جبل السماق ـ سوق الحدادين (دراسة نقدية)
النزوع إلى الخلاص والصراع المفقود
للقاصة:
إبتسام إبراهيم تريسي
مما لاشك فيه أن الطريق إلى التاريخ بعدد أنفاس المؤرخين ، وهذا ما جعله
أكثر العلوم الإنسانية قبولاً ورفضاً في آن ، وجعل منه فخاً شديد التمويه ،
وجعل مقاربته محفوفة بالمخاطر ، وكل هذا الإشكال ناجم عن معرفة المؤرخ بما
للتاريخ من قدرة على صياغة أو توجيه الحاضر ، أو قدرته على تشكيل نسق ثقافي
يتحكم بمرافئ المستقبل ، ولا أزعم أن جبل السماق كتاب ينزع إلى التاريخي بل
هي رواية تحاول التحليق بجناحي التاريخ والواقع ، وذلك من خلال رسم ما لم
يرسم ، أو كتابة ما لم يكتب عنه خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا فهي لم
ترصد المقاومة الشعبية على صعيدها القطري ، ولم تهتم كثيراً بالأسماء التي
يعرفها أي طالب مدرسي من خلال ما درسه في كتب التاريخ . فقدمت المكان على
صغره بطلاً إيجابياً للرواية عبر فضائه المتكون من البلدة وما يحيط بها من
الجبال والأودية ومن الناس البسطاء في نضالهم ضد المحتل ، راصدة ما يمكن أن
يفرزه هذا المكان من عادات وتقاليد ، والأهم من هذا وذاك طباع النفوس التي
تعكس تلك البيئة الجبلية القاسية من طرف والمعطاءة من طرف آخر ، وقد تجلى
ذلك في عدد من الشخصيات وعلى الخصوص في شخصية الثائر نجيب سخيطة ، وبعيداً
عما هو تاريخي ووطني في الرواية فإن ما سوف أتحدث عنه هو الجانب الواقعي
فيها ، والذي يشكل جناحها الثاني وذلك من خلال نزوع المرأة إلى الانفلات
مما يسميه الناقد صلاح صالح ( الحجرة السرية المغلقة ) ، على اختلاف درجات
الانغلاق وتنوعها .
رغم أن الرواية تزخر بالشخصيات الرئيسة و الثانوية و الهامشية إلا أن
الشخصيات الأنثوية على شيء من القلة نسبياً ومع قلة عددها إلا أنها تتمتع
بأدوار هامة وتساهم في رسم صورة متكاملة للواقع السوري في بلدة أريحا في
ذلك الوقت من التاريخ ، والذي يمتد على وجه التقريب من سنة 1920 إلى سنة
1946 . وفيه نضع أيدينا على عدة أنماط مختلفة قدمتها الرواية للمرأة ،
واستكملت فيها تشكيل لوحة الواقع المعاش آنئذ .حيث يتبدى الصراع جلياً ضد
عاملين من عوامل القهر ، فهو إما صراع ضد المحتل ، وهذا بدافع النزوع نحو
التحرر ، وإما صراع ضد الواقع ، أما الأول فواضح وجلي ويكاد يطغى على فضاء
الرواية بشكل عام ، بينما تورى الثاني وانكفأ على نفسه ليتمظهر على شكل
توترات نفسية تصل مع بعض الشخصيات حد السعي للانفكاك من أسرها ، وإذا كان
الصراع الأول صراعاً جماعياً ذا نتائج تعود على الجماعة ، فإن الصراع
الثاني كان صراعاً فردياً بدوافع ذاتية تنزع إلى الخلاص والخلاص الفردي ليس
أكثر ، وقد تبدى ذلك في شخصية لحلوحة خاصة ومعظم الشخصيات النسائية عامة .
إذ إن فكرة التمرد على الواقع وعلى أسباب القهر الاجتماعي أو الاقتصادي
كانت فكرة ـ حسب ما أعتقد ـ مؤجلة ، وتأجيلها له ما يبرره في ظل سيادة
أولوية التحرر الوطني ، شأن أي بلد محتل يؤجل صراعاته الداخلية ليوحد جهود
المجتمع في سبيل الخلاص من المحتل . قد نستثني من ذلك شكلاً من أشكال
الصراع ألا وهو الصراع ضد الجهل ، حيث تظهر ( فاطمة ) وبفطرية مطلقة من أهم
الشخصيات التي حرصت على تعليم أبنائها أو أبناء ضرتها في المدرسة تحديداً ،
وهذا ما تجلى من خلال موقفها من تعليم إبراهيم ، الذي يشكل أحد أهم الرواة
في الرواية . وبموقفها هذا تشكل فاطمة أحد أهم الأنماط النسائية في الرواية
والتي آثرت فرزها على الشكل التالي :
* نمط المرأة المستكينة لواقعها المحبوسة داخل حجرتها السرية والتي تمثل
الأرضية الأساس لما سماه ( إسماعيل فهد ) السجادة المترامية المساحة ، وذلك
على كلمة الغلاف الأخير للرواية فغالبية الشخصيات النسائية في الرواية من
هذا النمط إذ إن الصراع مع المستعمر يشغل غالبية الشخصيات الذكورية ، مما
جعل كثيراً من أشكال الصراع الأخرى خاصة الصراع من أجل الخبز أو من أجل
توكيد الذات تتراجع خلفاً ، فالإقطاعي ما يزال السيد المطلق وما زال العمال
يستجدون العمل ، والرجل في البيت ما يزال سيداً مطلقاً وما تزال المرأة
مستكينة قانعة جل ما تصبوا إليه رجل ، والكل خانع أو راض بما قسم له ، حتى
أنه ليمكننا القول أن ليس ثمة صراع على الصعيد الاجتماعي قط ، ولهذا نرى
حسنة ـ وأمها من قبلها ـ ضحية تسلط فارس بيك فهي نموذج الشخصية الضعيفة
وأقصى حالات الدفاع عن النفس عندها هي الانكماش داخل درعها وارتداء الزيّ
المتعارف عليه بين نساء البلدة ، إذ إن لباسها مختلف وهي الآتية من قرية
ريفية ، ولا تملك أمام ضغط فارس ابن البيك إلا الهروب الذي لا يجدي نفعاً
حتى عندما حملت منه ـ اغتصاباً ـ تم إبعاد الطفل عنها ووضعه على باب الجامع
ليلتقطه أحد المحسنين في حين لم تملك حسنة أكثر من أن تجن وتهيم في الشوارع
ليصفق لها الأولاد الصغار ويجعلونها تسليتهم . وعلى هذا الأساس يتبدى
الهروب عند حسنة بمظهرين اثنين الأول هروب من المكان ، وذلك في محاولاتها
التخفي عن فارس بيك ، والثاني هروب نفسي حيث انكمشت إلى نفسها ضمن حالة
جنون ناجم عن الإحساس بالعجز تجاه تسلط قوى الإقطاع آنئذ .
وإذا كانت حسنة غريبة عن البلدة ( ما جعلها بموقف أضعف ) فإن عائشة ومريم
ووهوب من بنات البلدة ، وكل ما يملكنه من فعل هو الانتظار والتودد للخطابة
أم خيرو وعسى فرجاً يأتي على يديها والفرج محصور فقط في الانتقال من بيت
الأب إلى بيت الزوج في عصر هو أشبه بعصر سي السيد حيث زمام الأمور بيد
الرجل فقط ، وتتجسد هذه الاستكانة في شخصية وهوب بشكلها المطلق حيث تمثل
وهوب أنموذج الحبيسة في حجرتها السرية المتمثلة في أحلام اليقظة فهي وإن
كانت بين جمع من الناس تراها مغمضة العينين تحلم بفارس يخرج من الحكاية
يأتيها على حصانه الأشهب يفتح نوافذ حجرتها يتملى جمال الشعر المسدل قبل أن
يعلن حاجته للحناء ، ولكن الحكايات تنتهي والليالي تمر مسرعة وتبقى وهوب
داخل حلمها إلى أن تذوي وتبدأ بالانطفاء . ( تضع طاسة الحناء أمامها ، تنظر
إلى اللون الأخضر يتحول أسوداً ، يتحجر القلب متفحماً في لحظة انطفاء ! )
صـ 204 . ما جعلها كائناً يثير الشفقة مقتربة إلى حد كبير من مصير حسنة وإن
لم تخرج إلى الشارع وتهيم فيه ، فقد انكفأت على صراعاتها النفسية التي تبدت
على شكل نوبات من الغياب الذهني ، وحتى على شكل نوبات هستيرية ، وذلك أيضاً
نتيجة إحساسها بالعجز الشديد أمام رغبات الرجال الذين يرغبون بالصغيرة التي
تعيد إليهم شبابهم الضائع ، وكذلك أمام حالة العنوسة والتي فيما يبدو تشكل
رهاباً لكل أنثى تجاوزت العشرين استطاعت الكاتبة أن ترصد أعراضها النفسية
المنعكسة على من كُتبت عليها بشكل جميل .
أما فاطمة صاحبة الحظ الأوفر في الرواية فنراها متماشية مع المتوسط العام
فهي ربة بيت بكل المقاييس تمتلك قدرات هائلة في التعامل مع الأوساط
المختلفة من حولها ، إنها تجسيد للنبل ، فعن طريق اهتمامها بزوجها ،
وخضوعها له ، والمبالغة بخدمته ، لم تترك له مجالاً للاستئساد عليها ،
واهتمامها بأولاد ضرتها ـ تماماً كأولادها ـ لا يترك للزوجة الثانية
الجميلة الشقراء الجديدة مجالاً غير الخضوع لها ، كذلك اهتمامها الوافر
بالمجتمع الذي تعيش فيه يجعلها سيدة تفرض احترامها على الآخرين ، والأهم من
هذا كله نشاطها السري لصالح المقاومة ضد المحتل وهذا ما يجعلها محط احترام
الجميع . وكل هذا يتم بصمت ودونما أدنى تذمر ، ولأنه يتم بصمت فقد أدرجتها
ضمن هذا النمط من الشخصيات داخل الرواية ، والحق أن هذه الشخصية أقل ما
يمكن القول عنها إنها تمثل الجانب الإنساني الذي يتعامل مع المشاكل بالصبر
والعقل والحكمة ، على خلاف التعامل الذكوري الذي يميل في جوانب كثيرة من
مشكلاته إلى اللجوء لمنطق القوة في حلوله عاكساً بذلك الجانب الوحشي في
الإنسان . صحيح أن فاطمة لا تملك أدنى فكرة عن التمرد ( باستثناء التمرد ضد
الدخيل الأجنبي ) لكنها بفطرتها وإعمال العقل تمثل الجانب المتنور للمرأة
العربية ، فالعنف كلمة محذوفة من قاموسها أصلاً ، لذلك نراها تشن حرباً على
الجهل من خلال التوكيد على التعلم ، وذلك في بيئة تفرض على الأسرة استثمار
كل الجهود والإمكانات لاستمرارية الحياة ، فرب الأسرة حداد ، ولا يرى في
غير الحدادة مستقبلاً لأولاده ، لكن حكمة فاطمة جعلته يرضخ لطلباتها دوما
وإن ماطل أو تأخر ، وكيف يستطيع رفض طلبها في تعليم ابنه من ضرتها ـ وهي
في الغالب الأعم لا تطلب لنفسها شيئاً ـ إنها الأم المنفتحة على المستقبل
، ممثلة بذلك أنموذجاً متجاوزاً عصره ، تواقاً إلى الأفضل وذلك بفعل الفطرة
وليس الأيديولوجيا .
في النمط الثاني من الشخصيات النسائية نرى المرأة المناضلة على اختلاف صور
النضال بدءاً بإيصال الطعام والسلاح وانتهاءً بالقتال وحمل السلاح ، فخديجة
التي فقدت أسرتها في قرية " سرجة " إثر قصف جوي ومدفعي بقيت تحمل الطعام
وأحياناً الذخيرة إلى المقاتلين في الجبل إلى أن عاجلتها رصاصة قبل أن تنمو
في صدرها بذرة الحب بينها وبين نجيب والذي يعكس حالة عشق خاصة وصامتة تعكس
صراعه النفسي الحاد مظهراً أن قتاله للمحتل وتشرده بين ثنايا الجبال ما هي
إلا لرغبته الشديدة في أن يحيا حياة كريمة بملء حريته ، كذلك كان مصير
شقيقة " أبو عدلا " التي عرفت بأخت الرجال حيث شاركت بأكثر من معركة إلى أن
قتلت مبرزة الدور الفعال للمرأة في حركة التحرر الوطني ، أما فاطمة فقد
ألمحت الرواية إلى عدد من النشاطات النضالية دون أن تبرزها درامياً في حبكة
الرواية . ويشكل هذا النمط من الشخصيات نزوعاً أولياً نحو توكيد الذات
الأنثوية وقدرتها على المشاركة جنباً إلى جنب مع الرجل ، وهي بالمحصلة تعكس
النشاط الإنساني بكل مقوماته العفوية بعيداً عن التنظير الأيديولوجي خاصة
وأن المرحلة ككل لم يكن فيها من الشعارات غير شعار التحرر .
أما النمط الثالث فقد استطاع ــ مع الشخصيات الذكورية ـ الثانوية ـ مثل :
حوّيسي وشيخ الشباب و" أبو رقعة " وفارس بيك وصدّيق ــ أن يمنح الرواية
نبضها ويخرجها من برودة التاريخ إلى حرارة الراهن وتوهجه بكل ما فيه من ألم
وجوع ومتعة ومشاعر متناقضة ، حيث تجبهنا الرواية ومع بداية الفصل الثاني
بعلاقة غامضة تجمع بين حوّيسي صاحب الخان والحمام والبستان ، الحشاش
والمقامر وبين لحلوحة السجينة في إحدى غرف الخان ، امرأة فائضة الجمال
طافحة الأنوثة ، يمتلكها حوّيسي ويضعها في غرفة لا تُفتح إلا له أو للحارس
عندما يأتيها بالطعام واللوازم . ومع تقدم الرواية نتعرف إلى كثرة العشاق
الهائمين بها كما نتعرف على القيد الذي قيدها به حوّيسي ورضيت هي بذلك ،
إنه صك العرفان بالجميل فقد أنقذها من الفقر والتشرد والجوع والموت حين
وجدها ملقاة على رصيف مهجور في مدينة ساحلية تنزف دماً ومغمى عليها ،
احتضنها واعتنى بجراحها وحينما كبرت واكتملت أنوثتها حبسها في الغرفة خوفاً
عليها من عيون رواد الخان خاصة ممن كان منهم يتعاطى الحشيش أو يلعب بالقمار
، ولم يتبق للحلوحة سوى نافذتين تطل من إحداهما على حركة الشارع ومن
الثانية على صحن الخان ، ومع ذلك تبقى فترة طويلة في حالة من العشق لهذا
السجان ، يجلس عند باب الخان يغني لها ، تطل عليه من النافذة تغمزه فيصعد
إليها ، ولكن عندما تصل إلى قناعة بأن هذا العاشق إنما هو عاشق للجسد الذي
يمتلكه ، يأتيه ساعة يشاء ويتركه ساعة يشاء ، دونما أدنى تفكير بما لهذا
الجسد من حق إنساني في التعايش مع الناس ككل الناس ، يبدأ عندئذ هذا الحب
بالتبخر من صدرها وتبدأ العيون بالبحث والتنقيب بين هذا الكم الكبير ممن
يتوددون لها بطريقة أو بأخرى ، فالغرفة لم تعد بيت الأمان ولم تعد خلاصاً
من الفقر والتشرد ، لقد أحست لحلوحة ،أنها دفعت ثمناً غالياً جداً من جسدها
مقابل عرفان حوّيسي معها ، والغرفة ـ الأمان أصبحت غرفة للقهر والكبت
والحرمان ، ومع ازدياد النضج الجسدي يزداد النضج العقلي ويتعاظم النزوع نحو
الاستقلالية والتحرر ، وتبدأ مرحلة التوتر والقلق خاصة وأن اللذين يخطبون
ودّها كثيرون فبدأت تتحسس أجنحة تطير بها ، وإذ تلتقي نظراتها بنظرات صدّيق
ذلك الذي غرس بعقول أهل البلدة جميعاً أنه درويش من أولياء الله الصالحين ،
والذي يرتدي أسمالاً بالية متسلحا بقرن وعل ، تُدرك أن هذا " المخبول " لا
يمكن إلا أن يكون شخصاً عاقلاً فنظراته تشي بشهوة طافحة ومعان عاشقة ،
فبدأت تخصه بنظراتها معلقة كل آمالها بالتحرر عليه ، لقد بات الجسد يأبى
الامتلاك وبات الفكر يخطط للتمرد على الواقع ، وبات صدّيق يخطط بشكل واعٍ
للهروب بها إلى أن يتم ذلك . والخلاص عن طريق الهروب ـ روائياً ـ له ما
يبرره هنا فلحلوحة وصديق كلاهما غريبان عن البلدة ولذلك شكل هذا الهروب
خلاصهما .
أما فضة ـ العاهرة ـ فقد وجدت خلاصها وهي المنتمية إلى ذات المكان بالتحول
إلى شكل آخر . لقد ورثت مهنتها عن أمها فتفتح وعيها على الكون من خلال هذه
العلاقة النفعية بين الجسد والمجتمع ، لكن قسوة الواقع ومرارة العيش يزرعان
في نفسها بذرة الخلاص فأعلنت توبتها على أمل أن تكون زوجة ـ بدل أن تكون
خليلة ـ لشيخ الشباب الذي عين لها حارساً على باب بيتها إثر تعرضها
لاعتداءين متتاليين من فارس بيك ومن " أبو رقعة " ، إلا أن شيخ الشباب حطم
لها هذه الأحلام بشكل واضح وصريح ( أنا أتزوجك أنت ؟ تحلمين أن أحمل بؤرة
القذارة هذه وأضعها في بيتي ؟ ) صـ 191 . وهذا ما شكل لها انعطافاً حاسماً
في حياتها ، تعززت هذه الانعطافة عندما دهمها صدّيق بعد أن أخاف الحارس
ودخل إليها ، فارتعشت خوفاً وقلقاً وما إن أدركت أنه يريدها هامساً في
أذنها بعض عباراته الموحية حتى صور لها خيالها أن الله قد استجاب لدعواتها
وأرسل لها هذا الولي منقذاً :
" تمددت فضة كجثة هامدة ، أغمضت عينيها ، كانت تخشى أن تقع على نظراته
المتوحشة ، لكنها لم تستطع مقاومته ، شيء ما في داخلها وقف حاجزاً بينها
وبين الرفض ... وحين غاصت في الفراش تحت ثقل جثته الضخمة ، شعرت بأضلع
تتكسر ، وآلام تمزق شيئاً في روحها ، وأن السماء قريبة جداً ، ارتسمت
ابتسامة رضى باهتة على شفتيها . لقد أتتها الرحمة أخيراً .... كانت ملامح
شيخ الشباب تتوارى من ذاكرتها المرئية ، وتتلاشى مئات الوجوه لرجال مروا في
حياتها دون أن يحفروا في القلب حرف محبة أو يتركوا بصمة فرح " صـ 227 لقد
شكلت هذه الحالة ( شبه الاغتصابية ) حالة تطهير نفسي لهذه المرغمة على
العهر بفعل النشأة الأولى لها فقد غسلتها من دنسها ، وجعلتها تعيد النظر في
شكل حياتها ، وما يؤخذ على الرواية هنا هو إغفالها نقطة التحول بما يصاحبها
من توترات ومعاناة فقد جعلت الكاتبة هذه الشخصية تختفي كلية عند انتهاء
عملية التطهير هذه فتغيب فضة مع حارسها فترة زمنية كانت كفيلة بأن تذوي
صورتها من ذاكرة الناس ، لتعاود الظهور من جديد فيما بعد باسم جديد ومهنة
جديدة لقد صار اسمها بدرية ومهنتها مداواة الناس من أوهامهم وأمراضهم وذاع
صيت " الشيخة بدرية " وتوافد الناس على بابها " للحصول على حجاب يبعد
الأرواح الشريرة ، وآخر يقيد الزوج إلى فراش الزوجية " لقد تمكنت أخيراً من
استلاب الناس بعد عمر من الاستلاب الذي عاشته مقموعة ومقهورة ، استطاعت أن
تطمس تاريخها بمجمله وتستبدله براهن مغاير حتى أن فارس بيك لم يستطع التثبت
من شكّه بها وإحساسه بأن رائحة الطيب المنبعثة من هذه الشيخة هي ذات
الرائحة التي كانت تعبق بأنفه يوم كان يزور فضة ، وبقيت بدرية ضمن هالة من
الغموض ، لم يسأل أحد عن أصلها ، وربما لولا بعض الإشارات المتناثرة هنا
وهناك في فضاء الرواية لاستعصت حتى على المتلقي .
من جانب ثاني يمكننا رصد حركة الصراع بين شخصيات الرواية من خلال المنظور
الدرامي ، إذ يكاد الصراع يقتصر على مبدأ الفعل ورد الفعل ، فوجود غازٍ
يقتضي بالضرورة وجود المقاوم ، ووجود كتلة وطنية يقتضي بالضرورة وجود كتلة
عميلة هذا على الصعيد السياسي أما على الصعيد الاجتماعي فكما سبق وذكرت فإن
الصراع فيها كان مؤجلاً وفي خضم الرواية بالمجمل نكاد لا نعثر إلا على
حالة واحد تتمثل فيما كان يسمى آنئذ ( الكبسة ) وهي شجار بين شباب عائلتين
أو بين عصبتين ولكنه يحدث بالاتفاق على موعد الشجار والكبسة في الرواية
كانت بسبب إشاعة أطلقت على ( عيوش ) التي يعمل أخوها خادماً عند قدري بيك
زعيم الكتلة الوطنية في البلدة ونالت الإشاعة محمد زاهر ابن الفرع الفقير
في عائلة الآغا والطريف في هذا الشجار أنهم اكتشفوا اللعبة عند مجيء الدرك
فتحولت العصبتان للقتال ضد الدرك ، متحولاً الصراع بذلك من اجتماعي شخصي
إلى وطني مقاوم ، ما أفقد الرواية ـ بتصوري ـ جانباً من جوانب رصد الحركة
التفاعلية والتصادمية داخل بنية المجتمع ذاته ، يبقى أخيراً ما يطلق عليه
الصراع النفسي وأحدد منه حصراً ذلك الناجم عن طرح الأسئلة العميقة
والمتصادمة مع سلطة الأنا الأعلى والتي تسبب الحيرة والألم وتضع النفس على
بوابة التيه قافزة بالآن ذاته على سلطة المجتمع ، وهذا النوع من الأسئلة
بتصوري لم تتوصل إليه الرواية العربية بعد ـ وليس فقط جبل السماق ـ ذلك
أن هذا النوع من الصراع يفرز الشخصية الروائية المتفردة والمستقلة مثلما
نرى في روايات القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر ، وقصور الرواية
العربية عن إفراز مثل هذه الشخصيات لا يمكن رده إلى غير قصور بنية المجتمع
العربي الذي مازال عاجزاً عن النهوض والتفرد وصقل هويته الخاصة بحيث يتجه
حقيقة إلى سلم الحضارة ، وبتصفح بسيط نجد أن مجمل الشخصيات الروائية
العربية شخصيات أفقية لا تجيد الغوص عمودياً في الذات بغية محاولة اكتشاف
الدوافع والرواسب القارة في النفس والتناقضات المتحكمة بشتى أنواع الصراع ،
وذلك من خلال السؤال والتشكك والحوار ، فتطور الشخصية الروائية ونموها هو
في النتيجة رهن بتطور المجتمع ذاته وبحركة التغيير الذي تعتريه وبمدى قدرة
الرواية على أن تكون ابنة بارة لأبيها ( المجتمع ) وبغير ذلك فإن أي تمايز
لشخصية ما سيكون تمايز النبتة القصيرة في سهل عشبي تراها الأعشاب متعملقة
أما أن نتطاول بقاماتنا لنضارع أشجار غابة فهذا يلزمه الكثير من التغيير
ومساحات واسعة من الحرية ، وقدراً كبيراً من التقدم والرقي .
الرواية هي الأولى للروائية والقاصة إبتسام إبراهيم تريسي ، وهي صادرة عن
دار( فصلت) في مدينة حلب سنة 2004 ، وتقع الرواية في أكثر من أربعمئة صفحة
، وهي الإصدار الثاني بعد مجموعتها القصصية ( جذور ميتة ) الحائزة على
الجائزة الأولى في مسابقة سعاد الصباح عام 2001 .
أضيفت في 08/06/2005/ * خاص القصة السورية /
المصدر الكاتب
ثنائية الموت والحياة في (( جذور ميتة )) قراءة نقدية
للقاصة:
إبتسام إبراهيم تريسي
الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة دار سعاد الصباح 2002
لا يختلف اثنان في كون القصة القصيرة حكاية لكنها ليست ككل حكاية ،
إنها حكاية مختلفة ، حكاية أدبية ذات خطة بسيطة وحدث محدد حول جانب من
جوانب الحياة ، يحدد هذا الجانب طبقاً لرؤية الكاتب ونظرته المثالية
والرمزية للواقع وليس مطابَقةً للواقع ، ولا تعنى القصة القصيرة بتنمية حدث
أو شخصية ولا تسهب في حوار ولا تحتمل الاستطراد في السرد إنها توجز في لحظة
واحدة حدثاً مترامي المعاني والدلالات ، وهي في هذا تمتلك القدرة على
التشكل كما الماء في أوانيه المستطرقة ، فكما أنه لا شكل محدداً لتواترات
الحياة كذلك لا شكل محدداً للقصة القصيرة (( فهي في نمطها الحكائي انعكاس
فني لتواترات الحياة ، وهي في نمطها الغنائي انعكاس فني للتغيرات الداخلية
والأمزجة والمشاعر ، وهي في نمطيها هذين أضحت صلصالاً صالحاً للتجديد
والتجريب تمكن كاتبها من الاستفادة من مختلف معطيات الفنون الأخرى )) . لكن
التيمة الأهم تبقى في مدى قدرة الكاتب على التكثيف والإيجاز والاقتصاد في
اللغة . ولا يجب أن يغيب عن التفكير الوصول بالقصة إلى لحظة المفارقة حيث
يتم فيها تفريغ الذروة وخرق المتوقع . ولأنها تتناول في كثير من الأحيان
فكرة أو حالة نفسية أو صورة من صور الحياة ، فلا بد للكاتب من أن يكون شديد
الانغماس في الحياة متحسساً لأنفاس شخوصها عالماً بأحوالهم ، عارفاً باللغة
وخفاياها ، متمكناً من أساليبها ، وربما نتيجة هذه التعقيدات تهيب الكثير
من الأدباء في العالم التعاطي مع هذا النوع من الأدب وحرصوا على تجويده
وتنقيحه قبل صدوره .
(( جذور ميتة )) اختارت أقصر الطرق للوصول إلى وعي المتلقي ، فهي وإن
كانت تسرد حكايا إلا أنها تنغمس في أوردة الواقع و تستكشف سيرورة الدم
الفاسد الذي يجري فيه مع بعض التباين في أساليب السرد والبنى الحكائية ،
ومن خلال هذا الاستكشاف تضعنا أمام مجموعة من الأسئلة الوجودية البحتة
وتترك لنا حرية الإجابة كما تركت لنا من قبل حرية استنباط السؤال :
لماذا نحب ؟
لماذا ننجب ؟
ما جدوى أن يلتقي عاشقين ؟
لماذا نحيا ؟
وما جدوى الحياة إذا كانت مكللة بكل هذا الموت ؟ أسئلة أمضى الكثير من
الفلاسفة ـ وكل الأديان ـ سنوات عديدة في البحث عن إجابات مقنعة لهذا
الميّت كي يحيا سنوات عمره ببعض الطمأنينة ، فمن حق هذا الإنسان أن يحيا
حياة حرة كريمة ... ولكن ثمة موت يتربص به . ونحن لسنا بصدد مناقشة فكرة
الموت في هذا المجال ، فهو من حيث كونه قضاء وقدرا لا يختلف فيه اثنان ،
الخلاف من حيث كون الموت ناجم عن قتل معنوي .. عن قمع سلطوي بتعدد مستويات
السلطة بدءا بالعادات والأديان والمفاهيم وانتهاء بالسلطة بمفهومها العسكري
الحاكم .
ما الذي جعل ابتسام تريسي تستعرض لنا في عشرين قصة جذورا ميتة متيبسة
لا تكاد تدفئ لو أضرمت حتى عظام من مات ؟ وكم أداة للقتل مورست في هذه
القصص العشرين ضد الحياة ؟ وأخيرا ما الحيوات التي تبحث عنها ابتسام تريسي
وتتطلع إليها ؟
بكل بساطة لاتطمع المجموعة بحياة مترفة أو حياة مستحيلة وإنما تبحث عن
الطمأنينة في العيش البسيط الكريم ، ولهذا نراها لا تخجل من استعراض ضعف
الضحية وبرودة دم القاتل ، أتريدنا المجموعة أن نواجه ضعفنا أم برودة دمنا
، خاصة وأننا نلعب دور الضحية تارة ودور القاتل تارة أخرى أما كيف ذلك فهذا
ما يتبدى واضحا من خلال تناوب الرجل والمرأة دور الضحية وإن اصطبغت المرأة
بها أكثر من الرجل .
ليس من باب المصادفة على مجموعة بهذا العنوان أن تبدأ باللون الرمادي
لون المرض والموت .
وحتى يأخذ الرمادي تكامله ويبين بشكله الواضح كان لا بد من المقطع
الثاني أن يأتي على النقيض ولا بد للكاتبة من أن تبرز انطلاقة الطفولة
وتفتح أزهار المشمش التي تستقبل فصل الربيع لكنها وكي تحافظ على ديمومة
المرض والموت فقد أطرت كل هذا التفتح والحياة بعبارة (( الزمن المقيت )).
واستكمالا لجلال المشهد وإعطائه بعدا روحانيا فقد جمعت بالأخضر مشهد
استقبال أحد الحجاج مع مشهد سيرورة نعش الموت .
ويأتي الأصفر ليكلل اللوحة بشحوبه المريض يخطو بتكاسل نحو الموت .
مع اللون الأحمر والذي يفترض أن يشي بدم جديد للحياة حيث يحتفل أحدهم
بمولوده نرى الزغاريد تتخذ أشكالا أفعوانية تارة وحلزونية تارة أخرى ، أو
أنها تشبه صافرة الإنذار ونرى سعال الطفل الآخر أغرودة تشق الصدر بسبب نقص
الأكسيجين . إنها حياة تعطى مقابل حياة تسلب
ونرى في نهاية القصة إطلالة الموت تختال وسط أصوات الدفوف والزغاريد
والوجه الشمعي للطبيب والحاضنة الوحيدة التي شغلها ابن السلطة متمثلا بابن
مدير المنطقة وصوت المؤذن ينادي على جنازة أخرى ... ومع هذا تبقى محاولة
الأم إرجاع طفلها إلى الرحم الالتماعة الوحيدة التي تنبئ بأن ثمة حياة
مقابل كل هذا الموت .
إنها ترسم تفاصيل الحياة اليومية لمدينتها بالقدر الذي يبرز حجم كارثة
الموت ، وهي كما أسلفت لا تطمع إلا بأن يأخذ طفلها حقه في الحياة لكنه
وبموته يصفعنا بأولى أدوات القتل التي يزخر بها مجتمعنا .. التسيب ..
واللامبالاة والتخلف والتمييز بين طفل وطفل وإنسان وإنسان .
وإذ يشكل المشفى مكانا للجريمة وأداة بذات الوقت نرى في قصة الحجاب أن
القاتل يتمثل في مجموعة المفاهيم الدينية ففي هذه القصة نحن أمام شخصية سي
السيد ولكن بشكل مغاير قليلا فهذه المرة السيد رجل محافظ دينيا لدرجة أنه
قد يطلق زوجته إذا خبر أنها تحدثت بالتلفون ولو مع ابنها . ثم أنه وبسبب
الحلال والحرام ولئلا تنكشف ابنته على أجنبي فقد منع عنها العلاج . وقبل أن
تموت جسديا نرى الموت يتبدى بأشكال عديدة .. روتينية الحياة , الخوف الهائل
من الأب الأعظم .. ضيق الأفق المعرفي للبطلة وكي يبرز هذا الموت فلا بد من
إطلالة على الوجه المشرق للحياة متمثلا بزيارة هذه العائلة لسوريا وزيارة
أهلهم وحتى يأخذ الموت وقعا أكبر لابد من تشكيل بؤرة للحياة تتمثل في لقاء
البطلة بابن العم وهنا تكمن لحظة الذروة الحياتية حيث يستبشر القارئ بأن
ثمة لقاء يبعث على الحياة لكن ملاك الموت وصاحب السلطة العليا أقوى خاصة
وأنه تسلح بأم تمثل الطاعة العمياء لسي السيد بالإضافة إلى الحجاب والأب
والربو الثالوث القامع لكل أشكال الحياة ، ففي زيارتها لبيت عمها كانت تزور
الحياة بكل ضجيجها حيث الشارع والمارة الشرفة والأزهار حتى النباتات
الشوكية طرحت ورودها وكان لا بد لمن يمارس الحياة أن يكتوي بنارها وتتمدد
شرايين القلب لاستقبال نبض جديد بيد أن الأب وبفهمه المغلق للدين يقف حارسا
أمينا على أبواب العالم السفلي المغلق بإحكام . وبما أن الحجاب والأب قد
لعبا دورهما بأمانة فقد آن للسلطة الثالثة المتمثلة بالربو أن تمارس دورها
.
ليفتك الموت بها أخيرا منتصرا على حب الحياة .. وسط استغراب الأب الذي
لم يفهم من أين جاءها الربو والسل وهي الحبيسة لم يسمح للشمس أن تراها ،
غير مدرك أنه وبمفاهيمه الدينية كان أداة للقتل .
ولعل أشد ما يؤلم أن يكون الطبيب بإهماله أو خيانته لشرف القسم شريكاً
للموت ، إذ هو المخلوق الوحيد على الأرض ترتجى منه الحياة لكن الجشع البشري
أكبر من رغبات البشر بالحياة نفسها وبالتالي يتحد هذا الجانب من المجتمع مع
عوامل السلطة القامعة / الأب الحجاب المرض / ليشكلوا تحالفا قابلا لولاءات
جديدة تمتلك الاستعداد لقمع الحياة . ويبقى كيس القمامة الأسود شاهدا على
جريمة التوليد هذه أو قتل الحياة . وإذا كان الموت حتى اللحظة يتمظهر بشكله
السريري فإنه في قصة فسحة للموت نرى موتا جديداً من نوع مختلف فالقاتل في
هذه القصة ليس سلطة وليس مرضا لكنه الفكر والثقافة عندما تتحجران دون
اعتبار للآخر ( صرمايتي الحمراء تقول أننا لن نلتقي فكريا ) رغم الرغبة
الجامحة بعقد صلح وصداقة .. خاصة وأن الصداقة تمثل في هذه القصة المقابل
الموضوعي للموت المتمثل بالفكر المتصلب ، ولأن إرادة الحياة أقوى دائما فقد
وقف هذا المفكر وقفة صدق مع ذاته أمام قبر من كان يود مصادقته عندما كان
حيا ويختار في نهاية المطاف أن يكون قبره بجوار قبر صديقه وبذا تنتصر
الصداقة ـ الحياة على العداوة الفكرية ـ الموت ، ولكنه انتصار جاء بعد فوات
الأوان فما الذي يجدي من تجاور القبور غير العبرة للأحياء بنبذ تلك العلاقة
التي كانت بين هذين المتجاورين على اعتبار أن الحياة جديرة بأن تعاش بعيدا
عن أدوات القتل المتحجرة في مفاهيم وضعت الحقيقة في محفظة سرية وخبأتها بين
طيات الأنا المتضخمة . وتتنامى حدة الموت بشكل أكبر لتشكل في قصة جذور ميتة
والتي عنونت الكاتبة المجموعة باسمها نقطة انطلاق عام لفهم المجموعة
بأكملها حيث تتحد أدوات القتل وتتجمع حول فريستها التي تصارع عدة أنواع
للموت ... على صعيد الجذور وعلى صعيد الجنسية وعلى صعيد حتى الطبيعة التي
انهالت على بيتهم المتداعي بأمطارها ولكن تبقى لحظة الحب هي إشراق الحياة
الوحيدة والتي سرعان ما تخبو إذ ومع ولادة الحب يفاجئنا الكابوس المرعب
بالموت في أبشع صوره فالصغيران قضيا تحت أنقاض البيت فهل ينبئ هذا الموت عن
موت جديد ؟ بكل تأكيد نعم فالجذر في المجموعة بأكملها ميت . لهذا نرى
تجليات القمع للحياة متمثلة في الموت والمرض و هروب خالد الذي أوهمها بالحب
. وحتى في امرأة لكل الفصول ينبري العاشق المخادع ليشكل طرفا في النزاع بين
الموت وانطلاقة الحياة حيث تحدد الكاتبة الارتباط بصك الزواج شكلا للحياة
متماشية مع المتوسط النزيه للمجتمع إلا أن الربيع يمر عقيما والصيف لن
يأتي بأفضل من سابقيه فتقع بذات المطب مع حبيب لكنه هذه المرة محتال ليس
إلا ويتابع ما كان ابن عمها بدأه بشكل أو بآخر .
في خريف العمر ابتدأت البطلة ماكان يجب أن تبدأه في ربيعها فقد راحت
تبحث عن شكل جديد للحياة يشبع رغبات الجسد الذي تألبت عليه كل القوى
القامعة للحياة ... مدركة حدودها عارفة لما تريد فللجسد رغباته الجارفة
أحيانا ، وربما كان قرار الخطيئة في هذه اللحظة متعارضا مع مفاهيم المتوسط
النزيه لتقاليد المجتمع إلا أنه القرار الوحيد الذي يمنح الحياة لحظة تألق
وانطلاق نحو الاستمرارية ، سرعان ما تنطفئ مع تلبد السماء بالغيوم الداكنة
، وهنا تقتنص الكاتبة من عمق الحياة شكلا لموت آخر ، فالشتاء رجل عاجز عنين
يمطرها بالذهب وتغمر حياتها بالبحث عن جذوة نار تؤجج بها أغصان الجسد
المحكوم بالموت أمام أعين الحياة .
و تؤكد الكاتبة في قصتها المعنونة ( تيودورا ) أن الحياة تنسل من الحب
بهدوء عندما لا تكتمل شروطه .. ذات المرأة وقد صرعها الموت مع أنها لم تكن
تلك المقبلة على الحياة كما ينبغي فقد بقي الماضي يحدد حركاتها ، بينما
انتقل الحب بكل وهجه إلى ساعي البريد الذي قيدته الفوارق الدينية عن أن
يتوج هذا المشروع . تماما مثلما تجتمع الفوارق الثقافية ورغبات الزوجة التي
لا تحد ليقيدا انطلاقة الحياة في الزوجة الثانية ، ففي ليلة العرس الثاني ،
تقف ذكريات العرس الأول والزواج الأول والحياة الأولى حائلا دون انطلاقة
مرحلة حياة جديدة وللمرة الأولى تكون المرأة هي الفاعلة في تدمير الانطلاقة
مثلما كانت الفاعلة في بنائها أول مرة وإن اجتمعت شراستها وجهله للقضاء
عليها فالرجل هنا غير متعلم وربما هذا ما قد يبرر سلوكه اللاإنساني معها في
الضرب الذي أدى إلى حالة الشلل لها لكنه في المقابل نراه في قمة عفويته
وصدقه في التعامل مع حالتها وإن كان ذلك بسبب شعوره بالذنب وهي حالة
إنسانية صرفة . ولعل قصة غير صالح للنشر تكون الوحيدة التي تخرج عن نسق
المجموعة فالمرأة وإن كانت غائبة كشخصية لكنها حاضرة وبقوة في صلب القصة
بل وهي البطلة فيها ، فالقصة تضج بالحياة وبشكلها الإيجابي . بعيدة عن
أدوات القتل المتنوعة .
في قصة دارة المغلقة وسكة سفر نرى أنها بالفعل دائرة مغلقة على الحياة
طفولة مشردة وشباب جائع وحب من أجل المال ومجتمع مغلق على كل فنون القهر
متوج بمحقق وزنزانة ... وقمع أي محاولة للتغيير . إنه الموت يحكمنا ويتحكم
بنا في ظل تفشي قوانين النصب والاحتيال .
أما زواج بالمراسلة قصيدة حب وحياة تخنقها الغربة وعند اتخاذ القرار
الصحيح بالعودة وإنهاء هذه الغربة القاتلة يتدخل القدر بسيارة عابرة تطيح
بهذا الحلم ليضع بالموت نهاية لحياة لما تبدأ بعد . وتتابع الكاتبة ذات
القصة في انكسار الأحلام ولكن من وجهة نظر الزوجة حيث تتوقف الحياة
والأحلام ( لكنه الدينار ، والغربة ، وأصحاب الإرث الشرعي ، وأحلامي التي
انكسرت في بداية الطريق . )
ترى هل حقا تريد الكاتبة أن تقول لنا وعبر القصص العشرين أن الحياة ما
عادت جديرة بأن تعاش ؟ أم أنها وبحس انتقائي صرف أرادت أن تنتقي أبرز أدوات
القتل والموت وتصفعنا بها قائلة بهذه تقتلون الحياة ، بغض النظر عن شكل
الحياة التي تنادي بها فهذا ليس مهما ، طالما بتنا نستسلم حتى لجرائم القتل
الجسدي دون أن يكلف أحدنا نفسه عناء الصراخ في وجه القاتل ، تريدها حياة
بالمطلق .
لقد استطاعت الكاتبة أن تجمع بين قدرات الرواية في تقديم اللوحة
الإنسانية ـ الاجتماعية الشاملة ضمن تناقضات الوجود ومشكلاته وبين قدرة
القصة القصيرة على تقديم (( صورة الانخلاع أو العزلة الفردية ضمن الوجود
الاجتماعي الإنساني )) حسب تعبير الناقد محمد كامل الخطيب وذلك عبر لغة
سردية متمكنة إلى حد كبير من بناء الحبكة التقليدية البسيطة ، فالقاصة لم
تلجأ إلى التجريب والتجريد ولم تسع إلى لغة شعرية للقبض على مشاعر وعواطف
المتلقي ، ربما لقناعتها بأن ما يجري على أرض الواقع من جرائم إنسانية كفيل
بجعل القارئ يتجه بمشاعره وعواطفه كلياً إلى محتوى المقروء ، فقد صورت
الواقع عبر مشاهد تكاد تكون بصرية لتصل إلى مقولة أن الصورة أبلغ من الكلام
، وبذا تحقق الغاية المنشودة من الكتابة أساساً .
وعلى مستوى البناء الخارجي نجد معظم القصص تنوس بين زمنين فقط ، حيث
يشكل الحاضر السطح الذي تعوم عليه القصص مثقلة بأدوات القتل والقهر ، بينما
يقبع الماضي في عمق الحكاية يتبدى أحيانا في الحالات الاسترجاعية ، ويتماهى
الماضي بالحاضر أحيانا مع انتفاء أي نبوءة مستقبلية . وبهذا تحدد الكاتبة
روابط إبداعها مع التجربة والواقع من خلال المدرسة الواقعية بوصفها مصطلحا
لفترة زمنية من جهة ومن جهة ثانية بوصفها انعكاساً صادقا لليومي والمعاش
عبر رؤيا قوامها الهم الإنساني وغايتها الرفض الذي تجلى من خلال استعراضها
الجانب المظلم لواقع يحلم بالنهوض .. يحلم بالحب .. يحلم بحياة لا تكون
فيها أسباب الموت غير طبيعية .
أضيفت في 08/06/2005/ * خاص القصة السورية /
المصدر الكاتب
المرأة بين التوهج والانطفاء ...
دراسة في مجموعة " وأدرك شهرزاد .. المللُ " للأديبة:
نسرين طرابلسي
لا ريب أن قضية المرأة ستبقى الشغل الشاغل لأصحابها ، على مدى ما تبقى
من عمر البشرية ، ولا أشك أيضاً أن إسباغ كلمة قضية على هذا الموضوع هو ضرب
من ضروب المراوغة والخداع ، فالقضية قضية إنسان سواء كان امرأة أو رجلاً ،
إذ إن كليهما جزء من القضية ، وإن تفاوتت درجات الظلم والقهر على أحدهما .
ولكي تصرف نظر عدوك عنك عليك إذاً أن تلهيه ببعض القضايا الجزئية هنا وهناك
، حتى لا تكون أنت قضيته . ولا أظن شعباً من شعوب الأرض قد نسي قضيته
الأساس ، والتهى بالجزئيات مثل شعبنا النائم خلف سياج التاريخ منذ ألف عام
أو يزيد ، يجتر تاريخاً مجيداً مفتاحه الفعل ( كان ) ومشتقاته ، يستمد منه
ظلال الشعور بالعظمة والقوة . ولأنه آمن بالقدر خيره وشره ، دونما إعمال
للعقل أو التفكير بمصادر هذه الخطوب والكوارث والنكسات والنكبات ، وهل هي
من الله ؟ أم من بشر أرادوا التسلط عليه ؟ فقد استسلم لقوى التسلط
استسلاماً قدرياً ، أما ما استمده من مشاعر عظمة كاذبة وقوة فقد مارسه وبكل
جهل وعنجهية على ما ملكت يمينه . ولأن قوى التسلط لم تبق له مالاً ولم تبق
له من ملك اليمين ـ في مرحلة سابقة ـ غير الزوجة والبنات فقد صب جام عظمته
الكاذبة وقوته الفارغة على الأنثى ، مدعماً سلطته عليها ، بمنظومة متكاملة
من الأعراف والتقاليد والمفاهيم المغلوطة الناجمة عن التفاسير المغلوطة في
مرحلة تحالف رجل الدين مع رجل السلطة والتي يبدو أنها ما تزال قائمة .
وبتصوري هذا ما أفسح المجال لاستمرار المفاهيم القبلية رغم كل التحديثات
التي طرأت على مجتمعاتنا . وبذلك يكون قد لحق بالأنثى ظلم مضاعف مرة من قوى
التسلط ومرة من الرجل في البيت .
ومع ما طرأ على المجتمع من عوامل تحديث فقد علت الأصوات وتنوعت أشكال
الخطاب التي تدعو إلى رفع ما وقع على المرأة من حيف خاصة داخل البيت
ليتساوى ـ على الأقل ـ حجم الظلم على الرجل والمرأة عندئذ تستطيع المرأة
الوقوف إلى جانب الرجل في عملية التنمية والحداثة ( وليس التحديث ) والنهوض
بهذه الأمة من جديد ، إن كان ثمة نهوض لها .
ومن هذا المنطلق المستند أساساً على الإنسان بالمطلق ، تراودني بعض
الأسئلة فور انتهائي من قراءة كتاب ما ، رواية ، أو قصة ، أو شعر ، والتي
غالباً ما تفسد عليّ متعة القراءة ، من مثل :
ـ ما الذي يريد النص قوله ؟
ـ كيف يقوله ؟
إذ ما زلت مؤمناً ـ رغم كل الأفكار البنيوية والتفكيكية الحداثية منها
وما بعد الحداثية ـ أن المؤلف حي وأن النص ـ أي نص ـ يجب أن يكون فاعلاً
ضمن واقعه ، بمعنى أن يتمتع بوظيفة ما في هذا العالم ، وبذات الوقت على
النص أن يتمتع بالقدر الوافي من القيم الجمالية التي تعتبر الحامل الأساس
لاستمراريته .
قد يبدو للبعض أن ثمة تناقضاً في هذا القول لكن تحقيق المعادلة هو
تماماً كما السهل الممتنع ، إذ كيف يؤدي الأدب وظيفة ضمن السياق الاجتماعي
أو الاقتصادي ، أو غيرهما ، دون الوقوع في مطبات الأيديولوجيا ؟ من جهة
ثانية ، كيف يتملك نص ما قيماً جمالية أو مسافة جمالية ما لم يمارس لعبة
التفاعل والالتحام بين القارئ والمقروء ، بين الذات والموضوع ، وإذا شططنا
قليلاً نقول بين القارئ والمؤلف ، دون الدخول في متاهات فوكو الذي " يعدّ
المؤلف أسيراً وخادماً للغة وليس العكس " فاللغة ـ حد تعبيره ـ هي التي
تتحدث على ألسنتنا وهي التي تفكر فينا ، نافياً بذلك أي دور للمؤلف . وكي
لا نستطرد كثيراً في اختلافات الرؤى النقدية ، يكفينا القول بأن المتتبع
للمحاولات التجريبية في النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها سيجد أن الذي
يقف وراء هذا التجريب هو المؤلف ذاته والذي هو محصلة تفاعل السياقات
المعرفية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مضافاً إليها الموهبة وتملك
التقنيات اللازمة للإبداع . وهذا المؤلف والذي يفترض أن يكون صاحب عين
ثالثة ، ترى جوهر الأشياء وتقدمه للقارئ على شكل كتابة أدبية تحقق المتعة
القرائية وجماليات تحقيق الأحلام .
ضمن هذا الإطار سنتناول الإصدار الثاني للكاتبة نسرين طرابلسي ( وأدرك
شهرزاد .. المللُ ) الصادر عن دار المدى 2004 والواقع في مئة وثمانين صفحة
، ويتضمن ثلاث وعشرين قصة واثني عشرة منولوجاً . وقد عمدت الكاتبة ـ وبلعبة
تجريبية ـ إلى إثبات المنولوج ثم إتباعه بقصتين أو ثلاث ، عملت جاهدة في
بداية المجموعة على أن يتجانس المنولوج مع ما يليه من قصص تجانساً مضمونياً
، فحالفها التوفيق حيناً وخانها حينا ً .إلا أن لجوءها إلى إثبات
المنولوجات بهذه الطريقة ، هو لعبة تجريبية ذكية تسخر ـ من خلالها ـ مما
يدعوه البعض موتاً للمؤلف ، وهو تأكيد منها على أهمية سلطة المؤلف على نصه
أولاً وعلى المتلقي ثانياً .
لماذا نصرّ على سلطة المؤلف ؟ ولماذا نوليه هذه الأهمية؟
أعتقد أن المجموعة القصصية تجيب على ذلك فالنصوص لا تسبح في فضاء ذهني
، ولا تشكل تلك الحالة الذاتية التي يطلق فيها بعض الكتاب العنان لتخيلاتهم
العاطفية وغير العاطفية تاركين أقلامهم تخط كلمات تنبع ـ حد زعمهم ـ من
اللاوعي المشترك مع الإرث الجمعي للبشرية . إن نصوص نسرين طرابلسي متواطئة
مع الإنسان والوطن في حالتهما الراهنة ، وتسلط الأضواء على تلك الطبقة
الكلسية المترسبة بفعل القهر والاستغلال واستمرارية القمع ، وذلك بهدف
تصوير الألم والرغبة في الانعتاق والتحرر ، ولأنها اختارت الإنسان بالمطلق
والوطن بالعموم ، واختارت المرأة على وجه الخصوص فقد نجت من مطبات الأدلجة
والتنظير ، ولأنها ـ أيضا ـ اختارت تصوير أنفاس بسطاء الناس ولهاثهم
المتواصل في إزالة تلك التكلسات عن قلوبهم راصدة كل محاولات النجاح والفشل
في السعي نحو التألق من خلال لغة شفافة ، فقد استطاعت كسر أفق الانتظار لدى
القارئ وخلقت تلك المسافة الجمالية عبر خلخلة رؤية القارئ المحكومة بأفق
انتظاره ، ولا بأس هنا من توضيح مصطلح " أفق الانتظار " كما يحدده ياوس
jauss
أحد أصحاب نظرية التلقي : " هو ذلك الأفق الذي تفرضه التجربة الأدبية
للقارئ متحدداً بالعوامل التالية :
1 ـ المعرفة المسبقة للقارئ بالعمل الذي سيقبل على قراءته .
2 ـ التجربة التي اكتسبها من خلال قراءته لأجناس أدبية معينة .
3 ـ الخبرة القرائية العامة للقارئ وما تولد عنها من دراية .
4 ـ إدراكه الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العملية .
وينجم عن هذه العوامل رؤية يسعى الكاتب جاهداً للتشويش عليها بغية خلق
توتر بين العمل الأدبي وأفق انتظار القارئ وهذا ما يسمى بالمسافة الجمالية
"
أما كيف استطاعت الكاتبة خلق هذا التوتر ؟ وكيف استطاعت تحقيق انزياح
النص عن أفق انتظار القارئ فهذا ما سنتبينه من خلال ثنائية التأصيل
والمغايرة ، أو التكلس والتألق ورصد مظاهر الانغلاق والانفتاح ضمن نصوص
المجموعة .
تبدأ نسرين طرابلسي مجموعتها بقصة ( الحليب المر ) وفيها تؤسس لواقع
الانغلاق وتؤصل حالة التكلس والترسب التي تعيشها المرأة منذ لحظة ولادتها .
فبطلة القصة تلد طفلة ً ولادة قيصرية وتمارس عملها وما يزال الجرح بحاجة
للرعاية دونما إجازة طبية ، يبصق في وجهها رب عملها بعبارات التهديد ،
ويتذمر زوجها من تقصيرها ، ويلاحقها أطفالها بطلباتهم ، وتنجز أعمالها
بالسرعة الكلية تحت وابل من الأوامر والتهكمات ، تراقب نزف الجرح وجوع
الطفلة ، لماذا اختارت الكاتبة طفلة ؟ أعتقد لتكمل لوحة القهر للمرأة
ولترصد واقعها طفلة ويافعة وامرأة ـ وفي قصص أخرى ـ وعجوزاً ، والطفلة في
مثل هذا الواقع ستعيش بكل تأكيد نصف نهارها في الحضانة الملحقة بمكان العمل
، هذه الحضانة التي تبدو كمعتقل ، والمشرفة على الأطفال ليست سوى سجانة .
وبذلك تكتمل صورة المرأة العربية القارة في قعر المجتمع ، أماً وعاملة
ومربية وطفلة وسجانة أيضاً . هذه هي الصورة بكل تناقضاتها واختلافاتها ،
ترسخها نسرين طرابلسي ، وتثبتها في صدر مجموعتها وذلك كنقطة ارتكاز تنطلق
منها لرصد بعض محاولات الانعتاق والنزوع نحو المغايرة .
وقبل الغوص في أعماق المجموعة للكشف عما ترسب وتكلـّس لابد لنا من
الرجوع خطوة إلى الوراء للوقوف قليلاً مع معطيات المنولوج الأول في
المجموعة ، وفيه تخاطب الكاتبة ذات المرأة متوجهة إليها عبر خط مستقيم
ومباشر (( ستنطفئين يا امرأة ، أحذرك من الماء )) . إذاً ثمة اشتعال وألق ،
ولكن ثمة ظلام وثمة وسط تستقر فيه الأشياء وتتكلـّس .. ثمة ماء راكد
والخروج من هذا الوسط ليس بالأمر السهل ويتطلب الكثير من الحذر ، لذلك
تطالب الكاتبة المرأة بإطلاق العقل ولكن ضمن حدود حزام العفة (( ... خوضي
في المسافة ، وأطلقي عقلك ، بقدر ما يسمح لك حزام العفة )) . هل نملك القول
أن ثمة سخرية مرّة وتهكماً يعكسان الطبقة السميكة المترسبة على المرأة
العربية من أعراف وعادات وتقاليد ومفاهيم ؟ ... ما يجعل حزام العفة رمزاً
لكل القيود والأغلال التي تثقل الكاهل . وهل يتطابق الخطاب هنا مع قول
الشاعر :
" ألقاه في اليم ثم قال له إياك إياك أن تبتل بالماء "
لقد أوردت الكاتبة خطابها ضمن منولوج ، وكأنما تخاطب بذلك ذات المرأة
العربية في ذاتها ، وهذا ما يعكس الإحساس الهائل بالثقل الملقى على المرأة
، كذلك يعكس بالمقابل ذلك الإحساس بالعجز ، ولهذا تأتي مطالبتها بالانعتاق
خجولة ومرتبكة ومنسجمة وواقع الحال إدراكاً منها أن زمن التغيرات الجذرية
قد ولـّى . ولهذا تقول : (( عليك أن تبذلي أكثر من خطوات وئيدة ، وأصعب من
زحف ملتزم بالمدار ..... آملة أن تخرجي من جحرك بكتاب أو حماقة أو مغامرة
)) .
وإذا أمعنا التفكير في هذه النتائج التي تسعى الكاتبة إليها والتي تعطي
للوهلة الأولى انطباعاً بالخفة ـ حد تعبير كونديرا ـ نجدها على غاية من
الأهمية في تأكيد حضور الذات المرأوية فهي أولاً خروج من الجحر وثانياً
انطلاق للعقل وثالثاً الحرية ، والتي تعتبر شرطاً أساس في أي مغامرة ، أما
الحماقة فهي تعبير من وجهة نظر الآخر في حال فشل المغامرة ، و المغامرات
الناجحة هي التي ( تضيف حقائق جديدة على هذا العالم ) .
ويمكننا تتبع حالات التكلـّس والانطفاء على مدى صفحات المجموعة ،
فنجدها في انزواء الست ( ظهيرة ) في " أوبرا القطط " وحيدة في البيت تفرّغ
شحنات الأمومة الدفينة في عدد من القطط التي تعكف على تربيتها كما تربي
الأم أولادها . كذلك نجد مثل هذه الحالات في قصة " حارتنا ضيقة " حيث منى ،
وغادة ، والراوية ، يعضضن بالنواجذ على أوجاعهن ، ويكتمن حالة القهر والصبر
اللذين يتبديان على شكل حساسية تجعل الوجه منتفخاً أو على شكل حراشف صدفية
، يوغلن في آلامهن التي تسبب بها الأزواج والمجتمع ، فآثرن السجن داخل
المرايا ، أو لنقل داخل جدران البيوت ، حيث استطاعت الراوية ـ الساردة
أخيراً جمعهن في بيتها إلى فنجان القهوة الصباحي ، ما جعل الأسرار تتكاثر ،
وجعل العالم أكثر ازدحاماً ، وجعل الأبنية أكثر التصاقاً وكل ذلك داخل سجن
المرايا حيث (( النساء الرائعات اللواتي يدرن عجلة الكون ، عندما يكتمن
أوجاعهن )) . ولنا وقفة عند هذا المقبوس الذي ورد بهذه اللغة التقريرية على
لسان الكاتبة مختتمة به قصتها " حارتنا ضيقة " والذي يشكل نوعاً من إعادة
توجيه القارئ ، ودفاعاً حماسياً عاطفياً عن المرأة ، وأقول عاطفياً لأن
عجلة الكون لا تدار بكتم الأوجاع ، إلا إذا كان المقصود بالكون هو البيت
الذي يحبس كلاً منهن داخل مراياه . أعتقد أن حالة الألفة الناجمة عن
اجتماعهن والبوح بأسرارهن قد جعل الكاتبة تشتمل حماساً فقاربت بين الأبنية
وضيّقت الحارة ، لكن المطب الرؤيوي كان في كتم الأوجاع ، وكيف لنا أن نقارب
بين حالة الكتمان والكبت هذه مع عنوان المقطع التاسع والأخير من هذه القصة
(( روح الياسمين )) ؟ كيف لنا أن نقارب بين روح تأبى إلا أن تنفلت من أسر
الوردة وبين كتمان الأوجاع المقيدة داخل المرايا وخلف الأبواب المغلقة .
إنه التكلـّس مرة أخرى والانطفاء ، تستمر الكاتبة في رصده ضمن عوالم
المجتمع الأنثوي ، والذي يحتاج إلى أكثر من كتم الوجع للخروج من الجحر .
.. وتصر نسرين طرابلسي على الحكاية فتشهر في وجهنا شهرازاد وقد أصابها
الملل ، وبدأ التكلس يغزو حكاياتها التي تخلقها لتستمر هي في الحياة ، خاصة
وأن مسرور ينتظر الأوامر الملكية لقطع الرأس وبهذا يظهر كلاهما ـ السياف
وشهرزاد ـ حبيسين وراء أسوار الرغبة الملكية ، ولأن خيال شهرزاد بدأ ينضب
وبدأت تعاني ندرة الشخصيات والخطوط الدرامية فقد بدأت الحكاية بالنضوب ،
وبدأت تشكل حالة من التكلـّس لهذه المرأة ، ما جعلها تشعر بالملل ، وهذا
الملل يشكل الخطوة الأولى في طريق التمرد على الانطفاء .
ولكن هل هذه هي الحالة الوحيدة في التمرد ؟ بالتأكيد لا . إذ بدأت
بوادره مع الست ظهيرة في " أوبرا القطط " وذلك عندما بدأت تفكر بالجار
الوحيد الأرمل ( أشرف ) خاصة وأنه وقف وقفة مشرفة بجانبها إثر عودتها من
الحج ، فبدأ القلب ينبض أكثر وبدأت العيون تسترق النظرات ، لكن العيون
المتعودة على الظلمة يوجعها انبثاق الضوء فجأة فتلجأ إلى الإغماض ، وهذا ما
خلق في داخل ظهيرة صراعاً نفسياً عنيفاً بين رغبتها في الانعتاق من قيد
الوحدة وبين ما تكلس في داخلها من مفاهيم العيب والحرام ومراعاة التقاليد .
ويبدو أن طبقة الكلس كانت أقوى من نبضات واهنة ، ونظرات خجولة ، ولهذا
استطاع التردد أن يرجئ ساعة الانعتاق مرة إثر مرة إلى حين وفاة الجار المحب
. عندها انطفأت ظهيرة وانطفأت معها أزهار حديقتها ، جاعت القطط وتراكم
الغبار على الدرج الذي بدل أن تستخدمه من أجل الصعود إلى السطح ، استخدمته
من أجل النزول إلى حيث التعفن والعدم .
لكن بذرة التمرد تبدأ بالإنتاش لنراها فتية في قصة " ممتلكات الآخرين
الرائعة " حيث يبدو سعي الأنثى إلى الحب ـ بل تصيّده أو سرقته إن صح
التعبير ـ كإحدى المحاولات لكسر طبقة الكلس المترسبة ، إذ تتحدث القصة عن
حالتين تعكسان ذلك النزوع على المغايرة ، الحالة الأولى في تأسيس مكتب عمل
مستقل ، والحالة الثانية في تنافس الاثنتين على (( الحب )) متمثلاً في رجل
، ورغم قيام إحداهن بسرقته من الأخرى وانصدامها به ، نراها تعود إلى
صديقتها فتستقبلها دون أي شعور بالحقد وهنا تسمو الكاتبة بفكر وعقل المرأة
من خلال الوعي بأن الرجل في حياة المرأة شيء قابل للبذل ، يأتي ويذهب ، دون
أن يترك أية ندبة على جدار القلب ، وتكاد القصة هذه تكون الوحيدة بهذه
الرؤيا .
ولا تتوقف الكاتبة عند هذا الحد من التمرد على الرسوبيات المتكلسة بل
تستجمع قواها لتنتقل إلى مواقع الفعل والهجوم ففي " قطة شيرازية "نرى أول
حالة اشتعال وتألق تندفع في وجه الانغلاق والانطفاء اللذين استقرا حول الحس
الجماعي في الواقع . ولأنه تمرد أنثوي فقد جاء ناعماً متلبساً بالعتمة
وأقصد بالعتمة هنا هذه الهالة الرمزية التي تومئ وتلمح بإشارات دون أن تفصح
حيث استطاعت الكاتبة وببراعة فنية ـ في الحقيقة ـ أن تمنح النص لذة حقيقية
عن طريق الإيحاء اللغوي والترميز الشفاف ، إذ استطاعت اللغة أن تصور التهام
حبة الفريز في اللحظة الأولى لإدراك الأنثى أنوثتها ، تماماً مثلما استطاع
أنف ( غرنوي ) في رواية العطر لباتريك زوسكيند أن يرصد بحاسة الشم رائحة
تفتح حلمة كاعب ، إنها قبلة شفاه محبٍ ، تفتتح لحظة اكتمال الأنوثة ، ممنية
النفس بوجبة متعة أخرى حين اكتمال النضج الأنثوي حيث يتخلى المشمش عن لونه
الأخضر الحامض ويكتسب حلاوة المذاق الملونة بألوان النضوج والاشتهاء .
وبهذا يكون بطل القصة الإيجابي في هذا النص هو الانفتاح والاشتعال والمتعة
بينما يتلقى الكبت والتكلـّس صفعة من الخلف وبغباء تام .
أما في قصة ( طالما أحد لن يموت ) فقد استطاعت الكاتبة وبالاتكاء على
لعبتي ( عروس وعروسة ـ وعسكر وحرامية ) أن تظهر قدرات الأنثى عندما تـُجرح
أو يُفترى عليها ، ففي الوقت الذي تريد الطفلة اللعب ببراءة نرى الأطفال
الذين كبروا قليلاً يريدون اللعب بالطفلة ذاتها ، وهنا تتقابل البراءة مع
الخبث ، ويتعارك الاشتعال مع الانطفاء ليبدو التكلس على حقيقته ضعيفاً هشاً
كما الرماد يخفي فقط وهج الجمر وعند أول هبة ريح تعصف به ليعود التوهج
والألق إلى الجمر ، تماماً مثلما ( تراجع الأولاد كأقزام الغابة يتدحرجون
هاربين من عصفها ) ، عندما انتفضت وثارت في وجوههم .
وبذلك تجيب نسرين طرابلسي عن أشد الأسئلة قلقاً بالنسبة لأي قارئ :
ما الذي يريد النص قوله ؟ وما الغاية من قوله ؟
إنها تلامس أشد مناطق القهر حرارة . القهر النفسي الناجم عن اضطهاد
الرجل للمرأة ،اضطهاد المفاهيم للمرأة ، كما في قصة ( اغرسني في الأرض ..
أفرغ صاعقتي ) وكذلك القهر المتولد عن عدم فهم المرأة للمرأة ( كما في (
حارتنا ضيقة ) و ( وجه الغيرة الوقاد ) ، أما الغاية من قول ذلك فلا أظن أن
غير الانعتاق والنزوع إلى المغايرة غاية ترومها الكاتبة ، الانعتاق من هذا
القهر والتكلس والتطلع إلى وهج الحياة الإنسانية ، والتألق من خلال العمل
والحرية والحب ، وبهذه الشروط فقط يمكن للمرأة القيام بدورها إلى جانب
الرجل في عملية النهوض الشاملة . وتتبدى الغاية من القول جلية في هذا
المقطع الذي اقتطفته الكاتبة من متن قصة ( حارتنا ضيقة ) ووضعته على الغلاف
الأخير للمجموعة :
" من شرفتي العالية أراقب ليل الآخرين ، أبوابهم الموصدة في النهار
تكتم أسرار القلوب . العتمة تمنحهم إحساساً مريحاً بالوحدة فيشرّعون آلامهم
على الشرفات ، ويسمحون لصراخهم المكتوم بالهسيس ، والتسلل على وقع خطى
الدقائق تتهادى بخفة حتى الفجر . أحب أن أكون معهم ولكن من بعيد ، بحيث
أقترب دون خوف ، حين يتعرّون بلا خجل " .
أما كيف قال النص ذلك ، فيمكننا العودة إلى مسألة التجريب في القصة
القصيرة لنجد أنه يتمظهر في إطارين اثنين :
ـ تجريب بالشكل .
ـ تجريب في اللغة .
أما التجريب بالشكل فقد ظهر واضحاً في الاتكاء على المنولوج وفي بعض
القصص التي عمدت فيها الكاتبة على تفتيت الحدث وبعثرته في البناء الكلي
للقصة وبهذا تنتفي البداية والنهاية في بعض قصص المجموعة ، وتتحول القصة
إلى مجموعة من البنى المتراصة يوحدها الترابط النفسي ووحدة الشعور كقصة "
حارتنا ضيقة " و" أوركسترا النضال " كذلك في " نص منفرد على آلة العمر "
وأيضاً " نص منفرد على آلة الحنين " . مستفيدة من قدرات البنى الدرامية
أحياناً ومن المشهدية السينمائية أحياناً أخرى في رسم أشكال قصصية لها
أطرها الجمالية الخاصة .
أما التجريب في اللغة فقد استطاعت الكاتبة ومن خلال هذا الجنس الذي لا
يحتمل الإطالة أو مطاردة الجزئيات أن تجعل من اللغة كائناً شفافاً قادراً
على التصوير الدقيق دون أي شعور لدى القارئ بالتوتر أو الامتعاض خاصة وأن
هذه اللغة تشف عن وعي أنثى لأنثى مبرهنة أن ثمة خصوصية للأدب النسوي ،
يتميز على صعيد الوعي ـ خاصة ـ عن الأدب الذكوري ولو قرأت المجموعة مفصولة
عن اسم كاتبتها لقلت في نفسك أن من كتب هذه النصوص أنثى بكل تأكيد .
لقد استطاعت الكاتبة أن تستفيد من الإمكانيات التعبيرية التي تتيحها
اللغة ذاتها على صعيد التخييل الأدبي وذلك ما منح مستويات الكتابة قدرتها
على إفراز ألأبعاد الدلالية والجمالية لنصوصها ، التي اقتربت في كثير من
تلويناتها الجزئية من الشعر .
لقد استطاعت الكاتبة أن تحقق جماليات اللغة السردية في قصصها من خلال
تعددية أصواتها وتنوع رواتها ، وإذا كان هذا الأمر سهلاً في الرواية فهو
سهل ممتنع في القصة القصيرة والتي لا تحتمل ذلك على الأغلب .
|