مستقبل (القصة القصيرة جدا) في عيون كتابها
سمر الفيصل: تشهد إقبالا كبيرا وستترسخ مع الأجناس الأخرى
يوسف حطيني: الشكل النهائي لها مرهون بالمبدعين وليس النقاد
عبد الله أبوهيف: ليست جنسا أدبيا لكنها موجودة في كل الكتابات
عادل الفريجات: التنبؤ بمستقبلها صعب للغاية لأن الأدب كالموضة
نور الدين الهاشمي: ستخضع لتغيرات عديدة وستكون أكثر تكثيفا
باسم عبدو: بدأت تأخذ مكانتها في الساحة الأدبية وهناك شبه بينها وقصيدة النثر
دمشق - الوطن: استطاعت القصة القصيرة جداً خلال فترة تُعتبر قصيرة نوعاً ما أن تتخذ
موضعاً بين الأجناس الأدبية على الرغم من معارضة بعضهم لها كجنس أدبي مستقل
استطاع مؤيدوه في سوريا أن يستمروا في عقد ملتقاهم السنوي ليكون فرصة لقراءة ما
هو جديد على هذا الصعيد .
وعلى هامش الملتقى الخامس لها الذي عُقِد مؤخراً في دمشق التقينا عدداً
من النقاد والكتاب للوقوف على توقعاتهم لمستقبل القصة القصيرة جداً.. فكانت
الآراء التالية:
الناقد د. سمر روحي الفيصل: يعتقد أن القصة القصيرة جداً تشهد الآن
إقبالاً كبيراً، ولكنه يرى أنها بعد هذا الإقبال ستمر بمرحلة بطيئة إلى أن تصل
إلى مرحلة تقديمها فناً (جمالياً) وبعد ذلك ستترسخ مع غيرها من الأجناس الأدبية
النثرية فناً أدبياً شائعاً عادياً ومستمراً .
يرى د.الفيصل كذلك أن الاهتمام بالقصة القصيرة جداً ليس موضة أو موجة
ستمر بمرحلة فوران ثم تنتهي، وإنما يرى أن القصة القصيرة جداً لاقت رواجاً
وتأييداً من كثير من الكتاب والقاصين، أما عيوبها الحالية التي يتمنى تلافيها
مستقبلاً فهي تكمن في عدم وضوح الحدود بينها وبين أجناس أدب قريبة منها.
د.يوسف حطيني: يقول انه متفائل جداً بمستقبل القصة القصيرة جداً في
حال توفر لها كتّاب متميزون، ولكن ضمن الظروف الحالية يرى د.حطيني أن هناك
كتّاباً نجحوا في كتابة القصة القصيرة جداً بامتياز في سوريا والسعودية وبقية
الدول العربية، وغالباً ما يشاركون في ملتقى القصة القصيرة جداً الذي نقيمه في
دمشق كل عام، خاصة كتّاب من السعودية.
ويشير
د. حطيني إلى بعض العيوب التي تعاني منها القصة القصيرة جداً، وهي
عيوب تعاني منها القصة القصيرة العادية، وكذلك الرواية والشعر، ويرد د.حطيني
على من يقول إن القصة القصيرة جداً موضة ستختفي بعد فترة ويقول : من خلال
إشرافنا على ملتقى القصة القصيرة جداً نرى أن عدد المشاركين يزداد في كل سنة
وهذا دليل على أن عدد المهتمين بهذا الجنس يزداد يوماً بعد يوم، لذلك يرى د.حطيني
أن المستقبل سيفرز تقنيات كتابية جديدة وبالتالي فإن الشكل النهائي للقصة
القصيرة جداً مرهون بالمبدعين وليس بالنقاد لأن النقاد يضعون القواعد من أجل أن
يتجاوزها المبدع لا من أجل التقيد بها .
أما د.عبد الله أبو هيف فلا ينظر إلى القصة القصيرة جداً على أنها جنس
أدبي لأنه لا يوجد في النقد والممارسات القصصية هذه التسمية أو هذا المصطلح،
ويشير د.أبو هيف إلى أن القصة القصيرة جداً موجودة في كتابات كل الكتّاب، بمعنى
أن هناك دائماً سرداً قصصياً قد يطول إلى عشرات الصفحات وآخر يقتصر على جملة،
إذاً القصة القصيرة جداً برأيه ليست شكلاً وقد مارسه العديد من المبدعين أمثال
الطيب صالح وزكريا تامر وغيرهما، ومن هذه الأمثلة يؤكد د.أبو هيف أن القصة
القصيرة جداً وهذا الشكل من الكتابة السردية موجود عند كل الكتّاب، وبالتالي هي
بنظره ليست شكلاً وإنما هي مرتبطة بطبيعة كتابة القصة وبنائها لأن السرد عندما
يطول ويتعاضد مع تقانات أخرى وخصائص أخرى يصبح رواية.. من هنا يقول د.أبو هيف
أن مستقبل القصة القصيرة جداً مرتبط بوضع الرواية والقصة ومدى تطورهما،
وبتقديره ستستمر الكتابة بهذا الشكل السردي القصير ولكن لن يكون هناك التجنيس
الذي هو في طريقه إلى الإلغاء في ظل نزاعات الحداثة وما بعد الحداثة، والاجتهاد
السردي على ما بعد الحداثة، فهذه الأمور مجتمعة تلغي الأجناس ليصبح هناك تواصل
واتصال بين الفنون.
د.عادل الفريجات يقول: التنبؤ بمستقبل القصة القصيرة جداً صعب للغاية
لأن الأدب برأيه يشبه الموضات حيث تبدأ موضة فتزدهر في فترة من الفترات ثم
تختفي.. القصة القصيرة جداً كما يؤكد د.الفريجات فن قديم وعريق، فالجاحظ قدم
نماذج منها، وحتى الأمثال الشعبية قريبة من القصة القصيرة، إذاً هي قديمة لكنها
اليوم تُبعث من جديد ليس في سوريا فحسب بل في كل الأقطار العربية، إذ أصبحت
شائعة ومزدهرة ولها خصوصيتها، ويراها د.فريجات فناً يتساوى مع طبيعة العصر، عصر
السرعة والمعلومة .
أما المشكلة التي يراها د. الفريجات على هذا الصعيد فهي استسهال كتابة
هذا الجنس الأدبي واللجوء أحياناً إلى الثرثرة والمطمطة وهي أساليب لا تحتملها
القصة القصيرة جداً، إضافة إلى عدم الاهتمام باللغة واللجوء إلى العامية وتكرار
القاص لنفسه .
أما عن التنبؤ بمستقبل القصة القصيرة جداً فيقول : لندع هذا اللون من
الأدب يزدهر ونحن نرحب بالمواهب الجديدة لتجعلنا نبصر أشياء لم نرها بعد .
يعتقد باسم عبدو وهو قاص وروائي أن القصة القصيرة جداً جنس حديث نوعاً
ما، وهي من الأجناس الإبداعية التي ظهرت في سوريا في عقد الستينيات من القرن
الماضي، ولكن لم تكن هناك تسميات على أغلفة المجموعات تشير إلى مصطلح القصة
القصيرة جداً، ولكن بدأ هذا الجنس الأدبي يأخذ مكانه الآن في الساحة الأدبية،
وبرأي عبدو هناك تقارب وتشابه بينها وبين قصيدة النثر، وبالتالي ظهر من يؤيد
هذا الجنس، وظهر كذلك من لا يعترف به ولكن يؤكد عبدو أن هذا الجنس تطور تطوراً
كبيراً في عقد التسعينيات وما تلاه وبدأت تظهر مجموعات قصصية كثيرة وعُقِدت عدة
ملتقيات لها في سوريا بمشاركة عدد كبير من القاصين.
أما بماذا يتنبأ عبدو لمستقبلها فبرأيه أنها كأي جنس أدبي سيخضع
للتغيير والتطوير وللاستمرار، وبالتالي فإن إطلاق حكم نهائي وحاسم حالياً غير
مقبول، لذلك يعتقد أن مستقبلها متروك للزمن .
يجزم نور الدين الهاشمي وهو من أشهر كتّاب هذا الجنس الأدبي أن هذا الشكل الأدبي سيبقى
وسيستمر لأن الفن متنوع كتنوع الطبيعة والحياة ولا ويجوز أن نحكم عليه بالإعدام
أو الموت.. قد لا يكون هذا الجنس تياراً متوحداً ولكنه بالتأكيد سيلجأ إليه
الكاتب حينما يرى أن هذا الجنس الأدبي بالتحديد سيخدم فكرته في مرحلة ما أو في
مرحلة معينة، ومستقبلاً يرى الهاشمي أن هذا النوع سيخضع للعديد من التغيرات
سواء ما يتعلق منها بالمضمون أو بالشكل، ويعتقد أن القصة القصيرة جداً ستكون
أكثر تكثيفاً وسيكون للحكاية دور أساسي فيها.
أضيفت في
25/05/2005/ خاص القصة السورية/ الوطن
فنّ
القصة القصيرة وإشكالية البناء
بقلم
الكاتب:
أ. د. خليل أبو ذياب
يعدّ فن القصة القصيرة
من أحدث الفنون الأدبية الإبداعية حيث لا يجاوز ميلادها قرنا ونصف قرن من
الزمان، حتى ان الدارسين والنقاد يعتبرونه مولود هذا القرن(1)؛ بل أن مصطلح
"القصة القصيرة" لم يتحدد كمفهوم أدبى إلا عام 1933 فى قاموس أكسفورد.
وقد كان من أبرز
المبدعين لهذا الفن الحادث "ادجار ألان بو الأمريكى" و "جودى موباسان الفرنسى"
و "جوجول الروسى" الذى يعدّه النقاد أبا القصة الحديثة بكل تقنياتها ومظاهرها
وفيه يقول مكسيم جوركى: "لقد خرجنا من تحت معطف جوجول"(2).
ومن هنا فالقصة القصيرة
بتقنياتها الحديثة وأسسها الجمالية وخصائصها الإبداعية المميزة وسماتها الفنية
لم يكن لها فى مطلع القرن العشرين شأن يذكر على الإطلاق(3).
وقد كان وراء انتشار هذا
الفن الجديد وشيوعه عالميا وعربيا طائفة من الدوافع والعوامل من أبرزها "
انتشار التعليم وانتشار الديموقراطية وتحرير عبيد الأرض من سلطان الإقطاع وثورة
الطبقة الوسطى وطبقة الـعمال والفلاحين، كذلك بروز دور المرأة فى المجتمع
واسهامها فى مجالات الحياة والميادين الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية،
وما شهد العصر من تـطور علمى وفكرى وحضارى وصناعى كما لعبت الصحافة دورا مهما
فى رواج هذا الفن ونشره، كما لا يخفى دور المطبعة وانتشار الطباعة فى
ازدهارها..ونتيجة لكل ذلك "أصبحت القصة القصيرة من مـستلزمات العصر الحديث لا
يضيق بها، بل يتطلب رواجها بانتشارها وكثرة المشتغلين بتأليفها لأنها تناسب
قلقه وحياته المتعجلة وتعبر عن آلامه وآماله وتجاربه ولحظاته وتأملاته"(4).
وهكذا بدأ فن القصة
القصيرة فى الظهور والانتشار فى الأقطار العربية على ما بينها من تفاوت ما بين
خمسينات هذا القرن وستيناته نتيجة لمجموعة من العوامل الحضارية التى شهدتها
المنطقة بعد التغير الجتماعى الواسع فى أنماط الوجود بها وتبدّل طبيعة الحياة
الاجتماعية فيها عقب اكتشاف النفط خاصة وبعد دخول المطبعة وظهور الصحيفة وتغير
طبيعة النظام التعليمى وظهور جمهور جديد من القراء ذى احتياجات ثقافية جديدة،
وغير ذلك من العوامل التى ساهمت فى ميلاد القصة القصيرة فى المشرق العربى"(5)
مما أشرنا إليه آنفا.
وقد كان للنقد موقف خاص
متميز من القصة القصيرة ربما كان وراء تأخر انتشارها وشيوعها فى الحياة
الأدبية، وهذا الموقف صنعه موقف الناس من القصة والقاصّ على حد سواء، حيث كانوا
يعدون القصة عامة، والقصة القصيرة خاصة شيئا يتلهى به الإنسان فى أوقات الفراغ
كما كانوا يعدونّ كاتب القصة متطفلاً على موائد الأدب لا يستحق اكثر من
الإهـمال والاحتقار"(6) مما جعل كتّابها ينشرونها فى الصحف والمجلات تحت عنوان
"فكاهات"، كما دفع هذا الموقف بعض القصّاص إلى عدم ذكر أسـمائهم على رواياتهم
التى يبدعونها على نحو ما صنع "محمد حسين هيكل" فى رواية "زينب" عندما مهرها بـ
"فلاح مصرى". وطبيعى أن يكون لمثل هذا الموقف من القصة والقصة القصيرة خاصة أثر
بالغ فى انحسار تيارها وتأخر انتشارها فى الحياة الأدبية العربية لتحل
المترجمات التى أخذت تشيع آنذاك محل المبدعات، حيث "كان أكثر ما يقدم لجمهور
القراء منذ أواخر القرن الماضى حتى أواخر الثلث الأول من القرن الحاضر هو من
قبيل الترجمة والاقتباس، حتى جمع أمين دار الكتب فى بيروت لها معجما أثبت فيه
نحو عشرة آلاف قصة مترجمة من مختلف اللغات(7)؛ وهذا يؤكد أن ظهور الـقصة
القصيرة وفن القصص عامة والمسرحيات أنما كان عن طريق معرفة الآداب الغربية فى
أعقاب الاحتكاك الثقافى والفكرى والأدبى الذى حققته النهضة الحديثة التى اجتاحت
العالم العربى فى هذا العصر الحديث.
وعلى الرغم من قصر عمر
القصة القصيرة/ هذا اللون الأدبى المبدع فإن شهرتها وشدة اعتناء الأدباء
والنقاد بها وحرصهم على إبداعها جعلها بصورة من الصور تزاحم وتنافس الشعر الذى
يعدّ أهمّ الأنماط الأدبية الإبداعية على طول تاريخها الفسيح لتحقّق لها شعبية
واسعة.
وتكمن أهمية القصة
القصيرة فى أنها شكل أدبى فنى قادر على طرح أعقد الرؤى وأخصب القضايا
والقراءات(8) ذاتية وغيرية ونفسية واجتماعية، وبصورة دقيقة واعية من خلال علاقة
الحدث بالواقع وما ينجم عنه من صراع وما تمتاز به من تركيز وتكثيف فى استخدام
الدلالات اللغوية المناسبة لطبيعة الحدث وأحوال الشخصية وخصائص القص وحركية
الحوار والسرد ومظاهر الخيال والحقيقة وغير ذلك من القضايا التى تتوغل هذا الفن
الأدبى المتميز.
ومما يلفت النظر فى ما
تطالعنا به المطابع مما يطلق عليه مصطلح/ أسم القصة القصيرة أنه ليس من القصة
القصيرة فى شئ فيما وراء محدودية الكلمات والصفحات؛ وكأن هذا المظهر هو أهم ما
ينبغى أن يحافظ عليه الكتّاب ليعدّ نتاجهم من فن القصة القصيرة..
ومن غير شك فإن النقاد
أسهموا فى تمييع مصطلح القصة القصيرة وانصهار تقنياتها الفنية بسبب عدم
التزامهم بتلك المقاييس التى طرحناها وتسامحهم فى تقويم ذلك النتاج ويتغاضون عن
مخالفاته الواسعة وتجاوزاته لتقنيات هذا الفن الأدبى وكأنهم يقومون إنتاجا
واقعا مفروضا عليه مصطلح القصة القصيرة ولا يقومون القصة القصيرة عندهم من خلال
التقنيات الفنية والـمعطيات الجمالية المرصودة لها فى إطار التعريف المناسب
لها، وهذا هو سرّ الخلط والاضطراب الذى ساد هذا اللون الأدبى الممتع. وفى
الحقيقة أن تـسرّع المبدعين لهذا الفن وغفلة نقادهم أو تسامحهم عن متابعة
تـقصيرهم والتنبيه المستمر عليه هو الذى شوّه تقنيات القصة القصيرة وأحدث فيها
كل ذلك الاختلاط والاضطراب وليس كما زعم بعضهم من أن "حداثتها جعلتها غير قادرة
على خلق تقاليد أدبية خاصة بها"(9) وربما كان هذا الموقف وراء الأزمة التى
تعانى منه القصة القصيرة، وفى الحق أن القصة القصيرة قادرة على تحقيق مكانة
أدبية سامقة فى سلّم الأنماط الأدبية الإبداعية عندما يحرص مبدعوها، ومن ورائهم
نقادها، على التزام الطرائق الفنية الصحيحة فى إبداعها غير خالطين لها بغيرها
من ألوان الإبداع الأدبى، وهذه الطرائق أو الخصائص تقوم على مظهرين: مظهر القصّ
وعناصره المتعددة: الحدث والشخصية والحبكة والحوار والسرد والعقدة والحل
والزمان والمكان، ثم المظهر الانطباعى/ وحدة الانطباع الذى تحققه القصة القصيرة
فى العادة لعدم تعدد الأحداث وتنوع الشخوص فيها ولتركيزها على أزمة واحدة.
ومن هنا نجدنا ملزمين
بتحديد أهم المقومات الفنية والجمالية للقصة القصيرة التى ينبغى أن يلتزمها
مبدعوها ونقادها على السواء لتتحدد لها هويتها المستقلة عن سائر الأنماط
الأدبية المشابهة.
تعريف القصة القصيرة:
لعلنا لا نجاوز الحقيقة
عندما نزعم أن عدم وجود تعريف محدد لمصطلح "القصة القصيرة" هو أهم الأسباب التى
أوجدت الاختلاط بين القصة الـقصيرة وغيرها من الأنماط الأدبية مما يدفعنا إلى
ضرورة تحديد مفهومها، أو تعريفها تعريفا محددا يجعلها فنّا أدبيا خاصا متميزا
عن غيره من فنون الأدب وبرغم ما يلقانا من تعريفات النقاد والدارسين للقصة
القصيرة فـإننا نود أن نختار منها ما يذهب الو أن القصة القصيرة المحكمة هى
سلسلة مـن المشاهد الموصوفة تنشأ خلالها حالة مسبّبة تتطلّب شخصية حاسمة ذات
صفة مسيطرة تحاول أن تحلّ نوعا من المشكلة من خلال بعض الأحداث التى تتعرض لبعض
العوائق والتصعيدات/ العقدة، حتى تصل إلى نتيجة قرار تلك الشخصية النهائى فيما
يعرف بلحظة التنوير أو الحل فى أسلوب يمتاز بالتركيز والتكثيف الدلالى دون أن
يكون للبعد الكمّى فيها كبير شأن(10).
وواضح أن هذا
التعريف يحدد الحدث الجزئى الذى تقوم عليه القصة القصيرة وما يتصل به من تطور
وتنام تقوم به الشخصية الحاسمة وربما الوحيدْ فيها عبر إطار محدد من الزمان
والمكان؛ وكلما كانت هذه العناصر محددة وضيقة كانت أدنى إلى حقيقة القصة
القصيرة ومفهومها الفنى/ تقنياتها..وهكذا تتولد القصة القصيرة من رحم الحدث كما
يتولد الحلم، ويتنامى كما تتنامى الشرنقة أو اللؤلؤة فى قلب المحارة..
بيد أن النقاد ومبدعى
هذا الفن لم يحرصوا على التزام هاتيك الـخصائص الفنية مما جعلها تختلف اختلافا
واسعا بغيرها من الأنواع الأدبية فضاعت معالمها وفقدت خصائصها الفنية واصيبت
بدرجة كبيرة واسعة من التميّع والانصهار..فقد اختلطت القصة القصيرة بكثير من
الأنماط الأدبية سواء منها ما يرتبط بها ببعض الوشائج المتمثلة فى خصائصها
الأسلوبية وعناصرها الفنية، وما لا يرتبط بشئ من ذلك ألبتّة؛ فقد خلط بعض
النقاد بين القصة القصيرة وبين الرواية القصيرة عندما نظروا إليها من زاوية
الطول والحجم بعيدا عن التقنيات الفنية والخصائص المميزة متناسين أو ناسين أن
قضية الطول والحجم فى القصة القصيرة ى ينبغى أن ينظر إليها إلاّ من خلال ما
تقتضيه الأحداث والحبكة والشخصيات دون تحديد كمّىّ كما ذهب إليه كثير من
النقاد.
وقد بلغ ذلك الخلط حدّا
جعل بعض النقاد لا يولى قضية الحبكة فى القصة القصيرة أى اهتمام، حتى أنه لا
يشترطها فيها. ومثل هذا الأمر يفضى إلـى تميع هذا الفن وعدم تحديد ضوابطه
وقواعده وأصوله للفنية، كما يفضى بالتالى إلى إهماله وعدم العناية به، أو على
الأقل التخلص من مصطلحه الفنى. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا زعمنا أن انحطاط
مستوى هذا الفن الممتع يرجع إلى عدم تحديد أبعاد مصطلحه الفنى تحديدا ينفى عنه
التعدد والتنوع والتميع، ولو اتخذت القصة القصيرة لها مصطلحذا منهج محدد من حيث
الشكل والبناء والحدث والشخصية وتطورها وأبعادها والحبكة والسرد والـحوار لحظيت
باهتمام أكبر وتقدير أعظم، ولحققت من الإبداع والمكانة مـا تصبو إليه. ومن هنا
ينبغى أن يحكم على القصة القصيرة وينظر إليها من هذه الزاوية، وبمقدار توافر
هذه التقنيات الفنية بحيث ينفى عنها كل ما يخالفها من ألوان الإبداع الأدبى.
كذلك الاعتماد على تعريف
"أرسطو" للقصة واشتراطه أن يكون لها بـداية ووسط ونهاية دون تحديد للحدث
والشخصية والزمان والمكان أدى إلى اختلاطها بالرواية القصيرة والرواية الطويلة
وغيرهما من فنون القصّ أو الحكى.
وقد وفق د/ أحمد يوسف
عندما وصّف القصة القصيرة بأنها أقرب الفنون إلى الشعر لاعتمادها على تصوير
لمحة دالّة فى الزمان والمكان، ومن شأن هذا التصوير التركيز فى البناء والتكثيف
فى الدلالة، وهما سمتان جوهريتان فى العمل الشعرى؛ ومن هنا لا ننتظر من كاتب
القصة القصيرة أن يقدم الشخصية بأبعادها المعروفة فى الفن الدرامى، بل ننتظر
منه دائما أن يقدمها متفاعلة مع زمانها ومكانها، صانعة حدثا يحمل طابع الدلالة
الشعرية، وهو طابع قابل لتعدد المستويات، ومن ثم التأويلات، وبالطبع لا تجسّد
ذلك كله إلاّ من خلال لغة تعتمد الصورة وسلتها الأولى والأخيرة".
ومن هنا فكثيرا ما يغفل
متعاطو فن القصة القصيرة عن أبرز مواصفاتها أو شروطها الفنية فيما يتعلق بالحدث
والشخصية والحبكة والزمان والمكان، وهى أهم العناصر الرئيسة المكونة لفن القصّ
عموما ويخيل للـكثيرين منهم أن شرط القصة القصيره/ الأقصوصة - الرئيس هو
محدودية الحجم أو الطول محدودية الكلمات أو الأوراق مهما تعددت الأحداث وتنوعت
الشخوص وتبدلت الأزمنة والأمكنة..
وبعبارة أخرى يمكن فى
نظر هؤلاء أن تكون القصة القصيرة تلخيصا موجزا لأحـداث رواية طويلة أو حتى
مسلسلة بالغة الطول مما تطلع به علينا أجهزة البث الفضائى فى هذه الأيام، ما
دامت تسكب فى بضع أوراق وتصاغ من بضعة مئات من الكلمات، مما يدفعنا دفعا إلى أن
ننبّه مرة أخرى إلى أن أبرز مـقومات القصة القصيرة الفنية أنها تتناول حدثا
محدودا جدا، أو لمحة خاطفة ذات دلاله فكرية أو نفسية وقعت فى إطار محدود كذلك
من الزمان والمكان يرصدها القاصّ رصدا تتطور فيه الأبعاد وتتمحور فى داخل
الشخصية الحاسمة لتبلغ ما يعرف بالعقدة، ثم تأتى لحظة التنوير أو الحل لإشكالية
الصراع أو تطور الحدث فيها. ومن هنا كان فن القصة القصيرة فى نظرنا من أشقّ
الفنون الأدبية وأصعبها لما تتطلبه من مهارة واقتدار وسيطرة عـلى كافة الخيوط
التى تشكلها. وقد لا يشركها فى هذه الصعوبة بشكل متميز غير القصيدة الشعرية.
ومن كل هذا بان من
الضرورى فى بحث القصة القصيرة/ الأقصوصة وتقنياتها الفنية وجمالياتها تحديد
مفهومات الأنماط الأدبية الإبداعية المرتبطة بواشجة قويه بفن القصة القصيرة فى
محاولة جادة لتضييق شقة الخلاف وتقريب وجهات النظر المتباينة فيها.
أما أهم الفنون الأدبية
المرتبطة بالقصة القصيرة/ الأقصوصة ارتباطا وثيقا فهى الحكاية والمقامة والخبر
والرواية القصيرة والرواية الطويلة والمسرحية والملحمة. وهذه الأنماط يربط
بينها الأشتراك العام فى البناء الحدثى والشخوصى والحبكة والحوار والسرد
والعقدة والحل/ لحظة التنوير والزمان والمكان. وربما هذا الاشتراك الواسع
والعميق بين هاتيك الألوان الأدبية الإبداعية هو سرّ التداخل الكبير فيما بينما
وما ينجم عنه من اختلاط كان مدعاة لهذه التوطئة التفريقية التى تهدف إلى تحقيق
الفصل أوفكّ الارتباط بينها على هذا النحو الآتى:
أما القصة القصيرة/
الأقصوصة فهما مصطلحان لنوع أدبى واحد ينبغى أن يقوم على أقل ما يمكن من
الأحداث/ حدث واحد يتنامى عبر شخصيات محدودة أو شخصية واحدة حاسمة، وفى إطار
محدود جداً من الزمان والمكان حتى يبلى الصراع ذروته عند تأزم الموقف وتعقيده
لتأتى من ثمّ لحظة التنوير المناسبة معزولة عن المصادفة والافتعال دون اشتراط
الحجم أو الطول الذى ينبغى أن يكون محدوداً بطبيعة الحال. ووفق هذا التحديد
التعريفى يمكن أن تكون "المقامة" أقرب الأنماط الأدبية التى تعتمد على القصّ أو
الـحكى إلى القصة القصيرة/ الأقصوصة لاعتمادها على حدث محدد مـتنام وشخصية
واحدة حاسمة/ البطل أو الراوى، وحبكة دقيقة وزمان ومكان محددين، وأن خلت من
التركيز والتكثيف لتبنّيها نمطا خاصا فى البناء يقوم على البديع والشعر وفقا
لطبيعة البيئة والظروف التى ولدت فيها بكل معطياتها الثقافية والفنية المتميزة،
بصرف النظر عن نمطيه الحدث والشخصية والحبكة المتكررة فيها تبعا للغايات
المتعددة التى أنشئت من أجلها المقامات كما هو معروف(11).
أما الحكاية أو الحدّوتة
فهى تختلف عن القصة القصيرة فى تعدد الأحداث وتنوع الشخوص وتبادين الأزمنة
والأمكنة واتساعها اتساعا يخرجها عن إطار الأقصوصة وإن اتفقت معها فى تقنياتها
الفنية المتعددة: الحبكة والسرد والحوار والعقدة والحل، دون أن تكون الخرافة
والأسطورة عاملا رئيسا فى التفرقة بينهما. ولعل أهم ما يميز هذا النمط الأدبي
الإبداعي أنه تسوده روح الشعب، وتشيع فيه أحلامه وآماله وطموحاته وآلامه
وثقافاته، حتى يمكن أن يعدّ النمط الأدبي المعبر عن وجدان الشعب وروح الجماعة.
أما الخبر فهو ضرب أدبى
يقوم على القص والسرد للأحداث المتعددة دون عـناية بتصوير الأبعاد الفنية
والاجتماعية وغيرها للشخصيات الفاعلة أو المحركة لها، وذلك لأن العناية منصبة
على تطور الأحد فى المقام الأول دون اهتمام فنّى كذلك بالزمان والمكان وتحديد
مقوماتها الشخصية، على نحو ما نجد فى خبر "داحس والغبراء" و "البسوس" و "غزوات
الرسول (ص) وغيرها، والتى اتخذت صبغة الخبر التاريخى/ الحدث التاريخى.
أما الرواية القصيرة
فتقع فى منزله وسط بين منزلتى القصة القصيرة والرواية الطويلة من حيث محدودية
الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة بصورة أكبر من نظائرها فى الأقصوصة وأقل مما
فى الرواية الطويلة؛ ولعلها بذلك الأختصار والتركيز تدنو كثيرا من الحكاية/
الحدوتة أو الأقصوصة/ الفانتازيا..
وهنا نصل إلى الرواية
الطويلة التى تقوم أساسا على تعدد الفصول والأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة
التى تتضافر جميعها لتحقيق غايات فنية ومضامين اجتماعية وفكرية خاصة سعى إليها
القاصّ أو الروائى بعناية بالغة. وقد شهدت الرواية الطويلة تطورا فنيّا واسعا
زواكب تطور أجهزة البثّ المرئى خاصة عبر المسلسلات المحدودة وغير المحدودة أو
المفتوحة (لـيالى الحلمية، مسلسلات شعوب أمريكا الوسطى واللاتينية وغيرها..)
وهى روايات مفتوحة بلا نهاية، ولكنها قابلة للتحول إلى روايات طويلة محدودة
واضحة النهاية.
والمسرحية تشرك الرواية
الطويلة فى أهم خصائصها الفنية فيما عدا الحوار الذى تقوم عليه المسرحية
أساسا.. أما الملحمة فهى إطار فنّى قصصى يستغل لسرد أحداث متعددة وشخوص متنوعة
فى أطر متنوعة وفسيحة من الزمان والمكان، ويتدخل فيها الخيال وتشيع فيها
الخرافة والأسطوره، وتقوم على الشعر عند الأمم الأخرى كما فى "الياذة" و
"أوديسة" هوميروس الأغريقى و "انياد" فرجيل الرومانى اللاتينى، و "مهابهاراتا"
و "رامايانا" الهنود و "شاهنامة" الفردوسى الفارسى، و "كوميديا" دانتى الإيطالى
و "الفردوس الـضائعة" لملتون الأنجليزى وغيرها، فى حين يقوم النوع الذى عرفه
العرب منها على المزاوجة بين الشعر والنثر أو على النثر وحده كما فى ملاحم
"عنترة" و "الزير سالم" و "سيف بن ذى يزن" و "حمزة البهلوان" و "الأميرة ذات
الهمة" و "الظاهر بيبرس" و "تغريبة بنى هلال" وغيرها، على ما بين الملحمة
العربية والملحمة الأممية من اختلاف واسع غير محدود فى التقنيات الفنية
والمضامين الفكرية كما هو معروف.
ومن كل هذا تتبين لنا
الخصائص الفنية للقصة القصيرة التى تتميز بها عن سائر الأنمانط الأدبية
الأبداعية المشابهة، وكلما دققنا وشددنا فى تحديد تلك الخصائص والسمات الفنية
أمكننا التفريق بينها ونفى الأنماط الأدبية المتداخلة معها سواء منها ما يقوم
على القص والحبكة والحدث والشخوص والزمان والمكان، وما لا يقوم على شئ من ذلك
مثل "العجالة" والخاطرة" و "المقال" وغيرها مما لا ينبغى أن يعدّ منها ألبتّة؛
وإذا ما التزمنا، وألزمنا الآخرين بهذه المقاييس الفنية استطعنا أن نتبين أولا
صعوبة هذا الفن الأدبى الإبداعى، وثانيا قلة نماذجه وندرة مبدعيه، وبذلك تظل
السيطرة والشيوع للقصيدة الشعرية بكل إبداعياتها وتقنياتها وجمالياتها..
ولعل "المقال" كان من
أبرز الفنون الأدبية التى اختلطت بالقصة القصيرة على ما بينهما من تباين واسع؛
وربما كان ذلك لمواكبته اياها فى النشأة، ولشيوع النزعة الاصلاحية فيهما وشدة
اهتماتم الكتاب فى تلك المرحلة المبكرة بها فيهما/ المقال والقصة القصيرة، مما
جعل كثيرا من مـقالات الكتّاب تتداخل مع القصة القصيرة وتتحول إليها تحولاّ
أفسد مـفهومها وخصائصها الفنية المتميزة افسادا كبيرا، ونحن لا نستطيع أن نعفى
الصحافة من مسؤولياتها ودورها البالغ الخطير فى هذا الاختلاط والتداخل. وقد
أشار إلى هذه الظاهرة كثير من الباحثين فى القصة القصيرة خاصة، ولو مضينا
نتقصّى أقوالهم وآراءهم فى هذا الصدد لطال بنا الأمر واتسع المجال مما يجعلنا
نكتفى بإشارات سريعة إلى بعضها من مثل الرأى الـذى طرحه الناقد الحداثى السعودى
"سعيد السريحى" وهو يبحث نشأة القصة الـقصيرة وتحولها من فن شفاهى إلى فن مكتوب
مما أدى إلى تلبسها بأدبيات الكتابة وانفصالها عن أدبيات الفن الشفاهى؛ ولما
كان "المقال" هو الفن الكتابى السائد والذى تمت المصادقة على مشروعيته فى تلك
المرحلة، فقد كان طبيعيا أن تجئ البدايات القصصية امتدادا له"(12).
وعلى هذه الشاكلة تبينت
لنا الأبعاد الفنية للقصة القصيرة/ الأقصوصة، ذلك الفن الأدبى الإبداعى الرائع
الذى يجدر بمبدعيه، ومن ورائهم نقاده، أن يحرصوا عليها حرصا شديدا لينتجوا فنّا
جديرا بالإعجاب والتقدير.
المراجع:
(1)، (2) النساج: تطور
القصة القصيرة فى مصر ص 35 هامش 8،9/ مكتبة غريب 1990.
(3) نفسه 41.
(4) نفسه 40 - 41.
(5) صبرى حافظ: جدول
الرؤى المتغايرة 341، الهيئة المصرية 1993.
(6) تطور القصة القصيرة
31 - 32.
(7) انيس المقدسى:
الإتجاهات الأدبية 2/ 143.
(8) جدل الرؤى المتغايرة
123.
(9) نفسه 343.
(10) يمكن مراجعه كثير
من الدراسات التى تناولت تقنيات القصة القصيرة من مثل: فن القصة القصيرة رشاد
رشدى، القصة القصيرة: يوسف الشارونى، القصة القصيرة: الطاهر مكى، فن كتابة
القصة: حسين القبانى، مجلة "فصول" العدد الخاص بالقصة القصيرة/1982….الخ
(11) راجع مثلا:
المقامة: شوقى ضيف، أصول المقامات: إبراهيم السعافين، رأى فى المقامات: عبد
الرحمن ياغى،….الخ.
(12) جدل الرؤى
المتغايرة 343، وانظر: تطور القصة القصيرة 49….، الاتجاهات الفنية للقصة
القصيرة فى المملكة 13.
جَوْهَر
القصّة القصيرة السورية
وَبُنيتها
مع إطلالة الثمانينات
بقلم الكاتب:
محسن يوسف
وجه الثمانينات القصصي:
تتيح مجلة الموقف الأدبي،
للدارس أن يتعرف القصة السورية مع إطلالة الثمانينات، من خلال قصص سبعة وثلاثين
كاتباً1 يمثلون مختلف التيارات في مجلد وثائقي ضخم، يمكننا أن نطلق عليه تسمية
(وجه الثمانينات القصصي).
ومن تأمل الأسماء التي
تواجدت في هذا العدد، نرى أن وجه القصة السورية، يظهر على حقيقته أكثر كمالاً
وجمالاً مما كنا نتصور. لم يطغ رعيل على رعيل، ولم يبرز تيار على حساب تيار
آخر. ربما غابت أسماء ما كان لها أن تغيب، لكن رعيل الغائبين لم يغب، ففي هذا
المجلد، نجد ذا الباع الطويل في ميدان القصة، إلى جوار صاحب المجموعة الواحدة،
ونقرأ لعدد من الكاتبات، قل أن نلتقيهن دفعة واحدة.
"هذا ما يتعلق بشكل العدد،
أما ما يتعلق بموضوع الدراسة، فإن توجيهات الكتاب الذي يضمها2 تفرض التزامها
بأمرين اثنين:
1 ـ الجوهر: وهو مصطلح قل
تداوله، ولم نعتد عليه في دراستنا النقدية، وبأبسط تعريف هو مجموعة القيم
والأفكار التي يطرحها مضمون القصة.
2 ـ البنية والمصطلح ليس ما
اتفق على تسميته (بالشكل). إنه البناء الهندسي الكامل للقصة. مكوناتها اللغوية.
الأسلوب الذي قدم النص. احتواء الشكل لجوهر القصة المتمثل بمجموعة القيم
والأفكار...".
محاور الدراسة:
نظراً للعدد الكبير والهائل
من القصص المدروسة، مع تعدد تيارات كتابها، يجدر بنا تناولها، عبر ثلاثة محاور،
تسهيلاً للبحث، ولكي تحقق الدراسة، ما نطمح إليه من الدقة، والاتزان، ومن ثم
الإنصاف.
يضم العدد سبع قصص لسبع
كاتبات، وستكون القصص السبع، المحور الأول في الدراسة. المحور الثاني، ويشمل
مجموعة الكتاب الذين كتبوا القصة بين فترة الخمسينات أو قبلها، ونهاية
الستينات، وما تبقى من القصص، فتتم دراستها ضمن المحور الثالث...
1 ـ قصص المحور الأول:
ـ اختراق الطوق المحظور ـ
في مستهل تلمسنا لقصص
الكاتبات، يتبادر إلى الذهن، مجموع ما كتبته المرأة في القصة القصيرة السورية.
إن تراث المرأة القاصة في
قطرنا، يشير إلى موضوعات أثيرة، لازمت رحلة جل كاتباتنا. ربما كان الأكثر
التصاقاً بها، موضوعات الحب والزواج وما شابه ذلك من الأمور الاجتماعية، حتى إن
الموضوعات الوطنية أو القومية، وغيرها من مشكلات العالم الثالث، قل أن تحظى
باهتمامهن، فلا نجد في أعمالهن إلا صدى لما يكتبه الرجل، ولكي لا يبدو الحكم
مجافياً للواقع، لنبحث في القصص السبع التي سنتعرض لها، عما تطرح المرأة
القاصة... من أمور:
يغوص قلم دلال حاتم في جرح
مفتوح، عبر قصتها القصيرة (لماذا). نشاهد رجلاً بريئاً طيباً، يسقط في الشارع،
برصاصة غادرة. يرفع رأسه عندما يدرك أنه القتيل متسائلاً: لماذا؟.. تمتلئ هذه
الـ(لماذا) بعشرات الأسئلة المحيرة، وهنا تكمن عظمة القصة، تنفتح أمام العيون
لتبرز أسرارها الشفافة. إن الكاتبة تغمس قلماً حساساً، في أعماق تنزف وتتألم،
وتعاني من واقع مفروض ومرفوض، لكن ما يحدث يحدث. يظل الأطفال ينتظرون عودة
الوالد المغدور. الوالد الذي تختلط في أذنيه جميع الأصوات الحنون، المغمورة
بالحب والبراءة والطهر. لماذا يسقط هذا الإنسان؟؟...
استخدمت الكاتبة أفعال الزمن
المستمر لتوحي بحرارة الجرح واستمرار المأساة وساعدها ذلك في ضبط الجمل
وتماسكها، بينما امتاز أسلوبها بالسلامة والبساطة، وزهت اللغة لنقرأ:
"تختلط زغاريد أمه بهديل
صغيرته بصيحات الواقفين بعيداً. ينتفض كطائر مذبوح. يعلو شخيره ويعرف إنه
القتيل. ينكفئ ثانية على الأرض. تفر من عينيه دمعتان كبيرتان وسؤال وحيد ...
لماذا؟..".
وددت لو استمر تدفق هذه
القصة العذب، لكن ذلك، ربما أساء إلى شكلها الذي اكتمل، وأحاط بقيمها وأفكارها،
دون ضيق أو ترهل...
في قصة (العجوزان) لناديا
خوست، نلتقي عاشقين عجوزين، يحملان ملامح أليفة، محبوبة، تعيد إلى الأذهان،
ملامح شخصيات النصف الأخير من القرن التاسع عشر، في أدب القصة الروسية. ثمة حب
كبير لم تستطع السنون أن تدفع به إلى الكهولة. ظل شاباً لكنه ليس بعنيف، وبقي
نظيفاً وقوياً... وعبر الذكريات الماضية والحاضر الهادئ، حررت الكاتبة قصتها من
تأثير الأفعال، فانسابت برقة لتؤطر وجود العجوزين، عبر لغة سهلة أسهمت في إضفاء
المزيد من الإقناع على العلاقة القائمة بين العاشقين... الراهبين...
حبذا لو غربل الحوار قليلاً،
فالقصة مقنعة كما قلت، ولا حاجة للتبسيط، ومهما كانت الضرورة لاستخدام
(الفوتوغرافية) تظل لغتنا، بما تملكه من مفردات، أغنى من استخدام اللغة
الدارجة...
ـ في أيام ملاحة الخاني، نفس
روائي وليد، يحبو أحياناً ويعدو حيناً، نتلمس من خلال الذكريات حماسة شباب
الخمسينات، وحيرتهم أمام متناقضات وطن لم يبلغ مواطنوه سن الرشد. تصفو لغة
الكاتبة وترق بين سطر وآخر، وتستبد الشعارات السياسية المباشرة ومفردات القاموس
السياسي في أماكن أخرى، ويمتد الزمن إلا ما لا نهاية.
هل (الأيام) مقطع من رواية؟.
إذا كان كذلك، فلاشك أن إعادة النظر ضرورية.
ـ ضياء قصبجي، تمنحنا قصة
الحب الثانية (أسافر وأحبك. تبقين وتحبينني) إن العاشقة تنتظر (كما الأرض
العطشى تنتظر ذرات المطر) ولأنها تحب وطنها؛ ترفض أن تسافر مع من تحب، لتتباعد
وشائج العلاقة على الرغم من توهج استمرارها.
ثمة قيم كبيرة في النص:
الوطن. الحب. الوفاء.. الخ، لكن بطلة ضياء التي تبحث عن الفرح، وتنتظر عودة
الحبيب الراحل، لم تفعل شيئاً سوى الانتظار، فظلت وهذه القيم مجردات اختفت خلف
مفردات دافئة وجميلة.. لغة الكاتبة رقيقة، شفافة، وجملها قصيرة ومتزنة...
تقديم قصة (معاناة) لمقبولة
الشلق، حيرة كاتب قصة في اختيار موضوع لقصة جديدة. تنتهي القصة بلقاء الكاتب
بمغنية تطرب الجماهير وفي أعماقها تضطرم الهموم والآلام. أليس هذا الموضوع
جديراً بالكتابة؟..
امرأة وفتى، وضعتهما قمر
كيلاني في (حكاية من زمن الموت والانتظار) في وضع يزداد تأزماً، مع تأزم القصة
في التعبير عما تريد الكاتبة إيصاله، فلا وجدت لهما فكاكاً، ولم تمنحنا القصة
الإحساس المأساوي الذي بشرت به.
ماذا أرادت الكاتبة أن
تقول؟.. من عائشة الفهد؟.. هل هي حقاً حكاية؟.. هل جنت عائشة لموت زوجها ومن هم
الذين جاؤوا به مهمشاً كإبريق مكسور؟.. لماذا حارب الزوج وأية حرب مات فيها؟..
في القصة فراغات كثيرة،
أفقدتها الوضع والتماسك، كما أن التراكيب اللغوية كانت أكبر من أن تحيط
بالمعاني، أو تخدم البناء اللغوي للقصة.
الكاتبة الأخيرة التي شاركت
في عدد الموقف الأدبي الخاص بالقصة القصيرة هي لوسي سلاحيان وتقدم قصة في الحب
عنوانها (المحرومة من الحب). مدرّسة متزوجة ومديرها، يعيشان حالة خاصة من
الوجد، يوقف تصاعدها إحساس المدير بمجانية هذه الحالة.
تبدو القيم التي تطرحها
الكاتبة، كدور في نسيج القصة، ولعل أكثرها توهجاً، ذلك الشرف النادر الذي يضوع
من موقف المدير.
استخدمت الكاتبة ضميرها
اللغوي، واستطاعت من خلاله السيطرة على تمرد القصة للانفلاش نحو الزمن الروائي،
وزاد في تماسك مقاطعها، حتى ليبدو أنه لا ضرورة للنجوم الخماسية التي تفصل
مقاطع القصة، وساعدها هذا الضمير على تركيز ما أرادت توصيله، أما لغتها فغير
مركبة، وتتميز بغنى في المفردات البسيطة ذات التأثير.
***
لنعد الآن إلى ما كتب في
بداية تعرضنا لقصص الكاتبات. إن كاتبة واحدة فقط هي دلال حاتم استطاعت أن تخرق
الطوق المحظور، وتقدم قصة تنبض بالهم الوطني. بالهم اليومي عبر المآسي التي
يسببها القتل المجاني، لكل ماهو بريء ونظيف في الوطن. أي وطن. أما ملاحة الخاني
فتحاول الاقتراب من الطوق لكنها لا توفق، بينما نجد الكاتبات الباقيات يراوحن،
نجاحاً أو إخفاقاً، حول الموضوع الأثير. إن الحب في قصص (ناديا خوست ـ ضياء
قصبجي ـ لوسي سلاحيان) على اختلاف زاوية الطرح، وجدارة ما يطرح أوتهافته، يظل
الجانب الأكثر إغراءً للمرأة، بينما نجد قصتي قمر كيلاني ومقبولة الشلق
تتعثران. قصة قمر لابتعاد الكاتبة عما يستسيغه قلمها، وقصة مقبولة لعدم جدوى
جميع الموضوعات التي فكرت فيها.
إن قصة المرأة في سورية أمام
امتحان صعب، نكتفي هنا بالإشارة إلى ضرورة اختراقها للطوق المحظور، لتحقق
قفزاتها، وتبلغ سن النضج الكامل...
قراءات في قصص مجلة الموقف
الأدبي
2 ـ قصص المحور الثاني:
"القصة ... حضور متجدد
دائم".
لدينا في هذا المحور أربعة
عشر كاتباً، نستطيع القول أنهم يمثلون ـ بنسب متفاوتة ـ القصة السورية، بين
مرحلة الردة، ونهاية الستينات3. يبدأ العدد بقصة (الأخرس غضبان) لأديب نحوي،
وهي صورة بسيطة للمناضل الفلسطيني. المعلم الذي (ينطلق إلى الحرب من بيتنا،
ويعود بعد الهزيمة. يظل ميتاً طوال النهار، وفي الليل تنطلق روحه مطالبة
بالثأر). إنه المكبل بالقيود والإحباطات، وليس له إلا أن يكون مقاتلاً في صفوف
(الاحتياط).
يُدهش شباب لغة النحوي.
اللغة الحارة الشهية التي تفوح بروائح ودفء حارات الأبطال الطيبين المجهولين،
ومما يزيد في حلاوتها استخدام الضمير الحار والفعل المستمر توأمي لغة النحوي،
وتبدو القصة كأنها أنشودة شعبية شجية، والإحساس ببساطتها يجعلها في مصاف أفضل
قصص الكاتب التي قرأناها في مجموعاته السابقة.
وليد إخلاصي (في قصة
(بانتظار الأمير) يدفع ببطله سعيد البدين ليخوض معاناة (غودوت) العربي. إن
الأمل الذي يصبو إليه البطل يبدو قزماً، وهشاً، إلى جوار أحلام الخادم أو
التابع الفقير. والأمل كقيمة، أضفى على جو القصة دفئاً إنسانياً، ويذكِّر هذا
الجو الدافئ بأجواء قصص عالمية ترجمت إلى لغتنا في فترة بروز اسم هذا الكاتب
المتميز. لكن لماذا يستطيل زمن قصص وليد إخلاصي؟.. زمن قصته هذه، وقصص مجموعتيه
الأخيرتين "موت الحلزون ـ الأعشاب السوداء" يمتد ويمتد، كان إحساس الكاتب نحو
القصة بدأ يتضاءل، لينحاز إلى شكل وبناء الرواية. وبرغم ذلك، يمكن أن نشيد بما
قدم في قصة (بانتظار الأمير) ضمن مضمار دراستنا، فلغة الكاتب وأسلوبه يزدادان
تألقاً وتمرساً، ووعاؤه الفني الأكثر رحابة، والأمير تفرداً.
.. بعد غياب قصصي طويل، يعود
إلينا القاص اسكندر لوقا، في قصته (عودة شاهين)، ليربط بين جيلين. عانى من وطأة
الاستعمار العثماني، وجيل حارب وما يزال في سبيل الوطن.
تنفسح القصة لتقدم صورتي
"شاهين الأب، والابن شاهين"، عبر رحلة الوجود العربي بين عامي "1516 ـ 1916"
بدء ونهاية الحكم العثماني وبين حرب 1973 بداية تحرر الإنسان العربي من جميع
مخلفات ماضيه الثقيل الإرث.
تصوغ أنامل الكاتب بمهارة،
صورة رمزية شفافة، لوضع الأمة العربية في عهد الاستعمار القديم، ويد الضابط
التركي تمتد إلى جسد الزوج الثاكل، وقد سكن مسدسه على مقربة من رأس طفلها
(شاهين)، وبإسقاط رموز هذه الشخصيات، نجد أن الضابط التركي هو ممثل القوى
الاستعمارية التي كانت تستبيح الأرض العربية (الأمة العربية = الأم) وتهدد
المستقل (شاهين = الابن) الذي أسهم في حرب تشرين، ولعل في تسمية البطل (شاهين)
اتكاء ما للإيحاء باستمرار دور البطل الشعبي (شاهين) صاحب النضال المعروف أيام
الانتداب الفرنسي.
القصة غنية بأفكارها وقيمها،
وأبرز ما تقدمه استمرارية وحضور الأمة العربية برجالها وأبطالها. إن الأم التي
تربط الماضي بالحاضر، تستعيد ما تفتقده عند عودة ابنها شاهين، وحتى لو لم يعد،
فهو مثل أبيه، سيبقى خالداً "ـ حتى لو لم تعد يا ولدي، فكنت، مثل أبيك، ستبقى
معنا دائماً ـ"، "أليس هذا حديث الأمة... أم الجميع؟".
سيطر الكاتب على تسلسل القصة
المنطقي، رغم صعوبة الأفكار التي تطرحها باستخدام أفعال الزمن المستمر، وفي
اعتماد اللغة السهلة حافظ على صفاء الأفكار، فالجمل الصعبة التراكيب تساهم في
تشويه ما يود الكاتب إيصاله.
ـ حياة مرة ـ قصة صلاح دهني،
تقدم صورة شبه فوتوغرافية عن أسرة، أصيب أحد أفرادها بعاهة، وسعي هذه الأسرة
لعلاج صاحب العاهة.
تعيد القصة إلى الأذهان،
موضوعات كاتبنا الكبير عبد السلام العجيلي في قصصه التي يتناول فيها أمور الطب
والأمراض.
يحاول الكاتب من خلال القصة،
إبراز ما عانته الأسرة في سبيل مريضها، وعجز الطب أمام القدر، كما يبرز عملية
لجوء الأسرة إلى الدجالين والطب الشعبي عندما تصل إلى درجة اليأس من الشفاء.
استخدم الكاتب جميع الضمائر والأفعال لتأطير أفكاره. تركيب الجمل غير سلسل مما
يفسح المجال للشك في اتزان التراكيب على الرغم من صحتها. القصة أقرب إلى
السيرة، وفيها نكهة الحكايات..
ـ بطل رياض نصور في قصة
الرقص، بطل مأزوم، يعاني مما حوله، الكل يرقص. العفاريت الهياكل العظمية. إنه
يحتاج هو الآخر إلى ممارسة ما يخفف من أزمته فيهرب، ويهرب بطل رياض إلى
الطبيعة. إلى الأم الأولى، وهناك يمارس رقصه الخاص به، تحت مطر غزير، حيث
النسيم النقي، ورائحة العشب الطري والأرض المشبعة بالطيب.
يحتوي القصة جو رمزي هادئ
الإيحاءات، مما يجعلها واضحة المرامي. لغة الكاتب سهلة وتقترب من الشعر
أحياناً. جمله قصيرة وسليمة. على الرغم من سردية القصة ذات الاتجاه الواحد تغلب
الشفافية عليها، لكل ما تطرحه من قيم وأفكار، يظل في الحد الأدنى بالنسبة لما
طرحته نصوص قصص مجموعته "أشباح المدينة"..
في "عروة بن الورد ملكاً"
لمحسن غانم، يستعير الكاتب وجه عروة ليضعه فوق مجموعة هموم معاصرة في محاولة
لاستبدال الرمز العصري بأسلوب الرمز المتولد من الإسقاط التاريخي.
يرفض عروة أن يكون ملكاً،
وتلك إحدى قيم القصة، ويفر من القصر بعد تتويجه، فيقبض عليه وينفى إلى
البادية.. أما تزال البادية على نقائها العربي أيها الكاتب؟..
يطرح محسن غانم، عبر اللغة
السليمة، والجمل القصيرة المتلاحقة التأثير، فكرة جديرة بأكثر من قصة قصيرة.
ماذا يعني استحضار عروة الذي يقول في إحدى قصائده: "أقسم جسمي في جسوم كثيرة"
الخ؟. هل يعني حضوره إننا نحتاج إلى عدالته الاجتماعية؟. وهل العدالة المعاصرة
(كما يصبو إليها أحفاد عروة) غير كافية، أولاً تحقق الصبوة الإنسانية؟. هل نفي
عروة إلى الصحراء أم أن العدالة ككل حكم عليها بهذا النفي؟.
تبقى القصة، على الرغم من
ترقيمها الذي أساء إلى تماسكها، إحدى القصص التي تستحق أن تقرأ بإمعان..
ـ المهندس لـ"وهيب سراي
الدين"، قصة محتال، يسطو على سكان قرية ويسلبهم أموالهم، بحجة أنه المهندس
المكلف تخطيط القرية.
تُبرز القصة تخلف سكان
القرية، بأسلوب أقرب إلى السرد. اللغة عادية، تتميز بدقة التصوير في بداية
القصة ثم تتراجع، والقصة بشكل عام تحن إلى كلاسيكية الخمسينات.
ـ في السبحة الطويلة لصقر
خوري، شاب يجد محفظة، يعيدها إلى صاحبها والد محبوبته. هذه هي القصة، ولا تختلف
في بنيتها عن القصة السابقة.
ـ مالك عزام في قصته (العزف
على المزمار) يتحدث عن كنز تحرسه حوريتان. تعلمنا القصة قيمتين هما: حب التعاون
وكره الأنانية والطمع. لم يستطع الكاتب احتواء قيمه وأفكاره بشكل فني مقبول،
فبدت القصة أقرب إلى قطعة في الوعظ والتعليم، منها إلى القصة الفنية..
ـ تحيط قصة (التفاح لا يؤكل
دائماً) لـ"علي بدور"، بهموم فاطمة، الفتاة القروية الصغيرة التي ترافق جدتها
إلى المدينة، وتتحدث عن أحلامها وتوقها إلى صورة، وحرمانها من تحقيق هذا الحلم
قصة حافلة بالرؤى الإنسانية، نص غني بالإمكانيات، قصرت المفردات اللغوية عن
احتضان ما يبثه من شفافية، كان يمكن لها أن تجعل من القصة أنشودة رائعة. إن لغة
الكاتب القصصية، ليست في مستوى براعته في التقاط الجانب الأكثر إغراءً، لهذا
بدا ما قدمه قصة خمسينية تنوء بما حملها كاتبها من تبعات، لم يعد فن القصة
اليوم ليحفل بها، بل ينظر إليها كهنات، لابد من تلافيها لتكون قصتنا أكثر
فنية..
ـ نلتقي ثانية، بقصة تنهل من
(موضوعات) العجيلي الأثيرة هي قصة (الصورة القاتلة) لبشير قنصة، ويسوقنا الكاتب
بعد استطراد طويل في المقدمة، إلى قصة السيدة خيرية التي سقطت صورة أبيها فوق
رأسها، وكانت السبب في موتها..
يأخذ الكاتب حريته كاملة في
الغوص والبحث.. والتعليل. يستشهد بالكتب الجنائية، ويحدثنا حول الشنفرى وقسمه
الذي بر به وقتل مائة من الرجال. يعرض شعراً. ويدرس لوحات الرسامين، وينتهي إلى
موعظة/ وكم من توافه الأمور عادت إلى من لا يقيم لها وزناً بالويل والبثور.
قصة خمسينية أخرى، وربما
أربعينية، أقرب إلى الحكايات منها إلى الفن القصصي....
في قصة (الصورتان) لأحد رواد
قصتنا ـ مظفر سلطان ـ نرى الحياة بين صورة الأم والعشيقة، ثم تبزهما صورة
الزوجة، فعبرها تستمر الحياة الخالدة، لنقرأ نهاية هذه القصة الجميلة:
فتح عينيه كما يفتحهما كل
يوم: فتحهما على الصورتين اللتين تطالعانه من الجدار المقابل، فلم ير في
وجهيهما عتاباً ولم يسمع على شفاههما حديثاً، إنما خيل إليه أنه يرى في عيني
الأم والغانية الفاتنة شيئاً يشبه البسمة، أما المرأة التي ترقد إلى جانبه فقد
فتحت عينيها الخالدتين، تنظران إليه بإيمان جديد".
كان يمكن لقصة سهيل أيوب
(الانتظار) أن تقارن بقصة (عودة شاهين) لاسكندر لوقا. أننا نعايش أماً تنتظر
عودة ابنها من الجولان أو جبل الشيخ، ونعلم أن أباه استشهد وهو يقاتل
الفرنسيين: (لقد قتل زوجها في الحرب، وهذا ولدها الحبيب صورة كبيرة عن أبيه).
ألا تذكرنا هذه الكلمات
بمعنى من المعاني، بما تقوله الأم في قصة اسكندر لوقا (حتى لو لم تعد ياولدي،
فكنت، مثل أبيك، ستبقى معنا دائماً)..؟
لكن.. سهيل أيوب لم يستخدم
جميع ما توفر لديه من إمكانيات، كما أنه استساغ مباشرة الكلمات من مثل (إعطاء
الوطن حقه في الحرية والاستقلال ـ العدو اللعين الغاصب ـ تراب وطنه المقدس
الخ..) وأكثر من استخدام حروف العطف. لنلاحق حرف (الواو) في بداية الصفحة 353
كمثال فنقرأ: ودلفت.. وأغلقت... وأعادت.. وتهاوت... وابتهالات..، .. إنها قصة
رغم ذلك.
قصة محمد رؤوف بشير (الدمية
والرجل). ثمة لقاء بين زوج عجوز، وعشيق لزوجه الحسناء الصغيرة. ينتهي اللقاء
بتسليم العشيق، مفتاح عش الزوجية...
***
هذه هي قصة الرواد، والرعيل
الذي كتب القصة منذ الخمسينات وحتى نهاية الستينات، وفي هذه الخارطة المتعددة
التضاريس، نلتقي الوجه الزاهي المتجدد، ونلتقي الوجه الأليف، وتصادفنا وجوه كان
ينبغي أن تكون ملامحها أكثر حضوراً، وفي الحد الأدنى كان يجدر بها المحافظة على
حضورها القديم.
تلتقي قيم وأفكار أغلب هذه
القصص، القيم والأفكار التي طرحتها قصتنا حتى إطلالة السبعينات، وهي متنوعة
ومتشابكة، كما لاحظنا من قراءتنا لها، هناك غنى ظاهر في بعضها إلى جوار الفقر
المدقع.. استخدم الكتَّاب أساليب وتقنيات لا تخرج عما ألفته القصة السورية،
ويلاحظ أن إمكانات المدرسة الرمزية لم تستغل جيداً، لكن بصمات غيرها من المدارس
كانت ظاهرة وواضحة بشكل أو بآخر..
اللغة عموماً، ظلت محتفظة
بردائها القومي. ربما غلبت اللغة الإنشائية أحياناً على اللغة القصصية، لكن ذلك
من السمات المألوفة في قصص بعض الكتَّاب..
***
قراءات في قصص مجلة الموقف
الأدبي
3 ـ قصص المحور الثالث:
وظيفة القصة الحديثة
نلتقي أسماء ستة عشر كاتباً،
في المستوى الثالث والأخير من دراستنا، وكلها من الأسماء، التي بدأت مع إطلالة
السبعينات أو قبلها بقليل، واستمرت في العطاء، لتؤكد حضورها في ساح القصة
القصيرة السورية، بما قدمته من إنتاج، أضاف شيئاً جديداً إلى سجل القصة
القصيرة..
في أولى القصص4 يأخذ بنا
زكريا شريقي في قصة (خطوات بلا أقدام) إلى جنوب لبنان. يضعنا أمام إنسان فقد كل
شيء في الجنوب، وجاء يحمل البقايا التي خلفتها الحرب الأهلية وهمجية إسرائيل:
نصف لعبة. ثوباً ملوثاً بالدماء. زجاجة دواء.. الخ وماذا يحمل إنسان الجنوب؟..
لقد فقد حتى اتزانه وعقله. إنه لم يعد يحتاج إلى شيء في عالم يحارب فيه الإنسان
بمختلف الوسائل والأدوات...
لاحق الكاتب بطله بصبر، ورسم
أبعاد قضيته بدقة، مصوراً أدق التفاصيل، ببساطة متناهية، وكانت وسيلته لغة
بسيطة، تبدو وكأنها تشكو تعثراً.
إن براعة كاتب ما، تتجلى في
تصديه لقضية شائكة، تحتاج إلى جو خاص، ولغة خاصة، ونجاحه في طرحها، وانتقاء
إطارها الفني المناسب، بالإضافة إلى سيطرته عليها مباشرة "وراهنيتها". ذلك يعني
أن هذا الكاتب حقق نجاحاً صعباً يستحق عليه الثناء...
ـ من قصص فراتية، يقدم عبد
الله أبو هيف (البرية ـ اللعنة). ثمة ضيق عظيم يطبق على الواقع الذي اختاره.
الأفق يمتلئ بالغيوم. العجاجة الصفراء تقتلع الزرع. الدواب تنفق البرية تأخذ
المال والولد. إن الإنسان في العراء، مجرد ضحية (بالدور) أمام طبيعة جبارة،
قاسية لا ترحم.
هذا ما يحدث في البرية، أما
ما يحدث في المدينة، فلا أحد يهتم لشيء فيها. كل اللحظات تهرب دون جدوى. تتقافز
الأيام فوق فراش بارد. الدناءة. السراب. الخيانات، لكن.. ماذا ينفع جلد الذات،
في مدينة محمومة.. أمام طبيعة أخرى أشد شراسة؟.. عجاجة صفراء أخرى تجتاح
المدينة.
يزرع الكاتب أملاً، في
المقطع الأخير من (اللعنة):
"نتركك الآن ونخرج إلى
الصحو، فجراً ترتمي خلفه الأثقال والأحمال والأتعاب، ويقظة هي الأمل".
ترق اللغة على الرغم من
الضيق والجفاف والوجوه الصامتة، ويخدم التقطيع عملية الإيصال، وبصورة ما يبدو
العالم الذي يحاول أبو هيف، رسم تضاريسه، كأنه نقيض عالم جورج سالم، نما بلغته
وأسلوبه، ورقة الرؤى التي تشع عبر السياق القصصي.
ـ في قصة (دوّار القمر)
لنيروز مالك، نتعرف مكاناً يحلم به العشاق. يؤمه السياح ويكرهه ساكنوه
وأصحابه.
إنها صورة الوطن، وما أشد
ظلمنا للوطن؟...
القصة بسيطة، بأسلوبها،
ولغتها، لكنها غنية بقيمها وأفكارها، كونها تتلمس موضوعاً غنياً خصباً، لم يسمح
للرمز رغم بساطته هو الآخر، بإخضاع القصة لعبوديته، بل ساعد على اتزان توازي
المستويين لخلق قصة جديرة بالقراءة.
ـ وليد معماري أو عطشان
البصير، بطل قصته، يعيشان حالة ثورية في مصنع للنسيج، يتم تعميم الحالة بوساطة
الشمس، والمطبوعات الممنوعة، إلى أماكن أخرى.
في صدر القصة نتعرف عطشان،
ابن المدينة الذي اكتسب اسماً بدوياً، ونعرف أنه شاب فقير، يحلم بأشياء كثيرة،
لكن المديرين والسكرتيرات والأطباء. كل هؤلاء يحرمون عطشان الذي يرى ولا يحب
الصمت، من أحلامه المشروعة، إن الجهات القمعية تصادر عطشان وأمثاله.
يتأثر أسلوب القصة، بتجارب
وليد في حقل قصة الطفل، "ـ تمنع الشمس من دخول المدينة منعاً باتاً... رفضت
الشمس الانصياع للأمر وما زالت تشرق ـ".
حبذا لو استمرت (الحالة
الثورية) بواقعيتها، ومباشرتها، لأن القصة، وهذه القصة بالذات، تتطلب ذلك..
ـ يعاني بطل فاروق مرعشي في
الفراشة الأخيرة طوال أيام الأسبوع، ويلجأ كبطل رياض نصور إلى الطبيعة، ويعود
إلى الطفولة لكن ذلك لا يجديه، فيعود إلى حزنه.
كما احترقت فراشة فاروق،
احترقت القيم التي حرضت عليها القصة، ولم يبق فيها سوى التشاؤم والمعاناة المرة
والموت البطيء... لماذا؟ العالم يصنع من النفايات طاقة. إن الهم الفردي يتألق
في الهم العام، لكن الكاتب لا يترك كوة صغيرة إلا أغلقها، فهل أصبح الحب
والأشياء الجميلة أعباء على القلب الإنساني؟...
ـ (ضباع) إبراهيم الخليل هم
السادة، في مضافة الدليمي أحد هؤلاء الضباع، تنمو بذور الانتماء والتمرد على
واقع قاس ديدنه الحجر والقتل والاغتصاب، واستباحة الإنسان.
إن مضافة الدليمي هي رمز
يعبق بروائح شتى، وكنت أتوقع وإبراهيم الخليل يدفع بنا إلى الذروة الفكرية
والفنية، أن يكون هناك أكثر من عملية حرق المضافة. كنت أتوقع اغتصاباً مشروعاً
وقتلاً مشروعاً، ومن ثم تندلع النيران في المضافة، على أن يشارك في هذا كل
الذين (بالت عليهم الضباع) وليس القهوجي وحده.
في لغة الكاتب اقتراب مذهل
من لغة حيدر حيدر، كما أن عمق إحساسه بقضية أبطاله، مكنه من تسليط أكبر كمية من
الضوء على ساح القصة، وأضفى على وعائها الفني، كل الجمال والروعة.
ـ خليل جاسم الحميدي، في
محظة (القطارات) يرسم ببراعة متناهية لوحة ساحرة لعلاقة دافئة، تنمو مع
اللحظات، بين رجل وامرأة، ومع انجذاب القطبين الخالدين، تجذبنا القصة إلى جسدها
الثري ورموزها الواضحة. الرجل ينهمر أحاسيس. يبرز وجهه وهو يتذكر وجهها. إنها
(الزمن الذي سبق الركض والمطاردة، وأقبية التعذيب) إنها تدفعه إلى التفكير في
بلاده. صورتها (وهي في حالة عطش، وشوق لمطر، يظل يهطل، يهطل، مائة عام، مليون
عام، ليعيد إليها خضرتها، ونماءها، وفرحها.).
المرأة. الصورة. القطب
الثاني، لابد من أن يكون اللقاء بها عفوياً، دون مقدمات، لا حاجة إلى المراوغة،
والدوران، فلا عبث أو لهو في مثل هذه العلاقة الخالدة.
إننا نعيش مع الكاتب. مع
الرجل، حالة وجد فريدة، وربما لأن رمز المرأة. رمزنا، هو الذي أكسب الحالة
صوفيتها، وفرادتها، وساهمت المفردات المنتقاة في إغناء الجو العام للقصة، كما
أن المجال الحار الذي تحرك فيه خليل، أكسب القصة الكثير من التماسك والاتزان،
ومكنه من الاستفادة من كل إمكانات الرمز الذي أحاط بما أراد إيصاله، كوشاح
جميل..
ـ قصة عميد درويش (تكيف)
تقدم شاباً لا تجارب له، يريد أن يبني حياته على هواه، فيرتب مستقبله، على أساس
البيت الجميل والزوجة الجميلة والسيارة المريحة والمال الوفير، وطريقه إلى ذلك
التسكع والأحلام.
يلتقي بائعة فينجذب إليها،
لكنه يفتقدها لافتقاره إلى الخبرة في إغواء النساء.
بدت لي القصة (كحجارة
متراصة، كما يصف الكاتب سوراً لبيت كئيب، ويشكو هذا السور من كثرة استخدام حرف
السين، وقد، بمناسبة وغير مناسبة، كما يتكئ كثيراً على فعل كان وكل ما يمت إليه
بصلة.
ـ تنام التلميذات في قصة
(الدرس الجديد) لمحمود موعد لتخلو المعلمة إلى همومها ومشكلاتها، والصغيرات
يغصن في بحر الأحلام، تتبعهن المعلمة لتغوص في وحل الأزقة المهجورة، ثم يأتي
جرس الانصراف، لينقذ الجميع من الأحلام المزعجة.
يرصد الكاتب حالة الطفولة
المستلبة، وما تتعرض له من روادع وزواجر، وأحكام لا مسوغ لها، وتأثير التربية
الخاطئة التي تعرضت لها المدرسة في طفولتها على طفولة الآخرين، وعلى اتزان
شخصيتها هي بالذات. تحضن النص مجموعة من الأساليب، تختلط بمهارة لتخدم سياق
القصة، فمن أسلوب الكتابة للأطفال، إلى أساليب الرمزيين والواقعيين، تنساب
أفكار القصة بيسر وسهولة.
ما يقلل من قيمة القصة، ذلك
التمهيد الطويل الذي سبق فض الرسالة، مع الإشارة إلى أن المعلمة فضتها بلهفة
ملحوظة، لم يلحظها الكاتب إلا في نصف القصة الثاني..
يعيدنا زهير جبور في (حكايات
المدينة المدمرة) إلى طفولته في القنيطرة. نعرف أنه درس في تلك المدينة، وكان
يخاف الكلاب الضالة، ويلعب الكرة ويركب الدراجة، ومن خلال ذلك يقدم لنا شخصيات
عايشها في تلك المرحلة من حياته /مدير المدرسة. صاحب الدراجات. عامل البقالية.
فتاة الصيدلية. الفتاة السمراء التي أحبها/، وعندما يلتقي الماضي الحاضر يرى
البطل بيت الطفولة كومة من الحجارة، وقد استشهد أو ضاع جميع من أحبهم. وهذا ما
يفعله الأعداء. إنهم يقتلون الحب والطفولة ويغتالون الوجود الإنساني.
ترتدي القصة ثوباً ضيقاً بعض
الشيء، شده الكاتب بمجموعة من الأزرار (المقاطع) أو الحكايات كما شاء مع أن هذه
الحكايات بتنوعها، كان يمكن لها أن تنير جوانب أخرى، لو أن الكاتب، تخلى قليلاً
عن عادة الاختزال التي عرف بها في قصصه السابقة، ولابد لنا مع ذلك من الإشادة
بتمكنه من تأطير مجموعة من الذكريات المتناثرة بوساطة هذه (المقاطع) كما بدت
جمله رشيقة، وحاسمة في توجهها، دون تكلف أو تصنع في صياغتها، مما أعطى القصة
شكلاً متناسقاً ومقبولاً.
قصة (صالح الرزوق/ العسل
البري) تمور بالأحداث. هناك تاريخ وقلعة وتتار والشاعر المغمور (علواش) الذي
تظل طريقة موته مجهولة.
تضع زوجة علواش مذكرات زوجها
أمام صديقه المحامي، الذي يعاني اضطراباً وهو يوغل في هذه المذكرات، ونجد
الصديق يرمي شباكه للإيقاع بالزوج الناقمة على الميت الذي أحب أحب غيرها، ونعرف
أن هذه الزوج لم تكره بعلها لهذا السبب وحده، بل كرهته لأنه أخفق في كل شيء،
حتى في إنجاب الأطفال.
إن تفكيك القصة لن يوصلنا
إلى شيء، فكل ما يمكن أن نصل إليه، أوجزه الكاتب في نهايتها. إنه على موعد مع
زوج الشاعر، لزيارة قلعة حلب والتجول في المدينة، ورسم خطط المستقبل. ماذا تريد
القصة أن تقول؟.. ماذا أراد الكاتب من عمله البري؟.. أحداث التاريخ المغلوطة
إلى جوار أحداث صحيحة: التتار وحلب التي لم يدخلوها. نهر الفرات ودجلة والمياه
السوداء.. هل استخدم القاص رموزه وإسقاطاته لمجرد العبث أو إظهار المعرفة بجميع
هذه الأحداث؟ إن حلب تشنق المتنبي وعشرات النسخ من جثته في الشوارع.. مرة أخرى
أتساءل، وبحيرة كبيرة: ماذا تريد القصة والكاتب؟.. إن المستويين الرمزي
والواقعي، لا ينبئان بشيء كثير أو قليل...
ـ صورة عن الإنسان في مجتمع
غربي، يقدمها عبد الرزاق جعفر في قصته (المتسكع). الفرنسيون يحتفلون بذكرى
خلاصهم من الباستيل، رمز الظلم والعبودية، وفي الوسط منهم راقص (يبدو عليه
الفقر الشديد) يعانق الهيته ويشارك في الفرح العام. فرح المواطن بوطنه غنياً
كان أو فقيراً. متسكعاً، عليلاً. حزيناً. سعيداً. فرح الوطن هو الفرح الأكبر.
هذا ما نقلته القصة، وهي لقطة سريعة، غنية، لم أقرأ للكاتب قبلها، وكان يمكن
لها أن تكون أكثر غنى، لو مزج هذه اللقطة الحية بلقطة أخرى، أو أدار زاوية
التصوير باتجاه آخر..
ـ يماني في الغربة قصة مروان
مصري، كاتب قصص (جميلة وليلى وآخر الحمير البيض). القصص الفائزة بالجائزة في
مسابقة صحيفة البعث ومجلة المسيرة.
اليماني يحتاج إلى عشرة آلاف
ليتزوج، والبطل عندما يعمل يوفر خمسة وأربعين وثلاثة أرباع، وهذا العامل مستعد
للعمل في البناء والتسليك. الحفريات. الباطنون، كل ما يخطر على البال، والأسياد
كثيرون.. لا حصر لهم.، وثمة قلاب يلتهم كل شيء، ويقذفه فوق مزبلة المدينة
الكبيرة التي تغص بالوجوه الحقيقية والطروح التي رفضت الحياة الموبوءة.
الإنسان يعاني حتى الرفض.
إنه يرفض حتى الحياة، في جحيم يشتد أواره وتتأجج ناره، لكن إنسان مروان يظل سيد
أحلامه، وسيودع البؤس لا محالة.
تبدو القصة كآهة طويلة،
وتحافظ على إيقاعها، فلغة الكاتب مشحونة بما تنبض به القصة من توتر، وجملة
متراصة كرصاصات في مخزن جاهزة للانطلاق، وهذا ما يؤكد أن غربة اليماني، ليست
غربة مجانية، إنها غربة تعمل لحضور دائم، من أجل الحياة التي لابد من (أن
نقضيها في الهموم والآمال).
ـ في اللحظات الحرجة لأحمد
السرساوي ـ عرب فلسطيني من مواليد سورية ـ نلتقي جنديين، تشغل أحدهما همومه
الخاصة، بينما يجري التحضير لأعمال عسكرية مع العدو.. تتبدد جميع الهموم وطائرة
معادية تنفجر في الجو، أمام عيون الجنديين..
نفتقد إلى نكهة قصص الحرب،
على الرغم من ضرورة أن يكون لنا مثل هذه القصص، وقد خضنا بشكل مباشر ثلاث حروب
عنيفة، لم تنر لدى قصاصينا ما يدفعهم إلى الكتابة والإبداع في هذا الميدان
الغني بالموضوعات الجديرة بفن كفن القصة...
ـ بين تسعة وثلاثين كاتباً،
نقرأ لكاتب غير معروف هو غازي حسين العلي، قصة بعنوان (البطل يعلن العصيان)،
وعصيان البطل هو موضوع القصة ومحورها، فالكاتب يشكو صنيعته لمدير دار الحرية
للنشر، لأنه (يكاد يسيطر على الموقف وقد أدخل الرعب في قلبي). ثم يبدأ الصراع
بين البطلين، للاستئثار بفتاة جديدة تعرف عليها الكاتب، يحاول بطل القصة
اختطافها، وهكذا تسير القصة.. لم يقدم الكاتب الجديد، شيئاً جديداً، وفي دخول
أمثاله إلى حلبة (الموقف الأدبي) بإدارة جيدة، نرحب بها، على أن يكون الحضور،
مبشراً بولادة حقيقية.
القصة التي تنتهي بها
دراستنا هذه، هي قصة دريد يحيى الخواجة (الاشتعال) وهي قصة طويلة نوعاً ما،
تدور حول علاقة شابين، مذ كانا طفلين في سني الدراسة الابتدائية. الأول يمثل
الغني الإقطاعي والثاني يمثل الفقير والفلاح، وتأجج الصراع بين النقيضين، ليصل
في نهاية القصة إلى الذروة "يا أهل الفاقة.. ليمسك بعضنا.. بأيدي بعض". لا "لا
ينقصه شيء لإشعال الفتيلة مع رفاقه وتفجيرها"، "تهدم القصور.. ترفع الأكواخ..
يتساوى الناس"، لم تبلغ دراما دريد ذروتها في بنائه الفني، ظلت في السفح، برغم
مما أتاح له موضوعه، لأن حرارة الصراع، خفت وكادت أن تتبدد في زحمة الجمل
المتطاولة، والمفردات التي تعاني من التكلف والتعمل، وهكذا لم تكن لغة الكاتب
الغنية، وسيلة ناقلة بشكل كاف، لبلوغ ذروة الدراما في حميا صراع كان ينبغي له ـ
إن لم يحسم ـ أن يحقق صبوة الكاتب. صبوة الشاب الفقير. هدف التأزم الدرامي الذي
لم يتحكم به الكاتب كما يجب صبوة الكاتب. صبوة الشاب الفقير. هدف التأزم
الدرامي الذي لم يتحكم به الكاتب كما يجب فبهتت الفكرة، وتهافتت القيم نتيجة
ولع لا مسوغ له بالتعبير..
إن قصة (الاشتعال) أقل مستوى
من قصص مجموعة الكاتب (وحوش الغابة)..5
***
نتوقف، وقد انتهينا من قراءة
قصص الكتّاب الذين بدأت عطاءاتهم مع إطلالة السبعينات أو قبلها بقليل، لنتلمس
أهم الأفكار والقيم التي احتفت بها قصصهم، ولابد من الإشارة إلى مستوى البنية
في تشكيل عالمهم القصصي.
يتبدى لنا عبر مجموعة كاملة
من القصص، أن أهم القيم والأفكار التي شغلت هؤلاء الكتاب، واستأثرت
باهتماماتهم، كانت القيم الوطنية والقومية، وما يتفرع عنها من هموم مختلفة
(طبقية واجتماعية) وفي ذلك أكثر من تأكيد على إحساسهم العميق والواعي بما يجري
من حولهم، فهم على تباين مستوياتهم ينهلون من معين واحد، هو الانتماء إلى مكان
وزمان محاطين بظروف معقدة وقاسية، وهذا الانتماء يفرض عليهم واجب الحضور القوي
والشجاع والمسؤول، وفي ذلك ما يثبت جدارة القصة كوسيلة يمكن توظيفها لتحمل
أعباء نضالية لخدمة الإنسان..
يلاحظ في القصص المدروسة،
أنها تتمتع ببنى فنية جيدة المستوى، فاللغة فصيحة وسليمة ولم يعتد على هويتها
القومية، وقل الغريب والمتهافت في المفردات، وقد استفاد الكتَّاب من ميزات
المدارس الفنية المختلفة، دون طغيان واحدة على الأخرى بشكل تعسفي، مع تحيز طفيف
لصالح الواقعية والرمزية، فهما الأجدر والأفضل لاحتضان قصتنا المعاصرة..6...
1 ـ استثنيت قصتي (الذين
حاربوا) والمقطع الروائي العائد لعبد النبي حجازي...
2 ـ جرى إعداد هذه الدراسة
لتكون الدراسة الأخيرة في كتاب تحت الطبع بعنوان /جوهر وبنية القصة القصيرة في
سورية/ وتجدر الإشارة إلى أن الدراسة في الكتاب تأخذ حيزاً أكبر مما تسمح به
صفحات مجلة...
3 ـ درس نتاج بعض كتاب العدد
في كتابنا (أسماء في القصة السورية) الذي نأمل صدوره ضمن منشورات اتحاد الكتاب
العرب...
4 ـ راعينا الترتيب الوارد
في المجلة بالنسبة لهذه القصص، مع تحفظنا على الترتيب العام لقصص العدد، فلا
ندري كيف تم ترتيبها، وأظن أن هذا الموضوع لم يكن مشكلة معدي عدد القصة
الوحيدة...
5 ـ في كتاب (جوهر القصة
القصيرة في سورية وبنيتها) الذي أشرنا إليه في مبتدأ الدراسة مجموعة دراسات حول
القصة الجديدة..
6 ـ نكرر أن المجال لا يسمح
بالإضافة.
القصّة القصيرة في الثمانينات في سُوريّة
مَحاور البناء الفنّي وَآفاق التغير
بقلم الكاتب:
أحمَد المعَلم
تستهوي الذروة الفعل القصصي، فينهد إليها عبر خطوط مستقيمة أو متعرجة، فتصير
غاية الإبداع، وربما تصبح السمة الأولى لتوجهه إلا أن الذروة ليست قصداً
لذاتها. إن مسألة الذروة لا تقل عن مسألة البداية أو محطة الانطلاق فتنشأ بين
الطرفين معادلة التواصل: في توازنها مع الفعل القصصي كشارة تحول حاصل، أو في
اضطرابها كعلامة على الانفصال غير المرغوب فيه.
ليست القصة القصيرة هي الخبر عينه، مع أنها تعنيه في أجزاء من تحولاتها. وليست
هي الموقف لذاته، مع أنها راصدة له بالضرورة. وليست هي الموضوع وحده، إذن، لا
نكشف أمرها، ولم تعد تستهوي رغبة المتلقي. وليست هي الصراع بين الناس أنفسهم،
أو بينهم وبين الأشياء، أو بينهم وبين الأوضاع، مع أن هذه المهمة تحضر فيها.
وليست القصة القصيرة منبراً للتحول الاجتماعي: في شروخه المستجدة على الساحة
الاجتماعية، أو في منجزاتها المستبدة بالفرد مصيراً إنسانياً. مع أنها ليست
بعيدة عن هذا الإنجاز أو الشرخ، لكنها هي التعبير عن الواقع من خلال أدواتها
الفنية(1).
هل الركام القصصي لأكثر من أربعين سنة خلت من تجربة انفصال القصة القصيرة في
سورية عن المقالة الموجهة لمسألة النهوض الاجتماعي، تمنحنا فرصة تشوف مستقبل
هذا الإبداع الأدبي في التسعينات؟ وهل يفي هذا الاختيار بالغرض؟. وما دامت
القصص المعروضة ـ منشورة في كتاب ـ مأخوذة من عقد الثمانينات، فهل يصح افتراض
مثل هذه القصص القصيرة منجزاً ذروياً للقصة القصيرة في سورية؟
ما من شك بأن هذه التساؤلات مشروعة، وتنطوي على جزء لا بأس به من السلبية حيال
الموضوع المطروح، لكننا ـ ونحن نقدم المسوغات ونسترشد بحكمة العقل ـ نقدر أن
بحثنا يريد التعرف إلى هذه القصص: في أحوالها المتنافرة أو المتعاضدة، بغية
تكوين فكر أولي حول المعطيات أولاً، ومن ثم يأتي الاستنتاج، أخيراً، متحملاً
وزر الاختيار بالدرجة الأولى، غير أن هذا التصور لا يمنع من أن نكون قد قدمنا
جزءاً من توجه القصة القصيرة، وفعلها وموقفها، وتعاملها مع المجتمع باعتبارها
ناجزة في إطاره.
إن عشر قصص مختارة، لعشرة من القاصين، منشورة في عشر مجموعات خلال الثمانينات،
نريد منها أن نقدم بانوراما للقصة القصيرة، مع ما يعترض هذا الاختيار من مخاطر،
ومع ما يعترض هذا التقدير لفترة الثمانيات من انزلاق في تقدير الموقف، هو الفعل
الذي نتقدم منه بحذر، راجين أن تكون هذه القصص مشكلة لأكثر من نموذج تعرفه
القصة القصيرة، وفي الوقت ذاته، أن تكون هذه القصص ممثلة للقصة القصيرة في
بنائها المقبول والجيد.
القصص المختارة:
الهزيمة: أحمد سنبل(2) موضوعها الإحباط ـ النظام هو النظام: إبراهيم خريط(3).
موضوعها الدواوينية ـ رقية: اعتدال رافع(4). موضوعها الإحباط ـ صندوق فرح: أديب
نحوي(5). موضوعها الشهادة ـ التمرير: دريد يحيى الخواجه(6). موضوعها التضليل
وموقف البسطاء منه ـ النغم الأبتر: مظفر سلطان(7). موضوعها الإخلاص في الحب ـ
شهريار المطعون: نادر السباعي(8). موضوعها الرغبة المكبوتة ـ قصة نوار: صالح
الرزوق(9). موضوعها حب الأرض أو حرب حزيران أو حرب تشرين أو الشهادة أو تأثير
الزمن ـ لاعب الكرة: وديع اسمندر(10). موضوعها فشل الخطة ـ قصة العم الطيب: حسن
صقر(11). موضعها الرتابة.
سوف نعمد إلى بث فكرة الترابط بين هذه القصص، سواء في البنيان أو التواصل، ولن
نهمل التأسيس لوحدة الفكر أو الشكل أو الفن لهذه القصة القصيرة أو تلك، مع
نظيرتها لكتاب آخرين، ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، مبتعدين عن التشتيت، أو كل ما من
شأنه أن يبث التوزع في استنتاج المتلقي. وكذلك لن نتجاهل حقيقة استقلال كل قصة
قصيرة عن سواها. ولن نقوم بتلخيص القصة القصيرة، لأننا نعتقد أن التلخيص لا
يقدم كبير فائدة، ويتجاهل قيماً ومعايير فنية ورؤية تنسجها القصة القصيرة.
في الموضوع:
تلتقي قصص: أحمد سنبل واعتدال رافع ومظفر سلطان ووديع اسمندر في انصرافها إلى
تجسيد الفشل والخيبة والمرارة. وتلتقي قصة أديب نحوي وصالح الرزوق في تقديس
الشهادة. وتلتقي قصة إبراهيم خريط وحسن صقر في الحديث عن الرتابة لكن التباينات
في معالجة هذه القصص لموضوعها موجودة. وبقية القصص تفردت كل واحدة مي موضوعها
الخاص بها. لكننا نتحرز ونفصح بأننا لم نختر أياً من هذه القصص حباً لموضوعها.
هذا التقديم يعني أن مواضيع الفشل ستحظى بحضور أكبر في المستقبل، نظراً للظروف
والتحولات الاجتماعية، وتجسيد تقدير الشهادة سيستمر أيضاً، وكذلك فإن موضوع
الرتابة سيحظى بالتقدير.
في اللغة:
إن لكل قصة قصيرة لغتها الخاصة بها، ولكل كاتب مبدع لغته الخاصة كذلك. ونحن
نقيس اللغة بانسجامها مع موضوعها أولاً، وبوصولها إلى الغاية والهدف ثانياً.
وحين تتعدد طروحات الموضوع، ليصبح كل طرح مستقلاً عن الآخر، فإن اللغة عندئذ
تتوزع بين هذه التوجهات وتصبح غايتها تقديم هذه التعددية: قصة الرزوق هي عبارة
عن لوحات تشخيصية، تبني تعبيراً، يجمع اللحظة إلى أختها، ليكونا وحدة، تصب في
هذا التوجه أو ذاك، فهي لغة تنطلق من الجماعة، وترتد إليها، مضيعة على نفسها
أسس انطلاق التوجه الإنساني من الخاص إلى العام.
ما قصة اسمندر فقد استرشدت بهدي الموضوع، وقدمت إلينا من خلال الإطار العام، ثم
الخاص: (الفريق، التعلم، فن اللعب، إتقان الهزيمة، الخطة، الجناحان، الهجوم،
الاختراق، الخصم، الضغط، الجمهور، الرقص، الفرح، التمرير، المهارة، التجاوز،
الحارس، السهم، التنظيم، الضعف، المطاردة. إلى آخره).
أما النسق اللغوي فقد كفل إعطاء فكرة القصة وتوجهها الذاتي، الذي يقدم الخيبة
والفشل: (كانت صورة المباراة تطارده، تذكره بأعضاء فريقه، حاول إيجاد نقاط
الضعف فيهم. كانوا أحد عشر لاعباً، يعرفهم جيداً. كل منهم يشكل، على حدة، قوة
لا بأس بها) سيرة رجل ما ص49. وهو يوضح منحى التوجه الفردي وسيطرته على فهم
اللاعبين ووعيهم.
قصة رافع جاءت لغتها لتعبر عن الموضوع من زواياه الخلفية، فالموضوع سر لا بد من
كتمانه: (زنزانة، موسم برد، اختلاس، الجوف، السرقة، الرثاء، الهدر، الجفاف،
الرضوخ، الشح، الفوضى، السم، الشنق.. إلى آخره). وهذه اللغة تقدم ما هو
مستوطناً في الذات، ولا سبيل إلى التراجع عنه كالشح مثلاً، وتقدم ما هو قادر
على الإخفاء والتملص كالجوف والسرقة.
قصة سنبل وفية كثيراً لموضوعها، لكننا نحس أن هذه اللغة حرون. لا يستطيع الكابت
فرض حضوره عليها تماماً: (النزوح، الكدر، التكوير، المغلوب، سوط الجلاد، الظلم،
ضعف النفس، تهالك القوى، التبعثر، الهموم والمتاعب، كظم الغيظ، الافتراس،
التقوقع، الحظ العاثر، التغافل، الهروب، الكتمان، زراعة الشوك والأقدام
الحافية، الذبح، السلخ، الصمت والدموع.. إلى آخره). معظم هذه اللغة يصب في إطار
عام، ولا يملك خصوصية ذاتية، والنسق اللغوي يوضح هذه الفكرة، ويجسد الهزيمة
التي هي موضوع القصة، والتي هي هزيمة لجميع الأبطال: (إنها ترى شاة مذبوحة
مسلوخة، معلقة في سلسلة تتدلى من شاهق) وكان هذا النسق في محتواه وبنيانه معادل
موضوعي لما تؤول إليه حيوات الأبطال.
قصة سلطان وهي تصنع أجواءها الرومانسية الحالمة تلتقي مع قصة سنبل في تحرر
لغتها من سيطرة الكاتب، مع أنها تحتضن الحزن والخيبة من منظور ذاتي التوجه
تمماً: (الهدوء، التسلل الحزين، الألم، البطء، القتيل، الرعب، الضغط، الحشرجة،
الفشل، القدر، التمزق، البكاء، البغي، الحرمان، الفخ، الزمن، الضرام، التداعي،
السكين المثلومة، المومياء، المسدس، الدماء.. إلى آخره). واللغة هذه تنصاع
للأوامر ذاتها التي تنصاع إليها قصة رافع وتتآلف كثيراً مع لغة الرزوق حين
تتعرض للشؤون الاجتماعية.
أما لغة قصة خريط فإنها تحمل توجه لغة قصة اسمندر في تآلفهما مع مهمة تقديم
الواقع، وفي الوقت ذاته، لكن قصة خريط جادة في تقديم ملامح الخيبة والفشل عند
أي كاتب، دون خصوصية تذكر: (امتثال للأوامر ـ تلبية الطلب ـ صلة القربى ـ فرض
عقوبة ـ وظيفة وموظفون ـ العقاب.. إلى آخره). والنسق اللغوي مائل لتوضيح هذا
الاتجاه: (أن يخطئ المدير عشرات المرات أهون من أن يتراجع عن خطأ واحد) القافلة
والصحراء ص66.
لغة قصة نحوي تلتقي مع قصة الرزوق في اللوحة الأخيرة خصوصاً، إلا أن قصة نحوي
ماهرة في تقديم مفردات لغوية، تسترشد بهدي الاستشهاد، وتقدم عوناً للشهادة
لبلوغ غايتها، فتلقيها مسؤولية ناجزة: (النقاد) التابوت، المشكلة، الحل، الفرح
العرس، القتل، العسكر، الطفل، الأم، الخريف، تلبية الطلب، الشهيد... إلى آخره).
وهذه اللغة تحاول بكثير من الخبرة والروية أن توحد بين حال الفرح والحزن في
إطار الشهادة. و: (تلبية الطلب) تلتقي مع لغة خريط باعتبارات دواعي الإطار
العام وحده. وتنشد لغة النحوي إلى إرث البطولة التاريخي وإلى ترسيخ حس الشعور
الإنساني.
لغة قصة السباعي نختزلها في هذه التعابير: (ألمح في وجهها بقايا حزن رتيب) حبل
المساكين ص33 و: (تظل نظرة متحجرة من عينين ترثي فيهما أنوثة مهملة) حبل
المساكين ص24. والتعبيران يلتقيان مع توجه قصة رافع. و: (تدمع عيناها تلك
اللحظة) حبل المساكين ص24، تعبير ينادم حالات في قصة سنبل. و: (لم يحتوني صدرها
الدافئ، لم أتمرغ فيه منذ زمن) حبل المساكين ص26 كناية عن الانفصال ونشوء
الواحدية المستقلة لأي طرف. و: (سبب مريب وراء هذا العطاء!! أنى لها هذا المال)
حبل المساكين ص27 تعبير يحمل بذرة التفتح على الوعي والمسؤولية تجاه الآخر. و:
(أذكر تلك الليلة كيف كانت مثل دجاجة طيعة) حبل المساكين ص29 تعبير يحمل في
طياته شؤون المرأة الخاصة في علاقتها بالرجل. هذه اللغة كما عرضناها تنطوي على
الحزن والكآبة والمداراة والمداورة، والسبب هو اختفاء المكاشفة بين الابن والأم
أثناء غياب الزوج. فاللغة منغمسة في جسد الموضوع حتى الثمالة.
لغة قصة الخواجة تنمو على ضفتين: تتقابلان لدرجة العداء التام، وتتواصلان لغاية
الاختفاء والانطواء، أو الاندماج والتوحد. وفي حين يبدو الحياد على الكاتب
موضوعيات لبناء قصته، فإننا لا نلبث أن نراه مندغماً في الفعل على أرض الواقع
القصصي، وكذلك فإن الإحساس المتوقد عند البطل برغبة الانتقام يحفز هذه اللغة
لصياغة التهكم في المواقف والأفعال: (النفير، الأعزاء، التقاطر، الشمس،
الكهانة، اللغة، البرد، التغضين، الليل، السوط، الطحين الأسود، الزيت المغشوش،
العراء، إدانة، ألغام، الفض والسفك، أفلات، الرئة، الوجه الرجيم، الدمار،
السياحة، الملامح المجاري، الظروف، السخرية، التطويق، الحيوانات الضالة،
القمامة، الانتهاك، الأفق، الاستقبال، النصر، مدينة ((سر من رأى))، التلكؤ،
الهموم، القوى الشريرة، الدفن، الرمال... إلى آخره). تستفيد هذه اللغة من وعي
التفتح على الاستشهاد كما هو عند نحوي، وتحتوي لغة التعبير عن الواقع بموضوعية،
تغترف من معين الذاتية والخصوصية لتصب في الإطار العام. وهذه اللغة متنامية قرب
أبطالها، تعيش معهم في مختلف الأحوال والظروف، بينها وبينهم تناغم تام.
لغة قصة صقر كانت متابعة للسلوك الفردي عند إنسان طيب في كل أحواله، وللسلوك
الفردي عند إنسان آخر جاء ليكشف عن نقيض هذه الأحوال في المجتمع، المجتمع الذي
فرضت ظروفه على هذا الآخر أن يقاوم أحواله الاجتماعية بكل ما يملك، ويمكن قلب
الصورة التشكيلية بين البطلين تماماً. فلو حدث للعم الطيب ما حدث للنشال
لتبادلا المواقع. من خلال هذا الفهم فإننا نأخذ اللغة في أنساقها: (وكانت ولا
تزال إحدى علله القليلة التي جرت عليه وبالاً لا تزال آثاره هي ثقة بالناس
وسهولة التأثير عليه) احتفال تحت الثلج ص21. هذا النسق يوضح سيطرة الآخر على
سلوك البطل. أما النسق التالي، فإنه ينحني أمام الواقع الاجتماعي بحدة دعم
النظام الكوني، من دون أن يضع في الحسبان التحولات الاجتماعية ومتغيراتها: (عبد
الودود يفتك في نفسه عن طريق الإذعان للأختام متوهماً أنه بهذه الطريقة يتمكن
من الإسهام في دعم النظام الكوني، الذي تهدده عوامل الانهيار من كل جانب)
احتفال تحت الثلج ص67. هذا النسق يضع فاصلاً بين الكاتب وبطله، ومع ذلك، فإنه
يغوص في عمق توجه تفكيره. وإذا كانت الغاية هي الإفصاح والإيضاح، فهلا وجد
الكاتب طريقة أفضل للتعبير والتعامل؟
لقد رأينا طول الجملة لتقديم الدقائق الصغيرة في قصة الصقر، ومثل ذلك نجده في
قصة الخواجة: (وهو يتهجى دروس الانشقاق وذاريات الجداول يدخلون ممراً مضاء في
أوله بفانوس مدخن مرفوع بعصا على سطح كوخ مدخله فوهة دائرية عريضة تبدو في
النور الأقوى المسلط عليها كأنها على وشك الاحتراق) التمرير ص190. ولا أعتقد أن
طول الجملة حاصل لتوصيل إلى المكان وتعرفه عليه، بل أن الغاية هي وضع القارئ في
مخطط الأحوال، كي يأخذ موقفه منها. وقد يكون هذا الملمح الموجود عند صقر
والخواجة صورة لمستقبل القصة القصيرة في سورية، لأنه القادر على بث الوعي في
التلقي وكسب مشاركته لما يدور في الواقع القصصي. ولقد عرفنا مثل هذه الجمل
الطويلة عندما مارسيل بروست(12)، لكن تلك الجمل الطويلة كانت لتركيب لغة مشهدية
تخص الرواية، أما عند الخواجة وصقر فإننا نراها جملاً طويلة لتركيب لغة تعبيرية
لواقع يحصل، لا بد من مشاركة المتلقي في أحواله.
في الموقف:
إذا كانت قصة الرزوق تقدم مواقف متباينة حسب موقع البطل من هذا الحدث أو ذلك،
حيث أن الموضوع يأخذ عدة وجهات: حرب حزيران وحرب تشرين التحرير، حساب الزمن في
سلوك الأبطال ورمز نوار، فإن قصة السباء تقدم عدة أفعال، تفضي إلى تعرف موقف،
فيه يتجسد حنين المرأة إلى الرجل.
إن قصة سلطان، المدروسة خطتها بعناية، وقصة اسمندر المدروسة خطتها بعناية أقل،
تلتقيان في تقديم مواقف متصاعدة، حتى بلوغ الذروة. موقف التفاعل والمشاركة الذي
تقدمه قصة سلطان: (فضغطها كأنه يحميها..) رجع الصدى19. يجد أذناً صاغية من قصة
اسمندر حين ينقل المدرب الخطة إلى الجميع: (كان قد وضع كل لاعب في المكان الذي
يراه مناسباً، ووزع عليهم الأدوار، ودربهم على خطة العمل) سيرة رجل ما ص 45.
والموقف هذا يتفق مع موقف عطية الذي ينم عن المشاركة أيضاً، ويحتفظ به لأحبابه
من الناس بذاكرة لا تنسى: (كم يؤلمه الضيم الساكن في الوجوه المكدسة في تلك
الشاحنات الخانقة، تلك التي تحملهم إلى المعمل ومنه. علب سردين وسخة. بعضهم
يضطر إلى التمسك بالمصعد طويل الطريق البعيدة اللاهثة بدفء وشوق إلى ساعة حب لا
تمت إلى زمن عملهم. آخرون تظل أنصافهم طائرة مع الريح كثيراً ما تخون أحدهم
قواه المستهلكة دون رحمة وهو متشبث ضارع العينين ممهوراً بالحزن والقهر.
فيسقط مخلفاً صرخة أشبه باللعنة بيتلع بعضها صوت تحطم الرأس الصلب قبل أن تكتمل
الحروف) التمرير ص185. ونجد موقف المشاركة في قصة نحوي: (والقتلى يسقطون على
مدار ساعات النهار في كل مكان، نفدت من جوامع حارتنا، التوابيت، فخرجنا من حيث
كنا نتجمع في بيت المداراتي) مقصد العاصي 99.
والموقف المتخذ من الجماعة تجاه الفرد، واستسلامه له، أو وقوفه أمام ذاك الموقف
بلا حول ولا قوة في قصة اسمندر: (وأصوات الغضب والاستنكار تلاحهم من شتى أرجاء
المدرج) سيرة رجل ما ص47. نجد نظيراً له في قصة صقر: (وجوه الناس من الرجال
والنساء والأطفال الذين يقفون أمامه، وهم يبحثون عن أشياء معينة بذاتها. بعضهم
يسأل عن حياته، وبعضهم يسأل عن أبيه أو عن ماله. كل هذه الأشياء. كل هؤلاء
الناس. كلهم راحوا يتراكمون من فوقه. من أين له أن يخرج من بين هذا الركام)
احتفال تحت الثلج ص72. وهو الموقف الذي تومي إليه، وتستخلصه قصة رافع: (ياسين
في زنزانة. وأنا في زنزانة) امرأة من برج الحمل ص87. وهو الموقف ذاته الذي
تقدمه قصة الخواجة، ولكن بعد تبيان حالة مضنية من الحصار والإرهاق: (وجهي انتفخ
بدماء فاسدة، قدم غليظة هوت على قدمي. حصرت وأنا أحاول الإفلات) التمرير ص156.
أما موقف الخوف من الناس نتيجة أي فعل خاص تأتي عليه الشخصية، فتقدم قصة صقر:
(أكثر ما يخشاه هو أن يفتضح أمره فيقال على ألسنة الأشهاد أن عبد الودود
المسالكي رئيس عموم ديوان المحاكم وجد بين الثانية والثالثة مقتاداً بصحبة أحد
النشالين إلى المخفر) احتفال تحت الثلج ص44. والموقف ذاته تسلكه قصة رافع مع
إبداء للمراءاة، ومحاولة للتملص من جبروت الآخرين: (حاول ياسين أن يخبرهم بأنني
لست رقية التي يبحثون عنها.. ولم يصدقوه) امرأة من برج الحمل ص102. لكن هذه
القصة تتصيد مداً تاريخياً، يهبها الديمومة والانتشار.
موقف الخنوع تقدمه قصة سنبل: (وهو يأخذ طريقه إلى غرفته مهموماً متعباً)
الانفجار ص38. ومثله موقف الموظفين في قصة خريط: (ما قرره المدير لا بد منه)
القافلة والصحراء ص66. ومثله موقف الزوجة في قصة سنبل: (لقد كانت الفتاة
بالنسبة إليها خنجراً يدق حتى النصل) الانفجار ص40. ومثله موقف الحاج مصطفى في
قصة نحوي: (وعمنا الحاج مصطفى ينجر من ألواح الخشب نعشاً لرفيق ابنه أحمد، فإذا
بالشهيد ليس أحمد المداراتي بل ابنه حسين الرمضان) مقصد العاصي ص115. وهذه
طريقة لبث التبادل في مواقع النضال، وتنقله إلى أوسع مساحة ممكنة. وموقف ناديا
ينم عن الخنوع في قصة سنبل: (استقرت ناديا متقوقعة على أحد المقاعد وقد ارتسمت
على وجهها أمائر حزن) الانفجار ص39. ومثله في قصة رافع: (مسعود هو قدري. الله
وأمي اختاره لي) امرأة من برج الحمل ص98. ومثله مع إخفاء لنبرة التهكم والحقد
تقدمه قصة الخواجة: (كانوا قد أعادوا صياغتي من جديد) التمرير 160. ولا ننسى
هنا فعل القوة الضاغط الذي يسحق الإنسان البائس. نتذكر مثل هذه المواقف في قصة
محمد كامل الخطيب: جيران البحر (13).
موقف داخلي ذاتي تقدمه قصة رافع: يرى فيه الإنسان نفسه نهباً للآخرين: (لا
تصدقي الكبار الذين ينشفون بحرك، ويهددون مدنك المسحورة) امرأة من برج الحمل
ص93. ومثله موقف قصة سلطان، مع اختلاف التسمية لعالم التأثر على الفرد: (إن
القدر يغامر بكل عناده المجنون لتحطيمنا.. لقد أفلسنا.. أو بالأحرى لقد أفلست)
رجع الصدى ص20 لكننا نشير إلى أن هذا الموقف يختلف في توجهه مع الموقف السابق،
حيث يتوجه إلى تثبيت موقع الفردية.. ثم عدة مواقف متفرقة، فيها كل موقف يعرض
حالاً، متميزاً فيه عن الآخر:
موقف يستعيد شريط القهر ووسائل الضغط والإرهاب تقدمه قصة الخواجة: (الرجل على
الأكياس قرب الباب، تحول إلى ذاكرة تضيء بشيء مدمر. في رأسه ضغط ينطق
بالمشاركة) التمرير ص163.
موقف تقدمه قصة نحوي، تقدم فيه المفارقة جوهر التقدم نحو تبادل الفعل: (وقد
أخطأ الطالب الذي حضر إلى حارتنا وهو من طلاب مدرسة الصنائع، فظن أن الشهيد
الذي سقط برصاص الفرنسيين على أبواب الجامع الكبير هو أحمد المداراتي بينما لم
يكن سوى الذي أكب بحنان على جسد الشهيد) مقصد العاصي 115.
موقف الاندفاع الفردي لتعزيز فرصة موقف لم يحظ بالنجاح على أرض الواقع، هذا ما
تقدمه قصة اسمندر: (كل متفرج يود لو أنه هو الذي يلعب، ليصنع الأعاجيب) سيرة
رجل ما ص47.
موقف انعتاق الشخصية من الأسر تقدمه قصة سلطان: (ووثب من مجلسه كقنبلة وانطلق
يحوم في أرض الغرفة كنمر فتى سقط في فخ) رجع الصدى ص20. لكن هذا الموقف لم ينجز
سوى تدمير ذاته، عندما قتل البطل حبيبته، فأصبح رهناً للتشرد. وكأنني أرى ظلال
فكرة وليست ظلال امرأة. فهاهو ذا موقف للبطل ذاته يتطامن مع تصورنا: (لا تجبن..
فوثب الوحش الظامئ إلى دماغه) رجع الصدى ص24. وكأن القصة ما كانت إلا لتحسنا
بهذا الوحش الكامن فينا، ينقض على دماغنا، ليهدم هدوءه واتزانه.
في الفعل:
إن الفعل قد يأتيه البطل مخالفاً لوجهة الموضوع، وقد يكون موافقاً له، وعدة
أفعال يأتيها البطل، تشكل موقفاً من الحياة والوجود. فالفعل قد يكون محايداً
للموضوع أو الموقف. والذي يهمنا هو أن نعرف هذا الفعل وعلاقته بالموضوع أو
الموقف، أو طبيعة توجهه.
فعل الحيطة والحذر تقدمه قصة سلطان متهيبة، يكاد يكون عبئاً عليها: (فتحت الباب
بهدوء، وتسللت بجسدها الأنيق الرشيق، ووجهها الحزين يتقسمه برج الألم وومض
الأمل) رجع الصدى ص19. الفعل ذاته تقدمه قصة سنبل منسجماً مع موضعها: (عل الرغم
من أن حبه لكل يسيء إلي، ويجعلني أفترس نفسي، أقضم الأعصاب واللحم والعظم)
الانفجار ص39. مثل هذا الفعل تخصه بالذكر قصة نحوي مع تقدير للمفارقة، وبثها
الاستسلام لفعل كائن بالضرورة: (يكون الولد صباحاً في عمر الزهرة وهي تتفتح في
حضن أمها عطراً يشمه الخلق فيسبحون بقدرة الله، وإذا به ينقصف عند العصر ويهر
كما تهر في الخريف الأوراق اليابسة من أغصان الشجرة) مقصد العاصي ص110. لكن هذا
الفعل، مضمون توجهاته ينطبق على كل الأفعال السيئة التي يصادفها الإنسان مثل
المرض والموت وغيرهما. وتقدمه كذلك قصة السباعي: (قالت مرتبكة. أخذت تصلح
هندامها) حبل المساكين ص33. ويأتي موقف الحيطة والخوف من ذنب لم يرتكب، تقدمه
قصة صقر: (أنت المسؤول عن استدراج هذا الشاب المسكين ليدس يده في جيبك) احتفال
تحت الثلج ص37.
فعل يريد التوازن بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، ويستأثر بقوة فعله: قصة
صقر تقول: (وحمدي أبو سماط يعمل متلهفاً على تهشيم النظام الكوني مدفوعاً بحالة
من الوهم إنه بهذه الطريقة يتمكن من الوصول إلى حالة من التوازن كان قد فقدها
نتيجة تصدع البناء الاجتماعي من حوله) احتفال تحت الثلج ص67 وقصة السباعي تقول:
(انبثق من عينيها شلال حنان يرمق قامتي المديدة.. فسارعت إليها بقلب يرمح
كعصفور!) حبل المساكين ص35. وقصة سلطان تفصح عن هذا الفعل في إطار الاندغام
والتوحيد: (فأخذته إليها كوحيد لها مفدى تعانقه وتفنيه فيها، وتفنى فيه) رجع
الصدى ص22. غير أن هذا الفعل يختلف عن سابقيه بمغايرته لوجهة الموضوع.
فعلى ذاتي ينشد الحرية في غير موقعها ولا أوانها، ويستفز إرادة الجماعة، تقول
قصة رافع: (ماذا يهم إذا كان العالم ضدك؟) امرأة من برج الحمل ص101. ومثله
بصورة مقلوبة تنقله إلينا قصة سلطان: (إنني مراقبة كما لو كنت سأرتكب كل عار
الأرض...) رجع الصد ص21 وهو فعل ينسجم مع توجه القصة. أما قصة سنبل فإنها تنقل
إلينا تحريض الذات على اتخاذ موقف، لكن البطل يبقى في إطار التحريض، ولا
يتجاوزه إلى الفعل: (إلى متى يعاني من ضعف النفس؟!) الانفجار ص37. لكن قصة
الخواجة تقدم الفعل من خلال أقدام البطل، وتصميمه على أن يفعل الفعل الذي لم
يقدم عليه من قبل، لأنه لم يبق له غير ذلك: (إلى أين أفر هذه المرة.. ما عاد لي
فرار وراء ضباب أو سراب. اليوم هتكت الوهم. سألعن الوهم) التمرير ص194.
وهذا التوجه ذاته تنقله قصة السباعي، متواكباً فعلها مع فعل قصة الخواجة:
(أمسكت بزجاجة فارغة كانت على الطاولة، وطرت بأجنحة طال زغبها، صوب الرجل
المذعور) حبل المساكين ص35.
فعل يحتضن عذاب الماضي المرهق، ويرى قوة الحاضر تمنعه من تحقيق وجوده، ومن
تمتعه بشرط إنسانية الإنسان، فيتغلغل في كيان هذا البطل فعل قد يبدد الظلام،
ويسعد الناس: (أثناء تواريه شيئاً فشيئاً، تتفرقع تحت قدميه أشواك يابسة وعظام
وأحجار. أحس بقيظ نظرات الشرطي تكوي ظهره. ثم رائحة دم فائر أخذت تنتشر حواليه،
وتزحم أنفه. عويل تنقله الرياح. بكاء أطفال يدور في المدى. الظلمة توحش قلبه
أكثر. أصداء من الخلف تود أن ترده إليها، هي من تباريحه..) التمرير ص180. فعل
قصة خريط يأخذ سمة من الفعل السابق، ويبديها: تسللوا من غرفة المدير بصمت،
وجوههم عابسة، جباههم مقطبة، رؤوسهم في الأرض، وعيونهم غطتها غشاوة..) القافلة
والصحراء ص67. وفعل قصة سنبل يأخذ جانب الرضوخ للأمر الواقع، محتلاً جانباً من
فعل قصة الخواجة أيضاً: (أهله ظلموه حين لم يوافقوه على الزواج من ناديا)
الانفجار ص36. أما فعل قصة سلطان فإنه يترصد أمراً، مثل ترصد فعل قصة الخواجة
لمثل هذا الأمر، ولكن ضمن الشرط الإنساني، أما فعل الإنسان لدى سلطان فإنه يأخذ
سمة الوحشية: (إن كياني بأسره ليستحيل إلى جريمة جائعة) رجع الصدى ص22. واضح من
هذا العرض أن فعل قصة الخواجة تحتوي كل هذه الأفعال، مع المخالفة في خط السير.
إن فعل الحب مهرب عند اعتدال رافع وأحمد سنبل ومظفر سلطان، وبنسبة أقل عند نادر
السباعي، وهذا التصور يعني أن الحرية التي تود نيلها المرأة أولاً، والمجتمع
ثانياً، ما تزال حلماً أطول من قامتي الرجل والمرأة على السواء. أما الحرية في
ذاكرة الرزوق فهي إرادة المواجهة، والتمسك بالجذور حتى الغاية القصوى ليصبح
الحب ألقاً خالداً، تتوحد به الذات البشرية بعوالم الطبيعة والحياة والوجود.
وإذا ذكرنا الحرية، والنضال من أجلها، فسرعان ما تأتينا قصة دريد يحيى الخواجة
لتفسح في المجال لدائرة الصراع حولها، وتبين أوضاع عشاقها، وجدلية انتصار
المسحوقين على الظلم والاضطهاد، ليسعد المجتمع، وتصبح المدينة مسارات للغبطة،
ومزايا للإنسانية من خلال علاقات جوهرية، تهدف أساساً إلى احترام الشعور
الإنساني.
أحمد سنبل يحمل المرأة مسؤولية وعي الحرية، والنضال لإنقاذ وجودها، راغباً في
أن تعي هذه المرأة الأحوال الاجتماعية ومتغيراتها: (أنت من أزم الموضوع بهروبك
من البيت) الانفجار ص40. أما مظفر سلطان فإنه يحرص على الوفاء والإخلاص لشرط
الوجود والانتماء بينما يرى وديع اسمندر أن الحرية وكسب التعامل معها مرهون
بأفق التواصل الاجتماعي، بغية امتلاك الخبرات اللازمة.
أحوال درامية تعرضها القصة القصيرة:
تقدم قصة الخواجة ساحة للأحداث، ومساراً لسلوك الأبطال، ويدور الصراع، وحيث أن
القصة لا تحرص على تقديم الصراع من أجل آليته، فإنها تضع وسيطاً قذراً، الغاية
من وجوده هي الالتواء والمداراة لما يحدث على الساحة من أحوال مستجدة: (ضوء
متأرجح يندلق بالتدرج على العتبة، كزيت مغشوش ملوث، كلما اسود الليل، يتسلل من
مصابيح متبقية متباعدة في الدرب المركزي في ((حدبة الجمل)) الذي تلتحق في
نهايته في العراء مدينة الأكواخ، حيث يسكن عطية وقادر) التمرير 152. قصة رافع
تأمل التغيير الداخلي، ولا ترى من الفعل الخارجي سوى حجب لديمومة التعامل مع
الطبيعة: (أما عن النجوم.. آه .. سرقها العسكر مني وغطوها بالتكنولوجيا
والدخان. وكانت العجوز أم شاهين كلما سمعت هدير طائرة، ترفع ظهرها المكسور
وعينيها المزمومتين إلى السماء.. وترثي زرقتها في عيني) امرأة من برج الحمل
ص89. أما درامية قصة سلطان فإنها مرمية في حضن الإخلاص والوفاء والمرأة هي
المخلصة والرجل ينقض على أداة تفتح وعيه، المرأة: لا تجبن.. فوثب الوحش الظامئ
إلى دماغه، رجع الصدى ص24. دراما التحويل الاجتماعي عند سنبل تقدم تحصيل
الفائدة من خلال فعل الجماعة، وهي بذلك تلتقي مع رؤية الخواجة، لكنها تفترق
عنها في مسألة تقدير السلوك الفردي: الخواجة يغتبط بهؤلاء المقاومين، ويسخر من
هؤلاء المنافقين ويتوعد الظلم وأدواته، بينما نجد دراما سنبل تقلل من دور
الفرد، وتضعه رهينة لفعل الجماعة وإرادته. بينما قصة رافع في دراما مواقفها
تمنح الفرد أفق طبيعته ووجوده، وترى المجتمع قوة ضاغطة، تغل رغبة الفرد وتحد من
تطويره. دراما إدانة العلاقات غير النظامية هي ما تقدمه قصة خريط، وتقدم
السخرية للانقضاض على ظرف قائم: (أن يخطئ المدير عشرات المرات أهون من أن
يتراجع عن خطأ واحد) القافلة والصحراء ص66. إن دراما الصراع الفردي الحامل
لطابع المأساة تقدمه قصة اسمندر، وهي إذ ترثي هذا الفعل الخائب، فإنها تتطلع
إلى أن يكون مثل هذا الفرد واعياً للأحوال والمتغيرات والظروف، كي ينجز فعلاً
لا يقدر الواقع على تغييره. لكن هذا التطلع لا يحمله أحد الآن، فيتحول جهد
الفرد، والأمر كذلك، إلى قوة انتهاك وموت: (شاهدوا لاعب كرة، يرقد على الأرض
وعيناه تحملقان في نقطة محددة، تطلعوا نحوها، كانت جثة لاعب الكرة تحدق بغضب
إلى كرة ملعوبة تبعد عدة أمتار خارج المرمى) سيرة رجل ماص50. وهذا الموقف ينسجم
مع قصة سلطان في انكسار الصراع على الساحة الفردية، من دون أن يخلف آثاراً على
الساحة الاجتماعية أو الواقع: (فإذا وجهه كساحة حرب بعد المعركة وإذا عيناه
تخمدان بهول) رجع الصدى ص21.
ماذا عن التقطيع في القصة القصيرة؟
التقطيع فعل إجرائي، تستفيد به القصة القصيرة من السينما. ويبدو أن القصة
القصيرة ناشطة في الإفادة من مسيرة الأجناس الأدبية كافة. فهل نخاف عليها من
فقدان الخصوصية نتيجة لهذا التوجه؟ ما من شك بأن الحدود بين الأجناس الأدبية
قائمة، ولا مجال للخوض فيها الآن. لكننا نقول: إن التقطيع من ناحية الشكل يريد
أن يكسب حالاً من أحوال الواقع: (قصة خريط مثلاً)، لكن هذا الكسب إذا ما توقف
عند هذا الإجراء، فإنه يظل قاصراً، وهذا ما فعله خريط في قصته. الفرق بين
العناوين الفرعية والترقيم يبدو كذلك شكلياً. فإذا كانت العناوين الفرعية تكفل
التركيز في عملية التواصل بين الفعل القصصي والمتلقي، فإن قصة الترقيم تهدف إلى
ما يمكن أن يستنتجه المتلقي من واقع الترقيم، فهي تهب حرية لتكوين المعطيات في
ذات المتلقي. انطلاقاً من هذا الفهم فإن الترقيم مثل العناوين الفرعية في
الإطار العام.
يبدو أن قصة الرزوق قد رصدت من خلال الترقيم رسم التحولات، وقد هدفت من خلال
لوحات تعبيرية إلى نسج الأحوال المتغيرة بعدة توجهات، فشت الفعل القصصي عن
غايته المركزية، في تقديم سلطة الحدث أو الموقف أو السلوك، إلى تقديم موقف
متباين من هذا الحدث أو ذاك، أو ذاك الموقف من الزمن وحقيقة وجود نوار. نحن لا
يعنينا حقيقة وجود نوار، أم أنها رمز، بقدر ما يعنينا بنيان الفن القصصي في
تركيزه على موضوع واحد، الذي ضاع من بين يدي الكاتب، وهو غافل عنه بنسج تعبير
يتوجه إلى مشكلات عديدة. قصة رافع وافقها النجاح في الترقيم، حيث تمكنت من
الارتداد إلى أحوال ماضية، وربطتها مع ما يتم في أحوال الحاضر، فالقصة، في هذه
الحالة، مستفيدة من الإنجاز السينمائي غاية الإنجاز. قصة العناوين الفرعية التي
قدمها خريط وقفت عند الإجراء الشكلي، ولم تتغلغل إلى اللب، قصة العناوين
الفرعية التي قدمها الخواجة، مستغلة القصة بها الطريقة الإخبارية الصحفية،
تمكنت من رصد أحوال متباينة: أحوال سلطة القمع، أحوال سلطة التابعين والملحقين
والمشوشين، وأحوال المستضعفين في مواقفهم الصارمة من أحوال القمع وخلال ذلك لا
يني القص عن تقديم بؤرة متوترة، ترمي إلى غاية احترام إرادة الإنسان.
قلنا إن التقطيع موقف إجرائي شكلي من الفعل القصصي، فهو ليس ميزة فضلى لقصة
قصيرة عن غيرها، إلا إذا كانت هذه القصة رفيعة المستوى، قوية التعبير. فالتقطيع
لم ينقذ قصة خريط من ورطة سطحية تعاملها مع الموقف بينما نرى العناوين الفرعية
لقصة الخواجة، قد رفدت القصة بعدة تحولات، أفضت إلى التركيز والنهوض بعبء الفن
القصصي. والترقيم الذي قدم عوناً لقصة رافع، لم يتمكن من إنقاذ قصة الرزوق في
سقوطها وعجزها عن بلوغ غايتها وليس مؤشرها النهائي في لحظة التنوير أو البيان
الشامل الذي يلتقي مع قصة نحوي إلا استجداء لعطف من بنيان القصة القصيرة
الحريصة على تقديم المضمون وتغزل في اتجاهه.
شكل القص وبنيانه:
وسمت قصة سلطان محوراً متصاعداً لفعلها القصصي، حتى بلغت غايته في النهاية،
وكذلك فعلت قصة اسمندر حيث كانت غايتها واضحة منذ البداية حتى النهاية، وكذلك
فعلت قصة سنبل، فجاءت نتيجتها خائبة نظراً لوهن تحمل المسؤولية من جانب البطل.
وقفت وحيدة قصة خريط على سطح الواقع تمارس القص بطريقة آلية، دون أن تعنى بما
يتوغل في جوف الشخصية. وفي الحقيقة، فإن هذه القصة هي نموذج لعرض السلوك
الشخصي. ومثلها توقفت وحدية في اتجاه آخر قصة الرزوق، فهي تغزل عدة خيوط لتكوين
نسيج متماسك يبهر وإذا بالإبهار يصبح شكلاً بلا حرص على المضمون وعلى الرغم من
أن القصة كانت معنية بقوة التعبير والإفصاح عنه متواصلاً مع الواقع، فإنها من
خلال تعددية المواقف والأحداث التي تسير نحوها، قد ضيعت على نفسها فرصة توحيد
أجمل.
قصة نحوي محبوكة بطريقة متقنة، تقدم أحوال الماضي بمنظار الحاضر، لتتبنى حكمة
دائمة يقدرها المجتمع، ويقف وراءها. وهذا الفعل الأخير يتم من خلال المفارقة
التي ركز القص عليها وهذه القصة في هذا التشكيل والتأسيس تلتقي مع قصة جان
ألكسان في مجموعته القصصية، حصان الأحلام القديمة (14). وقصة حسيب كيالي وفاضل
السباعي وغيرهم.
قصة السباعي ورافع تغوص ما أمكنها الغوص، وتطفو على السطح ما احتاجت لذلك.
فالقصة تصل إلى غايتها بتؤدة وروية، لتتفاعل في ذهن المتلقي بأحوال شبه دائمة.
قصتا الخواجة وصقر تقفان شامختين أمام موضوعهما، تخافان من أن يغلق شيئاً من
خيوط القصة القصيرة، وإذا كانت قصة صقر قد لاحقت السلوك الفردي إلى غايته
القصوى، في أحواله الاجتماعية، وطريقة معاشه، ونمط تفكيره، إلا أنها غافلته،
وألقت في طريقه محور التبديل، فجاءت الصدمة فاتحة للوعي المطلوب، فإن قصة
الخواجة أطالت نفسها في تعاملها مع موضوعها، وحرصت على تقديم المواقف من عدة
توجهات، توحد بينها وجهة نظر لتطوين رؤيا تشمل الإنسان في طموحه وتحقيق رغابه.
القصتان يمكن اعتبارهما تحولاً نوعياً يطرح نفسه على المستقبل بجدية بالغة.
تصور المستقبل على ضوء المنجز:
إنه استنتاج تنبؤي، يتأسس على المنجز في القصص المعروضة أولاً، وعلى معرفة لبعض
القصص الأخرى لكتاب آخرين، لكن الإبداع بصفته يتخطى الحواجز، ويقفز من فوق
التقديرات، فإنه لا سبيل إلى الإحاطة التامة به، إذن، فهذا المحذور يضع توجهنا
في خضم التقديرات، الحاوية على قدر معين من التخرص، لكن هذه التقديرات على
الرغم من المحذور فإنها تسترشد ببعض المعلومات، وبعض الدرس، ضماناً لتقدير يكسب
قسطاً من الموضوعية، لكنها موضوعية التنبؤ على كل حال:
1 ـ إن المفارقة التي قدمها أديب نحوي في لحظة التنوير أساساً لبنيان قصته،
نجدها ـ المفارقة ـ لدى كتاب آخرين، جان ألكسان فاضل السباعي، حسيب كيالي،
ومراد السباعي، وغيرهم. وتقدم شكلاً لها قصة مظفر سلطان المعروضة، هذه المفارقة
في طريقها إلى الاحتجاب، نظراً لأحجام كتاب الجيل التالي عن موالاتها، وإذا ما
كان لها أن تستمر، فلا بد لها من دم جديد يرفدها.
2 ـ التوجه لبناء قصة قصيرة في موازاة الخطة الإخبارية: تقديم الخبر، وتقطيعه،
والتعقيب عليه، قدم هذا الأسلوب من العرض مع المحافظة على البنيان الفني القصصي
في أدائه التعبير بخاصة: دريد يحيى الخواجة. هذا التوجه موجود عند: حسن. م.
يوسف ووليد معماري. يبدو أن هذا التوجه سيجد دوائر أوسع له. وقد تغدو هذه الخطة
من أركان القصة القصيرة.
3 ـ الدأب على رصد السلوك الشخصي في كل أنحائه، وفي مختلف توجهاته، وعلى
الصعيدين: الداخلي والخارجي، والصدمة لتفتيح الوعي الفردي على صورة الواقع
الاجتماعي. قدمه حسن صقر ودريد يحيى الخواجة، سوف يسفر هذا الدأب والتوجه عن
قصة أمتع توفرها القصة القصيرة.
4 ـ يبدو أن القصة القصيرة تستطيع أن تستفيد من الأسطورة في بعض مراحل نموها،
كما أنها تستطيع أن تقيم جسوراً مع بعض الأساليب الفنية كالسينما، من أجل تثبيت
مواقعها وتطورها. باختصار، أن التواصل بين هذا الجنس الأدبي وغيرها من الآداب
والفنون سيزداد متانة في المستقبل.
5 ـ إن تقديم رمز الشهادة متنقلاً من هذا الجانب إلى ذاك عند نحوي، وفي التفاف
الأبطال من حوله عند الرزوق، سيظل ماثلاً في توجه القصة القصيرة، وربما يغدو
مؤثراً فاعلاً في بنيانها.
6 ـ الأمثولة التي وقفت عندها قصة رافع: لا فائدة من التغيير في الخارج ما لم
يتم من الداخل، ووقفت عندها قصة اسمندر: لا فائدة من الإبداع الفردي، ما لم يكن
منسجماً مع حاضر الجماعة، تدفعنا إلى تصور تنفيذ حضورها مستمراً لفترة أطول.
7 ـ إن انصياع القصة القصيرة إلى موضوعها، والإخلاص له، والبنيان من ضمنه،
يعضها في المناخ الصحي السليم، ويجعلها تحت بصر المتلقي، وأكثر قرباً منه: (قصة
الرزوق، لم تكن وفيه لموضعها، وتناهبتها سلطة الحداثة والتغريب والإدهاش، فضيعت
على ذاتها فرصة التواصل مع المتلقي، وجعل وضعها عائماً، متقلقلاً، لا يكاد
يستقر على حال حتى يهفو إلى حالة أخرى. أن المقطع الثامن في وضوحه، وسلامة
توجهه، وفي إقامته لجسر التواصل مع التراث كقضية مطروحة، كل هذه الأحوال
المعروفة لم تتمكن من تعميق بنيان الفن القصصي في توجهه نحو الواقع). وعلى
الرغم من كل هذا القول وقسوته عن قصة الرزوق، ومن خلال نظرة موضوعية، أقول أن
التجريب في بناء القصة القصيرة وارد ومشروع. شرط وعي الانتماء، وشرط تقديم فهم
الهوية. إن إهمال الرزوق لمسألة الإجراء الشكلي، ومغالبته لبناء مضمون متطور،
مع استغراقه في العمل على عدة مغازل، جعل النسيج القصصي متنافراً: نسيج قصصي عن
حرب حزيران، ومثله عن حرب تشرين. وتوجه إلى حساب الزمن وفعله في الأبطال، وتوجه
إلى رسم التحولات عند البطل أولاً، ومن ثم الأبطال، بالإضافة إلى التوجه الأساس
حول لغز نوار، أفضى بالقصة القصيرة إلى تغريب كبير. وبالمقابل، فإن قصة خريط،
عندما مارست التجريب في الشكل وحده. وانصرفت عن تجسيد التعبير القصصي في غايته
المنشودة، متوهمة أنها تحاكي الواقع، بغية رفض بعض علاقاته. إن هذه الممارسة
ضيعت على نفسها فرصة التوجه نحو العمق، سواء بالنسبة إلى الأبطال أو بالنسبة
إلى الواقع. إن سلطة التجريب والتحديث يبدو أنها، بصورة عامة، تحتاج إلى البحث
في الإجراء الشكلي والمضموني في الوقت ذاته. والقول السابق في بدايته بخاصة
ينسحب على قصة مظفر سلطان، فعلى الرغم من أن الطريقة مألوفة، والحبكة مضمونة،
والنسيج واضح التركيب، فإن هذه القصة القصيرة، في تداعياتها الرومانسية، وفي
تداخل بعض بنيانها الفكري مع أفكار خارجة عن التعبير القصصي، أفضت في النهاية
إلى رؤيتها قاصرة عن رسم أبعاد إضافية، وعاجزة عن تواصلها مع المتلقي بفاعلية
أكبر. لقد شعرت أن هذه القصة تعاملت مع المرأة كفكرة، وليست وجوداً قائماً
بذاته. والبطل متأثر بفعل اجتماعي غائب عن مسرح القصة. أما إذا كانت الغاية هي
تجسيد رمز الموضوع، أي أن المرأة هي فكرة جميلة، والقوة أو الوحش الذي ينقض
عليها، ليبددها، ويضعها في إطار الفناء، هي تلك القوة الشريرة أو العمياء
الكامنة في ذات كل منا، فإن القصة، عندئذ، تبدو مقبولة، وينقضها كي يتماسك
بنيانها الذاتي، وبنيانها في ذاكرة المتلقي أن تكون أكثر، تماسكاً وتفاعلاً مع
هذا التوجه. وأستنتج بأنه يترتب على القصة القصيرة ذات الطريقة المألوفة أن
تكون أكثر تفاعلاً مع بنيانها القصصي، وأكثر إحاطة بموضوعها الأساس. وبالمقابل
أيضاً، فإن تصيد البعد الأسطوري من قبل جان ألكسان في قصته: عنود (15)، غير كاف
لوحده، وإذا لم يتضامن مع المفعول القصصي فإنه يظل بلا جدوى، فليست الغاية هي
التواصل مع الأسطورة، بقدر ما هي تمكين هذه القصة من النمو والتصاعد.
8 ـ إن فانتازيا الموقف من خلال سمة التحول في قصة الرزوق، وفانتازيا الأحلام
الرومانسية في قصة سلطان، التي تقفز فوق الواقع، وفانتازيا الموضوع التي ألهب
سوطها ظهر التخييل في قصة سنبل. هذه الفانتازيا قد عاكست طريق البناء القصصي
وحدت من نمو فعله. فهل تتخلص القصة من هذا المظهر السلبي مستقبلاً؟
9 ـ إن تعبيراً قصصياً يقدم وصف الطبيعة من دون أن يعنى بموقعه فيها، أي وصف
الطبيعة خارج إطارها مستحضر إلى أركان البيت، مثله مثل استحضار بعض مظاهر
الطبيعة إلى بيوتنا: أزهار، وبلابل، وغير ذلك، ومثل استنباتنا لبعض الخضار في
غير أوانها. إن هذا التعبير سيجد له نسمة أكبر في البناء القصصي القصير
مستقبلاً. قصة اعتدال رافع وضياء قصبجي ورياض نصور ليست سوى أمثلة على ذلك.
10 ـ إن النبرة التهكمية اللاذعة في قصة الخواجة وصقر، ومن قبلها في قصة عبد
الله عبد وسعيد حورانية، وغيرهم، ستجد لها مكاناً أوسع في الواقع القصصي، وربما
تصبح سمة خاصة من خصوصيات القصة القصيرة عندنا، على الأقل في شكل بنيانها وفي
طريقة تقديمها.
المراجع والأصول
(1) إن الكتب التالية كانت معنا في تكوين هذا البحث:
آ ـ فكرة القصة ـ عبد الله أبو هيف: المقدمة بصورة خاصة ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1981.
ب ـ فن الرجل الصغير في القصة العربية القصيرة ـ أحمد محمد عطية
ـ اتحاد الكتاب العرب. دمشق 1977.
ج ـ الحرية في أدب المرأة ـ عفيف فراج ـ مؤسسة الأبحاث العربية
ـ الطبعة الثانية ـ بيروت 1980.
د ـ النقد والحرية ـ خلدون الشمعة ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق
1977.
ه ـ خواطر في الفن والقصة ـ عباس محمود العقاد ـ دار الكتاب
العربي ـ الطبعة الأولى ـ بيروت 1973.
(2) الانفجار ـ أحمد سنبل ـ دار الثقافة ـ دمشق.
(3) القافلة والصحراء ـ إبراهيم خريط ـ وزارة الثقافة ـ دمشق
1989.
(4) امرأة من برج الحمل ـ اعتدال رافع ـ وزارة الثقافة ـ دمشق
1986.
(5) مقصد العاصي ـ أديب نحوي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق
1982.
(6) التمرير ـ دريد يحيى الخواجة ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1985.
(7) رجع الصدى ـ مظفر سلطان ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1985.
(8) حبل المساكين ـ نادر السباعي ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق
1989.
(9) مجنون زنوبيا ـ صالح الرزوق ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1985.
(10) سيرة رجل ما ـ وديع اسمندر ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1989.
(11) احتفال تحت الثلج ـ حسن صقر ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1987.
(12) البحث عن الزمن المفقود ـ مارسيل بروست ـ ترجمة الياس
بدوي. وزارة الثقافة 1982.
(13) جيران البحر ـ محمد كامل الخطيب ـ اتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق 1976.
(14) حصان الأحلام القديمة ـ جان ألكسان ـ اتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق 1986.
(15) القصة من المجموعة القصصية السابقة.
أضيفت في28/03/2006/ خاص
القصة السورية
القصة فن من فنون الكتابة
الكاتبة: نجلاء أحمد علي شاهدا
بقلم الكاتب: شاهر أحمد نصر
(نص المحاضرة التي ألقيت في مبنى فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس بتاريخ السبت
9/4/2005)
القصة فن من فنون الكتابة، و"الفن ـ كما يكتب الأب لونغي منذ عام
1885م ـ هو في جوهره، التعبير الحسي عن الجمال اللامادي، فما أن يغدو الأدب
كلاماً أدبياً، وما أن ينبثق من كل الملكات التي تفعل فعلها بصورة متعاضدة،
وبانسجام فيما بينها، حتى يكون جميلاً، إما بجمال موضوعه، أو على الأقل بجمال
الروح التي يعبر عنها.." ويقول الأب جول فيريست: "إننا نطلق تسمية الأعمال
الأدبية.. على تلك الأعمال التي تتميز بقوة الفكر، وتنظيم الأفكار، وبحركة
العاطفة، وأناقة التعبير الكلامي."(2) فإلى أي مدى استطاعت الأديبة نجلا أن
تقدم أدباً وفناً متميزاً..
ولدت الأديبة
نجلاء في طرطوس في أسرة مكونة من أخ وحيد، وثلاث بنات، في أسرة لم تعرف
الاستقرار، تركت أجواؤها أثراً على الحالة والبنية النفسية للكاتبة، وزاد في
موقفها الخاص من الجنس الآخر موقف الأخ غير المنصف، من وجهة نظرها، تجاه أخواته
الإناث..
حصلت على شهادة من معهد اللغة العربية، ومارست مهنة تعليم اللغة
العربية في مدارس طرطوس، ثم انتقلت إلى العمل الوظيفي في مديرية التربية، وكان
لها نشاط في منظمات الشبيبة، والطلائع.. ولقد ترك عملها مع الأطفال صدىً وأثراً
في نفسها، انعكس ذلك في كثير من القصائد والمسرحيات والقصص التي كتبتها
للأطفال، وفي تشجيعها لكثير من الأطفال والشباب على الكتابة..
حصلت على سبع جوائز من هيئات ثقافية عريقة في الدول العربية
التالية: الكويت ـ الإمارات ـ السعودية ـ الأردن ـ مصر ـ تونس. كما حصلت على 23
ثلاث وعشرين جائزة من منظمات وهيئات في سوريا.
طرقت مختلف صنوف الأدب: القصة القصيرة، الشعر، المسرحية، والرواية..
فأصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي: السيرك ـ الجنازة ـ الخط الحديدي. وكتبت مسرحية
(قاطع التذاكر) التي مثلتها فرقة المسرح القومي بحلب، في نيسان ـ أيار (أبريل ـ
مايو) 2004، ومسرحية (المطر) للأطفال ـ قيد التمثيل، في مسرح العائلة والطفل.
وأصدرت (الجاحظ ـ سيرة قصصية للأطفال).. ولها كتاب "دور الكويت في خدمة الثقافة
العربية".
وفي الشعر نشرت العديد من القصائد في الدوريات المحلية والعربية،
ولها قيد الطباعة (النصف الآخر ـ شعر للأطفال)، و(رحيل النورس نيسان ـ قصص
للأطفال).
وفي عام 2001 كتبت رواية تحت عنوان "شحنة شجن".
تبدأ مجموعتها القصصية الأولى (السيرك) بـ (حوار على ضوء سيجارة)
التي كتبتها عام 1993 وهي أقرب إلى المقالة، في الأدب الساخر: تعالج بشيء من
الفكاهة المرة مصير الشباب العاطل عن العمل.. اعتمدت الأديبة أسلوب السرد غير
المباشر.. بأسلوب جذاب تتجاور فيه التقريرية مع الحكاية: "الحق ليس عليك، إنما
على بلدية العاصمة التي لم تكن على درجة من الأريحية تخولها أن تجود بخدماتها
على زقاقكم الشعبي المسكين هذا، لا ماء، لا كهرباء.. ولا حتى حاوية قمامة"ص7
وفي قصة (أورام) تتحدث بأسلوب بسيط شيق ولغة عادية عن الصراع الذي
نشب "بين صهرنا المصاب بورم في رأسه، وعّمنا المصاب بورم في بطنه وفي جيبه
أيضاً".ص19 ومع تطور الزمن والحياة يتحول النقيض إلى ضده بعد نجاح الصهر مادياً
باستغلاله ورم الرأس، بكتابة رواية ناجحة؛ فـ "تخف الأورام في رأسه.. وتنتقل
إلى بطنه بالتدرج.. يبيع كتبه.. تتسع علاقاته الاجتماعية.. يتزوج من
أخريات.."ص23
تحاول الشخصية الرئيسية في قصة (تقارير) تقمص حياة البطلة والقديسة
الفرنسية جان دارك(3)..استخدمت الكاتبة كلمة تقارير بمعناها الإيجابي، على
الرغم من أنّ القارئ الملتاع من آثار التقارير السلبي يذهب خياله بعيداً عمّا
تقصده الكاتبة.. وهو البحث عن الحقيقة، وعن أساليب (التجويع لغرض الاعتراف) أو
عن العلاقة بين (الطغاة والمظاليم) وتدوينها لـ (يتداولها العامة بينهم
بالخفاء، وإذ يقرؤونها... فإنّها تعيد خلقهم بطريقة مغايرة للمألوف)ص33 وعلى
الرغم مما تعانيه من ويل بسبب الكتابة فإنّها تدعو في وصيتها إلى الاستمرار
بالبحث والكتابة مهما كان الثمن: "فليكتب الأصدقاء من بعدي مسوداتهم بحبر الرب
الذي لا ينفد، وإن نفد الحبر فليكتبوا بدموعهم ودمائهم.."ص34
في (السيرك) طفل قروي يتيم الأب جائع شبه عار، يعاني مع ذويه من
الفقر والحرمان وظلم زوج أمه الذي ما إن "زرع نفسه على عتبة بابنا وسدّ بكفيه
العريضتين منفذ النور، فأغرق الكوخ وأغرق معه حياتنا بالعتمة الأبدية."ص38
يشاهد هذا الطفل مصادفة، في المنزل الذي تخدم فيه أمه الغرباء في المدينة
برنامجاً تلفزيونياً" يعرض نقلاً مباشراً لعروض سيرك عالمي جوال مليء
بالمغامرات والعجائب والبدع والطرائف.."ص37 فيتعلق بالسيرك، الذي يصبح هدف
حياته، بل حياته كلها.. المليئة بالتعب والظلم والقهر.. وتحل فرقة روسية لعروض
السيرك.. يغامر بفصله من عمله ويذهب لتحقيق حلمه.. ما أن يرى العروض عن قرب حتى
يتبخر الحلم.. يهزأ من نفسه ومن تلك الجموع المخدوعة "أرقب بذهول المخدوعين،
ووجوم المغفلين.."ص38 فالسيرك يلازمه في كل لحظة من لحظات الحياة التي يعيشها
مع الآخرين، وهم يحلمون برؤية السيرك..
بحث عن الحرية بعيداً عن "قانون جبرية الترقيم، وحتمية الظلال".ص 48
نتعرف عليه في (المرصد) لأنّ الظلال "تمسخ الأجسام وتشوه الملامح.. حتى ليبدو
الجميع ـ الناس والأشياء ـ نسخاً مكررة لنموذج واحد أعيد توليده". والخوف من
الظلال... يؤصل عقدة الخوف..ص48
تقوم الشخصية المحورية بمحاولات لتتخلص من ظلها دون جدوى.. "المرة
الثانية عكفت على تنمية حاسة البصر، ومهارات التحديق والتأمل.. في محاولة جادة
لمحو ظلي..ص50 أخيراً ابتلع جسدي طيفه وانطفأ ظليّ.. ص51 الآن أستطيع أن أفعل
ما أريد وأشتهي دون مراقبة الظلال ومطاردة الأطياف.. أقيم مرصداً على قمة
الجبل... أراقب الجميع عن بعد في مدينة الازدحام الصامت.ص52 لم يعوزني كبير
عناء كي أقف على أسباب صمت هؤلاء الناس، لأنّها أساساً جزءٌ من أسباب صمتي أنا
قبل أن أتخلص من لعنة ظلي.. فهؤلاء الناس مصابون بوسواس الخوف من ظلالهم ومن
ظلال غيرهم، وهم موتورو الأعصاب، منشغلون على الدوام بمراقبة تحركات بعضهم...
وهذا بدوره يكفل إلغاء الأحاديث، وتقنين الكلام، والحوار، لانشغال الناس أبداً
في أعمال الرصد والترقب.ص53
وفي لحظة معينة يكتشف الراوي في مرصده كيف تُمسك الأطراف الأربعة
لكل شخص بخيط.. وتهيأ له أنّ ثمة أيد أو خيالات أكف تقوم بتحريك الأطراف
والأعضاء بواسطة الخيوط إياها، وفي اتجاهات متقاطعة متصالبة تجعل احتمالات
التصادم بين الأشخاص حتمية.. ويباغت بقوة خفية تهاجمه وترمي مرصده في القاع..
"ما أغباني، إذا اعتقدت أنني يمكن أن أكون شخصاً بلا ظل، في مدينة كلها ظلال
بظلال وأرقام لا حصر لها ولا معنى".ص58 لولا أننا لا نعرف بجلاء الانتماء
السياسي للكاتبة وولاءها المطلق، لقلنا إنّها تنتقد هيمنة أجهزة المخابرات، من
خلال مختلف الأدوات، بما في ذلك المخبرين، في ظل هيمنة حالة الطوارئ والقوانين
والأحكام العرفية، التي تكبل البلاد والعباد، وتيبس الزرع وتجفف الضرع، وتعيق
التطور الحر السليم للمجتمع والمواطن، حسب زعمنا..
لقد حاولت الكاتبة في مجموعتي (السيرك) و(الخط الحديدي) الغوص في
الذات الإنسانية، وفي الواقع الموضوعي لحياة إنساننا المقهور، وذلك بفضل
إحساسها العميق بالمعاناة، والتوق للتحرر من شرنقة المرارة والحزن الذي يثلم
النفس والوجود، فقدمت موضوعها بأسلوب جذاب يقترن بقدرة على التشويق.. مع وجود
بعض القصص التي تشبه الخاطرة أو حكاية كتبت بلغة عادية، وأسلوب بسيط مباشر..
حبذا لو زُينت تلك القصص بالشاعرية التي تتميز بها الكاتبة.. وأغنت الجوانب
الداخلية لشخصياتها بالخبرة والتجربة.. سعياً لتحقيق البهجة والتعلم في آن
واحد، وهما غرض الأدب كما يقول الشاعر الروماني هوراس..
* * *
في قصص (الجنازة) التي كتبتها في الأعوام: 1996 – 1997 – 1998 تعالج مواضيع الحياة
الواقعية، وتطرق مستوىً فنياً جديداً مع ارتقائها بالمستوى الفكري للقص..
وتحاول الولوج في أعماق النفس الإنسانية.. وتفيض ملكتها النفسية المكللة بعبق
الحزن، وإرادة التحرر من كل ما يكبلها في الواقع الموضوعي، وفي أعماق النفس..
تفيض بلوحات مليئة بالمشاعر الصادقة.. فتبحث في (الرجل والعقرب) في مكنونات
النفس التي تعتز بذاتها، وتحاول إثبات وجودها وقدراتها بالنأي عن الجماعة...
وعواقب انفصال الفرد عن الجماعة...
نرى أنّه لم يكن مفيداً ولا ضرورياً إقحام (إشكالية العلاقة بين
الآباء والأبناء) في هذه القصة بعبارة مقتضبة ومباشرة والمرور عليها مرور
الكرام.. يمكن معالجة هذه المسألة في سياق القصة دون أن طرحها مباشرة لتشغل فكر
القارئ وتخرجه عن سياق تلقي القصة..
وتكثف في (حيره) كماً هائلاً من القلق الإنساني الداخلي "أنا مضطرب
بالفطرة، غاوي نكد ومشاكسة".ص34 ربما ينجم ذلك عن انعكاس المعاناة الداخلية
والموضوعية العنيفة التي تعيشها الكاتبة.. وتحاول تفريغ شحنات الشجن العاصفة
التي تكبلها وتهز أعصابها وخلاياها ولاشعورها.. أما قصة (رقاص الساعة) فتبحث في
الزواج غير المتكافئ.. على الرغم من وجود بعض الأحكام المسبقة في القصة كـ
"مقابلة الرجال لمساحات الود، التي تبدر عن النساء بالخيبة.." فإننا عندما
نقرأها نعاني مع الزوجة ونتضامن معها.. أي إنّ القاصة تجهد لتكون قصصها القصيرة
"هي الفأس الحادة في الأدب ـ كما تقول مارجريت أتوود ـ التي تكسر البحر المتجمد
لعزلتنا الفردية، باستخدام الأدوات التصويرية المكثفة جداً".(4)
"بدأ الطبيب الصموت يعتقد أنّ الفرج هبط عليه من السماء بزواجه من
ماريا..ص44
انزج في العمل بعصامية.. يجري كل شيء بدقة.. تبحث (الزوجة) عن رأس
خيط يقودهما إلى حوار حول شيء غير محدد سلفاً.. يجيب بهمهمة أو يوجز بصيغة
حادة..ص45
يمضغ طعامه بحيوانية.. يستحم ويخلد إلى النوم..ص45 رأسٌ جاثمٌ فوق
مخدة على بعد ذراع من رأسها.. تتصور بداخله صندوقاً خشبياً..ص46 "حياة لا
تطاق".. تفكر بالطلاق..
ثم تقرر ماريا أن تفسح بينها وبين زوجها مساحة جديدة للود، وبذلك
ترجئ طلاقها..
قررت إعداد مفاجأة للزوج.. أعدت مائدة مميزة يتوسطها قالب (كاتو)
فاخر احتفالاً بمناسبة عزيزة عليهما..
حدثت الصدمة حين حضر زوج ماريا مع أصحاب جلسوا إلى العشاء..
لم يكلف نفسه عناء إبداء الدهشة لوجود قالب فاخر وسط المائدة..
انصرف الزوج والضيوف..
(مساحة الود) تضيق حول عنق ماريا ص51
تنتظر وتفكر في مساحات الود التي تفسحها دوماً مع غيرها بمبادرات
خلاقة دون أن تنتهي إلاّ إلى قذفها في حضن الخيبة.. ص52 كان بالإمكان إنهاء
القصة هنا..
بإضافة كلمتي (مع غيرها) يستطيع القارئ أن يرى الكاتبة تقتحم النص
لتفصح عن ذاتها، وعن مساحات الود التي تقدمها ولا تنال منها إلاّ الخيبة..
وكأنّ القصة بمجملها تحولت هنا إلى رسالة تود الكاتبة إيصالها إلى شخص ما..
والله أعلم..
... إننا نلمس جهد الكاتبة وتوقها لأن تجعل من قصصها حقائق ملموسة،
محددة، وحقيقية.. وهي تحاول مع تقديمها المتعة، التدخل، بشكل غير مباشر، في
حياتنا الخاصة لنعيشها بشكل أفضل.. وكأنّها تجاري من يقول "أنا أقرأ من أجل
المتعة"، "وتلك هي اللحظة التي بها أتعلم كثيراً، تعليماً غير مقصود". والتعلم
في الأدب، ليس تعلماً لا محسوساً، أو غير مقصود، فحسب، بل تعلماً شاملاً أيضاً،
حيث يتعلم القارئ من خلال شمولية إنسانية الأدب.. التي تملك قوة تأثير علينا
بشكل أكبر مما تقوم به المناقشة الفكرية أو الأخلاقية المحضة.(5)
يؤكد نقاد القصة القصيرة أهمية الشكل "كنوع شعري أساسي في النثر
السردي فهو يخلق حالة تجلي في شعور راق وتفكير راق وحساسية راقية، "تعظم النفس
التي لا يمكن أن تكون خالدة"... كما استعار جيمس جويس المصطلح اللاهوتي "الصعود
المتألق" ـ الذي استخدم في زمن المسيحية الأول للدلالة على تجلي الإله في
العالم المادي ـ كمهمة أساسية للقصة القصيرة، لتصوير بعض المشاهد أو الأحداث
الدنيوية في مثل هذا الأسلوب الذي يكشف المعنى العميق والخفي للأشياء الموصوفة.
وقد أوضح رائد التجربة الأرجنتيني خوليو كورتازار الفكرة ذاتها عندما بين أنه
في الوقت الذي يبدو أن القصة القصيرة تركز على موضوع ما، فإن القصة الدالة تشير
إلى "الخاصية الغامضة لشيء مضيء يقع في ما وراءها"، وأضاف كورتازار: "تكون أي
قصة ذات مغزى عندما تمزق قيودها بتفجير الطاقة الروحية التي تضيء فجأة الأشياء
البعيدة وراء تلك الأشياء الصغيرة وأحياناً وراء أخبار الندرة الساذجة". وفي
هذا السياق يمكن إضافة قول أيزاك باشيفيز سينغر "الأدب ذاكرة الإنسانية". وفن
القصة القصيرة وجد ليبين إنسانية أمور لا يمكن نسيانها.(6)
من الضروري أن يسأل كل كاتب قصة نفسه: إلى أي مدى استطاع أن يحقق
تلك الرؤى التي تغني قصصه، وترفعها إلى مستويات فنية راقية.
سعت الأديبة نجلا أحمد علي إلى التعويض عن شحوب ألق اللغة الشاعرية
في بعض القصص بإيراد صور حميمية، أحياناً، "أنام سحابة النهار، وأساهر الليل
حتى مطلع الفجر." السيرك.ص28 وباستخدام تعابير مجلجلة، أحياناً أخرى، تعكس
معاناة ضاغطة عميقة، تقود إلى الحقد على العالم، في حالات محددة: "أيها العالم
الموبوء بالأحقاد... المزروع بألغام الضغائن. كم أحبك الآن"(السيرك ص42)..
وتطغى على قصصها الهموم الاجتماعية والنفسية.. وتبقى قصصها حبلى بالأفكار
والهموم، وكأنّها تحاول أن تقحم ذهن المتلقي في معالجة همومها، التي هي همومه
أيضاً.. وكأن الذهنَ موضوعٌ وأداة تلهو الكاتبة به، وتعد تحفيزه وتفعيله غاية
من غاياتها..
في الرواية:
من المعروف أنّ الرواية الأوروبية ولدت في مرحلة تحطيم القيم
الروحية والاجتماعية والأخلاقية العائدة للقرون الوسطى، وتشكل قيم أخرى جديدة
مع الانتقال إلى العصر البرجوازي.. وكان لوحدة أنماط العقائد التي كونت الوعي
الفني في أوربا، دوراً رئيساً في وحدة التقاليد الروائية الأوروبية.. ولما كانت
شمولية الرواية وانتشارها الواسع يرتبط بمدى تفاعل الخصوصية المحلية مع عمومية
الروح الإنسانية فيها، فقد نشأت الرواية العالمية التي تتميز بشخصية لها صفات
محلية تاريخية وجغرافية واجتماعية وإنسانية تتقاطع مع الصفات العالمية... هكذا
اكتسب العديد من الروايات الأوربية والروسية صفة العالمية، مع العلم أنّ ولادة
الرواية الكلاسيكية الروسية ترافقت مع دخول المجتمع الروسي في مرحلة التجديد
الروحي والاجتماعي، المترافق مع نسمات الفكر التنويري العالمي الجديد... وتطورت
النظرة إلى الرواية من كونها تكتب للقبض على الحقيقة والواقع والتأثير فيه، إلى
الاتفاق على أنّها شكلٌ مفتوح، يتعامل معه الروائي دون ادعائه امتلاك الحقيقة،
أو استقلاله التام عن الآخرين.. وهكذا أخذ روائيو كل بلد يتأثرون بما يكتبه
كتاب البلدان الأخرى، فكتبت الروايات المحلية ذات الانتشار العالمي لاحقاً مع
وعي الأشكال والمستويات والبنى التي وصلتها الرواية عند الشعوب الأخرى.. وأصبحت
الرواية العالمية ملكاً للإنسانية جمعاء.. وأصبح المتلقي يقارن أية رواية
يقرأها مع روائع الأدب العالمي..
أما الرواية العربية التي استفادت من التجارب العالمية التي سبقتها،
فقد ولدت في عصر انهيار العالم الاستعماري بشكله القديم، عصر إعادة بناء العالم
على أسس جديدة، عصر الاحتدام الهائل للتناقضات، وأخذت تنمو وتتطور في عصر
انهيار الأنظمة الشمولية التي عجزت عن تلبية ومواكبة متطلبات الحياة.
أوردت هذه المقدمة لأبين أن من واجب أي كاتب يتنطح لمسألة كتابة
الرواية أن يكون ملماً بالموروث العالمي وبالمدارس التي سبقته، وبمعطيات
ومتطلبات العصر الذي يعيش فيه، وأن يعي أشكال الرواية والمستويات التي وصلت
إليها عند الأمم الأخرى، والبحر الواسع من النتاج الروائي العالمي، كيلا يضيع
جهده كما يتناثر الرذاذ من ارتطام موج البحر على صخور الواقع المتغير
باستمرار..
* * *
نشرت الأديبة نجلا أحمد علي رواية تحت عنوان "شحنة شجن" تمتاز بلغة
شاعرية، ومحاولاتها الخوض في التجريب الروائي..
بطلة الرواية مريم فتاة يتيمة الأب، فراشة حائمة كلها انشغال..
يجذبها البئر، وهو قنديل جله اشتعال. يراودها انبهار الضوء حلماً.. وتقع في
البئر..
الأم تهدد.. إما أن تنقذوا مريم أو ألحق بها ومعي مهرة الشيخ
"مبارك".ص11 ...
رجل غريب ينقذ مريم ويختفي.. قالوا : ـ البنت مسحورة وإلاّ ما
نجت...ص21
كبرت مريم ووصمة عارها لاصقة بتربة المهيدي...ص23
تعرفنا الكاتبة ً على: الماوردي رجل ضالع في السحر، فاضح للستر..ص26
وقيل في الرجل الكثير.. لذا: وجب على الكل أن يتجنبوا الاقتراب من
سياج مملكته. ص30
أمر وحيد من أمور دنياها أجادته الصبية: الرعي.ص39
(ذات يوم) داهمها الفيضان وأخذها الطوفان.. مع قطيع من البهائم..ص47
.. هطل المطر غزيراً ..اشتدت الريح.. فقدت حارسها الأمين.. خفت
المطر.. أتاها العواء.. إنه ذئب.. انقذفت البنت كشظية فاتكة تدحرجت على الصخر..
أبصرت درباً ممهدة صاعدة، فجعلت تركض والعواء يقتفي أثرها.. لمحت شبحاً
فارعاً.. يشتعل بنور سماوي هائل هابطٍ إليها.. وعلى طلق الرصاص.. سقطت.ص51
أفاقت على وشوشات وهمس، وملمس خشن لراحتين تبدلان الكمادات على
جبينها.. إنّه رجل.. من لحم ودم.ص51
ـ أريد أن أرجع.
ـ لن ترحلي قبل ذهاب الحمى.ص54
أحست بغلالة من السكينة تدثرها. ولأول مرة تصعّد نظراً في وجه
الرجل.. وتشعر بمسحة أمان تبذرها يد الرجل الجائلة على جِلدها وتودعها مسامها،
فيذوب صقيع القلب.ص58
ـ لي إزار عزيز أضعته.. وثوبك مصنوع من قماش الإزار ذاته! (قال
الرجل)
أدركت مطالع الحي.. اندفع الأولاد في كل ناحية يذيعون النبأ: مريومة
عادت.ص71
ضبط أهالي المبروكة الفتاة تؤوب إلى حيها بلباس غير الذي خرجت به من
بينهم ذات سفرة لها بالماشية.ص78
تغيرت مريومة.. عرفت أحلام اليقظة وما تبثه من رعش في الأعضاء..
وحين تعثّر على فمها السؤال: ما الحب؟! اشرأب الجذع، وبسق.. وصارت مريومة شجرة
ياسمين..
تتعرف الأم على الماوردي من خلال قصة الإزار.. وتنبئ ابنتها أنّه هو
من أنقذها من البئر..
قرر أهل الحي مهاجمة الماوردي طمعاً في رزقه.. تطير الفتاة إليه
لتنبئه بنواياهم..
في العراك، يأسر أحدهم.. ويهدد بذبحه إن لم يتراجعوا..
يتراجعون..
(قرر الماوردي الترحال) صعّد في داره وحواشيها ناراً هائلة.. سار
بأهله إلى جهة يعلمها الله..ص97
رسخ في ظن البائسة أنّ الماوردي قضى محترقاً بين أركان بيته..ص99
ابتليت الصبية بفقدان البصر.. الصبية تنتحر..
تلون الكاتبة النص بشتى صنوف البيان: السجع والمرادفات، ونستطيع
القول من محاسن هذه الرواية أن لغتها لغة شاعرية تمتزج بلغة الحكايا الأسطورية
المزينة بطيف حكايا ألف ليلة وليلة، التي تأثرت الكاتبة بها أيما تأثير..
إذا حاولنا تسليط الضوء على الجانب التجريبي عند الكاتبة لوجدناه
جلياً في الأسلوب: عندما تقحم الكاتبة في النص أسلوب سرد الأساطير.. وتعتمد
أسلوب السيرة في التعريف بشخص ابن نجمان الماوردي..ص24 ولا يخلو النص في بعض
مقاطعه من الفزلكة كالحوار بين اللغة والكاتب، والاتكاء على ألف ليلة وليلة..
فيجد المتلقي نفسه غريباً بينهما، وتخرجه أحياناً من طوره.. وقبل التفصيل في
محاولات الكاتبة التجريبية من المفيد التطرق إلى مسألة التجريب والتجديد في
الأدب، وتعرية الاتجاهات التي تدعو إلى تهديم الأدب بدعوى التجريب، مع التنويه
إلى ضرورة وأهمية التجريب الإبداعي..
الرواية التجريبية:
تعرفنا على الظروف التي ظهرت فيها الرواية في أوربا.. ومن المفيد
التمعن في تلك الظروف التي نشأت فيها المحاولات الأولى لتجديد الرواية،
والتأسيس لما يسمى بالرواية التجريبية..
من المعروف أنّ كلمة تجريب من تجربة، وهي ما يقوم به العلماء من
اختبارات في المخابر العلمية، أي إنّها ترتبط أصلاً بالعلوم الطبيعية.. ويعيد
النقاد فضل إدخال مصطلح التجريب في الأدب إلى إميل زولا "فهو الذي جمع عام 1880
عدة نصوص نظرية بشأن الرواية في المستقبل وطبق أول طريقة في التجريب واستخدم
الكلمة -المفتاح- التي سبق لكلود بيرنارد أن استخدمها ولكنها مطبقة هذه المرة
علي ظواهر ليست طبيعية بل فنية وذلك في كتابة (الرواية التجريبية)"(7).
وهناك من يرى أنّ علامات تجديد الرواية ظهرت في أعمال فوضوية تعتمد
التجريب أساساً، بدأت مع فقدان الكاتب الثقة بمؤسسات المجتمع التي أخذت تطغى
وتفرض هيمنتها على الإنسان الفرد.. مما دفع الكاتب للتحرر من قيود المجتمع،
والبحث عن هوية مستقلة لها طابع فني لا تقيدها تقاليد المجتمع وعاداته.. وتعمق
هذا التيار مع ازدياد حدة الأزمة الروحية التي أخذت تخنق الإنسان في العصر
الحديث، وسعت للتعبير عن نزوعاته المختلفة، وأعماقه وخفاياه الباطنية المكبوتة
المستترة المظلمة، ومزاجه الحائر القلق، وتأثرت بالنظريات السيكولوجية الجديدة
المبنية على معطيات المدرسة الفرويدية في مطلع القرن العشرين. كما يبين النقاد
أنّ هذا التيار نشأ على المستوى الأخلاقي والروحي على يد فرانتس كافكا "الذي
حاول التعبير عن أزمة البطل الروحية، وهو يعيش صراعاً طاحناً في مواجهة العالم
المادي البشع الذي يحيل البطل ببساطة إلى صرصار، وينصب للبطولة محكمة وقضاة،
تحول البطل إلى شكل خال من أية معالم إنسانية، وقد رصد كافكا هذا التحول في
رواياته (المسخ - القصر - القضية) التي تتسم بأجواء خيالية مثل الكوابيس، تصور
إحباط الرجل العادي ويأسه في دوامة البيروقراطية الحكومية. وتزامن ذلك مع
محاولات مارسيل بروست في تقنية الكتابة بوصفها أحلام يقظة شاعرية، وفي حفريات
الذاكرة وتفتيت الزمن الروائي، فانتثرت الوقائع إلى دقائق صغيرة، وتم الاستغراق
في الوصف واحاطة الزمن الماضي بأطر جديدة متبلورة مشعة، واستخدم جيمس جويس في
إنجلترا تيار الوعي للتعبير عـن الرؤى والمشاعر والذكريات التي تفيض بها عقول
شخصياته كما في روايته ذات الزمن المكـثف (يوليسيز) حيث انهيار القيم الشخصية،
وتفاهة النشاط الإنساني في الحياة المعاصرة، وكذلك التركيز على اليومي العابث
اللاهي الحزين والمؤلم. وقد كتبت فرجينيا وولف بالتقنية نفسها مع استخدام
الرمزية بأسلوب شاعري مؤكدة هشاشة العلاقات الإنسانية في خضم القيم الاجتماعية
المنهارة، كما في روايتها (الفنار) 1927"(8) .
وكما يقول الدكتور محمد شاهين "ظلت قضية الواقعية قائمة، ولكنها
أخذت بعداً مغايراً.. فبدلاً أن كانت بعداً خارجياً وهو ما يحدث في الطبيعة، في
الكون، في التاريخ ..الخ، أصبحت بعداً داخلياً.وهكذا تحول السرد من حوادث
تتسلسل زمنياً إلى مشاعر تنبثق دون إعداد مسبق، ومن داخل النفس البشرية. وأصبحت
الرواية عند فرجينيا وولف وجيمز جويس وغيرهم تتكون في غالبها من تداعيات تنطلق
من اللاشعور متجاوزة تقاليد الحبكة والقصة إلى الأحلام والمخاوف والآمال
الفردية التي تتموج داخل النفس البشرية. ولم تعد الرواية ثيمات مألوفة عن الحب
والمأساة والملهاة.. بل أصبحت استكشافاً لخبايا النفس التي لم تطرق من قبل،
وغوصاً في أعماقها بحثاً عن حقيقة أعمق من الحقيقة الخارجية للحوادث، والأشياء
والظواهر المألوفة للحس الخارجي. باختصار أصبح جل اهتمام الكاتب بالشخصية بدلاً
من الحدث، وهذه هي أهم علامة في تطور الرواية."(9)
أما روايات سارتر وكامو ، فقد جاءت كتعبير عن الرؤية الفلسفية
الوجودية التي تقول بعبثية الحياة والدور المحوري لذات الإنسان الذي عليه أن
يختار أسلوب حياته بنفسه وعلى مسؤوليته..
وازداد رواج التجريبية في بلدان أوربا الغربية منذ أواسط ستينات
القرن الماضي، وبشكل عام منذ عام 1968م، وترافقت مع التمرد اليساري على
الرأسمالية... وما عرف بمذهب "الطليعة الجديدة"...
يبين بعض النقاد أنّ مذهب الطليعيين الجدد المشوش والموهوم والمشوب
بالتهور يلعب دوراً تهديمياً في الأدب. فقد دعا هذا المذهب إلى مزاوجة المذهب
العقلي الشكلي مع المذهب اللاعقلاني، وإنشاء الفن الذي يعني الانغلاق في مجال
"الممارسة اللغوية"، واستبدال نقد المجتمع بنقد اللغة. إنّ هذه المغالاة
المالارمية (نسبة إلى مالارميه الذي فجر وبقوة مسألة ماهية الأدب) تكشف بشكل أو
بآخر عن صمتٍ وغيابٍ عميقين يفسران إلى حد كبير أزمة مفهوم الأدب التي تتجلى من
خلال طرح مسألة اللغة والتفكير النقدي حول إمكانية نشوء اللغة، وشروط وجودها
وآلية عملها... لقد أصبح من دواعي فخر الكاتب أن تكون أعماله مستعصية الفهم على
القارئ، وأن يكتب من أجل أن لا يقرأ. لقد كان "النص" تظاهرة لرفض الكاتب
للتحليل والاستيضاح والتعميم.. وانتشرت تلك "النصوص" التي تصلح لمونولوج من
التمثيلية المسرحية "تدنيس الجمهور" لـ ب. هاندكه: أنتم قرود، أنتم بدون أهل،
أنتم جائعون، أنتم متمردون، أنتم أوباش، أنتم مدنسو الأوكار الخاصة...الخ(10)
من كل ما تقدم يتبين أنّ التجريب بشكل عام، بما فيه الفني، يتعلق
بمستوى وأفق التحولات الاجتماعية والمعرفية والتكنولوجية وهو ضروري لرؤية
المستقبل. وستتوسع الآفاق أمام التجريب في عصر المعلوماتية في ثنايا العالم
الافتراضي الذي تخلقه دروب مجرات المعلومات.. ستحل مرحلة يتحد فيها ذهن ومخيلة
المبدع مع الكومبيوتر، ويتلاقى فيها الواقع المادي مع المثل والخيال، ويكتسب
فيها المبدع والمتلقي إمكانية الغوص في أعماق وزوايا النفس البشرية والروح
اللامتناهية، وينتج فناً خالداً.
إذا قاد التجريب إلى ابتكار أساليب وأشكال جمالية جديدة راقية في
التعبير الفني فإنّه يرتقي إلى شكل ومستوى من أشكال ومستويات الإبداع .. وضع
الدكتور صلاح فضل "تصنيفا لمفاصل التجريب الروائي في الرواية العربية ضمن ثلاث
دوائر متمايزة أكثر الأحيان، لكنها متداخلة أيضاً، وهي:
1 ـ ابتكار عوالم متخيلة جديدة، ليست مألوفة في حياتنا العادية، ولا
طرأت في السرديات السابقة، عوالم خلقت منطقها الداخلي، وبلورت جمالياتها
الخاصة.
2 ـ توظيف تقنيات فنية محدثة تتصل بطريقة تقديم العالم المتخيل
وتحديد منظوره، كتقنية تيار الوعي أو تعدد الأصوات أو المونتاج السينمائي.
3 ـ اكتشاف مستويات لغوية في التعبير تتجاوز نطاق المألوف في
الإبداع السائد، عبر تعليقات نصية متشابكة ومتراسلة مع توظيف لغة التراث السردي
أو الشعري أو دارج اللهجة وأنواع الخطاب الأخرى".(11)
فإلى أي مدى استطاعت الأديبة نجلا أحمد علي أن تفلح في التجريب
والتجديد القصصي والروائي؟
لكل رواية، ولكل كاتب رواية، لغته وأسلوبه الخاص.. وفي كل رواية شيء
جديد والشيء الجديد نسبياً في "شحنة شجن" هو اللغة والأسلوب.. تزين الكاتبة
روايتها بالأسطورة، وتتداخل الرؤية بالأسطورة دون أن تبتلعها الأسطورة.. وتصر
الكاتبة على التمسك بالتراث الملحي دون أن تفقد شخصياتها الصفات الإنسانية
العامة.. وينطبق نسبياً عليها بعض الخصائص الواردة أعلاه في التجريب والحداثة
ويتجلى ذلك في محاولة مزاوجة الأسطورة بالواقع، والعناية باللفظ، وفي محاولتها
طرق "مستويات لغوية في التعبير تتجاوز نطاق المألوف في الإبداع السائد، عبر
تعليقات نصية متشابكة ومتراسلة مع توظيف لغة التراث السردي" في روايتها..
في اللغة:
اهتمت الكاتبة بجماليات الخطاب، من خلال استخدامها الجميل للغة
لدرجة المبالغة أحياناً.. والكاتبة متمكنة من اللغة بشكل جيد، قلما تجد خطأ
نحوياً لولا بعض الأخطاء المطبعية التي استرعت انتباهي مثل: ( لم يجدي)
"الجنازة" ص21 (ِلَم يصيبُنا) "الجنازة" ص33 تدنو من الفراش بشعر منفوش شائب،
وعينان ضيقتان كشطبي قلم. "شحنة شجن" ص52(عينين ضيقتين).. كما استخدمت الكاتبة
كلمة طيلة للتعبير عن مدى استمرار الزمن ويفضل استخدام كلمة طوال (أبد الدهر)،
لأنّ الطيلة: العمر (يقال: أطال الله طيلته، ولا يقال أطال الله طواله).. وكان
من المفضل مراعاة علامات التنقيط خاصة في الرواية.. مع التنويه إلى مسألة قد
تكون سقطت سهواً من قبل الكاتبة، وهي استبدالها كلمة "مهرة" التي وردت في
البداية بـ "ناقة" في الفصول الأخيرة من "شحنة شجن".. ومن المفضل مجاراة مستوى
اللغة لطبيعة ومستوى الشخصيات.. ومن حق المتلقي أن يتساءل على سبيل المثال، من
أين اللغة الموغلة في الفصحى لراعية: احتجت: ـ إنهم رعاع بلا رحمة ص89. يا أمة
الله. من تكون الغرقى؟
(قد يكون سبب ذلك السرعة والحالة النفسية التي كتبت فيها الرواية)
هذا لا يمنع رؤية اللغة الشاعرية المتميزة في الرواية، تلك اللغة
الغنية بالمفردات وبالبيان، والمتجاورة مع لغة الحكايا والأساطير: "البئر قنديل
جله اشتعال. ومريم فراشة حائمة كلها انشغال، يراودها انبهار الضوء حلماً.."
"ويصيح عابر: وقعت بنت.. وقعت بنت"..ص10 "يتلاشى الصوت وتهمد الحركة".
في الأسلوب:
نستطيع القول أنّ الكاتبة في أسلوبها التجديدي، تحاول كسر القوالب
الجامدة لكتابة القصة، فتدخل في النص حوارات وتداعيات لا تتعلق مباشرة بالأحداث
الرئيسية فيه، ويوقعها ذلك في الفزلكة أحياناً، مثلاً: في ص44ـ 47 فصول تجليات
العشق التي عقدتها شهرزاد.. وربما كان ذلك يشي عن فيض المشاعر الجياشة المحبوسة
في حناياها.. إلاّ أن هذه الفصول التي قد تخرج القارئ عن طوره ـ بخروج الكاتبة
عن التسلسل المتعارف عليه منطقياً في السرد ـ ليست طاغية على النص.. والكاتبة
تجيد فن جذب المتلقي بأسلوب فاتن آسر جميل مزين بأفكار طيبة غنية وهي تتحدث عن
(النساء ومظاهر الامتلاء) فتزين النص بأنغام عذبة وزخرفات رسامة ماهرة وصيادة
لألئ نفيسة، ورؤى جنية نورانية: امتلأت امرأة بالحنان فصارت أماً، وامتلأت
امرأة بالإيمان فصارت راهبة، وامتلأت امرأة بالغواية فصارت مومساً.. وامتلأت
امرأة بالشر فصارت أفعى، وامتلأت امرأة بالموسيقى فصارت مغنية، وامتلأت امرأة
بالإيقاع فصارت راقصة، وامتلأت امرأة بالحب، فماذا صارت برأيكم؟
ـ صارت إلهاً..ص32
في الزمان:
هناك أكثر من مسألة يمكن مناقشتها مع الكاتبة، المسألة الأولى التي
ترد في أكثر من مكان وهي تحميل الزمن مسؤولية عيوبنا ونواقصنا، وهي ثقافة إلقاء
اللوم والتبعات على الآخر، سواء القدر أو العدو أو الزمن، وهي ثقافة تربينا
عليها لأجيال طويلة.. (كان زماناً تعطل عنده الزمان لجهالة ناسه وسفاهتهم،
وظلامة أهله وقساوتهم.)ص36 وفي هذا الخصوص نقول: الزمان لا يتعطل، يحل الركود:
عندما لا تستجيب البنية الاقتصادية الاجتماعية لمتطلبات التطور.. العيب ليس في
الزمان بل في صانعي المرحلة التاريخية.. الزمن لا يمكن أن يكون مخصياً، بل من
يعيشون فيه يمكن أن يكونوا مخصيين.. أما المسألة الثانية فهي مسألة توظيف
الكاتبة للزمن في النص، فقد كان توظيفاً سلساً عادياً.. وعلى الرغم من أنّ
تصرفات بعض الشخصيات، وأسلوب الحكاية يوحي بزمن بعيد.. فإنّ التحليل النفسي
للمواضيع المطروقة يوحي بالزمن المعاصر.. من المفيد تجديد التقنيات القصصية
باستمرار، ومنها حسن اللعب مع الزمن، وحسن استثمار ما أطلق عليه النقاد:
التناوب، التناوب المتزامن، الارتجاع، التضمين، الاستباق..
في الموضوع وعلاقة الكاتبة بالرجل:
لقد أصبح من المعروف والمتعارف عليه أنّ من أهم المبادئ الأساسية
لتطور الرواية "مبدأ التوغل العميق في الحياة الداخلية للذات الإنسانية".. ومع
الاتفاق مع الرأي القائل بأنّ "مقتل الروائي العربي إنما يكمن في أنّه قد نصب
نفسه كخبير في قضايا المجتمع، أي حاول أن يكون عالم اجتماع بدلاً من أن يكون
فناناً"(12).. فإنّه لا بد من التنويه إلى أنّ القصة والرواية أصبحت عملاً
فكرياً وفنياً يتطلب جهداً خاصاً من الكاتب.. فقد تأثرت بكل منجزات وعلوم العصر
بما في ذلك علم النفس والفلسفة.. كاتب القصة ليس عالم رياضيات ولا عالم اقتصاد
أو اجتماع.. لكن عليه أن يكون ملماً بالمبادئ الأساسية للفلسفة وعلم النفس وعلم
الاجتماع.. لكم حزّ في نفسي، على سبيل المثال، قراءة نص أدبي لأحد الكتاب الذين
تثير رؤيتهم الفكرية التساؤل عندما يضع، على سبيل المثال، المعارضين السياسيين
في صف واحد مع اللصوص والقتلة والمجرمين والخارجين عن القانون، ويجمعهم جميعاً
في فئة واحدة.. في الوقت الذي تنظر فيه البشرية المتحضرة وعلم الاجتماع المعاصر
إلى المعارضة كعنوان للأوطان، يرتبط مستقبلها وسلامة تطورها بحضورها السليم..
عندما يحاول الروائي أو القاص أن يبحث في العلاقة التي تربط الذات
بالمجتمع، عليه أن يكون ملماً بألف باء علم الاجتماع، وعلم النفس..
من محاسن أدب نجلا أحمد علي أن الإنسان وهمومه الاجتماعية والنفسية
يشكلان ركناً أساسياً من أركانه.. ويلمس المتلقي إصرار الكاتبة الصادق على
معالجة القضايا الاجتماعية التي تقف عثرة أمام تألق وتطور إنسانية الإنسان..
لكنّ القارئ يلمس في ثنايا بعض النصوص تأكيد موضوعة العداء بين الرجل والمرأة،
مما يؤدي إلى استشفاف موقف عدائي من الرجل كامن في لاشعور الكاتبة.. يتجلى ذلك
أحياناً في تقويل الرجال أقوالاً ضد النساء: "حين بدأت أعمم كرهي على النساء،
كنت مدفوعاً بدافع الحقد على حواء، إذ نمي إلي أنّها المسؤولة عن وجود ذلك
المثلث العظمي الناتئ في أعناق الرجال".السيرك ص41 أو في عبارات مباشرة: "أعلن
الكاتب عنوان سيرته:(عن الرجال وغرائب الأحوال)" شحنة شجن ص24 .. "ولما لم تلقَ
الفتاة مجيباً ينجدها، ولا سمعت جواباً يثلجها، وجوبهت بالصد والبغض، والتمنع
والاستهجان، وعَت محنتها.. فآثرت وحيدة ـ اجترار خيبتها، وحقن عذاباتها بالصمت،
وإخراس نداءات الجسد السرية، مهما طفح الكيل وعظم الويل". شحنة شجن ص8 " أو في
إصدار أحكام مباشرة قريبة إلى العامية المتخلفة.. "وهل خلقت النساء إلاّ للحيل"
(رقاص الساعة) ص48 بالتأكيد خلقت لأمور أسمى.
وهنا تجدني أختلف مع الأديب وليد معماري في قوله بأنّ نجلا علي
"استطاعت السيطرة على "أناها" الأنثوية ونفيها خارج عملية القص وبالتالي تخلصت
من أهم المآخذ على القصة النسائية وهي "البوح العاطفي الذي يصل إلى تخوم
الرومانسية"".
جاء في كتاب "الخطاب القصصي النسوي ـ نماذج من سورية" للدكتورة
ماجدة حمود أنّ استخدام مصطلح الأدب النسوي ليس إشادة أو عزلاً، وإنما انطلاق
من أنّ الأدب يبدأ من "نبض المعاناة الخاصة"، وهذا يتجلى في اللغة بكل ما تعنيه
من تشكيل جمالي يؤسس بنية اللغة، أي خصوصية المعاناة / التجربة، تفضي إلى
خصوصية الخطاب / جماليات خاصة.. وإذا كان لنا أن نرى إلى المعاناة / التجربة /
ما قبل النص نجد أنّ جنس الكاتب يمثل عنصراً من عناصرها، أي يمثل عنصراً من
عناصر التجربة وليس العناصر كلها، ومن هذه العناصر: الموهبة، الثقافة، المهنة،
المنظور الإيديولوجي، شروط الحياة.. فكثير من المزوقات في اللغة تعود إلى
المهنة.. كما لخصت بريجيت لوغار بعض الخصائص العامة التي تشيع في أدب النساء:
الجنس، إدراك الجسد، التجربة الحياتية، اللغة.. ويتمثل نبض معاناة المرأة في
النص في كونها كائناً مضطهداً مغبوناً مقهوراً... فالنصوص التي تكتبها الأديبات
كثيراً ما تطغى فيها لغة البوح والاعتراف، ونرجسية الغبن والقهر، والتوتر
والقلق إزاء الرجل متعدد الأقنعة.. تكشف لغتها الشعرية أعماق المرأة المضطربة
في مواجهتها لهموم عالم مضطهد وزمن قاهر..(13) قد نجد بعض هذه الخصائص، أو
معظمها في الأدب القصصي عند الرجال.. لكن حميميتها وطغيانها أكثر ما يتجلى في
الأدب النسوي.. والأديبة نجلا علي لم تكن بعيدة عن ذلك.. تصور المرأة أحياناً
كملاك.. كما تتألق اللغة عند وصف المرأة ومعاناتها.. فتجدها أحياناً تحاول
تفريغ شحنات الحزن والشجن المكتوم والمخزن في اللاشعور: "تبلدت البنت، خبا بريق
الحياة في ناظريها، انسحب لونها من بشرتها، ففارقتها نضارة الأحياء وبضاضة
أجسام الشباب، وانخطف حماسها من قبل ميعاده، وحيويتها قبل ميقاتها، فخارت
عزيمتها، وبردت استجابتها، ووهنت ردات فعلها، وغدت أقرب إلى الكهولة"..شحنة شجن
ص38 وتجدها أحياناً أخرى تتدخل في النص للتعبير عن خلجات وعواطف داخلية كامنة..
فقد كان بإمكانها أن تنهي "شحنة شجن" عند قتل مريم لنفسها.. لكنّها أصرت على
التعبير عمّا في حناياها وإيصال رسالتها النسائية إلى من يهمه أمرها: "البنت
منحوسة.. بل مشمولة بضر في أصل ذاتها.. المرأة معمورة بالحب.. لولا حلوله بها
حول الدم في العرق.. ما أزهقت روحها.. المرأة عاشقة بلا ريب.. مقدودة لفراق
الحبيب..المرأة مشحونة بشجن..
لو صبرت حد انقضاء الشحنة.. أو وجدت سبيلاً لتفريغها.. أو اهتدت
للذي يخفف عنها تبعات الصدم ولواحق التلقي.
لو لقيت دريئة غير ذاتها، ومصداً في غير شخصها لما ماتت المرأة".
شحنة شجن ص102
مع تمناتي لأدبنا بالسمو أكثر في تعمقه بقضايا الصراع ومعالجة
التناقضات بعمق أكبر، مع بذل كثير من الجهد والحفر المعرفي، والتعب أكثر على
الموضوع والنهايات، وإكساء الشخصيات الأبعاد المتنوعة لتصبح ذات محتو رصين،
ولتبتعد عن السطحية واليأس، وتغتني حياتها بالصراع الداخلي والخارجي بما يجعل
من وجودها تجربة جذابة ذات قيمة.. أرى ضرورة التروي في نشر مخطوطات الروايات..
وعدم قرن الكتابة دائماً بغرض المشاركة في المسابقات.. ومن المفيد التعامل مع
التجريب والبحث عن الجديد كوسيلة من وسائل الإبداع دون أن تكون صدىً للتحولات
التي تطرأ على الأدب عند الآخرين ، بما في ذلك في الغرب، بل كنتاج طبيعي ومستوى
جديد في ثقافتنا العربية. لقد اعتمد العرب طويلاً على الآخرين، وحان الوقت لكي
يقدموا مساهمتهم في رفد الأدب العالمي بالاستفادة من موروثهم وما اكتسبوه من
معارف وخبرات..
أستطيع القول إنّ الأديبة نجلا أحمد علي استطاعت تجاوز الكثير من
النواقص في القص، بالتقليل من الثرثرة واللغو، والابتعاد عن طغيان الايدولوجيا،
وعن الأسلوب الصحفي، وباقترابها من اللغة الشاعرية، واستطاعت أن تكون فنانة
مسكونة بجنية نورانية قادرة على الفيض بالكثير من الحب والجمال الجذاب.. وهي
تحترق ليتدفق هذا الفيض والتوق إلى الإبداع كوسيلة لمجابهة الاضطهاد والقهر
الذي يكبلنا ويكبلها والمرأة العربية.. وأعتقد أنّها تحتاج، وتستحق أن نقف إلى
جانبها وإلى جانب جميع أديباتنا المبدعات لاغناء أدبنا وحياتنا، ليزداد وجودنا
جمالاً..
طرطوس 8 آذار / مارس (عيد المرأة العالمي) 2005
الهوامش
(1) الرواية التجريبية: عمل روائي يعتمد على رؤية ووعي جديدين
عند روائي له مفهومه الخاص بكتابة الرواية.
التجريب الروائي: هو فعل متميز داخل مفهوم الرواية السائد، يعكس
الكاتب من خلاله ذوقه الشخصي، وإبداعه الخاص في الكتابة، أو التصوير أو اختيار
الموضوع..
(2) أزمة مفهوم الأدب في فرنسا في القرن العشرين ـ ألبير ليونار
ـ ص232 لمزيد من المعلومات انظر: بين الواقعية والواقعية الجديدة في الأدب
الأمريكي اللاتيني المعاصر ـ يونس كامل ديب ـ إصدار دار السوسن ـ دمشق 2004
(3) جان دارك (1412 – 1431) التي ساعدت الملك شارل7 وردت
الإنكليز عن حصار أورليان 1429. قبض عليها وأحرقت في روان. وخلدت عملية حرقها
في لوحات من القرن الخامس عشر.
(4) (5) (6) فن القصة القصيرة ـ دانا غيويا ـ ترجمة.فضيلة يزل ـ
الأسبوع الأدبي ـ دمشق ـ العدد / 943 / تاريخ 2/5/ 2005
(7) (8) د. صلاح فضل ـ في إشكالية التجديد الروائي ـ مهرجان
القرين الحادي عشر في الكويت ـ موقع:
http://www.kuwaitculture.org/alqurain2004/news4.htm
(9) د. محمد شاهين ـ آفاق الرواية (البنية والمؤثرات) ـ دراسة.
اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 2001 ص9
(10) لمزيد من المعلومات انظر: بين الواقعية والواقعية الجديدة
في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر ـ يونس كامل ديب ـ إصدار دار السوسن ـ دمشق
2004 ص29
(11) د. صلاح فضل ـ في إشكالية التجديد الروائي ـ مهرجان القرين
الحادي عشر في الكويت ـ موقع:
http://www.kuwaitculture.org/alqurain2004/news4.htm
(12) محمد أسامة العبد ـ الرؤية النقدية.. من الذاتية إلى
الموضوعية عند الناقد يوسف اليوسف
الأسبوع الأدبي ـ دمشق 10/4/2004
(13) د. عبد المجيد زراقط ـ حول كتاب "الخطاب القصصي النسوي ـ
نماذج من سورية" للدكتورة ماجدة حمود ـ الأسبوع الأدبي ـ العدد 1425 تاريخ
11/1/2004
الكاتب: شاهر أحمد نصر
مواليد: الصفصافة ـ طرطوس ـ سوريا 1956
الدراسة: هندسة مدنية ـ جامعة الصداقة ـ موسكو ـ 1981
عضو الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية
عضو اتحاد الكتاب العرب
الانتماء السياسي: مستقل
عنوان البريد الإلكتروني:
shaher5@scs-net.org
الإصدارات:
أولاً: في المجال الهندسي:
1 ـ الهندسة الصحية بين النظرية والتطبيق ـ دار الحصاد ـ دمشق ـ
1994 (ترجمة وإعداد)
2 ـ تصميم المنشآت البيتونية المسلحة ـ إياس ، بالتعاون مع نقابة
المهندسين ـ طرطوس 1997 (ترجمة وإعداد)
3 ـ تصميم الأبنية العالية على أحمال الزلازل ـ عمريت، بالتعاون مع
نقابة المهندسين ـ طرطوس 1999 ( ترجمة وإعداد )
4 ـ تصميم المنشآت الهندسية على أحمال الزلازل وفق الطرق التقليدية
وبرنامج
STAAD-III
ـ دار السوسن ـ دمشق 2004
5 ـ تصميم الأبنية العالية على أحمال الزلازل وفق المراجع الألمانية
DIN4149
مع أمثلة عملية ـ دار الرأي ـ دمشق 2005
ثانياً: في المجال الأدبي والفكري:
1 ـ من أجمل ما كتب بوشكين ـ النورس ـ طرطوس 1995
2 ـ عبد المعين الملوحي أمير شعراء الرثاء ـ الكنوز الأدبية ـ
بيروت 1996 ( قدم للكتاب المفكر العراقي المرحوم هادي العلوي)
3 ـ من خفايا ثورة أكتوبر ـ قوس قزح ـ طرطوس 1998
4 ـ قدس الأقداس ـ رواية ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 2001
5 ـ الأصالة والإبداع في شعر عبد المعين الملوحي ـ المنارة ـ طرطوس
2002
6 ـ من الأشعار الأخيرة لرسول حمزاتوف (ترجمة) ـ دار السوسن ـ دمشق
2004
7 ـ الدولة والمجتمع المدني ـ دار الرأي ـ دمشق 2005 (قدم للكتاب
الدكتور: طيب تيزيني) |
|
|