيسى
(الشيخ عبد القادر) : حقائق عن التصوف، (بريطانيا : ديوان براس، بدون
تاريخ)، ص 188
.
58 –
السابق.
59 –
السابق،
ص 189
.
60 –
السابق،
ص ص 193 – 194
.
61 –
السابق،
ص 194
.
62 –
السابق،
ص ص 194 – 195
.
63
–
السابق.
64 -
السهروردي (شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله البغدادي الشافعي)
: عوارف المعارف، (بيروت : منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، ط 1
، 1999 )، ص 112
.
65 –
ظهير
(الشيخ إحسان إلهي) : دراسات في التصوف (القاهرة : دار الإمام المجدد، ط 1
، 2005 )، ص 192
.
66 –
السابق.
67 –
السابق.
68 –
السابق.
69 –
السابق،
193
.
70 –
السابق.
71 –
السهروردي (شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله البغدادي الشافعي)
: عوارف المعارف، (بيروت : منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، ط 1
، 1999 )، ص 120
.
مراجع
البحث :
1ـ
الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت :
دار الكتب العلمية،2001).
2
ـ
القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت:
دار الكتاب العربي،بدون تاريخ).
3 –
الطوسي
(أبو نصر عبد الله بن علي السراج) : اللمع في تاريخ التصوف الإسلامي،
(القاهرة : المكتبة التوفيقية، بدون تاريخ).
4 –
السهروردي (شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد
الله البغدادي الشافعي) : عوارف المعارف، (بيروت : منشورات محمد علي بيضون
دار الكتب العلمية، ط 1 ، 1999
).
5 –
الخالدي
(أحمد النقشبندي) : جامع الأصول في الأولياء، (بيروت : مؤسة الإنتشار
العربي، ط 1 ، 1997 ) بتحقيق أديب نصر الله.
6 –
السبكي
(تاج الدين عبد الوهاب) : معيد النعم ومبيد النقم، (القاهرة : دار الكتاب
العربي، 1948 )، بتحقيق : محمد علي النجار، أبو زيد شلبي، محمد أبو العيون.
7 –
عيسى
(الشيخ عبد القادر) : حقائق عن التصوف، (بريطانيا، ديوان براس، بدون تاريخ).
8
ـ الحفني
(عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة، 1980).
9
ـ سعد
الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي،
ط1، 1998).
10 –
الغزالي
(محمد) : السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث (الجزائر : دار الصديقية
للنشر، 1989
).
11 –
بن تونس
(الشيخ عدة) : وقاية الذاكرين من غواية الغافلين (مستغانم : المطبعة
العلوية،
ط 2 ، 1369
هجرية
).
12 –
ظهير
(الشيخ إحسان إلهي) : دراسات في التصوف (القاهرة : دار الإمام المجدد، ط 1
، 2005
).
أضيفت في
10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات
صوفية)
العلاقة بين التصوف
وشعراء الملحون
(الشعر الشعبي)
في
الجزائر، "محمد بن مسايب" نموذجا
بقلم الكاتب:
سعيد جاب الخير
مقدمة عامة
للبحث
:
لا شك أن
التصوف بوجه عام والطرق الصوفية بشكل خاص،كان لها تأثير كبير على الثقافة
الشعبية والفنون في الجزائر والمنطقة المغاربية عمومًا،وقد توسّلت
المرجعيات الصوفية من الزهاد والعارفين وشيوخ الطرق، منذ وقت مبكر بالفنون
والثقافة الشعبية لتقوم بوظيفتها في نشر و تجذير خطابها الديني والروحي
والاجتماعي وحتى السياسي أحيانًا في الطبقات السفلى من المجتمع (البسطاء
والفقراء) التي شكّلت الخزّان الذي لا ينضب والمحرّك الأقوى لدواليب الحركة
الصوفية من خلال تركيز شيوخ الطرق عليها والتصاقهم بها في اليومي المعيش
وحتّى في الشعار الذي اختاروه لأنفسهم وتسموا به (الفقراء). وفي هذا الإطار
يأتي الشعر الشعبي (الملحون) على رأس الوسائل التي وظفتها الطرق الصوفية في
نشر تعاليمها. وإذا لم يكن باستطاعتنا القول إن جميع الشعراء الشعبيين
(شعراء الملحون) كانوا صوفية أومنتمين إلى الطرق الصوفية، فإن المؤكد أنهم
تعرضوا كلهم بطريقة أو بأخرى لتأثير التصوف والطرق الصوفية في الجزائر
والمنطقة المغاربية عموما. وفي هذا السياق، يعتبر الشيخ محمد بن مسايب
التلمساني من أكبر الشعراء الذين كتبوا في باب (الجد) أو (المدح) حيث سيكون
موضوع هذه الدراسة.
1ـ
تعريف التصوف
:
-يعرف
أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، التصوف في كتابه (التعرف لمذهب أهل
التصوف) بقوله : " إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها"..
وينقل أيضا عن بشر بن الحارث الحافي قوله : " الصوفي من صفا قلبه لله"..(1)
ولعل أشهر ما يتميز به الصوفية من الصفات، هو تسامحهم وسماحتهم، فقد سأل
رجل لسهل بن عبد الله التستري :
"
من أصحب من
طوائف الناس ؟ فقال : عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكثرون ولا يستنكرون شيئا،
ولكل فعل عندهم تأويل، فهم يعذرونك على كل حال" (2) 0
ومن هذه
النصوص تظهر أهم المفردات التعريفية للتصوف فيما نرى وهي : صفاء القلب
والسريرة (صفاء النية) والتسامح والانفتاح على الآخر وقبوله كما هو، لا كما
نريده نحن أن يكون..
2ـ ارتباط
الشعر الملحون بالسماع وتوظيفهما في نشر التعاليم الصوفية:
إن التصوف
والطرق الصوفية التي كانت ظاهرة دينية اجتماعية حضارية عامّة في المجتمع
الإسلامي، ظهرت في وقت مبكّر بالجزائر. ذلك أن أفكار محيي الدين بن عربي قد
انتشرت فيها قبل العهد العثماني بزمن طويل، كما أن حسن بن باديس صاحب
السينية، قد تحدّث عن الشيخ عبد القادر الجيلاني و طريقته في القرن الثامن
الهجري. ومن جهة أخرى تحدّث محمّد الزواوي الفراوسني صاحب (المرائي
الصوفية) عن الطريقة القادرية في القرن التاسع الهجري.
وقد شاع
التصوف في الجزائر بفضل مدرسة سيدي عبد الرحمن الثعالبي ومحمّد بن يوسف
السنوسي و أحمد زروق وغيرهم. ولم يكن الانتماء إلى طريقة من الطرق الصوفية
يُعد نقصًا أو عيبًا، بل إن أخذ الطريقة كان شيئًا يعلن عنه ويشاع بين
الناس ويمارسه العلماء والتجار والساسة والجنود فضلًا عن العامة. (3)
وقد دأب
الصوفية في الجزائر وبلاد المغرب عموما على تذوق الموسيقى وممارسة السماع
الذي ارتبط بالشعر الشعبي (الملحون) ارتباطا عضويا حيث كان بعض شعراء
الملحون متخصصين في مدح بعض الأولياء من الأقطاب أو من مؤسسي الطرق الصوفية
الكبرى. ونذكر من بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر : الشيخ عبد القادر
بن طبجي دفين مستغانم ومداح سيدي عبد القادر الجيلاني، ومن بين أشهر
القصائد التي كتبها في مدحه "عبد القادر يا بوعلام ضاق الحال علي" التي
غناها كثيرون وحرفوا مضمونها. ومن الواضح في هذا السياق أن الشعر الملحون
لا معنى لوجوده إذا لم يتحول إلى أغان ومدائح. ومن هنا كان شيوخ الصوفية
يؤكدون على ضرورة صياغة تعاليمهم وتوجيهاتهم ووجدانياتهم في شكل قصائد من
الشعر الملحون سواء بأنفسهم (كما هي حال الشيخ سيدي أحمد بن مصطفى العلوي
المستغانمي مؤسس الطريقة العلوية والذي له ديوان شعر مطبوع أغلبه من
الملحون) أو الذين كان لهم شعراء ينتسبون إلى طرقهم ويصوغون تعاليمهم شعرا
ويمدحونهم كما هي حال مولاي إدريس بن دريس شاعر ومداح سيدي محمد بن عيسى
الملقب بالشيخ الكامل مؤسس الطريقة العيساوية دفين مكناس، إضافة شعراء
الطريقة العيساوية في الجزائر.
وقد فهم
شيوخ وأقطاب الصوفية في المنطقة المغاربية منذ زمن بعيد أن الشعر الملحون
هو أثقل وزنا وأكثر رسوخا في أذهان العامة الذين شكلوا وما يزالون يشكلون
أغلبية أتباعهم. وفهم هؤلاء الشيوخ أيضا أن هذا الشعر لا يمكن أن يرسخ في
أذهان العامة إذا لم يغن. ومن هنا جاءت العلاقة العضوية المتينة بين شيوخ
وأقطاب التصوف وبين شعراء الملحون. ولا يعني ذلك أن شعراء الملحون كانوا
عاجزين عن نظم الشعر الفصيح ولكنهم كانوا ينظمون الملحون أكثر من الفصيح
(سيدي قدور العلمي نموذجا) لأنه أكثر وأسرع انتشارا وأكبر أثرا وبالتالي
أكثر فاعلية في توصيل الرسالة الصوفية.
ومن هذا
المنطلق يمكن اعتبار ظاهرة (المداح) اختراقًا فنيا للمجتمع من طرف الصوفية،
أو بتعبير آخر توظيفا للفن كوسيلة لتحريك الخطاب الديني الصوفي على مستوى
الطبقات الاجتماعية المختلفة وخاصة البسيطة منها.ولهذا نلاحظ أن العديد من
شعراء الملحون من الصوفية كان باستطاعتهم نظم الشعر الفصيح على الأوزان
الخليلية التقليدية، غير أن ذلك لم يكن ليحقق لهم الهدف الذي يقصدونه من
النظم، لأن شعرهم في هذه الحالة لن يكون في متناول الأغلبية ولن تفهمه سوى
النخبة الذي تمثل الأقلية داخل المجتمع.
ومن المعروف
أن ثنائية (الطالب) و (المدّاح) هي التي تقف في النهاية من وراء ظهور ما
يعرف اليوم بالفن الشعبي أو الغناء الشعبي الجزائري، حيث أن مدرسة الشعبي
ما هي إلا امتداد لظاهرة المدّاح المنطلقة أساسا من الفضاءات الصوفية
المتمثلة في الزوايا.فالمدّاح من جانب المضمون كان يمدح عن الله
تعالى،وعلاقة الانسان به من حيث الطاعة و المعصية والاستغفار بما يشمل جميع
الانشغالات السلوكية الصوفية، ويمدح أيضا عن الرسول علية الصلاة والسلام،
والصحابة رضي الله عنهم،والأولياء والصالحين،إضافة إلى أيام وغزوات العرب.
وإذا كان
بعض شعراء الملحون لم يشتهروا بانتسابهم لطريقة صوفية معينة (ومن بينهم
محمد بن مسايب) فإن ذلك لم يمنعهم من كتابة عشرات القصائد الصوفية بل إن
العديد من قصائدهم التي يصنفها بعض الدارسين في خانة "الغراميات" أو
"الهزليات" هي في الواقع قصائد "جدية" وصوفية أيضا. وسنتعرض فيما يلي من
هذه الدراسة للعديد من النماذج في هذا الإطار.
وإذا كان
الشعر الملحون قد ارتبط عند الصوفية بمسألة السماع أو الغناء والموسيقى
ارتباطا عضويا، فإن ذلك نابع أصلا من كون الصوفية منذ القديم يستشعرون
الحرية في التعامل مع المسألة الفقهية بحيث لم تكن لديهم أية مشكلة في هذا
المجال بل إنهم كانوا دوما يحبّذون السماع ـ الموسيقى والغناء ـ حيث
اعتبروه من العلوم التي تجمع بين المعاملة والمكاشفة ونقلوا جوازه عن بعض
العلماء والعارفين امثال أبي مدين شعيب بن الحسن الأندلسي،دفين تلمسان،و
أبي القاسم الجموعي و أب الحسن الشاذلي والشطيبي وغيرهم، فقد أخبر محمّد بن
سليمان عن جواز سماع الموسيقى للصوفي الحقيقي، و أخبر أن شيخه موسى بن علي
اللّالتي كان حسن الإنشاد و أنّه إذا أسمع و أنشد يكاد قلب السامع من
تأثيره ينفطر وينهدّ، و أن شيخه كان يقول " ورثنا هذا المقام عن داود عليه
السلام" (4).
و بعد حوالي
قرن، فصل الورتلاني في هذه القضية ، فهو كرجل من اهل التصوف أباح استعمال
الموسيقى والإنشاد لأهل التصوف، ومنعه عن غيرهم لأنه يؤدّي في نظره إلى
الاختلاط والفساد..فالغناء في نظره دواء لأهل العشق الصوفي، ولكنه وسيلة من
وسائل الشيطان لغيرهم..وهو يعني بأهل العشق الصوفي أصحاب الحضرة الصوفية"
(5).
و هناك من
الفقهاء غير الصوفية من كان يتذوّق الموسيقى في ذاتها ويحلو له الإنشاد
وسماع آلات الطرب..فقد روي عن عبد الواحد الونشرسي (وهو لسخرية القدر ابن
أحمد الونشريسي الفقيه المتشدّد في موضوع الغناء والموسيقى) أنّه كانت له
أزجال و موشّحات و كان رقيق الطبع يهتز عند سماع الألحان وآلات
الطرب،لاعتدال مزاجه وقوام طبعه...( 6)
و اخبر ابن
حمادوش في رحلته أنه يعلم علوما شتّى من بينها علم الموسيقى الذي قال إنه
تعلّمه بطريق الإجازة.وفي (الرحلة القمرية) لابن زرفة أنّه قد ورد على
الباي محمّد الكبير عالمان حنفيان من مليانة، أحدهما مفتي البلدة والثاني
فقيه، و أن كليهما كانا من الموسيقيّين المهرة.و قد عرفنا من حياة المفتي
أحمد بن عمّار أن بعض علماء مدينة الجزائر،وهو منهم، كانوا يصوغون
الموشّحات المولدية ونحوها وينشدونها في المولد النبوي بالألحان
المطربة.وتذكر المصادر ان الفقيه محمّد القوجيلي قد استأذنه أحد علماء تونس
في سماع الموسيقى فأجابه بقوله : كلّ ذي كرم من شأنه الطرب. (7) ويذكر
الورتلاني أن الشيخ علي المهاجري كان عازفا مشهورا على المزمار بلغ الغاية
في صنعته حتى أصبح الناس يشترطونه في الأعراس (8).
3ـ الشعر
الشعبي (أوالملحون) وعلاقته بالتصوف
وأشار
العلّامة ابن خلدون في مقدّمته إلى الشعر الملحون او الشعبي فذكر أن واضعه
هو رجل من أهل الاندلس كان يعرف بابن عُمَيِّر (بضم العين وفتح الميم
وتشديد الياء المكسورة) الذي نزل مدينة فاس وعنه نقل الناس هذا الأسلوب في
نظم الشعر بدون تكلّف.وهناك شخصية عظيمة أخرى ظهرت أيضًا في طليعة هذا
الميدان، وهو محمّد بن عيسى الشهير بابن قزمان الأندلسي الزجّال (555 هـ ـ
1160م)الذي غمر الأدب الأندلسي بأزجاله وشعره الملحون، ويسّر بإبداعه هذا
ما كان متعسّرًا على العامة،فأخذ كلّ واحد منهم ينظم كلماته شعرًا على
النمط الجديد بلهجته الخاصة دون كلفة ولا تعاطٍ للأوزان الشعرية الخليلية
التقليدية، وهذا ما سمي بعد ذلك في ارض الأندلس بالزجل،الذي نظموه على
أوزان جديدة انتشرت بعد ذلك في المشرق أيضًا وجعلوا لها أسماء مثل (كان
وكان) و (الموّالية) و (السلسلة)و (الدوبيت) و (المستطيل)و (المنسرد) و
(المطرب)،ممّا عرف عند الأدباء بفنون الشعر السبعة، وقالوا "هذه لا تسمّى
شعرًا لأن أوزانها مخالفة لأوزان العرب" وجعلوها من الأبحر المهملة (9) .
إن الشاعر
الشعبي (أو شاعر الملحون) يمتص جانبا من التصوف ثم يعيد نسجه وتنظيمه وفق
ما تزود به من علوم ومعارف دينية. وهنا نلاحظ أن الشاعر الشعبي لا يجهل
الأبعاد الحضارية لخطابه، فهو يستفيد مما تعطيه الجماعة الشعبية كما يستفيد
من مؤهلاته الاجتماعية و الثقافية.
ويلاحظ
المتتبع لقصائد الشعر الشعبي (الملحون) أن الحكاية التي يرويها الأدب
الشعبي هي سبيل واضح لاستكشاف الوعي الصوفي في مستوى من مستوياته، والتعرف
و لو بشكل أولي على ما يعتمل داخل المجتمع من نشاط ديني وثقافي. وغني عن
القول أن الشاعر الشعبي الصوفي متأثر بالثقافة الدينية والشعبية التي أخذها
من محيطه والوسط الذي عاش فيه، هذه الثقافة التي تعتبر زادًا معرفيًا
متنوعًا تقدمه (الجامعة الشعبية) المتمثلة في المساجد والزوايا.
وفي هذا
السياق ينبغي التأكيد على أن معظم شعراء الملحون الجزائريّين والمغاربيّين
إن لم نقل جميعهم هم من الصوفية .و نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر :
سيدي لخضر
بن خلوف، عبد العزيز المغرواي، الحاج محمّد النجّار،الحاج عيسى لغواطي،
الشيخ عبد الرحمن المجدوب، الحاج مبارك بو لطباق، سيدي أحمد لغارابلي، عبد
القادر بلوهراني،سيدي أمحمّد بن عودة، سيدي بلحسن وغيرهم.
ومن الممكن
أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى من الشعراء الذين كتبوا في المديح النبوي
والوعظ ومدح الأولياء والصالحين، حتّى و إن لم يشتهروا كصوفية ولكن نصوصهم
مشرّبة بالروح الصوفية والمصطلحات الصوفية.ومن بين هؤلاء الشاعر التلمساني
أبو عبد الله الحاج محمّد بن أحمد بن مسايب الذي عاش في القرن 12 الهجري و
أصله من الأندلس،كان يكتب في العديد من الأغراض غير أنّه عندما يكتب في
المديح النبوي أو الوعظ أو مدح الأولياء، لا يستطيع القارئ أن يميّز بين
شعره وشعر غيره من الشعراء المتصوّفين وذلك لشدّة غوصه في الأحوال و
التعابير الصوفية.
4-اللغة
الصوفية في أشعار محمد بن مسايب
:
إن القليل
الذي نعرفه عن حياة الشاعر الشيخ محمد بن مسايب حصلنا عليه عن طريق
التقاليد الشفاهية. ويمكننا أيضا أن تستشف حياة الشاعر من خلال إنتاجه الذي
يختزن عاطفة صادقة ويحمل وقعا مؤثرا. ولقد أمضى بن مسايب شبابه في ممارسة
مهنة النسيج التي ساهمت على ما يبدو بطريقة أو بأخرى في تنمية ذوقه الفني.
ويبدو أيضا أنه منذ شبابه المبكر أصيب بغرام أرقه وعذبه. غرام فتاة اسمها
"عيشة". ويظهر أن بن مسايب أصيب بخيبات عاطفية عديدة دفعته إلى قطع علاقاته
مع الحب الدنيوي حيث لم يكن أيضا بعيدا عن معاناة البسطاء من الناس. وهو لا
يخفي غضبه ومخاوفه إزاء محيط فاسد في أعماقه جراء ظلم الولاة الأتراك من
جهة ولامبالاة الأغنياء الأنانيين والمتكبرين من جهة أخرى. هذه العوامل
مجتمعة هي التي حولت بن مسايب على ما يبدو من شاعر للحب الدنيوي إلى شاعر
للحب الإلهي بامتياز.(10)
ومن القصائد
التي توحي بتبحّر محمّد بن مسايب في المجال الصوفي ومعرفته العميقة بالطريق
وأهلها على
الأقل في الجانب النظري، يمكن ذكر ما يلي:
(
الوفاة) وهي
قصيدة في وفاة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ( يا الوحداني) وهي في
موضوع التوبة والاستغفار ، (ماوفاشي طلبي) وهي قصيدة يوحي ظاهرها عند
القراءة السطحية بأنها غرامية، غير أنه يقول في آخرها :
"
نمدح جدّ
الشرفا صاحب الحوض أحمد سلطاني
غفرانك يـا
ربي حرمة النبي الماحي الطاهر
فيه غاية
رغبي بيه راني متولّع يـــاسر " (11).
والواقع أن
المتمعّن في نص هذه القصيدة يجد فعلًا تعابير غرامية كثيرة شائعة في
أجوائها، وعندما نقول تعابير "غرامية" فنحن لا نقصد العاطفية منها فحسب بل
نقصد أيضًا التعابير الحسّية الجسدية مثل قوله
:
"
محبوبي كحل
العين والشفر والحاجب والسالف
حسنه
مكمول الزين يسحر العاشق بسر مخالف
ديما فوق
الخدين الورد فاتح لونه متخالف" (12)
إلى
غير ذلك من التعابير التي توحي للقارئ أن الشاعر يصف امرأة لا رجلًا، ما
يجعله يتوهّم ان القصيدة غزلية وهي غير ذلك. وهذه عادة الشعراء الصوفية في
تعابيرهم العشقية الجيّاشة التي تفيض بمعاني الحب تجاه الله تعالى والرسول
عليه الصلاة والسلام و الأولياء الصالحين. ومن المعروف أن الصوفية كانوا
على طول تاريخهم (وعلى خلاف العديد من الفقهاء وعلى الخصوص الحنابلة منهم )
يستشعرون الحرية كلها في التعبير عما يجيش بداخل أنفسهم من المشاعر
والعواطف والأحاسيس والمواجيد (من الوجد) الناتجة عن طبيعة العلاقة التي
تربطهم بالله تعالى من خلال ما يمارسونه من عبادة وتقرب إلى حضرته القدسية.
فاللغة الصوفية تنطلق عندما تعجز اللغة العادية. وهذا أمر هو في الواقع فوق
طاقة الصوفية، لأنهم لا يملكون القدرة حتى على اختيار ألفاظهم أو التحري في
نحتها وتدقيقها، في الوقت الذي يكونون مأسورين داخل حالة الشهود الإلهي.
ومن هنا فإن التعابير التي نجدها عند بن مسايب وغيره من شعراء الملحون في
مجال (المدح) أو (الجد) والتي يوحي ظاهرها أنها تتعلق بغرام جسدي، هي في
الواقع لغة ومفردات صوفية باطنية. فإذا كان بن مسايب يمدح الرسول عليه
الصلاة والسلام بألفاظ الحب الجسدي، فذلك لأنه في الواقع وتحت تأثير حالة
الوجد التي تحدث خلال "الاجتماع" أو "الاتصال" الروحي بالنبي عليه الصلاة
والسلام سواء في اليقظة أو في المنام، لا يجد الشاعر قاموسا آخر ينطق به
سوى القاموس الذي يتحرك في حالات (العشق) لأن ما يجيش داخل نفسه وروحه حيال
شخص النبي عليه الصلاة والسلام هو فعلا (عشق) على اعتبار أن حالة (العشق)
تمثل في القاموس العربي درجة عالية من الحب، وعلى اعتبار أن حب النبي عليه
الصلاة والسلام إلى أقصى درجة ممكنة، هو أمر مفروض بنص القرآن الكريم في
قوله تعالى (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله )
الآية. ومفروض أيضا بنص السنة في الحديث الصحيح وهو قوله عليه الصلاة
والسلام : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه أهله وماله والناس
أجمعين) أو كما قال. من هنا تنطلق مسألة الحرية اللغوية بالنسبة لصوفية في
التعبير، سواء عن الحب الإلهي أو حب الرسول عليه الصلاة والسلام. فأن تحب
إنسانا أكثر من نفسك وأهلك ومالك والناس أجمعين، لا يجد الصوفية له مصطلحا
يعبر عنه سوى مصطلح (العشق).
ودائما في
قصيدة (ما وفاشي طلبي) نجد بن مسايب يصرح منذ البيت الثاني أنه لم يكن في
يوم من الأيام يخفي ولعه بالنبي (ص) حيث يقول
:
"بيه
مولع قلبي/ كنت من بكري ظاهر شاهر"
ويتحدث عنه
لا على أساس أنه نبيه فحسب بل على أساس أنه "محبوبه" بل ويصف الكثير من
جماله الجسدي (وغالبا لا يصف الشاعر سوى ما يرى) فيقول
:
"ديما
فوق الخدين/ الورد فاتح لونه متخالف
واين كان
مربي/ غرس بستانه فيه نواور"
وكذلك نجد
بن مسايب في قصيدته أو بالأحرى (زجله) المسمّى (بدر الدجى عسّاس) ، الذي
يغنّى في الطابع الأندلسي او النوبة (رهاوي) على إيقاع (الانصراف)،فإن
المستمع يتصوّر أن هذا (الزجل) هو في الخمرة والغرام،فهو يقول
:
"
بدر الدجى
عسّاس والليل راح
يحلى
الطرب والكاس بين الملاح
قم يا
نديم قم دير الكيوس
فايق من
النوم تجلس جليس"
وهذا النص
هو في الواقع في مدح الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ويعرف القارئ
والمستمع ذلك عند قول الشاعر
:
حبي من
نهواه بدر البدور
سبحان من
علاه فاق كل نور
عزو
الكريم وعطاه زهو الصدور
منو زهات
الناس قطب الفلاح
يحلى
العود والكاس بين الملاح
زهوي
وعشقي فيه سيد البشر
قلبي
مولّع بيه ما لي صبر
في محبته
خلّيه تفنى العمر
من كل
وسواس قلبي ارتاح
يحلى
العود والكاس بين الملاح
نهوى
ظريف القد ظبي الفلا
بالغرة
والخد بدر انجلا
والحاجبين سود دفعوا البلا "(13)
ويدخل بن
مسايب من خلال هذا الزجل في تقاطعات كثيرة مع الزجل الأندلسي الذي يحمل
الطابع الجسدي الدنيوي، غير يزرع فيه مفردات تنبه القارئ والمستمع إلى أنه
لا يحيد عن الرؤية الصوفية، يقول
:
"أبو
عيون شهال غنج الشفر
زاد بهاء
وجمال ذاك القمر
من نوره
طلال بان الفجر
أبيض من
قرطاس بضياه لاح
يحلى
العود والكاس بين الملاح
سيد
الورى المليح ما له مثيل
حسن بديع
سميح باهي جميل
منه ضاء
التصبيح يخجل خجيل
والقد
غصن الياس إذا انفتح" إلى أن يقول
:
يا كاسب
المال ربحو قليل
من تبعو
ينال منو الدليل
قال
مسايب قال خلي الجميل
من يفدي
ذا الناس يوم الفضاح" (14)
قد يظهر
للقارئ أن بعض ألفاظ ومفردات بن مسايب رحمه الله مبالغ فيه. لكن هذه
"المبالغات" قد تكون عبارة عن رد فعل طبيعي لما كان سائدا على مر العصور من
المبالغة الأدبية من طرف الكتاب والشعراء منهم على وجه الخصوص، في الحديث
عن الحب الدنيوي. في حين قد يرى الصوفية، وهم مصيبون في ذلك، أن تلك
المفردات ما ينبغي أن تقال إلا في حق الله تعالى. ومن هنا نقل الصوفية
الكثير من الشعر الفصيح في مجال المدح من الساحة البشرية إلى مدح الذات
الإلهية مثلما فعلوا مع قول أبي فراس الحمداني في مدح سيف الدولة
:
"فليت
الذي بيني وبينك عامر/ وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك
الود يا غاية المنى/ فكل الذي فوق التراب تراب".
إن المبالغة
في توظيف المفردات العشقية فيما يتعلق بالحب الدنيوي جعلت شعراء الصوفية أو
شعراء الملحون عموما ينقلون تلك المبالغات في قصائدهم إلى ساحة الحب الإلهي.
ويلاحظ في
هذا الصدد أن محمّد بن مسايب يقتدي بالشعراء الصوفية الذين ليست لديهم
مشكلة او عقدة من التحدّث عن ( العشق) وهو درجة عالية من المحبّة لله
تعالى، أو الرسول (ص) أو الأولياء والصّالحين. ونلاحظ الأمر نفسه في قصيدة
(هاض الوحش عليّ) التي يتحدث فيها عن الكعبة المشرفة ويقول فيها
:
طال الضر
ولا لي طبيب نتوحش خيال الحبيب
أنا نهوى
غصن الرطيب نيرانو مقديا
باقي
هايم وحدي غريب ما ولاشي ليا
نارو في
القلب راها قدات من تفكار إمام البنات
من
نهواها راها مشات لكن بلا سية
صبر
القلب علي جفات يا عالم الخفيا
نطلبك يا
ربي الحنين راني من ذا العدرا مكين
حبها في
حشايا سكين مكوي كم من كي" (15)
وفي القصيدة
المعنونة في ديوانه "ليك نشكي" والمشهورة أكثر باسم "الوحداني" يمارس بن
مسايب (التوسل) بالنبي وآله والأولياء، ويستعمل العديد من المصطلحات
الصوفية مثل (الذكر) (أهل الله) (باب الله) (السر) (البكاء على الذنب)..كما
هي حال جميع الصوفية.
ويعبر بن
مسايب أيضا عن مدى (عشقه) للرسول (ص) في قصيدته "هاض عني وحش المحبوب" حيث
يقول إن (حبه) و(عشقه) للنبي (ص) و (غرامه) به، وصل به إلى درجة (الجنون )
وهي كلها مصطلحات شائعة الاستعمال عند الصوفية ويضيف إليها مصطلح (الاخوان)
أي (المريدون). ويقول بن مسايب إن من (عرف) و(ذاق) و(جرب) حقا حب الرسول
(ص)، يكثر (همه) و(تشتعل نيران قلبه) في حبه و (يذوب عقله) فيه بل (تذوب
فيه كل جوارحه). فمن كانت (حاله) هكذا سرعان ما يصل به (حبه) إلى درجة
(الجنون) حيث يصير (أسير) ذلك (الحب) كما هي (حال) من يقع أسيرا داخل قلعة
تحيط بها أسوار عالية وعليها حراس أشداء بحيث لا يستطيع منها فرارا. ثم
يتساءل بن مسايب عن المحبين
(من
هم ؟) و(أين هم ؟) لشدة خفائهم. يقول (إنهم يعبدون الله باليقين) وهو (يودهم
بأسراره) لكنهم (لا يبالون بأحد في علاقتهم به وعبادتهم له).
يقول بن
مسايب رحمه الله
:
"هاض
عني وحش الهادي/ يالله بلغ مرادي
تنطفا
نيران كبادي/ محايني جارو
هاض عني
يالخوان/ سيد الكون بن عدنان
يالله
كمل يا رحمان/ قودني لكوثارو
القلب فر
ليه بلا جنحان/ والجوارح طارو
العقل فر
ليه بلا جنحان/ والعيون نهطلو وديان
الغرام
يهدف بالغيوان/ بالعساكر غارو".... إلى أن يقول
:
يالي
جربتو لمحان/ جوارحي طارو
باش تطفا
نار الممحون/ دبرو على هذا المغبون
واين
حالو كيفاش يكون/ من عرف مقدارو
ينقبض
كيف اللي مجنون/ في حصن بسوارو
فاينهم
المحبين/ ما يارهم واحد أواثنين
ما يراهم
طرف العينين/ ليلهم ونهارو
يعبدو
ربي باليقين/ يودهم بسرارو
يعبدو
ربي باليقين/ ما يشوفو للي حيين
منزلهم
أعلى عليين/ روضهم باشجارو (16)
وله أيضا
قصيدة أخرى في مدح الرسول (ص) مطلعها "هاجت بالفكر شواقي" وردت في الصفحة
79 من الديوان يستعمل فيها حشدا من المفردات الصوفية :
(الشوق)
(العشق) (الساقي) (الكاس) (الذوق) (الحب) (المحبوب) (اللقاء) (الوجد)
(التيه) (السياحة) (العهد) (الميثاق) (القلب) (النفس) (الحضرة) (أصحاب
الحضرة) (الرحيق) (الخمر) (السكر) (الهوى) (الطريق) (الحلة) (التحقق) (الوفق)
(الحق) (الاحتقاق)
.
الملاحظة
نفسها يمكن أن نسوقها حول قصيدة "نار الهوى" الواردة في الصفحة 86 من
الديوان والتي نظمها في مدح الرسول (ص) أيضا حيث نجد المفردات التالية :
(الهوى)
(الوصول) (الفراق) (السر) (البوح) (الفيض) (الوجد) (الخمر) (الشراب)
(الحجاب) (الوصال).
وفي هذه
القصيدة (نار الهوى) يستشعر بن مسايب حرية كبيرة في إرادته تقبيل الرسول
(ص) (مرة أخرى) من خده وكأنه فعل ذلك من قبل، بل ويقول (إنه اشتهى ذلك) :
"نار
الهوى لهبت لهيب/ في قلبي ودموعي سياح
لله يا
شمس المغيب/ سلم على سيد الملاح....
بعد
المغيب يا هل ترى/ ياتي زاير من هويت
تقبيله
مرة أخرى/ من هذاك الخد اشتهيت"
ويصفه
بقوله :
"شهل
العيون غنج الشفر/ حمر المراشف والخدود
من حسنه
غار القمر/ والشمس في سعد السعود"
بل إن بن
مسايب لا يجد حرجا في أن يجمع في هذا السياق بين مدح الرسول (ص) والتعبير
عن شوقه إليه وبين التعبير الصوفي الرمزي من خلال الحديث عن (الخمور) و
(الشراب) حيث يقول :
"
نتناولو كاس
الخمور/ من صفوا (كذا ولعلها : من صفوها) طيب الشراب
بين
المنارات والقصور/ عود يصيح مع الرباب
والفجر
راخ الستور/ والفجر بان تحت الحجاب
من
فارقني بُعدو صعيب/ بعد وصالي لا سماح
لله يا
شمس المغيب/ سلم على سيد الملاح".
وبينما يرفض
بعض فقهاء "المدرسة السلفية" والوهابيون عبارات مثل (سيدنا محمد) أو (محمد
عين الوجود) وهي كثيرة الاستعمال عند الصوفية، نجد بن مسايب في قصيدة
"الحرم يا رسول الله" الواردة في الصفحة 91 من الديوان يقول :
"الصلاة
على الرسول الهادي/ عين الوجود محمدي
تاج
الرسل سيد سيادي/ سيدي وسيد خلق الله
مداح
نمدحك بنشادي/ حتى نصير نلقى الله".
وتشيع
المفردات الصوفية أيضا في قصيدة "يا الورشان" الواردة ص 97 من الديوان :
(الوالي)
( القطب) (أهل الله) (الصلاح) أي الصالحون (أهل التصريف) (القبة) (الوعدة)
(البركة) أي بركة الأولياء (كيسان الراح) (الخمور) (باب الله) (المخمر)
(الزيارة) أي زيارة الأولياء (الباطن) (الفراق) (الشوق) (الهوى) (الذوق) (الشاوش)
(الكسوة) (الفقرا) (الحجاب) (الدليل) بمعنى الهادي أو القائد (المسعود) من
السعد (الأسرار) (الكتمان).
الأمر نفسه
نجده في قصيدة "هاج غرامك" و "أبوعلام" الواردتان على التوالي ص 104 و 106
من الديوان واللتان خصصهما بن مسايب لمدح سيدي عبد القادر الجيلاني. ففي
القصيدة الأولى نجد المفردات التالية
:
(الغوث)
(العارف بالله) (سلطان الاولياء) (الحال) (الصلاح).
وفي القصيدة
الثانية نجد المفردات التالية
:
(الفناء)
(البحر) (الزيارة) (الخمر) (الكاس) (سقاني) (الشرب) (الحال) (المقام)
(العلام) أي السنجاق.
في هذه
القصيدة يوظف بن مسايب الأسلوب نفسه الذي وظفه في مدح الرسول (ص) من حيث
الجرأة في الطرح وتحريك الأسلوب الغرامي في التعبير حيث يقول
:
"نبات
أنا فوق مطارح/ مبسوط حالي ديما فارح
واربايبها تتصايح/ شبابات والاغاني
حتى
خمرنا بحرو سابح/ بيده الكاس سقاني
الخمر من
الشفة حبيته/ وفي الخاطر تمنيته
ممن
بعيني ريته/ ما ملكت صبر راني
كاس
مدامي مليته/ وشربت ما رواني"
ويطلب بن
مسايب من سيدي عبد القادر (أن يساعده حتى يراه) ومعروف أن مسألة اللقاء
والاجتماع بالأولياء والصالحين والأخذ عنهم بعد موتهم، لا توجد إلا عند
الصوفية، حيث يقول الشاعر مخاطبا سيدي عبد القادر:
"ساعدني
حتى نراك/ نضحى فرحان وزاهر
قادر
رافع الافلاك/ يغفر حتى للكافر
يا سلطان
الاوليا/ يا جبار المكسور
يا دمار
الخزيا/ خبرك شايع مذكور".
وفي قصيدة
"يا اهل الله" ص 109 من الديوان، وهي قصيدة مطولة تضم 113 بيتا نظمها في
مدح الأولياء والصالحين، يوظف بن مسايب المفردات والعبارات الصوفية التالية :
(الغوث)
(أهل الله) (البركة) (أهل الله) (بركة أهل الله) (التصريف) (أهل التصريف)
(القطب) (الأغيار) (الحضور) أي حضور الولي (البحر) أي بحر الولي (العهد)
(الكمال) (السر) (صاحب السر) (الخمار) (التصوف) (أهل التصوف) (أولياء الله)
(الأسياد) (أولياء الله الأسياد) (الزيارة) (الزيار) أي الزوار (القطب)
(المغيث) أي الولي (الحكمة) (البرهان) (صاحب البرهان) (الشريف) (صاحب
الحكمة والبرهان) (صاحب الحكمة والبركة) (السر) (الكتمان) (الكاتم سره)
(المقام) (الكاس) (الشرب) (الذوق) (أهل الذوق) (الحال) (أهل الحال) (أهل
الحال والاحوال) (التوسل) (الوصال) (العارف).
و في هذه
القصيدة المطولة، يظهر تبحّر محمّد بن مسايب في معرفة الاولياء والصالحين
من الصوفية حيث يذكرهم بأسمائهم وصفاتهم وهذه قائمة أسمائهم على الترتيب
الذي جاء في القصيدة:
سيدي عبد
الله، سيدي التهامي الحسني (سبطه)، سيدي عبد القادر الجيلاني، القطب أبو
عزة، سيدي أبو العباس، سبعة رجال، سيدي محمد بن عيسى، سيدي المحجوب، سيدي
أحمد السوسي، سيدي المجدوب، سيدي بوجيدة، سيدي الشاوي، سيدي بالحرازم، سيدي
البرناوي، سيدي عبد الحق (وأخوه الذي لم يذكر اسمه)، سيدي بلقاضي، سيدي
الخمار، سيدي بو شتا، سيدي معزوز، سيدي أحمد الخرشوش، سيدي عزوز، سيدي بن
بوزيان، سيدي الفضيل، سيدي عبد الرحمان، سيدي الجيدار، سيدي وهاب، سيدي
يعقوب، سيدي أحمد بن ناصر، سيدي بن يحيى، سيدي الرصاع، سيدي يوسف، سيدي
الحسن بن مخلوف، سيدي موسى، سيدي بن زينة، سيدي الحباك، سيدي أحمد بن بنة،
سيدي الحلوي، سيدي سعيد البوزيدي، سيدي همان بن مرزوق (يقول : الحفيد
وجده)، سيدي حدوش، سيدي بن دريس، سيدي المريني، سيدي بوجمعة، سيدي الحاج
العشري، سيدي السنوسي، سيدي ابن المقري، سيدي أحمد بن زكري، سيدي المغيلي،
سيدي الشيبلي (أو الشبيلي)، سيدي بومدين، سيدي أو العلا، سيدي عياد، الإمام
علي (ويذكر معه ابن أخيه الذي لا يسميه)، سيدي ابراهيم النعار، سيدي
التميمي، سيدي بن العطار، سيدي أبو إسحاق الطيار، سيدي الحوثي بن منصور،
سيدي محمد بن علي، سيدي الهواري، سيدي عثمان، سيدي بلقاسم (الوالي مولى
مزغران)، سيدي حمودة (خويا حمو)، سيدي عابد، سيدي عيسى بن داود، سيدي امحمد
بن عودة، سيدي معروف أويس، سيدي أحمد بن ناصر، سيدي أحمد بن يوسف، سيدي
أحمد (مولى صاكة)، سيدي علي مبارك (دفين القليعة)، سيدي عبد الرحمن
الثعالبي، سيدي منصور الشريف، المغراوي، سيدي بن سليمان، سيدي بدر الدين،
سيدي العروسي، سيدي علي الفاضل، سيدي بن يونس، أبو يزيد البسطامي (القطب
أبا يزيد)، سيدي الباجي، سيدي الزروق، سيدي أحمد البدراوي، ابن عرفة
(الفقيه المالكي)، التتائي (الفقيه المالكي)، سيدي خليل (بن إسحاق بن موسى
الفقيه المالكي صاحب المختصر الشهير)، مسلم (صاحب الصحيح)، البخاري (صاحب
الصحيح)، أبو أيوب الأنصاري (الصحابي)، الأنصار، المهاجرون، أبو بكر رضي
الله عنه، عمر رضي الله عنه، عثمان رضي الله عنه، أهل بدر رضي الله عنهم،
أصحاب البيعات (من الصحابة رضي الله عنهم)، حمزة بن عبد المطلب رضي الله
عنه، العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ويختم بعلي بن أبي طالب كرم الله
وجه ورضي الله عنه وبأولاده وأهله.
وفي هذه
القصيدة أيضا يتحدث بن مسايب عن (الشرفة) وهم المنتسبون لآل البيت رضي الله
عنهم وهم عترة النبي عليه الصلاة والسلام، مذكرا بخصوصيتهم من جهة قرابتهم
من النبي (ص) وما خصهم الله تعالى به من الآيات الكريمة حيث قال عز من قائل
في سورة الأحزاب : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا). وكذلك مئات وربما آلاف النصوص الواردة بحقهم في السنة النبوية
الشريفة. وفي هذا السياق يذكر بن مسايب كلما دعت الحاجة إلى ذلك، بهذه
الخصوصية التي للأشراف المنتسبين لآل البيت الذين يسميهم (أهل الفرع الأصلي
من اولاد محمد وعلي) ويقول
:
"واين
أهل الفرع الأصلي/ من اولاد محمد وعلي...
واين
سعيد البوزيدي/ الشريف الخاذي بيدي
نمدحه
سيدي بن سيدي/ ونزيد جميع ألي مدحوه...
أهل جندل
وابن علال/ الشريف الوافي عهده...
واين هو
سيدي منصور/ الشريف التاقي المشهور
من عظم
في أهل الجمهور/ وعظم في مزغنة حرمه...
واين
البطل شديد الباس/ حيدرة واولاده واهله
بهم سألت
رسول الله/ يوصل لي اليوم نراه."
وفي هذه
القصيدة أيضا يتحدث بن مسايب عن كرامات الأولياء بأسلوب يوحي لقارئ أن
الشاعر يؤمن بها إيمانا عميقا حيث يقول
:
واين
الحوثي بن منصور/ صاحب البرهان المذكور
المسلك
من هو ميصور/ في يد الاعدا بعد ان قبضوه
قل ذا
الساعة من يقصد/ بن علي سيدي محمد
من دخل
حماه وسند/ يتحرر الله ضمنه
شاهدت له
الناس البرهان/ وانشهر خبره واضح بان
شاعت
اخبارو في البلدان/ قال (ولعلها : قالو) لو صبنا نزوروه
كل من
زارو ياسادات/ ما يروح بلاشي هيهات...
واين
سيدي احمد بن ناصر/ صاحب البرهان الظاهر
من قطع
الواد ثم جر/ والحجار والدفلى تبعوه
واين
سيدي احمد بن يوسف/ أهل زكار وبنو يخلف
واين من
بيده غلب وعف/ وعتق جميع ألي ظلموه...
واين
أحمد مولى صاكة/ صاحب الحكمة والبراكة
من دخل
مقامه وشكى/ يرغب الله يرفع ضره...
واين
همان أهل الخطوات/ من مشى فوق الما بثبات".
وفي مقام
التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين يقول بن مسايب في القصيدة نفسها :
وايت أهل
التقى والدين/ كلهم الموتى والحيين
من توسل
بهم في الحين/ ينجى وينجبر كسره...
واين أهل
وطن متيجي/ فيهم انا راني نرجى
علي
المبارك يقضي الحاجة/ لكل من مشاو وقصدوه...
من يتوسل
بالأنبياء/ والرسل مع الأوليا
حاجته
يبشر مقضية/ إذا عملها حقه يرضوه
من يتوسل
بهم ينال/ فرح وهنا حتى الوصال
ينتقل من
حال إلى حال/ لله الحمد على وفقه
من يتوسل
بهم تحقيق/ يطلب من الله التوفيق
يسلكه من
الشدة والضيق/ يسبل عليه الله ستره".
ويتضح من
قوله "من يتوسل بهم تحقيق/ يطلب من الله التوفيق" أن بن مسايب يفهم جيدا
الإطار الذي ترد فيه مسألة التوسل، وأن التوسل ليس واردا في باب الاعتقاد
بانفراد الأنبياء أوالأولياء بالقدرة أو القوة من دون الله تعالى، بل هو
وارد من باب أن الله تعالى يكرم أنبياءه وأولياءه وخاصته باستجابة دعاء من
يتوسل بجاههم. وذلك مشروع ووارد في حديث عثمان بن حنيف في صحيح مسلم. وفي
هذا السياق يشير بن مسايب إلى أن التوسل ليس أن تقول (يا رسول الله أعطني
كذا) بل أن تقول (اللهم إني أسألك كذا بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم
أو بجاه وليك الصالح فلان) وهذا أمر مشروع لا غبار عليه. بل إن التوسل جائز
أيضا عند جماهير الفقهاء والمحدثين بأسماء الله الحسنى وبصالح الأعمال كما
هو وارد في الحديث الصحيح الذي يروي قصة الثلاثة الذين دخلوا كهفا فانغلق
عليهم بابه فلم ينجهم من ذلك الموقف سوى الدعاء والتوسل إلى الله بصالح
أعمالهم. وقد حقق الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي هذه المسألة في
كتابه "فقه السيرة" فليراجع.
ـ الخلاصة
من خلال ما
سبق، يتبين مدى تأثير التصوف عموما والطرق الصوفية خصوصا، على الشعر
الشعبي (أو الملحون) وعلى الخصوص على الشاعر الشيخ محمد بن مسايب.
وبعد، فإن
البحث في هذا الجانب في الجانب الصوفي من إنتاج الشاعر محمد بن مسايب يبقى
في بداياته الأولى بسبب قلة المصادر والمراجع، وقبل ذلك بسبب عدم تدوين كل
المادة الشعرية الخام المتعلقة بهذا الموضوع.
الهوامش
1ـ
الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت :
دار الكتب العلمية،2001)، ص 09-10.
2
ـ
السابق، ص20.
3 -
سعد الله
(أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1،
1998)، 1 / 187
4
ـ
السابق، 2/438.
5
ـ
السابق، 2/439.
6
ـ السابق.
7ـ
السابق، 2/440
8ـ
السابق،2 /442
9
ـ حشلاف
(الحاج محمد الحبيب): الجفر في الشعر الشعبي الملحون المغاربي،
(الجزائر،الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة،2004)،ص 09.
10-
بخوشة
(محمد) : كتاب الحب والمحبوب، تلمسان، دار ابن خلدون، 2004 )، ص ص 20 – 21
.
هـ)، ص 70.
بجمع وتحقيق
12ـ
السابق، ص69.
13ـ
السابق، ص 70-71.
14 –
السابق،
ص 72
.
15 -
السابق،
ص 73 – 74
.
16 -
السابق،
ص 75 – 76
.
مراجع
البحث :
1ـ
الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت :
دار الكتب العلمية،2001).
2
ـ
القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت:
دار الكتاب العربي،بدون تاريخ).
3
ـ الحفني
(عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة، 1980).
4
ـ سعد
الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي،
ط1، 1998).
5
ـ حشلاف
(الحاج محمد الحبيب): الجفر في الشعر الشعبي الملحون المغاربي،
(الجزائر،الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة،2004
).
6
ـ
ابن مسايب، (أبو عبد الله محمّد بن أحمد):الديوان، (تلمسان: مطبعة بن
خلدون،1370 هـ).
07-
بخوشة
(محمد) : كتاب الحب والمحبوب، ( تلمسان : دار ابن خلدون، 2004
).
أضيفت في
10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات
صوفية)
الشعر الصوفي
المقدمة
يمثل الأدب الصوفي لونا من ألوان الأدب الرفيع يحمل في طياته أسمى
معاني وخصائص السمو الروحي. والشعر الصوفي نوع جديد قديم من أنواع الأدب
الفني الذي عرفته المجتمعات الإسلامية في العصور المختلفة
أما كلمة صوفي، فيردها بعض الصوفيين إلى كلمة "الصوف" كمرجعية بسيطة
تناسب نسبتها اللغوية أو للبسهم إياه. لكن نسبتها إلى الكلمة اليونانية
"صوفيا"
Sophia التي تعني "الحكمة" يبدو أقرب إلى الصواب، بل إلى المنطق الصوفي
ذاته. فلقب "الصوفي" الذي أطلق أوّل ما أطلق على أبي هاشم الكوفي، المتوفى
عام 150ه/768م، ربما كان يقصد به الحكيم؛ وباعتبار أن الصوفية العربية أخذت
بمبدأ الاتحاد والحلول، كان من المرجح أن يجعل مريدوها من صوف الماعز محلاً
حسياً لدلالتها المعنوية للتقارب اللفظي بينهما، بما يفسر لبسهم للصوف في
مراحلهم المبكرة أكثر من أي سبب آخر. ومع ذلك ينبغي عدم إغفال الأسباب
المقاربة مثلاً بين صوف الكبش والتضحية بالنفس، وخاصة عند الصوفية المحاربة
.
هذا التوقف الشكلاني لاشتقاق مصطلح الصوفية قد يماثله الإشارة إلى
تاريخها الممتد منذ ما يزيد على ألف عام (منذ سنة 100 للهجرة تقريباً )؛
وهو تاريخ كاف ليماثل شعريَّتها مع الشعر المكتوب خلال هذا الزمن المديد
تأثُّراً ومحاكاة تقليدية لمختلف اتجاهاته وأغراضه، بما يفقِد المصطلح
دلالته الشعرية، محيلاً إياه إلى مجرد أسلوب ترميزي، له دوافعه الوقائية،
احتراساً من أعداء الصوفية أن يطَّلعوا على أسرارها، أو له أسبابه
الإبداعية، كالقول بقصور اللغة عن استيعاب المعاني العلوية والمجردة. غير
أن أياً من المسوِّغَيْن لا يقدِّم فهماً للشعرية الصوفية باعتبارها رؤية
للوجود أساساً، كان لها تعبيرها المتباين بين تجربة وأخرى، أو بين شاعر
وآخر .
الشعرية الصوفية
ترى الصوفية أن الكون على ثلاث مراتب: "علوية، وهي المعقولات، وهي
مرتبة للمعاني المجردة عن المواد التي من شأنها أن تدرك بالعقول. وسفلية،
وهي المحسوسات، من شأنها أن تدرك بالحواس. وبرزخية، ومن شأنها أن تدرك
بالعقل والحواس، وهي المتخيَّلات، وهي تشكل المعاني في الصور المحسوسة."
وأيّ مريد للصوفية سوف يجاهد للسموّ من العالم السفلي المحسوس إلى العالم
العلوي المعنوي بهدف المكاشفة والمشاهدة فالاتحاد بالذات الإلهية الكبرى.
لكن ذلك نادراً ما يتم إلا عن طريق عالم البرزخ الذي هو تركيب من العالمين
الحسي والمعنوي، وهو عالم شبيه بالحلم ما دام يعيشه الصوفي ذاتياً، أو
وفقاً لمقامه الذي استطاع الوصول إليه.
بعبارات أخرى، إن الصوفية لا تتحقق من خلال هذا العالم المحسوس أو
وفقاً لقوانينه الطبيعية، وإنما يبدأ وجودها مع عالم البرزخ الخيالي،
وصولاً إلى العالم المعنوي. وهي، بتبنِّيها لمبدأ الرياضة والمجاهدة، غير
متماثلة عند جميع الصوفيين، بل إنها، حين تؤكِّد على وجود موضوعي للعالم
الخيالي وللعالم المعنوي، فإنها تؤكد من جهة أخرى على ذاتية مريديها في
رؤيتهم للكون، وعلى تمايز طرائقهم في ذلك.
تأسيساً على هذه الرؤية وحدها يمكن مقاربة الشعرية الصوفية على أنها
تجربة ذهنية قد تسبقها أو ترافقها تجربة جسدية ليس غايتها التعبير عن
المحسوس بأية طريقة، وإنما على النقيض من ذلك – أو على الأقل ليس غايتها
سوى تهيئة النفس للدخول إلى عالم الخيال الحقيقي. وهكذا لا يكون الشعر
"صوفياً" إلا حين صدوره عن مرتبتي البرزخ والمعاني المجرّدة، أو عن التجربة
المفضية إليهما. وبهذا سوف تفترق الصوفية العربية، كمصطلح، عن مرجعيَّتها
اليونانية، فلا يكون للحكمة أو للزهد أو للحب أو لأيّ موضوع آخر صلة جوهرية
بها حتَّى ولو قالها المتصوفون أنفسهم. بل إن في أدبيات الصوفية وأقوالها
ما يميز بين ما هو صوفي وما هو غير ذلك، حتى في الأشعار الصادرة عن مرتبة
الخيال أو البرزخ. بل إن ابن عربي جعل من هذا التمييز سبباً من أسباب
الرياضة والمجاهدة. لذلك لن يكون إغفال الحديث عن الموضوعات الصوفية
وتقاطعاتها مع الموضوعات العامة تقليلاً من أهميتها بقدر ما هو محاولة
لإبراز سمات الشعرية الصوفية المميِّزة لها عن جماليات الشعر العربي
المعروفة، علماً أن الصوفية اتكأت على هذا الشعر إلى أقصى حدّ ممكن.
ثم إن القول بتماهي الشعرية الصوفية ورؤيتها لا يعني بالضرورة أن كل
من تبنَّى هذه الرؤية هو شاعر لذلك. فليس كل الصوفيين شعراء، وليس كل
الشعراء الصوفيين على مستوى متماثل في الإبداع والموهبة. ومادامت غاية هذا
البحث هي شعرية في كافة المعايير المطروحة فيه، فإن ما يهمُّه منها سوف
يتعلق بمدى الإبداع الذي حققه الشعراء بكونهم صوفيين، وليس بكونهم شعراء
وحسب. وفي واقع الحال أنه كلما كان الشاعر مبدعاً وصاحب موهبة، استطاع أن
يتمثل الرؤية الصوفية إبداعياً، مع ملاحظة أن عكس ذلك ليس صحيحاً دائماً.
فهذا الحلاج مثلاً هو أحد أعلام الصوفية الكبار على مرّ العصور، لكنّ نتاجه
الشعري، إضافة إلى قلته، لا يشكِّل قيمة إبداعية توازي تجربته الوجودية
والفكرية. بينما للنفَّري، مثلاً، شأن إبداعي آخر لا يقل عن منزلته الصوفية
عند مريديه. لكن هذا الرأي المسبق قد لا توضحه تماماً إلا دراسة إجمالية
للشعر الصوفي كله.
التقليد والتجاوز
إذا كان من المتعارف عليه أن الشعرية الصوفية لا تطرح نظرية جمالية
لما هو الشعر وكيف ينبغي أن يكون، مادامت لا تولي أيّة أهميّة لفنّيته،
فذلك لأنّها – كما سبق القول – فيض عن رؤية وجودية للكون أكثر مما هي رغبة
بإبداع شعرية جديدة – وإن ستبدعها فعلاً. وإذا كانت بهذا المعنى تشكل قطيعة
رؤيوية مع الشعرية العربية في سموِّها عن الواقع الحسي، واتخاذها لعالم
الخيال منطلقاً لها، غير أنها لم تفعل ذلك دائماً على صعيد الكتابة
الإبداعية. فأن يكون عالم الخيال هذا برزخاً بين ما هو حسِّي وما هو معنوي
قد لا يعني عند معظم الشعراء الصوفيين سوى تحميل الأشعار الحسية دلالات
معنوية قد لا تؤثر في خيال الشاعر ولا في صياغته الفنية لا من قريب ولا من
بعيد. بل إن الكثير من أشعارها ليس أكثر من اقتباسات ومحاكاة شبه حرفية
لأشعار الآخرين، ومن غير أية خصوصية فنية تذكر:
هل نارُ ليلى بدتْ يوماً بذي سلمِ أم بارقٌ لاح في الزوراء فالعلم
من المفترض أن يكون هذا البيت صادراً عن مرتبة البرزخ، كونه يجمع
بين ما هو حسي، وهو الظاهر من الكلام، وما هو معنوي، وهو الباطن المفترض.
لكن صياغته الفنية ليست أكثر من محاكاة تقليدية للشعر الجاهلي. فهو يذكِّر
بمطلع معلقة عنترة إيقاعاً ووزناً وقافية، وهو يذكّر باحتفاء الشعر الجاهلي
بذكر الأمكنة ولاسيما الوقوف على أطلالها – مطلع معلقة امرئ القيس مثلاً.
أما الظاهر من معنى هذا البيت فلا يتجاوز رغبة الشاعر بدعوة ليلى له إما في
موضوع ذي سلم أو في موضعي الزوراء والعلم. وأما المعنى الباطني فهو ليس
أكثر من تحميل دلالي لألفاظه؛ فتكون ليلى هي الذات الإلهية، والنار والبرق
إحدى تجلِّياتها. ومن الملاحَظ أن هذا التحميل لم يغيِّر في بنية البيت
الفنية، فبقي على حاله تقليداً ومحاكاة للشعر الجاهلي.
لكن الشعر الصوفي في زمنه الإبداعي هو امتداد للشعر المحدث، حتى إن
هناك من يعتبر أبرز أعلامه من أمثال أبي نواس وأبي تمام والمتنبي من أتباع
المذاهب الباطنية المتوافقة إلى حد كبير في أفكارها مع الأفكار الصوفية.
وإذا كان الشعر المحدث يماثل في فنِّيته مرتبة البرزخ على أساس أن صوره
غالباً ما تقوم على بنية تجمع بين الحسي والمعنوي، فإن ما ينبغي ملاحظته أن
الشعر المحدث، حتى في صوره المتخيَّلة، هو في مجمله من هذا العالم، وغالباً
ما يعود بدلالاته إليه؛ بينما الشعر الصوفي حتى في اتِّكائه على الشعر
المحسوس هو متعالٍ مادام يصدر عن مرتبة أعلى من مرتبة العالم المحسوس الذي
يعيشه البشر والطبيعة. وهذا التعالي ربما كان افتراضياً، لكن الشعراء
الصوفيين استطاعوا من خلاله أن يشكِّلوا ما يشبه المنظومة الفنيّة داخل
الشعر المحدث ذاته، وذلك على الرغم من تأثرهم به وتقليدهم له:
وأرضعني ثديَ الوجود تحقّقاً فما أنا مفطومٌ ولا أنا راضعُ
إن "ثدي الوجود" تركيب لا يُلمَح له شبيه، لا في الغزل العذري ولا
في الغزل الماجن؛ إنه يدل على شبقيَّة يستطيع علم النفس الحديث أن يظهر من
خلالها عقدة أوديبية صريحة، لولا أنه تركيب صادر عن التجربة الصوفية وحدها.
فهو يحيل ببساطة إلى حديث للرسول يشبِّه فيه العلم باللبن.
وإلى ذلك، سوف تبرز خصائص الصوفية في الشعر الموزون من خلال هذه
المنظومة الفنية بشكل أوضح حين تفعيلها للتجربة الذهنية بما لا سابق له في
الشعر العربي، وخاصة حين صدوره عن مرتبة المعقولات والاتحاد بالذات الكبرى.
غير أنه ينبغي عدم التفاؤل كثيراً؛ فمع أن هذا الشعر أنتج الكثير من
الإلماحات غير المألوفة في العقلية العربية، إلا أنه لم يستطع، في معظم
نتاجه، أن يرتقي إلى مصاف التجريد المقبول فنياً:
كلماتٌ من غير شكل ولا نطق ولا مثل نغمة الأصواتِ
فكأنّي مخاطباً كنتُ إيّاهُ على خاطري بذاتي لذاتي
ظاهرٌ، باطنٌ، قريبٌ، بعيدٌ، وهو لم تحوهِ رسومُ الصفاتِ
هو أدنى من الضمير إلى الوهم وأخفى من لائح الخطراتِ
إنّ الشاعر في صدوره عن مرتبة المعقولات يحاول أن ينزِّه الله عن أي
ملمح حسّي. إنه ينقل بدقة موضوعية ماهية الموصوف وتأثيره عليه. لكن التجريد
حين يأتي سوف يأتي من كون الموصوف هو معنويّ بذاته وليس نتاجاً لصياغة
فنية. وربما من أجل هذا لا تقدم إشراقات الصوفية أية كشوف فنية؛ فهي، في
معظمها، محاكامات وشروحات لما هي عليه هذه المرتبة بما يفقدها الكثير من
المقومات الشعرية. وليس الشطح الصوفي، ولاسيما المنظوم منه، ببعيد عن ذلك؛
إذ إن الشاعر حين وصوله إلى مرتبة الاتحاد لا يفعل أكثر من الاحتفاء بذاته
وغنائها:
أنا مَنْ أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
فهذا الغناء، لطبيعته الحلولية، يحيل إلى الشاعر ذاته، فتبقى بذلك
لحظة الكشف غائبة، بل من المستحيل معاينتها مادام أن ما يراد كشفُه هو
معنوي ومجرَّد في ذاته أيضاً. وربما أقصى ما استطاعت أن تبدعه الصوفية في
تكوينها لمرجعيَّتها الرؤيوية هو الإبداع من داخل منظومتها المستعارة من
الشعرية المنجزة، بعد تجريدها ذهنياً، وإدخالها في منظومة الدلالات الصوفية
المتفق عليها مسبقاً:
أباحتْ دمي إذ باح قلبي بحبِّها وحلَّ لها في حكمها ما استحلّتِ
وما كنت ممَّن يظهِر السرّ إنما عروس هواها في ضميري تجلَّتِ
فألقت على سرِّي أشعة نورها فلاحتْ لجلاسي خفايا طويَّتي
ومن عجبٍ أن الذين أحبهم وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنَّة
سقوني وقالوا: لا تغنِّ ولو سقوا جبال حنينٍ ما سقوني لغنّتِ
إن تركيب "عروس هواها" لا يمكن أن يخطر على بال المتأمِّل فيما هو
حسي أو برزخي، ذلك أنه نتاج معرفي محض. فالضمير "ها"، صحيح أنه يعود إلى
الخمرة، لكن من غير المتعارف عليه أن تكون المحبة بتأثيرها، وإنما يكون
للحبيبة تأثير يشبه تأثير الخمرة المسكر. ولولا تماهي دلالة الخمرة بدلالة
المعرفة في ذهنية هذا الشاعر لما توصل إلى إبداع مثل هذا التركيب. بل إن
الأبيات كلَّها تنشئ علاقة بنيوية بين العالمين الحسي والمعنوي يكون فيها
الأول تابعاً للثاني على غير ما هي الحال عادة.
التجديد والريادة
بعد ذلك يبدو أن السبل المنجزة قد ضاقت بالشعرية الصوفية. فهي حتى
الآن قد أقامت رؤيتها الوجودية في جانب واستعارت رؤيتها الفنية من جانب
آخر. لذلك كان جديراً بها أن تعمل أكثر من أية حركة شعرية أخرى على خلخلة
جماليات الشعرية العربية ومفاهيمها، فطرحت مسألة العروض على طاولة البحث،
وقامت جدياً بالخروج عن منظومة الأوزان الخليلية عبر تكسيرها ورفض الالتزام
التام بقوانينها. وكانت حجَّتها في ذلك – كما هي دائماً – التسامي عن أي
توجُّه فني لإبداعها:
شعرُنا هذا بلا قافية إنما قصدي منه حرف ها
غرضي لفظةُ ها من أجلها لست أهوى البيع إلا ها وها
فمع أن الشاعر يكتب هذا الشعر موزوناً ومقفَّى، إلا أنه يخلع
القداسة عنهما ليطرح إمكانية الإبداع من غير قافية. وربما لم يكن التزامه
بها، أو بالشعر الموزون عامة، إلا لشغفه الغنائي بالذات المطلقة، بما يجعله
يكرِّر حرف الهاء الدال عليها. لكن كل هذا التبرُّم من الأوزان والقوافي تم
فعلاً بعيداً عن الصوفية ورؤيتها. وإنما جاء هذا التمهيد للتأكيد على أن
الشعراء الصوفيين لم يتخذوا مواقفهم الجمالية من الشعر السابق لهم
اعتباطياً ومن غير دراية به؛ وليؤكد أيضاً على أنهم طالما عملوا على ابتكار
شعرية جديدة تنسجم مع رؤيتهم إلى الكون، بما يفارق الشعرية القديمة تماماً.
وربما لم يصل هذا العمل إلى مبتغاه من التحقق والانسجام إلا حين
تخلى الشعراء الصوفيين عن الشعر الموزون جملة وتفصيلاً، لأنهم بذلك بدؤوا
مرحلة جديدة من الإبداع ربما لم تعرفها الشعرية العالمية من قبل. ومن هنا
قد يكون غياب المصطلح النقدي، أو عجزه عن توصيف شعرية تلك المرحلة في حينه،
دلالة على أصالة هذا العمل وابتكاره. فالشعر النثري أو قصيدة النثر أبداً
لم تكن غريبة عن الشعرية العربية، وأي منصف لهذه الشعرية لابد أن يعود إلى
الشعر الصوفي ليتحقق من أنها إحدى إنجازاته.
غير أن القول لا ينبغي أن يذهب بعيداً جداً، ولا ينبغي له، في الوقت
نفسه، أن يقلِّل من أهمية الريادة الصوفية. بل إن هذه الريادة هي ما يدعو
للتريث في إطلاق التوصيف، يدعو للتريث وحسب. فالنقد مطمئن لإنجاز لا يدعو
للشك في شعريَّته النثرية. إنّ مواقف النفّري ومخاطباته كافيتان وحدهما
لمثل ذلك.
لكن مواقف النِّفَّري ومخاطباته، وحتى شطحات البسطامي والشبلي، هي
عناوين دلالية، موضوعاتية، وليست توصيفات نوعية لأشكالها. لذلك، ومثلما
يحاول هذا البحث أن يردّ للصوفية ما لها من ريادة في إبداع قصيدة النثر،
يجب الاعتراف، في المقابل، أن مصطلح "قصيدة النثر" هذا هو إبداع فرنسي. لكن
مثلما أن إبداع المصطلح لا يعني إبداع القصيدة، فإن ما ينبغي اكتشافه أو
إعادة الاعتبار إليه في الشعرية الصوفية ليس لبنة أولى، أو شيئاً يشبه
قصيدة النثر، بل هو قصيدة النثر ذاتها. إضافة إلى ذلك، لا يلزِم الاعتراف
بأسبقيَّة إبداع المصطلح على الأخذ بمضمونه مادام قد صار للنقد العربي رأي
في ماهية قصيدة النثر وتعريفها على أنها كل شعر خال من الوزن والقافية. لكن
الانطلاق من هذا التعريف قد لا يكفي بمفرده هنا للتمييز بين ما هو شعري، في
تلك العناوين، وما هو نثري لا قيمة إبداعية أو شعرية له. وربما إشكالية
التمييز هذه أكثر ما تبرز في النصوص "الشطحية"، أو فيما يرد تحت اسمها.
فالشطح في صدوره عن مرتبة الاتحاد سوف يقال بشكل ارتجالي، لاإرادي، ويكون
تعبيره، في هذه الحالة، منظوماً غالباً، كقول الحلاّج السابق. لكن معظم
شطحات البسطامي، مثلاً، مرويَّة بطريقة نثرية، وهذه الرواية النثرية قد لا
تقلل من شعرية الشطح بقدر ما تدل على نوعيَّتها كقصيدة نثر؛ إذ إن هذه
القصيدة لم تُسَمَّ كذلك لتخلِّيها عن الوزن والقافية فقط، وإنما لاشتراكها
مع الأنواع النثرية الأخرى في أشكالها الخارجية أيضاً، لكن بما لا يخلّ
بشعريَّتها وبنيتها كقصيدة - الشيء الذي سوف تدل عليه النصوص الإبداعية،
وإنْ على نحو متباين:
رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن
يروك. فقلت: زيِّني بوحدانيَّتك، وألبسني أنانيَّتك، وارفعني إلى أحديَّتك،
حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك. فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك.
قد يكون هذا النص متكاملاً كبنية شكلية، وهو كفعل ودلالة يمثل
انقطاعاً عن المعقول في الذهنية العربية. غير أنه لا يستطيع مع ذلك أن يبدع
فسحة شعرية إلا من خلال مستوى الصدق والكذب الذي تحقِّقه التراكيب المحدثة.
وهذا المستوى ضيق جداّ بحيث لا يعتدُّ به في شعرية القول وفنِّيته، مادام
لا يخرج عن كونه تقريراً إخبارياً يشرح أبو يزيد من خلاله كيف يرغب بلقاء
خلق الله؛ وهو شرح محدّد في دلالته، وحياديّ في بيانه، بلا مشاعر، وبلا
إلماح. إنه يبيِّن كيف يكون الاتحاد، ولكنه لا يصل إلى مرتبة الشطح حيث
القول صادر عن وجد ومعاناة يمكِّنانه من أن يكون شعرياً. لكن حتّى في مثل
هذا البناء الإخباري يمكن أن يحضر الشعر، ولاسيما إذا ما توفّرت له
المقومات التي تحرِّره من حدوده وإخباريَّته، كما هي الحال في هذه القصيدة
التي تبدو وكأنها استكمال للنص السابق:
أول ما صرت إلى وحدانيَّته، صرت طيراً، جسمه من الأحديَّة، وجناحاه
من الديمومة. فلم أزل أطير في هواء الكيفيَّة عشر سنين، حتى صرت إلى هواء
مثل ذلك مئة ألف مرة. فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزليَّة، فرأيت
فيها شجرة الأحديَّة… فنظرت، فعلمت أن هذا كلُّه خدعة.
إن شعرية هذه القصيدة تقوم على تحقق الفعل ونفيه في الوقت نفسه، بما
يشبه الحلم واليقظة. وهذا التشابه يُخرِج دلالات القصيدة من إخباريَّتها
المحضة إلى فسحة الإلماح والتخمين. وقد يبدو تركيبها السردي مماثلاً للشعر
المحدث في تجسيده لما هو معنوي ومجرد؛ فعبارات "هواء الكيفيَّة"، "ميدان
الأزليَّة"، "شجرة الأحديَّة"، لا تختلف عن "ماء الملام" لأبي تمام إلا
دلالياً. وكذلك بنية هذا السرد الحكائية هي متداولة حتى في الكلام العادي،
مع أنها تنقل عالماً غير محدَّد المعالم. إنه عالم البرزخ الذي لا يمكن
استعارته مادام خارج هذا الكون؛ فهو برزخ من عالم المعقولات العلوية ولا
ينتمي لمرتبة البرزخ البشرية. لذلك، وعلى الرغم من صحة التوصيف الفني
لتراكيبه بتماثلها مع الشعر المحدث، غير أنها لا تُفهَم من خلاله. ذلك أن
هذه القصيدة لا تقدم تجربة فنية قاصدة جماليَّاتها، وإنما هي منقولة عن
تجربة ذاتية هي تجربة شعرية في معيار الكتابة، أي بسبب كتابتها. إذا لا
وجود للشعر بلا شعراء، ولا وجود للشعراء بلا قصائد، بمعنى أن دلالة قصائد
البسطامي على شعريَّته هي أهم بكثير من نظمه لقصائد شعريَّتها مستعارة من
غيره؛ بكلام أوضح، إن جهل البسطامي ومعاصريه بشعريَّة شطحاته،
أولاقصديَّتها في ذلك، ينبغي أن يفهم في سياقه التاريخي، ومن طبيعة التجربة
ذاتها، أي من خلال رؤية البسطامي لما يقول على أنه حقيقة واقعة، وليس
إثباتاً لحلم أو لوهم، له دلالاته النفسية المفترَضة. لذلك قد يصح ألا تفهم
تراكيب هذه القصيدة وصورها على أنها تراكيب فنية. فالبسطامي كان يعتقد أَنه
قد صار طيراً حقاً، له جسم من الأحديَّة، وجناحان من الديموميَّة. وهذا
الاعتقاد قد يكون مقبولاً، أو غير ذلك، إلا أن ما قالته هذه القصيدة ليس من
هذا العالم، ولا يفهم من خلال أقواله. فهو، حين يماهي بين ما هو حسِّي وما
هو معنوي إلى حد يمتلئ فيه القول بدلالته بما ينفي ويتجاوز إشارية القول
التقليدي إلى إبداع يوازي بين القول وتجربته، فذلك لأن طموح البسطامي يبدو
أبعد من هذا القول وتجربته معاً، وإلا فما الذي يفسر انخداعه في النهاية؟
إن قصائد البسطامي، على قلَّتها، تمثل تجربة في الرفض لا حدود
لقلقها سوى الفناء. وأي شيء غير ذلك سوف يدعو للتهكُّم والريبة، حتى ولو
كان رؤية لشجرة الأحديَّة ذاتها. ومن يصرخ في إحدى شطحاته الموحدة:
"سبحاني، ما أعظم شأني" ، ليس من الصعب عليه أن ينظر إلى الجنة والنار بلا
اكتراث، ليس لأنهما لا يدخلان ضمن منظومة الأفكار الصوفية وحسب، وإنما لأن
رفضهما يعني رفضاً لأي تراتبيَّة دنيوية، بما يحقق له تسامياً وحنواً
إنسانياً قلَّ نظيرهما:
ما النار؟
لأستندنَّ إليها غداً،
وأقول: "اجعلني لأهلها فداءً."
أو لأبلعنَّها!
ما الجنَّة؟
لعبة صبيان.
إن التمرُّد على الشرط الإنساني بكل أشكاله هو ما يحقق للبسطامي
جدلاً بنيوياً بين تجربته الوجودية وقولها. وإن جاء هذا الجدل ناقصاً،
قصائدُه قصيرة ومعدودة على أصابع اليد الواحدة، فلأن قوله، مع تجديده
وإبداعه، قد جاء نتيجة لتجربة جديدة، وليس لتجربة في القول ذاته. ولعل هذا
ما يجعل البسطامي مجدداً رؤيوياً، تعوزه الموهبة والإرادة الشعرية، أكثر
مما هو شاعر محترف يحترم الشعر بقدر احترامه لتجربته الخلاصية.
إن هذا المقدار من الجدل الذي يرى في الشعر تجربة شاملة للوجود
بأبعاده كلها قد لا يكون متحققاً في ذروته الإبداعية إلا لدى شاعر عاش ومات
قبل البسطامي بمدة طويلة. فقد كان النِّفَّري على دراية عميقة بالمنحى
الإبداعي لما كان يكتبه، ليس لأنه كان يقوم بتدوينه على قصاصات سوف تجمع
بعد موته في كتابين، سُمِّي الأول المواقف نسبة إلى مطلع القصائد "أوقفني
وقال لي"، وسُمِّي الثاني المخاطبات نسبة إلى المطلع أيضاً، وهو "يا عبد"،
وإنما لأن صفحات كتابيه هذين سوف تزخر بفنون الشعر وأساليبه الجديدة بما
يحتاج فعلاً لبحث مستقل يفي هذه الصفحات حقها. لكن الآن، وتحاشياً
للاستطراد المربك لسيرورة هذا البحث الإجمالية، يمكن إبراز الخصائص
الأساسية لشعرية النِّفَّري و إبداعها، ولاسيما أن ما قيل حول نثرية قصائد
البسطامي يصح أن يقال حول قصائد النِّفَّري أيضاً، ولكن بفارق كبير هو أن
هذا الأخير كان قد استطاع أن يقدم نموذجاً متكاملاً لريادته الكبرى في مجال
قصيدة النثر العربية؛ بل إذا ما كانت سنة وفاته هي 354 هـ، فهذا يعني أن
مولد قصيدته سوف يكون متقدماً على مولد قصيدة النثر الفرنسية بأكثر من ألف
عام.
أما لماذا لم ينتشر هذا النوع من القصائد في الشعر العربي القديم؟
فربما لأنه لم يكن يُعتبَر شعراً من جهة؛ وللقداسة التي استُقبِل بها أو
نقيض ذلك من جهة ثانية؛ ولأنه لم يكن يفكر بصلاحيَّته لمعالجة قضايا دنيوية
من جهة ثالثة. بل إن الأستاذ حمزة عبّود، وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي
بذله في إيضاح شعرية النِّفَّري وإبراز خصائصها الجدلية وانعكاسها على
التراكيب والصور، غير أَنه لم يقم بتوصيفها كقصائد نثرية رائدة، وإنما
اكتفى بالإشارة السريعة إلى أن "الأوزان وقوانين علم العروض والبيان لا
تمتُّ إلى الأثر الشعري إذا هي لم تنتج من داخل التجربة"، ربما مداراة
لسلطة نموذجية، أو لجهله بكيفيَّة اختراقها. ومهما يكن من أمر، فإن هذا
التوصيف لا ينفيه أو يثبتُه - كما هي الحال دائماً - غير القصائد واشتمالها
على مقومات شعرية، لها سماتها النثرية الخاصة أو المتعارف عليها:
أوقفني في الموت،
فرأيت الأعمال كلها سيِّئات،
ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء،
ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار،
ورأيت الفقر خصماً يحتج،
ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء،
ورأيت الملك غروراً،
ورأيت الملكوت خداعاً.
وناديت: يا علم!
فلم يجبني.
وناديت" يا معرفة!
فلم تجبني.
ورأيت كل شيء قد أسلمني،
ورأيت كل خليقة قد هرب مني،
وبقيت وحدي.
وجاءني العمل،
فرأيت فيه الوهم الخفي،
والخفي الغابر.
فما ينفعني إلا رحمة ربي.
وقال لي: أين علمك؟
فرأيت النار.
وقال لي: أين عملك؟
فرأيت النار.
وقال لي: أين معرفتك؟
فرأيت النار.
وكشف لي عن معارفه الفردانيَّة،
فخمدت النار.
وقال لي: أنا وليُّك،
فثبتُّ.
وقال لي: أنا معرفتك،
فنطقتُ.
وقال لي: أنا طالبك،
فخرجتُ.
ربما يكون هذا التوزيع العمودي لـ"موقف الموت" تعدِّياً على النص
الأصلي. لكن قراءته وفقاً لما هو مكتوب أفقياً، لابد أن تراعي الفواصل بين
جملة وأخرى، مما يفضي إلى التوزيع الإيقاعي نفسه. وهو بذلك لا يختلف عن أي
إيقاع داخلي لقصيدة النثر الحديثة؛ بل إن انتهاء الجملة بهذا الانسجام بين
الإيقاعين النحوي والدلالي قد لا يتحقق كثيراً فيما يُكتَب الآن.
والأهم من هذا أن إيقاع هذه القصيدة جاء عفوياً وتلبية لتجربة
النِّفَّري الشعورية. إذ إن تخلِّيه عن الوزن لم يجعل منه إيقاعاً مهموساً
خافتاً. فالانفعال واضح في تلاحق العبارات المتمركزة حول دلالة الموت
مشكِّلة وحدة مقطعية أولى، سوف تنتهي بقفلة معبِّرة عما يقصده النِّفَّري
من هذا الموقف تماماً. فعبارة "بقيت وحدي" تدل على رفضه لكل ما رأى في هذا
العالم لتنفي تورُّطه به. وتأتي الوحدة الثانية عابرة لتدل على ألا جدوى من
المحاولة من أجل التغيير. أما الوحدة الثانية فهي انتقالية بين الوحدتين
الأولى–الثانية والوحدة الرابعة–الختامية، ذلك أن النِّفَّري يعبِّر من
خلالها عن لجوئه إلى الله بعد أن أدرك بطلان علمه وعمله في هذا العالم. في
الوحدة الرابعة يتم الكشف عن الخلاص الفردي بعيداً عن أية حلول جماعية.
وتنتهي القصيدة في الوحدة الخامسة بنداء الله للنِّفَّري وتلبيته لهذه
الدعوة.
تفيد هذه المتتالية المنطقية لسير الدلالات في إبراز تقابلاتها
الإيقاعية، إذ تعتمد الوحدة الأولى على تكرار الفعل "رأيت" كدلالة على ما
هو دنيوي، وتعتمد الوحدة الخامسة على تكرار الفعل "قال" كدلالة على ما هو
إلهي، بينما تعتمد الوحدة الثالثة على تكرار الفعلين معاً كدلالة على أنها
وحدة انتقالية. وثمة تقابل مركزي بين عبارة "بقيتُ وحدي" التي جاءت خلاصة
للفعل "رأيتُ" وعبارة "خرجتُ" التي جاءت خلاصة للفعل "قال". هذا بالإضافة
إلى التكرارات والطباقات الثانوية التي تحقِّقها كل وحدة على حدة لتشكِّل
في مجموعها وحدة إيقاعية على علاقة جدلية بدلالاتها. بل إن شعرية هذه
القصيدة تقوم على رؤية كلية للوجود تولَّدت عنها مجموعة من الوحدات
الإيقاعية–الدلالية التي أفضت إليها. ونتيجة لهذه العلاقة التي تحققت في
قصائد عديدة من المواقف والمخاطبات، أبدع النِّفَّري لغة شعرية تجريدية
تكاد تضاهي أرقى ما أبدعه الشعر الحديث في هذا المجال.
فلغة النِّفَّري في صدورها عن مرتبة المعقولات سوف ترتقي بالشعر
وبالصورة الشعرية عن برزخ المعقولات الكونية إلى برزخ المعقولات الإلهية.
وهي لم تكتف بالنقل – كما سيفعل البسطامي –، وإنما جعلت هذا "البرزخ"
خالصاً بين اللغة ودلالاتها، بما يشكل نقله نوعية عن الشعر المحدث في أرقى
أشكاله الصوفية:
فإن جاءك نصري فنم فيه.
فإن أوقفك في الصراخ فنم فيه
قد لا يكون إطلاق دلالة الصراخ أو النوم في شعرية النِّفَّري بجديد؛
فقد أوقف المتنبي، مرة، ممدوحَه في جفن الردى؛ وكذلك النِّفَّري أوقفه الله
في مطلع القصيدة السابقة. لكن، وعلى اختلاف الموقفين، فقد أحالا إلى هذا
العالم، فبقيت صورهما حاملة له، متعلِّقة به، بينما صورة النوم في الصراخ
لا تحيل إلا إلى ذاتها. فالنِّفَّري لا ينام بين صراخ الأفواه أو فيه، إنما
ينام في الصراخ مجرداً، مما ينفي أية استعارة. لقد فكر جان كوهن مؤخراً
بالاستعارة المطلقة: "الأذان الأزرق" مثلاً!؟
قضايا الشعر الصوفي
تميز الشعر الصوفي في الأدب الاسلامي بعدد من القضايا والأغراض
استقل بها شعراء الصوفية وتميزوا فيها، منها :
۱-
التقشف والزهد في الدنيا: ويتمحور حديث الشعراء فيه حول الوعظ والتذكير من
ناحية والحكمة الدينية من ناحية أخرى، حيث يمثل الزهد أحد المقامات والطرق
الموصلة إلى الله.
۲-
الحب الإلهي: ويمثل هذا الاتجاه أكثر المجالات وفرة وارتيادا لشعراء
الصوفية، حيث اتخذوا الغرض أداة للاستعانة على بث معاني القرب والتودد إلى
الذات الإلهية.
۳-
المقامات: ويستهدف هذا الغرض من الشعر إبراز ما تحقق للعبد من المكاسب
الخاصة من خلال مجهوداته وعباداته وما حصل عليه من المواهب الربانية.
۴-
المناجاة: ويعد هذا النوع من الشعر بمثابة سرد للتجربة الشخصية في التصوف.
۵-
المديح النبوي: وهو من أكثر المجالات إنتاجا وإبداعا لدى شعراء الصوفية.
ويعتبره الصوفيون من أجل أبواب القربات إلى الله.
۶-
التوسل والاستغاثة: وهو من أهم خصائص الشعر الصوفي، ويهدف إلى التماس قضاء
الحاجة بواسطة النبي وبغيره من الأنبياء والأولياء الصالحين عند الله.
۷-
مدح الشيوخ: ويستهدف هذا اللون إطراء شيوخ الطرق الصوفية وإبراز مآثرهم
وكراماتهم بغرض إثبات أحقيتهم في التقديم والتبجيل.
نماذج من الشعر الصوفي:
يقول الشيخ محمد الناصر كبر في قصيدته «لوامع البرق في وصف حال أهل
الشوق{ في الحب الإلهي:
قتيل الشوق يرحمه السلام
ويسقي غيرَ مفْسَدِه الغمامُ
أشوق إليك يا رحمن شوقاكما شاقتك سادتُنا الكِرامُ
عباد عنهم الرحمن راضولم يرددهمُ عنه الملامُ
يقومون اللياليَ في تناجٍليومهمُ بلا مللٍ صيامُ
فلا تلقاهمُ إلا وقوفاعلى الأقدام أنحلَهَا القيامُ
يحبّون الإله وحُق حقابشرع الحب أن يُطوى المنامُ
شراب الشوق في الأحباب يزكوطعامُ الذكر ذاك هو الطعامُ
ونور الشوق في الأحباب يزكوونارُ الشوق كان لها اضطرامُ
وتزكو فيهمُ شيئا فشيئاعلى التدريج يرتحِلُ الظلامُ
وتوقد نار ذاك النورِ وقدافيحترقُ الحجاب المُستدامُ
تظنهمُ من الأشواق جُنواوما جُنوا ولكنْ فيه هاموا
أساموا في الرياضِ وما أساموابها ولكن بجنّتها أساموا
جَنوا منها قطوفا دانياتيوانعَ قد تعاورها انسجامُ
فجالَ العاشقون الهيمُ بحراخضما لا يُخاض ولا يعامُ
غَذَوا أرواحهم بلبان عشقفهم في حِجره أبدا نِيامُ
يقول الشيخ عثمان بن فودي في داليته المشهورة عن مشاعر الشوق لزيارة
الرسول(ص):
هل لي مسير نحو طيبة مسرعالأزور قبر الهاشمي محمد
لما فشا رياه في أكنافهاوتكمّش الحجاج نحو محمد
غودرت أنهمل الدموع موبلاشوقا إلى هذا النبي محمد
أقسمت بالرحمن ما لي مفصلإلا حوى حب النبي محمد
أحكي المصاب بشوقه لما عرىما لي لذيذ العيش دون محمد
قد كنت شوقا أن أطير لقبرهما لي سرور دون زورة سيد
إن قيل لي ماذا يشوقك في الورىفأقول إني عاشق لمحمد
من عرش رب العالمين جنودهما في الورى مثل النبي محمد
يقول الشيخ أمير المؤمنين محمد بللو في التوسل بأهل النوبة:
يا أهل نوبة هذا الوقت للباريقصدتكم فأمدوني بأنوار
أنتم ذخيرتنا في كل نائبةوأنتم عوننا في نيل أوطار
عونا على فتح أبواب الدخول إلىحضرات وصل تداني القرب للباري
فداركوني فقد خلفت في حجبوغُلّق الباب دوني يا الأخيار
أهداف الشعر الصوفي:
الملاحظ أن الشعر الصوفي كان في أغلبه مدائح نبوية وتوسلات بالرسول
والصحابة والأولياء, وقد تجلى هذا الاتجاه بوضوح في العصر الحديث ، وفي
الجزائر خاصة، بعد أن تعرضت الجزائر لحملات الدول الأجنبية, وبخاصة الحملات
الإسبانية، وقد عمل الأتراك العثمانيون أثناء وجودهم في الجزائر على تشجيع
هذا اللون من الشعر و(وجد من الشعراء من يكتب قصة الرسول كاملة منذ ولادته
حتى وفاته, أو يتحدث عن معجزاته آو يصف جماله الظاهر والباطن, ويشيد بنبوته
وأخلاقه, بل من الشعراء من أرخ لغزواته وتحدث عن صحابته وأهل بيته وآثاره
وفضائله... بل وجدت كتب معظمها صلوات على النبي ليس فيها من الشعر قليل أو
كثير)
وقد دأب هؤلاء الشعراء على نظم قصائد المدائح كلما حل شهر ربيع
الأول، وكان مدح الدايات في العهد التركي مختلطا بمدح الرسول والتوسل به,
ومن المؤكد أن الاستعمار الفرنسي عمل على تشجيع هذا الشعر لأنه لم يشكل
خطرا ولا تهديدا على وجوده.
المراجع
- ابن الفارض، الديوان (دار صادر، بيروت، بلا تاريخ) ص 128.
- الحلاج، الديوان (دار صادر، بيروت، ط1، 1998)، ص 34.
- الخيال، م. س.، ص 9.
- امرؤ القيس، م. ن.، ص 9.
- أبو القاسم عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيرية (دار
الكتب الحديثة، القاهرة، 1974)، ج 2، ص 715.
- د. عبد المنعم الحنفي، الموسوعة النفسية الجنسية (مكتبة
مدبولي، القاهرة، ط2، 1997)، ص 74-77.
- د. علي الخطيب، اتجاهات الأدب الصوفي بين الحلاج وابن
عربي (دار المعارف، القاهرة، 1404هـ)، ص 21.
- شطحات الصوفية، م. س.، ص 29.
- عبد الكريم اليافي، دراسات فنية في الأدب العربي (مطبعة
جامعة دمشق، دمشق، 1963)، ص 259؛ نسيب الاختيار، م. س.، ص32؛ يوسف سامي
اليوسف، ابن الفارض (دار الينابيع، دمشق، ط1 ، 1994)، ص 41-74.
- عز الدين المقدسي، نقلاً عن: د. عبد الرحمن بدوي، شطحات
الصوفية (وكالة المطبوعات، ط، 3الكويت، 1978)، ص9.
- كتاب المواقف، م. س.، المقدمة، ص 8.
- محي الدين ابن عربي: الخيال: عالم البرزخ والخيال (مطبعة
زيد بن ثابت، دمشق، 1984)، ص 9.
- محي الدين بن عربي. ترجمان الأشواق (دار صادر، بيروت،
1961) ص 161.
- محي الدين بن عربي: م. س.، ص 70.
- محي الدين بن عربي، الديوان (دار الكتب العلمية، ط1،
بيروت، 1996)، ص 34.
- نسيب الاختيار، الشعر الصوفي (منشورات المكتبة الأهلية،
بيروت – مطبعة اليقظة، دمشق، لا ذكر للتاريخ)، ص 33.
- نسيب الاختيار، م. س.، ص 33.
- نسيب الاختيار، م. س.، ص 33.
- المتنبي، الديوان (دار المعرفة، بيروت، بلا ذكر)، ج3، ص
386.
- المخاطبات، م. س.، ص 128.
- أبو تمام، الديوان (دار صادر، ط1، بيروت، 1997)، ج1، ص
86.
- أبو حيان التوحيدي ومسكويه: الهوامل والشوامل (مطبعة لجنة
التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951)، ص 282-284.
- أدونيس، زمن الشعر (دار العودة، ط2، بيروت، 1978)، ص 49.
- جان كوهن، بنية اللغة الشعرية (دار توبقال، ط1، الدار
البيضاء، 1986)، ص 123.
- حمزة عبّود، كتاب المواقف، م. س.، المقدمة، وكتاب
المخاطبات، م. س.، المقدمة.
- صيّاج الجهيم، رامبو (وزارة الثقافة، ط1، دمشق، 1994)، ص
38-40.
- عنترة، شرح المعلقات السبع للزوزني (المكتبة العصرية،
صيدا–بيروت، ط1، 1998)، ص 197.
- كتاب المواقف، م. س.، ص 3، وفي معجم المؤلفين، عمر رضا
كحالة (مؤسسة الرسالة، ط1، بيروت، 1993)، ج3، ص 384.
- محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، كتاب المخاطبات (دار
العالم الجديد، بيروت، بلا تاريخ).
- محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، كتاب المواقف (دار العالم
الجديد، بيروت، بلا تاريخ).
- نديم دانيال الوزّة، ما هي قصيدة النثر؟ (مجلة البيان،
العديلية – الكويت، عدد 353، 1999)، ص 40.
- يوسف سامي اليوسف، مقدمة النفري (دار الينابيع، ط1، دمشق،
1997)، ص 15-16.
أضيفت في
10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات
صوفية)
الحضور
الأنثوي في التجربة الصوفية
بقلم الكاتب:
سليمان القرشي
بين الجمالي
والقدسي
ولقد خـلوت مع الحبيب
وبينـنـا ســر أرق من النسـيم إذا ســــرى
وأبــاح طرفي نظـــرة
أمـلتهـــــــــا فغ دوت معروفا وكنت منكـــرا
فدهشـت بين جـمـاله
وجلالــــه وغدا لسان الحال عني مخبـــرا
ابن الفارض
بشكل مثير وبادخ، تنكشف
الأنثى في حقل الكتابة الصوفية كذات حالمة، وحلم مشخص، ينكشف قمقم التجربة
التي لا تؤخذ من الأوراق وإنما هي وجدان وأشواق كما قال ابن عجيبة الحسني،
عن فتنة العري، وسحر التستر، يقف الدارس حائرا منشدها أمام الحضور
الكرنفالي للمرأة في الديوان الصوفي فلا يملك إلا أن يلبس العري كساء
الرمز، ويجرد السحر من لباسه ليعود إلى مجاله حيث جمال المعبد وجلال
المعبود.
في البد كانت
المرأة:
يرى ابن عربي فيما يشبه لذة
الاعتراف الصوفي بالارتباط المشيمي بالأنثى أن "المرأة صورة النفس، والرجل
صورة الروح، فكما أن النفس جزء من الروح، فإن التعين النفسي أحد التعينات
الداخلة تحت التعين الأول الروحي الذي هو آدام الحقيقي، وتنزل من تنزلاته،
فالمرأة في الحقيقة جزء من الرجل، وكل جزء دليل على أصله، فالمرأة دليل على
الرجل".
إن الشوق والحنين والتعلق
والافتتان هي الروابط الرئيسية التي شدت الصوفي إلى المرأة التي ترك غيابها
عن ناظره مجالا للحلم وللخيال الخلاق، وهو الخيال الذي شكل المرأة من
الحجارة المكومة في تجارب الغزل، خاصة منه العذري، يقول ابن الفارض في إحدى
مقاماته العشقية:
من لي بإتلاف روحي في هوى
رشــإ حلو الشمائل بالأرواح ممتـــــــزج
من مات فيــه غرامـا عاش
مرتقيــــا ما بين أهل الهوى، في أرفع الدرج
محجب، لو سرى فـي مثل
طرتــــه أغنته غرته الغرا عن الســـــــــرج
وإن ضللت بليــل مـن
ذوائـبــــــــه أهدى لعيني الهدى صبح من البلج
وإن تنفس قــال الـمسك
معترفـــــــا لعارفي طيبه، من نشره أرجـــــــى
فبهاء الكلمات وإشراق
العبارات وتوهج العواطف وسخاؤها هي المقولات الكبرى في هذا المقطع الشعري
الذي –وإن- استرفد من تجارب شعرية سابقة، واستنار بفضل من قبسها، فإنه
استفرد بالإلحاح على ثنائية النور والظلمة، المحيلة على قضية الخير والشر
الأخلاقية، فالمرأة حسب الشاعر جامعة بين قوانين الحياة ونواميسها، وما
تجمع هذه المتناقضات في المرأة إلا دلالة على تعالق جميع القيم لتشكيل
الجمال الأنثوي الذي هام به الشاعر الصوفي.
أما الششتري (668) فإنه يلح
على ثنائية الهجر والوصال، وهي الثنائية التي كثيرا ما شدت الشاعر العربي
بأجوائها المتخمة بالظمإ والغلة والحرمان، والطافحة أيضا بمعاني الارتواء
والامتلاء والتشرب، يقول أبو الحسن الششتري في إحدى تحليقاته الإبداعية:
تعشقتكم طفلا ولم أدر ما
الهوى فلا تقتلوني أنتـــــم فيعلــــــــم
جرحتم فؤادي بالقطيعة والجفا
فيا ليتكم داويتم ما قطعتــــــــم
إنها قصيدة –يقول سليمان
العطار- من قصائد المضربين تقتبس منهم وتحاكيهم، وإنما في أصالة. لكني أقول
إن المحاكاة لم تنصب هنا على شعارات العذريين ومردداتهم، ولكنها اتجهت رأسا
إلى وجدان المتلقي، لتحيله على المرجعية الإنسانية للتجربة، ولتضعه في
بداية الطريق نحو رحلة روحية وذوقية شعارها الانطلاق من حب المخلوق لنيل
رضا الخالق.
وإذا كانت الأنثى حاضرة
بامتياز في التجربة الشعرية الصوفية، فإن حضورها يكتسي مذاقا خاصا ونكهة
متميزة في كتابات ابن عربي عامة، وفي أشعاره الوجدانية خاصة، إذ أن الأنثى
في تجربته الذوقية كانت ذات مرجعية واقعية، وحبه الروحي كان من منطلقات
إنسانية، يقول ابن عربي في بوح قلما سمحت به فرج الجبة الصوفية، متغنيا في
هذا البوح باستطيقا الجسد الأنثوي الأرضي: "وكان لهذا الشيخ رحمه الله
–يقصد شيخه مكين الدين، زاهر ابن رستم الأصفهاني، شيخه في مكة- بنت عذراء،
طفيلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر والمحاضر، وتحير المناظر، تسمى
بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات السايحات
الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف،
عراقية الظرف،(...) ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض،
لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو
روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة، واسطة عقد
منظومة.."، فالنظام، وإن كانت تمثل تجسيدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي
العلو في الصورة الفيزيائية المحسة، وشفرة استيطيقية توحي بانسجام الروح
والمادي، والمطلق والمقيد في الأشكال المتعينة فإنها تقف بجانب هذا التمثيل
شاهدا على الذوق الرفيع للمتصوفة الذين ناشدوا في المرأة جانبها الإستطيقي
الجمالي، رادين بذلك الاعتبار للجسد الذي ازدرى في الكتابات الفقهية،
وامتهن في الكتابات الشبقية، فالنظام تمثل حواء آدم المتصوف، عبر فتنتها
الساحرة، وإغرائها (وليس إغوائها) اللذيذ، وهجرها القاسي، وقبل كل هذا عبر
تقاسيمها اللطيفة التي شدت الصوفي وأشبعته رغبة وحلما. يقول ابن عربي محددا
خريطة الأنثوي التي فارقت مؤشرات بوصلته صوابها في مجاهلها ودروبها:
بين الحشا والعيون النجل حرب
الهوى والقلب من أجل ذاك الحرب في حرب
لمياء لعساء معســــول
مقبلهــــــــــــا شهادة النحل ما يلقى في الضــــــرب
ريا المخلخل، ديجور على
قمـــــــــر، في خدها شفق، غصن على كتـــــــب
حسناء حالية ليست
بغانيـــــــــــــة تفتر عن برد ظلم وعـن شنـــــــــــب
تصد جدا، وتلهو بالهوى
لعبــــــــــا والموت ما بين ذاك الجد واللعـــــــب
فابن عربي، ومن خلال هذا
التتبع الدقيق لمعالم الأنوثة في المرأة، إنما يعمل على تكريس خطاب العشق
الذكوري في الثقافة العربية، والذي نحث نموذجا واحدا للمرأة لا يكاد يحيد
عنه، وقد حمل هذا النموذج ما يطيق وما لا يطيق من القراءات والرؤى، فقد
أرجعه البعض إلى أصل ديني، بينما أرجعه البعض الآخر إلى بنية الثقافة
العربية وشروطها التاريخية والبيئية، بينما مثلت المرأة في شعر ابن عربي،
وعبر أنوثتها الآسرة:
لؤلؤة مكنونة في صــدف، من
شعر مثل سواد السبــــج
لؤلؤة غواصها الفكر فمــا
تنفـك في أغوار تلك اللجـــج
بين الإنساني
والروحي في الحضور الأنثوي داخل التجربة الصوفية:
إذا كانت الأبيات الشعرية
الصوفية المستضيفة للمرأة تعرف سريانا لقشعريرة التجربة العذرية التي أحالت
المرأة إلى معبد مشخص يكتفي منه العاشق/العابد، بمجرد النظر أو حتى الطيف
في بعض التجارب المتسامية، فإن هذا التسامي لم يمنع من الحضور المكثف للجسد
وتقاطيعه في التجربتين الصوفية والعذرية، وإن باختلاف في الرؤيتين، وتباين
في التجربتين، إذ كان الجسد في التجربة العذرية رمزا للحرمان واللاتواصل،
بينما تميز حضوره في التجربة الصوفية بالدور الجديد الذي أسند إليه، إذ
اتخذ الجسد/المرأة مجلى من مجالي الجمال، ومقاما من مقاماته التي شدت
انتباه الصوفي واستعبدت اهتمامه، يقول ابن عطاء، أبو العباس أحمد بن محمد
بن سهل (ت309) في تصوير بارع قلما سمحت به رقابة التجربة الروحية، وسلطتها
الصوفية المعادية –على الأقل من منظور التيارين السني والشعبي- لحب الشهوات
من النساء، ومكنوز الذهب والفضة:
أجلك أن أشكو الهوى منك أنني
أجلك أن تومى إليك الأصابــــع
وأصرف طرفي نحو غيرك صامـدا
على أنه بالرغم نحوك راجـــــع
وهذا الصراع المستعر بين
إرادة صرف النظر المستوردة وبين الرغبة في إطلاق سرب النظر نحو الأنثى،
يترجم الصراع الروحي العنيف الذي اضطرم في جوانح الصوفي، إذ تجاذبه المدنس
والمقدس، واحتار بين الفيزيائي والروحي، بين المحدد في الزمان والمكان وبين
المطلق، ولعل هذا الصراع هو الذي ميز الحضور الأنثوى في التجربة الشعرية
الصوفية بالقياس إلى نظيرتها العذرية؛ فإذا ما تحكمت في العذري رغبة في
التسامي والعلو بحبه ومحبوبه، فإنه في رغبته تلك قد ظل ملتصقا بالأرضي، لم
يفارقه أبدا، كما أن الحرمان والهجر قد شكلا مرجعيات رغبته التأسيسية، أما
بالنسبة للرؤيا الصوفية فقد آمنت أولا بكل درجات الحب وأنواعه، تم ألفت في
نظرتها للمرأة بين وجهي عملة الأنثوي وضايقت بينهما، وهذا التأليف بين وجهي
عملة الأنثوي هو الذي جعل استطيقا الجسد تتوهج في الشعر الصوفي، وهو الذي
شكل صورة المرأة في هذا الشعر بماء الفتنة والرواء، يقول الشاعر مستسلما
لإصابة قاتلة من سهم ريشه الكحل والسحر:
لها في طرفها لحظات سحـــر
تميت بها وتحيى من تريـــــد
وتسبي العالمين
بمقلتيهــــــــا كان العالمين لها عبيــــــــــــد
إن العين كقوة سحرية، ككوة
للتحرر من غبش العالم الجواني والانفتاح على العالم الخارجي بكل حمولاته
ودلالاته، تشكل في خطاب العشق الصوفي صاري سفينة الروح التي تنجذب بفعل قوة
سحرية نحو خلجان فيروزية تحكمها كائنات ظاهرها سحر وباطنها فتنة، وغني عن
التذكير هنا أن تيمة العين ذات مرجعية أزلية، فهي تعود لطفولة الجنس البشري
الذي رأى في اقترانها بالماء رمزا من رموز الخصب والحياة، ألم يجعل ابن
عربي موضع أنثاه "من العين السواد ومن القلب الفؤاد".
وداخل تيمة العين، وعبر
مشتقاتها، وفي إطار دائرة نفوذها من رؤية ونظرة، والتفاتة وإثارة، وغيرها،
يلح الشاعر الصوفي على النظرة الأولى التي مزقت ستار كينونته، فأعادت خلقه
كائنا جديدا يتنفس حبا وعشقا ورغبة، ولا شك أن النظرة عبر أوليتها، تحيل
على قضية الافتضاض التي كان لها مكانها في التجربة الصوفية، يقول ابن عربي
مفتخرا بافتضاض أبكار الأسرار، "فالحمد لله الذي جعل فتح هذا المغرب فتح
أسرار وغيره، فلا تفتض أبكار الأسرار إلا عندنا، ثم تطلع عليكم في مشرقكم
ثيبات قد فرضن عدتهن فنكحتموهن بأفق المشرق فتساوينا، في لذة النكاح، وفزنا
بلذة الافتضاض" فالنظرة الأولى –إذن- سر من أسرار الحب الصوفي، ومقام من
مقامات العشق الروحي، التي تستحق أكثر من وقفة تأمل، إذ كثيرا ما كانت
النظرة الأولى في قاموس الصوفية مفتاحا لمغالق السر الأنثوي الخالد، يقول
الشاعر متدرجا مستدرجا
بأي فؤاد أحمل البعد
والهــــوى وأنت قريب إن ذا لعجيــــــب
ملكت فؤادي عند أول
نظــــــرة كما صاد عذريا أغن ربيــــــب
وحيث لدائي كنت لي فيه
عائـدا شفيت، وبعض العائدين طبيـب
وأنهلتني من ريقك الصرف شربه
حلت لي وما كل الدواء يطيــب
على أن ذكرا لا تزال
سهامــــــه ترى مقتلا من مهجتي فتصيـب
أعير المنادي لاسمه السمع
كلـــه على علمه أني بذاك مريــــــب
إن الحقول اللغوية المستوردة
من ديوان الشعر العذري، والمستخدمة بذكاء للتعبير عن تجربة روحية ذوقية، قد
مكنت التجربة الشعرية الصوفية، وحدها ودون غيرها، من استضافة عملة الأنثوي
بوجهها الروحي والفزيائي، فتوهجت في أحضانها استطيقا الجسد، وتأنقت في
جوانبها جمالية الروح.
رمز الحضور
الأنثوي في الشعر الصوفي:
يعتبر الوقوف عند عتبة الجسد
في التجربة الصوفية ضربا من الإسقاط، أو الرؤية التجزيئية التي تفقد
التجربة خصوصياتها وتنزع بهذه الدراسة نحو قصور منهجي ورؤيوي لا نرتضيه
لها، لذلك فقد كان لزاما أن نطرح بعض الأسئلة من قبيل: هل كان الحضور
الأنثوي في التجربة الشعرية الصوفية حضورا لذاته أو أنه كان مجرد جسر
للعبور نحو عوالم أخرى وفضاءات مغايرة، ثم لماذا هذا الحضور الأنثوي الباذخ
والمثير أصلا؟
الحقيقة أن العلاقة بين
المتصوف والمرأة تبدو أكبر وأشمل وأعمق من هذا الأسئلة وغيرها، إذ أنها
ابتدأت ببداية الخلق ذاته، وتشكلت محبة وشوقا وحنينا، يقول ابن عربي: "وعمر
الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها إذ لا يبقى في الوجود
خلاء، فلما عمره بالهواء حن إليها حنينه إلى نفسه". فالحنين –إذن هو
الميثاق الذي يربط الرجل بالمرأة في العرف الصوفي، ويجمع بينهما، وهو حنين
ينزع إليها لا باعتبارها ذاتا، ولكن باعتبارها الجزء المفتقد من الإنسان
الكامل، كما كانه الإنسان الأرضي، ولذلك فقد دخلت المرأة مع الرجل في
علاقته الفاعلية والانفعال.
وكما جعل الله النكاح عبادة
للسر الإلهي، فقد كانت المرأة باعتباره محتضنا لفعل النكاح عتبة أولى
وأساسية لمعانقة هذا السر بل كثيرا ما سدت مسده، فتولت الوجوه نحوها،
وتعلقت الخواطر بقبلتها، ونفخت مزامير الشوق والحنين إليها "ويمكن القول
تأسيسا على ما تقدم أن المرأة بوصفها المحبوبة، رمز الأنوثة الخالقة، للرحم
الكونية، وهي بوصفها كذلك علة الوجود، ومكان الوجود، والعاشق لكي يحضر فيها
يجب أن يغيب عن نفسه. عن صافته، يجب أن يزيل صفاته لكي يثبت ذات حبيبته. إذ
أن وجوده متعلق بوجودها، وكينونته رهن لتماهيه فيها، إذ لا وجود للثنائية
والتعدد في هذا المقام. يقول ابن العريف (ت.526):
ألا قل لمن يدعي حبنـــــــا
ويزعم أن الهوى قد علـــــــق
لو كان فيما إدعى صادقـــا
لكان على الغصن بعض الـورق
فأين التحول وأين الذبـــول
وأين الغرام، وأين القلــــــــق
وأين الخضوع وأين الدمــوع
وأين السهاد وأيــــــــن الأرق
لنا الخائضون بحار الهـلاك
إذا لمعت نارنا في الغســــــــق
لن يستأنس بنار الحبيبة
المنادية، إلا كل مقتحم لبحار الهلاك، ولن يقتبس من فضلها إلا سندباد
الأهوال والمخاطر، فالحبيبة –كما الحقيقة- لا تعطي نفسها لكل خاطب، إذ أن
شرطها هو سلب الإرادة، فكل من تجرد من ثوب الإرادة بعد سلوك ومقامات، فقد
تمسك بكنه الإرادة وجوهرها.
أما ابن الفارض فقد قدم نفسه
وكينونته هدية للمحبوبة التي أسكرت وعيه وتربعت على عروش أحاسيسه، فتألقت
في أشعاره، وتوهجت في تراتيله سحرا وعطرا وغيبوبة وانتشاء فقد معها الشاعر
تواصله بعالم الآدميين فنظم في عرفهم ما يحتاج شرحا وترجمة وتأويلا، يقول:
أهفو إلى كل قلب بالغرام
لـــــــــــه شغل وكل لسان بالهوى لهـــــــــج
وكل سمح من اللاحي به
صمــــــــم وكل جفن إلى الإغفاء لم يهــــــــــج
لا كان وجد به الآماق
جامـــــــــدة ولا غرام به الأشواق لم تهــــــــــــج
عذب بما شئت غير البعد عنك
تجد أوفى محب بما يرضيك مبتهــــــــج
وخذ بقية ما أبقيت من
رمـــــــق لا خير في الحب إن أبقى على المهج
ولدى هذا الرصيد من التجربة
الصوفية تنكشف الأنثى بوصفها تجسدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي العلو
في الصورة الفيزيائية المحسة، وشفرة استيطيقية توحي بانسجام الروحي
والمادي، والمطلق المقيد في الأشكال المتعينة. ولهذا كان الشعر الصوفي في
دروب جمالها المقيد، عتبة للانطلاق نحو عوالم المطلق التي تدعو دعوة ملحة
للاقتراب أكثر منها.
أضيفت في
10/05/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب / أنظر (شخصيات
صوفية)
|