أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

دراسات أدبية - الأدب الفلسطيني / الكاتب: محمد توفيق الصواف

الانتفاضة في أدب الوطن المحتل

 

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

الإبعاد والطرد

التمييز العنصري

التراكم يولد الانفجار

الانتفاضة في أدب الوطن

التعايش السلمي 

حزمة ضوء أخيرة

قتل الفلسطينيين 

الاعتقال والسجن 

مخاض الوطن الحر 

مواصلة الثورة حتى التحرير

 الدعوة إلى الشمولية

الانتفاضة ثورة إنسانية

 وثمة محتويات أخرى

ملامحه في منجزاته 

 بطل الأنتفاضة

 من دم الشهيد

 

الانتفاضة في أدب الوطن المحتل

بقلم الكاتب: محمد توفيق الصواف

 

الإهداء :

إلى أرواح شهداء الانتفاضة

 

هذا الكتاب

مقدمة بقلم: الشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق

 

كان مفترضاً أن يصدر هذا الكتاب، على ما أذكر في العام 1990، أي قبل صدور كتابي (الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني) بثلاث سنوات... أتذكر هذا بوضوح،لأن كتابي (الانتفاضة في شعر الوطن المحتل) ما زال ينتظر الصدور عن دار الجليل بدمشق؛ وكأنما كتب على هذين الكتابين أن ينتظرا الصدور، وأن يطول الانتظار...

وكنت في زمن مضى، قد اتفقت والصديق الباحث محمد توفيق الصواف على تناول الانتفاضة وأثرها في أدب الوطن المحتل، فأخذت جانب الشعر، وأخذ هو جانب القصة.. وبعد أن أنهى كلّ منا كتابه، كان علينا أن نبحث في أمر صدور هذا وذاك... وها هو كتاب الباحث الصديق محمد توفيق الصواف يرى النور بعد أن طال وطال الانتظار.

ما أوردته سابقاً، أوردته عن قصد، لأنبه القارئ بصورة جلية واضحة، إلى أن المصادر التي توفرت للكتاب، لم تكن كافية، أو بالوفرة التي يمكن أن نلحظها بعد مرور كل هذه السنوات.. إذ كانت الكتابات في ذلك الحين، ومن الوطن المحتل تحديداً، لا تصل إلينا إلا بشق الأنفس، وكنت، والباحث الصواف، نقوم بنسخ المادة يدوياً أو تصويرها، ثم تصنيفها ودراستها وهكذا... وكم كان الأمر صعباً وشاقاً..

الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، يضع الباحث محمد توفيق الصواف، بين يدي كتابه لأقول كلمتي، لأقرأ.. فماذا كان عليّ أن أقول؟؟؟

من هنا أبدأ...

قبل الدخول في الحديث عن الكتاب وقراءتي له، لا بد من القول: إن الصديق والأخ الباحث محمد توفيق الصواف، لا يدخل مجال الكتابة والبحث، في كتابه هذا، دون استناد على تجربة طويلة، امتدت على مدار سنوات من الكتابة والبحث في الصحف والمجلات.. إلى جانب امتلاكه لأدوات الكتابة في القصة والشعر بشكل متميز.. فهو شاعر وقاص، إلى جانب كونه ناقداً مارس النقد الأدبي، إضافة إلى خبرته الطويلة في الدراسة والبحث السياسيين...

هذه الإشارة وإن كانت لا تقول إلا القليل عن إبداعات الصواف المتعددة، فإنها تسعى إلى وضع القارئ أمام ضرورة فهم آلية البحث التي سيلحظ أنها لا يمكن أن تكون آلية باحث يدخل عالم البحث والنقد للمرة الأولى، بل هي آلية باحث خبر وعرف وجرب وكتب الكثير ليصل إلى هذا المستوى...

وأعود إلى الكتاب رغم هذا الإصرار الغريب على الاستطراد والتنقل...

عندما بدأت قراءة المخطوط -وأسجل هنا ملاحظتي بكل الوعي والانتباه -كنت أقرأ برتابة وكسل.. إذ بعد كل هذه السنوات من  التعامل مع مادة وإبداعات الوطن المحتل، وصلت إلى قناعة فيها الكثير من الغرور وهي أنني أصبحت أعرف كل شيء عن هذه الإبداعات وما يكتب عنها.. فماذا سأجد عند الصديق الصواف من جديد!!، خاصة حين تكون الدراسة عن موضوعة الانتفاضة وهي الموضوعة التي تعاملت معها، ومع انعكاسها في أدب الداخل بشكل لافت أصبح يعرفه الجميع، ولأن الغرور مرض، فقد تملكني الظن بأنني لن أقرأ جديداً في الدراسة التي بين يديّ!!

أعترف بأنه كان  عليّ بعد صفحات قليلة من القراءة أن أركز كلّ انتباهي وأنا أقرأ؛ فما يطرحه الباحث الصواف مثير ومدهش حقاً، إذ انه يكسر رتابة التناول ليقول موضوعته بتوافق غريب مع المادة المتناولة، إلى حدّ يجعل القارئ يشعر وكأنه أمام أبطال القصص من جهة، وأنه أمام عالم جديد يكتشفه للمرة الأولى من جهة ثانية. فتأخذه الرغبة في المتابعة والمعايشة، وتلمس كل حركة.

في هذا المسار، وهو مسار يبقى مختزناً الكثير من  احتمالية الإدهاش والإمتاع والإفادة، تنتقل قصة الانتفاضة من حركية السير على الورق، لتضعك مباشرة في المعترك وسخونته. ولا تستغرب، إن وصلت في بعض الحالات إلى الشعور بأنك ترمي حجراً من حجارة فلسطين على جنود الاحتلال. كل ذلك طبعاً جراء أسلوبية متميزة يطرح بها محمد توفيق الصواف خطوطه وألوانه. فالفرشاة التي يرسم بها تعرف كيف تتواصل كل التواصل مع حركة أصابعه وأفكاره. وأشهد أنه صاحب أسلوب بارع. قادر على الوصول والتواصل والدخول إلى أعمق الأعماق.

قد لا يعرف كثيرون أن الصديق الباحث محمد توفيق الصواف كان قد انصرف سنوات، إلى دراسة اللغة العبرية حتى أتقنها، وكان في ذلك الحين بصدد دراسة الروايتين الفلسطينية والإسرائيلية، للنظر في صورة الشخصية الروائية مع واقعها في هذه وتلك. وقد مضى طويلاً في هذا البحث، وما زال من دارسي الأدب العبري المتميزين، كما تبين دراساته التي نشرها في العديد من المجلات المتخصصة، ولا سيما مجلة الأرض للدراسات الفلسطينية..

أورد هذه الإشارة للوصول إلى القول: إن الباحث، في دراسته للانتفاضة في القصة العربية في الوطن المحتل، يعرف حق المعرفة، الأرض التي يقف عليها، ويعي كل حركة من حركات شخصياتها، لأن بطل قصته التي يدرسها، وهو بطل عربي فلسطيني، يواجه شخصية احتلالية واضحة الملامح لدارس عرف لغة هذه الشخصية، ودخل في كل منحنياتها، فكان خبيراً بكل ما تتطلبه الخبرة، متميزاً عن سواه بمعرفة الشخصية الاحتلالية من داخلها لا من خلال وصف خارجي تنقله لغة أخرى عن أخرى.

وفي سياق الحديث عن هذا الكتاب أيضاً علينا أن ننتبه إلى ناحية بالغة الأهمية، وأن ندقق كثيراً فيها خوفاً من خطر الانزلاق إلى التوهم بأن ما تقوله هذه القصة أو تلك، يمكن أن يوحي بعكس المقصود... وأورد في هذا المجال ملاحظتي حول قصة (الحاجز) لنبيل عودة.. إذ قد يتساءل البعض: لماذا يقوم هذا الطبيب الفلسطيني بإنقاذ عدوه الجريح؟

والسؤال له ما يبرره... إذ أن هذا القاتل، وبعد إنقاذه سيقتل المزيد من شعبنا العربي الفلسطيني... وهو ما حدث في القصة فعلاً... لنصل إلى النقطة المفصل في هذه القصة، حيث تقول إن الفلسطيني لا يستطيع إلا أن يكون إنساناً، في حياته وتصرفاته ومشاعره وأفكاره، وإن شخصية الصهيوني لا تخرج في كل الحالات عن كونها شخصية قاتل...

ومن هذه النقطة ينبثق الجواب على السؤال: لماذا يقوم هذا الطبيب الفلسطيني بإنقاذ عدوه الجريح؟؟ يأتي الجواب ليقول: صحيح إنه عدوك في كل الأحوال، ومهما كانت الظروف، وإنسانيته ملغاة... ولكن إنسانيتك أنت أيها الفلسطيني، إنسانيتك يجب أن تبقى كما هي.. لأنها إنسانية أصيلة وراسخة لا توهنها وحشية الآخرين ولا تمنع تدفق خيرها عن أحد، حتى عن عدوها، في لحظة ضعفه؛ ولكن حين يعود ؛  إلى وحشيته قوياً قادراً على الأذى، عليك أيها الفلسطيني الطيب أن تعود لتتعامل مع هذا العدو كقاتل.. وهذا ما حدث في القصة فعلاً، فقد قام الطبيب الفلسطيني بقتل الوحش الصهيوني الذي كان جريحاً أنقذه بالأمس.. قتله بعد أن قتل هذا الوحش حين تعافى زوجة الطبيب الذي أنقذه، وربما غيرها من أبناء الشعب الفلسطيني أيضاً...!!!

إذن، نبيل عودة يدين قيام طبيبه، بطل القصة، بإنقاذ عدوه.. كذلك يفعل الباحث محمد توفيق الصواف، مؤكداً، مثل القاص عودة، أن اللقاء بين هذين الضدين هو لقاء صراع إلى أن يلغي أحدهما الآخر، فالشخصية في (الحاجز) مدانة، وفعل الإنقاذ مدان أيضاً؛ وهذا ما تقوله القصة ويقوله الباحث، وعلينا أن نعي ذلك ونفهمه. إذ أن هناك كثيراً من الأدب المقاوم يطرح شخصيات عربية فلسطينية سلبية أو محايدة، ليصل بها فيما بعد، إلى حقيقة تقول إن المحايدة مرفوضة. فالعدو عدو، ولن يترك الشخصية المحايدة تعيش بسلام. ولو كان المجال يسمح لأوردت الكثير من النماذج، ولكن أردت فقط التنبيه والتحذير من الانجرار إلى هذا التوهم أو ذاك...

ثمة نقطة أخرى مثيرة عليّ أن أشير إليها في سياق هذه المقدمة، وهي أن المادة القصصية التي اعتمدها الباحث في كتابه أقل من قليلة، والمفترض أن يقوم الكتاب على مادة غزيرة متعددة الجوانب والامتدادات؛ ولكن، وهنا بيت القصيد، فقد كانت القصص أقل من قليلة. ولا أبالغ حين أقول إنها في مجموعها ثلاث عشرة قصة لا غير. ولك أن تدهش حقاً حين ترى إلى الباحث وهو يكتب مئة وعشر صفحات بخط يده، تضم الصفحة الواحدة منها(360) كلمة على وجه التقريب، وليس أمامه إلا هذا العدد القليل من القصص.

وكأني بالباحث يصرّ على بناء مدهش يعبر فيه عن إعجابه بموضوعة الانتفاضة/ الثورة التي كانت رائعة كبيرة في كل شيء. وحسب رأيه، فإن ندرة الإبداعات، لا تعني ضرورة الصمت، بل على العكس تماماً، تدفعه دفعاً إلى خوض غمار تجربة خطيرة، تريد أن تقول الانتفاضة، وتدخل في عمق مسارها الساخن.

النص هنا أميل إلى التشكيل الإبداعي، ما دامت القصص أقل من القليل.. الباحث يبني نصاً إبداعياً يمتح من النصوص المتاحة، ومن الواقع، ليخرج بصورة مدهشة.. إنه يضعك أمام عالم لا نهائي من الشخصيات التي تتحرك وتملأ الصفحات غلياناً، رغم قلة القصص التي عالجها...

كما قدمت من قبل، فالباحث كان قد انتهى من تأليف كتابه هذا، على ما أذكر، عام 1990، أي أن المادة كانت على تماس مع حرارة الحدث. وهذا ما يظهر في الكثير من مسارات الكتاب.

ولك أن تقرأ ما كتب محمد توفيق الصواف تحت عنوان "بطل الأرض المحتلة ينهض منها ليحررها "لترى إلى بروز الشاعر وإصراره على الإدلاء بدلوه، شاء الباحث أم أبى. فالشاعر معجب أيما إعجاب ببطل الانتفاضة، ومن حقه أن يقول كلمته، وهو ما كان، لنصل إلى قراءة قصيدة ماتعة في تواصلها مع بطل الانتفاضة، وتلاوة نشيدها الخصب الثر...

أعترف أنني معجب بالكتاب، ولي أن أترك للقارئ متعة التواصل مع هذا الدفق الجميل في التواصل مع الانتفاضة الرائعة.

ولصديقي العزيز محمد توفيق الصواف كل الشكر، فقد أضاف إلى ما تعلمته الكثير وأمتعني بدراسة متميزة حقاً.

طلعت محمود سقيرق دمشق في3/11/1996

 

 

مقدمة المؤلف

 

(1)

كان من المفترض أن يظهر هذا الكتاب إلى النور منذ عام 1990، ولكن لأسباب كثيرة لم يظهر في ذلك الحين. وبعد مرور نحو سبع سنين على تأليفه، تضاءل حجم الاهتمام بالانتفاضة الفلسطينية خلالها، ظننت أن إمكانية نشر كتاب عن أدب الانتفاضة قد تلاشت تماماً، لكن الأخوة الأدباء والنقاد الذين أتيح لهم الإطلاع على مخطوطه شجعوني كثيراً على بذل الجهد، ما أمكن لنشره، إذ رأوا فيه ما يستحق أن يقرأ، وإني لأرجو أن يكونواً مصيبين في رؤيتهم هذه...

(2)

على الرغم من التراجع النسبي الذي طرأ، مؤخراً، على حجم الاهتمام بالانتفاضة الفلسطينية، كحدث، بعدما ظلت، ولفترة طويلة عقب انطلاقتها، في مركز الاهتمام على مختلف الصعد والمستويات: عربياً وإسرائيلياً ودولياً، فإن هذا البحث الذي سيحاول إلقاء حزمة ضوء على بعض مظاهر تأثير الانتفاضة، في الساحة الأدبية، داخل الوطن الفلسطيني المحتل، تحديداً، يكتسب أهميته، وربما ضرورته، من عدة نواح:

1- بين الكثير من الدراسات والأبحاث التي ألفت حول الانتفاضة، وتناولت تأثيراتها في مختلف جوانب الحياة بالنسبة لكلا الفلسطينين والإسرائيليين على السواء، لم يتعرض سوى قليلين من مؤلفي تلك الدراسات إلى تأثير الانتفاضة في النتاج الأدبي العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، هذا ناهيك عن غياب، قد يكون كاملاً، لدراسة تأثيرها في النتاج الاسرائيلي المتزامن، تأليفاً وصدوراً، مع أحداثها.

2- ومن منطلق القناعة بأن تأثير هذه الثورة العظيمة في مجال الأدب وعلى الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي  ليس أقل قوة ولا أقل أهمية من تأثيراتها في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أوالعسكرية... إلخ، تولدت فكرة هذا البحث الذي يطمح إلى سدّ فراغ، ولو صغير جداً، في بنية المادة البحثية التي صدرت عن الانتفاضة، حتى الآن...

3- وثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن هذا البحث، وفي هذا الوقت بالذات، يكتسب المزيد من الأهمية لإمكانية النظر إليه كمذكر بضرورة الاستمرار في إبداء الاهتمام بالانتفاضة التي ما زالت، رغم كل المعيقات والعقبات ومحاولات التهميش والتعتيم، حدثاً بارزاً له حضوره المستمر الذي يؤكد مع كل يوم يزاد فيه بعمره، أنه الصرخة العربية الأصيلة التي تأبى أن تتلاشى، والتي تستحيل على كل محاولات إسكاتها، بوصفها العنوان الأكثر بروزاً وتذكيراً بالحق والكرامة العربيين..

فصحيح أن هناك العديد من الأحداث الهامة على الساحتين العربية والدولية، قد جذبت قدراً كبيراً من أضواء الاهتمام بالانتفاضة، وكادت تحيلها إلى مجرد حدث روتيني لا يستأهل المبالاة بمجرياته ونتائجه ومستقبله، إلا أن استمرارية هذا الحدث، على الرغم من تضاؤل الاهتمام به، تدفع إلى ضرورة إعادة النظر بمدى أهميته، وإلى ضرورة عدم إهماله في زحمة الاهتمام بمستجدات الأحداث المزامنة له...

(3)

يقود الاستقراء الموضوعي لمجريات الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت أواخر العام 1989، وما نجم عن تصاعدها وتطوراتها من نتائج، في مختلف المجالات، وعلى مختلف الصعد والمستويات: عربياً وإسرائيليا ودولياً، إلى افتراض الصحة في توصيفها بأنها تعد، في المسار التاريخي للصراع العربي/ الصهيوني، حدثاً ذا خصوصية مميزة... ولعل من أهم جوانب هذه الخصوصية، وأكثرها بروزاً، هو استمرارية هذه الثورة، بزخم متصاعد، على الرغم من كثرة التحديات التي واجهتها، وضخامتها وعنفها، وعلى الرغم من الثمن الباهظ جداً الذي كلفته مواجهة هذه التحديات، وما تزال..

وقد كان لا بد لمجمل المتغيرات التي أحدثتها استمرارية الانتفاضة، أن تترك تأثيراً واضحاً في معظم صفحة النتاج الأدبي المتزامن، إيداعاً وصدرواً، مع حدث الانتفاضة.. ذلك أن الأدب من نوع الفعاليات الإنسانية الأسرع تأثراً بالمعطى الحدثي، والأكثر استجابة وقابلية للتفاعل مع المتغير الذي ينجم عنه... وربما، لهذه الخصيصة المميزة لطبيعة الأدب عُدّ،ومنذ أقدم العصور، مرآة الأمة التي تنتجه، والذاكرة الجمالية لأحداث تاريخها ولإرهاصات هذه الأحداث مقترنة بتطلعات أبناء الأمة وطموحاتهم، في آن واحد...

بتعبير آخر، عُدّ أدب الأمم، ومايزال، تاريخها المكتوب بأسلوب فني، ومن وجهة نظر جمالية ترصد متغيرات الراهن، وتسجلها، وتتنبأ باحتمالات المستقبل، على نحو فيه من الصدق والمتعة والغنى أكثر مما هو موجود في كتب التأريخ المتخصصة...

من هذه الزاوية المحددة في الرؤية، لجدلية العلاقة التفاعلية بين المعطى الحدثي والإبداع الأدبي، يمكن القول: إن الانتفاضة بسيرورتها الحديثة، وبجملة المتغيرات الي تضمنتها نتائجها الحاصلة حتى الآن، كانت محرضاً قوياً على الإبداع، في المجال الأدبي، وعاملاً فعالاً ومؤثراً، في تحديد نوعية مضامين هذا الإبداع، وفي الأسلوب الفني لإخراجه، أيضاً...

ويقود استقراء الخارطة الجغرافية للنتاج الأدبي العربي المزامن لحدث الانتفاضة، إلى الاستنتاج بأن أكثر المواقع تأثراً بهذا الحدث ونتائجه هو مسرحه المكاني، أي داخل فلسطين المحتلة... وهذا بدهي، لعدة عوامل، من أبرزها: أن الأدباء الفلسطينيين هناك لا يعانون مجريات الانتفاضة عبر نشرات الأخبار وتعليقات الصحافة، بل يعيشونها واقعاً حياً وممارسة يومية، ينغمسون فيها، ويشارك بعضهم في صنع حركيتها، عبر ممارسة النضال والتحدي، وعبر الإصرار على استمرارية هذا التحدي، على الرغم من احتمالات التعرض للاعتقال والسجن والإقامة الجبرية وتكسير العظام، وحتى احتمال التعرض لمواجهة الموت.

وهذا يعني أن ما كتبوه عنها لم يكن ترفاً إبداعياً أو مجرد تعبير عن التزامهم بقضايا وطنهم وشعبهم فحسب؛ بل كان، إضافة لمحاولتهم تأكيد هذا الالتزام، تعبيراً عن معاناة مباشرة، وعن تجربة حياتية صعبة يخوضونها صباح مساء، وهم يجسدون التزامهم ممارسة، على أرض الواقع قبل أن يجسدوه منطلقاً ورؤية، في نسيج إبداعاتهم الأدبية ومضمونها...

 

(4)

وضمن هذه البقعة الجغرافية الملتهبة بالحدث المتفجر، ووسط دوامة الفعل ورد الفعل اليومية، ليس كالشعر فنّ قادر على رسم صورة الانفعال الآني، وعلى التوتر بأنات الوجع وامتدادات الصراخ وترجيعاتها، وليس كمثله قدرة على نقل رؤيا القادم المأمول في ذروة الإحساس بالنزيف وآلام الجراح.. وإلى حدّ ما، يمتلك البناء الفني للقصة القصيرة بعض قدرة البناء الفني للقصيدة الشعرية، على التفاعل مع الحدث الآني، والنبض بتوتراته العنيفة.. وهذا يعني أن كلا هذين النوعين الأدبيين قادر- مع ملاحظة أن الشعر أكثر قدرة- على إيصال الشحنة الانفعالية الآنية بالحدث، من ذات المبدع إلى القارئ، وهي ما تزال محتفظة بعد، بقدر كبير من حرارتها... وهذه القدرة، تعد بين أبرز ما يفسر إمكانية مواكبة القصة القصيرة لسيرورة الأحداث وتطوراتها، بخلاف الرواية التي لا تتاح لها مثل هذه الإمكانية إلا نادراً.

وبالطبع لا تعني النظرة السابقة لفن القصة القصيرة على افتراض صوابيتها -طغيان انفعالية الشعر ونبرته الحماسية العالية، والمباشرة غالباً، على ماصدر من قصص قصيرة، داخل الوطن المحتل، في زمن الانتفاضة. ذلك أن القصة القصيرة -في معظم نماذجها- بقدر ما تقترب من الشعر في قدرته على التفاعل السريع مع الحدث الآني، بقدر ما تقترب، وفي ذات الوقت، من فن الرواية، في امتلاك بعض قدرته على تعميق الحدث ومحاولة تحليل عدد من دوافعه وأهدافه ونتائجه بشيء من البرود الموضوعي.. وهذا ما يجعل القصة القصيرة- إذا صح التصور- فناً وسطاً بين انفعالية الشعر، بحرارة تعبيره العاطفي المتوتر وبين عمق الرواية، بأسلوب معالجتها الموضوعي الهادئ.

(5)

وبعد، قد يكون من الضروري الإشارة ولو بلمحة سريعة إلى الدافع الذي حدا بالباحث للقيام بهذه الدراسة؛ وإلى مصدر مادتها، والنهج الذي اتبعه في بحث هذه المادة؛ وأخيراً إلى أقسام الدراسة.

بالنسبة للدافع، يمكن القول: إن اختيار قصص الانتفاضة -إذا جاز الاصطلاح- موضوعاً للدراسة كان بالدرجة الأولى- وليد الرغبة في المساهمة بإلقاء بعض الضوء على ما أحدثته استمرارية فعاليات الانتفاضة من تأثيرات، في حقل صغير  من مساحة الإنتاج الأدبي، داخل فلسطين المحتلة، هو حقل القصة القصيرة... وذلك انطلاقاً من الاعتقاد بأن تأثير هذه الثورة في مجالي الأدب والثقافة، على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي، لم يكن أقل قوة وأهمية من تأثيراتها في المجالات الحياتية الأخرى...

ونظراً لعدم تمكن الباحث من الحصول على جميع ما نشر من قصص قصيرة في فلسطين المحتلة، زمن الانتفاضة، بسبب عدم توفر الغالبية العظمى من مصادرها بين يديه، في فترة إعداده لهذه الدراسة، أي بسبب عدم توفر معظم الصحف والمجلات التي نشرت فيها تلك القصص، فقد اضطر بالتالي إلى بناء دراسته على ما توفر له منها، منشوراً في مصدر واحد فقط، هو صحيفة الاتحاد اليومية التي تصدر في حيفا العربية المحتلة.. ذلك أن هذه الصحيفة هي الوحيدة التي وجدها الباحث، بين يديه، تهتم بنشر نماذج من الشعر والقصة القصيرة الفلسطينية، بين جملة ما يرد إلى مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية بدمشق من صحف عربية، تصدر في فلسطين المحتلة...

ولإدراك الباحث مدى ما يعتور مصادر دراسته من نقص فقد حرص، في البحث والتقييم على تجنب إطلاق الأحكام التعميمية، كما تجنب تأكيد الكثير من هذه الأحكام أو إعطاءها صفة الشمولية..... هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى ألزم نفسه بعدم الخروج عن مضمون ما توفر له من القصص، على الرغم مما تثيره طبيعة البحث وموضوعه من إغراءات التوسع والاستطراد إلى ما لم تأت تلك القصص على ذكره من موضوعات وقضايا تتعلق بالانتفاضة...

أما المنهج الذي تمت به دراسة القصص ومعالجتها، فيمكن توصيفه بأنه منهج يراوح بين عرض الخطوط الرئيسة لمضون القصة وسيرورة الأحداث فيها، وبين محاولة تحليل هذا المضون، وتحليل أبعاد الشخصيات، تحليلاً يستند بالدرجة الأولى على مقارنة المعطى القصصي بمصدره الأصل، أي بالمعطى الحدثي الحقيقي، علىأرض الواقع...

وبالنسبة لأبرز مشتملات هذه الدراسة فيمكن القول: إنها تنقسم في هيكلها العام إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.

يمكن توصيف الفصل الأول بأنه محاولة لقراءة ما طرحه مؤلفو القصص القصيرة، الداخلة في هذه الدراسة، كأسباب أدى تراكمها على مدى عشرين سنة من الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، إلى انطلاقة الانتفاضة...

أما الفصل الثاني: فهو محاولة أيضاً لاستجلاء أبرز ما تصوره مؤلفو تلك القصص من مبادئ وأهداف لهذه الثورة يمكن لمجموعها أن يشكل ما يجوز تسميته بـ (رسالة الانتفاضة).

وأما الفصل الثالث والأخير فلا يعدو كونه إضاءة متواضعة لأبرز ملامح بطل الانتفاضة، طفلاً وشاباً وامرأة وشعباً، كما تبدو على صفحة منجزاته والمتغيرات التي أدت إليها نتائج استمرارية ثورته منذ انطلاقتها.

ثم تأتي الخاتمة لتلقي ضوءاً سريعاً على فنية القصص المدروسة، ومدى ما أصابه مؤلفوها من نجاح، في تعاملهم مع موضوع الانتفاضة، وفي قدرة ما كتبوه على التأثير في قارئهم.

(6)

وأخيراً، لا يسع الباحث سوى التقدم بالشكر الجزيل إلى مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية بدمشق، ممثلة بإدراتها التي أتاحت له إمكانية الاطلاع على أعداد صحيفة (الاتحاد)، المصدر الوحيد للقصص التي بحثها، راجياً لهذه المؤسسة دوام التطور والتقدم والعطاء...

(7)

وفي الختام، أرجو أن أكون قد قدمت بعملي هذا كتاباً للمكتبة العربية، وأبقيت ذكرى متواضعة لثورة عظيمة، وأرسلت تحية حب وتقدير وامتنان لكل يد ألقت حجراً على جندي احتلال من أجل أن يبزغ فجر عزّ عربي جديد على أرض عربية حرّة؛ والله من وراء القصد، إليه أهبُ عملي هذا، ومنه أرجو القبول والثناء..

محمد توفيق الصواف دمشق في 1990

 

 

الفصل الأول "التراكم يولد الانفجار"

"قراءة أسباب الانتفاضة في قصص الوطن المحتل" 

 

الانتفاضة بين

عفوية انطلاقتها وحتمية حدودها

 

ثمة من يرى أن انطلاقة الانتفاضة كانت عفوية، لم يخطط لها أحد، بل حدثت مصادفة... لكن، وعلى افتراض صحة هذه الرؤية،يظل من غير الجائز تعميم توصيف (العفوية) على جميع مراحل ثورة بحجم الانتفاضة، وزخم فعالياتها، وشموليتها، وقدرتها على الاستمرار لأكثر من عامين.. ذلك أن إطلاق تعميم كهذا ينطوي على قدر كبير من التبسيطية، وربما يعد خاطئاً، إلى حد كبير، لعدم انسجامه مع كثير من معطيات الواقع وحقائقه... وبالتالي، فإذا كان ثمة ما يمكن توصيفه بالعفوية، من مراحل الانتفاضة، فهو انطلاقتها حصراً.. وقد لا يوجد من يعترض على هذا التقييم، حتى بين الإسرائيليين أنفسهم...

وهنا يبرز سؤال هل يعني القبول باطلاق صفة العفوية على انطلاقة الانتفاضة، عدم توقع حدوثها، أو نفياً لحتميتها...؟

بالطبع لا.. فهذه الانطلاقة، حسب الكثير من الشواهد والوقائع التي سبقتها، كانت متوقعة ومرتقبة، من الفلسطينيين والإسرائيليين، على حد سواء، وذلك بوصفها الذروة الحتمية التي لا بد أن يبلغها تطور الصراع، بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبين العرب الفلسطينيين، في الضفة الغربية وقطاع غزة الرافضين لاستمرار وجود هذا الاحتلال فوق أراضيهم، ولممارسات سياسة القمع التي ينتهجها ضدهم...

وعلى هذا، فإن انطلاقة الانتفاضة، حتى وإن صح توصيفها بالعفوية، لم تولد من فراغ سياسي، بل كانت بداية لمرحلة صراعية جديدة، حتمية ومرتقبة.. فقد شكل تراكم سلبيات سياسة الاضطهاد العنصري الإسرائيلية، ونتائج ممارساتها القمعية، ضد الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، جملة الأسباب القوية التي تضافر مجموعها في النهاية، ليوصل الإنسان الفلسطيني إلى مرحلة نفاد الصبر، والتهيؤ، بالتالي، لتحويل عمليات مقاومته الضيقة إلى ثورة شعبية شاملة، مستعد لتفجيرها، في أي لحظة، ولأي سبب من الأسباب التي ربما كانت تبدو له فيما مضى، بسيطة، ومن الممكن احتمالها..

وهذا ما حدث في الواقع.. فبعد أكثر من عشرين سنة، انتقلت استعدادات الفلسطينيين، في الأراضي العربية المحتلة، لخوض ثورة تحريرية شاملة، من حالة الكمون إلى حالة الفعل، بسبب حادث لايمكن اعتباره غير مألوف، حين يقارن بتلك السلسلة الطويلة من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية... ولكن اللحظة التي حدث فيها، كانت لحظة نفاد الصبر الفلسطيني على احتمال المزيد من القهر والاضطهاد، فانفجر بركان الغضب الكامن، واندلعت الثورة... وعلى هذا، لم يتعد دور ذلك الحادث (المألوف) كونه مفجراً للثورة المتوفر لها كل ما يحتاجه انفجارها من أسباب وحوافز، ومن شروط ملائمة.. وهذا يعني أن الانفجار كان حتمي الحدوث، سواء كان السبب إقدام سيارة إسرائيلية على دهس أربعة من العمال العرب، في غزة، قصداً، أو كان السبب أي حادث آخر، أقل أهمية ووحشية أو أكثر... تماماً كالشرارة التي تصنع حريقاً.. لا يهم إن كانت ضئيلة الحجم أو كبيرة، كما لا يهم إن كان الذي قدحها يقصد إلى اشعال الحريق أولا يقصد، بل المهم أن سقوطها قد صادف هشيماً قابلاً للاشتعال، وريحاً مواتية يمكن أن تزيد ضرامه، فهذان العاملان هما اللذان أقدراها، بالدرجة الأولى، على صنع الحريق، ولولا توفرهما، لماتت نارها وانطفأت بعيد ثوان من انقداحها..

ويقود تحليل مضامين بعض القصص التي ألفت، داخل الوطن المحتل، عن الانتفاضة، إلى امكانية الزعم بأن مؤلفيها، قد أدركوا عمق الصلة بين ممارسات السياسة الاضطهادية التي نهجها الاحتلال الاسرائيلي/ وما يزال، ضد العرب في الوطن المحتل، وبين حتمية انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية، وتحولها إلى ثورة شعبية شاملة، ضد نتائج تلك السياسة العدوانية، وضد الأساليب العنصرية الوحشية التي تنفذ بها... لقد أدركوا أن تلك الثورة العارمة كانت، بالدرجة الأولى، وليدة تراكم سلبيات تلك النتائج والأساليب، على مختلف صعد الحياة التي أكره الإنسان الفلسطيني على أن يحياها في ظل هيمنة استعمار استيطاني لا يرحم... "فالتراكم يولد الانفجار"، كما يقول القاص نبيل عودة، في قصته (الحاجز)

ففي هذه القصة القصيرة الرائعة التي تعدّ من بواكير النتاج الأدبي الذي استلهم أحداث الانتفاضة، حسبما يستدل من تاريخي كتابتها ونشرها( )، وأثناء جولان مؤلفها في العقل الباطن لبطلها -الطبيب الشاب أحمد، نلاحظ شروع الأديب الفلسطيني في تلك المحاولة التساؤلية الشاقة والمعقدة.. شروعه في رحلة البحث عن أسباب الثورة العارمة التي انتظر وشعبه ميلادها، منذ عشرين سنة..

ومن الخطوة الأولى، في مسيرة هذه الرحلة، يتجنب نبيل عودة تأكيد الايحاء بعفوية انطلاقة الانتفاضة، هذا الايحاء الذي يثيره في الوهم، حادث الإعتداء الاستفزازي الذي قام به جنود الاحتلال الإسرائيلي ضد مجموعة من تلاميذ المدارس في مخيم (جباليا) بقطاع غزة، صباح يوم التاسع من شهر كانون الأول عام 1987، خرجوا يرجمون السيارات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن احتجاجهم على حادث الشاحنة الإسرائيلية التي دهست، قصداً، في اليوم السابق، عدداً من العمال العرب، على مفرق جباليا -بيت حانون، وأودت بحياة أربعة منهم على الفور، في حين جرحت سبعة آخرين، على مرأى من عشرات العمال والأهالي العرب الذين كانوا متجمعين عند المفرق نفسه.. فقد هاجم جنود الاحتلال التلاميذ العرب بوحشية، وحين لم تفلح هذه الوحشية في تفريقهم، أطلق قائد القوة العسكرية الإسرائيلية الرصاص على التلاميذ الذين طوقوا عساكره، فقتل شاباً صغيراً، وجرح ستة عشر آخرين، استشهد أحدهم، بعد نقله إلى المستشفى.. وحين هرع سكان المخيم جميعاً، غاضبين، ليحملوا جثمان الشهيدين من المستشفى، في موكب ضخم، ردت قوات الاحتلال باطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع عليهم، ثم فرضت نظام حظر التجول.. وكان هذا إيذاناً بإنطلاق شرارة الانتفاضة التي امتد لهيبها من غزة إلى الضفة الغربية فالقدس....( )

لقد أدرك نبيل عودة، وبعمق أن حادث الاعتداء على التلاميذ بكل ما فيه من وحشية وإثارة للاستفزاز، ما كان بقدرته أن يصنع، وحده، ثورة شاملة وعظيمة كالانتفاضة، لو لم يكن المناخ مهيأً لاستقبال شرارة انطلاقتها.. وإذاً فالذي صنعها ووفر لها امكانية الاستمرار، كان تراكم الحوادث المشابهة، على مدى عشرين سنة.. "والمؤكد أيضاً أن انفجار التلاميذ سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد.. إنما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة..( )

وكالباحث الموضوعي الذي يؤيد نتائج بحثه ويدعمها بالشواهد والوثائق، يقدم نبيل عودة نماذج من تلك الاهانات، ومن صور الممارسات القاسية الأخرى التي عاناها شعبه، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والتي تحولت إلى ضغوط أدى تراكمها، في النهاية، إلى انفجار الانتفاضة... "أن تعيش تحت طقطقة الأعقاب الوحشية، أن تعيش طفولتك وشبابك أمام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة.. أن تبلع كل يوم مرارة انتظار الفرج الذي لا يبدو أنه قريب.. أن تعيش حالماً بالفرج الإنساني، بينما واقعك مليء بالترقب المقيت لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لاضابط له..( )

نعم، إن د يمومة الإرهاب، وكابوس التهديد الدائم، والاذلال العنصري المتواصل للكرامة، مع ما يصاحبه من نظرات استعلاء وحقد واحتقار، على المستويين الشخصي والقومي، والخوف من قدوم الموت المجاني برصاصة لامبالية، دون أي مسوغ جرمي معقول، واليأس من قدوم الفرج دون تضحيات؛ كل هذا، وكثير غيره مما يشبهه، يتجمع، في النهاية، ليشكل منظومة الأسباب والعوامل التي تجعل الانفجار على استمرارية هذا الجو الكابوسي، حتمياً، لا مناص من حدوثه، مهما كانت العوائق والعقبات كثيرة وقوية، ومهما كان حجم التضحيات المحتملة كبيراً.. وذلك، متى بلغت القدرة على الاحتمال زباها... متى طفح كيل الصبر وفاض...

وإذا أضفنا إلى ذلك كله، الرفض الفلسطيني القاطع لوجود الاحتلال الإسرائيلي منذ حدوثه، بأي صورة كان، وأياً كانت سياسته وممارساته، لأدركنا أن الثورة قد تفجرت، أصلاً، من كينونة هذا الرفض نفسه، وجاءت ممارسات الاحتلال القمعية لتغذي عوامل انفجارها...

 

 

 

التمييز العنصري الصهيوني...

وتمظهراته الفاشية والطبقية

 

عرض مؤلفو قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، لموضوع التمييز العنصري الصهيوني، بوصفه المادة الخام الرئيسة التي تدخل في تركيب معظم دوافع سياسة الإرهاب الإسرائيلية، وما تخطط له هذه السياسة، وما تنتهجه من ممارسات الاضطهاد والقمع، ضد العرب في فلسطين المحتلة، على المستويين: القومي والطبقي... وربما لهذا، قلما نجدهم يعرضون لهذا الموضوع، كموضوع مستقل، أو يتخذونه محوراً وحيداً، يديرون حوله مادة مضمونهم القصصي.. ذلك أن التمييز العنصري الصهيوني، ضد أبناء شعبهم، قد استقر في وعيهم وتفكيرهم، بمختلف تمظهراته وصيغه وألوانه، كطابع نوعي مميز، تتسم به جميع ممارسات الإرهاب الإسرائيلي وأساليبه.. هذه الممارسات التي عدوها، في قصصهم، أسباباً وعوامل، غير مباشرة، أدى تراكمها إلى تأجيج دوافع الرفض العربي لاستمرار الاحتلال، وإلى صنع حتمية الانتفاضة.

وفي الواقع، يقود استقراء ما أمكن الحصول عليه من قصص الانتفاضة؛ إلى رؤية ظلال التمييز العنصري وتأثيراته الدوافعية، تخيم على كل ما ذكره مؤلفو تلك القصص وساقوه كأسباب صنعت حتمية حدوث الانتفاضة.. فهذا التمييز كان أساس الدافع إلى اضطهاد الفلسطينيين قومياً وطبقياً.. كان وراء اعتقال حرياتهم وزجهم في السجون ظلماً، ووراء التفكير والتخطيط الدائم لاقتلاعهم من أراضيهم المحتلة، والعمل على ترحيلهم وابعادهم، جماعياً وفردياً.. كما كان وراء ممارسة أعمال القتل الوحشية ضدهم، جماعات وأفراداً أيضاً.. هذا، فضلاً عن كون ذلك التمييز وراء استغلالهم طبقياً، ووراء حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، كحق تقرير المصير، والعيش بكرامة واطمئنان، والتعبير عن آرائهم وما يعتقدون بحرية، وحصولهم على ما لا غنى عنه للإنسان من خدمات تعليمية وصحية.. وغيرها..

فقط، قصة واحدة، بين المتوفر من قصص الانتفاضة، تناول مؤلفها التمييز العنصري الصهيوني بشكل مباشر، واتخذ منه محوراً رئيساً أدار حوله جل المادة المضمونية لقصته، محاولاً، عبر إضاءة بعض تمظهرات هذا التمييز، على صعيد الممارسة، بيان تأثيرها السببي في تأجيج كوامن ثورة التمييز.. وهذه القصة هي: (طبق الحلوى)( ) للقاص الفلسطيني مصطفى مرار.

ففي هذه القصة، حاول مراراً، في بدايتها، رصد تموجات نبرة الاستعلاء الفاشي، في تلافيف تركيبة النفسية الصهيونية العنصرية للاسرائيليين، مستوطنين وقادة، من خلال رجل القضاء العسكري (روني) وزجته (باتيا).. ولكن ترجيع هذه النبرة لا يستمر، حتى نهاية القصة، صدى لعزف منفرد على وتر الاحتجاج الفلسطيني ضد تمظهرات التمييز العنصري الصهيوني الفاشية، فقط، بل يمتد إلى تمظهراته الطبقية، أيضاً..

وبتعبير أكثر تفصيلاً، انطلق مراراً من قناعته العميقة بأن تلك التمظهرات، بلونيها الفاشي والطبقي، ما هي إلا نتاج أيديولوجية واحدة ومتكاملة؛ وأن هذين اللونين، لدى النظر إليهما علىضوء معاناة الإنسان الفلسطيني لهما، يبدوان وجهين لجوهر تلك الأيديولوجية التي ترسم نهج سياسة المحتل الإسرائيلي، تجاه ذلك الإنسان... وبالتالي، لا يمكن الفصل بين هذين الوجهين، لا على صعيد النظرية ولا على صعيد التطبيق، إلا بتحطيم ذلك الجوهر المعشق بينهما أولاً.. أي بمنع الايديولوجية الصهيونية من الاستمرار في تجسيد منطلقاتها وأهدافها العنصرية، عبر سياسة الحصار والاضطهاد التي ينتهجها المحتل الإسرائيلي، مطوقاً بممارساتها اليومية الباهظة مختلف مجالات حياة الفلسطيني، الثقافية والسياسية والاقتصادية والنفسية... وغيرها..

وبالفعل، ينجح مرار في إيصال شيفرة قناعته هذه إلى قارئه، على الرغم من أنه بثها في مضمون قصته، بشكل غير مباشر.. ذلك أنه عمد إلى عرض صورة الممارسات العنصرية، على المستوى الفاشي، متداخلة بصورتها، على المستوى الطبقي، تداخلاً عنصرياً وثيقاً، كي يقدم لقارئه، من تداخلهما، طبقاً من الحلوى الشديدة المرارة، آملاً أن ينبه تذوقها وعي ذلك القارئ، وأن يحرك كوامن الثورة في نفسه، على استمرارية تلك الممارسات، أياً كان الثمن الذي ستكلفه ثورته عليها..

تبدأ القصة باستعراض انتقائي لبعض وقائع "حفلة صاخبة في قاعة المحاضرات الكبرى، في مبنى البلدية؛ أقيمت لتكريم الإرهابيين القدماء وأبناء عائلاتهم.( ) وبدهي، في جو حفلة، كل حضورها من الإرهابيين، أن تسيطر أحاديث الاستعلاء العنصري، وما يمازجها، عادة، من مزايدات التباهي والتبجح، كل بما اقترفت يداه من جرائم.. وبالفعل و"من خلال كؤوس الراح"( ) يتبادل أولئك الإرهابيون" كل ما حوشوا من الأحاديث والذكريات عن الحروب، والانتصارات، والتوسع، و"الحدود الآمنة"، و"الشطحيم"*، وعن التقتيل والتشريد وعن الصراصير، وعن "عماليق"**  العصر الذين تجب إبادتهم، والتخلص منهم، ومن ذكرهم، إلى الأبد( )

ومن خلال التقديم بهذه الأحاديث المفعمة بنبرة الاستعلاء العنصري، يحاول مصطفى مرار الدخول إلى صلب الموضوع الذي اختاره محوراً رئيساً ووحيداً لمضمون قصته.. فنراه يبدأ بعرض بعض ملامح صورة العربي الفلسطيني كما  تراه عينا عدوه الإسرائيلي، من خلال عدسات التركيبة العنصرية لنفسية هذا العدو المريضة..

ومن الملفت للانتباه، أن مرار، وقبل شروعه بعرض ما شوهته النظرة العنصرية لبطل قصته الإسرائيلي (روني) من ملامح الإنسان الفلسطيني، يحاول إطلاق هذه النظرة من إسار محدوديتها الفردية، ليجعلها نظرة ذات طابع شمولي عام، يمارسها معظم الإسرائيليين، من مدنيين وعسكريينن على حدٍّ سواء...

وربما لكي ينجح مرار في محاولته هذه، وليدخل نتيجتها في قناعة قارئه، نراه يختار من بين نماذج الشخصيات التي يكوّن مجموعها قوام التجمع الاستيطاني الصهيوني، في فلسطين المحتلة، شخصية عسكرية ذات وزن ونفوذ، في المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، لتقوم بعرض ما شوهه الحقد العنصري من ملامح الإنسان الفلسطيني .. فـ (روني)، صاحب هذه الشخصية، هو أحد أولئك الإرهابيين الصهاينة القدامى الذين تمّ (تكريمهم) في تلك الحفلة التي حضرها برفقة زوجته (باتيا) كما ورد في بداية القصة.. وهو، إضافة إلى هذه الصفة المميزة، لم يتقاعد بعد عن ممارسة ساديته العنصرية ضد العرب، بل ما زال على تماس يومي مباشر معهم، بحكم المنصب القضائي الكبير الذي يشغله، بوصفه (شاهداً رئيساً)، في إحدى المحاكم العسكرية الإسرائيلية المبثوثه في الأراضي المحتلة.. وبالتالي ما زال لقراره وزن كبير في تحديد نوعية الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم، على العرب هناك...

وعلى هذا، تعد شخصية (روني) ببعديها السابقين، رمزاً واضح الدلالة على القيادة الإسرائيلية التي اختارته ليجسد سياستها في أحكامه الجائرة التي يصدرها على من يقع في قبضته من العرب. وبالتالي، يمكن القول: إن ما جرى على لسانه، في سياق القصة، من توصيفات عنصرية للعرب، لا يعبر عن موقفه الشخصي منهم فحسب، بل يعبر عن موقف قيادته الحاكمة ككل.. وهذا، إذ صح التوهم، ما أراد مرار الايحاء به لقارئ قصته، بشكل غير مباشر...

وكما وفق مرار في بناء الشخصية الرئيسة، في قصته، وفق أيضاً في اختيار المناسبة الحدثية التي هيأها لصاحب هذه الشخصية، كي يعبر عن نظرته العنصرية ضد الفلسطينيين.. فعقب خروج (روني) وزجته (باتيا) من حفلة (تكريم) الإرهابيين، راحت (باتيا) تكيل الثناء لزوجها ورفاقه ممن حضروا تلك الحفلة، وتبدي إعجابها الشديد بما دار بينهم من أحاديث، وخصوصاً حديثهم //عن النية في التخلص من بقايا العماليق الجدد//( ) أي العرب الفلسطينيين، مما جعل (روني) ينتفخ كبراً وغروراً، حتى كاد يفقع،( )وهو يؤكد لها: ولسوف نفعل يا "باتيا". نحن أقوياء، والأحزاب في قبضتنا.( ) وهنا، وفي ذروة انتفاخه بالغرور، فاجأته زوجته المعجبة، برغبتها في مصاحبته إلى الأراضي العربية المحتلة، لتمتع عينيها برؤيته وهو يجول ويصول، في المحكمة هناك، ويمارس اضطهاده للعرب في الأحكام الجائرة التي يساهم في استصدارها بحقهم.. "فخذني، معك، غداً إلى المحكمة.. خذني إلى الـ"شطحيم*"...( )

وكمن لدغته عقرب، أو أصيب، فجأة، بصعقة تيار كهربائي، ارتعدت فرائص.. "روني"( ) إثر سماعه رغبة زوجته.. وهنا، تدخل مرار، في الوقت المناسب، لينجح نجاحاً مدهشاً، في نقل قارئه من السياق العام للحدث القصصي إلى عالم لا وعي (روني)، ليضيء، من خلال تعليل سبب الاضطراب المفاجئ الذي اعترى هذا الشخص، في تلك اللحظة، حقيقة ما يحاول تمويهه وإخفاءه بوهم تظاهره الدعائي بـ (السوبرمانية) المزيفة أمام زوجته...

لقد رصد مرار لحظة تداعي ذلك الوهم، بكل ماتموج به صورته، من مظاهر الغرور والخيلاء الكاذبة، ليرى القارئ، بوضوح، كم هو كبير حجم تلك المفارقة بين المظهر (السوبرماني) الزائف الذي تزعمه الدعاية الصهيونية لشخصية العسكري الإسرائيلي، وبين حقيقة هذه الشخصية، في الواقع، تلك الحقيقة التي تبدو، من خلالها، شخصية ضعيفة، هلامية وهشة، إلى حد بعيد، ترتعد فرائص صاحبها، وتتبخر مزاعم (قوته) الخرافية/ فجأة، ودفعة واحدة، لمجرد مرور صورة ممارسات البطولة الحقيقية لعدوه الفلسطيني، في خاطره.. ناهيك عما يمكن أن يصاب به، إذا ما التقى هذا العدو وجهاً لوجه..

لهذا، ارتعدت فرائص"روني" فهو تصور نفسه هناك وأن "محِّبيل"** قد خرج عليه، من زاوية أحد الأزقة.. فهو كان "هناك" بالأمس فعلاً وهو "نفد من تحت الخوصة. حيث طعن زميل له من "الهاغا"***  أمام عينيه، ولولا أنه "ذكي ورميح" فلربما لم يعد إلى "باتيا"..( )

ولكن، ولأن زوجته؛ شأن غيرها من يهود إسرائيل المضللين بأوهام (القوة) الخرافية التي يزعم قادتهم العسكريون امتلاكها، لم تدرك سبب التحول المفاجئ الذي طرأ على زوجها، وبالتالي؛ صعقها  ما رأته "من تغير لونه" وهمود حركته"( ) فسألته بعفوية نابعة من احساسها بتلك المفاجأة "ما بك يا حبيبي؟"( )

وهنا، كان على "روني" أن يسارع جاهداً لاخفاء ما بدا عليه من علائم الذعر المفاجئ أمام زوجته، وبأي ثمن... وشأن كل مدّع يجد حقيقته البائسة التي جهد عمره للظهور بمظهر يناقضها، وقد صارت على وشك الانفضاح، عمد (روني) إلى التهوين من شأن عدوه، إلى أقصى ما يستطيع، في محاولة لايهام زوجته بـ (تفاهة) ما ترغب رؤيته، عسى أن تنجح هذه المحاولة في ثنيها عن رغبتها بمرافقته إلى الأراضي العربية المحتلة.. تلك المرافقة التي من المحتل أن يتعرض لخطر الانفضاح، خلالها، كل ما جهد لإخفائه من الحقائق عن زوجته التي ما تزال مخدرة بأوهام (بطولته) الزائفة..

وفي حمى هذه المحاولة التي تسعى إلى الحيلولة دون انفضاح الحقيقة المخزية بتسميك طبقة الكذب فوقها، كان بدهياً أن تفيض مشاعر (روني) الحقيقية تجاه العرب الفلسطينيين، كلمات حاقدة مستهزئة، تجري على لسانه، مضيئة تركيبة نفسيته العنصرية المريضة، ومبدية إياها، كأوضح ما تكون  وذلك، من خلال الصورة المنفرة التي راح يرسمها لأولئك العرب أمام ناظري زوجته: "ولكن، ما لك أنت و"الشطحيم".؟ افتحي التلفزيون، أو فقومي بجولة في المدينة: وسوف ترينهم في ألف صورة، يكنسون الشوارع ويغسلون السيارات ويحفرون لأنابيب الصرف. أم تراك تريدي* أن تشمي رائحة عرقهم؟ إن هم إلا صراصير منتنة!"( )

ولا شك أن تحليل جزئيات هذه الصورة وأبعادها، ينضي افتراض الخطأ في توصيفها، بأنها صورة (نمطية sterortype)، يفصح تشكيلها ينفي، بوضوح، عن حقيقة الموقف الصهيوني العنصري، بشكل عام، تجاه الإنسان الفلسطيني.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يضيء نسيج هذا التشكيل، مدى تداخل عقدة التفوق الفاشي "إن هم إلا صراصير منتنة"، بعقدة الاستعلاء الطبقي" يكنسون الشوراع ويغسلون السيارات.."، في بنية النفسية العنصرية للإسرائيلي، سياسياً كان أو عسكرياً، أو حتى مجرد مستوطن عادي..

ونلاحظ في نهاية القصة، أن مؤلفها ينجح في إيصال هذا التداخل بين العقدتين، إلى أقصاها.. وذلك/ أثناء تقديم (روني) طبق الحلوى، الذي وعد به زوجته، إثر نجاحها في حمله على القبول باصطحابها معه إلى الأراضي العربية المحتلة.. ففي هذا الطبق -الذي وصفه شهياً، قبل تقديمه لها: "وإنه لطبق لم تذوقي مثله عمرك!"( ) -يتمازج الفاشي بالطبقي تمازجاً تاماً، يصعب معه فصل أحدهما عن الآخر...

ذلك أن (حلاوة) ما يحويه هذا الطبق، تتأتى عبر التسلية العنصرية الفظة والسمجة التي يتمتع بها الزوجان (روني وباتيا)، أثناء وجودهما، في ما أسماه مؤلف القصة "عكاظ العبيد" الذي يقام كل صباح "على أطراف المدينة الحدودية المحتلة، وعلى بعد خمس دقائق من كفارسابا"( )** ففي "عكاظ العبيد" ذاك، ثمة سوق يتجمع فيها العرب الذين سُدّت أبواب العمل في وجوههم، جراء سياسة الحصار الاقتصادي التي فرضتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، على مناطقهم، وحولتهم، بسببها، إلى عاطلين عن العمل، لاخيار لهم، من أجل تحصيل لقمة العيش، سوى تقديم عضلاتهم رخيصة( )، على أعتاب (السادة اليهود) الذين (يأنفون) من مزاولة ما يضطرون العرب إليه من أعمال، بل (يأنفون) حتى من النظر إلى العاملين( ) في تلك الأعمال.. وبالطبع، لم يكن هدف (روني) استئجار عضلات أيّ من العمال العرب، بل وهذا بيت القصيد، في القصة- كان يهدف إلى امتاع نفسه وزوجته بإطلاق العنان لنزواتهما العنصرية الحاقدة، ضد الإنسان الفلسطيني، ممثلاً بأولئك العمال... وذلك، من خلال التسلي الفظ باستغلال حاجة هذا الإنسان الماسة إلى العمل، أي عمل، يمكن أن يسكت بمردوده جوعه وجوع عياله.. فأثناء تلك التسلية اللاإنسانية، سيتاح لكليهما -كما هيأ لهما خيالهما العنصري- أن يتطلعا، بتلذذ مريض، إلى ما سطره الفقر على وجه هذا الإنسان، وفي عينيه وكلماته وحركاته، من ذل الحاجة إلى لقمة العيش، وأن يتشفيا به، وهو يرمي نفسه أمامهما، ويهدر (كرامته) على أعتابهما، كي يحصل على تلك اللقمة...

وقبل أن يشرع الزوجان (روني وباتيا) بممارسة هذه المتعة السادية، يشير(روني) إليها، وقد اقترب بسيارته من جمهرة العمال العرب الذين اقتعدوا طرفي الشارع، يأكلون، ثم يقول لها، مبتسماً "أولئك هم، يا "باتيا.. افتحي عينيك، وأذنيك، وسدي أنفك، وسيكون "طبق الحلوى" الذي وعدتك"( ).ثم -وبغرور مجنون العظمة يسوق سيارته حتى يحازي جمعهم... ثم يوقفها ليناديهم، موهماً إياهم بأنه يريد اصطحاب أحدهم ليؤدي له عملاً...

وهنا، يبرع مرار في نقل تلك الصورة المؤلمة والمثيرة معاً، والتي تحكي ما آل إليه حال الإنسان الفلسطيني، من وضع معيشي مزرٍ، ومن حالة إنسانية بائسة، في ظل الاحتلال الإسرائيلي الذي سرق أرض ذلك الإنسان، وحرمه من خيراتها جميعاً.. يقول مرار مصوراً: "القط، إذا يقفز مروعاً، لا ينثر ما بين يديه،لكنه يحمله، في فمه، ويبتعد. أما "العزاتي"* الذي يحلم بيوم، أو هو نصف يوم عمل، فحين هب لينطلق باتجاه سيارة الخواجا، فإنه قفز بيديه قبل قدميه "فتناثر كل ما ضمت "العقدة" فتات الخبز، أو حبات الزيتون" وقرون الفلفل... ( ) وما هي إلا لحظات، حتى كانت الأجساد تتدافع متزاحمة على جسم السيارة "لتقدم عضلاتها، رخيصة على أعتاب الخواجا".( )

وكان هذا، هو ما سعى (روني) إلى رؤيته... ولذلك، حين رآه يتحقق أمام ناظريه وناظري زوجته، أحس كلاهما، بقرب بلوغهما النشوة العنصرية، "ابتسم الخواجا روني راضياً، ودفع "كاتيا" بمرفقه، دفعاً هيناً، فابتسمت منتشية بما ترى..."( ) ثم بلغت هذه النشوة ذروتها أخيراً، وهما يستمعان متلذذين إلى المناقصة التي أقامها أولئك العمال، فيما بينهم، على ثمن عمل كل منهم... وحين وصلت تلك المناقصة التعسة بعروضها المطروحة أمام مجنون العظمة العنصري (روني) أسفل درك لها، شعر بأن عليه اسدال الستار على آخر فصل من فصول تسليته اللإنسانية. فداس على "البنزين" مخترقاً جمهرة الأجساد الجائعة التي سقط بعضها على الأرض( ). وهو ينظر بتقزز إلى من يعتبر العبث  بإنسانيتهم "مهمة... قومية"( )...!  أما زوجته فكانت" تستر أنفها خشية الرائحة و... العدوى!."( )

وبعد، فمن الممكن القول: إن مرار قد نجح، وإلى حد كبير، في عرض موضوع التمييز العنصري الذي مارسته إسرائيل، وما تزال، ضد العرب الفلسطينيين، في الوطن المحتل، بوصفه واحداً من أهم الأسباب التي أدى تراكم نتائجها السلبية، على مدى أكثر من عشرين سنة، إلى صنع حتمية انطلاقة الانتفاضة...

ومن خلال عرضه التمظهرات الفاشية لهذا التمييز متداخلة مع تمظهراته الطبقية، وقدرته على توظيف هذا التداخل، توظيفاً فنياً موفقاً، في بنية الحدث القصصي، وفي حركية الشخصيات الرئيسة الفاعلة في هذا الحدث، والموجهة لمساره، نجح مرار، أيضاً، في إقناع قارئه بما عرضه، وفي تحريك الكثير من كوامن الثورة في نفسه، ضد استمرارية هذا التمييز، بسائر تمظهراته وممارساته.

 

 

 

الإبعاد والطرد...

والتهديد بالترحيل الجماعي (الترانسفير)

 

بين أبرز ما عدّه مؤلفو القصة القصيرة، في الوطن المحتل، من أهم الأسباب التي زادت حجم رفض الفلسطينيين لاستمرارية وجود الاحتلال الإسرائيلي، فوق أراضيهم، والتي ساهم مجموعها في صنع حتمية انطلاقة الانتفاضة كتعبير عملي عن بلوغ رفض هذا الوجود حدّه الأقصى، اتساع نطاق عمليات الطرد والابعاد التي تمارسها السلطات الإسرائيلية، على المستويين الفردي والجماعي، بحق الفلسطينيين، في الأراضي العربية المحتلة.

ومن الملاحظ أن مؤلفي قصص الانتفاضة في الوطن المحتل، قد حاولوا الإيحاء لقارئهم بأن تزايد القلق الفلسطيني من اتساع نطاق عمليات الطرد والابعاد، ومساهمة هذا القلق في التعجيل بانطلاقة الانتفاضة، كان مبعثه، بالدرجة الأولى، تخوف الفلسطينيين من احتمال تطور هذه العمليات، في المستقبل، إلى محاولة إقدام إسرائيل على اقتراف جريمة ترحيلهم، بعيداً عن وطنهم، ترحيلاً جماعياً قسرياً..

ولعل مما زاد عوامل هذا التخوف، في نفوسهم، قوة، إمكانية صيرورة احتمال الترحيل الجماعي ممكناً... وذلك في أعقاب ارتفاع حرارة نبرة التهديد، بقرب تنفيذ هذه الجريمة، في تصريحات بعض المصابين بحمى الفاشية، من العنصريين الصهاينة، مستوطنين وقادة، على حد سواء... تلك التصريحات التي راحوا يهذون بها، داعين إلى ضرورة الإسراع في اقتلاع العرب الفلسطينيين من أراضيهم المحتلة، وافراغ هذه الأراضي منهم، بنفيهم خارجها، على نحو جماعي (كحل وحيد) للخلاص من وجودهم، وما يثيره استمرار هذا الوجود من مشكلات أبرزها، اصرارهم على رفض الاحتلال ومقاومتهم له...

وقبل الشروع في إضاءة الكيفية التي طرح موضوع الترحيل الجماعي، من خلالها، في قصص الوطن المحتل القصيرة، الصادرة زمن الانتفاضة، ربما من المفيد الاشارة إلى أن هذا الموضوع الذي درجت الأدبيات السياسية، على استخدام لفظ مصطلحه الانكليزي (ترانسفيرTrans-fer)، للدلالة عليه، قد تم طرحه، في تلك القصص، بوصفه واحداً من أكثر تمظهرات النزعة الفاشية، تطرفاً، في الفكر والسياسة الصهيونيين... وهو طرح صحيح إلى حد بعيد... لأسباب من أهمها:

أن الدعوة إلى الترانسفير تنبثق مباشرة، من الأرضية العنصرية للأيديولوجية الصهيونية التي تزعم (نقاء) اليهود عرقياً، على الرغم من اختلاف أجناسهم، وتعدد ألوانهم ولغاتهم وانتماءاتهم  الحضارية .. هذا من جهة ومن جهة أخرى تنبثق هذه الدعوة، أيضاً، من الطبيعة الخاصة للمشروع الصهيوني الاستعماري، بوصفه مشروعاً إستيطانياً إحلالياً، هدفه الأساس  هو إحلال شراذم اليهود وتجذيرهم، في الأرض العربية الفلسطينية، مكان سكانها الأصليين من العرب...

وتأسيساً على هذا، فإن الدعوة إلى إفراغ فلسطين من سكانها العرب، ليست جديدة، وإنما هي قديمة قدم الفكرة الصهيونية نفسها... ولاأدل على ذلك، من كثرة الإشارات إليها، في معظم كلاسيكيات الأدبيات الصهيونية سواء في المرحلة الجنينية لتكون الصهيونية كفكرة، أو في المرحلة التي تلتها، أي في مرحلة تبلور تلك الفكرة كحركة سياسية، سعت لتهجير يهود العالم، إلى فلسطين، وتجميعهم فيها، ( ) تحت شعار "فلسطين أرض بلا شعب، يجب أن تعطى لشعب لا أرض له"، الذي صاغه الصهيوني (يسرائيل زانغويل)..

فمن الواضح، أن الشق الأول من هذا الشعار -وهو الشق الأساس فيه- يتناقض مضمونه، تناقضاً صارخاً، مع جملة الحقائق الواقعية والتاريخية، لأرض فلسطين... وبالتالي، فإن طرحه كان يعني، ضمناً، إحداث تغيير جذري في هذه الحقائق، على المستوى الواقعي، بالدرجة الأولى... الأمر الذي يعني إفراغ تلك الأرض من سكانها الأصليين، بأي وسيلة وبأي ثمن... وذلك لتنسجم، واقعاً، مع مضمون ما يزعمه الشق الأول من الشعار الآنف... لأن تصييرها فارغة، يفتح أبواب الممكن أمام تحقيق شقه الثاني، من جهة، كما يوفر الغطاء الذرائعي الضروري لتسويغ ما يحتاجه تحقيقه من فعاليات وأنشطة، كالهجرة وإقامة المستوطنات وما شابه.

 ومن المعروف أن محاولات الصهيونية لافراغ فلسطين من عربها، قد حققت أول تعبير عملي لها، في عمليات شراء الأراضي من بعض كبار الإقطاعيين في فلسطين، ثم في إجلاء العرب عمّا اشتري منها، لتوطين الهيود المهاجرين فيها مكانهم... وقد ظلت محاولات الإفراغ، ضمن هذا المجال الضيق والمحدود، حتى عام 1948، حين تم تحقيق تجربة الترانسفير الأولى والأوسع، بطرد ألوف الفلسطينيين خارج وطنهم، طرداً جماعياً، عبر ممارسة أكثر ألوان الإرهاب تطرفاً...

ويبدو أن تجربة 1948 تلك، قد ظل تكرارها يدغدغ شهوات القيادات الإسرائيلية المتعاقبة، بعد حرب حزيران عام 1967... وقد صاغ المسؤولون، في تلك القيادات ذرائع شتى لتسويغ تكرارها.. وكان من أبرز تلك الذرائع، ما زعموه من ضرورات الحفاظ على ما أسموه "نقاء الدولة اليهودية"... هذا "النقاء الواجب تحقيقه)، ضمن أي حدود يمكن أن تصل إليها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ذات الأطماع التوسعية اللامحدوده، في أي وقت، تبدو فيه الجغرافيا السياسية الرخوة للأرض العربية قابلة للتراجع أمام حركية تلك الأطماع، واندفاعاتها العسكرية العدوانية...

ولكن، وعلى الرغم من كل ما انتهجته القيادات الإسرائيلية، من سياسات الاضطهاد ضد الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وما قامت به من ممارسات القمع والإرهاب، لم تفلح في تكرار تجربة 1948... ذلك أن العرب، في الضفة الغربية وقطاع غزة، كانوا أنضج وعياً ممن سبقهم؛ ولهذا، ظلوا مصرّين على بقائهم في وطنهم لا يبارحونه، مهما كان ثمن استمرار بقائهم فيه باهظاً. الأمر الذي عطل تحقيق الحلم الإسرائيلي بتكرار ترانسفير 1948، دون أن يلغي الأمل بإمكانية تحقيقه مستقبلاً.. وهذا ما يفسر، إلى حد بعيد، استمرار الدعوات الترانسفيرية قوية، في أوساط القوى السياسية المختلفة، في إسرائيل تلك الدعوات التي يعلو صراخها ويعنف، كلما تصاعدت درجة الرفض الفلسطيني لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي، وكلما عبر هذا الرفض عن نفسه بأي شكل من أشكال النضال والمقاومة..

ولما كانت الانتفاضة الحالية، تعد أعلى الذرى التي انتهى إليها النضال الفلسطيني المعبر عن رفض الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، كان بدهياً أن يعلو صراخ الترانسيفيريين الصهاينة، على مختلف مستوياتهم وانتماءاتهم، مؤكدين، عبر ذلك الصراخ الهستيري، أن (الحل الأمثل والوحيد) للقضاء على الانتفاضة، قضاءً نهائياً مبرماً، هو ترحيل العرب الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة المحتلتين، بشكل جماعي، إلى أي مكان يرضى باستقبالهم..

وبعد، يمكننا أن نرى جزءاً لا بأس به مماسبق كله، في مرآة أكثر من نموذج قصصي، صدر داخل الوطن المحتل، في زمن الانتفاضة.. لكن أكثر هذه النماذج احتفالاً بموضوع الترانسفير، كان قصة قصيرة بعنوان (وتكون لنا راية)( ) للقاص الفلسطيني نبيه القاسم..

ففي هذه القصة، يشكل موضوع الترانسفير أحد محاورها الرئيسة، إن لم يكن محورها الأساس. أما الزاوية التي اختار نبيه القاسم الاطلال منها على هذا الموضوع، فهي تلك التي تكشف عن الدوافع العنصرية /العرقية الكامنة وراء اطلاق دعوات الترانسفير الإسرائيلية، وعن البعد الفاشي، تحديداً، لهذه الدعوات.. هذا البعد الذي يتمظهر، على أرض الواقع، بتلك السلسلة الطويلة، من الاهانات وممارسات الاذلال اليومية المرهقة التي يعانيها أبناء الشعب العربي الفلسطيني على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلين والتي تعبر عن دوافعها العنصرية؛ بنظرات الاحتقار والاستعلاء، وبهذه المجموعة من الصفات التي يطلقها الإسرائيليون على العرب، والتي تتساوق، في دلالاتها، مع تلك النظرات، وما يصاحبها من ممارسات...

فالعرب -كما تبين القصة- (ليسوا بشراً) في نظر المحتلين الاسرائيليين، بل ليسوا حتى مجرد ( حيوانات) وإنما هم (أحط قدراً) بكثير.. إنهم (تجمع كبير من جنس تلك الحشرة الكريهة، الصرصار)!!!... ولأن وجود الصراصير مزعج، في أي مكان يتكاثرون فيه ويتجمعون، فإن التخلص منهم لا يبدو مستحباً فقط، بل ضرورياً...، أياً كانت الوسيلة القادرة على تحقيقه كهدف... سواء كانت هذه الوسيلة إبادة جماعية شاملة، أو كانت بديلتها الأخف جرمية، من حيث الظاهر، أي الترحيل الجماعي...

ومع أن التعطش لاهدار الدم العربي، يجعل الإسرائيليين -كما يستشف من القصة، وكما يؤكد تاريخهم الحافل بالمجازر الجماعية ضد العرب- أكثر تحبيذاً لاتباع الوسيلة الأولى، لأنها أكثر إرواءً لساديتهم العنصرية، نراهم يضطرون، لأسباب دولية وأخرى محلية، إلى تجنب القيام بحملات إبادة جماعية، وإلى تركيز جهودهم، في مجال محاولة أخرى، هو مجال خلق الأجواء والمناخات الملائمة، لتسويغ احتمال أقدامهم على ترحيل عرب الضفة الغربية وغزة ترحيلاً جماعياً، في المستقبل..

ومن مأزق حيرة الإسرائيليين، في الخيار بين وسيلتين لتنفيذ جريمة عنصرية، هي اجتثاث شعب بأكمله، من أرض وطنه، ومحاولة إلقائه خارجها، ينطلق خيال بطل القصة ليرسم، على نحو سريالي تقريباً، صورة عالم غريب، يدور فيه صراع بين جنرال إسرائيلي، ترمز ملامحه وتصرفاته للقيادة الاسرائيلية السياسية والعسكرية معاً،وبين عرب فلسطين المحتلة الواقعين في القبضة الاحتلالية، لتلك القيادة العنصرية، والذين لا يرتفعون، في نظرها، عن مستوى (الصراصير)..!!

والذي يقدح الشرارة المثيرة لخيال بطل القصة، كي يرسم تلك الصورة السريالية للصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، تشبيه عنصري، يمر بخاطره، عبر سيالة ذكرياته مع حبيبته التي "بعد استماعها إلى تصريحات ذلك الجنرال الذي وصف العرب بالصراصير"( ) شاءت أن تطرح عليه السؤال الغريب التالي: "ماذا لو صرت صرصاراً تنتقل بحرية حيثما تشاء لا يوقفك جندي، ولا يجوس في داخلك أنبوب مطاطي يقربك من الموت؟.( ) فقد انطلق خيال بطل القصة من غرابة مضمون هذا السؤال، محلقاً في سماوات سخطه التي رفعتها رغبته في تحدي صائغ ذلك التشبيه العنصري -تشبيه العرب بالصراصير- ورغبته في ردّ كيده إلى نحره، ولو عبر الحلم الثائر... وهكذا، ومن خلال امتزاج السخط بالثورة وبرغبة الانتقام، راحت تتشكل على صفحة مخيلته الصورة السريالية التالية:

"رأى نفسه مع مئات آلاف العرب يتحولون إلى صراصير، وأخذت هذه المئات تتوالد بسرعة مذهلة حتى غدت، في وقت قصير، ملايين لا نهاية لتناسلها، وراحت تتسابق في اعتلاء بزة الجنرال، وتتجمع في حلقه مكتظة حتى بات من الصعب على الجنرال أن يحرك أي عضو من أعضائه، فلم يعد يرى شيئاً، وأخذ يصيح طالباً المساعدة، والصراصير ترقص فوق بزته العسكرية، وهو في حالة فزع لم يعرفها في حياته، حتى في أثناء وجوده في الجنوب اللبناني.( )

حسب القرينة المكانية، (الجنوب اللبناني)، الواردة في نهاية المقطع الآنف، ربما من الجائز التوهم بأن يكون الجنرال المعني في سياق هذا المقطع، هو (رفائيل إيتان) الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أثناء اجتياح هذا الجيش للبنان، في حزيران 1982، والمتهم بكونه أحد أبرز المخططين لمذبحة صبرا وشاتيلا المريعة: ولعل مما يرفع هذا التوهم إلى مستوى اليقين، أن ( ايتان)، وبعيد تلك المذبحة بقليل، تقدم للحكومة الإسرائيلية باقتراح يدعو فيه إلى تقسيم الأراضي العربية المحتلة وتقطيعها، بالمستوطنات اليهودية؛ وعندها، يصبح العرب، في أراضيهم، "كالصراصير المخدرة في قنينة"، على حد تعبيره العنصري الذي صاغه في تصريح علني أذيع على لسانه، آنذاك... ومن الملفت للانتباه، أن (ايتان) قد أطلق تصريحه الآنف، في فورة انفعال هستيرية، استولت عليه أثناء (انتفاضة التضامن) -كما دعيت في حينه- التي قام بها السكان العرب في فلسطين المحتلة، استنكاراً واحتجاجاً على مجزرة صبرا وشاتيلا..وهكذا، وعبر تشابه الظروف والأحداث والتصريحات الإسرائيلية العنصرية ضد العرب، في زمني (انتفاضة التضامن) عام 1982، والانتفاضة الحالية، شكّل خيال بطل القصة تلك الصورة السريالية لثورة المستضعفين المضطهدين، على من اضطهدهم، مستمداً معالمها وحركيتها الحديثة من معطيات واقع الصراع الدائر بين الطرفين على الأرض الفلسطينية المحتلة، ومؤكداً، من خلالها، يقينه بحتمية انتصار أولئك المستضعفين، في النهاية... وذلك، عبر رؤية نافذة لامكانيات القوة الكامنة في (ضعفهم) الظاهري، والغائبة عن عدوهم، إلى تلك الدرجة التي جعلته لا يرى فيهم، أمام غروره بقوته العسكرية، سوى (صراصير) ضعيفة، لا حول لها ولا قوة.

ومن هذه المفارقة بين القوة الكامنة للفلسطينيين وبين الضعف الذي توهمه فيهم عدوهم الإسرائيلي، حدثت صدمة المفاجأة التي أصيب بها هذا العدو، حين صحا يوم 9/12/1987، من الأوهام التي هيأتها له قوته الغرورة، ليجد من استضعفهم واستهان بهم يخرجون مصرين على تحديه وتحدي كل ما بحوزته من أسلحة وعسكر، وليشعر، وهو في ذروة مفاجأته، باحتمال انتصارهم عليه...

ومع استمرار التحدي وتصاعده، بدأ صراخ هذا العدو يعلو طالباً المساعدة، وداعياً إلى ضرروة التخلص من وجود الفلسطينيين المخيف، بترحيلهم جماعياً، خارج حدود أرضهم التي يحتلها... وذلك كحل (أمثل) يضع -كما توهم- حداً لثورتهم عليه ولتحديهم له... خصوصاً، بعد أن فشلت كل الحلول والمحاولات القمعية الأخرى، التي جربها، في وضع حد لتلك الثورة ولذلك التحدي العنيد...

وعند هذه النقطة، "تخيلا معاً- بطل القصة وحبيبته- ملايين الملايين من هذه الصراصير، وهي تحمل في شاحنات لاعدّ لها، توزعها على كل محطات العالم، وفي كل الموانئ تحقيقاً لرغبة نائب وزير كبير، وجد أن الحل الأمثل لتزايد السكان العرب ترحليهم في شاحنات كبيرة...( )

ولكن، حتى على المستوى التخييلي الذي ينطلق منه مؤلف القصة، في طرح افتراض نجاح العدو الإسرائيلي بتحقيق أهدافه الترانسفيرية، نراه يتجنب طرح احتمال أن يؤدي هذا النجاح المفترض، تخييلياً، إلى إنهاء قضية الإنسان الفلسطيني، إنهاءً كاملاً... ذلك أن المؤلف يعمد، وعلى المستوى التخييلي، أيضاً، إلى نقل هذه القضية من محلية إشكالياتها المحدودة، بوصفها قضية شرق أوسطية، ليجعل منها قضية دولية، تفرض نفسها على ساحة الاهتمام العالمي ككل: "قد يهتم بنا العالم يومها عندما يضايقهم وجودنا وتكاثرنا، فيعملون علىحل قضيتنا بإيجاد وطن مستقل لنا لا يقربنا فيه أحد.( )"... أو، وهذا احتمال آخر خطير، "قد يتفق الجميع على اختراع سلاح فتاك يقضي على وجودنا في هذا العالم، فيحلون بذلك القضية ويهدأ الجميع..."( )

وطرح مؤلف القصة لهذا الاحتمال، هو صياغة إيحائية لاتهامه المجتمع الدولي كله، بالتآمر على مصير الشعب العربي الفلسطيني وقضيته، سواء تمظهر تآمره عليهما بمشاركته، مباشرة، في جريمة القضاء عليهما، أو بالسكوت على تنفيذها، وعدم محاولة منعها.

وواضح، من سياق القصة ومضمونها، أن الهدف من توجيه مؤلفها لهذا الاتهام، تحذير المجتمع الدولي من مغبة الصمت على جرائم العنصريين الإسرائيليين، وتنبيهه إلى خطورة استمراره في اتخاذ موقف المتفرج إزاء التطور الهمجي المتصاعد لتلك الجرائم... ذلك أن مثل هذا الموقف يشجع المجرم على التمادي في تطوير فعله الإجرامي، ليصل إلى حدوده القصوى، وحشية وعنفاً... وبالتالي، لا يعود مستبعداً إقدام هذا المجرم على ارتكاب مجازر إبادة جماعية، تستهدف القضاء على الشعب الفلسطيني قضاء مبرماً، إذا ما فشلت محاولات قيادته، في اقتلاع هذا الشعب من أرضه المحتلة، ونفيه خارجها، بأسلوب الترانسفير...

ولكي يؤكد مؤلف القصة أنه لا يرمي إلى إدانة المجتمع الدولي، بل إلى تحذيره، وتحريضه على المبادرة إلى الحيلولة دون إقدام القيادة العنصرية، في إسرائيل، على تنفيذ إحدى هاتين الجريمتين، نراه يحاول الايحاء بأن إمكانية إقدامها على تنفيذ إحداهما، لا تبدو احتمالاً مستحيلاً أو خيالياً .. وإذا كان لابد من مؤشر مادي ملموس على توقع صيرورة هذ الاحتمال ممكناً، فيكفي أن ينصت المرء إلى إيقاعات التهديد الإسرائيلي المنذرة بإبادة العرب أو ترحيلهم ترحيلاً جماعياً...

هذه الإيقاعات المتضمنة في تصريحات بعض كبار السياسيين، في إسرائيل، وهم يدلون بها جهاراً، على شاشة التلفزيون... ويضرب مؤلف القصة المثل على ذلك النمط من التصريحات، بإيراده بعضها:

"كان صوت المذيع يخرجه عن طوره، وهو ينقل تصريحات العديد من المسؤولين: إن العرب أصبحوا يشكلون قنبلة موقوته داخل البلاد تهدد بالانفجار واستنفزه صوت أحد المتكلمين* بأن الحل الوحيد لمشكلة العرب هو ترحيلهم أو القضاء عليهم..."( )

وبعد، ثمة قصص أخرى تناول مؤلفوها موضوع الترانسفير كأحد الأسباب الهامة التي هيأت لانطلاقة الانتفاضة، إلا أن تناولهم له كان عرضياً، إلى حد كبير، الأمر الذي دفع إلى التركيز على قصة (وتكون لنا راية)، دون غيرها، لأن موضوع الترانسفير كان أبرز محاورها الرئيسة.

 

 

 

الاعتقال والسجن

 

يبدو للباحث في قصص الانتفاضة، أن العديدين من مؤلفيها -كما يستشف من استقراء مضامين ما تيسر العثور عليه من قصصهم- يعتقدون بأن عيش الفلسطينيين، في الوطن المحتل، وسط جو من الاحساس الكابوسي الدائم، باحتمال تعرض أي منهم، وفي أي وقت، للاعتقال والسجن، بسبب، وأحياناً بدون سبب البتة، كان بين أهم الأسباب التي عززت قناعتهم، بوجوب تصعيد وتائر مقاومتهم لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي، وعدم إيقافها حتى بلوغ هدف التحرير... ذلك أن التحرير هو الحل الوحيد الذي يضع حدّاً لما يعانونه، في ظل هذا الاحتلال، من ممارسات سلطاته القمعية؛ وهو الحل الوحيد أيضاً لفك طوق الحصار المضروب حول حرياتهم، في شتى مجالات الحياة، وعلى مختلف الصعد والمستويات...

وبداية، يمكن القول: إن معظم مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، قد عرجّوا على موضوعي الاعتقال والسجن، إما باشارة سريعة عابرة، وإما باتخاذهما محورين رئيسين لمضمون القصة... وذلك، على نحو ما فعل نبيه القاسم، في قصته (وتكون لنا راية)، وسعيد نفاع، في قصته (صباح بعد انحسار الغطاء) وأخيراً، ابراهيم جوهر، في قصته (لأني أحمل حجراً).. وفيما يلي إطلالة سريعة على كيفية تناول كل مؤلف، من هؤلاء الثلاثة، لموضوعي الاعتقال والسجن، في قصته...

في قصته (وتكون لنا راية)( ) التي سبقت مناقشة جزء مهم منها، في الفقرة السابقة، من هذا الفصل، يطرح نبيه القاسم موضوعي الاعتقال والسجن على نحو متداخل مع موضوع الترانسفير، محاولاً توزيع اهتمامه وتركيزه على المواضيع الثلاثة بالتساوي، قدر الإمكان؛ ومحاولاً أيضاً، توفير حدًّ أدنى من الترابط العضوي /السببي بينهم، على نحو يؤمن الإنسجام لحركيتهم الحدثية، بوصفهم المحاور الثلاثة الرئيسة لمضمون قصته... وقد ساعده اعتماد أسلوب الاسترجاع (الفلاش باك)، في السيطرة على تلك الحركية، وفي جعل القارئ لا يحس إلى حد ما، بالانقطاع، أثناء إنتقال الحركية الحدثية من هذا المحور إلى ذاك..

يبدأ القاسم قصته، بمحاولة زجّ قارئه، في خضم أحداث الانتفاضة، واشراكه، مباشرة، في معاناة الإنسان الفلسطيني، أثناء المواجهة اليومية لممارسات جنود الاحتلال... فنحن، ومنذ السطور الأولى، نشاهد بطل القصة، وهو يقذف بالحجارة والزجاجات الحارقة، أولئك الجنود المدججين بالإسلحة... ولكن، ما تكاد تميل كفة المعركة لصالح المحتلين، حتى يترك ذلك البطل ساحة المواجهة، مستجيباً لالحاح حبيبته التي ترجوه أن يذهب ويتركها حتى لا يمسكوا به، ويلفقوا له مختلف التهم... ويضيع كأنه لم يكن..."...( )وبالطبع، لا يوحي سياق الحدث القصصي بأن انسحاب بطل القصة، امتثالاً لرجاء حبيبته، كان هرباً وتعبيراً عن جبن، بل ثمة ما يؤكد العكس، في هذا السياق... أي ثمة ما يؤكد أن انسحابه كان مجرد انسحاب تكتيكي، هدفه الأول هو الحيلولة دون وقوع مناضل نشط وفاعل، في عطالة الاعتقال والسجن... "إذهب بسرعة قبل أن يصلوا... وجودك هناك يهمني أيضاً.. أن تكون هناك يعني أننا في كل مكان... إننا سنلتقي ثانية، ولن يستطيع أحد أن يفرق بيننا...( )

وهكذا ينسحب البطل، ممتثلاً لأمر حبيبته التي تعد رمزاً واضح الدلالة على الأرض الفلسطينية، كما يستشف من قراءة المقطع الانف.. لكنه لا ينجو من الاعتقال.. ذلك أن الاحتلال في كل مكان على مساحة الوطن الفلسطيني.. وهذا بالضبط، ما أراده مؤلف القصة من سياقة أحداثها بهذا الاتجاه... لقد أراد أن يؤكد لقارئه وبشكل غير مباشر، أن الهرب من مركز دائرة الحصار إلى أي نقطة أخرى تقع في محيطها، لا يضمن نجاة محققة من الوقوع في الاعتقال والأسر... وبالتالي- وهذا هو جوهر القصة وهدفها الرئيس- فإن الشرط الوحيد لبلوغ النجاة هو اختراق هذه الدائرة، وتحطيمها...

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أراد المؤلف أن يؤكد لقارئه، أيضاً، عبر مشهد الاعتقال الذي رسمه، في القصة، متداخلاً مع مواصلة التحدي، أن نجاح قوة الاحتلال الهمجية في اعتقال المناضلين، لا يعني نجاح الاحتلال في اقتلاع بذرة التحدي من نفوسهم، أو القضاء على شعاع أملهم بالغد الذي يدفعون أرواحهم ودماءهم ثمناً لقدومه... بل العكس هو ما حصل ويحصل... فتصاعد وتائر القمع والوحشية يؤدي إلى زيادة الإصرار على التحدي، والإصرار على إكمال الدرب الصعب حتى نهايته...

ومن الممكن أن نلاحظ في بنية النسيج الفني لمشهد الاعتقال، مايؤكد صحة الاستنتاجين السابقين... فالبطل الذي انسحب بجسمه، فقط، من ساحة المواجهة، يظل فيها بروحه وعقله ومشاعره، يتابع مجريات أحداثها على شاشة التلفزيون، في منزله، منفعلاً متوتراً إلى أقصى حدود الانفعال والتوتر... ولشدة انفعاله بما يرى ويسمع، “لم ينتبه للقرع الذي أخذ يشتد على بابه"( ) حتى تحول القرع إلى دفعة قويةاقتلعت الباب كله،واقتلع صوتُها البطل من استغراقه الشديد بما يعرضه التلفزيون، ليرى نفسه، وعلى نحو مباغت، يقف في مواجهة" ما يزيد على ستة رجال يشهرون سلاحهم ويطلبون منه أن يرفع يديه ويجلس.".( )

وبدلاً من أن تشله المفاجأة، فينهار، إذا بانفعاله السابق يبرد كله، دفعة واحدة، متحولاً إلى رباطة جأش وتحدٍّ صلب... على نحو ما يحدث لقطعة الحديد المتوهجة حين ترمى في ماء بارد... وقد زاد من شحنه بالصلابة، ومن قد رته على التحدي، استمرار متابعته للشباب الذين كان التلفزيون ما يزال يواصل بث مشاهد من مواجهاتهم مع جنود الاحتلال.. فقد حافظت رؤيته لبطولاتهم وسماعه لهتافاتهم، على الأمل حياً نابضاً، في قلبه، وواعداً بقرب إشراقة الخلاص والنصر، حتى وهو في ذروة الإحساس بالحصار والتهديد وافتقاد القدرة على المقاومة... ولهذا، حين طلبوا منه أن يرفع يديه ويجلس، لم يضطرب، ولم يرتبك... وإنما، وبهدوء الواثق من نفسه، " لم يتكلم... رفع يديه وجلس على المقعد..."( )

ولكن، وبنفس اللحظة التي توهم فيها  مهاجموه أنه قد استسلم لارادتهم كان قد اكتمل ذلك التفاعل الفذّ، بين الأصوات الهادرة المنبعثة من التلفزيون، تنقل ما فعله الشباب في القدس"( )، وبين صوت التحدي العنيد المنبعث من أعماق بطل القصة، يتحدى المحيطين به... وبهذا، تداخلت ساحتا المواجهة، في القدس، وداخل بيت البطل، لتصيرا في وعيه ساحة واحدة متماسكة، تمتد على مساحة الوطن المحتل كله... وما إن اكتملت تلك الصيرورة، حتى أحس بحنجرته تتوحد بحناجر أبناء شعبه الثائرين، في هتاف واحد، عنيد، قوي، مجلجل، هزّ مهاجميه وأدخلهم في الذهول بغتة، وهم يسمعونه يردد مع الشباب الذين ما زال التلفزيون بنقل أخبارهم: "بلادي بلادي... الله أكبر... ليسقط الاحتلال الفاشية لن تمر.."..( )

وما كاد الذاهلون يفيقون من ذهولهم، حتى سارعوا يسكتون ذاك الهتاف المتحدي، المنبعث منه ومن التلفزيون، في آن واحد معاً... "وبينما كان أفراد الشرطة يدفعون به إلى الخارج، التفت ليرى كتبه التي بعثروها في كل مكان، وليرى على شاشة التلفزيون، قبل أن يخرسه الشرطي الأخير، الشباب الذين يرمون الحجارة ويشعلون النار في الإطارات ويقذفون الزجاجات المشتعلة ويهتفون للوطن... ويرفعون الراية"( ).

وما إن يُسدل الستار على مشهد الاعتقال، حتى يكون التداخل، بين الواقع والحلم، قد بلغ أقصاه، في وعي البطل، وهنا، تتلاشى الفواصل المكانية بينه وبين الثوار، في ساحة المواجهة، وتزول تماماً، ليعودا جميعاً كلاً ملتحماً، في وجه الاحتلال... والقرينه التي يسوقها المؤلف للإيحاء بحدوث هذا التلاشي، هي رؤية البطل لحبيبته، فيما كانوا يسوقونه معتقلاً، وهي "تسير إلى جانبه وتهتف بأعلى صوتها: بلادي بلادي.."( )

وبهذه القدرة على نقل هواجس البطل، من مستواها التخييلي، إلى مستوى الحضور الحقيقي الذي يجتاز، في وعيه، هلامية الهاجس إلى ما يماثل المعطى الواقعي في صلابة حضوره المادي..، بهذه القدرة الفنية، ينهي المؤلف قصته، مفجراً، في نهايتها، لحظة التغيير المضيئة والحاسمة، في نفس الإنسان الفلسطيني ووجدانه، مجسداً بشخص البطل "وشعر للمرة الثانية هذا اليوم، أنه له راية وله نشيد وله ما يقاتل وما يعتقل من أجله."( )

ففي هذه الجملة، وعبر تداعي منظومة كلماتها، يكثف المؤلف جوهر التغيير الذي أحدثته انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، على مستوى وعي الإنسان الفلسطيني... ويضيء، في نفس الوقت، كيف صار فعل هذا الإنسان وظيفياً، وكذلك معاناته للإعتقال والسجن... فقد صار "له ما يقاتل وما يعتقل من أجله."( ) وذلك على خلفية قناعته التي يشف عنها مضمون القصة ككل، والتي يؤكد مفادها أن ما يعانيه الآن من آلام شتى، ما هي إلا آلام المخاض الصعب لميلاد فجر الخلاص.. الفجر المأمول أن تشرق شمسه على الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً...

القصة القصيرة الثانية التي تمحور جزء كبير من مضمونها، حول موضوعي الاعتقال والسجن، هي قصة (صباح.. بعد انحسار الغطاء)( )... وقد عرض مؤلفها سعيد نفاع هذين الموضوعين، على نحو متداخل مع موضوع الترانسيفر، كما فعل نبيه القاسم، في قصته السابقة الذكر (وتكون لنا راية).. لكن تركيز نفاع على الموضوعين الأولين كان أكبر من تركيزه على موضوع الترانسفير..

يبدأ نفاع قصته برسم الديكور المناسب لمشهد الاعتقال... وما يكاد يضع خطوطه العريضة، حتى يفاجئنا بحدوثه المباغت: "الليل مدلهم، الريح تعوي، تجأر، تصفر، المخيم نائم بعد يوم شاق، وفي الخارج قطط وكلاب وجنود، جعير سيارات، وخبط على الباب لم يقو على تحمله فانشق..."( ) وفيما نحن نتابع، لاهثين، هذا الإيقاع السريع لسيرورة الحدث، متلهفين لمعرفة المزيد، إذا بالمؤلف ينقلنا فوراً إلى مشهد جديد متصل بسابقه.. لقد دخل الجنود البيت، وضبطوا من جاؤوا لاعتقاله... ولم يمنعهم وجود زوجته الحامل من ممارسة وحشيتهم ضده، أمام ناظريها..."...وقبل أن يتململ هاشم كانت الهراوات وأعقاب البنادق تتناوشه. لا تعرف صباح كيف انتصب بين تلك الأشباح. لم يتأوه ولم يتكلم، فالصمت أحياناً أكبر تحد... واقتيد بلباس النوم. لم يلتفت إلى صباح التي كانت جالسة مكانها تقاوم ألم ظهرها وخاصرتيها..( )

واضح، في صياغة هذا المشهد، قصد المؤلف إلى إبراز وحشية الاحتلال وهو يقوم باعتقال الفلسطينيين... فهو يداهم بيوتهم بغتة، كما لو كانوا مجرمين... ثم بعد ذلك لا يتورع عن الشروع في ممارسة وحشيته  ضدهم وهم مايزالون بعد بين ذويهم ... وبهذا لاتطالهم وحشيته وحدهم، بل تطال معهم كل من يكون حاضراً من أفراد أسرهم، بغض النظر عما إذا كان بين أولئك الأفراد أطفال أو نساء أو شيوخ، أبناء أو آباء، وعما إذا كان بينهم مريض أو حامل أو مقعد...

ومن مشهد الاعتقال، ينقلنا المؤلف فجأة، وبأسلوب الاسترجاع، إلى بداية العلاقة، بين بطلي قصته، ليضعنا في دائرة جديدة من الاستغراب، حين نعرف أن السجن كان بداية هذه العلاقة، كما كان بداية التحدي.. وبين هاتين البدايتين وتطوراتهما، أي بين سجن وتحدٍّ، ترك نفاع لشخصيات قصته أن تتحرك ضمن دائرة الحصار الاحتلالي.

فصباح العمري، بطلة القصة تخطب لهاشم وهو في السجن... "كل شيء غريب في حياة صباح، هل كان يجب أن تحب هاشماً، وهل كان يجب أن يجرها حبها إلى السجن وراءه، والأغرب، خطبتها لهاشم وهو خلف القضبان.".( )

ومن غرابة هذه الخطبة، يحاول نفاع النفاذ إلى وعي قارئه، ليهمس له، بشكل غير مباشر، أن أحد أهم أسباب انطلاقه الانتفاضة، هو الرغبة في تحطيم سجن الاحتلال وسجانه معاً... لقد احتاجت صباح إلى عشر سنوات حتى استطاعت أن تعي كمون هذه الرغبة في أعماقها كفلسطينية... هذه الرغبة التي دفعتها للزواج من سجين... "فتاة تخطب لسجين، ما الذي حدا بها؟! أهو حب مراهق؟ أم هو الإيمان القوي بحتمية زوال السجن، وزوال السجان أمام إرادة الحياة؟!"( )

نعم، لقد كان هذا الإيمان هو السبب الذي أدى، في النهاية، إلى التحام الإنسان الفلسطيني بثورته، والتحامهما معاً بالأرض المحتلة... وهنا ينهض السجن، بكل قسوته ولا إنسانيته، عاملاً مهماً من عوامل صنع حتمية الانتفاضة... السجن بمعناه الواسع الذي يرادف، واقعياً، حالة الحصار التي عاشها الشعب الفلسطيني، وما يزال، داخل حدود وطنه المحتل... السجن الذي يستوي فيه وضع من يقف وراء القضبان مع وضع من يقف قبالته، أمامها... فكلاهما سجين، مع اختلاف الوضع... وما دام الأمر كذلك، فأين الغرابة في أن يخطب أحدهما للآخر...؟ إن الغرابة، كما يوحي سياق القصة، هو في عدم اقترابهما، أو عدم محاولتهما الاندماج والذوبان ببعضهما محطمين القضبان التي تعيق هذه المحاولة...

ولهذا، حين صدر أمر الابعاد الظالم بحق هاشم، بعد اعتقاله الأخير، خاطرت صباح بالذهاب إليه، في سجنه الصغير..، متجشمة عناء احتمال الألم المتزايد، كونها حاملاً، لترجوه" أن يرفع استئنافاً للجنة العسكرية"( ) لأنها "أرادت أن يبقى هاشم وهذا هو، ولم يتعد حديثهما هذا الموضوع وانتهى اللقاء"( ) لقد أرادته أن يبقى، ليخرج من سجنه الصغير، ويحطمان معاً سجن الاحتلال الكبير.. يخترقان معاً حالة الحصار المقيتة المزمنة... وذلك على خلفية وعيها الجديد -القديم، بأنها وهي في السجن الكبير، ليست أقل معاناة وتعرضاً للاعتداء والإهانة، منه وهو في السجن الصغير... وهذا ما يؤكده الذي لاقته، هي في طريقها إلى البيت، عائدة من زيارتها لهاشم...

"غادرت غير آبهة بالمطر المتساقط، شاقة طريقها عائدة؛ بين بقايا الإطارات المحروقة والحجارة المتناثرة. وعند مدخل المخيم وجوه كالحة لم ترها لولا أن استوقفها أصحابها (المقصود جنود الاحتلال) ليمطورها بوابل أسئلة محشوة بأقذع الكلمات، كيف خرجت ولماذا خرجت وأين كانت وأين تسكن؟! أجابت على كل هذه الأسئلة باقتضاب... كل ماتذكره اليوم أن زنار الألم اشتد، وما كادت تطوق خاصرتيها بكفيها حتى تراءت لها رجل ترتفع لتصيب أسفل بطنها..."( ) ترى، أيمكن أن تتعرض حامل، داخل السجن، لوحشية أكثر مما تعرضت له صباح خارج السجن؟ أليست كفة معاناتها تعادل، إلى حد كبير، كفة معاناة زوجها؟ وهل من تفسير لهذا الوضع سوى أن الاحتلال الإسرائيلي، قد حول فلسطين المحتلة، كلها، إلى سجن كبير لأهلها؟

وإذا كان نبيه القاسم وسعيد نفاع قد تناولا موضوعي الاعتقال والسجن، من زاوية النظر إليهما بوصفهما من الأسباب التي قوت عوامل الرفض الفلسطيني لاستمرارية الاحتلال الإسرائيلي وممارساته كافة، وهيأت، بالتالي، لإنطلاقة الانتفاضة، كتعبير عملي عن بلوغ هذا الرفض ذروته، فقد تناول القاص ابراهيم جوهر هذين الموضوعين، في قصته القصيرة (لأني أحمل حجراً)،( ) من زاوية رؤية مختلفة، تتيح للناظر منها أن يرصد بعض إيقاعات التأثير النفسي الذي يمكن أن تحدثه ممارستا الاعتقال والسجن، في البنية النفسية للطفل الفلسطيني...

بتعبير آخر، وعلى خلفية افتراض الصحة في السماح لدارس أي عمل أدبي أن يستنتج من قراءته وتحليله له، أكثر مما أراد مؤلف هذا العمل إيصاله لقارئه، ربما ليس خطأ ما يمكن أن يتهيأ لقارئ قصة (لأني أحمل حجراً)، من أن مؤلفها لم يقصد معالجة موضوعي السجن والاعتقال، كسببين من أسباب انطلاقة الانتفاضة، بقدر ما كان قصده النفاذ، من خلال طرحه لهما، إلى محاولة ما يشبه السبر لنتائج تأثيرهما في نفسية الطفل الفلسطيني... وذلك عبر قراءة المنعكس النفسي للمعطى الحدثي الذي يمس حياة هذا الطفل مباشرة؛ وعبر ما يمكن أن تفضي إليه هذه القراءة من استشفاف لتمظهرات ردود الفعل الناجمة عن ذلك المنعكس، في التطبيق، سواء على صعيد نوعية التفكير الحاصل، أو على صعيد صورة التصرف المحتمل الذي تستجيب نتائجه، في حال صيرورته فعلاً ممكناً، لتطلعات الرغبة المتكونة من المحصلة النهائية لذاك التفكير... ولعل ما تحكيه القصة، في سياقها، من أحداث ومواقف، يجيز للباحث، إلى حد ما، افتراض الصواب في ما ذهب إليه، أثناء توصيفه الآنف لقصدية مؤلفها من طرح موضوعي الاعتقال والسجن، في قصته على نحو ما فعل...

فأول تأثير يحدثه اعتقال والد الطفلة الصغيرة (روان) في نفسيتها، هو إحساسها المفاجئ والحاد بافتقاد  أبيها إلى جانبها، لسبب غامض يصعب على مداركها أن تعيه تماماً.. وحين تسأل أمها أن توضح لها السبب، وتجلو غموضه، لا تجد تلك الأم الحزينة الوسيلة التعبيرية التي تساعدها على تلبية رغبة ابنتها ولذا، نراها ترد على سؤال الصغيرة لها " لماذا أخذ  الجيش بابا؟( ) بالجواب التهربي التالي: سيعود عما قريب يا حبيبتي، لا تقلقي، نامي."( )

لكن روان، وبفضول الطفل الملحاح، لا تنام، بل تواصل طرح تساؤلاتها المستفهمة، باحثة عن مسكن لما يقلق تفكيرها ويحيره، مكوّنة عبرحوارية السؤال والجواب، بينها وبين أمها، من جهة، ثم بينها وبين نفسها من جهة أخرى، أفقاً لوعي جديد قابل للتطور باتجاه الصيرورة أكثر استعداداً للفهم والإدراك... وسرعان ما تتضح أولى معالم هذا التطور، في صورة الإدراك البسيطة التي شكلها خيالها الطفل للسجن، ولعلاقته السببية باختفاء أبيها... " لم تكن تعرف ما هو السجن قبل اعتقال أبيها، واليوم تعرف أن السجن مكان يمنع الآباء من رؤية أبنائهم فصارت تكره السجن بقدرما تحب أبيها..."( )

وهكذا، يتحول السجن في وعيها إلى تجسيد مادي للظلم، ورمز للحرمان من حنان الأب... وعلى ضوء هذا الوعي الجديد المتشكل على خلفية عاطفية، تتكون مشاعر الصغيرة تجاه السجن، ويبدأ موقفها منه بالتبلور كراهية له.. ثم بعد ذلك، وعبر استمرار حوارية الاستفهام، يتطور هذا الوعي إلى إحساس بالثورة، والى رغبة في المشاركة بفعل التحدي لبناة السجن وحراسه والعاملين على بقائه، والذين يتجسد مجموعهم، في وجدانها وخيالها، بصورة جنود الاحتلال الذين اعتقلوا أبيها، وأودعوه السجن، وحرموها من التمتع بفيض حنانه..

ولأن لغة التحدي التي تعايشها، في واقعها الراهن، صباح مساء، والتي كانت، أصلاً، سبب اعتقال أبيها وسجنه، هي قذف الحجارة على المحتلين، ترى الصغيرة نفسها، في حلم يقظة، وهي تمسك حجراً .. وسرعان ما يستجيب ( الواقع ) المتخيل، على مسرح أحلامها، وكذلك شخوصه، لتطلعات رغبتها المتولدة من موقفها الكاره لجنود الاحتلال، فإذا بها تراهم، على صفحة مخيلتها، وهم يفرون خوفاً من حجرها.. لنتأمل صورة هذا التطور في وعيها ومواقفها، عبر الحوار التالي بينها وبين أبيها، عقب خروجه من السجن:

"أين كنت يا بابا؟

أجابها:

-في السجن يا بابا.

-لأنك ضربت على الجيش بالحجر؟!

-سايرها وهو يبتسم وقال:

-نعم، لأني ضربت على الجيش بالحجر.

سرحت روان مع خيالها الصغير قليلاً، وكأنها تستذكر شيئاً كادت تنساه، وقالت:

-بابا، امبارح هرب العسكر مني.

سألها باهتمام:

-لماذا يا بابا؟

أجابت:

-لأني كنت أحمل حجراً."( )

على هذا النحو، راح يتكون وعي الطفل الفلسطيني، وينمو في زمن الانتفاضة، محدداً مسار تطوره المستقبلي "السجن مفجرّاً للكراهية، ثم الكراهية محرضة على الثورة، ضد السجن وبانيه" ثم الرغبة في نقل هذه الثورة من مستوى تخيّل فعلها، إلى مستوى ممارسة هذا الفعل، على أرض الواقع، كما توحي خاتمة القصة... وبهذا يكون المحتل الإسرائيلي قد استدعى، بممارساته القمعية، ضده الفلسطيني، الراهن والمستقبلي، في آن معاً... هذا الضد الذي تعد كينونته الجديدة ووعيه الذي نضج، بامكانية استمرار الانتفاضة، ثورة حتى النصر والتحرير...

 

 

 

كي لا يصير قتل الفلسطيني...

 روتيناً، ومجانياً..

 

 من خلال ادراك عميق لجملة العوامل التي هيّأ تضافرها لنضوج وعي الإنسان الفلسطيني، ولإقداره، وبالتالي، على التحول في موقفه، تجاه مستقبله ومستقبل قضيته ووطنه، ذلك التحول النوعي الكبير الذي انتقل، وهو يمارس طقوسه بوعي وشجاعة، من سكونية القنوط والاحباط واليأس إلى حركية التمرد الثوري المفعم بالأمل والتحدي، في آن معاً؛ من خلال هذا الإدراك، وعلى خلفيته، حاول بعض مؤلفي قصص الانتفاضة، طرح واحد مما عدّوه، محقين، بين أهم الأسباب التي صنعت حتمية انطلاقة الانتفاضة، إن لم نقل أهم تلك الأسباب، على الاطلاق... والمقصود بهذه الأهمية، في هذا السياق، هو تعرض الفلسطيني، في أي لحظة، وغالباً، دونما أي مسوغ جرمي واضح أو معقول، إلى احتمال اهدار دمه، دون أن يلقى المجرم الفاعل أي عقاب رادع على ما اقترفته يداه...

فمما لا ريب فيه، أن هذه الممارسة الاحتلالية، ذات الدوافع العدوانية الحاقدة، والمنشأ العنصري المتطرف في لا إنسانيته، تعدّ من أقسى ما كابده الإنسان الفلسطيني، وما يزال، في تاريخ معاناته الصعبة، لكابوس الاحتلال الإسرائيلي العنصري الجاثم على صدر هذا الإنسان وأرضه، منذ أكثر من عشرين سنة... وبالتالي، من البدهي، أن تعدّ هذه الممارسة الإرهابية الباهظة من أقوى الأسباب المؤكدة لضرورة التخلص من ذلك الجو الكابوسي، بأي وسيلة وبأي ثمن... الأمر الذي يجعل منها المحرض الأهم لكوامن الثورة في نفس الفلسطيني على استمرارية ذلك الاحتلال وممارساته الإرهابية جميعاً..

ومن الرجوع إلى ما أمكن الحصول عليه من قصص الانتفاضة، يتبين أن عديدين من مؤلفيها قد أثار اهتمامهم موضوع تعرض الفلسطيني للقتل العنصري، على أيدي سلطات الاحتلال والمستوطنين... لكن أكثر من شغل هذا الموضوع المساحة الأكبر من اهتمامه، اثنان: نبيل عودة، في قصته (الحاجز)، ومحمد نفاع، في قصته (الجنرال)..

في قصته (الحاجز) ( ) التي سبقت معالجة جوانب من مضمونها، في الفقرة الأولى من هذا الفصل، يطرح نبيل عودة هذا الموضوع، من زاوية رصده للحظة التحول التاريخية الحاسمة التي مرّ بها وعي الإنسان الفلسطيني، قبل أن ينطلق ثائراً، معلناً رفضه القاطع لاستمرارية العيش في كابوس الاحتلال العنصري... فبعد سنوات طويلة مرهقة من معاناة هذا الإنسان لشتى ضروب العسف والقمع والإرهاب، محتملاً ما يحل به من ويلات، على أمل أن يأتيه الفرج ذات يوم من خارج الحدود، يدرك، متأخراً، عبثية استمراره في موقف المنتظر لذلك الفرج... ثم يبدأ بمراجعة حصاد انتظاره خلال السنوات الطويلة الماضية، فإذا بالنتائج فادحة مرعبة... فانتظاره الطويل لم يمكنه، بعد عشرين سنة، إلا من قبض الريح،... والاستهانة بحياته وعذاباته ومستقبله، إلى درجة  تكاد لاتصدق... فقد أضحى قتله، مجرد حادث عادي، لا يهز ضميراً ولا يثير عصباً، في كيان أحد... أما عذاباته وآلامه الكثيرة، فما  أهونها على الناس، وكذلك مستقبله ومستقبل أجياله القادمة... وهنا، أدرك الفلسطيني، بوضوح فاجع، أن مايعنيه ويعانيه لا يهم أحداً غيره... وبالتالي، لن يغيّر أحد غيره، أيّ وضع من أوضاعه المأساوية، أو من واقعة المتخم بالخوف والقلق، جراء عيشه في مناخ احتمالات التعرض لشتى ممارسات الارهاب والقمع والإذلال، وبشكل خاص، احتمال التعرض للقتل، في أي لحظة، برصاصة حاقدة يطلقها أي عنصري إسرائيلي، جندياً كان أو مستوطناً عادياً...

بتعبير آخر محدد الدلالة أكثر، أدرك الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، أن انتقاله من موقف المتوقع لاحتمال أن يقتل مجاناً، وسط إذلالات الترقب والخوف من غدر القاتل العنصري، إلى موقف الإقدام الإرادي على الموت، ليس انتقالاً ضرورياً، من أجل غد أفضل فحسب، وإنما هو ضروري أكثر للحيلولة دون استمرار هزلية القتل المجاني، بالنسبة للأجيال الفلسطينية القادمة... تلك الهزلية التي صار قتل الفلسطيني، حسب معاييرها، مجرد حادث عادي، لا يعبأ به أو يهتز له أحد... وهذا ما قصد إليه بطل قصة (الحاجز)، حين قال، في معرض تعليله لحتمية  انطلاقة الانتفاضة، ولضرورة استمرارها: "يجب أن لا نسمح بتحويل قتلنا إلى عادة... إلى روتين يومي.."( )

وبالطبع، ليس المقصود بانتقال الفلسطيني إلى موقف الإقدام الارادي على الموت، أن يمارس الانتحار، بل أن يضع حداً لمجانية موته... أي أن يتحول الموت، في وعيه، من كونه تلك النهاية المرعبة لحياته، إلى التصيّر بداية لحياة جديدة... وهذا يعني أن يصير موته وظيفياً، أي فعلاً إرادياً هادفاً إلى تحقيق غاية نبيلة، أي استشهاداً... ذلك أن حيوات الشهداء الذين يقضون على دروب الوصول إلى شمس الحرية، تتحول إلى رصيد ثمين، ينمو وينمو، في خزانة المستقبل الفلسطيني، ليبزغ، في النهاية، فجر خلاص تضيئه تلك الشمس، في سماء وطن جديد، تعيش فيه الأجيال الفلسطينية القادمة، بحرية وأمن واطمئنان...

وهكذا، وأدراكاً من ثوار الانتفاضة لوظيفية موتهم الاستشهادي نراهم "يواصلون التحدي في الشوارع رغم الجند المدججين بالسلاح.."( )"، أي على الرغم من عدم التكافؤ المذهل، بين حجارة وطنهم المحتل، وأحدث آلات القتل والتدمير التي يقارعهم بها عدوهم العنصري... وهم، في خضم هذا التحدي الصعب، يرفضون أن يقبضوا ثمن صمودهم... بل يدفعون دمهم ثمناً..."( ) للغد المأمول... لخلاص الإنسان الفلطسيني القادم... لميلاد الوطن الحر..

القاص الثاني الذي شغل موضوع تعرض الفلسطيني للقتل المجاني، على يد المحتل العنصري، مساحة واسعة من اهتمامه، هو محمد نفاع... وقد بلغ اهتمام نفاع بهذا الموضوع درجة اتخاذه محوراً وحيداً لأحداث قصته القصيرة (الجنرال)( ) وإذا كان ثمة ما يميز هذه القصة عن قصة (الحاجز) لنبيل عودة، في مجال احتفال كلتيهما بالموضوع نفسه، فهو،  ولا شك، اختلاف زاوية التناول، إضافة إلى اختلاف أسلوب الطرح والمعالجة... أما الهدف الذي سعى إليه مؤلفاهما، فيبدو، إلى حد ما، واحداً في القصتين.. ويمكن توصيفه.. وهذه وجهة نظر خاصة... بأنه السعي إلى إثارة القارئ وتثويره، إلى أقصى حد ممكن، ضد همجية الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية، بحق الإنسان الفلسطيني، داخل الوطن المحتل...

لقد أطل نفاع على موضوع مجانية قتل الفلسطيني بدوافع عنصرية، من زاوية الرغبة في فضح وحشية القاتل ودوافعه، عبر رسم أبشع صورة ممكنة لتمظهرات هذه الوحشية، في واقع الممارسة... ولكي يستطيع المؤلف أن يوفر أكبر قدر من النجاح لايصال قصته إلى هدفها، اختار، للقيام بدور الجلاد العنصري فيها، جنرالاً إسرائيلياً، في موقع المسؤولية... أي شخصية قيادية (رفيعة المستوى) في المؤسسة العسكرية الصهيونية يمكن أن ترمز ممارستها إلى همجية هذه المؤسسة وعنصريتها، ككل... ولزيادة عاملي الإثارة والتأثير بمحتوى القصة وأحداثها، اختار مقابل هذا الجنرال الواعي لجريمته، والقاصد لنتائجها عن عمد، عشرة أطفال فلسطينيين رضعاً، ليكونوا في موضع الضحية البريئة؛ براءة مطلقة من أي ذنب يمكن أن يفتريه ذلك الجنرال، وينسبه إليهم، ليسوغ به جريمته اللاإنسانية التي أودت بحياتهم...

وكنوع من التمهيد لأحداث التراجيديا القادمة... أو كمحاولة لتهيئة القارئ نفسياً، ولتمكينه، بالتالي من التفاعل، إلى أقصى حد ممكن، مع تلك الأحداث الرهيبة، والشخوص الصانعة لها، بدأ نفاع قصته بحشد عدد كبير من الصور القاتمة، المقبضة للنفس والقلب معاً، ثم ألف من مجموعها ما يمكن أن يعد معادلاً موضوعياً، للبيئة الكابوسية الرهيبة التي صنعها الاحتلال الإسرائيلي، بممارساته العنصرية الوحشية، ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً.. لنتأمل هذه اللوحات المنتقاة من مواقع مختلفة، في بداية القصة:

"انتقى الجنرال المنتشي المرهق منزلاً من طابقين وشرفة وحديقة، وحوّله إلى مركز عسكري للمنطقة، بعد أن خلت البيوت من الناس وبدت مستكينة متألمة مصابة بنوبة من الإغماء والصرع..."( )

"حول المكان وعلى بعد مئات الأمتار، بيوت مفغورة السقوف مبقورة الجدران، وألواح تنك مبعدة مشرمة وقضبان حديد مطعوجة مشربكة كالمصارين المقطعة، وقصف أشجار يابسة وأخرى مقطوعة مقلوعة كيفما اتفق، انقبعت جذورها عنوة على إثر خضات قاتلة فترنحت منكسرة مخذولة كصبية شهمة أذلت فوقفت مهزومة خافضة النظر والجبين إلى الأرض حياء وحرقة على شرف مُهان!"( )

"والأولاد يطلون من أفواه الأزقة وبطون الركام وضلوع الأشجار بفضول حذر، في نظراتهم ذهول عنيف وخواء سحيق كدر...( )

"عندما فلشت الشمس ضوءها المخملي المحمر على التلال المبقعة بحرائق خامدة مرمدة، وشجر مشفوط وحشائش وزرع مخبص مهمل مكوي بأنفاس نارية..."( )

"من خلال النافذة يبدو المخيم بعيداً كالحاً يلفه سكون موجع كالمتسمم أو المصاب بالربو.( )

على مسرح هذه البيئة، وفي مناخها الكابوسي العابق برائحة الحرائق والوجع الإنساني، نفذ الجنرال الإسرائيلي -رمز الاحتلال في القصة- جريمته العنصرية النكراء... وبأسلوب فني يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، والتراكيب الشعرية ذات الإيقاع المتوتر بالانفعال، راح نفاع يعرض أمام عيني قارئه، وأمام ضميره الإنساني، فصول هذه الجريمة التي نفذها ذلك الوحش العنصري، بأعصاب باردة!!لقد عضّ الجوع معداً حديثة الولادة، لأطفال رضع، أيبس الاحتلال أثداء أمهاتهم، وغيض منها الحليب، حين قتل، ظلماً وعسفاً وعنصرية، أزواج بعضهن، وسجن أزواج الباقيات... وبهذه الممارسة اللاإنسانية، فقدت الأمهات وأطفالهن معاً، الرجال المعيلين... وحين فاض كأس الصبر على احتمال الجوع، وفقدان الوسيلة لتأمين ما يسد الرمق، والأمل في العثور عليها، توجهن بالرضع الجياع إلى مقر الجنرال الجديد، رمز السلطة التي اختارته حاكماً بأمرها وشرعتها، في مظاهرة احتجاجية، وهن يصرخن فيها بإطلاق سراح الرجال المسجونين:

"- قتلتم رجالنا وأزواجنا"!

-"سجنتموهم لا نعرف أين- في سجونكم ذائعة الصيت... أطفالنا هنا حتى تطلقوا سراح الرجال المعيلين"."( )

ولكن صراخ الجوع هذا، ومظهره البادي على الوجوه، لم يثر في المحتل العنصري سوى لسانه المتصل بقلبه الحاقد، فأرسله يكيل به الشتائم والسباب البذيء لتلك الأمهات ولأطفالهن الرضع الجياع... وإزاء هذا الرد، وكان الانفعال والتحدي واليأس قد لعبوا، في آن معاً، برؤوس النسوة المسكينات، قررن ذلك القرار اليائس. ربما خطر في بالهن، مجتمعات، أن ما قررن فعله سيكون أشبه بالصدمة الكهربائية لبقايا إنسانية توهمن أنها ما تزال في ضميره، لبقايا رحمة ظنن أنها ما تزال تنبض حية في قلبه ووجدانه.. ولكن هيهات...

فبعد أن تركن أطفالهن، في ساحة المقر العسكري، ومضين ساخطات مكسورات، آملات أن يثير مرأى الرضع الجياع بعضاً من حجرية القلب العنصري، للجنرال الإسرائيلي، وأن يبعث صراخهم الجائع، في نفسه، مامات من حسه كإنسان، ما كدن يبتعدن، حتى حدث ما فاق كل ما توقعنه، وخاب أملهن الضعيف... وكيف لا، والذي قصدنه متوهمات أن يجد حلاً لجوع أطفالهن، لا قلب له أصلاً ولا ضمير...؟!!

لقد ثارت ثائرة ذلك الجنرال المتغطرس، واستشاط غضباً وغيظاً، لتصرف الأمهات الذي لم ير منه غير جانبه الأسود، حين عدّه، من وجهة نظره كحاكم عسكري يمثل الاحتلال، تحدياً لسلطته، بأسلوب جديد..." هكذا هم.. كل يوم أسلوب جديد!!"( ) وفي حمى غضبه المتفجر من حقده العنصري وغطرسته، وجنون (عظمته) كمحتل، لم يملك رداً على ماتوهمه اسلوباً جديداً في التحدي، سوى اتخاذ ذلك القرار الرهيب الذي حمّله لأحد جنوده كي يبلغه للباقين.." إذا أبقوهن هنا اصعدوا عليهم بالدبابة، امعسوهم..."( ) ولكم كانت لقطة بارعة، من محمد نفاع، لما اعترى ذلك الجندي من ذهول واستغراب واستنكار لما سمعته اذناه فعلى الرغم من كينونته جندي احتلال، من المفترض أنه كقائده لا قلب له ولا ضمير، لم يملك نفسه، أمام ذلك القرار الذي فاق في وحشيته حدود أي تطرف، من شهقة رعب واستنكار: "شهق الجندي الأنمش ومط بوزه ورقبته الحمراء مستديراً تاركاً المكان- وهو يتخيل الجنزير الفولاذي واللحم والباكي..."( ) وفي طريقه لإبلاغ القرار الرهيب" طار بقلبه إلى بيته وطفله ابن الثلاثة شهور ببسمته الجانبية الرخوة ويديه الخافقتين، ورائحة جسمه الصغير، وملابسه المغرقة بالبول..."( ) وكان ذاك أقصى ما تستطيعه بقية إنسانيته التي وأدها بملابسه العسكرية وحذائه الثقيل، كجندي في جيش احتلال عنصري... وبالطبع، سرعان ما احتضرت هذه البقية وانطفأت، وهو يبلغ أمثاله ما كلفه قائده إبلاغهم به...

ولكن الجريمة العنصرية، لم تنفذ كما رسمها الجنرال الإسرائيلي، بل اتخذت مساراً آخر أكثر وحشية... فقد "أجروا اتصالاً مع المؤسسة الدولية المفككة المضروبة، -يقصد الصليب الأحمر- فجاءت سيارتان ملأوهما بالأطفال وسجلوا محضراً. وظل على الأرض عشرة أطفال في إحدى زوايا الساحة...( ) ربما لم يجدوا لهم مكاناً في السيارتين... وبهؤلاء العشرة نفذ الجنرال الحاقد جريمته المنكرة...

بالطبع، لم يخطر في باله مجرد التفكير بمحاولة اسكات صراخ الجوع المنبعث من حناجرهم الغضة، بإطلاق سراح من يؤمن الحليب لهم، بل فكر بوسيلة أسهل وأسرع مفعولاً في إسكات صراخ الجوع الحليبي، مرة واحدة، وإلى الأبد... وكان ذلك، حين" وضعوا الأطفال كيفما اتفق في أرض السيارة، وسافر بهم الجنرال مع بعض الجنود..."...( ) لا ليرميهم خارج مقره، ويرتاح من صراخهم ومسؤوليتهم، وليته فعل... بل ليبلغ بهم مكاناً بعيداً عن الأعين، يتاح له أن يمارس ساديته العنصرية ضد العرب، كما يشتهي...

وفي البعيد، أنزلهم الجنود وابتعدوا، كما أمرهم الجنرال.... "ومع صدمات الريح أنصت الجنود الراكضون إلى طلقات النار... واحدة، اثنتان/ خمس، عشر طلقات صماء خرساء مكتومة بالتمام" ( ) أطلقها الجنرال المجرم، على جماجم الرضع الرخوة، "فاندلعت أحشاؤها. دماء ودماغ وكسرات عظام مغموسة بسائل أحمر وخصلات شعر شفطتها النار، معسها الرصاص معاً."( ) وبهذه الطريقة المروعة التي لا يجيدها غير جنرال في الجيش العنصري الإسرائيلي، سكت الصراخ الحليبي... صراخ الجوع في المعد الحديثة الولادة... سكت إلى الأبد..

وفي ذات اللحظة التي كان يخفت فيها صراخهم متلاشياً، ظلت الريح تهب، وهي في طريقها إلى كل الجهات، تحمل معها هذا الخليط من الدخان والبكاء الأخير والحليب المقتول المسفوك، إلى صدور الأمهات والعذارى في بقاع الأرض... والمياه الآتية العابرة من هنا تصل إلى البحر الكبير، إلى قلب الأرض، الأرض الأم...( ) ومن قلب تلك الأرض /الأم التي انساح دم أبنائها الرضع الجياع، على صدرها المغتصب المقهور، خرج المارد الفلسطيني... خرج من أجسادهم الطرية التي مزق جماجمها المحتل العنصري برصاصاته الغادرة... خرج طفلاً كبر، ويكبر، في ساحة الثورة الممتدة بين مقتله وانبعاثه .. خرج يحمل بيده حجراً عبأه بإرادة صلبة، معلناً نهاية قتله المجاني.. خرج ليكوّر ذلك الحجر شمس حرية وخلاص، لا بد أن تشرق يوماً في سماء وطنه الذي يتعاطى الحب معه، شهيداً و ثائراً.. وكانت الانتفاضة...

صحيح أن قصة محمد نفاع لم تشر إلى الانتفاضة بعبارة صريحة مباشرة، إلا أن سياق أحداثها، وتراكم الصور المروعة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي فيها، ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها معاً، كانا رمزاً ودلالة على حتمية انطلاقة الانتفاضة... لا بوصفها رد فعل عفوي على حوادث القتل المجاني التي ساقت القصة مثالاً صارخاً على عنصريتها الصارخة ووحشية ممارستها فحسب، بل بوصفها أيضاً، وهذا هو الأهم، مخرج النجاة الوحيد، والممكن، من كابوس الاحتلال العنصري المرهق الذي نجح نفاع، بأسلوبه التصويري غير المباشر، في إدخال قارئه إلى أجوائه، وفي جعله يرتجف حنقاً، ويتميز غيظاً، ويمتلئ ثورة، على هذا الاحتلال، وعلى ممارساته، وخصوصاً ممارسة القتل العنصري وطقوسه المرعبة المروعة، وكذلك ممارسة تدمير الوطن واحراقه...

بعبارة أخرى، نجح محمد نفاع، في قصته (الجنرال) بتوظيف أحداثها في إثارة قارئه، وفي تثويره، إلى حد كبير... محرضاً، في نفس هذا القارئ، الرغبة الدافعة إلى المشاركة في الانتفاضة، بأي وسيلة يمكن أن تتاح له، وبأي أسلوب... إن لم يكن بدوافع وطنية وقومية، فبدوافع إنسانية، على الأقل... وقد ساعده على تحقيق هذا النجاح، جملة عوامل، ربما من أبرزها اعتماده ذلك الأسلوب التصويري الموحي في رسم الملامح الوحشية للاحتلال العنصري، وممارساته ضد الأرض الفلسطينية وإنسانها... كما ساعده اعتماد هذا الأسلوب، في توصيل الشحنة الانفعالية التي ثارت براكينها في أعماق نفسه، إلى قارئ قصته أياً كان، وهي ما تزال محتفظة بعد، بقدر كبير من حرارتها...

 

 

 

حزمة ضوء أخيرة

 

لا شك أن ما سبقت الاشارة إليه، وهو غيض من فيض الأسباب التي تضافر مجموعها ليصنع، في النهاية، حتمية حدوث الانتفاضة وانطلاقتها، لم يكن بين أهم تلك الأسباب فحسب، وإنما كان من أكثرها امتلاكاً للقدرة على الإيحاء بأن هذه الثورة العظيمة لم تنطلق من فراغ، ولم تكن مجرد رد فعل، كما أنها، وبالتأكيد، لا تسعى إلى السباحة في فراغ... فهي ثورة ذات أبعاد وأهداف واضحة ومحددة، وأبعادها وأهدافها موصولة بعلاقة عضوية وثيقة وقوية بأسبابها...

لقد انطلقت هذه الثورة، كما تؤكد مضامين جميع القصص الفلسطينية التي استلهمتها موضوعاً وتمحورت حولها، من صميم الرفض الفلسطيني الثابت للاحتلال الإسرائيلي... هذا الرفض الذي تكون، حياً وحاراً وعنيفاً، منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها قدم الاحتلال الإسرائيلي أرض فلسطين... وعلى هذا، فليست الممارسات الوحشية للاحتلال العنصري، هي صانعة هذا الرفض بل هي مذكيته... هي الوجع المر الذي عاناه الفلسطيني على مدى سنين طويلة.الوجع الذي ساعد استمراره على تصاعد رفض الفلسطيني للاحتلال وهيأ لبلورة هذا الرفض ثورة شعبية شاملة، هدفها الغائي هو التحرر الكامل...

ومن نزيف هذا الوجع المر،  وفيه، كان القاص والشاعر الفلسطيني يغمس ريشة إبداعه، ويكتب... يبسط الألم صفحة، ويكتب واصلاً الألم بالأمل... واصلاً ليل الواقع بإشراقة الغد المأمول... يكتب، وعلى صفحة إبداعه الحارة أبداً، تنتشر مأساته، في شرايين الكلمات، تقريراً لحقائق سوداء مرعبة، ووعداً واثقاً مضوءاً بإرهاصات الخلاص القادم...

وحين بدأت تلك الإرهاصات تتحول وقائع لثورة يومية عارمة، استمر القاص الفلسطيني، في الوطن المحتل، باستلهام ممارسات الاحتلال العنصري ضد شعبه، القديمة التي ساهمت في صنع حتمية الثورة على هذا الاحتلال، والراهنة التي يحاولها، يائساً، لاخماد هذه الثورة والقضاء عليها. كما استمر في توظيف تلك الممارسات جميعاً، قديمها وراهنها، لينقطها حقائق، حامضية التركيب، في العيون الرخامية التي أماتتها اللامبالاة، عساها تحقق تفاعلاً فذاً بين حامضها والرخام الميت، ينتج عنه انبعاث متمرد وبشرى... فالأمل ما زال ينبض، على الرغم من كل محاولات اغتياله... ما زال يخفق وهجاً واعداً تحت رماد الواقع... ما زال زهرة قادرة على الفوح وبعث البهجة، على الرغم من كونها زهرة نبتت في أرض التناقض والضياع والسواد... ذلك أن القناعة ما تزال راسخة، بأنه بين النقيض والنقيض... بين الرماد والورد، لا بد أن تولد المعجزة يوماً... ولا بد أن يراها الجميع...فإن لم يؤمنوا بها، وهذا احتمال، فلن يكون بوسعهم نكرانها أو دحضها، أو حتى عدم الإحساس بالمفاجأة حيالها، على الأقل...

 

 

 

الفصل الثاني "رسالة الانتفاضة"

"قراءة في مبادئ الثورة وأهدافها"

 

 

أولاً: تمهيد..

ثانياً: التعايش السلمي... كاحتمال مستحيل...

ثالثاً: الانتفاضة... ثورة إنسانية ...

رابعاً: الدعوة إلى الشمولية... ورفض المحايدة...

خامساً: الدعوة إلى مواصلة الثورة.. حتى التحرير...

سادساً: الانتفاضة... مخاض الوطن الفلسطيني الحر...

سابعاً: وثمة محتويات أخرى... في الرسالة:

1- الدعوة إلى الامتناع عن جميع أشكال التعامل مع سلطات الاحتلال...

2- الدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء

3- الدعوة إلى استلهام تجارب النضال الفلسطيني الماضية.

 

 

تمهيد...

 

لا شك أن تصور عدم وجود رسالة محددة لثورة في حجم الانتفاضة وشموليتها وزخمها وقدرتها الفذة على الاستمرار والتغيير، هو تصور يفتقر إلى المصداقية، افتقاراً واضحاً ... وذلك لتعارضه مع الكثير من معطيات الواقع، ولعدم توفر حدّ أدنى من الانسجام بين مضمونه وبين النتائج التي تقود إليها أي محاكمة موضوعية لتلك المعطيات... وتوصيفه على هذا النحو، يقود، بداهة، إلى الشك في احتمال كونه تصوراً ساذجاً، يعبر عن قصور في قدرة صاحبه على قراءة المعطى الحدثي، وعلى تحليل أبعاده ونتائجه، تحليلاً صحيحاً معافى...

والشك في احتمال كون هذا التصور ساذجاً، هو تأكيد، غير مباشر لقصدية تخيله وإنشائه من جهة، ولقصدية السعي إلى إشاعته وتسويقه، من جهة ثانية... كما يعني اتهاماً لدلالات مضمونه بعدم براءة مراميها، أي بكونها مغرضة، من جهة ثالثة... ومصدر اتهامه باللابراءة هو التطابق، إلى حد كبير، بين مايمكن أن تدخله تلك الدلالات، في روح متلقيها وفكره، من قناعات خاطئة، وبين ما تبثه أجهزة الإعلام الإسرائيلية، عبر أبواقها الدعائية المختلفة، من توصيفات تبسيطية لفعاليات الانتفاضة ونشاطاتها، من مثل:

"أعمال شغب، اضطرابات، أعمال فوضى..." وما شابه من توصيفات هدفها الحط من عظمة هذه الثورة، والتهوين من قيمة نتائجها، ومحاولة إفراغ هذه النتائج من أي دلالة إيجابية... بتعبير آخر أكثر تحديداً ووضوحاً، يبدو هدف التوصيفات الإٍسرائيلية لفعاليات الانتفاضة، محاولة قصدية لنفي أي رسالة ناظمة، تصدر تلك الفعاليات عنها أو تسعى إلى تحقيقها هدفاً، على أرض الواقع... أي محاولة للإيهام بأن هذه الفعاليات لا تعدو كونها مجرد (فوضى غوغاء) غير واعين، وذلك وصولاً إلى الإيهام أيضاً، بأن لا خطر حقيقياً يمكن أن يترتب أو ينجم عن فوضاهم، هذه، لا على المدى القريب، ولا على المدى البعيد... وبالتالي، فإن قمع تلك (الفوضى الغوغائية)، هو مسألة وقت لا أكثر، حسب أجهزة الإعلام الإسرائيلي... وهذا كله، كما هو معروف، نقيض معطيات الواقع وحقائقه الملموسة والثابتة...

إذن، وعلى عكس ما يزعمه مضمون التصور السابق، للانتفاضة رسالة.. وهي، لمن يبحث عنها بموضوعية، تبدو رسالة واضحة المعالم والبنود، عظيمة، عظمة الثورة التي تتبناها وعن هذه الرسالة - كما يستطيع الباحث أن يلاحظ دون كبير عناء -يصدر صانعو الأحداث التاريخية العظيمة، في الوطن المحتل، وإياها يتبنون دستوراً ومنهجاً، في ممارسة فعلهم النضالي، وإلى ما تدعو إليه، من أهداف نبيلة وسامية ومشروعة، يسعون مضحين بكل ما لديهم، بالنفس والمال والولد، علىأمل التمكن من تجسيد تلك الأهداف واقعاً مغايراً لذلك الذي انطلقوا منه بالأمس القريب، منفلتين من إساره، ومن مناخاته المضببة بالاضطهاد وممارسات القمع والقهر والاستعلاء العنصري...

ربما يكون صحيحاً أن تبلور هذه الرسالة واكتمالها قد جاء تالياً لانطلاقة الانتفاضة، وتشكل قياداتها وكوادرها التنظيمية، وأن تطورها، طروحات وأهدافاً، كان مرافقاً لتطور تلك الثورة، لكن هذا لا يعني أن بذور تلك الرسالة لم يكن لها وجود أصلاً قبل انطلاقة الانتفاضة... بل كانت موجودة، وعنها ومن أجلها انفجر الحدث... إلا أنها لم تكن على مثل ما آلت إليه من تبلور ووضوح، بعد انفجاره...

وبعد، فهذه الرسالة التي لها قامة الإرادة الفلسطينية الثائرة والمصممة على تكوير شمس المستقبل الفلسطيني، خلاصاً وحباً وأمناً؛ قد استقطبت جزءاً كبيراً من اهتمام عديدين بين مؤلفي قصص الانتفاضة، داخل الوطن المحتل، فتناولوا البارز والأهم من معالمها وبنودها وأهدافها، وسلطوا الضوء عليه، إما بشكل سريع وعابر، وإما باتخاذه موضوعاً محورياً، لهذا الجزء أو ذاك، من مضامين قصصهم القصيرة...

 

 

 

التعايش السلمي.. كاحتمال مستحيل..

 

ثمة من يتصور، ويروج ما يتصوره مؤكداً، أن الدافع الأساسي والجوهري لانطلاقه الانتفاضة الفلسطينية، كان رغبة أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، في التعبير عن احتجاجهم علىواقع التمييز العنصري الذي يعيشونه، منذ أن احتلت أراضيهم، وعلى ما يقاسونه، في مناخ هذا الواقع، من ممارسات القمع والاضطهاد والقهر، على أيدي المحتلين الإسرائيليين، قيادة ومستوطنين، معاً.

وتأسيساً على هذا التصور، وانطلاقاً منه، يروّج أصحابه زاعمين، أن ما تهدف الانتفاضة إلى تحقيقه هو، وبالدرجة الأولى، دفع الإسرائيليين، إلى التحول عن سياسة التمييز العنصري، وممارساتها الوحشية التي يسوطون بها حياة الفلسطينيين، في وطنهم المحتل ... وذلك بكسر جوزة العنصرية الصهيونية القاسية، وتوفير نوع من المساواة بين العرب واليهود، يمكنها أن تمهد، تدريجياً، إلى خلق وضع جديد يستطيع فيه الطرفان، الضدان، أن يتعايشا مع بعضهما، فوق الأرض التي يتنازعان عليها، (تعايشاً سلمياً)، لا يضطر أحدهما، في حال تحققه واقعاً، إلى ازاحة الآخر عن تلك الأرض، ونفيه بعيداً عنها...

لا شك أن تصوراً كهذا، إذا أحسنّا الظن بأصحابه، وتجنبنا اتهامهم بسوء النية والقصد، هو تصور قاصر من جهة، وخاطئ من جهة أخرى، أو هو الصفتان، في آن معاً، من جهة ثالثة... فأما كونه قاصراً، فلأنه يتوهم، عبثاً، امكانية تعايش الجلاد ومن اختاره ضحية له، في سلام... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، هو قاصر لأن من تصوره، قد غاب عنه، إن لم نقل أنه يتجاهل، تناقض مفهوم التعايش السلمي، تناقضاً صارخاً، في الجوهر والهدف، على السواء، مع مفهوم الاستعمار الاستيطاني الاحلالي الذي يتميز به المشروع الصهيوني، أيديولوجيا وتطبيقاً، كما يتناقض، تناقضاً صارخاً أيضاً، مع طبيعة الدور الوظيفي لليكان الصهيوني، في المنطقة... أي مع دوره كمولد للصراع، ومخفر حراسة متقدم لمصالح قوى الإمبريالية العالمية التي زرعته، في قلب الوطن العربي، ورسمت له دوره الوظيفي، قبل أن تجسده كياناً مادياً، على أرض فلسطين العربية..

وتصوره الآنف، يؤكد القناعة بأن ما يتوهمه أصحابه ومروجوه، هدفاً/ غائياً خطأ محض، فضلاً  عن كونه تقزيماً مرفوضاً لهذه الثورة العظيمة... ذلك أنه يحولها من كونها ثورة تحرير شعبية شاملة، إلى مجرد حركة تمرد، أو عصيان، الهمُّ المحرك للقائمين به، ليس إزالة الاحتلال، ككيان مادي يجثم فوق أراضيهم؛ وإنما، فقط، دفع سلطات ذلك الاحتلال، إلى تغيير نهجهم السياسي ضد أبناء الأرض التي احتلوها... وهذا، ما لا ينسجم، بحال، مع المعلن وغير المعلن، من أهداف الانتفاضة التي ما انفك ثوارها يؤكدون أن الدافع الأساس، لثورتهم هو رفض استمرارية الوجود الاحتلالي، فوق أرض وطنهم، بأي شكل وبأي صيغة، وليس الاحتجاج فقط، على ممارسات سياسته العنصرية ضدهم، بغية دفعه إلى العدول عنها... أي أن الهدف /الغاية لانتفاضتهم هو تحرير أرضهم وشعبهم، تحريراً كاملاً..

وبقدرته على استشعار حقيقة التوجهات والأهداف التي يناضل شعبه من أجل تحقيقها، انبرى الأديب الفلسطيني يفند هذا التصور الخاطئ الذي يروجه البعض، لدوافع الانتفاضة وأهدافها، ويؤكد أن ما يسمى." تعايشاً سلمياً" بين العرب واليهود، تحت مظلة الاحتلال ما هو إلا مجرد وهم. وإذا كان ثمة من يشكك في كونه وهماً، أو في طبيعته السرابية، فما عليه سوى أن يراجع، محللاً، ثوابت العلاقة التناقضية السائدة بين الطرفين، منذ الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي... هذه العلاقة التي تحكمها وتميزها معايير التفرقة العنصرية، وطبيعة الاستيطان الاحلالي للمشروع الصهيوني، والدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة... وغير ذلك من المعايير التي فرضت حتمية وقوف الفلسطيني موقف الضحية، ووقوف عدوه الإسرائيلي موقف الجلاد... أي فرضت حتمية استحالة تعايشهما بسلام فوق الأرض الواحدة التي يتنازعان عليها...

وبين ما أمكن الإطلاع عليه من قصص الانتفاضة، داخل الوطن المحتل، هناك قصة قصيرة واحدة عرض مؤلفها لموضوع (التعايش السلمي)، مؤكداً استحالة تجسده واقعاً.. وهذه القصة هي (الحاجز) لنبيل عودة، التي سبقت دراسة بعض محاورها، في الفصل الأول من هذه الدراسة...

فمن متابعة تطور أحداث القصة، وتحليل محتوى مضمونها، وحتى نماذج الشخصيات الرئيسة فيها، يتبين أن مؤلفها قد قصد قصداً، إلى محاولة نفي مقولة (التعايش السلمي) التي يروج لها البعض، من عرب ويهود... مؤكداً عبر النهاية التراجيدية التي ختم بها قصته، أن نفي هذه المقولة يمكن أن يُعد بين أبرز بنود رسالة الانتفاضة، لأنه المرادف الوحيد والمطلق لهدف هذه الثورة العظيمة، هدفها/الغاية المتمثل بالسعي إلى التحرير الكامل للأرض الفلسطينية وشعبها...

ولعل من المثير للإهتمام والإعجاب، في آن، محاولة نبيل عودة اقناع قارئه بموضوعية نفي تلك المقولة ومصداقيته، بأسلوب يعتمد الإيحاء بدل المباشرة، وذلك من خلال عرض الموقف (الهاملتي) المتردد لبطل قصته / الطبيب الشاب أحمد الذي وجد نفسه، فجأة، أسير حيرة قاسية، بين رغبته في تلبية نداء واجبه الإنساني، كطبيب، أمام حالة اسعافية يعانيها عدوه، وبين الاصغاء والإنصياع لصوت واجبه الوطني والقومي، كفلسطيني، في حالة حرب مع ذلك العدو المحتاج لنجدته الإسعافية... فقد عمد عودة إلى عرض هذا الموقف الصعب والحساس، في إطار حوارية، تدور بين بطل القصة ونفسه، في تلك اللحظة الحرجة.... لننصت إلى صوت هذا الحوار الصراعي الذي أداره المؤلف، على مسرح وعي بطله أحمد؛ بين نداءي واجبين، كلاهما جليل ومقدس...

"...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر، فشاهد الكابوي*  منبطحاً في منتصف الشارع ينزف دماً، ويكاد يكون بلا حراك... احتار بين أن ينطلق بسيارته مبتعداً أم يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دماً... واستمر أحمد في حيرته...

-هل أسعف ذلك الكابوي الثخين؟!

تردد مرة أخرى هذا السؤال. ورد على نفسه:

-إنه عدو حاقد..

-إنه مجرد إنسان ينزف.

-أنت ضعيف أمام منظر الدم البشري؟

-أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، ولكنه ينزف؟

-ليذهب إلى الجحيم.

-ليس ذنبه أنه وحش!!..مساعدة إنسانية قد تغيره.

-وهل يتحول الذئب إلى شاة؟

-لا تخلط..

-التلاميذ الجرحى بالشوارع... الدم المسفوك في المخيمات. أحذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم... أطفالنا المقتولون بلا رحمة...

-الوقت لا يسمح بالجدال... أسعفه وبعد ذلك نرى..

-هل كانوا هم يسعفونني، لو كنت أنا المصاب؟

-أنت طبيب... والطب مهنة إنسانية!

-ولكنني فلسطيني، والحديث هنا عن عدو... وليس مجرد عدو... أربعون سنة ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا!!

-كفى، كفى!!سنعالج قضية فلسطين فيما يعد. إنه ينزف ولا ننسَ أنه بشر مثلنا "إنسان!

-إنسان..؟ كم يضحكني هذا الوصف.

-الوقت لا يسمح للسخرية.. انقذ الإنسان الذي فيه..

-لوكان فيه بقية إنسان، لرفض الاحتلال. لرفض أن يمارس العنف ضد شعب مشرد أعزل.

-ليس ذنبه..

-وهل ذنبنا أننا نطالب بحقنا؟

-لا تفقد إنسانيتك. تذكر أن قوتنا في إنسانيتنا.

-أعرف... ولكني لا أستطيع أن أنسى أنه عدو شرس، لا يرحمنا... وما يحدث الان يثبت ما أقول..

-أنت طبيب، وهو مجرد جندي مأمور..

-بأي حق أساعد جندياً عدواً... ليقف مجدداً ويوجه سلاحه نحو شعبي؟!

-لو كان حل المأساة يتعلق بهذا الملقى ينزف دماً، لقلت لك ساعد على أن يموت، ولكن لا تنسَ الإنسان الذي فيه؟

-بأي وجه سألتقي زوجتي، بأي يدين سأرفع ابني... ماذا أقول لجيراني... ماذا أقول لمن ثكلوا عزيزاً عليهم..؟

-إنسانيتنا هي قوتنا، إذ فقدناها... فقدنا مبرر وجودنا، فقدنا مبرر دولتنا.

-وهل يصح لهم ما لا يصح لنا؟!

لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي.

-الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل!

-نتجادل فيما بعد... أنت طبيب، وهو ملقى ينزف دماً. لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام.

-أعرف ذلك، وأعرف أكثر أنه عدو لا يرحم يضحكه لون دمي، جراحي تزيد شراسته، وعذابي يثيره هزأ، وفلسطينيتي تثير أدنى مشاعر السادية في نفسه.

-الجدال الآن عقيم... تبقى حقيقة واحدة كبيرة. لن نسمح لأحد بأن يسرق منا إنسانيتنا، وأثبت ذلك الآن... أسعفه!( )

وينتصر نداء الواجب الإنساني، في القصة، فيسعف بطلها عدوه المصاب وينقذه من الموت... ولكن ماذا يكون جزاؤه على هذا الصنيع النبيل، هل حفظه له عدوه جميلاً، راح يتحين الفرص ليرده له بمثله أو بأحسن منه، أم كان جزاؤه، مماثلاً لما لقيه مجير أم عامر (الضبع) في التراث العربي؟

قبل الإجابة عن جملة هذه التساؤلات، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة مسوغين أباحا، في نظر الباحث، إيراد الحوارية السابقة، بنصها الكامل، على طوله... وأول هذين المسوغين: كون تلك الحوارية وحدة عضوية متماسكة، من الناحية الفنية، بمعنى أنها، بنيوياً، تبدو غير قابلة للتجزيء أو الحذف أو الاختصار. أما المسوغ الثاني، فيتمثل بكون مضمونها زاخراً بالعديد مما يمكن أن يضيء جانباً من فحوى رسالة الانتفاضة، على أكثر من مستوى... فهي إضافة إلى قدرتها الإيحائية الرائعة على إضاءة موقف الإنسان الفلسطيني من العدو الإسرائيلي العنصري، على المستويين الوطني والقومي، تمتلك، مضمونياً، قدرة مماثلة على إضاءة الموقف الإنساني لبطل الإنتفاضة... وهو الموقف الذي يعد واحداً من أبرز خصوصيات رسالة هذه الثورة، ومن أوضح السمات المميزة لفعالياتها كافة، على نحو ما سنلمسه، مفصلاً، في الفقرة التالية من هذا الفصل...

وعودة إلى وصل ما انقطع... إلى الإجابة المؤجلة عن التساؤلات الآنفة... عن الجزاء الذي ناله الطبيب الفلسطيني أحمد لقاء صنيعه الإنساني بعدوه..

في الواقع نجح نبيل عودة في بناء المفارقة الصارخة بين إنسانية الإنسان الفلسطيني، وبين عنصرية عدوه الإسرائيلي، وكان نجاحه في بنائها بطاقة عبور قناعته التي انطلق منها، كأديب، إلى قناعة قارئه وعقله... فعن طريق هذه المفارقة، ابتعد عن المباشرة في طرح قناعته باستحالة التعايش السلمي بين العنصري والإنساني، وبابتعاده هذا، ترك لقارئه حرية محاكمة الفكرة، وحرية الحكم عليها أيضاً... وذلك حين وضع أمام باصرته حدثاً مختاراً من صميم واقع الحياة التي يحياها الفلسطيني، في جو الاحتلال الإسرائيلي، وكابوسه العنصري المستمر...

فعلى الرغم من كل ما لاقاه الإنسان الفلسطيني، من عنت التمييز العنصري، على يد المحتل الإسرائيلي، بل في ذروة تعرض هذا الإنسان لممارسة القمع بحقه، ولاذلال كرامته، لم يملك، حين رأى مضطهده، ملقى على الأرض ينزف دماً، إلا أن يتخلى، ولو مؤقتاً، عن كراهيته لهذا العدو، والتعامل معه كإنسان، "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام"( ) ومن هذه الزاوية الدقيقة، في الرؤية، مدّ من كان قبل دقائق عرضة للإذلال والإهانة، مدّ يده لينقذ الإنسان الكامن في كيان عدوه..." أنقذ الإنسان الذي فيه"( )

وبانقاذه، أتم نبيل عودة الطرف الأول من معادلة المفارقة التي صمم بناءها باتقان...ثم جاء دور الطرف الثاني... دور رسم صورة ردّ الفعل الإسرائيلي، على نبالة الفعل افلسطيني وإنسانيته... كيما يضع القارئ أمام الحقيقة، وجهاً لوجه، دون أن يقولها له بصياغة مباشرة...

 

ففي نهاية القصة، يجمع واقع الاحتلال واستمرارية ممارساته العدوانية، بين الطبيب الفلسطيني وعدوه الذي أنقذه هذا الطبيب بالأمس القريب، في موقف مشابه.. أي أمام حاجز عسكري أقامه ذلك العدو للإيقاع بأبناء الأرض التي اغتصبها... ومن أعماقه الإنسانية الصافية، تهيأ للطبيب أحمد الذي كان يقود سيارته برفقة زوجته التي يحبها، أن (الكابوي) الإسرائيلي قد أمر جنوده بالسماح لسيارة الطبيب أن تعبر الحاجز دون تفتيش، كنوع من رد الجميل... وفي ذات الوقت الذي راح عقل الطبيب يحاكم هذا الرد على ضوء قناعاته الوطنية والقومية، ويرفضه ثمناً لصنيعه الإنساني السابق مع عدوه، "يرفض هذا الشكر والإعتراف بالجميل"،( ) لأنه يتنافى مع الدافع الإنساني الذي كان وراء انقاذه لحياة عدوه، عدوه الذي "لم ينقذه لأنه ضابط، بل لأنه إنسان"،( ) في ذات الوقت، ومن خلال الينبوع الإنساني الصافي المتدفق في أعماقه، لمح النقيض... عبر وجدانه كبرق خاطف مثير، أيقظه من سباحته في أوهام الطيبة والنقاء، ورده إلى قناعته التي كوّنها بتجربته المرة في معاناة الاحتلال، قناعته التي صاغها وعيه الوطني والقومي، في الحوارية السابقة سؤالاً حاداً، طرحه على ضميره الإنساني" وهل يتحول الذئب إلى شاه"؟( )

للوهلة الأولى، رفض ما خطر له، رفض تصديق ملامح الذئب الذي يتهيأ للإنقضاض على منقذ حياته، والتي رآها في وجه الضابط الإسرائيلي... رفضها متسائلاً بدهشة: "هل يعقل أن يكون الإعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل الحاقد؟ عقله يعجز أن يتصور ذلك."( ) لكن التصرف الوحشي الحاقد سرعان ما اضطر عقل الطبيب إلى التخلي عن عجزه، والصيرورة إلى القناعة بالبرهان الحسي، عما كان عاجزاً عن تصوره... كان ذلك، حين اخترقت سمعه " أصوات طلقات تخترق زجاج سيارته"( ) وفي لحظة رهيبة، تنتاب الإنسان الحائر بين التصديق والتكذيب لما يظنه، في تلك اللحظة التي تفصل بين التصور والحقيقة بإدراك الواقع الملموس، التفت الطبيب، لا إرادياً إلى الوراء، مستطلعاً مصدر النار، فإذا به يرى "الضابط إياه يقف أمام الحاجز، شاهراً مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية "( ) ولكي يكمل نبيل عودة إحساس قارئه بالصدمة الفاجعة، وإثارته بها، يضع إحدى تلك الرصاصات العنصرية الحاقدة، في رأس الزوجة المسكينة... "أثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما حدث، توسعت حدقتي* عينيه وصعق لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته.".( )

وهنا، في هذه اللحظة، تداعت كل الأوهام دفعة واحدة، في رأس الزوج المفجوع، الزوج الإنسان الذي أنقذ بالأمس حياة قاتل زوجته اليوم.. ومع تداعي الأوهام التي هيأت له بالأمس إمكانية صيرورة الذئب شاة، عبر معالجة ذئبيته بصنيع إنساني، انطلق خياله في رحلة مرهقة من التصورات التراجيدية، "فرأى طفله يركض وراء النعش ينادي بأقوى صوته "ماما"..

لغم ينفجر بالصغير فيرتفع عمود دخان. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي، يبحث عن طفله فلا يجد إلا بقية رجل بحذاء طفولي ممزق.".( )

وهربا من هذا التصور وأمثاله، وإيماناً قوياً بضرورة منع صيرورته واقعاً، بأي ثمن، يقرر أن يدق بنفسه، أول المسامير في نعش ذلك الذئب العنصري، وأن يسدل بيديه اللتين أنقذتاه يوماً، الستار على استمرارية هزلية قتل الفلسطيني مجاناً ... ففي واقع تسوده شرعة الغاب وقوانينه، لا مجال للتسامح، أو الطيبة، أو الإنسانية الزائدة مع الذئاب... لأن "الإنسانية الزائدة تتحول إلى هبل"( ) أحياناً..

ومن منظر زوجته المغدورة، وحيلولة دون أن يلقى ابنهما نفس المصير يوماً، نراه "يشغل موتور السيارة، ويأخذ المقود إلى أقصى اليسار، وينطلق بالسيارة مبعثر الذهن، دمه يسح على وجهه، نحو الحاجز، والألم يكاد يمزقه من الداخل، والضابط الكابوي أمامه.."( ) وإلى أين، ولماذا؟ عقله مشلول، عاجز عن الإجابة... الإجابة تصوغها الآن مشاعره المهتاجة، وألمه الفاجع، وترسمها على صفحة مخيلته المضطربة صوراً مرعبة... "طفله يضحك، ومع ضحكه يتدفق الدم... تعابير  عقيمة تتصارع في ذهنه، زوجته لا تزال تبتسم... وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي..."( ) ومحاولة يائسة منه لنفي هذه الخطيئة عن نفسه، لنفي الإحساس الرهيب بأنه السبب في قتل زوجته، ولجعل القاتل العنصري يدفع ما لا يتوقع دفعه من ثمن لجريمته" يضغط بقدمه على دواسة الوقود حتى يجعلها تلامس أرضية السيارة... يديه** تتسمران فوق المقود، ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط .. الكابوي الذي يلوك سجائره ... النظرات التي تحمل الكراهية خلقة..."( ) ويحصل اللقاء الوحيد المعقول والمنطقي بين الضدين... بين الإنسان الفلسطيني وعدوه العنصري..

وبهذه النهاية التراجيدية، يكون نبيل قد وضع أمام بصيرة قارئه وعقله، الطرف الثاني من المفارقة... ودون أن يقول له ما حدث بعد انطلاق بطله بالسيارة تجاه الضابط القاتل، يتركه، وكأنما عجز عن متابعة القص، لشدة حزنه وتأثره وانفعاله، يتركه ليحكم بحرية على ما يتوهمه البعض من إمكانية تعايش الذئب الإسرائيلي العنصري مع الإنسان الفلسطيني، تعايشاً سلمياً، ليصل -أي القارئ- بنفسه إلى القناعة باستحالة تجسد هذا الوهم واقعاً.

بتعبير آخر، نجح نبيل عودة، من خلال عرض الموقف الإنساني لبطل قصته، ومن خلال عرض رد الفعل الإسرائيلي النقيض على هذا الموقف، ومن توظيف العرضين في سياق حدثي معقول ومتماسك، نجح في تفجير مقولة (التعايش السلمي) كاحتمال ممكن، وفي دفعها إلى حدود المستحيل، مهما يكن الإطار السياسي المقترح لتطبيقها.

وعلى خلفية افتراض صحة القناعة باستحالتها، يمكن قراءة عنوان القصة، على مستويين: ظاهري ورمزي... على المستوى الظاهري، البسيط والمباشر، لا تتعدى دلالة العنوان الحاجز العسكري الإسرائيلي الموصوف، في القصة، شكلاً وأهدافاً... أما على المستوى الرمزي، فيصبح ذا دلالة أبعد وأعمق... إنه الحد الفاصل والثابت بين المعتدي والمعتدى عليه، بين العنصري والإنساني... وبالتالي فهو حاجز قوي بين ضدين... حاجز مادي ومعنوي في آن معاً..

وبالطبع، سيظل هذا الحاجز قائماً بينهما، ما دام وجود أحدهما يشكل عدواناً مادياً مستمراً على وجود الثاني، وهضماً لحقوقه المشروعة، ونكراناً ونفياً لحريته وإنسانيته... وبالتالي، فإن الحالة الوحيدة التي تسمح بزوال هذا الحاجز، هي زوال حالة العدوان أولاً... أي تحرير الأرض الفلسطينية من غاصبها... أما لقاء الضدين تحت مظلة استمرارية العدوان، فلا يمكن أن يتمظهر على شكل تعايش سلمي، وإنما على شكل صراع عنيف، وهو ما انتهى نبيل عودة إلى تأكيده في خاتمة قصته، ليؤكد من خلاله لا معقولية السلام بين الذئب العنصري والإنسان...

 

 

 

الانتفاضة... ثورة إنسانية...

 

من أي نواحيها نظرنا إليها وتمعناها، باحثين ومحللين، نخرج بقناعة ثابتة تؤكد أن الانتفاضة ثورة إنسانية، بكل ما تحمله كلمة (إنسانية) من معنى... فهي إنسانية في منطلقها وبواعثها؛ إنسانية في أهدافها وغاياتها... وإنسانية حتى في أساليب ممارسة أبطالها لفعلهم النضالي اليومي..

وبالطبع، لا يمكن اتهام هذا التوصيف بأنه من قبيل المبالغة التي قد يوحيها إنسياق الباحث العربي وراء مشاعره القومية، ذلك أنه -أي التوصيف- يستمد مصداقيته وموضوعيته وقوة اشعاعه، كحقيقة وواقع من استقراء سيرورة وقائع الانتفاضة وأحداثها، منذ انطلاقتها وإلى اليوم..

فمن ناحية البواعث، واستناداً إلى ما تقدم في الفصل الأول، وعلى ضوئه؛ نلاحظ أن انطلاقة الانتفاضة جاءت، بالدرجة الأولى، تعبيراً عن رفض الإنسان الفلسطيني لاستمرارية وجود المحتل الإسرائيلي فوق الأرض العربية، بأي شكل، وتحت أي ذريعة... أي كانت الانتفاضة تعبيراً عملياً عن الرغبة الفلسطينية الكامنة والمصممة على تحقيق الحرية للأرض الفلسطينية، وللإنسان الفلسطيني، في آن واحد معاً... هذه الرغبة التي ولدت لحظة وضع المحتل قدمه فوق الأرض العربية، معلناً اغتصابه القسري لها...

وبالتأكيد، ليس ثمة من يستطيع الزعم بأن سعي الإنسان، أي إنسان، لتحرير أرضه من غاصبها، وتحرير نفسه من نير هذا الغاصب وسيطرته وممارساته، يعدّ سعياً لا إنسانياً.. ذلك أن الحرية، وبأي المعايير قيمناها، هي مطلب إنساني مشروع ومسوغ... وكيف لا، والحرية تعني قضاء على الظلم والاضطهاد، وخلاصاً من كابوس القهر الذي يجثم على صدر من يتعرض لهما ولما يدفعان إليه من ممارسات، يتناقض، حتى أهونها، مع أبسط حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية؟ كيف، وعلى الصعيد الفلسطيني تحديداً، تعد الحرية الشرط الأول والأخير والوحيد، لاعادة اللحمة إلى الكيانية الفلسطينية المتشظية، والمبعثرة هنا وهناك، في شتى  بقاع الأرض...؟ وهل يمكن للشعب العربي الفلسطيني أن يمتلك القدرة على تقرير مصيره بنفسه، أو أن يحقق حلمه بإقامة دولته المستقلة على كامل تراب وطنه، إلا إذا نجح أولاً، في تحرير هذا التراب تحريراً كاملاً، يتيح له لملمة شظاياه المبعثرة، وإعادة تركيب كيانيته من مجموعها...؟

من هذا المنظور المحدد، وحسب معاييره، تبدو بواعث انطلاقة الانتفاضة ودوافعها، ذات اتجاهات وأهداف إنسانية واضحة، لا لبس فيها... ومن هذا المنظور المحدد أيضاً، طرحها نبيل عودة في قصته الرائعة (الزمن الجديد)( )، مؤكداً هويتها كثورة إنسانية مشروعة، تستمد مسوغات انطلاقها واستمرارها، من كونها محاولة لتجسيد تطلع الإنسان الفلسطيني إلى تغيير واقعه المأساوي القاسي الذي عانى فيه، ما عانى، من عيش باهظ مرهق، خلال عشرين سنة، في ظل الاحتلال الإسرائيلي العنصري، بواقع آخر جديد، أهم ما يميزه هو كونه نقيض واقع الاحتلال الذي انطلق منه، في المعطيات والسمات والآفاق، على حد سواء...

ويقدم نبيل رؤية الفلسطيني الخاصة لواقعه الجديد المأمول، عبر شريط الحلم الذي يكبر في نفس أحد أبطال القصة أمنيات، ولهذا نراه يسلط الضوء على مخيلة هذا البطل، ليمكننا من قراءة ما يتشكل على صفحتها... " كان يحلم بزمن مختلف يخلص الإنسان من غربته، ينقذه من وحشته... زمن يعطي للثمر طعمه الحقيقي، وللكلمة وقعها الصحيح، وللحب معناه الإنساني الأصيل. فيه تنتهي المعاناة وتمتد السعادة. يتضاءل القهر وتفيض النشوة."( )

بشيء من الجرأة، يمكن الزعم أن هذا الحلم الطيب البسيط والعادل هو وإلى حد ما، الجانب الأكبر من الوجه الإنساني للانتفاضة، وهو أساس رسالتها... وانطلاقاً من مفردات هواجسه، يبدو واضحاً أن الإنسان الفلسطيني لم ينطلق في ثورته، يطلب مستحيلاً، أو يسعى إلى هدف غير مشروع... بل انطلق طالباً أبسط حقوقه كإنسان... انطلق حالماً بالخلاص من كابوس غربته ووحشته، وراجياً عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية في حياته... كيما يتمكن من تذوق الطعم الحقيقي للثمر في فمه، وكيما تلتقط أذناه الوقع الصحيح للكلمات... انطلق ليشعر بالمعنى الإنساني للحب في قلبه المتعب... انطلق جائعاً للسعادة والفرح اللذين حرمته منهما قسرية معاناته للقهر في ظل الاحتلال...

إن مجمل هذه الأهداف /الرؤى، هي بواعث الثورة الفلسطينية الحالية، وهي، في نفس الوقت، نقيض بواعث الإسرائيليين في سعيهم الهستيري الرامي إلى قمعها والقضاء عليها... إن ثمة توحداً مثيراً، يقدمه نبيل عودة، في المقطع الآنف بين الباعث والهدف في نفس الفلسطيني... وهو توحد يعطي لثورته دفقاً رائعاً، وقدرة مذهلة على الاستمرار، على الرغم من كل الصعاب والعوائق.. لأنها، في نظره، ثورة الإنسان لاستعادة إنسانيته، ولرفض كل ما من شأنه محاولة إلغاء هذه الإنسانية أو تحطيمها..

ولكم تتأكد إنسانية هذه الثورة، وتزداد ألقاً وروعة، حين نتمعنها من زاوية السلاح الرئيس لأبطالها... هذا السلاح البسيط والبدائي جداً، ما كان يمكن له أن يكون فعالاً ومجدياً في مواجهة أعقد أنواع الأسلحة الحديثة، وأكثرها تطوراً وقدرة على الفتك، لو لم يكن معبأ بإرادة إنسانية صادقة، همها الرئيس أن تعيد للسماء زرقتها وشمسها، ولعيون الأطفال ألقها وحيويتها وإنعكاسات الاطمئنان والحبور في نظراتها... لم يستورد الإنسان الفلسطيني سلاحه هذا من الدول الصناعية المتقدمة، ولم يصنعه من مواد لا حب فيها، بل أخذه جاهزاً للإستعمال من الأرض التي أحبها، ويسعى إلى تحريرها من غاصبها وظالمه... حتى ليتهيأ للوهم أحياناً، أن هذه الحجارة الرائعة ليست سوى قلب الأرض الذي فتتته همجية الغاصب، فانتثر على السطح، فحمله ابن الأرض سلاحاً وقرر به، وبه وحده، إعادة الأمور إلى نصابها... والأفلاك التي تاهت سنين إلى مداراتها الأصلية... وعبر هذه الرؤية تتوحد الانتفاضة /الثورة ... ثورة الأرض وإنسانها، في كلّ لا يتجزأ...

ولعل من المثير حقاً، ثقة الإنسان الفلسطيني بجدوى حجارة أرضه كسلاح فعال، وبقدرة هذا السلاح على هزيمة البنادق والقنابل وغيرها، أي على انتزاع النصر... ويمكننا استشفاف هذه الثقة عبر متابعة ما يعرضه شريط الأمنيات على مخيلة /وليد/ أحد أبطال قصة (الزمن الجديد)

ففي لحظة استشراف للمستقبل المرتجى، يرى هذا الطفل الفلسطيني نفسه، وقد صار طاعناً في السن، يجلس بين أحفاده، ليقص عليهم معجزة النصر الذي صنعه جيله بحجارة الأرض... "عندما يبلغ من العمر أعتاه ويجلس مع أحفاده، سيحدثهم عن أيام زمان. حاول أن يصغي لصوته. أن يكون فكرة عن هيئته عجوزاً طاعناً يحدث أحفاده عن زمانه الكبير السابق، يوم صار الحجر أسلوباً سياسياً."( )ومن اللامعقول الذي صيرته إرادة التحرير الصلبة، في نفس الفلسطيني، معقولاً، ينطلق خيال وليد في محاولة لإضاءة المعجزة، "ثورة حجارة في عصر الفضاء. ينظر إليه الأولاد مشدوهين بحديث العجائب، غير قادرين على التصديق، محاولين استخراج الحقائق من جدهم الذي تعتعه الكبر. ولكن الجد يبتسم، ويهز رأسه متأملاً أحفاده، قائلاً بصوته الخشن،

-الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر."( )

هذا هو العنوان الإنساني لهذه الثورة الشعبية الجبارة... إنها ليست إرهاباً أو عصياناً، أو فوضى وعدوانية متطرفة، كما يصفها أعداؤها، وإنما هي حوار، ولكن بلهجة أخرى وأسلوب آخر... وحتى حين يثور القلق في نفس وليد الصغير سؤالاً حول جدية الحوار بالحجارة وجدواه، وحول واقعية المواجهة بين الحجر والبندقية أو القنبلة، ما يلبث أن تزيل ثقته.بحجارته ما ثار في نفسه من قلق عابر... "والذي لا يفهم بالحجر؟ احتار بعض الشيء... وفكر في السؤال الذي طرحه على نفسه، ثم اشرقت ابتسامة خجلى على وجهه، وتمتم نفسه مجيباً نفسه على سؤاله: سيفهم بالمزيد من الحجارة.".( )

وهذا الاصرار على بلوغ النصر بالحجارة وحدها، يفتح المجال أمام إشراقة إنسانية الانتفاضة، ورؤيتها من زاوية ثالثة، هي زاوية موقف الثائر الفلسطيني /الإنسان/ من عدوه العنصري  ومحتل أرضه... وهو الموقف الذي عرضنا الجانب الأكبر منه، في الفقرة السابقة من هذا الفصل...

فمن خلال إعادة القراءة للحوراية التي أدارها نبيل عودة على مسرح وعي بطل قصته (الحاجز)( )، بين ذلك البطل ونفسه، في لحظة صراع فريدة وحرجة بين نداء واجبه الإنساني، كطبيب، تجاه جريح ينزف دماً، ويجب اسعافه، وبين نداء واجبه القومي والوطني، كفلسطيني، يعد هذا الجريح عدواً له وغاصباً لأرضه من خلال هذه الحوارية، والموقف (الهاملتي) الذي تجسده، ومن خلال إصرار /وليد/ وغيره من ثوار الانتفاضة على أن يكون الحجر سلاحهم الوحيد لتحقيق أهداف ثورتهم، يمكننا إضاءة إنسانية الموقف الفلسطيني، وإنسانية الرسالة الثورية المبنية عليه والمنبثقة منه، أكثر...

إن أبطال هذه الثورة، لم يخرجوا مقاتلين بحجارة أرضهم انتقاماً، وإنما رغبة في التغيير... وبالتالي فليس هدفهم القتل وإنما الدفاع عن أنفسهم، وعن أجيالهم القادمة، من التعرض للقتل، بسبب وبدون سبب على الغالب.. وإذا كان ثمة ما يؤكد هذا التوصيف، فهو موقفهم من عدوهم الساعي إلى قتلهم حين يتمكنون منه، وقد فقد حوله وقوته، بوقوعه جريحاً، أوأسيراً في أيديهم...

ففي مثل هذه الحال، لا نراهم يحاولون قتله، تشفياً وانتقاماً، بل على العكس، يعزفون عن استغلال فقدانه القدرة على حماية نفسه والدفاع عنها، ويتعالون عن الإضرار بمن غدا عاجزاً عن إلحاق الضرر بهم... لا، بل أكثر من ذلك، نراهم- كما في قصة (الحاجز)، يمدون له يد المساعدة، ويحاولون انقاذه، دافعين عنه كأس الموت التي كان يريد تجريعها لهم... كل هذا من فيضان نبع الحب الإنساني وطهارته ونقائه في قلوبهم.. فبمجرد فقدان هذا العدو لقدرته على مواصلة العدوان، يتحول، في نظرهم، إلى مجرد إنسان... إنسان "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام..."( ) ولهذا، لا يرون كبير ضير في إنقاذه.... ولا يشعرون، لحظتذاك، بأي تناقض بين موقفهم الوطني والقومي وما يحتمه عليهم تجاهه، كعدو، وبين مشاعرهم الإنسانية تجاهه أيضاً، كجريح ينزف... "أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، لكنه ينزف."( )

إنه امتزاج عميق ورائع بين مشاعر قوية... امتزاج بين الوطني والقومي والإنساني، في إطار رؤية نبيلة وشاملة، رؤية تمتد جذورها عميقاً في أرض التاريخ العربي والرسالة العربية الإنسانية التي حرمت على جدّ هذا الفلسطيني الثائر اليوم، أن يتعرض لامرأة أو شيخ أو طفل أوأن يقتل جريحاً أو مسالماً، أو يقطع شجرة، مع أن ذلك الجد العظيم لم يكن، وقتها، في موقع المستضعف، بل في موقع الفاتح المالك لكل مقدرات القوة والبطش...

نعم، فمن صلب هذه الفلسفة، من معين هذه الرؤية النبيلة، حددت الانتفاضة هدفها وموقفها تجاه عدو الإنسان الفلسطيني وأرضه، وحددت ما تريده من هذا العدو، بشكل واضح... إن فعالياتها تتجه رأساً إلى محاولة تحطيم عدوانيته، وإلى القضاء على ممارساته العنصرية اللاإنسانية، إلى قتل الذئب الكامن فيه... أي إلى محاولة القضاء على وجود الاسرائيلي كمحتل للأرض ومضطهد لانسانها، وليس إلى محاولة القضاء على وجوده كإنسان... بل، وربما ليس في هذا أي مبالغة، يمكن القول: إن الانتفاضة تدافع عن الإنسان في نفس الإسرائيلي، وتحاول أن تنقذه من براثن ذئبيته العنصرية، حين تحاول منعه من ممارسة هذه الذئبية ضد الإنسان الفلسطيني..

وهذا كله يعني: أنه لا يجوز، بحال من الأحوال، النظر إلى الانتفاضة كعدوانية مضادة لعدوانية المحتل العنصري، بل كثورة إنسانية هدفها التصدي لتلك العدوانية وتعطيلها، والحيلولة بينها وبين بلوغها ما تهدف إليه، وذلك عن طريق وصول هذه الثورة إلى هدفها الاستراتيجي الأخير، إلى تحرير الفلسطيني وأرضه...

 

 

الدعوة إلى الشمولية..، ورفض المحايدة...

 

بين أبرز ما ركزت عليه الانتفاضة، في رسالتها، تلك الدعوة الدائمة والملحة التي تحث أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في الوطن المحتل، على ضرورة مشاركتهم جميعاً، بمختلف فئاتهم وطبقاتهم ومستوياتهم، في فعاليات الثورة ضد الوجود الاحتلالي الإسرائيلي، وممارساته العنصرية... وهي تحثهم على المشاركة، سريعاً، في هذه الفعاليات، مهما تكن الظروف المحيطة بكل منهم قاسية وصعبة... إذن، هي دعوة ترمي إلى توسيع نطاق الثورة وممارسة فعالياتها، لتكون نتائجها أبعد تأثيراً وأكثر عمقاً وأسرع في تحقيق الأهداف المرجوة...

ولدى تلمس آثار هذه الدعوة، في مضامين المتوفر من قصص الانتفاضة نلاحظ أن من أشار إليها، من مؤلفي تلك القصص، داخل الوطن المحتل، قد ضمن إشارته إليها، في سياق معالجته لموضوع رفض المحايدة، ولم يعمد إلى إفراد تلك الإشارة في محور مستقل، بين ما يشتمل عليه مضمون قصته من محاور أخرى... ولذا، وتقيداً بالنصوص القصصية المختارة للمناقشة، في إطار هذه الدراسة، وتوازياً مع طرائقها في طرح الموضوعات، ستتم مناقشة هذه الدعوة إلى شمولية المشاركة في الانتفاضة، في سياق مناقشة الدعوة إلى رفض المحايدة..

والدعوة إلى رفض المحايدة مصدرها -إذا صح التخمين- الاعتقاد بأن لا محايدة في زمن الثورات الشعبية الضخمة التي يهدف مفجروها إلى إحداث انعطافات حادة وحاسمة، في المسارات المألوفة والسائدة لحياة ابناء شعبهم كافة. ذلك أن ماينجم عن هذه الانعطافات من نتائج ومتغيرات، لا ينحصر تأثيره في المجالات الحياتية للذين شاركوا في فعاليات الثورة فحسب، بل يمس ذلك التأثير المجالات الحياتية لسائر فئات الشعب وطبقاته، على مختلف المستويات والصعد، ودون استثناء...

ومن هذه الزاوية المحددة، في الرؤية، لا خيار لأحد في أن يتخذ موقفاً محايداً، إزاء صراع تمسه النتائج التي سيسفر عنها، شاء أم أبى... وبالتالي، يبدو أن لاذريعة يمكن أن يسوقها المستنكف عن المشاركة في الفعل الثوري، كمسوغ مقبول لعدم مشاركته، لأنه، في النهاية، معني بنتائج هذا الفعل، ايجابية كانت أم سلبية...

وتأسيساً على افتراض صحة الرؤية السابقة، وانطلاقاً منه، يمكن القول إن المحايدة، كموقف، ليست سلبية فقط، كونها هدراً مجانياً لجزء كبير من الطاقات التي تحتاجها الثورة، أي ثورة، في اندفاعها نحو أهدافها، بل هي أيضاً، محاولة هروبية لا مجدية في مجال توفير النجاة، لمن يلتزمها موقفاً، من أذى العدو وعسفه وإرهابه... وسبب عدم جدواها، في هذا المجال، واضح وبسيط جداً، يتمثل في اختفاء المناطق المحايدة بين أي طرفين يخوضان صراعاً مصيرياً، يهدف كل واحد منهما، في نهايته، إلى تحطيم إرادة خصمه وقواه، تحطيماً كاملاً .. ذلك أنه من البدهي، في الأجواء والمناخات التي تسود صراعاً كهذا، أن يصير أفراد كل طرف، دون استثناء، أعداءً، في نظر أفراد الطرف الاخر سواء من يشارك منهم في فعاليات الصراع وأحداثه، ومن لا يشارك.. ومصدر هذه النظرة، وخصوصاً عند الطرف المستهدف بالثورة، هو القناعة التي تتشكل في وهمه يقيناً، بأن محايد اليوم هو احتمال ثائر لم يتحرك ضده بعد، لهذا السبب أو ذاك... أي هو رصيد احتياطي كامن من الطاقة المعادية له... ولذا، فإن البطش به وتحطيمه قبل انتقاله من وضعية الكمون، إلى وضعية الحركة والفعل، تعد ضرورة، تمليها حاجة هذا الطرف إلى تقليص حجم الطاقات المعادية له، الكامنة والفاعلة، على حد سواء، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

وبعد، فإن الدعوة إلى رفض المحايدة، وتركها إلى المشاركة في فعاليات الثورة، وصنع شموليتها، كانت محوراً رئيساً لاثنتين، من قصص الانتفاضة التي توفرت امكانية الإطلاع عليها وقراءتها... وكلتا القصتين تناولتا هذه الدعوة، وأشارتا إليها، من زاوية رؤية واحدة، تقريباً، هي كون المحايدة موقفاً لا يحمي صاحبه من أذى العدو، ولا يجنبه احتمالات التعرض للممارسات العنصرية اللاإنسانية التي ينهجها هذا العدو ضد الفلسطينيين، دون تمييز بين ثائرهم ومحايدهم...

في أولى القصتين، وهي بعنوان (اسحب تربح)( )يقدم لنا مؤلفها صبحي حمدان، بطلها الصغير جوالاً في الشوارع والأزقة الضيقة، يبيع أوراق اليانصيب في الصباح، والترمس في المساء، منصرفاً بكليته إلى المشاركة في تأمين لقمة عيش أسرته، بعد أن استقال أبوه من عمله في سلك الشرطة، استجابة وتلبية لنداء قيادة الانتفاضة... وهذا يعني أن الذريعة التي سوغ بها لنفسه الاستنكاف عن المشاركة في الثورة، ذريعة ذات طابع اقتصادي /معيشي، ترتكز على حاجة حياتية يومية لا يمكن تجاهلها...

لكن اختياره البقاء خارج دائرة الصراع المحتدم، والاستغراق في البحث عن اللقمة، لا ينجيه من احتمالات التعرض لعدوانية قوات الاحتلال الإسرائيلي التي لا تفرق بين فلسطيني وآخر، لأنها لا تتعامل مع الفلسطينيين حسب نوعية مواقفهم، وإنما حسب هويتهم الواحدة المشتركة... وعلى هذا، وجد الصغير نفسه، وعلى غير توقع، هدفاً لرصاصات المحتل، الحية والمطاطية...

كان ذلك حين قاده قدره إلى شارع مستهدف من قبل قوات الاحتلال التي راحت تتعقبه، كونه الوحيد الذي رأته في ذلك الشارع الخالي، آن عبورها فيه، ودون أن يحاول أيّ من أفرادها استبانة موقفه، محايد هو أم ثائر... "ووجد أن خطاه قد قذفته إلى شارع رئيسي، الشارع خالٍ. زاد ضغط أصابعه على الورقة بشكل غريزي، أسرع الخطا، قاصداً الولوج إلى أول زقاق، هدر صوت عربة فجأة، أسرع أكثر "بو، بو" سمع زعيقاً فجأة فأسلم ساقيه للريح لم يدر كيف، أو إلى أين جرى. ولم ينتبه إلى صوت الرشاشات وذخائرها الحية والمطاطية تتعقبه، كل ما انتبه إليه أنه دخل أول بيت صادفه، وأن ربة البيت هي أول من قابله، والتي استوعبت كل شيء في لمح البصر، فاقتادته إلى إحدى الغرف وأحضرت له قميصاً وبنطالاً، وقالت له: خذ، بدل ثيابك، واجلس مع الأولاد."( )

وهنا، في هذا البيت الفلسطيني الذي استقبلته ربته، مدركة سبب لجوئه إلى بيتها هارباً، بدأ الصغير يدرك خطاً موقفه، كمحايد، ولا جدواه، بعبارة أدق، بدأ يدرك أن لا وجود لأي مناطق محايدة على أرض الصراع الدائر بين أبناء شعبه ومحتل وطنهم... فكما لم تميز قوات الاحتلال، حين طاردته، بينه وبين أي فلسطيني آخر، ولم تحاول استبانة موقفه مما يجري، محايد هو أم ثائر، كذلك فعلت صاحبة البيت الذي لجأ إليه... فقد استقبلته، وراحت تبذل كل ما بوسعها لحمايته، على الرغم مما قد يجر إليه تصرفها هذا من مخاطر على بيتها وأهله، وذلك لمجرد كونه طفلاً فلسطينياً... فهي أيضاً لم تسأله عن موقفه، بل لم تحاول أن تسأله حتى عن سبب هربه ومطاردة عسكر الاحتلال له...

وقد كان المؤلف موفقاً، حين جعل اشراقة الإدراك التي أضاءت وعي الصغير بالحقيقة، تبزغ من خلال ذلك الحوار القصير الموحي الذي أداره بين ذلك الصغير وصاحبة البيت، وهما في ذروة الاحساس بالقلق والخوف من احتمال مداهمة عسكر الاحتلال للبيت... فبعد أن خلطته تلك المرأة الرائعة بأطفالها، تحسباً لاحتمال أن يميزوه، فيما لو داهموا البيت، وأن يقتادوه معتقلاً، ظل القلق عليه يساورها، وخصوصاً حين التقطت آذانهما" أصوات الدربكة مختلطة بتكسير أبواب وشتائم بذيئة، وكان ثمة صليات إطلاق نار تأتيه واضحة من بعيد يتخللها أصوات اطلاق قنابل الغاز اللعين..( ) عندها، خطر لها، زيادة في الحيطة والحذر، أن تجعله يبدو مريضاً طريح الفراش... وما كاد هذا الخاطر يستقر في وهمها كمخرج مضمون لنجاة الصغير، حتى بادرته بلهجة آمرة: "اسمع، نَمْ في الفراش وادع المرض.".( )

قالت له ذلك، وهي تعتقد يقيناً أنها إنما تحمي ثائراً، وأن مساعدتها له على النجاة من الاعتقال، إنما هو جزء من صميم واجبها كفلسطينية... لكن هذا الاعتقاد ما لبث أن انكشف متحولاً إلى شك استنكاري، حين فاجأها الصغير، مستغرباً ما تحيطه به من أسباب الحيطة والحماية، قائلاً" باحتجاج رقيق: لكن لم أفعل شيئاً."( )

وبالطبع لم تغيرّ معرفتها لهذه الحقيقة المؤسفة والمخيبة، من موقفها تجاهه شيئاً، إلا أنّها لم تملك نفسها من توجيه السؤال الاستنكاري له: "ولماذا هربت إذن؟ تساءلت بشك."( ) وكان هذا السؤال كافياً لوضع الصغير على أول مدارج الوعي الصحيح... فقد قادته بسؤالها المتشكك إلى إعادة حساباته  كلها... حقاً، لماذا هرب من الشارع، ولماذا يختبئ هنا خائفاً متدارياً، إن كان لم يفعل شيئاً، كما يقول ويعتقد؟

ويأتي الجواب عفوياً، متضمناً اشراقة الإدراك لخطأ المحايدة، في زمن المواجهة الشاملة.. يأتي مؤلفاً من كلمتين فقط، تسيلان على لسانه، كمحصلة للمحاكمة السريعة التي أجراها، بينه وبين نفسه، لموقفه المحايد، ولموقف المحتل منه ومن أمثاله، فينطقهما، وكأنه مازال يتحدث مع نفسه: "إنهم لا يميزون"( ).

ويكون إدراكه لهذه الحقيقة بداية رحلة تحوله من المحايدة إلى الثورة... فما داموا لا يميزون، لماذا يختار أن يكون سلبياً، في موقفه منهم...؟ لماذا لا يقتدي بهذه المرأة التي استقبلته وحمته، معبرة بتصرفها الرائع هذا عن تضامنها مع ثورة شعبها الذي تلاحم معظم أفراده مع بعضهم، وصاروا كلاً واحداً وكياناً متجانساً، في مواجهة عدو لا يميز بين ثائرهم ومحايدهم...؟

وتأتي الأحداث التالية لتؤكد قناعته بصحة تحوله إلى مشروع ثائراً، أو إلى ثائر محتمل... فما كاد يصل إلى بيته بعد مغادرته لبيت المرأة التي حمته، حتى فوجئ بخبر اعتقال أخيه (جميل)، وغياب أبيه المثير للقلق... وكان هذان الخبران كافيين لتسريع مبادرته إلى الانخراط والمشاركة في فعاليات الانتفاضة... وهذا ما حصل فعلاً...

ففي "صباح اليوم التالي15 أيار، يوم الاضراب والمواجهة، كان يقف عند ناحية الشارع الرئيس مشرفاً على مفترق طرق حساس، مستكشفاً الأطراف البعيدة والقريبة، ممسكاً بين أصابعه الغضة ورقة السحبة، محولاً عينيه بين الحين والحين صوب الشباب المتأهبين على حذر، ليسمعوا نداءه العصفوري الحاد منذراً أياهم على أي خطر أو مفاجأة، يتردد مموسقاً في جنبات الشارع المقفر من السابلة، ويسمعه القاصي والداني.. اسحب تربح..."( )

وبهذا التحول، يكون قد تمّ الإعلان، في خاتمة السياق الحدثي للقصة، عن ميلاد ثائر فلسطيني جديد... وهو تحول فذّ، على الرغم من عجز صياغته الفنية عن مطاولة دلالاته، وعن الايحاء بكامل أبعاده... وبسبب توصيفه بـ "الفذ" ما يوحي به من مزج بارع بين الثورة السياسية للفلسطيني، ببعديها: الوطني والقومي، وبين ثورته الطبقية... فكما هو ملاحظ من بناء خاتمة القصة، لم يلغ انتماء الصغير إلى الثورة ومشاركته في فعالياتها، عزمه على مواصلة السعي من أجل المساهمة في تأمين لقمة العيش لأسرته، وخصوصاً بعد اعتقال اثنين من معيليها الرئيسين، هما: والد الصغير وأخوه... بل العكس هو ما حدث... فقد تحول النداء الذي كان يطلقه بطل القصة، في بدايتها، من مجرد نداء لترويج ما يبيعه، إلى نداء موظف في خدمة فعاليات الانتفاضة واهدافها... أي إلى تلك الشيفرة التحذيرية التي تنبه الثوار إلى اقتراب قوات الاحتلال من مكامنهم... وهكذا، صار نداء مزدوج المغزى والهدف...

وفي سياق حدثي مختلف، وصدوراً عن نفس القناعة التي انتهى إليها بطل قصة (اسحب تربح)، يطرح القاص الفلسطيني سمير رنتيسي موضوع رفض المحايدة، ولا جدواها كموقف، في قصته القصيرة (حوار مع النورسي) ( )التي صاغ حوارها بالعامية الفلسطينية، ظناً منه أن اللهجة العامية تكسب أحداث قصته وطروحاتها طابعاً أكثر واقعية، وأكثر قدرة على التأثير في متلقيها...

وكما في قصة (اسحب تربح)، نلاحظ أن بطل قصة (حوار مع النورسي) هو طفل فلسطيني من الوطن المحتل، لا يتجاوز الحادية عشرة من العمر... وهذا الطفل الذي يدعى (عماد)، ليس محايداً كبطل القصة السابقة، بل هو ثأئر مقتنع بالثورة حتى الشهادة.. ومن هذه القناعة، وعلى خلفيتها، ينطلق في تعليله لرفض موقف المحايدة إزاء ما يشهده شعبه ووطنه من أحداث كبيرة ومصيرية... وعماد هذا لا يتوجه بخطابه المعلّل لضرورة مشاركة كل فلسطيني في الانتفاضة، إلى فلسطيني مثله، وإنما كما يوحي سياق القصة - إلى صحفي أو إلى محقق إسرائيلي كان يستجوبه...

فحين يسأله محدثه، وكأنه يستغرب إقدام طفل بعمر عماد على تحدي جنود كالذين في الجيش الإسرائيلي. "ليش كنت تسب وتضرب حجار عالجيش؟"( ) تنتقل حالة الإحساس بالاستغراب، إلى الصغير عماد، وذلك عندما يفتش في تلافيف عقله عن سبب منطقي واحد يدعو ذلك الرجل إلى طرح هذا السؤال عليه، فلا يجد...

فحسب قناعات هذا الثائر الطفل، وحسب المنطق الذي تغذى به عقله، يبدو بدهياً، أن يرد المرء على من يتحرش به، معتدياً، بما يمكن أن يدفع عنه هذا العدوان، ويحول دون تكراره... فإن لم يستطع، فلا أقل -وهذا أضعف الإيمان- من أن يرد على المعتدي بشتيمة، أو حجر يقذفه به، مؤكداً بذلك حرصه على كرامته، واستعداده للدفاع عنها، وإن لم يكن بقدرته الدفاع عن وجوده... أما أن يستسلم للإعتداء، ويتقبله ذليلاً، ثم ينسحب مجرجراً شظايا كرامته التي أهدرها عدوه، دون أن ينم عنه أي رد فعل من أي نوع، فهذا ما لم يجد ما يسوغه، ويدعو إلى القبول به، بين كل المبادئ والقيم التي ربي عليها...

ولهذا، وانطلاقاً من هذه المبادئ والقيم، نرى معالم وجه الصغير تحتد، لدى سماعه سؤال محدثه، وتبدو عليه العصبية يركز نظرته نحو الرجل وينطلق صوته حازماً لا تحشرجه البحة..."( ) ليشرح في دفاعه عن أسباب محاجرته لعسكر الاحتلال، وليسوق بين يدي هذا الدفاع، كل ما يعتقده اعتقاد اليقين، تعليلات لا تقبل الجدل، لاصراره على الاستمرار في محاجرتهم، حتى ولو كلفه إصراره على ذلك، أن يدفع حياته ثمناً... يقول عماد، راسماً، بكلماته العفوية البسيطة، دهشة المفاجأة على وجه الرجل الذي سأله:

"ليش لأ..؟ آه ليش لأ..! يعني أنا قبل شهر كنت في الحارة.. أجوا.. واحد منهم طب علي... ضربني على وجهي... قال إنه أنا ضربت حجار... والله يومها طوله كنت ألعب بنانير... ما ضربت ولا حجر... بعدها دعس على أصابع رجلي بالبسطار... شوف.. اصبع رجلي... شوف. من يومها ما بقدر أحركه... وبعدين.. حضرة جنابك... بتقول ليش براجل عليهم حجار...؟!( )

فعلاً، لكم يبدو سؤال محدثه، مستغرباً ومستهجناً، أمام ما ساقه عماد من أسباب محاجرته لعسكر الاحتلال... ذلك أن هذا السؤال يتعارض مع أبسط حقوق الإنسان، أي إنسان، في الدفاع المشروع عن نفسه وكرامته... أما جواب الصغير، فواضح الدلالة في قصديته إلقاء التبعة أولاً وآخراً على جنود الاحتلال الذين يتحرشون بالعرب، ويعتدون عليهم دونما سبب واضح ومعقول... وإذا كان تحرشهم الاستفزازي لامسوغ له، في نظر هذا الطفل الفلسطيني، سوى إرواء نزعتهم إلى ممارسة عنصريتهم، فإن ردّه، وردّ الفلسطينين جميعاً على هذا التحرش، له ما يسوغه من الذرائع، وأولها، الرد على هذا التحرش العنصري نفسه...

وما دام الأمر كذلك، وما دامت عنصرية الإسرائيلي لا تميز بين فلسطيني وآخر، فمن الغباء أن يتخذ أي فلسطيني موقف المحايد... هذا الموقف السلبي الذي لا يحمي من يلتزمه، ولا يصون كرامته... بل على الجميع -جميع أبناء الوطن المحتل- أن يبادروا إلى المشاركة في الرد على استفزازات المحتل العنصري وممارساته العدوانية، لاشعار المعتدي بأنهم يرفضون المهانة ويأبون الضيم والسكوت على الذل في وطنهم.

وواضح أن عماداً ومن في سنه، وكذلك الغالبية من أبناء شعبه، لم يجدوا أفضل من حجارة وطنهم المحتل وسيلة، يترجمون بقذفها على عدوهم اصرارهم على هويتهم وكرامتهم ورفضهم لبقاء ذلك العدو غاصباً لأرضهم، ومضطهداً لهم... وهذا ما توحي به كلمات الصغير عماد التي اختتم بها المؤلف قصته، مفجراً، بما اشتمل عليه مضمونها من دلالات، القناعة الخاطئة التي يحاول العدو ترويجها، والتي مفادها أن (السلامة في المحايدة)... ليؤكد من خلال تفجيره لها وإلغائها أن السلامة الحقيقية تكمن في نجاح الإنسان الفلسطيني بتحقيق هدف واحد ووحيد، مهما غلت التضحيات في سبيل تحقيقه؛ وهذا الهدف هو تحرير الوطن الفلسطيني من غاصبه، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ترابه، وقد تطهر بكامله، من رجس ذلك الغاضب...

يقول عماد، رداً على استثارة محدثة له بتخويفه من احتمال التعرض للموت، إذا ما استمر يقذف جنود الاحتلال بالحجارة: "مش مهم كثير... أن بستشهد... بس بصير مع الشهداء... وبصير عندنا وطن.. وكمان دولة..."( ) وبهذه الكلمات التي ينطقها بعفوية، يؤكد عماد أن الثورة والشهادة -وليس التزام موقف المحايد الخائف من الموت- هما، فقط، وسيلة الفلسطيني وخياره لتحقيق حلمه بالعيش في وطن حرٍّ ودولة مستقلة تخصه...

 

 

 

الدعوة إلى مواصلة الثورة... حتى التحرير...

 

من البدهي أن تحتل هذه الدعوة الحيز الأكبر من رسالة الانتفاضة... ذلك أن الإصرار على مواصلة الثورة واستمراريتها حتى بلوغها كامل أهدافها، وبشكل خاص، هدفها/ الغاية الذي هو تحرير الوطن الفلسطيني وإنسانه من ربقة محتلهما الإسرائيلي، هذا الإصرار هو الشرط الأول والأهم للوصول إلى تلك الغاية... ومصدر هذه الأهمية هو، بالدرجة الأولى، قناعة الثوار، في الوطن المحتل، بأن أي توقف، في منتصف الطريق، أو أي فتور أو تراجع، لا يعني ارتداداً انتكاسياً إلى نقطة البداية فحسب، وإنما يعني ضربة عنيفة جداً لإرادة التحرير الفلسطينية، قد تؤدي إلى إصابة هذه الإرادة بالعجز، ولفترة طويلة، عن متابعة محاولتها التجسد واقعاً... فعبر قراءتهم التحليلية المتأنية والواعية لسجل النضال الفلسطيني الطويل والحافل بالكثير من الاخفاقات المريرة، والنجاحات الصعبة، توصل أولئك الثوار إلى القناعة التامة، بأن الضربة التي لا تقصم ظهر عدوهم، تقويه...

وعلى خلفية هذه القناعة، تتبدى واضحة ضرورة الإصرار على مواصلة الثورة، مهما بهظت التضحيات، ومهما بدت الطريق إلى الغاية المنشودة ملغومة باحتمالات الإخفاق، في بعض المواضع والميادين... ذلك أن الإخفاق المرحلي، أو المحدود يمكن تدارك نتائجه وتجاوز سلبياتها، لكن النكوص أو الهزيمة لا يعنيان إلا السقوط وسط طقوس تراجيديا عنصرية مروعة، سوف يمارسها العدو إذا نجح في القضاء على الثورة، قبل وصولها إلى غايتها المنشودة...

ومن زاوية الرؤية الخاصة هذه، تحول الإصرار على مواصلة التحدي والنضال، إلى استراتيجية ترسم حركية ثوار الانتفاضة، وأهداف نشاطاتهم وفعالياتهم... وبالفعل، يستطيع من يتابع ما يصنعه هؤلاء الأبطال من أحداث، وكيف يصنعونه، وبأي روح وإرادة وتصميم، يستطيع أن يتبين، ودون كبير عناء، بأنهم قد أحرقوا جميع سفن احتمالات عودتهم إلى الأجواء الكابوسية لواقع ما قبل الانتفاضة الذي انطلقوا منه، ثائرين على استمراريته، وعلى استمرارية بقائهم القسري فيه...

وفي القصة، كما في الواقع تقريباً، نلاحظ اهتمام عديدين من مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، بالدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والنضال حتى تبلغ الثورة كامل أهدافها... وهم، في معرض طرحهم لهذه الدعوة وتأكيدها، لا يغفلون ما تكلفه تلبيتها من تضحيات باهظة جداً، ولكنهم يحاولون تسويغ احتمال تلك التضحيات بالإشارة إلى أنها مهما بهظت، يظل احتمالها أهون وأقل بما لا يقاس، من احتمال نتائج اخفاق الانتفاضة في الوصول إلى أهدافها... وعلى أساس قناعتهم بصوابية هذه الرؤية، نراهم يرفعون اصبع التحذير، معلنين أنه من الممنوع على من شقوا الطريق أن يتوقفوا في منتصفه، أو أن ينكصوا عائدين مسربلين بيأسهم وإخفاقهم...

ولأن التزام هذا الممنوع ضرورة، لا جدال فيها، برأيهم، نراهم يحرصون على تجنب تقديم ثائر الانتفاضة، إلى قارئهم، كبطل فرد، كلي القدرة، بوجوده وبقائه تستمر الثورة، وبانقصامه أو استشهاده تتوقف وتنتهي... وهذا يعني، اقتناعهم بضرورة نفي البطولة الفردية، في القصة والواقع، على حد سواء، والتأكيد بالمقابل، أن الانتفاضة هي فعل جماعي، وأن نموذج البطل فيها، هو مجموع الشعب وليس أي فرد من أفراده، حتى وإن تهيأ للوهم احتمال أن يكون هذا الفرد خارقاً...

ومن الملاحظ أن طرح مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، لموضوع الدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والثورة، لم يكن طرحاً خطابياً مباشراً، كما أنه لم يشكل، في أيّ من القصص، محوراً موضوعياً مستقلاً، بل كان متضمناً في سياق التأكيد لنفي مفهوم البطولة الفردية، في صنع أحداث الانتفاضة ومنجزاتها، وبالتالي، نفي احتمال توقف استمرارية الانتفاضة بسقوط أيّ من أبطالها أو القضاء عليه...

ومن أكثر قصص الانتفاضة احتفالاً واهتماماً بهذين الموضوعين، ومن أكثرها وضوحاً في طرحهما، قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة. ففي نهاية هذه القصة الغنية، يسقط قائدها الفذ (سليم) شهيداً، قبل أن يكمل ما بدأه من تغيير في قناعات أهل قريته ومفاهيمهم ومواقفهم، وقبل أن تكتحل عيناه برؤية نتائج التغييرات التي أحدّثها واقعاً ملموساً.... ولكن استشهاده لا يعني توقف أهل قريته عن مواصلة الثورة التي هيّأهم لتفجيرها والاستمرار فيها، سواء بقي هو الذي يقود خطواتهم فيها، أو صار القائد غيره.. فالثورة ليست هذا الفرد أو ذاك، حتى وإن كان صانعها ومفجرها... وبالتالي، فإن استشهاد القائد لا يهم كثيراً، ما دام يوجد بين أتباعه والمؤمنين بنهجه وأفكاره، من يستطيع حمل المسؤولية بعده..

بل إن أي ثائر صادق، يرفض أن تنتهي ثورته وتنطفئ بانتهائه قائداً لها... ذلك أن مثل هذا الثأئر لا يعنيه كثيراً أن يشهد بعينيه نتائج ما بدأه، بل يعنيه استمرارية السعي إلى تحقيق ما خطط له، في حركية من يليه /النابعة من إصرارهم على إكمال الدرب التي بدأها.. لأنه، وبهذه الإستمرارية فقط، يتحول استشهاده إلى حياة، فيسطيع أن يرى ثمار نضاله وانتصار رسالته بعيون الذين تابعوا حملها بعده، ونجحوا في تحقيق أهدافها واقعاً.. أي يتحول موته إلى معبر لخلوده...

وإيماناً من سليم نفسه بهذه الحقيقة، نجد أن جوهر الوصية التي يتركها لأتباعه هو دعوتهم إلى ضرورة مواصلة الثورة بعده، فيما لو سقط شهيداً وبالفعل، ما يكاد خلفه (وليد) يتيقن من استشهاد ذلك القائد الفذ، حتى ينطلق في أزقة القرية وحواريها، ناشراً تلك الوصية، ليحضّ أهل القرية على متابعة الثورة التي فجرها سليم، صارخاً بأعلى صوته:

"سليم لم يمت... سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد. سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر سليم لا يموت... لا يموت... لا يموت.".( ) من الواضح أن سليم في الصياغة السابقة، قد خرج من محدودية كينونته المادية الضيقة، ليصير رمزاً تتجسد فيه روح الثورة الشعبية التي فجرها في أهل قريته، وليصير رمزاً لكل الشهداء الذين ضحوا بحيواتهم الدنيا من أجل إيصال مبادئ الرسالة التحريرية لثورة شعبهم إلى أهدافها، ومن أجل تجسيد هذه الأهداف كحقائق، على أرض الواقع... ولهذا، فهو لا يموت، ولا يمكن للموت أن يجد سبيلاً إليه... لأن موته، على مستوى الرمز الذي يجسده، يعني انطفاء شعلة الثورة بعده، واستحالة وصولها إلى تحقيق أهداف رسالتها...

وعلى افتراض صحة القراءة السابقة لنهاية قصة (الزمن الجديد)، يمكن القول إن الدعوة إلى ضرورة مواصلة الثورة، متضمنة في كل جملة دخلت في تركيب تلك النهاية... وتكاد هذه الدعوة تتخذ صيغة الخطاب المباشر، في دلالات الجملة الأخيرة التي يوصي فيها سليم أهل قريته بأن يدفنوه في تراب وطنه المحرر... إذ كيف لهذه الوصية أن تنفذ، إن لم تستمر الثورة بعده، حتى تحقق كامل أهدافها، وخاصة هدفها /الغاية... أي تحرير تراب الوطن الذي أوصاهم أن يدفنوه فيه...؟

وبإشارات أقصر تردداً، واقل وضوحاً وتركيزاً، دعا أدباء آخرون في ثنايا مضامين قصصهم إلى ضرورة الإصرار على مواصلة التحدي والنضال حتى تحقق الانتفاضة أهدافها جميعاً..

ففي قصة (اسحب تربح)( ) لصبحي حمدان، نجد أن بطلها الصغير هو الذي يحمل على عاتقه مواصلة دور أبيه وأخيه في المساهمة بصنع أحداث الانتفاضة، وذلك بعد اعتقال سلطات الاحتلال لكليهما... وفي انتقال مسؤولية هذا الدور إلى الصغير، إشارة غير مباشرة، من مؤلف القصة، إلى أن اعتقال هذا البطل أو ذاك، من أبطال الانتفاضة، لا يعني إيقافاً لاستمراريتها، أوحدّاً لتصاعد فعالياتها، ما دام يوجد، دائماً، من هو مستعد للحلول محله، ولملء الفراغ الذي يتركه أي ثائر، حين يتم اعتقاله..

وفي سياق حدثي مختلف، نلاحظ الإشارة السريعة غير المباشرة إلى الدعوة لضرورة الإصرار على مواصلة الثورة، في قصة (صباح.. بعد انحسار الغطاء)،( ) لسعيد نفاع... فإيماناً من بطلة القصة (صباح) بأن السجن لا يمكن أن يعدّ حائلاً يمنع تدفق الحياة  وإرادتها في الإستمرار، وبأن السجين مهما طال حبسه لا بد خارج يوماً لمواصلة نضاله، تقرر الزواج من سجين ما يزال محتجزاً خلف القضبان... وهي حين تصر على إعلان خطبتها له قبل إطلاق سراحه، لا تعبر بإصرارها هذا عن "حب مراهق"( ) بل تعبر عن إيمانها القوي" بحتمية زوال السجن وزوال السجان أمام إرادة الحياة.".( ) وبالفعل ما يكاد يخرج هاشم من سجنه، حتى يسارع إلى متابعة عمله النضالي، غير هيّاب من احتمال اعتقاله ثانية، أو من أي احتمال سيئ آخر. حتى ولو كان التعرض للموت..

إن الإشارة المتضمنة للدعوة إلى ضرورة الإصرار على مواصلة الثورة، تبدو، في هذه القصة ومثيلاتها، مترافقة ومتداخلة مع الدعوة إلى ضرورة الإصرار على تجاوز العقبات المعرقلة التي يضعها العدو الإسرائيلي عصياً في عجلات انطلاقة الثورة، بغية منع استمراريتها... والسجن هو إحدى تلك العقبات.. وهو بين الوسائل التي يعتقد العدو، متوهماً، أنها قادرة على تثبيط إرادة الثورة في نفوس أبناء الوطن المحتل..

ومن القصص الأخرى التي تلازمتِ وتداخلت، في دلالات مضمونها، الإشارتان السابقتان إلى ضرورة الإصرار على مواصلة الثورة، وعلى تجاوز العقبات المعيقة لاستمراريتها، قصة (وتكون لنا راية)،( ) لنبيه القاسم... ففي نهاية هذه القصة أيضاً؛ وبينما كان جنود الاحتلال يدفعون بطلها، خارج بيته، ليسوقوه أمامهم معتقلاً؛ أي في اللحظة التي من المفترض أن تكون قواه خائرة أثناءها، نراه يندفع هاتفاً بأعلى صوته: "بلادي بلادي... الله أكبر... ليسقط الاحتلال... الفاشية لن تمر..."( ) مؤكداً بهذا الهتاف المتحدي إصراره، كفلسطيني، على مواصلة الثورة، من جهة، ومؤكداً، من جهة ثانية، أن اعتقاله، كثائر، لن يكسر ذلك الإصرار ولن يحدّ من اندفاعه أو تصاعده... وذلك انطلاقاً من قناعته العميقة والراسخة، بأن ما يفعله ليس عبثياً، وإنما هو سعي واعٍ لهدف محدد ومقدس، هو تحرير نفسه وشعبه وأرضه، مرة واحدة وإلى الأبد... ولعل رغبة المؤلف في الإشارة إلى قدسية هذا الهدف، وضرورة الإصرار الفلسطيني على تحقيقه، على الرغم من واقع الاعتقال والاضطهاد والقمع، هي ما حدت بذلك المؤلف إلى إنهاء قصته بتكرار مضمون ذات الجملة التي بدأها بها: "وشعر للمرة الثانية هذا اليوم، أن له راية وله نشيد وله ما يقاتل وما يعتقل من أجله.".( ) فبهذه النهاية، يتحد هدف نضال الفلسطيني بدافعه إليه، في كلّ واحد مقدس، هو إلغاء واقع الاحتلال، والتحرر منه...

وأخيراً، وفي القصة القصيرة (هنية)( ) التي تلاحقت أحداثها متسارعة، على إيقاعات الانفعال المتوتر لمؤلفها (محمد نفاع)، تنطلق الدعوة إلى ضرورة الإصرار على مواصلة الثورة حتى تصل إلى تحقيق كامل أهدافها، مجسدة في حركية إنسانية رائعة ومدهشة، تمارسها تلك الأم الفلسطينية (هنية)، على نحو لا يملك القارئ معه السيطرة على رغبة حنجرته في إطلاق صيحة إعجاب بها، وإكبار لتضحيتها...

فهذه الأم التي دفعت بأولادها الثلاثة إلى ساحة المعركة، الواحد تلو الآخر، ليكونوا وقوداً لاستمرارية الانتفاضة، نراها، وقد فقدتهم جميعاً، تتعالى على إحساسها الفاجع بثكلهم، وتقف، فوق أحزان أمومتها الملتاعة، بشموخ الأرض التي ترمز إليها، في القصة، ثم ترفع أصابعها "راسمة شارة النصر"( ) مؤكدة استمرار تحديها، على الرغم من التضحية الباهظة التي تكبدتها، ومهيبة بغيرها من الأمهات الفلسطينيات أن يحذيّن حذوها، ويقدمن فلذات أكبادهن وقوداً جديداً لمواصلة الثورة واستمراريتها...

 

 

 

الانتفاضة مخاض الوطن الفلسطيني الحر...

 

ما من مفكر أو أديب أو باحث، فلسطيني أو غير فلسطيني، توهم أن تكون الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، نهاية المطاف، أو غاية الانتظار الطويل الذي استمر أكثر من عشرين سنة متواصلة، قضاها الإنسان الفلسطيني قلقاً مقهوراً، في وطنه المحتل... قضاها على رصيف الأمل مفعماً بالرغبة الجامحة في إعلان ثورته، ومترقباً لحظة الخلاص من كابوس الاحتلال العنصري، تأتي تتويجاً لنضاله الثوري ومكافأة مجزية لتضحياته وصبره ومعاناته، في آن معاً... بل إن كل من عرض لأي جانب من جوانب الانتفاضة، ثم وقف محاولاً استشراف ما سيعقبها، خرج مقتنعاً، قناعة أكيدة، بأن هذه الثورة على أهميتها البالغة وعظمتها، لا تعدو كونها مخاضاً صعباً يبشر بولادة الزمن الفلسطيني المأمول... بولادة الوطن الفلطسيني الحر، أرضاً وإنساناً..

وعلى خلفية القناعة/ الأمل، بأن الانتفاضة هي المخاض الذي سينتهي بولادة ذلك الوطن/ الحلم... الوطن  الذي لما يولد بعد، يمكن توصيفها، بتعبير آخر أكثر موضوعية، أنها مجرد مرحلة نضالية متميزة.. أو أنها مرحلة متقدمة وهامة ومصيرية يؤمل أن تكون آخر مراحل السعي إلى إطلاق شمس الحرية من عقالها، لتعود مشرقة في سماء الغد الفلسطيني الآتي، وليس غاية تلك المراحل...

وبالعودة إلى المتوفر من قصص الانتفاضة، نلاحظ أن كثيرات... هنا، قد اكتفى مؤلفوها، بالإشارة إلى مرحلية هذه الثورة العظيمة، إشارات عابرة، بهذا الشكل الفني أو ذاك، وعلى نحو غير مباشر غالباً... وربما ذلك، من منطلق الاعتقاد بأن هذه المسألة، من البدهيات التي لا يمكن أن تثير جدلاً، أو خلافاً في الرأي حولها...

وعلىالرغم من أن مضمون قصة (نهاية الزمن العاقر)( ) يوحي بأن مؤلفها نبيل عودة لا يخالف الاعتقاد ببدهية النظر إلى الانتفاضة كمرحلة، فإن تناوله لها بتفصيل أطول مما يحتمله أسلوب الإشارة العابرة، يوحي بأنه يوليها من الأهمية، أكثر مما يوليها غيره.. ولعل هذا ما جعل وعيه يقود موهبته إلى إبداع نص قصصي طويل، يتمحور جزء كبير من مضمونه حول التركيز على مرحلية الانتفاضة...

وبداية، يمكننا الاستدلال على مرحلية الانتفاضة من عنوان القصة ذاته... فنهاية الزمن العاقر... زمن ما قبل الانتفاضة، هي ما تشهده الساحة الفلسطينية اليوم من أحداث مصيرية وكبيرة، تبشر باقتراب بداية الزمن الفلسطيني الجديد... الزمن المغاير... زمن الحرية.. وعلى هذا، فالانتفاضة هي بشرى الميلاد، وهي مخاضه الصعب... هي الاخصاب بعد انتظار ممض استمر أكثر من عشرين سنة.. وبتجاوز عنوان القصة إلى نصها، يمكننا العثور على ما يؤكد مرحلية الانتفاضة، في تلك المساحة المتألقة والمنيرة التي استطاع نبيل عودة أن يبقيها؛ بين المدلولات الرمزية والمدلولات الواقعية، لشخصيات قصته وأحداثها..

فنحن في (نهاية الزمن العاقر)، أمام عالم غني بالإيحاءات، كونه عالماً ملوناً، متعدد الأبعاد، يمتزج فيه الرمزي بالواقعي، ويتفاعلان، ضمن شروط خاصة، لينتجا أحداث القصة وشخصياتها... وعلى هذا، ثمة ما يغري القارئ بتتبع الدلالات الرمزية لهذه الأحداث والشخصيات، وعدم التوقف عند دلالاتها الظاهرية المباشرة، والإكتفاء بها، ذلك أن مثل هذا التتبع، لا شك يبسط أمام بصيرة القارئ وعقله، عوالم زاخرة بالمعاني والإرهاصات.. عوالم ينبض  الرمز فيها موحياً بمعادله الواقعي، دون غموض أو تعقيد، ودون حاجة إلى ممارسة السباحة  في الخيال، بحثاً عن تأويل يقرب ذاك الرمز، أو عن تكهن يجلو غموضه..

فوهيب، بطل القصة، لايعدو ظاهرياً، كونه ذلك المواطن الفلسطيني العادي، وكذلك زوجته.. وما مرا به من أحداث، على الرغم من إثارته للتعاطف، لا يملك القدرة على إثارة الدهشة، لو لم تتزامن بدايته مع بداية نكسة عام 1967، ونهايته مع انطلاقة الانتفاضة.. أي لو لم يكن بينه وبين مسار الأحداث الفلسطينية، بصعوده وهبوطه وتعرجاته، تلك العلاقة العضوية الوثيقة، لظل، على قلة ما يماثله، مجرد حدث عادي... ذلك أن الإثارة كامنة في تلك العلاقة، ونابعة منها... لنتابع، تالياً، تطور هذا الحدث، محاولين رصد ما يصدر عنه من إيحاءات قوية الدلالة على أنه مجرد معادل موضوعي لتطور الحدث السياسي الفلسطيني، عبر عشرين سنة، بدأت منذ عام 1967، واستمرت حتى1987..

لقد شاء الحظ التعس لهذين الزوجين أن تكون ليلة زفافهما، "قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة".( ) وهكذا انقلب فرحهما تعاسة، وتحولت فترة (عسلهما) إلى أسبوع قاسٍ، تشردا خلاله" في الخلاء هروباً من القتال الذي حاذى قريتهم..."( ) وكان من الممكن، أن يصير حالهما إلى ما صار إليه حال الأغلبية، بعد ذلك، وأن لا يتميزا بشيء عمن حولهما، لو لم يطاردهما سوء الحظ، فيحرمهما القدر من الأولاد، عشرين سنة متواصلة "مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل"( )

ومن تزامن العرس مع بداية الاحتلال واستمرار حرمانهما من الأولاد مع استمرار بقاء ذلك الاحتلال، تشع أولى الإيحاءات إلى رمزية شخصيتيهما القصصيتين، ورمزية ما يمران به من أحداث... إذ يبدو الزوج رمزاً واضح الدلالة على الشعب العربي الفلسطيني، أما الزوجة فهي رمز للأرض الفلسطينية المحتلة. وأما مانع الإخصاب والحمل، فهو الوجود الاحتلالي الغريب..

ولعل مما يسوغ توهم الدلالات الرمزية الآنفة، في شخصيات القصة وأحداثها، احتواء النص القصصي على العديد من القرائن التي ترقى بذلك التوهم إلى مرتبة اليقين... وأول هذه  القرائن، وربما أهمها وأقواها، على الإطلاق، ذلك العشق الصوفي الذي يربط بين الزوجين، محيلاً ذاتيهما إلى ذات واحدة.. "عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة.."( ) ذلك أن هذا الاندماج، يقف حائلاً قوياً دون إقدام وهيب على ترك زوجته العاقر، أو الزواج عليها من أخرى تنجب له ولداً تكتمل به رجولته.. بل إن هذا الإندماج الصوفي، يتحول، على العكس، إلى دافع قوي يشحذ وهيباً بالإصرار علىالتجول مع زوجته، ساعياً بها، بين عيادات الأطباء، على أمل أن تحدث المعجزة، فتخصب بطنها القاحلة، بعد طول انتظار وترقب..

وإلى هنا، يظل بالإمكان القول: إن كل هذا الحب المتوهج، لا يكفي مسوغاً للتوهم بأن البطلين يرمزان للشعب الفلسطيني وأرضه وبالتالي، لا بد من دلالات أكثر مباشرة ووضوحاً... وهذا يعني وجوب العودة إلى النص ثانية، بحثاً عن تلك الدلالات التي سرعان ما تتبدى للقارئ واضحة، تارة في لغة الحوار بين الزوجين الحبيبين، وتارة أخرى في جملة التعليلات التي يسوقها الزوج، مصبراً بها نفسه وزوجته، ومسوغاً أمامهما إصراره على التفاؤل بحدوث معجزة الإخصاب والحمل يوماً، على الرغم من اصطدامه بالخيبة تلو الخيبة، كلما خرج مع زوجته من مراجعة طبيب جديد...

فإثر كل خيبة، نراه يخاطب نفسه، محاولاً تبديد إحساسها باليأس، ومجدداً فيها الشعور بالتفاؤل: "هذه طبيعة النفس البشرية، مترددة، متقلبة، ولكنها على العموم تتفاءل بالخير، تطفح بالأمل وهي في ذروة الخسارة، تيسر الهدف وهو في ذروة العسر والامتناع".( )وفي المرات النادرة التي يداهمه فيها اليأس قوياً، وتعذبه معضلته، و"يضنيه الأمل"( ) نراه خائفاً من مجرد التفكير باحتمال أن يقوده يأسه إلى الإبتعاد عن زوجته... ذلك أنه "لا يرى حياته بدونها، يرتاح لحبها ووجودها بقربه، ينفر من دنياه إذا ابتعدت بالخيال عنه، يرتعد من أحلامه إذا خلت من طلعتها، تتسامى ذاته بقربها، يتجدد عزمه بعناقها."( ) وبهذا، يعود أكثر إصراراً على الإحتفاظ بها، أخصبت أم لم تخصب... ترى ألا يوازي هذا... الإصرار، على المستوى الرمزي، إصرار الإنسان الفلسطيني على الاحتفاظ بأرضه على الرغم من كل العنت والاضطهاد الذي يلاقيه على يد محتلها..؟

ويبلغ هذا الإصرار أعلى ذرى الإيحاء باندماجية هذا الإنسان بأرضه، وذوبان ذاته في ذاتها، عبر نص الحوارية التي يديرها نبيل عودة، بين بطلي قصته، وذلك في سياق مقطع اختار له عنوان (دخائل).( ) ونظراً لما يتمتع به هذا المقطع من قدرة على إقناع القارئ بأن وهيباً وزجته ما هما إلا رمزان للإنسان الفلسطيني وأرضه، ربما يبدو من المفيد، اقتباس أجزاء مطولة من هذا المقطع الذي يبدأ بخطاب وهيب لزوجته، قائلاً:

"أنت حبي. أنت عالمي، بدونك أذوي..."( )

ويكون هذا الخطاب فاتحة خلوة عشق جديدة، تجمع الجبيبين، جسداً لجسد، في نهايتها... وفيما ينسى وهيب "أمنيته بطفل من صلبه"( ) حين يحتضنها، نراها وهي في قمة نشوتها "ترجوه أن يأخذ عليها من تستطيع تحقيق أمنيته، فيردها خائبة:

-تطلبين البعد وأنت في ذروة القرب؟

-أشعر بالخيبة والقصور.

-ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.

-ويخصني.

-احتضنها بقوة، ضغط عظامها بين ذراعيه، عضت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان، وهمس بأذنها:

-حبي لك هو الجذور، أنا أحبك لنفسك، لذاتِك، أحببتك لأنك أنت، لا تخلطي بين مشكلة الحمل وحبنا. حبنا قدس الأقداس، فهمت؟!"( )

إن همسته الأخيرة واضحة الدلالة على نوعية العلاقة بين الفلسطيني وأرضه، إذ ليس ثمة أي مشكلة بقادرة على المساس بحبهما لبعضهما... فهذا الحب هو الجذور، وهو قدس الأقداس... ذلك أنه حب منزه عن الغاية والغرض... حب يسمو فيه المحب والحبيب معاً... حب ينبع من الذات متجهاً إلى الذات، دون أي تفكير بأي ثمن...

وكان لا بد لدورة الرمز أن تكتمل، ببلوغ الحدث القصصي ذروته...فكما ابتدأت هذه الدورة، بث أولى إشاراتها الدلالية، بتزامن ليلة الزفاف مع ليلة دخول الاحتلال إلى وطن العروسين، نراها تكتمل حين تتزامن بشارة الأطباء لوهيب وزوجته بحدوث معجزة الحمل، مع انطلاقة الانتفاضة..

فكما حدثت معجزة الحمل فجأة، بعد عشرين سنة، من الانتظار المبركن بالترقب والخوف والقلق، قضاها الزوجان مراوحين بين اليأس والأمل، صابرين" حتى صار الصبر علقماً"( ) كذلك انطلقت الانتفاضة من ذروة الإحساس باليأس، وبعد نفس الفترة من الإنتظار المرهق... لنتأمل ازدواجية الدلالة في كلمة (حامل) التي زفها الأطباء بشرى في أذن وهيب: "حامل... لهذه الكلمة أكثر من معنى، ولها أكثر من نتيجة، تشمل أكثر من أفق، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والأحلام والإنبعاث والتجدد..."( )

إنها الأرض... الأرض الفلسطينية هي الحامل، وليست زوجة وهيب فقط... بل كلتاهما، وقد صارتا واحداً... وكيف لا، وهما معاً دخلتا طقس الاحتلال، ومعاً قاستا الجدب في زمنه العاقر، عشرين سنة متواصلة، ومعاً صبرتا، وثبتتا على تفاؤلهما بحدوث المعجزة، وها هما معاً تحملان؟!!

وتبدأ رحلة انتظار جديدة... ليست طويلة هذه المرة، وليست غائمة بالكدر والخوف والقنوط، بل قصيرة ومعبأة بتوقعات الفرح القادم.. إنها مرحلة وتمضي... صحيح أن فيها من العذاب ومعاناته الكثير، ولكنه كثير محتمل... ومصدر القدرة على احتماله أنه سينتهي بما سيغير حياة الإثنتين معاً... سينتهي بتجلي عصر مختلف...

وتمر فترة الحمل بسلام، وها هو المخاض الصعب يبدأ.. والمخاض ألم وأمل، في آن.. فرح وعذاب.. قلق يمتزج بالسعادة على نحو فريد... وها هو وهيب يتهيب من طول الانتظار أمام باب غرفة المخاض، وكذلك الشعب الفلسطيني يقف متهيباً منتظراً معه النتيجة نتيجة مخاض الأرض... ولكن دون يأس...فمن استطاع طرد وساوس الاستسلام لليأس والقنوط عشرين سنة، لن يتركهما يتمكنان من نفسه الآن.." تأمل الباب المقفل، واعترته طمأنينته. دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه، وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة بكيانه، والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك. ثمر بعد انقطاع أمل. خير بعد جدب. ثورة بعد صبر.".( )

وفي القصة، كما في الواقع، لا يختم نبيل عودة الحدث القصصي، بل يُبقي مجاله مفتوحاً على مختلف الاحتمالات، السيء منها والجيد... وذلك حين يتركنا في نهاية قصته، نقف مع وهيب، وأقربائه وأقرباء زوجته، مبركنين بالترقب والقلق، أمام باب غرفة المخاض، ننتظر متلهفين، ما ستلده زوجته... إنه حرص واعٍ على التزام الواقعية، في نسج الحدث القصصي، وعلى توفير أكبر قدر من الانسجام بينه وبين معادله الموضوعي في الواقع...

فكما أن الانتفاضة ما تزال مخاضاً مجهول النتيجة، حتى الآن، كذلك ظل مخاض زوجة وهيب مجهول النتيجة، في نهاية القصة، حيث لم يخبرنا المؤلف بنوع المولود أو شكله أو حالته، بل اكتفى بتركنا وعيوننا متعلقة بباب غرفة المخاض "حيث الخبر والأمل"( ) وستظل عيوننا متعلقة بذلك الباب، حتى يبشرنا صوت المولود بولادته، ليطلع علينا جميعاً، بعد ذلك، فجراً فلسطينياً حراً، يبزغ في سماء الوطن الفلسطيني الحر..

 

 

 

وثمة محتويات أخرى.. في الرسالة..

 

من الممكن أن تساعد إعادة استقراء مضامين المتوفر من قصص الانتفاضة، على تبيّن إشارات قصيرة وعابرة، هنا وهناك، إلى غير ما سبق ذكره، في سياق هذا الفصل، من محتويات رسالة الانتفاضة. وذلك على افتراض أن ما ذكر منها لا يمكن أن يكون هو كل ما تضمنته هذه الرسالة من مبادئ ودوافع وأهداف بل بعضه، وربما أقله... ومما يمكن تبينه، في قصص الانتفاضة من تلك الإشارات العابرة، غير ما ذكر سابقاً:

أولاً: الدعوة إلى الامتناع عن جميع أشكال التعامل مع سلطات الاحتلال:

بعد مرور فترة قصيرة على انطلاقة الانتفاضة، وفي أعقاب تبلور قيادتها الموحدة، أطلقت هذه القيادة دعوتها إلى الفلسطينيين العاملين في المؤسسات والأجهزة الإسرائيلية المختلفة، مطالبة إياهم بالتخلي عن وظائفهم في تلك الأجهزة. وذلك، في إطار تقييمها لجميع أشكال التعامل مع سلطات الاحتلال، كخطأ من الضروري تصحيحه، أو كرجس لا بد للفلسطينيين من ممارسة طقوس التطهر منه..

وقد اتجهت هذه الدعوة، أول ما اتجهت، إلى رجال الشرطة الفلسطينين العاملين في جهاز الشرطة الإسرائيلية... ثم ما لبثت أن اتسعت لتشمل آخرين بينهم.:جباة الضرائب، ورؤوساء المجالس البلدية والقروية وأعضاؤها، ممن عينتهم سلطات الاحتلال، وسائر العمال العرب في المعامل الإسرائيلية... وسرعان ما استجاب عدد كبير من هؤلاء وأولئك، ملبين هذه الدعوة التي عُدّت تلبيتها بين الروائز العديدة الأخرى لوطنية الإنسان الفلسطيني، ومدى التزامه بثورة شعبه وتلاحمه معها..

وبين ما أتيح الوصول إليه من قصص الانتفاضة الصادرة داخل الوطن المحتل، ثمة قصة قصيرة واحدة، أشارت، وبشكل عابر جداً، إلى هذه الدعوة، على أهميتها البالغة، وأهمية النتائج التي نجمت عن الاستجابة الفلسطينية السريعة والواسعة لمضمونها... وهذه القصة هي (اسحب تربح) لصبحي حمدان..

ففي سياق حوار قصير جداً، أجراه المؤلف، بين بطل قصته الصغير الذي يبيع أوراق السحب، وبين زميل له، في المدرسة، التقاه مصادفة، في الشارع، يتوجه ذلك الزميل إلى بطل القصة، بعدة أسئلة، كان من بينها: "هل استقال أبوك من الشرطة؟؟"( ) فيجيبه بطل القصة، باقتضاب، من شهرين"( ) وبعد ذلك لا نعود نعثر على أي ذكر لهذا الأب، حتى نصل إلى نهاية القصة، حيث نعرف أن سلطات الاحتلال قد اعتقلته، ولكن دون أن نعرف سبب اعتقاله وظروفه..

ثانياً: الدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء:

إلى حد ما، يمكن القول: إن إطلاق هذه الدعوة قد تزامن مع إطلاق الدعوة السابقة... وإذا كانت الدعوة السابقة هي نداء موجه للفلسطينيين، في الوطن المحتل، من أجل المبادرة، ذاتياً، إلى التطهر من رجس العمل في مؤسسات العدو و أجهزته، لما يجلبه هذا العمل من العار لصاحبه، فإن الدعوة الثانية هي أشبه ما تكون بإنذار تهديدي موجه إلى المتورطين، من أبناء الوطن المحتل، في التعاون مع سلطات العدو، ضد أبناء شعبهم... وعلى هذا يمكن توصيف الهدف من اطلاق هذه الدعوة بأنه محاولة جادة لتطهير هذا الشعب من عملاء العدو المندسين، بين صفوف أبنائه الثائرين..

ومن مراجعة مضمون هذه الدعوة التطهيرية، يتبين لنا أن قيادة الانتفاضة لم تقف عند مطالبة أولئك العملاء، بمجرد الكف عن الاستمرار في ممارسة عمالتهم للعدو، وإنما دعتهم، إضافة لذلك، إلى الإعتراف العلني بجرمهم، ثم طلب الصفح من الشعب، وإعلان التوبة والالتزام بها، على رؤوس الأشهاد فمن استتاب منهم وأقلع، تاب الشعب عليه، وصفح عمّا سلف منه، أما من أبى، فقد استحق عقاب الخائن، أي الإعدام..

وبين المتوفر من قصص الانتفاضة، وردت إشارة قصيرة إلى هذا الموضوع في قصة (الزمن الجديد)، لنبيل عودة. وكان ورودها، في سياق صراع بطل القصة سليم، بعد أن زعمّه أهل قريته عليهم، مع المختار القديم الذي كان -كما توحي القصة- متعاوناً مع سلطات الاحتلال، ومستزلماً لهم...

فوسط حشد من كبار القرية، وأهلها، توجه سليم إلى المختار القديم، داعياً إياه إلى الاستتابة عن التعامل مع العدو، تحت أي ذريعة، وبأي صيغة وإلى إعلان التزامه بهذه التوبة، أمام الملأ جميعاً.. ثم منذراً إياه، في ذات الوقت، بأن الأمور قد خرج زمامها من يده، وآل إلى الثوار؛ وعلى هذا، فليس أمامه، وأمام أمثاله، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان التوبة، ويعفو الشعب عما مضى، وإما مغادرة القرية، دون إبطاء: "نحن نرحمك ونقبل توبتك. ونحن لا نفرق بين أحد. نظمنا كل شؤون البلد. الشباب أمسكوا بزمام الأمور. وليعلم الجميع أن الذي لا يتوب لن يكون له موطئ قدم بيننا.".( )

وفي القصة، كما في الواقع، يدرك المختار، ومن ترمز إليهم شخصيته القصصية، أن التغيرات المستجدة، والأوضاع التي نجمت عنها، لا تساعدهم على تحدي هذه الدعوة التحذيرية الجادة الموجهة إليهم... ولهذا، فإن من الحكمة والخير لهم، كما قدّروا ، أن يبادروا، إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم. أي، أن يبادروا، فيحنوا رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ريثما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث، وتستقر وهذا ما رمى إليه نبيل عودة، في صياغة جملته الإخبارية التي ضمنها إعلان المختار لتوبته: "وبعد أن أيقن  المختار أن البلد لم تعد تلك البلد قبل تفجّر الأحداث، أعلن توبته، ولكنه بقي بنفس العقلية.".( )

وواضح، في المقطع الأخير من  الجملة السابقة، أن المؤلف قد قصد، من صياغتها، الطعن بصدق توبة المختار، والإيحاء، بالتالي، أن معظم الذين استجابوا لدعوة قيادة الانتفاضة، من أزلام الاحتلال وأعوانه وعملائه، وأعلنوا توبتهم، لم يتوبوا توبة نصوحاً وصادقة، وإنما تظاهروا بالتوبة فقط، مداراة وتقية، ولفترة، بانتظار ما ستسفر عنه فعاليات الانتفاضة، من نتائج في المستقبل القريب أو البعيد... وهذا يعني أنهم، في قرارة نفوسهم، ما تزال قناعاتهم المهترئة على حالها، لم تتغير، وأنها ستظل، مما يستوجب الحذر الدائم منهم..

ثالثاً: الدعوة إلى استلهام تجارب النضال الفلسطيني الماضية:

أبدأ، لم تكن الانتفاضة، وفي أي لحظة من لحظات عمرها الزاخر بالعطاءات، نبتاً شيطانياً غريباً، لا جذور له؛ أو بدعة لا أصول لها، يمكن أن يستلهمها صانعو أحداث هذه الثورة العظيمة... بل هي، وبأي المعايير قيمناها، تعد ذلك الامتداد الطبيعي، الامتداد /الذروة لخط النضال الفلسطيني المتصاعد، والذي تزامنت لحظة انطلاقه، مع اللحظة الأولى التي بدأ فيها المشروع الصهيوني أولى خطوات تجسده واقعاً، فوق أرض فلسطين العربية...

ولكن، وكما أن تأكيد انتساب الابن لأبيه، لا يستوجب ضرورة أن يكون أيّ منهما نسخة طبق الأصل عن الآخر، فإن انتساب الانتفاضة إلى تجارب النضال الفلسطيني الماضية، لا يستوجب إلغاء الخصوصية المميزة لهذه الثورة والاستعاضة عنها بالملامح المميزة، أيضاً، لكل واحدة من التجارب النضالية التي سبقتها... بل إن هذا التميز، مع القناعة بحتمية حدوثه، شاء فلان أم أبى، يبدو ضرورة حين يتعاطى معه كدلالة على تطور التجربة النضالية الفلسطينية، ونموها المضطرد، نحو التصيّر تلك التجربة /الغاية، التجربة التي ستنتهي بتحقيق هدف التحرير الشامل، والتي يعتقد كثيرون أن الانتفاضة الراهنة تمثلها الآن..

إذن، وعلى خلفية القناعة بأن الانتفاضة تطور هام يشير إلى بلوغ تجربة النضال الفلسطيني مرحلة النضج، كما يشير إلى حيوية هذا النضال، وقدرته على الاستمرار حتى يبلغ غايته، وعلى خلفية القناعة أيضاً بأن أي حركة لا تنبع من أصول عميقة وغنية، تعد حركة آيلة إلى التوقف، ومن ثم إلى الموت، لا محالة، مهما بدت درجة اندفاعها قوية، لدى انطلاقتها؛ فقد حرصت قيادة الانتفاضة على التواصل مع التجارب القديمة للنضال الفلسطيني، وعلى محاولة إعادة قراءتها، تحت أضواء الراهن، بغية النجاح في تجنب عثراتها وإخفاقاتها، من جهة، وبغية الإفادة، ما أمكن، من نجاحاتها وانتصاراتها، من جهة أخرى.. وضمن هذا الإطار المحدد من الحرص، أطلقت الدعوة إلى ضرورة استلهام تلك التجارب.

وعلى المستوى القصصي، نلاحظ تسرب هذه الدعوة إلى مضامين بعض قصص الانتفاضة، متضمنة في إشارات قصيرة التردد، ولكنها موحية... ومن هذه القصص التي اهتمت بتلك الدعوة، قصة (الملثمون)،( ) لجمال بنورة..

ففي هذه القصة المتماسكة بناءً، و الغنية مضموناً، يفطن بنورة إلى ضرورة اقناع ثوار الانتفاضة، وبشكل خاص، الشباب الذين يقودون أحداثها ويصنعون نتائجها الرائعة، إلى الحذر الشديد من أي فكرة قدّ تجول بخواطرهم، وتزين لهم الإقدام على تقويض جسور تواصل ثورتهم مع تجارب النضال الفلسطيني السابقة... ذلك أن مسيرة هذا النضال لن تبلغ غايتها المرجوة، ولن تؤتي أكلها، ما لم تحافظ على اتصال حلقاتها...

وقد ضمن بنورة دعوته إلى ضرورة تواصل تجربة الانتفاضة مع ما سبقها من تجارب نضالية، في سياق المشهد الحواري الذي أداره بين راوي القصة العجوز المتحدر من الجيل النضالي القديم، وبين الملثم الذي آواه هذا الراوي، في بيته وحماه من الوقوع معتقلاً في أيدي جنود الاحتلال..

فبعد أن عرف ذلك الشاب الملثم، في شخص مؤويه العجوز، صديقاً قديماً لأبيه، أراد، وقد اطمأن إليه، أن يعرفه بنفسه، فقال له مخاطباً: "حدثني والدي عن اشتراكك معه في المظاهرات أيام الشباب.".( ) ويبدو أن هذه العبارة كانت كافية لإثارة ذكريات العجوز، والارتداد به، عبرها، إلى أيام شبابه الذي مضى، وما حفلت به تلك الأيام من نضال شارك فيه أبناء جيله، آنذاك... وبعد طواف سريع في رحاب الذكريات، ومقارنة سريعة، أيضاً، بين ما فعله وجيله، وبين ما يفعله هذا الملثم وجيله، عاد ليرد على الملثم، وقد استحوذ عليه إحساس طاغ بالتواضع: “كان هذا في الخمسينيات".( ) ثم، وكمن بوغت بسماع مالم يكن يتوقع، أضاف مسروراً: "أنت تعرف عن ذلك إذن... يسرني أنكم تدرسون تاريخنا النضالي.."( ) فأجابه الملثم، بثقة -وهنا بيت القصيد، في هذه الحوارية القصيرة -قائلاً. "ونتعلم منه أيضاً.".( ) وبهذه الجملة التي وضعها بنوره على لسان أحد أبطال قصته، من الجيل الفلسطيني الشاب/ مفجر الانتفاضة الراهنة وصانع أحداثها، يكون قد رسم بوصفه واحداً من الطليعة الفلسطينية المثقفة، شكل رؤيته للعلاقة التي يتوخى أن تربط جيل أبطال الانتفاضة، بأجيال المناضلين الفلسطينيين الذين سبقوهم..

 

وهذه العلاقة، كما تراها الطليعة المثقفة في الوطن المحتل، ليست علاقة تناقضية يتصارع طرفاها ويتنازعان، كما أنها ليست علاقة اندماجية، يذوب في صيغتها أحد الجيلين في الآخر ويتلاشى كينونة وخصوصية، بل هي علاقة تواصل، يكمل فيها الجيل الجديد، ما كان قد انتهى إليه جيل آبائه، ويرفد فيها جيل أولئك الأباء، جيل أبنائهم بخلاصة تجاربهم النضالية الماضية والثرة... بتعبير آخر، هي علاقة تبادلية، ايجابية  الدوافع والغايات... علاقة أخذ وعطاء بين جيلين نضاليين، دافعها الرئيس وهدفها، في آن معاً، تعاون هذين الجيلين، لتحقيق أمنية التحرير للأرض الفلسطينية وشعبها، ممثلاً بكل أجياله القديمة والراهنة والتي ما تزال وعداً في رحم المستقبل..

وبعد..

ليس ما سبق استعراضه، من محتويات رسالة الانتفاضة، سوى بعض من أبرزها وأهمها، وربما أقلها أيضاً، من ناحية الكم... وعلى هذا، ثمة بنود أخرى حوتها هذه الرسالة، ولم يرد لها ذكر في سياق هذا الفصل، مع أن بعضها، واحتمال أن تكون كلها، على جانب كبير من الأهمية... وإذا كان لا بد من ذريعة تسوغ عدم ذكرها، يمكن القول إن ذلك يعود إلى عدم تطرق النصوص القصصية التي توفرت للباحث، لما يذكره في دراسته، من بنود رسالة الانتفاضة وبالتالي كان دافعه إلى عدم ذكرها هو، بالدرجة الأولى، حرصه على التقيد بمضامين القصص التي درسها، وعدم الاستطراد خارجها. 

 

 

الفصل الثالث "بطل الانتفاضة... ملامحه في منجزاته".

 

أولاً: بطل الأرض المحتلة.. ينهض منها، ليحررها..

ثانياً: بطل الانتفاضة... يخترق حواجز: الخوف والإحباط واليأس...

ثالثاً: بطل الانتفاضة.. بطل التغيير..

رابعاً: من دم الشهيد...، سيبزغ فجر الوطن الحر...

 

 

بطل الأرض المحتلة...

ينهض منها، ليحررها...

 

-1-

عشرون سنة مرت على الإنسان الفلسطيني، وهو رهن الاحتلال، في وطنه... عشرون طويلة، سلحفاتية الدقائق والثواني -عشرون كئيبة، ملبدة السماء بغيوم كثيفة تحجب نور الشمس... لا تنجلي، ولا تمطر أبداً..

عشرون سنة من معاناة الظلم والعسف.. من الإحساس المزمن بالخوف والقهر والقلق... عشرون من الاضطهاد، والانسحاق تحت وطأة الاستعلاء العنصري تارة، وتارة تحت وطأة الجوع وذل الفقر... عشرون مرهقة... توالت أيامها، كلها، ليلاً كابوسياً مرعباً... ما تألق فيه نجم، ولا أطلّ قمر..

عشرون سنة متواصلة، لزجة... قضاها الإنسان الفلسطيني، على رصيف الانتظار، مبركناً بالترقب، وهو يحلم أن يرى فجر حريته يبزغ، يوماً، من يديه، ومن رحم الأرض التي أحبها، لتغتسل بنور ذلك الفجر، متطهرة من أحذية الغزاة ورجسهم..

عشرون سنة، وهو يلف تلك الأرض، ويحتضنها حبيبة، محاولاً إخصابها بماء ثورته وشوقه إلى حريتها.. وعشرون سنة أخفقت محاولاته... لكنه أبداً لم يفقد أمله بحدوث المعجزة... كان عقب كل خيبة، يبتلع فشله، ويكظم يأسه، ثم يعيد المحاولة، متفائلاً، من جديد..

وحين استحال تفاؤله شمساً، أشرقت في قلبه وعقله، وعداً بالخلاص... وأملاً، أيقن أن المحاولة نجحت أخيراً... وأيقن أن موعد المخاض المقدس، قد صار قريباً..

وعندها، نفض العشرين عن كتفيه، لينهض، من تحت ركامها، مارداً، له قامة الريح...

ضغط آلام معاناته بين أصابعه، بقسوة فصارت حجراً، عبّأ في الحجر مأساته وحلمه... شحنه بإرادته... ثم شمرّ عن ذراعيه القويتين، وتهيّأ، محضراً نفسه، ليساعد أرضه على وضع مولودهما المنتظر: الحرية...

وها هو.. بطل الأرض المحتلة، ينهض منها ليحررها..

-2-

ها هو.. يقبل غامضاً، كالغيب.. وكالريح لا يرد.. يلبس عريّ الحق، ويحرك الإنسان، الطير، الصخر، الجبل، البحر... ويضمهم في صحبته، جنداً وشهوداً..

ها هو... ينهض منبعثاً من مأساته... ينهض من أول دفء الزهر المتحد بدفق الدم... ينهض ليشكل مستقبله بيديه... /وكما يحلم...

ها هو... يمشي فوق النار بشيراً... وفي خطواته معجزته.. نوره يتضاعف آلاف المرات/ بفعله... والعالم ظلّ يجري خلف طهارته، ويغتسل بآلائه..

ها هو.. يخترق زمانه الموبوء بالحقد وبالجشع... زمانه المصاب بالشلل والترهل واللامبالاة. يرفضه... يتحداه.. يحطمه.. ويسحق شظاياه على جدران مأساته، ليعلن عودة الفرح إلى مدن القهر... عودة الإنسانية للإنسان..

ها هو .. يحطم حدود اليأس والقنوط واللاجدوى... ويحطم أغلاله. كي يقتحم الوجود بقوة... ليرسم الدهشة على الوجوه، ويزرع في العيون الجوعى للنور والحرية، حقولاً من أمل أخضر..

ها هو... يفعل ويفعل... يخلق معجزته، بدءاً منه.. وبأفعاله، ينسجها أسطورة... يطلقها، في ذاكرة التاريخ ووجدان الناس، خلوداً... يطلقها، نغماً ينبعث طرباً، من أعماق الأرض وقلبه.. نغماً فطرياً وأصيلاً، حلواً وشجياً.. نغماً يجتاز بسامعيه حدود الوعي الضيق، نحو عوالم رحبة...، لا محدودة... عوالم أمل، يتفتح المستحيل فيها وعوداً ممكنة..

هو ليس خيالاً أو وهماً، بل معجزة حية.. وسرّ معجزته يكمن في أنه أمة... فهو المرآة التي يرى الجميع وجوههم فيها، وهو بذات الوقت- الوجه الخالد أبداً... الوجه الذي ترتسم قسماته على كل الوجوه العابقة بالثورة، وبحلم التحرير... هو الكل في واحد... الشعب في واحد..

-3-

هو ... بطل الأرض المحتلة، ينهض منها، ليحررها... ينهض طفلاً، يقذف حجراً... فيصير الحجر، بقدرته، شمساً تطلع، في الآتي، وطناً حراً.. ينهض أمّاً صلبة...، ترفض أن تبكي من فقدت، وتظل الأرض الخصبة تعطي، من كبد حرى... ينهض أختاً وحبيبة، ترفض أن تركع صاغرة\... ترفض أن تستسلم أو تتحطم... ينهض شيخاً قسّامي الوجه، ورجلاً، ما زالت، في يده، تبكي لعبة طفلته المقتولة غدراً، تستصرخ ثأره...

ينهض شعباً، صنعته تجاربه المرة، سيفاً عربي النصل ورمحاً... ينهض شعباً من لهب ضار، وحنان.ينهض شعباً / أملاً، قرر أن يبني غده بإرادتهِ، وحجارة أرضه..

-4-

ربما ليس خطأ اتهام المقاطع الثلاثة السابقة، بأنها خارجة عن حدود البحث النقدي وطبيعته، أسلوباً ومنهجاً... ذلك أنها، في مضمونها وصياغتها أقرب إلى الخاطرة الذاتية منها إلى النقد والدراسة... لكن، وعلى افتراض صوابية هذا الاتهام، ربما يستطيع الباحث أن يعثر على ما يتعلل به، كمسوغ، لخروجه القصير، من الموضوعي إلى الذاتي، في كون بطل الانتفاضة، وعلى المستويين الواقعي والقصصي، يعدّ محرضاً قوياً للنفس، يدفعها إلى التغني بأفعاله ومواقفه، وبنتائجهما... وثمة مسوغ آخر، يتمثل في انسجام ملامح بطل الانتفاضة، في المقاطع الثلاثة السابقة، مع الكثير من ملامحه في قصص الانتفاضة التي شكلت دراستها نسيج هذا البحث..

فقد اهتم مؤلفو هذه القصص، بإبراز بعض ملامح البطل الفلسطيني الذي فجر هذه الثورة العظيمة، وصنع أحداثها ومنجزاتها، وما يزال... اهتموا بإبراز ملامحه: طفلاً، وشاباً، وامرأة، وشيخاً، طاعناً في السن، وشعباً.. ولكن تعبيرهم عن هذا الاهتمام، لم يكن مباشراً، في أغلب الأحيان. بتعبير آخر لا نجد، في قصصهم حديثاً مستقلاً خاصاً بأي من ملامح بطل الانتفاضة.. بل نجد إشارات موحية، تدل على هذا الملمح أو ذلك وترسمه، في ثنايا الحديث عن أفعال ذلك البطل، وعن المتغيرات التي أنجزها باستمرارية ثورته، سواء على مستوى بنائه النفسي، أوعلى مستوى القناعات والمعايير الاجتماعية التي كانت تسود محيطه، قبل انطلاقة ثورته، أو على مستوى وضعيه.: السياسي والفكري..

وعلى افتراض صحة التصور، بأن مؤلفي قصص الانتفاضة قد اتخذوا من منجزات بطلها ملامح مميزة لشخصيته التي رسموا صورتها في قصصهم، وعلى خلفية الاعتقاد بأن أهم هذه المنجزات يتمثل، بجملة المتغيرات التي حققتها استمرارية ثورته، فإن ثمة ما يدفع إلى تركيز الحديث على أبرز تلك المتغيرات التي تعدّ، وبحق، المشكل الرئيس والأهم لخصوصية هذه الثورة وصانعها..

-5-

وعلى ضوء مراجعة مضامين ما توفر من قصص الانتفاضة التي صدرت، داخل الوطن المحتل، وتحليلها، يتبين أن المتغيرات التي أحدثتها هذه الثورة، على المستوى الفلسطيني، في الداخل تحديداً، قد استقطبت اهتمام مؤلفي تلك القصص، وجذبته، أكثر من تلك التي أحدثتها على المستويات: العربي والصهيوني والدولي.. وربما يعود ذلك، إلى ما تتمتع به المتغيرات، على المستوى الفلسطيني الداخلي، من أهمية خاصة، في نظر أدباء الوطن المحتل... وهي أهمية يمكن إدراكها، والتعرف عليها، وتعليلها، من جهتين:

فمن جهة أولى، تكتسب المتغيرات، على ذاك المستوى، أهميتها الخاصة، من كونها مؤشرات قوية الدلالة، يعين استقراؤها على استشراف ما تمتلكه الانتفاضة من  إمكانيات القدرة الذاتية على الاستمرار، وعلى تصور المدى الزمني المحتمل لهذا الإستمرار، في ضوء تقدير جملة الظروف والمعطيات المحيطة بالثورة وثوارها، بفعالياتهم وإمكانياتهم، راهناً؛ وفي ضوء ما يتوقع أن يطرأ على تلك الظروف والمعطيات، من تغيير، مستقبلاً..

ومن جهة ثانية، تستمد المتغيرات، على المستوى الفلسطيني، أهميتها الخاصة، أيضاً؛ من فعالياتها التأثيرية، في مجموع البنى الفلسطينية النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بشكل خاص، وداخل الوطن المحتل تحديداً..

لهذا، فتأسيساً على ما سبق، وانطلاقاً منه، ستقتصر هذه الدراسة، تالياً، على عرض أهم المتغيرات التي أحدثتها انتفاضة أبناء الوطن المحتل، على المستوى الفلسطيني، دون غيرها، ومن زاويتين، تحديداً:

أولاً: من زاوية محاولة استبانة الكيفية التي طرحت بها هذه المتغيرات، فنياً، ومدى ما أصابه مؤلفو القصص المدروسة من نجاح، في طرحها، وفي إيصالها إلى قارئهم.

ثانياً: من زاوية السعي إلى تبين القدرة الدلالية لهذا الطرح، على رسم ملامح بطل الانتفاضة، وعلى إضاءة ما تتميز به شخصيته من خصوصية، توازي خصوصية ثورته ونتائجها..

 

 

 

بطل الانتفاضة.. يخترق حواجز:

الخوف والإحباط واليأس..

 

سبقت الإشارة، في الفصل الثاني من هذه الدراسة، إلى أن مشاركة أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل وطنهم المحتل، في فعاليات الانتفاضة الراهنة، قد بلغت حداً من الاتساع والشمولية، لم تبلغه، قبلها، أي من الثورات الفلسطينية السابقة؛ وهذا ما جعل الانتفاضة ترقى إلى مستوى ثورة تحرير شعبية، بكل ما تنطوي عليه صفة (شعبية)، من دلالات ومعانٍ.. وربما ليس خطأ الاعتقاد بأن قدرة الانتفاضة على الاستمرار، وما حققه استمرارها من نتائج، وما نجم عن هذه النتائج من متغيرات على مختلف الصعد والمستويات، محلياً ودولياً، يعد بين العوامل الأكثر تأثيراً وفعلاً، في إكساب الانتفاضة صفة الثورة الشعبية، أي في إضفاء طابع الشمولية عليها، كثورة..

ومن خلال خصوصية العلاقة السببية الوثيقة بين استمرارية الانتفاضة، وشمولية المشاركة في فعالياتها، يمكننا إيضاح ما قد يبدو تناقضاً بين توصيف الانتفاضة بأنها الامتداد، الذروة لما سبقها من ثورات وتجارب نضالية فلسطينية، وبين كونها، عبر استمراريتها، أحد أهم العوامل، بل ربما العامل الأهم، في إقدار غالبية أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، على اختراق دائرة المثبطات التي كانت تحاصر إرادة الثورة في نفوسهم، وتعيق رغبتهم في نقل هذه الإرادة من حيز التمني إلى حيز الفعل الملموس ممارسةً، على أرض الواقع..

فنظرياً، على الأقل، من المفترض أن يكون اختراق حصار المثبطات لإرادة الثورة، أي ثورة، سابقاً لانطلاقتها لا تالياً لها وبسببها.. وذلك لسبب بسيط، هو كون هذا الاختراق يعد أحد الشروط الرئيسة والمبدئية، الواجب توفرها لانطلاقة أي ثورة... ولا شك أن هذا الافتراض صحيح، حين يكون المخصوص بالحديث مفجري الثورة وقادحي شرارتها الأولى، وليس غالبية الشعب التي يظل أفرادها أسرى التردد والخوف من إعلان ثورتهم والشروع في تجسيد رغبتهم بها ممارسة، حتى تنقدح تلك الشرارة... ذلك أن الإنسان العادي الذي يتشكل منه قوام الغالبية، في أي شعب، تشجعه بطولات الثوار الأوائل وممارساتهم، وتشعل الحماس في نفسه للإنضمام إلى ركبهم... وحين تتحد شعلة حماسه مع استطالات أعمال القمع الموجهة ضد الثوار، ووصولها إليه، على الرغم من عدم انخراطه في صفوفهم بعد، ينفجر صمام صبره، دفعة واحدة، لتصير تراكمات نقمته اللامحدودة على واقع القهر والاضطهاد قوة اندفاع خارقة، تصهر حرارتها خوفه وتردده، وتنطلق به إلى ساحة المواجهة مع العدو، ثائراً جديداً..

إذن، وتأسيساً على افتراض صحة التصورات والقناعات الآنفة، يمكن القول إن انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، وما حققه الثوار من انتصارات على قوات الاحتلال الإسرائيلي، كانت عوامل رئيسة في إحداث تغييرات عميقة على مستوى البنية النفسية لغالبية أبناء الوطن المحتل، وهذه التغييرات تحولت، بدورها، إلى عامل مؤثر وفعال ساهم في إقدار تلك الغالبية على اختراق دائرة المثبطات لإرادة الثورة في نفوس أفرادها. تلك المثبطات التي كانت تشعرهم بالخوف من عواقب الثورة على العدو، وتحاصرهم باحتمالات الفشل، لإدراكهم عدم التكافؤ بالقوى بينهم وبينه، ثم تلقي بهم في أحضان اليأس والإحباط والقنوط، من إمكانية تحقيق النصر على ذلك العدو، ومن النجاح في تغيير واقع الاحتلال الذي يفرضه عليهم..

وهنا، ثمة ملاحظة، على قدر من الأهمية، قد يكون من الضروري الإشارة إليها... وهذه الملاحظة تتعلق، بكيفية اختراق غالبية أبناء الشعب العربي الفلسطيني، داخل الوطن المحتل، لحواجز الخوف والإحباط واليأس، بعد انطلاقة الانتفاضة، وبتأثير استمراريتها... فعلى ضوء النتائج التي يقود إليها استقراء أحداث هذه الثورة وتطوراتها، وتطورات اتساع المشاركة الشعبية فيها وشموليتها، يتبين أن اختراق غالبية الفلسطينيين، للحواجز النفسية السابقة، لم يحدث دفعة واحدة...؛ أي لم يكن اختراقاً متزامن الحدوث لجميعها؛ بل كان اختراقهم لها تتابعياً..

بتعبير آخر، أكثر تفصيلاً ووضوحاً، يمكن القول: إن الإنسان الفلسطيني قد بدأ، أولاً باختراق حاجز الخوف والتردد من عواقب المشاركة في الانتفاضة، ومما كان يتوهمه، في تلك العواقب، من سلبيات، وذلك بتأثير عاملين رئيسين: الأول، نجاح مفجري الانتفاضة، وغالبيتهم من الأطفال والشبان الصغار- كما هو معروف- في تحدي قوات الاحتلال، والصمود في مواجهتها، على الرغم من عدم التكافؤ المذهل بينهم وبينها، من ناحية امتلاك أسباب القوة ووسائلها. أما العامل الثاني، فهو كون أولئك الثوار الصغار، هم الأبناء والأخوة والأقارب... ومن غير المعقول أن يرى المرء ابنه أو أخاه الأصغر يواجه الخطر نيابة عنه، ثم يظل هو مكتوف اليدين، لا يهب لنجدته ومساعدته، مهما كانت نتائج هذه المساعدة سلبية العواقب..

وهكذا، وتدريجياً، بدأ حاجز الخوف الوهمي الذي كان يكبل كثيرين بالتردد ويدفعهم إلى الإحجام عن المشاركة في فعاليات الثورة، بدأ بالتلاشي، حالما شرعوا في خوض المواجهة... وما كاد ذلك الحاجز يتداعى ويزول، حتى اكتشفوا خرافية القوة العسكرية الخارقة، لعدوهم- تلك القوة التي كانت قناعتهم باستحالة التفوق عليها، مثبطاً لارادتهم في إعلان الثورة على ذلك العدو. لقد اكتشفوا، في ساحة المواجهة، أن السر في امتلاك الإرادة وليس في نوعية السلاح وكميته... وقد تأكدت لهم صحة ما اكتشفوه، حين لمسوا بأنفسهم عجز عدوهم، بكل ترسانة  الأسلحة الضخمة والمتطورة التي يملكها، عن قهر إرادتهم في استعادة حريتهم وحرية أرضهم، على الرغم من أن كل ما استخدموه من أسلحة لتجسيد هذه الإرادة واقعاً، كان الحجارة والزجاجات الحارقة.. وبهذا الاكتشاف، استطاعوا اختراق حاجزي اليأس والإحباط، والصيرورة إلى الشعور بنقيضهما، أي الشعور بالتفاؤل والامتلاء ثقة بحتمية النصر على ذلك العدو، وبحتمية النجاح في انتزاع حريتهم وحرية أرضهم من براثن سيطرته..

وبعد، فالسؤال الذي يطرح نفسه، في هذا الموضع من سياق البحث، هو: إلى أي حد نجحت قصص الانتفاضة، في التعبير عن التحولات والتغييرات السابقة التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، على مستوى البنية النفسية للإنسان الفلسطيني، داخل الوطن المحتل؟

بداية، يمكن القول: إن استقراء ما أمكن جمعه من قصص الانتفاضة التي صدرت في الوطن المحتل، تقود نتائجه إلى إمكانية الزعم بأن القارئ يستطيع أن يستشف، بين سطور أي قصة، إشارة ما، إلى واحد أو أكثر، من التحولات والتغييرات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها في نفسية الإنسان الفلسطيني... لكن، ولدى محاولة التمييز بين القصص التي اكتفى مؤلفوها بالإشارة العابرة والسريعة إلى بعض هذه التحولات، وبين القصص التي ركز من كتبها على تلك التحولات، وأبدى اهتماماً واضحاً بعرضها وإبرازها، نلاحظ وجود خمس فقط، من الصنف الثاني. وهذه القصص الخمس التي سبقت معالجة جوانب معينة من مضامينها، في بعض فقرات الفصلين الأول والثاني، من هذه الدراسة، هي التي ستشكل القراءة التالية لجوانب جديدة من مضامينها، محور هذه الفقرة وقوامها..

أولى هذه القصص الخمس هي (الحاجز)،( ) لنبيل عودة.. وللوهلة الأولى، قد يبدو غريباً تمكن بطلها/ الطبيب الشاب أحمد من استعادة ثقته بنفسه وبشعبه، وهو في أضيق حالات الحصار وأصعبها.. أي، وهو خاضع للتفتيش، من قبل جنود حاجز إسرائيلي. لكن الغرابة ما تلبث أن تزول وتتلاشى، حين نتبين أن لحظة خضوع ذلك البطل لمهانة التفتيش جاءت متزامنة، مع عاصفة من حجارة الانتفاضة، سبقت هبوبها وأعلنت عنه أعلام فلسطين التي غطت السماء، فجأة، حين طيرها عدد من أبطال الانتفاضة، بواسطة بالونات، متبعينها برعد حناجرهم التي كانت تهتف مجتمعة باسم فلسطين..

ففي تلك اللحظة الرائعة التي حولت مناخ الموقف، عند الحاجز الإسرائيلي، من النقيض إلى النقيض، زالت مشاعر الخوف والقنوط والإحباط والمهانة التي كانت تملأ نفس بطل القصة، ليحل محلها، ودفعة واحدة، شعور نقيض... شعور الثقة بالنفس والكرامة، والثقة باقتراب لحظة الخلاص، وحتمية حدوثها.. وقد استطاع نبيل عودة إيقاف هذه اللحظة الرائعة وإخراجها من مسارها الزمني الاعتيادي، ثم استبقاءها خالدة في المسار الفني لأحداث قصته، حين كثف ماطرأ خلالها من بدايات التحول في نفسية بطله، بالسؤال الموجز المعبر التالي "أجل، لماذا القنوط؟"( ) ذلك أن البطل طرح هذا السؤال الاستنكاري على نفسه، حين رأى الضابط الإسرائيلي الذي كان يتهادى متغطرساً، قبل قليل، كيف راح "يكز على أسنانه مع كل "زخة" فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة"،( ) وكيف صار، وجنوده، عاجزين عن الفعل، على الرغم من الأسلحة التي بأيديهم... لقد شعر البطل، لحظتذاك أن دوي الأصوات الثائرة الهادرة باسم فلسطين، والحجارة التي تقذفها الأكف الغاضبة، قد صار أقوى من عساكر الاحتلال ورصاصهم، بما لا يقاس..

وفي ذروة هذا التحول النفسي الكبير، بدأ بطل القصة بتحليل الواقع الراهن، معيداً تقدير القوى، المتصارعة على أرضه، من منظور جديد مختلف، جد الإختلاف، عن منظوره القديم... منظور القنوط واليأس.." وربما لأول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلاً... إحساس من القوة يتسرب إليه وتأخذه أفكاره بعيداً:

نحن أقوى منهم... هذا لا شك فيه.."( )

ويمضي العقل الذي أضيء بمعيطات جديدة، في محاولة استنباط تعليل صحيح لإحساس صاحبه المفاجئ بصيرورة الفلسطينيين أقوى من عدوهم الإسرائيلي.. وما يلبث أن يعثر على ذلك التعليل، في إصرار أبناء شعبه على التمسك بأرضهم، وفي وعيهم ضرورة الإسراع بالمبادرة إلى تحريرها.." لا، لن يخيفوا شعباً يتمسك بوطنه.."( )وتلاشي الخوف هنا، مصدره بالدرجة الأولى -نمو الوعي الفلسطيني بضرورة التجذر في أرض الوطن، وتأكيد الانتماء إليها عبر تنمية الإحساس بأن شعب فلسطين هو صاحبها الوحيد الذي يرفض أي صيغة للشراكة فيها مع أي غريب عنها، وتحت أي ظرف.. لأنه وحده ملح ترابها... ولأنه وحده من تضرب جذوره بعيداً، في أعماق تاريخها السحيق.. أما المحتلون الإسرائيليون، فما هم، على الرغم من كل إدعاءاتهم، إلا طارئون، وسيمضون راحلين عنها حتماً..

ويبدو أن موضوع التحولات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، في نفسية الإنسان الفلسطيني، قد استقطبت الكثير من اهتمام القاص نبيل عودة، الأمر الذي أغراه بإعادة الإشارة إليها، في قصته (الزمن الجديد)( ) ولكن من منظور آخر، وعلى نحو أكثر تفصيلاً ووضوحاً.. فاستعادة ثقة الفلسطيني بنفسه وبشعبه، في هذه القصة، ليست وليدة إحساس مفاجئ، يداخل إنساناً فرداً، بل هو إحساس جماعي يداخل أبناء قرية بطل (الزمن الجديد) الذي ينجح في إعادة وعيهم الوطني إليهم، وفي إشعارهم بضرورة الانتماء إلى الثورة والمشاركة في فعالياتها، لا بهدف تحرير أرضهم فقط، وإنما بهدف تحرير أنفسهم، أيضاً، من ذل الخضوع لمحتل تلك الأرض، ومن خوف التعرض له وتحديه.. ولايصالهم إلى هذا المستوى من الوعي، كان على بطل القصة، أن يخوض، أولاً صراعاً مريراً مع أعوان سلطة الاحتلال وأذنابها، ومع رموز الإحباط ودعاة اللامبالاة والتجابن في القرية... وهؤلاء وأولئك، جسدهم نبيل عودة، تجسيداً رمزياً، في قصته، بشخصية مختار القرية وأبناء أغنيائها..

ولنعد إلى بداية الحدث، لنستطيع متابعة تطوراته ونتائجها... لقد شدت بطولات ثوار الانتفاضة ونتائج أفعالهم العظيمة، أنظار بعض شباب القرية وأطفالها، وأثارت اهتمامهم..ثم ما لبثت هذه البطولات أن دفقت في نفوس أولئك الصغار رغبة جامحة بالمشاركة، في الفعل النضالي الساعي إلى بناء غد التحرير... وكانت ولادة هذه الرغبة هي أول التحولات الهامة التي أحدثتها الانتفاضة في نفسياتهم... وتحت تأثير الالحاح القوي لهذه الرغبة على نفوسهم، اخترقوا حاجز التردد، وخرج نفر منهم لاعتراض دورية إسرائيلية مرت بالقرية... رموها بالحجارة، ونجحوا في طردها..

كانوا ثلة من التلاميذ الصغار، لم يحبطهم الخوف بعد، ولم يشل إرادة الفعل فيهم توجسُ انتقام العدو منهم، بوحشيته المعروفة... ولكن بعض كبار السن، في القرية، ممن خبروا الماضي، وكلسهم الخوف من تكرار ما تعرضوا له فيه، هم وقريتهم، والكثير من القرى المجاورة والبعيدة، سارعوا مبادرين إلى المختار/ رمز العمالة التقليدية مع المحتل، ورمز الزمن الاستسلامي الذي مزقته حجارة الانتفاضة، فيما مزقت، سارعوا إليه راجين تدخله لدى أسياده، كي لا يأخذوا القرية كلها بجريرة (طيش) بعض صغارها. وهنا، اغتنمها المختار فرصة، فراح يتشفى، ويمعن في إهانة كرامة المستجيرين بـ(جاهه)، في محاولة منه لتضخيم دوره الهزيل، ولتثبيت مركزه الذي بدأ يخاف تضعضعه..

"المختار فقع من الغضب والنرفزة، وهدد السكان بكبائر الأمور وعظائم ردود الفعل حين يصل الجيش ويفعل ويترك بأهل البلد... انقسم السكان على أنفسهم بين منخرس لما حدث، وبين متوجس خائف مرتعب لما سيحدث.

-دبرها يا مختار.

-يلعن أبو هيك بلد وأبو هيك أهل وأبو هيك أولاد وأبو هيك تربية.

-ايدينا بزنارك يا مختارنا.

-ربوا أولادكم يا بهائم.

-يا رجل المحن أنت يا مختار.

-تفو عليكم وعلى أولادكم. ماذا أقول لأصحابي؟ ما هذه المسخرة؟ أنتم قدهم؟

-سنربيهم ونكسر أيديهم وأيدي من يفعلها مرة أخرى.

-أنت سيد البلد.. ووجيهها.

-كلمة منك تزن رطلاً.

-أنت سيدنا وتاج راسنا.

-والله حيرتونا معكم... سنذهب نترجى من يسوى ومن لا يسوى؟

-دبرها يا مختار.

-هل نهون عليك؟

-دبروا أولادكم بالأول... إذا عجزتم عن تربيتهم.. الشرطة تربيهم ...الجيش يربيهم.. الحكومة  تربيهم..."( )

وما إن وصل المختار إلى هذا الحد، وبدأ يستشعر نشوة الإحساس بالأهمية، ولذة خضوع أهل قريته لسلطانه، حتى حدث ما لم يكن متوقعاً من أحد، على الإطلاق... فقد نهض شاب مغمور من فقراء القرية، يتحدى المختار وأسياده المحتلين، في آن معاً، غير هيّاب من أحد..، ولا ملتفت لاستنكار أحد أو مهتم بتعجبه... وفي ذات الجلسة، خطف اهتمام الحاضرين بالمختار وكلامه، وجعله ينصب على ما يقوله هو، حين راح، وتحت بصر المختار وسمعه، يشرع في تثوير أهل  قريته، وإعدادهم لدخول الزمن الجديد، زمن الانتفاضة...

كان هذا الشاب المفاجئ هو سليم النجار بن عطا، خباز القرية الفقير.. وقد ركز نبيل عودة على شخصيته وأسهب في رسم ملامحها وأبعادها، وهو يقدمها، للقارئ، بوصفها شخصية بطل ثوري إيجابي، استطاع بصبره وذكائه وإخلاصه وشجاعته أن يعيد أبناء قريته إلى وعيهم، وأن ينتشلهم من بؤرة إحساسهم بالخوف واليأس والإحباط، معيداً إليهم الثقة بالنفس، والشعور بالقدرة على الفعل أيضاً..

وقد تأتى له أن يفعل هذا كله، وينجح في تحقيقه، إثر انتصاره على المختار العميل، في ذلك الاجتماع نفسه الذي كان التفوق للمختار، في بدايته... فبعد أن فاجأ سليم الجميع بتحديه للمختار، دخل الرجلان في مشادة حامية، انتهت بانتصار سليم... ولعل أبسط توصيف لما يمكن أن توحي به الدلالة الرمزية لهذه المشادة، هو أنها تمثيل للصراع بين فريقين من أبناء الوطن المحتل، كل فريق منهما ينتمي لجيل، ولكل منهما وجهة نظره الخاصة، والمختلفة عن وجهة نظر الآخر..

فالمختار، ومن استجاروا به من كبار السن، في القرية -مع تأكيد الفارق في الخلفية والأهداف بينه وبينهم- يمثلون فريقاً من جيل الفلسطينيين القدامى الذين رهلهم الركون إلى قدوم الفرج والخلاص من الخارج، وبفعل الآخرين لا بفعلهم هم. وقد كان بين الأسباب الرئيسة لاصابتهم بهذا الترهل، استمراؤهم للعبة المراوحة اللامجدية على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي... هذه اللعبة التي جعلتهم، بمرور الأيام، يستكينون للاحتلال، ويكيفون أنفسهم مع وجوده، دون أن ينتبهوا إلى أنهم، بهذا الفعل، إنما كانوا يمرغون كرامتهم بالوحل، ويلقون بمستقبلهم في غياهب المجهول... أما سليم، رمز الطليعة الواعية والمثقفة للجيل الفلسطيني الشاب، فقد أيقن أن النصر هو ثمرة الفعل الذاتي، ثمرة النضال والتضحية والصمود، وليس هبة مجانية تأتي من الخارج... لنتأمل الفارق النوعي الواضح والكبير، بين وجهتي نظر الجيلين، عبر المقابلة التالية:

" في البداية، حدث صراع مع بعض كبار السن. أرادوا أن يفرضوا سلطتهم على الأحداث. افعلوا كذا وكذا. إياكم والاصطدام مع الجيش. نحن لسنا قدهم.. صحيح نحن مع الجماهير، ولكنا هنا في البلد معزولين. إذا دبكوا فينا فلن يخرج منا مخبر. إنهم وحوش كاسرة لا يقيمون حساباً لعرض أو احتراماً لعاجز أو شفقة على ولد... لا تضيعونا في آخر العمر. ما عاد لنا قد ما مضى.. وهكذا دواليك.. كلام من هذا النوع يهبط العزائم، ويترك في النفس شعوراً من المرارة والهزيمة والكآبة والإحباط.".( )

إنه حاجز الخوف الذي ارتفع بنيانه على مدار عشرين سنة، ليصير يأساً وهمياً من إمكانية مواجهة العدو واحراز النصر عليه.. لكن هذا الحاجز، على سماكته المفرطة وعلوّه الشاهق، كان حاجزاً هشاً، قوامه الوهم، والوهم فقط، ومكانه بعض نفوس كبار السن، وليس جميعهم..." ولكن، والحق يقال... إن معظم كبار السن لم يرضوا عن هذا الكلام.".( )

ويقينا من سليم، ومن شاكله من أبناء جيله، بهشاشة بنية حاجز الخوف هذا، ووهمية اليأس التي يوحي بها لبعض ضعاف النفوس والقلوب، نراه -أي سليم- لا يتردد في محاولة اختراق هذا الحاجز، وتبديد إشعاعات التيئيس المنبعثة منه، تمهيداً لتثوير أبناء شعبه..

"وقف سليم النجار وأبلغ أهل البلد المتجمعين في الجامع بأن أكثرية أهل القرية يرفضون هذا الكلام - يقصد كلام التخويف والتيئيس الوارد آنفاً- وتمتم بصوته الرنان:

-زهقنا الخنوع، وعفنا حياة الذل. وأتبع هذا بقول عبد الرحيم محمود الشهيد، فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى.."( )

وبعد، واضح أن وجهتي النظر السابقتين تتناقضان، تمام التناقض فأولاهما التي يتبناها مترهلو الجيل القديم، ويحاول المختار وأتباعه تأكيدها وإشاعتها، تدعو إلى الذل والاستسلام والخنوع، عبر الاستمرار في موقف العطالة عن الفعل، أما ثانيتهما التي يتبناها سليم وكثير من أبناء جيله الشاب، فتدعو إلى النقيض... ولأن الثانية هي الأقوى حجة والأكثر منطقية وإقناعاً، فقد نجح سليم، عبر إيصال فحواها إلى أبناء قريته، في إحداث التحول النفسي المطلوب... نجح في تحطيم منظومة المعايير القديمة المهترئة، وفي التمهيد لتغييرها بأخرى جديدة.. أو حسب تعبير (وليد) أحد أبطال القصة: "أزال*  الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ وحرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه.".( ) ولكن، كيف تسنى لسليم أن يفعل ذلك كله؟

يشير نبيل عودة، معللاً موضحاً، إلى أن بطله سليم قد أتى أهل قريته، من الباب الذي لا يقدر أحد على نكرانه أو تجاهله أو الاعتراض عليه... أتاهم من صدمهم بحقيقة الواقع المهين الذي يتناسون اضطرارهم للقبول به، ويهربون من التفكير في الثورة عليه، خشية توهمهم اللاجدوى في ثورة كهذه، وخشية ما سيجره عليهم احتمال اخفاقها من التعرض لمعاناة ما هو أسوأ من واقعهم الذي كان قبلها، وما هو أشد قسوة وعذاباً.. كما أتاهم، أيضاً، من تذكيرهم بكرامتهم التي مرغت بأوحال خوفهم وأوهام يأسهم، ومن تذكيرهم بأرضهم التي أوشكت أن تنحل وشائج ارتباطهم العريق بها، نتيجة تقاعسهم عن تحريرها من جهة، ووقوفهم مكتوفي الأيدي من العدو الذي يبتلع، كل يوم، أجزاء جديدة منها، من جهة ثانية... وأتاهم، أخيراً، من باب تنبيههم إلى ضرورة المشاركة في ثورة شعبهم، على خلفية تحريك عواطفهم القومية بالعزف على أوتار القناعة التي لا ينكرها أحد منهم، القناعة بأنهم كفلسطينيين، ليسوا أفضل من أولئك الذين يضحون ويستشهدون، وهم يحاولون صنع غد الحرية لهم ولأرض وطنهم، في آن معاً...

وقد صارح سليم أبناء قريته بكل هذه الحقائق، وفتح عيونهم عليها، في سياق المشادة الحامية التي دارت بينه وبين المختار، تحت سمعهم وأبصارهم...

فبعد أن بالغ المختار في تحقير من جاؤوا يرجون وساطته لدى (أصحابه) من سلطات الاحتلال، كي لا يعاقبوا القرية كلها بـ (طيش) بعض صغارها الذين حاجروا دورية من دورياته، وبعد أن ظن بلوغه ما أراد، إذا بسليم يقطع الطريق عليه، ويتصدى له هازئاً به، مسترخصاً وساطته، ومستهيناً به وبمن سيتوسط لأهل القرية عندهم :" أصحابك من الادارة المدنية لايخوفونا، أنا أقول بشكل واضح، نحن جزء من هذه الأرض. نحن هنا في وطننا. أهل البلد، لأمر لا أفهمه ولا أقبله، يترجوك من الصبح، وأنت تلاعبهم لعبة شد الحبل، تهينهم وتمسح بهم الأرض هل تريد أن يعطوك نصف محصولهم حتى تحل لهم ما تسميه مشكلة؟ نحن لا نريد أن نحلها. نحن نريد أن نؤزمها. ولا توجد مشكلة اسمها قذف حجارة. توجد قضية اسمها الاستقلال. قضية اسمها الكرامة.. دم الشهداء النازف في مدننا وقرانا المحتلة ليس أرخص من دمنا...".( )

بهذا المنطق النابع من موقف ثوري صادق، والمؤشر إلى اكتمال وعي الجيل الفلسطيني الشاب بأبعاد قضيته، وحقه، وبضرورة شمولية ثورته، استطاع سليم -رمز هذا الجيل في القصة- اسكات المختار الذي هو رمز الترهل والعمالة، وبهذا المنطق نفسه، استطاع تهيئة أهل قريته للثورة... فقد أقنعهم بأن التذلل والخنوع لا يجديان في مقاومة شهوة المحتل لسرقة المزيد من أراضيهم، ولا في الحيلولة بينهم وبين ممارساته العنصرية ضدهم. وعلى هذا، فإن المواجهة لا التذلل، هي التي يمكنها أن تضع حداً لاستمرارية تلك الممارسات وتصاعدها..

وبالفعل، ما إن استقرت هذه القناعة في عقولهم، حتى بادروا إلى اختراق حاجز الخوف الوهمي من عدوهم، ثم ما لبثوا أن بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على الحركة والفعل المؤثر الموصل إلى النصر... ولا أدل على تحولهم النفسي هذا، إلى نقيض ما كانوا عليه، من خروجهم جميعاً إلى ساحة المواجهة، غير عابئين بعدوهم وآلته الحربية المتطورة؛ ومن استعدادهم الرائع للتضحية بكل ما لديهم، حتى بحيواتهم، في سبيل تحرير أنفسهم ووطنهم... وقد رمز نبيل عودة إلى هذا التحول من النقيض إلى النقيض، بتصويره لطريقة استقبالهم نبأ أول من استشهد منهم، بالزغاريد...

أما المختار وأمثاله، فقد اندفعوا، مرغمين، إلى الانحشار في الزاوية المهملة، على هامش الأحداث التي أفلت زمامها من أيديهم، بعد عشرين سنة، أو يزيد..

القصة الثالثة التي اهتم مؤلفها بإبراز بعض ما أحدثته انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها من تغييرات في نفسية الإنسان الفلسطيني، داخل وطنه المحتل، هي قصة (وتكون لنا راية)( ) لنبيه القاسم. وبالطبع، كان للقاسم زاوية رؤيته الخاصة في الاطلال على تلك التغييرات، وفي اختيار ما حاول إضاءته منها في سياق قصته... فقد اختار التركيز على ما تلا اختراق الفلسطيني لاحساسه بالخوف والاحباط واليأس...، أي على امتلائه بحس الانتماء للثورة، وعلى فرحه باستشعار هذا الانتماء، وبالقدرة على ترجمته فعلاً إيجابياً ملموس النتائج، فوق أرض الواقع ...بتعبير آخر، ركز القاسم، ومن الجملة الأولى التي ابتدأ قصته بها، على إبراز فرح الفلسطيني باستشعاره لما أكسبه الانتماء إلى الثورة من جدوى لحركية فعله النضالي، ضد الاحتلال. "لم يصدق أن كل ذلك حدث هذا اليوم... لأول مرة يشعر بأن له راية وله نشيد وله ما يقاتل من أجله.".( )

لقد أضفت هذه المحددات الثلاثة الجدوى على فعله النضالي، ورسمت لحركية هذا الفعل هدفاً سامياً وواضحاً... ثم جاء إدراك الفلسطيني لهذا الهدف وإيمانه به وبضرورة تحقيقه، ليذكيا إصراره على الاستمرار في ثورته، والمضي بها إلى غايتها، على الرغم مما يحف الطريق إلى هذه الغاية من مخاطر... وهذا يعني أن استهانة الفلسطيني الذي انتمى للثورة، بالخطر، لم تكن من قبيل المجازفة العبثية اللاواعية، بل هي وليدة ثقته بنفسه، ووليدة إيمانه القوي برسالة ثورته، وبضرورة تجسيدها واقعاً، مهما بهظت التضحيات... ولهذا، فقط، لم يعد" يسأل نفسه ولو للحظة: لماذا أنا هنا؟ فقد كان بكل إدراكه ومعرفته ومشاعره يرتبط بهذه المواقع التي يقاتل فيها، تماماً كما يدرك ويعرف أن قريته البعيدة في الجليل، هي المكان الذي ولد فيه ويسكنه أهله وعرف فيه أول حب"( ) بمعنى أن معرفته لهدف ثورته ولدوافع انخراطه في فعالياتها، قد صار بدهياً... إن انتماء الفلسطيني للثورة، بكل هذا الزخم، وعلى هذه الدرجة من الوعي والإدراك، ومن الثقة بالفعل المتولد عن انتمائه، قد نسف كل الجسور المحتملة للتراجع، والمفضية للعودة إلى وضعية المراوحة على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي القادم من وراء حدود الأرض والذات..

بتعبير آخر، إن ماطرأ على نفسية الفلسطيني من تحول، بعد انطلاقة الانتفاضة، شبيه إلى حد كبير، بما آلت إليه نفسيات جنود طارق بن زياد، بعد أن أحرق سفن العبور التي أقلته وإياهم إلى البر الأندلسي... لم يعد أمام الفلسطيني، داخل وطنه المحتل، سوى خيارين، كلاهما فادح الثمن.. فإما الاستمرار في الثورة، حتى تبلغ كامل أهدافها، مهما كلفه الاستمرار فيها من تضحيات ودماء وعذابات، وإما الرحيل عن أرضه التي يحبها إلى غير عودة، ودون رجاء، والوقوع، بالتالي، فريسة التشرد والضياع والغربة والاضطهاد، كما حدث لأخوة له من قبل..

ولأن الخيار الأول، خيار الاستمرار في الثورة، يعني، في حال الفشل، موتاً واحداً مريحاً، بينما يعني الخيار الثاني معاناة الموت ألف مرة، في كل يوم، فقد قرّ رأي الإنسان الفلسطيني، على خيار الاستمرار في الثورة.. وفي محاولة منه لتأكيد ثباته على هذا الخيار للنهاية، فقد بادر إلى إحراق كل السفن التي يمكن أن تراوده هواجس اللجوء إليها، وقت اشتداد الأزمة، للتراجع على متنها إلى جحيم ما قبل الانتفاضة الذي كان يتلظاه، أو الصيرورة إلى جحيم آخر اشد وأدهى، هو جحيم الغربة والتشرد..

لهذا كله، وانطلاقاً من وعيه له، ولأبعاده الراهنة واحتمالاته المستقبلية المختلفة، "كان يندفع مع الشباب بكل قوته، يحاصرون الجنود المدججين بالأسلحة... ويعلو النشيد وترتفع الراية في السماء.. رائحة الغاز تملأ الجو، والرصاص يلعلع، ولا أحد يفكر بالتراجع.".( ) وأنى له أو لغيره أن يفكر بالتراجع، وهو يعلم أن التراجع صار يعني انطفاء الأمل والهزيمة والموت؟ أنى له أن يفكر بالتراجع، بعد أن ذاق حلاوة التحرر من وطأة مشاعر الخنوع، ومن لزوجة الإحساس المرهق بالذل والمهانة...، ومن إحباطات الماضي وقنوطه ويأسه...؛ وبعد أن امتلأ أملاً وثقة بنفسه وبقدرته على تحويل حلم الحرية، من مجرد حلم إلى إمكانية قابلة للتجسد واقعاً، في المستقبل القادم؟!!

ومن الممكن متابعة التطورات الرائعة لتفاعل امتلاء الفلسطيني بحس الانتماء إلى ثورته، مع تعاظم اندفاعه الواعي في مسالكها ودروبها، نحو هدف التحرير، في قصة (هنية)( ) التي كتبها محمد نفاع... ففي هذه القصة، نتابع، معجبين، الصغير فارس، وهو يقذف الحجارة على عسكر الاحتلال وآلياتهم، غير عابئ برصاصهم، ولا بطائراتهم التي راحت "تلاحقه وتشير إليه هو بالذات"..( ) ذلك أنه كان مندفعاً بصوت أمه التي كانت تستحثه: "اضرب يا ولد، كما ضرب أخوتك، اضرب فأنت لست أفضل منهم.".( )

وبالفعل، يستمر فارس منصاعاً لنداء أمه، يضرب ويقاتل، غير خائف من الطائرة التي كانت "تنخفض وتلاحق"( ) ولا آبه بها، حتى يقع شهيداً..وما أن ترى هنية ثالث أولادها وأصغرهم يستشهد لاحقاً باخويه، حتى تبادر " بأصابعها راسمة شارة النصر"( ) معلنة بذلك إصرارها على استمرارية التحدي، على الرغم من فداحة الثمن الذي دفعته...

إن قصة (هنية) تبرز، بوضوح، نجاح مؤلفها في الإشارة إلى التحول النفسي الكبير الذي طرأ على نفسية الإنسان الفلسطيني، بعد انطلاقة الانتفاضة، وبتأثيرها... هذا التحول الذي نلحظ تجسده أولاً، في موقف هنية، رمز الأم الفلسطينية التي تتعالى على عاطفتها الأمومية، فتدفع أولادها الثلاثة إلى الاستشهاد، الواحد تلو الآخر، ثم تتعالى ثانية، على أوجاع ثكلها إياهم، فترفع أصبعيها ترسم بهما شارة النصر، مواصلة التحدي والإصرار على الثورة... ونلحظ تجسد التحول النفسي، أيضاً على مستوى آخر، هو مستوى بطل الانتفاضة نفسه، الذي يمثله في القصة فارس... ففي حركية ممارسته للفعل الثوري، نراه يتجاوز كل حواجز الخوف ومسبباته، وهو في طريقه إلى هدفه حتى أنه يكاد يبدو، وهو يحاجر الأعداء، أكبر من آلياتهم ومن الطائرة التي كانت تلاحقه... بل تكاد تلك الطائرة تبدو، في سياق الحدث وضمن إطاره، وكإنها طائرة ورقية، من التي يلعب الأطفال بها..

القصة الخامسة التي تشف عن عناية مؤلفها بتتبع تطورات مسار التحدي الفلسطيني، وعن محاولته رصد مدى ما بلغته استمرارية الانتفاضة من قدرة على تحطيم حاجز الخوف من العدو الصهيوني، في نفسية الإنسان الفلسطيني، هي قصة (لأني أحمل حجراً)( ) التي كتبها ابراهيم جوهر.

فالصغيرة (روان) بطلة القصة، وبعد خروج أبيها من السجن، وكثمرة لتفتح وعيها وإدراكها لأسباب سجنه، يتحطم حاجز الخوف، في نفسها، من سجانيه، فتتغير صورتهم القديمة (المرعبة)، في وعيها ومخيلتها، لتصير إلى النقيض تقريباً...

وبمجرد حدوث هذا التغير، وصيرورته قناعة، نراها تسمو فوق سنوات عمرها القليلة، لترقى إلى القدرة على التفكير بممارسة التحدي، شأن غيرها من لداتها، ولو على مستوى التخييل... وذلك حين تسرح بخيالها، في حضرة أبيها، بعد خروجه من السجن، وتقول:

"بابا، امبارح هرب العسكر مني.

سألها باهتمام:

-لماذا يا بابا؟

أجابت:

-لأني كنتُ أحمل حجراً.".( )

لقد قرّ، في وعي الإنسان الفلسطيني، حتى الطفل الصغير، أن من كان مخيفاً، بالأمس، من الممكن إخافته ودفعه إلى الهرب، حتى بمجرد رفع حجر وتصويبه إليه... وهذا تحوّل نفسي هام جداً... ذلك أن عدم الخوف من العدو، دون مبالغة، أو ابتعادعن الواقع ومعطياته، يؤدي إلى إحداث دفق من الإحساس بأن النصر، على ذلك العدو، بات  احتمالاً ممكناً... بتعبير آخر، لم يعد الإسرائيلي يشكل في وعي الإنسان الفلسطيني، صغيراً كان أو كبيراً، عدواً مستحيلاً على الهزيمة، أو مخيفاً، بأي درجة  من درجات الخوف... وذاك بعد أن صدعت حجارة أبطال الانتفاضة وهم صورته (السوبرمانية) التي صممتها له أجهزة الدعاية الصهيونية، بعد حرب حزيران 1967، وروجت لها، في مختلف أنحاء العالم، فبأكف صغار الوطن المحتل وشبابه، تداعت الكينونة الدعائية للجندي الإسرائيلي، وعاد إلى كينونته الحقيقية.. عاد النمر الورقي المحشو بقش الدعاية الصهيونية والمقوى بصيغ مبالغاتها، بشراً كغيره، يمكن أن يخاف من صغار الأرض التي احتلها، كما من كبارها، وهم يرجمونه بحجارتها، مطالبينه بالرحيل عنها وعنهم..

بطل الانتفاضة...

بطل التغيير..

من المحتمل أن لا تقوض الزلازل القوية جميع ثوابت الأرض التي تضربها، ولكن، ربما يكون من المستبعد أن لا تتعرض هذه الثوابت كلها للإهتزاز، بهذه الدرجة من العنف والقوة أو تلك... وعلى افتراض صوابية تشبيه الثورات الشعبية الكبيرة والشاملة بالزلازل القوية، فإن هذا يعني : تعرض المعايير السائدة، كمسلمات ثابتة في المجتمعات التي تنفجر فيها تلك الثورات، إلى الاهتزاز، كما يعني تغيرّ معظمها، غالباً..

وانطلاقاً من الاعتقاد بأن الانتفاضة، كيف نظرنا إليها، وبأي الوسائل والمقاييس حاولنا تقييمها، تعدّ بين الثورات الشعبية الكبيرة التي ستظل تنبض بها ذاكرة التاريخ البشري، يمكن القول: إن زلزالها قد هزّ الكثير جداً مما كان ينظر إليه، قبلها، كمسلمات ثابتة، في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن المحتل وخارجه، بل حتى في أوساط تجمعّ المستوطنين اليهود أيضاً... كما غيرّ هذا الزلزال العنيف الكثير من تلك المسلمات التي كانت سائدة بوصفها معايير اجتماعية وفكرية وسياسية.. وما شابه، مما لم يكن يظن، إلا قليلون، أن يرقى الشك إلى صوابيتها، لا من بين يديها ولا من خلفها... بل إن قاصاً مثل نبيل عودة، وعلى لسان (وليد)/ ثاني الأبطال الرئيسين في قصته(الزمن الجديد)، لا يجد حرجاً أو مبالغة في إطلاق التعميم بأن الانتفاضة قد غيرّت كل ما كان سائداً قبلها من معايير، على مختلف الصعد والمستويات، وفي المجالات كافة... يقول (وليد) معمماً: "في هذا الزمن تغيرت كل المعايير..."( )

ومن مراجعة المتوفر من قصص الانتفاضة، الصادرة داخل الوطن المحتل، يتبين أن بعض مؤلفيها، قد ركزوا، في إضاءتهم لما أحدثته هذه الثورة من تغييرات، على عدد من أبرزها.. وفي مقدمة ما ركزوا عليه منها، التغييرات التي طرأت على منظومة المفاهيم والقناعات الاجتماعية والسياسية القديمة التي ضرب زلزال الانتفاضة نمطيتها السائدة، بعنف شديد، مقوضاً جزءاً مهماً من مسلماتها التقليدية...

وبين أبرز تلك المسلمات التي قوضتها الانتفاضة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي معاً، اشتراط المستوى الطبقي العالي، أي الثراء، إضافة إلى اعتبارات الحسب والنسب، وماشاكلهما، كمؤهلات لمن يسعى إلى الزعامة والجاه والسيادة، سياسياً واجتماعياً، على حد سواء... فقد قوض زلزال الانتفاضة دعائم هذا الاشتراط، بعد أن أثبتت أحداثها مدى خطئه وبطلانه... وذلك حين لاحظ الناس أن من فجرّ الثورة على العدو المحتل، وتصدى لغطرسته، وسعى للحيلولة دون استمرارية الوضع المذل الذي فرضه هذا العدو على أبناء الوطن المحتل، لم يكن من الأثرياء أو من أبنائهم، كما لم يكن سليل حسب ونسب، بل كان، غالباً، من طبقة الفقراء المغمورين... أما أبناء الجاه والغنى الذين كانوا يتسيّدون بالأمس ثوار اليوم، ويتشدقون بالشعارات الكبيرة التي يمارسون نقيضها، في حياتهم الخاصة، ويتاجرون بقضايا الشعب ومصيره، كل هؤلاء لم يبدُ أثرٌ لأحدهم، بعد انفجار الثورة وأثناءها... فقد تواروا عن الأنظار، وصمتوا مبتلعين ألسنتهم، تاركين من استغلوهم لمصيرهم، وكأن لا دخل لهم بما يجري، على ساحة الصراع، بعد انطلاق الانتفاضة، من أحداث دامية ومريعة...

لقد عرض نبيل عودة لهذا النموذج من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في قصته غنية المضمون (الزمن الجديد)،( ) وذلك في سياق المنولوج الداخلي الذي رصده في وعي (وليد) البطل الثاني للقصة بعد (سليم)... يحادث (وليد) نفسه متسائلاً، بسخرية مفعمة بالمرارة والغيظ، في آن معاً:

"أين أولاد المرسيدس؟.. أولاد النعيم... أين اختفى المتفلسفون الذين يفهمون في كل الأمور. أصغرها وأكبرها؟ أبسطها وأخطرها؟ حين يتكلمون عن فتيات المدن، تظن أن لهم في كل شارع معشوقة أو أكثر، فتقتلك الغيرة والحسد للنعيم الذي كان من نصيبهم. وحين يتحدثون في السياسة، يجيبون لك رأس (ريغين) على طبق من ذهب، يفهمون في حرب بيروت، ويتحاورون ويتصايحون وكأنهم أبطالها وصانعو مجدها. لهم نظريات في الطائرات الشراعية، وتحاليل في الوطنية، وانتقادات بلا نهاية حين يجعصون في المرسيدس، بالكاد يشعرون بالخلق من حولهم.

أين اختفى أولئك العباقرة؟"( )

ما من جواب على هذا السؤال الاستنكاري النابض بالغيظ، سوى أن أمثال هؤلاء، ومن على شاكلتهم، قد تواروا عن مسرح الأحداث، إثر انطلاقها، وقبعوا في قصورهم ينتظرون مرور العاصفة، وقد أحنوا رؤوسهم لهبوبها الشديد، كي لا تكسر هيكلية تمظهرهم الثوري المزيف، أو تنتزع ورقة التين الدعائية عن عورة مواقفهم، فتكشف حقيقتها... وهم، في حجور انتظارهم، يترقبون تلك اللحظة التي تهدأ فيها حركة الأحداث ونشاطات صانعيها، وتتبلور نتائجها النهائية، ليقفزوا على ما حققه الفقراء بدمهم وتضحياتهم الكثيرة الأخرى، فيدعوه لأنفسهم، كالعادة، ويجيّروه لاسمهم، زوراً وبهتاناً..

وبالطبع، ليس هذا مستغرباً ولا مفاجئاً.. فالانتفاضة، شأنها شأن معظم ثورات شعوب العالم، يخطط لها المفكرون الرياديون، عادة، ويدعون لها، ثم يأتي دور الشرفاء من بسطاء الناس وفقرائهم ليفجروها، مضحين من أجل إيصالها لأهدافها، بالدم والروح، وبالقليل الذي يملكونه من عرض الدنيا... ولكن، ما إن تلوح بشائر النصر، ويحين موسم قطاف النتائج والمنجزات، حتى يقفز الجبناء والمدعون، خارجين من جحورهم التي لبدوا فيها، زمن المعارك ومواجهة الأخطار وبذل التضحيات، ليستولوا على ثمار الثورة، وليتصدروا مواكب انتصارها، وكأنهم هم الذين صنعوا ذلك الانتصار..

لقد أراد نبيل عودة أن يكشف نموذج مُدّعي الثورة هؤلاء، سلفاً، وأن ينبه إلى ما يخططون له، محذراً ومؤكداً في آن معاً،  عبر سياق محاولته هذه، أن مخططاتهم ستبوء بالفشل، هذه المرة... وذلك لأن الفلسطيني الذي فتحت الأحداث، وما سبقها من تجارب ومعاناة، وعيه، وأنضجته، لن يسمح للأدعياء بأن يسرقوا منه ثمار ثورته ومنجزاتها..

من جهة أخرى، حاول نبيل عودة، وفي ذات السياق السابق أيضاً، أن يلقي حزمة ضوء على جملة الأسباب والعوامل المستجدة التي غيرت معظم السائد من المعايير القديمة، لتتيح المجال رحباً، أمام شاب فقير ومغمور اجتماعياً، كسليم النجار، مثلاً، أن يغدو زعيماً.. كما حاول أن يبين أيضاً، كيف تجاوزت تلك العوامل بسليم إلى الزعامة، من كانوا الزعماء التقليديين لقريته، مع أنه لا يملك أيّاً من مؤهلاتهم التي تسيّدوا بها القرية، في السابق..

فسليم هذا، وحسب القصة، لا مال ولا حسب ولا نسب... أي في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي/ الطبقي... ومع ذلك، تجاسر على المختار الثري، والقائد التقليدي للقرية، سياسياً واجتماعياً، وتصدى له متحدياً، في ذات الوقت الذي كان فيه وجهاء أهل القرية وكبارها يتصاغرون له ويرجون عونه.. "أصابت اللخمة معظم الحاضرين في ديوان المختار الرحب. عشرات العيون نظرت باستهجان لهذا الشاب المتناسي أصله بأنه شحاذ بن شحاذ، المتناسي مقامه، والمتطاول على عصمة المختار في بيته وبين أهل بلده".( )

وحسب إيحاءات سياق القصة، فإن مبعث (لخمة) الحاضرين واستهجانهم، كان تفاجؤهم برؤية ما ألفوه من معايير يتداعى وتختل منظوماته السائدة، على حين غرة، ودونما توقع... وقد كان من الممكن أن ينقلب الموقف، برمته، ضد سليم وما يمثله، لولا قدرته على الثبات، وعلى الاحتفاظ بهدوئه ورباطة جأشه، في مواجهة المختار، وما ولدته هذه المواجهة من إحساس بالمفاجأة في نفوس أهل القرية.

أما مصدر ثبات سليم، فقد كان، بالدرجة الأولى، ادراكه لأهمية الصراع الذي فتحه المختار وأعوانه، واستشفافه لأهمية النتائج التي سيتمخض عنها انتصاره في هذا الصراع... تلك النتائج التي كان، من أبرزها، تغيير مسار تفكير أهل القرية وموقفهم، إلى الجهة النقيض... فطيلة فترة اشتباكه مع المختار، لم يزايله الإحساس بالأمل في أن ينجح بتفتيح وعي أهل القرية، وبدفعهم إلى الخروج من دائرة العطالة التي تشل إرادة الثورة فيهم، وتجعل رد فعلهم على إهانة كرامتهم معوقاً..

وبعد انتصاره في أولى جولات صراعه مع المختار، وصوناً لهذا الانتصار، عمد سليم إلى انتهاج أسلوب عملي، أوصله في النهاية، إلى الصيرورة زعيماً... وكان قوام هذا الأسلوب وأساسه، هو تأكيد الأقوال بالأفعال، وتجسيد الطروحات النظرية وقائع ملموسة... وهكذا، فبعد أن اطمأن الجميع "لاتزانه وفطنته وصواب رأيه"( ) وبعد أن "بات مرجعاً ومستشاراً في كل الأمور"( ) سلّموا له بالزعامة... وما كادوا يفعلون حتى" فاجأهم ابن الخباز هذا أنه قدها، وأنه لم يضيع وقته في الماضي سدى. فرغم أنه خرج للعمل في سن مبكرة، لمساعدة والده الخباز في إطعام الأفواه الكثيرة، إلا أنه واصل تثقيف نفسه... ربما هو الوحيد الذي كان يسافر للمدينة للبحث عن كتب ومجلات فقط، يقال إنها تملأ خزانة ملابسه وتفيض، ولا يبخل بها على أحد، وماذا كانت النتيجة بعد أن صار "سليم الزعيم غير المتوج للقرية في عهدها الجديد."؟.( )

في نظر شاهد عيان كوليد، تلميذ سليم وراوي قصة بطولته واستشهاده، قلب سليم عالم القرية... ذلك أنه "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ. حرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه".( )

تُرى، أليس واضحاً، من مجمل ما سبق، إلى أي حد تغيرت منظومات المعايير والقناعات والمفاهيم الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، قبل الانتفاضة، عما آلت إليه بعدها، وبسببها؟ ثم، أليس واضحاً، أيضاً، إلى أي حد كان كبيراً وعظيماً، دور أولئك الأبطال الواعين والمخلصين في إحداث ذلك التغيير الذي دفعوا حيواتهم ثمناً لنجاحه؟

وبعد، فهنا، وقبل المضي في إضاءة متغيرات أخرى هامة صنعها سليم وأمثاله، ثمة ضرورة للتوقف ملياً، والإشارة إلى ملاحظتين على جانب من الأهمية.. الأولى، تتضمن الإيماء إلى ذلك التداخل العضوي بين أسباب حدوث معظم المتغيرات الحاصلة وبين نتائجها، في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد، مما يؤكد صحة توصيف الانتفاضة، بأنها ثورة شعبية متكاملة، شاملة.. أمتد تأثيرها إلى مختلف البنى المجتمعية الفلسطينية، في الوطن المحتل، وإلى الكثير من القناعات والمفاهيم السياسية القديمة... ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التداخل، ما نلمسه، في قصة (الزمن الجديد)، من تداخل بين المتغيرت الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص..

فسليم الثائر الملتزم بمبادئ ثورته، والمخلص لوطنه وشعبه، لم ينجح في تنحية الزعامة التقليدية عن موقعها القيادي، على المستوى الاجتماعي، فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً... وذلك حين استطاع إخراجها من دائرة التأثير والفعل، على مختلف المستويات الحياتية، وإصابة دورها، في سائر المجالات بالعطالة التامة... وبالمقابل، نلاحظ أن العوامل التي هيأت لصعود سليم إلى موقع الزعامة الاجتماعية، كانت نفسها التي رشحته لقيادة أبناء قريته سياسياً.. وعلى ضوء هذه الملاحظة، نتبين أنه من المتعذر فصل الحديث عن متغيرات اجتماعية وأخرى سياسية..

الملاحظة الثانية، تتضمن وجوب الانتباه إلى أن سليماً، بمن ترمز إليهم شخصيته القيادية، في القصة، لا يمكن توصيفه كقائد أوزعيم تاريخي..بل هو قائد مرحلة تاريخية متميزة، لا أكثر، تخبئ، في رحمها، زمناً جديداً مغايراً للذي ثار عليه سليم وأمثاله، كما تخبئ، أيضاً، القيادة التاريخية البديلة للقيادة الفلسطينية التقليدية التي نحاها سليم، في القصة، عن موقعها..

وعلى خلفية افتراض صحة هذه الرؤية، فإن المرحلة الراهنة، بكل ما تزخر به من أحداث ومواجهات مصيرية حاسمة، لا تعدو كونها، كما ورد في بداية هذا الفصل، مرحلة المخاض الصعب التي لابد أن تسفر عن زمن جديد بقيادة جديدة... وعلى هذا، فما أشبه دور القيادة الحالية للانتفاضة بدور القابلة... وواضح أن نبيل عودة كان واعياً لهذه الحقيقة، الأمر الذي جعله لا يتردد في ترك بطله سليم يسقط شهيداً، في نهاية القصة... فلو كان يرى فيه رمزاً للقيادة الفلسطينية التاريخية المفترض أن تظفر بعد الانتفاضة وتبقى، لكان من الخطأ موضوعياً، أن يتركه يستشهد... لأن استشهاده يعدّ، عندئد، إشارة مثبطة لمن هم بقيادته من ثوار المرحلة الراهنة...

وبعد، فانطلاقاً من القناعة بأن تغيراً كبيراً قد طرأ على منظومة المعايير والقيم والمفاهيم والقناعات القديمة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، وبأن هذا التغير قد أدى إلى تراجع الزعامات التقليدية، عن ساحة الفعل والتأثير، وإلى تضاؤل دورها في شتى المجالات، ربما ليس خطأ التوهم بصيرورة العلاقة بين الجيلين الفلسطيني القديم والجديد، علاقة تداخلية، يذوب في شروطها التفاعلية الخاصة، الجيل القديم في الجديد، ذوباناً تدريجياً... وصحيح أن مثل هذا الذوبان ما يزال جزئياً، لما يكتمل بعد، إلا أن دلائل كثيرة تؤكد قابليته لبلوغ تلك المرحلة... ومثل هذا التوهم، على افتراض صحته، يفسح بدوره، مجالاً للاعتقاد باستحالة احتمال عودة الأوضاع، في الوطن المحتل، إلى ماكانت عليه، قبل انطلاقة الانتفاضة ؛ ليس على هذا الصعيد أو ذاك، وإنما على الصعد والمستويات كافة...

وبين يدي هذه الدراسة قصتان، كلتاهما جعلتا من موضوع ذوبان الجيل القديم في الجيل الجديد، واحداً من محاورها الرئيسة... وهاتان القصتان هما: (الملثمون)( ) لجمال بنورة، و(الرجل الصغير)( ) لناجي ظاهر... وبداية، من الضرورة ملاحظة أن كلتا القصتين قد طرحتا العلاقة بين الجيلين، وماطرأ عليها وعلى منظومة المعايير المتعلقة بها، من تغيير بتأثير الانتفاضة، من منظور مختلف تماماً عن ذاك الذي اعتمده نبيل عودة، في قصة (الزمن الجديد)... بتعبير أوضح، لم تطرح القصتان هذه العلاقة ومتغيراتها، كعلاقة صراعية، مشحونة بتوترات الكراهية والضغينة، شأن أي علاقة صراع يجري بين ضدين متخاصمين، بل طرحتاها كعلاقة إيجابية، يحكمها منطق الرغبة الصادقة في التعاون بين أبناء الجيلين، لإيصال الانتفاضة إلى أهدافها... وتغيب، في طيات هذه الرغبة، حكماً، أثرة الأنا الفردية التي تحرك الزعامات التقليدية، في العلاقة الصراعية التي لحظنا مثالاً عليها، في (الزمن الجديد).

في (الملثمون)، يقدم لنا جمال بنورة صورة للجيل القديم، على نقيض تلك التي رسمها نبيل عودة في (الزمن الجديد). فراوي الحدث، في (الملثمون)، هو ممن تجاوز بهم قطار العمر محطة الشباب، ومع ذلك، ما يزال ممتلئاً رغبة بالنضال والمشاركة في الثورة، على قدر ما يسمح له الباقي من قواه وطاقاته الجسدية... فقد ساءه أن لا يكون له ولأبناء جيله دور في ما يجري من أحداث تاريخية مصيرية..

ولهذا، راح يسائل نفسه، مستنكراً ومشجعاً في آن معاً. "وأخذت أفكر فعلاً... أليس لنا دور فيما يجري... ألا نستطيع عمل شيء...؟ لماذا لا ننضم إليهم...؟!( )

ولم يطل به التساؤل والتردد، فقد انخرط، ومعه عدد ممن في عمره الكبير، بمسيرة الشباب..." وجدت نفسي أسير كالمنوم.. كمن وقع في أسر، لا يستطيع منه فكاكاً... وكأن شيئاً أسرني إلى هذه الجموع.. أو كأنني أخشى عليها من أن أتركها.. وقد شارك في المسيرة عدد كبير من كبار السن، لا بد أنهم كانوا يفكرون مثلما كنت أفكر، وقد خجلوا من أنفسهم أن يتركوا المسيرة للشباب فقط.".( )

يبين استقراء هذا المقطع، أن له ثلاثة أبعاد دلالية. أولها، الايحاء بأن ما أحدثته الانتفاضة، بانطلاقتها واستمراريتها، من تغيير، على مستوى وعي الإنسان الفلسطيني، كان عاملاً مهماً ومؤثراً، في تحقيق شمولية المشاركة بفعالياتها.. وهكذا لم تعد تقتصر المشاركة في صنع أحداث هذه الثورة ونتائجها، على هذا الجيل الفلسطيني أو ذاك، وإنما شارك الجميع فيها، على اختلاف أعمارهم... بل المشاركة صارت تعدّ، بفعل الاستمرارية والشمولية، بين المعايير الأهم التي يراز بها، ومن خلالها، مدى وطنية الفلسطيني، داخل الأرض المحتلة، ومدى إخلاصه، ومصداقية التزامه بمصير أرضه وشعبه...

 أما ثاني الأبعاد الدلالية التي يشف عنها مضمون المقطع السابق، فيتثمل بوضع الجيل الفلسطيني القديم أمام ضرورة الكشف عن موقفه تجاه الانتفاضة، وضرورة تحديد هذا الموقف.. فصحيح أنه ليس هو الجيل الذي فجرها ثورة عاتية، لكنه، مع ذلك، مطالب بتأييدها والمشاركة فيها، انطلاقاً من التزامه الوطني والقومي.. فإن رفض، فعليه أن يبين أسباب رفضه. أما أن يقف على الحياد، وسط ضبابية من أي نوع، فذلك مرفوض، لأنه في زمن الثورات الشعبية المصيرية لا توجد أرض حيادية يقف المرء فوقها... ولادراك راوي القصة العجوز لهذه الحقيقة، نراه يخاطب نفسه، في مكان آخر من السياق، فيتساءل: " أليسوا على حق..؟ ألا نؤيدهم فيما يفعلونه؟ وإذا لم يفعلوا هم... فمن الذي سيفعل؟ كان الواجب أن نسير نحن أمامهم.."( ) وعلى سبيل المقارنة، بهدف إضاءة الضد بضده، نلاحظ، بجلاء، أن موقف راوي القصة العجوز،في (الملثمون)، هو نقيض موقف (المختار)، في قصة (الزمن الجديد)... إن كلاً منهما نقيض الآخر، بنفس الدرجة التي يمكن بها توصيف العلاقة بين السلبية والايجابية...

وأما البعد الدلالي الثالث، للمقطع الآنف، فهو متوارٍ بين السطور، وخلف المعاني المباشرة للكلمات.. وعلى هذا، فهو بعد استنتاجي، لا يمكن إدراكه، إلا من خلال المحاكمة الموضوعية، لمجمل مواقف الفلسطينيين، في الوطن المحتل، من الانتفاضة.. ذلك أن موضوعية تلك المحاكمة، لا تسمح للعواطف، من أي نوع، بالشطح الخيالي الذي قد نتوهم، من خلاله، أن جميع فلسطينيي الوطن المحتل، أبطال يندفعون بلا تردد أو خوف، إلى دروب النضال وساحاته... وقد أدرك جمال بنورة ذلك فأشار إليه، بشكل غير مباشر، حين جعل الشيوخ، في المقطع السابق، ينخرطون في مسيرة الشباب، بدافع خجلهم من أنفسهم، ومن بقائهم متفرجين على هامش الفعل الثوري، في حين يرون أبناءهم يضحون بأنفسهم لاستيلاد فجر التحرير المنتظر الذي لن ينعم به أولئك الأبناء وحدهم، بل جميع أفراد الشعب، دون استثناء.. وإذا كان الخجل، بداية، هو دافع مشاركتهم في فعاليات الثورة، فثمة ما يوحي بتردد موقفهم وخوفهم، وبالتالي، احتمال احجامهم عن المشاركة لولا إحساسهم بذاك الخجل... وهذا ما توضحه مقاطع أخرى، في القصة، بعبارات أكثر مباشرة وجلاء.. "وعادت بعض النساء المترددات في خجل إلى صفوف المسيرة.".( ) كان الواجب أن نسير نحن أمامهم.. هل الخوف يمنعنا من ذلك..؟".( ) ولماذا؟ وهل بقي ما أخاف عليه؟... إن هؤلاء الشباب على استعداد أن يضحوا بأعمارهم قبل أن ينفتحوا على الحياة.. ولا أعتقد أنهم يخافون مثلي..!"( )

وبعد، فمن مجمل ما سبق، وتأسيساً عليه، يمكن القول: إن (الملثمون)، كغيرها من قصص الانتفاضة الصادرة في الوطن المحتل، هي قصة واقعية، إلى حد كبير... فهي لا تقدم الفلسطيني لقارئها بطلاً معصوماً، ولا ترسم له شخصية نمطية، محشوة بالمبالغات، بل تحاول ما أمكنها أن تقدمه إنساناً من لحم ودم..، إنساناً طبيعياً... وعلى هذا، فمن البدهي، أن نجد هذا الإنسان يخاف حيناً، ويتردد حيناً آخر... بل من الممكن أن يسقط في حمأة العمالة، واللامبالاة، سقوط المختار (وأبناء المرسيدس)، في قصة (الزمن الجديد)... والتعليل الوحيد لكل هذا، هو أن الفلسطيني إنسان، بالدرجة الأولى، وأن الخوف والتردد واللامبالاة وما شابه، كلها مما يشعر به الإنسان الطبيعي عادة، أياً كان وأنى كان..

ولكن، إذا كان إحساس الفلسطيني بمشاعر سلبية كهذه، قد يسوغه كونه إنساناً من لحم ودم، وليس سوبرماناً مصطنعاً، فإن استسلامه للإحساس بهذه المشاعر، وعدم محاولته التغلب عليه، هما ما لا مسوغ لهما، على الإطلاق... بل على العكس، يوجب الركون إليهما الشجب والادانة، لأكثر من سبب، وعلى أكثر من صعيد.. ولهذا، وإدراكاً من جمال بنورة لأبعاد هذه التفاعلات الشعورية ولواقعيتها من جهة، ولما يحتمل أن تخلفه تلك الأبعاد من تأثيرات في نفسية قارئه من جهة أخرى، نجده يلتزم بواقعية الإشارة إلى إحساس أبطال قصته بالخوف والتردد وما شاكلهما. لكنه ما يلبث أن يتدارك ما توحيه إشارته هذه من سلبية، بالإشارة إلى تحرر أولئك الأبطال من مشاعرهم السلبية، عبر نجاحهم في التغلب عليها، وقدرتهم على الانتقال إلى نقيضها.. وهذا ما نلمسه في شخصيتي راوي القصة وبطلها الملثم، وفي مواقفهما.. فكلاهما يلمّ به الخوف لبرهة، لكن كليهما يتمكنان من التغلب على إحساسهما به، رغم عدم تغير الظروف المسببة، كما يقدران على التحرر منه والانتقال إلى نقيضه، على نحو ما يتضح من خلال عودة كل منهما لأداء دوره، في مسيرة الثورة، حسب استطاعته التي تسمح بها طاقاته وقدراته..

وعلى خلفية قناعة راوي القصة العجوز، وكذلك الغالبية من أبناء جيله/ ثوار الماضي، بأن طاقات أبنائهم الشباب وقدراتهم على الفعل والاستمرار، هي الأكبر والأقوى، كما أثبتت الوقائع الحدثية وما تزال، في ساحات المواجهة اليومية العنيفة وكما تدل النتائج التي تمخضت عنها تلك الوقائع، فقد تراجع أبناء الجيل القديم، مفسحين الطريق للشباب، كي يحققوا ما لم يقدر آباؤهم على تحقيقه... البعض تراجع مكرهاً ومرغماً، كالمختار، في قصة (الزمن الجديد)، والغالبية تراجعوا طوعاً، كما في (الملثمون).. تراجعوا عن التشبث بالقيادة، دون مكابرة، أمام إحساسهم الواعي بأن الزمن قد أناخ بثقله على أجسامهم، وجعلهم أقل قدرة على مواجهة الاحتلال، عمّا كانوا عليه وهم شباب... يخاطب راوي القصة نفسه، متسائلاً بنبرة مفعمة بالمرارة والحسرة، وكأنه يعترف مكرهاً، بحقيقة طالما هرب منها وتجاهلها، "أم أن الزمن أناخ علينا بثقله وأصبحنا نشعر بالعجز.. فلا نستطيع أن نرفض الواقع الذي نعيشه، أو نقول لا للاحتلال؟؟".( )

إن هذا التساؤل المتحسر، ربما يثير في الذهن تساؤلاً موازياً، على درجة من الأهمية، وهو: هل عجز أبناء الجيل الفلسطيني القديم مطلق أم نسبي؟ وهل يمكن لضعف أبدانهم الهرمة أن يكون ذريعة تسوغ لهم، ولو على المستوى النفسي فقط، الاحجام والامتناع عن أي مشاركة، في فعاليات الثورة؟

من الواضح أن جمال بنورة يرفض مطلقية عجز الجيل الفلسطيني القديم، عن أي مشاركة ثورية، ليؤكد قدرة هذا الجيل على العطاء، رغم شيخوخة أبنائه، وخصوصاً حين يتوفر الحافز المثير لتلك القدرة بشخصية أبناء الجيل الشاب وبطولاته،  يقول راوي القصة: "بلى.. ما زلنا نستطيع لقد اعاد إلينا هؤلاء الشباب حماسنا القديم..( )

لكن، ولأن عودة الحماس إلى الشيخ الهرم لا تعني استعادته لقدرات شبابه وقواه، فإن عليه ألا يصر على القيادة، والتحكم بدفة الأحداث واتجاهات مساراتها.. بل تقتضي الحكمة منه أن يسلم تلك الدفة لابنه الأكثر قدرة منه على تحريكها والتحكم فيها، وأن يكتفي هو بتقديم النصح والمشورة... لننعم معاً النظر، في نص الحوارية القصيرة التالية التي أدارها بنورة على ألسنة عدد من الشيوخ، قبيل مشاركتهم في مسيرة الشباب:

"وكنت قد بدأت أمشي مع بعض الرجال على مبعدة من المسيرة.. دون أن يكون في نيتنا أن نشارك في المسيرة.. والتفت إلينا شاب ملثم قائلاً لتشجيعنا:

-وأنتم أيضاً.. ألا تنضمون إلينا؟

-وكأنما وجه إلينا إهانة..

وقال رجل لجاره هامساً:

-أصبح أبناؤنا هم الذين يقودوننا..

أسرّ إليه الآخر قائلاً:

-هم الذين سيحققون لنا النصر... سوف نرى..

-ونحن مادورنا فيمايجري؟؟

-لي ابن بين هؤلاء الملثمين، لم أستطع منعه من المشاركة، لذلك قلبي لا يطاوعني على تركه وحده..!

ثم استدرك:

-إنني أنظر إلى الشباب لكي أتعرف عليه، ولكنني لا أستطيع أن أميز بينهم... لذلك فأنا أعتبر أي ملثم هو ابني..!"( )

 إن نص هذه الحوارية واضح الدلالة على أن القيادة والفعل قد صارا في يد أبناء الجيل الشاب، وأنه لم يعد للجيل القديم سوى التسليم لأبنائه بقياده. "أصبح أبناؤنا هم الذين يقودوننا..."( ) وليس في هذا أي عيب أو خطأ، ما دام أولئك الأبناء "هم الذين سيحققون لنا النصر..".( ) وهذا الاعتراف يعني، ببساطة، أن الجيل القديم، بعقليته ومفاهيمه ومعاييره، وحتى بأحلامه وطموحاته، قد شرع بالذوبان في الجيل الشاب... وبالطبع ليس هذا التصور وهماً أو تخميناً، بل هو حقيقة وواقع، يعترف بهما مذهولاً حتى المراقب الاسرائيلي لمجريات أحداث الانتفاضة.. ففي مقاله (جيل الانتفاضة) المنشور في صحيفة (عل همشمار) الصادرة بتاريخ 28/2/1988، يعترف الكاتب الاسرائيلي (جادي ياتسيف) قائلاً: "... ويرسل الفتيان دائماً إلى المقدمة، وتأتي النساء للدفاع عنهم في الوقت المناسب. ولكن حتى الآن يعترف الجميع بحقيقة أن الأطفال هم الذين يفرضون السلطة والخوف في المناطق".

لكن، مما ينبغي عدم توهمه، بحال، أن تنحي أبناء الجيل القديم عن القيادة يعني تلاشيهم وعطالتهم.. فما زال في جعبتهم ما يستطيعون تقديمه للثورة والثوار الشباب.. ومن ذلك، على سبيل المثال، توفير كل حماية ورعاية ممكنة يحتاجها أولئك الثوار الصغار، في مسيرتهم إلى النصر... وهذا ما فعله راوي القصة، حين آوى إلى بيته الشاب الملثم، ليدرأ عنه خطر الوقوع أسيراً، بقبضة جنود الاحتلال.. يقول الراوي: " نزلت الدرج، أغلقت الباب الخارجي بالمزلاج، وقلت في نفسي لن أفتحه حتى لو كسره الجنود بالقوة".( )

إن مثل هذا الموقف يحمل دلالة واضحة على مدى التغيير النوعي الذي أحدثته ثورة الانتفاضة، في منظومة العلاقات التي كانت سائدة، قبلها، بين الجيلين الفلسطينيين الشاب والهرم، داخل الوطن المحتل؛ وفي ما يتصل بتلك المنظومة من معايير ومفاهيم، على المستويين الاجتماعي والسياسي، في آن معاً.. فالشاب الملثم لم يعد ذلك الابن الصغير الذي ينصاع لمشيئة أبيه، بل صار رمز بطل التحرير... وعلى هذا، فإن المبادرة إلى حمايته، لم تعد بدوافع أبوية تقليدية فقط، وإنما بدوافع وطنية وقومية أيضاً.. كما لم يعد الخروج عن طاعة الأب، بالنسبة للمشاركة في الانتفاضة، عقوقاً، يستوجب غضب ذلك الأب ومقاطعته لابنه، بل صار تعبيراً عن استقلالية القرار وصحته، وصار واجب الأب توفير الحماية لابنه الذي خرج إلى المواجهة على غير إرادة أبيه: "لي ابن بين هؤلاء الملثمين، لم أستطع منعه من المشاركة، لذلك قلبي لا يطاوعني على تركه وحده..!.( )

وعلى حين تحاول قصة (الملثمون) عرض العلاقة بين الجيلين القديم والشاب، كعلاقة تعاون، يحتفظ فيها كل طرف بخصوصياته المميزة، تحاول قصة الرجل الصغير( ) لناجي ظاهر، عرض هذه العلاقة، كعلاقة تفاعلية، توحي بذوبان خصوصيات الجيل القديم، ودخولها ممتزجة بخصوصيات الجيل الشاب. الأمر الذي ينتج عنه تركيب جديد، يضم إلى الجديد خير ما في القديم..

وللوهلة الأولى، قد يبدو من المستبعد أن يوحي مضمون القصة، بمثل هذا التصور.. بيد أن استقراء متأنياً وتحليلياً، للدلالات الرمزية المتضمنة، في عنوان القصة (الرجل الصغير)، وفي خاتمتها، على الأقل، ثم تحليل الايحاءات والإشارات التي ترسلها بنية العنوان والخاتمة، يمكن أن يوصلا -أي الاستقراء والتحليل- إلى الاعتقاد بأن ذلك التصور، يعد بين أبرز ما هدف المؤلف إلى إيصاله لقارئ قصته..

فالرجل الصغير، بطل القصة الرئيس، ليس صغير السن، في الواقع، لكنه صغير في كينونته الخاصة، وفي ما يمثله وما يقوم به من أفعال، حين يُقارن بما يمثله ويفعله ابنه الصغير سناً الذي لم يتجاوز السابعة من عمره -ذلك أن هذا الابن، شأن من يرمز إليهم من أبناء جيله، استطاع احتواء ما تمحورت / حوله/ حياة أبيه، وهو المولع بالكلام الذي يرمز إليه استغراق هذا الأب في الحديث عن الشعر والشعراء، كما استطاع، في ذات الوقت، أن يتجاوز مراوحة أبيه، اللامجدية، على أرض الكلمات، منطلقاً إلى ساحة الفعل، ليجسد ما حلم به أبوه حقائق ملموسة على أرض الواقع، حين خرج إلى ساحة المواجهة متحدياً، يحمل حجراً... وبذلك، استطاع هذا الصغير، وجيله، إدخال الكلمة في طقس الفعل المجدي، وهو تحول نوعي بالغ الأهمية..

"وعاد الغريب- يقصد الأب- يقول:

-ابني في السابعة من عمره.  جاءني قبل أيام وقال، إن الشعراء ينبوع العطاء، هكذا الشعراء، يذهبون وتبقى الكلمة. الشعراء يجب إكرامهم.".( )

ولم يدعه جلاسه يسترسل في استغراقة شعرية جديدة، بل عاجله "أحد الشباب من المقعد إلى جانبه، وقال:

-هل يعرف ابنك قذف الحجارة؟

-لا تخف.

وضحك الجميع.".( )

نعم، فجلاسه الشباب، على الرغم من اهتمامهم بالشعر، والحديث عنه، وهو ما جذب الغريب إلى طاولتهم، ليس هو كل همهم، بل بعضه، أما همهم الحقيقي واهتمامهم الأكبر، فبالفعل المتولد عن الكلمة، الأمر الذي دفع أحدهم إلى الاستفهام عن فعل الصغير، وليس عن ولعه، بالكلمات، الذي ورثه عن ابيه.. فقد انقضى زمن الكلمة، كمحور وحيد للاهتمام، وصارت لاقيمة لها إن لم تتجسد فعلاً... لأنها مهما عظمت، تظل دون الفعل، غير قادرة على تغيير الواقع، والعكس ليس صحيحاً.. وربما لهذا، لم يجد الرجل الغريب الموصوف، في القصة، بالغريب، إلا أن يعترف واصفاً جلاسه الشباب وجيلهم، بالقول: "هؤلاء الشباب الذين يغيرون الدنيا ويحتجون على ما لا يرضيهم في كل مكان وزمان.".( )

ويبدو أن هذا الاعتراف التوصيفي لجيل الشباب الفلسطيني، كان أحد مرتكزات مؤلف القصة للايحاء بما تضمنته خاتمتها من إرهاص ينبئ عن بدء ذوبان شخصية الجيل القديم وخصوصياتها، في شخصية الجيل الشاب، كما ينبئ عن احتمال تجاوز الجيل الثاني لجيل آبائه، قولاً وفعلاً..

وبعد، فثمة سؤال، ربما يراود الذهن هنا، وهو: كيف تمكن ناجي ظاهر من صياغة رغبته في الايحاء بذوبان القديم في الجديد، فنياً؟

قد يكون ضرورياً، قبل محاولة الاجابة عن هذا السؤال، إلقاء نظرة متمعنة على البناء الفني لخاتمة القصة، وعلى مضمونها أيضاً. فبعد أن أنهى بطل القصة حديثه مع جلاسه الشباب الذين تعرف عليهم، في المقهى، بالعودة كرة أخرى إلى الكلام عن الشعر والشعراء، نهض ليغادرهم مودعاً...، ولحظة نهض عن مكانه، بدا في ملابسه الرثة الممزقة كبيراً... وحينما رافقوه بنظراتهم وهو يبتعد عنهم في الشارع المحاذي للمقهى، ظل يصغر ويصغر حتى أصبح في حجم ابنه الصغير..".( )

من الواضح أن قراءة نص الخاتمة الوارد آنفاً، ممكنة على مستويين.. فعلى المستوى الظاهري المباشر لا تعني كلمات النص أكثر من كونها وسيلة كتابية لتصوير فوتوغرافي متحرك يرصد ظاهرة طبيعية معروفة، هي ظاهرة العلاقة البصرية بين حجم الشيء وابتعاده عن مكان الناظر إليه... فمن المعروف أن أي شيء يقع عليه البصر، من موجودات جامدة أو حية، يتضاءل حجمه كلما ابتعد، والعكس صحيح..

لكن، وعلى مستوى قراءة آخر، يمكن الزعم أن نص الخاتمة السابق، فيه عدد من الدلالات الرمزية التي تشف عن مدلولاتها، بسهولة، حين نربط ذلك  النص بالسياق العام للقصة..

فبطل القصة الغريب، رمز الجيل القديم المولع بالكلام أكثر من الفعل، قد آل وجيله إلى تلك الحالة البائسة التي ترمز إليها ملابسه الرثة الممزقة... لكن بؤسه، كما يبدو، لم يثر اهتمام جلاسه الشباب، وهو قريب منهم، يأسرهم بحلاوة حديثة عن الشعر والشعراء... ولهذا، لم ينصرفوا إلى محاولة تبين حقيقته إلا حين تحرروا من سحره الكلامي، بعد أن تركهم وابتعد منصرفاً... فقد كان ابتعاد شخصه عنهم، إيذاناً ببدء تضاؤل تأثير حديثه عن الشعر والشعراء... وقد ظل هذا التأثير يتضاءل، أكثر فأكثر، حتى لم يبق منه، في نفوسهم، سوى ما قاله عن ابنه الصغير الذي يقذف جنود الاحتلال بالحجارة... وقد ظل الرجل الغريب الذي كان كبيراً، بحضوره المادي وتأثيره، يتضاءل، شخصاً وتأثيراً، كلما ابتعد، حتى صار في حجم ابنه الصغير، شخصاً فقط... وفي لحظة اكتمال هذه الصيرورة، في نظر الشباب، تراءى لهم أن الأب قد تداخل، متماهياً، في ابنه، ليصيرا، في النهاية، كلاً واحداً منسجماً، تشكيلاً جديداً ذا شخصية جديدة، هي شخصية أبيه المولع بالشعر والشعراء... الطفل الرجل، أو الرجل الصغير...

موضوعياً، ربما من الصعب الاعتراض على من يعن له أن يتهم قراءة الخاتمة، على النحو السابق، بأنها قراءة تُحمّل النص القصصي، وبناءه الفني، الكثير مما ليس فيه... وعلى افتراض ثبوت صحة اعتراض كهذا، يكون التماس المسوغ للقراءة الثانية، بالنسبة لنص الخاتمة، في التذرع بأنها مجرد قراءة خاصة، لا تزعم أنها القراءة الوحيدة الممكنة لهذا النص. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، قد تجد هذه القراءة مسوغاً آخر لما قالته، في كونها محاولة تسعى، من خلال مضمون النص القصصي وتركيبته الفنية، لاضاءة جانب من رؤية مؤلف القصة، بوصفه واحداً من الطليعة الفلسطينية المثقفة، لمبلغ ما صار إليه حجم النتائج الناجمة عن المتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، في الساحة الفلسطينية... وهي رؤية، يمكن التكهن بأن صاحبها قد حاول أن يتجاوز، بها ومن خلالها، الحدود الراهنة لما أشار إليه، في قصته، من متغيرات أنجزتها الانتفاضة، أو لما يعتقد أنها قد أنجزته، كي يرهص بإمكانية اكتمال صيرورة تلك المتغيرات، مستقبلاً، بدائل كاملة لما قوضته، وحلت محله، من معطيات الواقع الفلسطيني ومفاهيمه التي كانت سائدة، قبل انطلاقة الانتفاضة..

وبعد، فلا شك أن الحديث السابق عن بعض ما أنجزه بطل الانتفاضة، من متغيرات، على صعد مختلفة، يؤكد أن هذا البطل ليس فردياً، في أي موقع رصدناه، وربما هذا واحد من أهم أسرار قدرته على الصمود أمام التحديات الصعبة التي واجهته، وما تزال، ومن أهم عوامل استمرار هذه القدرة فاعلة ومؤثرة، باضطراد، إلى الآن...

صحيح من الممكن أن نرى، في وجهه، وأن نتلمس، ملامح مميزة، لجيل فلسطيني متفرد، في خصوصيته، شخصية وفعلاً، هو جيل الأطفال والشبان الصغار، وملامح أخرى تدل على أنوثة غاضبة ثائرة ومتحدية، ترسم نوعية خاصة وأخاذة، لنمط جديد من المرأة الفلسطينية.. لكن، وعلى الرغم من احتواء ذاك الوجه على ملامح مميزة لهذا الجيل وذلك الجنس، فإن اجتماع الملامح العديدة، في وجه بطل الانتفاضة، على ذاك النحو من التآلف والانسجام، يخلف في النفس انطباعاً قوياً، بأن هذا البطل، في أكثر توصيفاته دقة وموضوعية، هو الشعب الفلسطيني، في الوطن المحتل -الشعب كله، بأجياله المتعددة، وبجنسيه: الذكر والأنثى... هو الكل في واحد، والواحد الذي تبدو على صفحته النقية وجوه الكل..

ولأنه كذلك، استطاع أن يصمد وأن يستمر، إلى الآن... ولأنه كذلك، لقي من العالم تعاطفاً أكبر مع تطلعاته وأهدافه... ولأنه كذلك، من المؤكد أنه سينتصر يوماً، لأن قهر الشعوب، إذا اتحد أفرادها، ضرب من المستحيل. وقد اعترف بعض الاسرائيليين، بهذه الحقيقة، بعدما أعيته الحيلة والوسيلة، للقضاء على الانتفاضة... على ثورة الشعب ضد جلاّديه..

 

 

 

من دم الشهيد... سيبزغ فجر الوطن الحر..

 

تناولت قصص الانتفاضة موضوع الشهادة، من عدة جوانب، يتكامل مجموعها ليرسم، للشهادة والشهيد، صورة غنية بأبعادها: الإنسانية والقومية والوطنية... أما البعد الرابع لهذه الصورة، فيتمثل -إذا صح التصور- برغبة مؤلفي تلك القصص، في تثوير قارئهم، وخصوصاً الفلسطيني داخل الوطن المحتل، وتحفيزه للمشاركة في الفعل الثوري، إن كان ما يزال متردداً بعد... وذلك على خلفية تفاؤلهم بإمكانية اقناعه أن الموت من أجل حرية الأهل والوطن ومستقبلهما، لا يلغي سوى الوجود المادي لمن يقضي من أجلهما، أما وجوده المعنوي المتجسد في فعله، فيخلد حياً في ذاكرة أبناء شعبه وضميرهم ووجدانهم، على مر الأجيال... وفيما يلي بقعة ضوء، ربما تنجح في الكشف عن بعض جوانب صورة الشهادة وأبعادها ومعانيها، في أربع من القصص التي اهتم مؤلفوها بهذا الموضوع..

في قصته (حوار مع النورسي)( ) يحاول مؤلفها سمير رنتيسي التأكيد لقارئه، بأن ثمة رابطة عضوية وثيقة بين التزام الثائر بأهداف ثورته وغاياتها، وبين إحساسه بعدم التهيب من مواجهة الموت، حتى لو أدت هذه المواجهة إلى استشهاده، وهو يسعى إلى تحقيق تلك الأهداف والغايات... وبهذا التأكيد، يرمي رنتيسي إلى اقناع قارئه بأن استشهاد الفلسطيني دفاعاً عن شعبه ووطنه، وثمناً لحريته وحريتهما، ليس موتاً مجانياً ذليلاً، بل هو موت موظف يسعى إلى تحقيق غايات سامية، تعد أكبر من الحياة التي كانت، قبل الثورة، وأثمن... حياة احتمال غطرسة الاحتلال، وإذلالاته اليومية وممارساته.. وما هي تلك الغايات التي يعد بلوغها أثمن من الحياة؟

تؤكد أجوبة الصغير عماد، بطل القصة، أن أبرز تلك الغايات وأهمها، اثنتان: تحرير الأرض من غاصبها، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، يعيش العرب الفلسطينيون في كنفها، وتحميهم أسوارها من معاناة الاحتلال واضطهاده المتنوع الأشكال والأساليب، من العيش فريسة الخوف والقلق والفقر...

وبهذا، يحاول رنتيسي أن يربط، في وعي قارئه ووجدانه، بين امكانية تحقيق هاتين الغايتين، وهما الحلم الذي عاشه الفلسطيني، وما يزال، منذ أن احتلت أرض وطنه، وبين الشهادة بوصفها الثمن الباهظ الذي لا بد من دفعه، أولاً، لتحويل هذا الحلم واقعاً..

ولا شك أن رنتيسي كان موفقاً إلى حد كبير، حين اختار لابلاغ قارئه تركيبة هذه المعادلة الصعبة وفحواها، شخصية طفل صغير من أطفال الحجارة.. ذلك أن هذا الاختيار، منحه القدرة على استثمار عفوية الطفل في التعبير عن أفكاره وقناعاته ومواقفه، دون تزويق، ودون صيغ أيديولوجية، قد يتحسس البعض منها، ليحقق -أي المؤلف- قدراً كبيراً من التأثير في وعي قارئه ووجدانه..

لنتأمل صياغة هذه المعادلة: (الشهادة =الوطن الحر+ الدولة المستقلة)، في سياق الحوارية القصيرة التالية، بين بطل القصة الصغير عماد، وبين محدثه الذي تسمح كلماته بالظن أنه ربما يكون إسرائيلي الهوية، لأنها كلمات ظاهرها التحذير الأبوي الحنون، وباطنها محاولة التثبيط وإخماد الثورة في النفس، عن طريق التخويف. يقول المحدّث، محذراً عماد ومثبطاً: "إذا بتظل تضرب حجارة يا عماد... بجوز يوماً ما جندي يطخك بجوز تموت.. عمرك فكرت إنك بجوز تموت؟..( )

وبالطبع لم يأبه عماد لهذا التحذير المريب المشكوك في دوافعه واهدافه، فلم تلن قناته، ولا ثبطت عزيمته، أو انثنت إرادته عن الاستمرار في المشاركة بفعاليات الثورة... ذلك أن تجربة مشاركته بهذه الفعاليات، قد أنضجت وعيه، إلى تلك الدرجة التي جعلته يرد على محدثه مجيباً عن سؤال (عمرك فكرت إنك بجوز تموت؟" قائلاً: "آه... وليش لأ... ؟ أنا بحب أموت.. شايف الصور على الحيطة... كلهم استشهدوا.. كلهم... ليش أنا لأ.. ليش ما استشهد؟ مش مهم كثير.. إن بستشهد.. بس بصير مع الشهداء.. وبصير عندنا وطن... وكمان دولة.".( )

هكذا، وبهذا التعبير الطفولي البسيط والعميق، في آن معاً، يقول رنتيسي لقارئ قصته أن الشهادة هي طريق وصول الشعب، أي شعب، إلى غاياته الأكبر والأسمى، وليست طريقاً لتحقيق حلم فردي، تتلاشى احتمالات نقله إلى الواقع، حالما يموت صاحبه.. ولهذا، وعلى خلفية القناعة بصحة هذه المقولة التعريفية لفعل الشهادة وأبعاده، لا يبدو مهماً في نظر الثائر الحق أن يشهد صيرورة حلمه واقعاً بعينيه، لأنه على يقين من رؤية تلك الصيرورة بعيون أهله ورفاق دربه الذين سيتابعون النضال بعده... وربما مثل هذا اليقين هو ما يجعله يستهين بالموت، ولا يهاب مواجهته..

والحقيقة أن خلود الثائر الحق، بعد استشهاده، في ضمير من يليه من أهله ورفاقه، ليس جديداً، بل هو قديم... قديم قدم المعركة الأزلية التي وجد الإنسان نفسه يخوضها، على ظهر الأرض، ضد قوى الظلم والشر، بشرية كانت هذه القوى، أم كانت خرافية، كما هي في بعض أساطيره الغابرة.. ومصدر هذا الخلود بالدرجة الأولى، تقدير الناس لمن ضحى بحياته من أجل أن يعيشوا حياتهم، بعده، أحراراً كراماً ومطمئنين..

وبالطبع، لا توجد وسيلة لتخليد ثائراً استشهد، أعظم من التزام رسالته، ومن متابعة درب نضاله الساعي إلى تحقيق أهداف هذه الرسالة التي قضى قبل أن يراها وهي تتحقق فعلاً.. وهذا ما كثف نبيل عودة الإشارة إليه، في خاتمة قصته (الزمن الجديد)... وذلك في صيغة النداء الحار الذي وجهه وليد لأهل قريته، عقب تيقنه من استشهاد رفيق دربه وزعيمه سليم فقد راح وليد يجوب أزقة القرية مؤكداً: " سليم لم يمت.. سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد... سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان.. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر... سليم لا يموت. سليم لا يموت.. لا يموت.. لا يموت..".( )

لعل من الواضح أن مضمون هذا النداء الذي ختم به نبيل عودة قصته، يشف بما حواه من دلالات رمزية عن الشرط الذي لا بد منه لاستمرار الشهيد حياً.. وهذا الشرط هو التزام من يليه برسالته التي استشهد وهو يسعى إلى إيصالها لأهدافها، إن لم تكن قد وصلتها بعد، أو الالتزام بالحفاظ على ما وصل إليه الشهيد من تلك الأهداف، والعمل على بلوغ الباقي منها... فبهذا الالتزام أولاً، يكون إكرام الشهيد، وبه وحده يتمكن أي ثائر من عبور حدود الفانية إلى رحابة الخلود الأبدي..

وربما، وانطلاقاً من هذه الإعتبارات التي يؤكد جميعها أن الشهيد حي خالد، يدرك الفناء جسده، ويبقى عاجزاً عن المساس بفعله وآثاره، استقر في روع الناس ووجدانهم، أن من الخطأ استقبال خبر الشهادة أو جثمان الشهيد، بذات طقوس الحزن والحداد والتفجع التي يستقبلون بها خبر الموت العادي وجثمان الميت العادي... فقد درج معظم الناس، وخصوصاً في الإطار المجتمعي للفلسطينيين، داخل الوطن المحتل وخارجه، على عدم البكاء والعويل والندب، لدى سقوط أحدهم شهيداً.. إذ كيف يُبكى ويندب من استطاع اختراق الفناء، وصار خالداً؟ أليس الأجدر أن يستقبل خبر معجزة كهذه، وكذلك جثمان صانعها، بالزغاريد؟

بلى.. ولهذا، وبذات الطقوس التي يقوم بها الناس حين يزفون عريساً منهم إلى عروسه، يستقبلون جثمان شهيدهم ويشيعونه... وهذه المقاربة بين العريس والشهيد، ليست مجرد تعال على صراخ الألم وتباريحه، أو مكابرة على أوجاع الفراق وجراح الثكل واليتم، بل هي تعبير رمزي، عن وعي جماعي عميق، يربط بعلاقة وثيقة بين الشهادة والحرية والخير والسلام... إن هذه المقاربة تعبير عن اعتقاد شعبي راسخ بأن الشهادة هي إعلان عن الخلاص القادم وبشرى تؤكد قرب صيرورته واقعاً... هذا الخلاص الذي ضحى الثائرون بأرواحهم من أجل أن يعيشه أهلهم وشعبهم وأرض وطنهم... وثمة بعد ثالث لهذه المقاربة بين الشهيد والعريس، تتمثل في وعي الناس، بعلاقة وثيقة أخرى بين الشهيد وأرض وطنه.. فالأرض في المعتقدات والمفاهيم العربية الأصيلة هي عرض المرء وعنوان شرفه.. ومن لا يضحي من أجل عرضه إذا اغتصب..؟ ومع التطور الدلالي لهذه العلاقة الرمزية، صارت الأرض هي الحبيبة، وصار الشهيد هو عريسها الذي افتدى حريتها وخلاصها بدمه لنتأمل هذا المقطع الصغير من قصة (الزمن الجديد):

".. فجأة تنطلق زغردة من سماعة الجامع:

-عريسكم حسن استشهد يا شباب..

عشرات الزغاريد في كومبارس غريب الأطوار... تصفيق رتيب وغناء للعريس من قلب الجامع. هل هي القيامة؟ هل اختار الله هذه اللحظات لقيام الساعة؟

-مبروك يا أم الشهيد.

وزغاريد.. وغناء.. وزغاريد.."( )

إنها صورة مثيرة للدهشة والإعجاب، في آن معاً. صورة تثير القشعريرة في بدن القارئ انفعالاً وتأثراً.. ومصدر الإثارة فيها، لا يكمن، فقط، في كونها نقيض الصورة المألوفة لاستقبال خبر الموت العادي، في المجتمع العربي، بل في كونها، أيضاً مؤشراً قوي الدلالة على إمكانية استمرار عرب الوطن المحتل في ثورتهم، حتى تحقق القسط الأكبر من أهدافها، إن حالت الظروف التآمرية القاسية دون تحققها كلها.. ذلك أن شعباً له مثل هذه القدرة على العطاء اللامحدود، من البدهي أن تزداد امكانيات استمرار ثورته ونجاحها، كلما ازداد عدد ضحاياه وشهدائه..

وإذا كانت التضحية بالروح والدم، تعدّ ذروة الالتزام بالدفاع عن حقوق الأهل والوطن وحريتهما، وذروة التعبير العملي عمّا يكنه المضحي لكليهما من حب عميق، لا حدود له، فكيف ترانا نقرأ ونحلل تضحية الأم بأبنائها، وهم فلذات كبدها، من أجل حرية وطنها وشعبها؟ هذا ما حاول الإجابة عنه محمد نفاع، في قصته المؤثرة (هنية)..

ففي هذه القصة، تطالعنا بطلتها (هنية)، وجهاً متميزاً للأم الفلسطينية، في الزمن الصعب، وأسلوباً متميزاً، أيضاً، في الممارسة النضالية للمرأة الفلسطينية.. فهي، وبكل المعايير المعروفة، أم غير عادية... وإلا كيف استطاعت أن تتلقى خبر استشهاد ولديها الكبيرين (صادق وحسان)، كما لو أنها تلقت خبر زفافهما..؟ لنتأمل حركية المشهد الدرامي المؤثر، في هذه الصورة النابضة بضروب شتى من الانفعالات والاحاسيس الإنسانية:

"وعلى أكتاف الناس لاح صادق كبيراً عالياً.

زغردت هنية لابنها القادم المرفوع على الأكتاف، جاء يلقي نظرة أخيرة على البيت الذي كبر، واتسع بفضله لكل أهل البلد..".( )

إنها صورة، ظاهرها يرسم مشهداً لاستقبال أم زُفّ ابنها، وجاء إلى البيت الذي ربي فيه ليودعه منطلقاً إلى بيت الزوجية الجديد.. كما يرسم مشهد احتفال عرائسي مفرح.. لكن سياق القصة، يقلب ذلك الفرح إلى نقيضه، وهو يؤكد أن ذاك الاستقبال وتلك الزغاريد كانت لجثمان شهيد..

وما تكاد تلك الأم الرائعة تصحو من خبر استشهاد (صادق) حتى يأتيها خبر استشهاد أخيه (حسان)... وبدلاً من أن تنكفئ على نفسها متهالكة تنتحب وتندب فاجعتها بابنيها، تفاجئنا ثانية، وهي تدفع آخر أولادها الثلاثة وأصغرهم (فارس) إلى ساحة المواجهة، ممسكة بيده، والناس من ورائهما، والعسكر من أمامهما، وهي تصرخ بصغيرها محمسة: "قدّم يا ولد!! اركض.".( ) ويركض منفلتاً من يدها، ليبدأ جولته مع العسكر، على إيقاعات صوت أمه التي ما زالت تزيد حماسه اشتعالاً: "اضرب يا ولد، كما ضرب أخوتك.. اضرب فأنت لست أفضل منهم.."( ) ويظل فارس يضرب مطرباً أمه بصوت حجارته وهي تقع على آليات المحتلين، "ما أحلى اصطدام حجارته على الآليات والعسكر؟!"( ) حتى يلحق شهيداً بأخويه... وللمرة الثالثة، تفاجئنا تلك الأم المذهلة، حين ترفع أصابعها راسمة شارة النصر، وهي ترى صغيرها يقع شهيداً أمام عينيها..!! ترى كيف استطاعت كل هذا، وهي أم...؟ كيف، والمعروف أن الأمومة هي أقوى العواطف البشرية، على الاطلاق؟

نعم.. إن هنية أم.. أم ككل الأمهات، في هذه الدنيا، تحب أولادها، وتخاف عليهم حتى من نسمة عابرة... ولكن، ولأنها تحبهم وتخاف عليهم إلى هذا الحد، ترفض أن تستمر حياتهم ذلاً وهواناً.. ترفض أن تراهم في وضع الموت أرحم منه وأشرف... ولأنها ترفض هذه الكينونة لهم ولغيرهم من أبناء شعبها، دفعتهم إلى المواجهة... فإن ظلوا أحياء، أكملوا حياتهم أحراراً لا عبيداً، وإن استشهدوا ظلوا أحياء أيضاً في ضمير الناس ووجدانهم، إلى الأبد..

ولعل مما يؤكد مبلغ قوة عاطفة الأمومة وعمقها، في نفس هنية، مضمون المقطع التالي من قصتها.. هذا المقطع الذي يمكن توصيفه، فنياً، وإستناداً إلى طبيعة لغته الحكائية، بأنه مناجاة داخلية متوترة بالانفعال الشديد، تتردد بين جنبات نفس كبيرة مقبلة صاحبتها على تضحية جسيمة أخرى.. إنه مناجاة على الرغم من أنه خطابي النبرة..

" تذكرن معي أيّها الأمهات، الأولاد في هذا الجيل. ولد ورضع، وتنفس، حبا ونطق، وتشيطن..

تذكرن قبلاتهم وضحكاتهم، وبكاءهم، وكيف تتنامى أجسامهم يوماً بعد يوم، كيف يأكلون ويوسخون ملابسهم ويرفسون عنهم الغطاء، ويجمعون شتى التحف والألعاب، ويخطون الأحرف على الدفاتر عندهم كتب وحقائب، ولهم ملابسهم الخاصة المميزة، ورائحتهم، لكل واحد عالمه،..."( )

إنها كلمات أم حنون تفيض حباً لأولادها وتعلقاً بهم إلى أبعد الحدود.. بل يكاد يتراءى للقارئ أن هنية أكثر تعلقاً بأولادها وخوفاً عليهم مما هو حال غالبية الأمهات، عادة.. لكنها، مع ذلك، وفي ظرف معين، نراها تستقبل جثماني ابنيها الأول والثاني بالزغاريد، وتستقبل استشهاد الثالث تحت بصرها، بشارة النصر..!! فأي تعليل لهذه المعادلة التي يوحي ظاهرها بتناقض طرفيها؟

فنياً، من الممكن الزعم أن هنية، بطلة القصة، تتجاوز كينونتها كأم عادية، لتصير رمزاً متعدد الأبعاد، أراد المؤلف أن يرسم به، ومن خلاله، صورة إنسانية مثالية للأم الفلسطينية، حين تجبرها الظروف الصعبة على الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ. الاختيار بين خلاص وطنها وشعبها وفدائهما بالولد، وبين الولد نفسه الذي حملت به وربته والذي هو أغلى من روحها.. ولكم هي مثالية فعلاً حين تختار، ودون تردد حرية الوطن والشعب وخلاصهما..

إن هنية قد غدت، بهذا الاختيار، رمزاً لروح الشعب الفلسطيني، وأماً لجميع أبنائه... وهذا ما ألمحت إليه القصة بإشارة سريعة عابرة، وضعها المؤلف على لسان شخصية ممن توافدوا على بيت هنية إثر شيوع خبر استشهاد بكرها صادق، إذ ناداها صاحب الشخصية بالقول: " أمنا هنية.."( ) إذن، هنية، تمثل في بعدها الرمزي الأول، شعب فلسطين، عاشق الحرية الذي لا يبخل في سبيل الحصول  عليها، حتى بالولد، يقدمه قرباناً على مذبح ولادة فجر جديد، لااحتلال فيه ولا ذل ولا اضطهاد..

هذا هو البعد الأول، أما البعد الثاني. فيشير بوضوح إلى أن هنية هي رمز الأرض الفلسطينية التي عافت استمرارية معاناة خضوعها وخضوع أبنائها لذل الاحتلال وغطرسته، سنين طويلة... ولذا، ما إن استشعرت في أبنائها الذين كبروا القدرة على تحريرها وتحرير أنفسهم، حتى دفعتهم دون تردد إلى ساحة المواجهة المصيرية مع من ظلموها وظلموهم..

ويبقى البعد الثالث الذي يقدم هنية رمزاً لمرحلة أكثر تطوراً ونضجاً في وعي الإنسان الفلسطيني، لطبيعة قضيته ولأبعادها ومستقبلها.. كما تبدو هنية، في هذا البعد، أيضاً، رمزاً دالاً على اهتداء ذلك الإنسان، إلى مفاتيح الحل الصحيح لمشكلته المزمنة المستعصية، ولمعاناته المريرة الصعبة... الحل المشرف الذي يتطلب تحقيقه التضحية بالولد والنفس والمال، وبكل غال وثمين، من أجل حرية الوطن وكرامة الشعب، وليس العكس...

ولا شك أن إدراك القارئ لهذه الأبعاد التي تتميز بها شخصية هنية، ولما توحي به دلالاتها الرمزية المتعددة، يفضي، تلقائياً، إلى العثور على ما يعلل دفعها لأولادها الثلاثة إلى الشهادة، على الرغم من حبها الأمومي البالغ لهم، ومن تعلقها الشديد بهم...

لكن، قد يكون من الجدير بالإشارة هنا، أن الأبعاد الرمزية السابقة لهذه الشخصية، لا تلغي، بحال، بعدها الواقعي.. أي ذلك البعد الذي يؤكد أنها ليست أماً متخيلة، وإنما هي واحدة من كثيرات جداً نستطيع العثور عليهن، داخل الوطن المحتل وخارجه.. بتعبير آخر، إن مثالية هنية، في التضحية والعطاء، لا ينحصر وجودها الفعلي فوق سطور القصة التي تحمل اسمها، فحسب... فمن يعود إلى وقائع الانتفاضة، وأرشيف أحداثها اليومية، لا بد أن يصل إلى القناعة بوجود تطابق كبير بين ملامح أبطالها وبين ملامح أبطال القصص التي استوحت تلك الوقائع والأحداث..

وبعد، ثمة جانب آخر للشهادة، أشار إليه نبيل عودة في قصته (الحاجز) وهذا الجانب، يبرز القدرة الكبيرة لفعل الشهادة، في تغيير قيم الواقع.. كما يبرز لوناً معروفاً من ألوان إكرام الناس لذكرى شهدائهم، ومن ألوان تقديرهم لفعل أولئك الشهداء ونضالهم... يقول عودة على لسان بطل قصته الطبيب أحمد..

".. والشهداء يكرّمون بشتى الوسائل، فأسماؤهم تطلق على الخلق الجديد، والأزقة قد تسمى بأسمائهم، ومواقع تسمى بأسمائهم، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود. قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة، تصارع الضياع، تصارع من يدفع ثمناً للقيم البشرية.".( )

واضح أن الربط بين إطلاق أسماء الشهداء على المواليد الجدد وعلى شوراع ومواقع، وبين التغييرات الكثيرة الهامة التي أحدثها أبطال الانتفاضة بنضالهم، إنما هو ربط دلالي يشير إلى أن إطلاق الأسماء هو جزء من محاولة تغيير رموز واقع ما قبل الانتفاضة وثوابته، برموز جديدة، وليس محاولة إكرام      الشهداء فقط... فأسماء هؤلاء الشهداء قد تحولت في وعي الشعب ووجدانه إلى رموز قوية الدلالة على فترة ناصعة من فترات صموده، وعلى منظومة جديدة من القيم والمفاهيم والأفكار هي نقيض منظومة (العفونة) السابقة.

 

حزمة ضوء أخيرة...

مهما بلغ شرف المضمون الذي تعالجه القصة، ومهما بلغت قدسية القيم التي تطرحها، فإنها في النهاية، تظل عملاً فنياً لايغنيه شرف مضمونه عن المعايير الخاصة التي تميزه، فنياً... ومن هذه الزاوية المحددة في الرؤية، تحاول حزمه الضوء الأخيرة هذه، بيان بعض من أبرز السمات الفنية لما أسماه الباحث، اصطلاحاً بـ (قصص الانتفاضة)..

ولعل أول ملاحظتين جديرتين بالإشارة في هذا الصدد، هما:

أولاً: فقدان الباحث للقدرة على الاختيار بين ما أمكنه الحصول عليه من قصص الانتفاضة. وذلك لسببين جوهريين الأول، قلة هذه القصص، عددياً والثاني، حصر مجال الدراسة بمصدر جغرافي واحد، هو الوطن المحتل، وبمجال زمني ضيق، هو زمن الانتفاضة.. ولقلة ما صدر من قصص قصيرة في الوطن المحتل خلال فترة الانتفاضة، حرم الباحث من إمكانية اختيار أفضل المتوفر منها، فنياً، كمادة أولية لدراسته..

ثانياً: هناك غياب ملحوظ للكثير من الأسماء اللامعة بين المؤلفين المعروفين للقصة القصيرة، داخل الوطن المحتل... فالمجموعة المدروسة من القصص، قليل منها كتب بأقلام أدباء معروفين، مثل (محمد نفاع، نبيل عودة، جمال بنورة، ومصطفى مرار ) أما الأدباء الباقون، فيمكن توصيفهم بأنهم (أصوات جديدة) في مجال القصة الفلسطينية القصيرة على الأقل، بالنسبة للقارئ العربي العادي خارج الوطن المحتل.. وقد لا يكون الأمر في الواقع على هذا النحو، لكن عدم توفر مصدر آخر غير صحيفة الاتحاد، بين يدي الباحث، جعل الأمر كذلك، في نطاق دراسته، مما دفعه إلى عدم التعميم والتأكيد وإطلاق الأحكام الشمولية، في سائر مواضع الدراسة.

على أي حال، يمكن تسجيل بعض الملاحظات القليلة، حول فنية القصص التي نوقش مضمونها، في هذه الدراسة، وذلك من خلال زاويتين رئيستين:

أولاً البناء الفني/ الدرامي:

باستثناء بعض القصص، مثل (الزمن الجديد، الحاجز، نهاية الزمن العاقر، الجنرال، طبق حلوى)، فإن البناء الدرامي للقصص التي نوقشت مضامينها، يبدو شاحباً ويعاني بعضها من اضطراب في الحبكة، ومن ضعف في القدرة على الايصال وصحيح أن حديث الباحث عن بعض هذا الضعيف، ربما أوهم القارئ بجودة القصة فنياً، كما هو الحال لدى قراءة ما كتبه عن دلالات خاتمة قصة (الرجل الصغير) لناجي ظاهر. إلا أن الحديث الذي كتب عن تلك الخاتمة، يظل قراءة لمضمونها وإيحاءاته، أكثر منه اعترافاً بفنية رفيعة المستوى لبناء القصة الدرامي.

وثمة ملاحظة أخرى حول البناء الدرامي، من ناحية نوعيته. وهذه الملاحظة تزعم أن غالبية القصص المدروسة ذات بناء درامي تقليدي.. لكن تقليديته ليست مطلقة، بمعنى أن القارئ يستطيع أن يلمس اقتراباً، في بعض القصص، من الحداثة ومحاولة لتطويع الأساليب الحداثية لادخالها في تقليدية المعنى الدرامي، كي يبدو في شكله النهائي، نسيجاً ممزوجاً من التقليد والحداثة. كما هوالحال، في قصة (الحاجز) لنبيل عودة، حيث نلمح في سياق السرد التقليدي للحدث القصصي، أساليب كالمنولوج الداخلي، والخطف خلفاً، وما شابه.. وتتميز قصة (نهاية الزمن العاقر)، لنفس المؤلف، ببنائها الدرامي الذي تمتزج فيه تنويعات كثيرة، تتضافر جميعاً، لترسيخ فكرة القصة، ولإضاءة الأبعاد الرمزية لشخصياتها وأحداثها، في نفس القارئ ووجدانه... وكذلك تخرج قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة أيضاً، عن إطار التقليدية، في كثير من مواضعها، حيث نلاحظ تحطم الحواجز المكانية والزمانية، في أكثر من موضع.. هذا فضلاً عما تتمتع به من قدرة على إيصال مضمونها أو معظمه، لقارئها...

وثمة قصة تتميز ببنائها الدرامي القوي، هي (الجنرال) لمحمد نفاع فبناء الحدث القصصي فيها، على الرغم من بطء حركيته، متين، ومتماسك جداً. ويعتمد المؤلف في سرد بعض اللقطات والمشاهد حكائية شاعرية، وأحياناً يركز على الوصف التفصيلي لسمات الأمكنة وملامح الشخصيات، بهدف زيادة التغلغل في نفس القارئ، وزيادة إيهامه بالواقع القصصي للأحداث، لزيادة التأثير فيه..

وإذا تجاوزنا القليل من القصص ذات البناء الدرامي القوي والناجح، نجد أن كثيرات غيرها، تشكو من ضعف واضح، في الكثير من جوانب بنائها الدرامي بل إن البناء الدرامي لقصة مثل (الرجل الصغير)، يبدو عاجزاً عن التواصل مع القارئ، في أغلب نقاطه.. فمثلاً: يحار القارئ في فهم الدلالة الوظيفية لاسم (عز الدين القسام) في سياق القصة. إذ يبدو ترديد هذا الإسم لأكثر من مرة، مقحماً على المسار الحدثي وعلى نسيج الحوار الجاري بين الشخصيات..

وبالطبع، ليس همّ الباحث، هنا، الوقوف عند مبنى كل قصة على حده، ثم عرضه ومناقشته، فنياً، بل همّه الإشارة إلى أهم السمات التي يتميز بها البناء الدرامي لمجموع القصص، من خلال اتخاذ بعضها أمثلة.

ثانياً اللغة:

ما خلا بعض القصص، للمعروفين من كتاب القصة القصيرة في الوطن المحتل، فإن هناك ضعفاً في لغة الغالبية من القصص المدروسة، وضعفاً في تركيب العبارة أحياناً.. ثم هناك نزوع إلى استخدام العامية. في بعضها، كما في قصة (حوار مع النورسي). وثمة نزوع آخر، معاكس، إلى شاعرية العبارة، كما في قصة (نهاية الزمن العاقر) وقصة (الجنرال).

وبعد:

يمكن القول بشكل عام، إن هذه القصص في غالبيتها قد طغى على مؤلفيها الاهتمام بالمضمون أكثر من الشكل.. ربما لسبب المرحلة الساخنة التي كتبوا قصصهم خلالها، وربما بسبب عدم تمكن الحديثين بينهم، من أدوات الفن القصصي وأساليبه بعد، وأخيراً، ربما بسبب التسرع في دفع القصة إلى النشر، دون تحكيكها، فنياً.. لكن، وعلى أي حال، تظل المجموعة المدروسة، إشارات إلى مرحلة متميزة، وارهاصات واعدة بنتاج أفضل فنياً، يتطاول في قامته التعبيرية محاولاً الوصول إلى شرف الموضوع الذي يعالجه وأهميته.. 

هذا الكتاب

دراسة أدبية سياسية تاريخية واجتماعية للانتفاضة، كما عبرت عنها القصة القصيرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال تحليل واقعي وتاريخي وسياسي لقصص وبرؤية عربية قومية وروح نضالية تحررية بعيدة عن التمذهب أو التخرب أو التعصب كاشفة بذلك همجية الصهاينة وعدوانيتهم للأمة العربية .

أضيفت في 10/04/2006/ خاص القصة السورية / عن اتحاد الكتاب العرب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية