خطوات
انطلقت.. وتوقف
تلمس قفصه الصدري بوجع لذيذ , مر بأصابعه فوق الأضلاع كمن يعزف لحن
حلمه الأبدي على قيثارة , صنع أوتارها من شرايينه , تنهد بعمق : إنها هي ,
حواء التي بحث طويلا عنها , سنوات أمضاها في تسلق شرفات العمر والنظر
اختلاسا من خصاص نوافذ الأمل , وتفجر في صدره بركان الفرح , الذي مر في
ذاته يوما كوميض البرق واختفى , تاركا روحه في ضياع الغربة والبحث المستمر
***********
إنها هي مريم النائمة في ظلمات وجدانه , حين التقاها تأكد أن رصيد
انتظاره ما ضاع سدى , قصور الشعر والفلسفة والعطر المشادة في صحراء نفسه
الخاوية هي وحدها من يستطيع بث الروح في ردهاتها وزواياها , كثبان الشوق
التائهة في فيافيه , هي وحدها الكفيلة بإنبات النخيل والزيتون في رمالها .
**********
- من تقر أين من الفلاسفة ؟
- أبا العلام , أستاذي
- انه فيلسوفي المفضل , أعشق كل كلمة تصدر عنه , أعتبره أبي الروحي
, بل هو أقرب إلي من أبي
- وأنا أيضا , أشعر أنه يقول كل ما آمنت به وعجزت عن قوله , تعجبني
كل نظرياته
************
تلمست بوجد خصلات شعرها , شفتيها , وجنتيها , ما أقدره على صنع
الفرح , كأنه القابض على جمرة قلبي يفتتها شرارا حين يريد , كأنه المالك
لريشة أحلامي يرسم ويلون ما يشاء كما يشاء , كأنه...كأنه...كأنه....
إن كان يؤمن حقا بما أومن به فقد اكتملت شروط لعبة الحياة تطابقت
مسنناتنا تداخلت , ما بقي إلا أن نتلقى إشارة القدر لتدور بنا الآلة ونبأ
بنسج الحكاية عشقا حقيقيا .
********
عكفت على كل ما سطره ذلك الفيلسوف العظيم باحثة دارسة , جميل أن
تلتقي على عبق فكر لامس منا الوجدان والضمير , جميل أن تلتقي يدانا على
حمل مشعله والسير في دروب العمر مستضيئين بنوره
***********
سحبت الشمس رداءها البرتقالي , وراحت النجوم تهمس شكواها وميضا في
أذن الليل الرحيم , أنصت ,سمع تنهدات الوديان حين تفيض بالضباب , طرب لهمس
البنفسج حين يسجد بوجهه الأزرق على الأديم , مطلقا صلواته البكر على
التربة البكر , ترفع إلى السماء رجاء سلامته من كل ضيم وانشراح صدره , مد
يده بآلية أشعل سيجارة , توهجت شعلة الولاعة على زجاج النافذة الغارق في
سكون الليل , أجفلته , انتصب واقفا , فاجأته نوبة من السعال , جعلت الدم
يتدفق غزيرا في شرايينه وأوردته , محد ثا صوت شلال في صدغيه , التفت بسرعة
, شعر بوخزة في هيولا الفرح الذي ما تشكل بعد , لاذ بالتفكير العميق .
أأنا أنا؟؟ أم أنها تراني ظلا له؟؟ ما كنت في حياتي ظلا ولن
أكون...
**********
ملأت حقائبها شوقا معتقا , استحضرت كل ما في الكون من ألق وبهاء ,
شدت الرحال إلى الأرض المحايدة , لتلتقيه بعيدا عن أضواء حضارة زائفة ,
ومجاملات تنتقل بالعدوى كالأنفلونزا , فليزلزل الجبل , وليجف البحر , انه
هو.. قادم كالفجر , كالغيث , من سماء صافية لا غبار يشوبها ولا دخان يهطل
زخات طهور , يغسل الصخور من أدرانها وتظهر مريم (( مريم تاريخ آخر ))
مدت خطوتها
مد خطوته
طارت بجناح الشوق
توقف
- هل قرأت آخر ما صدر عن فيلسوفنا من أفكار ؟
صمت , لم يجبها , سمره الشك في نفسه فعاد لتساؤله
توهجت جمرة السيجارة من جديد , احترقت رئتاه بلهب التبغ , عاودته
نوبة السعال والحماقة , أطلق رصاصة الشك على قلب الخطوة الأولى التي رسمتها
السعادة على بساطه فترنحت كلمى يسيل نجيعها على شفاه الروح وعاد من جديد
الى دوامة الحيرة يتساءل :
- أأنا أنا ؟؟ أم أنها تراني ظلا له
- انطلقت وتوقف , ثم ماذا بعد هذا؟
ظل يراجع نفسه ويعيد طرح السؤال: أأنا أنا ؟ أم أنها تحبه فيّ؟ أم
أنها أحبتني ظلا له ؟ بينما انطلقت هي وراء عاطفة التهبت فجأة , تركض في
سهوب الروح المقفرة , تطارد حلما لما يكتمل تشكيله بعد , خطوطه فوضوية
متداخلة , ألوانه متمردة متنافرة رعناء , الريح الصقيعية تسفع وجهها وقد
أصبحت وحيدة في مفازة الخيال الجرداء .
- وهو ؟
ما زال يفكر , ينتظر منها الكثير من المبادرات والتضحيات , ينتظر
توكيدا يثبت له أنه هو , لا الآخر , محط عواطفها واهتمامها, وأنها عشقته هو
, بتفرده , بشخصيته المجردة من الهالات التي يقتضيها موقعه الوظيفي.
- -وهل تأكد؟؟
وزعت ملامحه على نجيمات الياسمين , على قطرات الندى المتكاثفة دررا
على أعشاب القلب , ونباتات الزينة في صالونها الباذخ على القمر الراكع فوق
صفحة البحر , فتحت غرفة جدها , أخرجت خناجره وسيوفه من أغمادها , لمعتها
وأعادت شحذها . استعرضت البنادق القديمة , الدروع , سروج الخيل , هيأتها
للانطلاق وراحت تنتظر , وظل هو , ثابتا في مرصده , يراقب أحلامها وأطياف
خيالها , يحللها ويدرسها دراسة الخبير , متلذذا بعذابها , مستمتعا
باحتراقها حتى داهمها الملل , فانصرفت عنه إلى حلم آخر
طوت مظلة الحلم قبل اكتماله , رمت بها في الخواء وراحت تتحسس حجارة
دربها عائدة إلى واقعها حين تأكد أنه هو, وليس سواه من يستحق عشقها صرفا
بلا شوائب .
استخفه الفرح , غادر شرفته العالية قفزا على السلالم , ليزف إليها
البشرى , ويرى بعينيه بصمة بشارته على قسماتها , طازجة حارة , راح يركض
وحده , منعتقا من أعين الحرس الشخصي المكلفة بحمايته من هبوب النسيم ,
تنازل فسمح لقدميه , بل لحذائه , بملامسة إسفلت الشارع , تلفت في الزحام ,
خال الدنيا كلها تشاركه فرحة اكتشافه , وتقيم عيدا كبيرا يليق بهذه
المناسبة الفريدة , اندس بين الناس , باحثا عن وجهها بين الوجوه , الجمع
يغلي ويفور كقدر ضاق بالنار المتقدة بين أثافيه , تساءل : ماذا هناك ؟ غض
الجميع أطرافهم وتسحبوا بصمت خوفا من الجواب .وجد في نفسه من الحيوية
والنشاط ما قذف به إلى عمق حلبة الرقص , أمسك بأول ذراع صادفها وراح
يشاركهم : خطوة لليمين , يليها مشروع خطوة مترددة حائرة تبحث عن اتجاه ,
تلوب للخلف , لليسار, للأمام , تدق الأرض بقوة مع دقة الطبل في الأمام , ثم
تعود لتسحب خطوة آلية لليمين , الأذرع المتشابكة , الأجساد المتلاصقة
الراقصة تشكل هلالا , يمشي بتؤدة , يدور في دائرة قطرها بطول حبل , الطبل
يدوي , المزمار يصدر ألحانا شعبية ناعسة , المشاهدون المحتشدون خلف الدبكة
يقفون بملل , وحدها اللافتات المكتوبة بالخط العريض , وبكل ألوان الحبر ,
تخفق عاليا , وبقوة , مستجيبة لكل هبة ريح...أكمل الهلال الراقص دورة ,
دورتين , شعر بوهن في ساقيه , تذكرها , أفلت ذراعه وانطلق راكضا .
ابتعد خطوات .. استوقفته ثلة من الرجال , بملابس رسمية ومسدسات
لامعة :
- إلى أين؟ بهت الرجل,, تلعثم.. بما ذا يرّد ؟
- إليها..
- بلاهتك لا تنفع هنا.. لماذا تغادر الاحتفال الوطني قبل أن نأذن لك
؟
فاجأه خوف غامر .. تفقد نفسه , انه وحيد بلا حراس , أعزل بلا سلاح .
لا أوراق لديه تثبت شخصيته , وقد أحيط بسور من حراس الهتافات والشعارات ,
خرج باحثا عن الحب في زمن الاحتفالات الوطنية , تذكر أن صورته ليست متداولة
في وسائل الإعلام لذلك لم يتعرفوا إليه , سامحهم , استسلم لهم , قادوه
صاغرا إلى سيارتهم , ثم إلى مخفرهم .
هناك , كشف لهم عن اسمه , قدم لهم - كعادته - وجوده بينهم كهدية
ثمينة , بعدما أخبرهم أنه ظل, قدموا له التحية الرسمية , أمطروه بسيل من
الاعتذار , واتصلوا بحراسهم مؤنبين على التقصير .
في سيارته الفارهة تنفس بارتياح , ابتسم مطمئنا إلى استتباب الأمن
وإخلاص رجاله , سعيدا بكونه ظلا لصاحب الظلال .
انتظرني حتى أكبر
-هيا يا أولاد , شبكوا أذرعكم فوق صدوركم والزموا الصمت , من وجدته
أكثر هدوءا سمحت له بالانصراف إلى بيته.
صفق الأستاذ مشجعا والتفت إلى ضيفه في غرفة الصف غامزا, سيصرفهم
جميعا ليفرغ له , ولكن , واحدا واحدا , لئلا يشعر المدير بذلك.
-سنبدأ من هنا, قال الضيف , اصرف هذا التلميذ المنضبط قبل الجميع .
- هذا ؟ ألم يعجبك سوى هذا ؟ انه نكرة , عديم النشاط , لا أكاد أشعر
بوجوده انظر إلى وجهه , ألا تراه شبيها بوجه القرد؟
جلس الأستاذ إلى ضيفه يحدثه , ويشير إلى كل ولد بإصبعه أن انصرف ,
تاركا وجه القرد إلى آخر الطابور , ركض إلى أمه حانقا
-أمي , ماهو القرد؟
-بسم الله الرحمن الرحيم , اسكت يا ولد , من أين جئت بهذه الكلمة ؟
-الأستاذ....
-اسكت , لاتلفظها مرة أخرى فيؤذيك بشؤمه , قل أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم
-لكن ما هو....
-هو إنسان خاطي , مسخه الله بصورة قبيحة عقابا له وجزاء , حوله إلى
حيوان بشع.
لم يستزدها, ولا سأل سواها , ثقته بأمه مطلقة , لكنه أضمر في نفسه:
سأنتقم منك يا أستاذ عبد السميع , انتظرني حتى أكبر.
*****************
-اشترينا كل ما يلزم للعيد ,سوف آ خذك الآن إلى حديقة الحيوان , مار
أيك ؟
-موافق يا أبي .
-هذه زرافة
-ما أطول عنقها وما أبعد رأسها
-هذا غزال , هذا ثعلب , هذا ......
-ما هذا يا أبي ؟ انظر ما أبشعه , انه مخيف
-لا تخف يا ولدي , ألا ترى ضخامة السلسلة الحديدية التي تقيده ؟ لم
يؤذيك , انه القرد
تأمله مليا , وسار إلى جانب أبيه صامتا , أحقا يشبهني؟ أحقا أشبهه ؟
أأنا قرد ؟ سأنتقم منك يا أستاذ عبد السميع , انتظرني حتى أكبر.
********************
-يا أولاد
-صرنا رجالا , ماذا تريد؟
-اليوم نصبت خيمة للسيرك في الحديقة العامة , سنهرب من المدرسة
لنشاهد عروضها
-موافقون .
للمرة الثانية يشاهد القرد , قشعريرة الخوف غمرت جسده , ردد ما
قالته أمه : بسم الله الرحمن الرحيم , القرد يقفز في مكانه , يقفز بلا توقف
, بإشارة خفيفة بطرف العصا , يأمره مدربه: هيا مت , يتمدد على الأرض ,
باسطا أطرافه الأربعة مدلعا لسانه متوقفا عن الحركة .
- امش مشية العجوز
يتوكأ على العصا , يسير خطوات قصيرة واهنة , محدودب الظهر كالعجوز,
امش مشية الصبية’...ارقص رقصة الشاب .... .اعجن عجين الفلاحة , القرد يقلد
الحركات طائعا بلا مناقشة , والمشاهدون يضحكون , أسدل الستار ثم فتح عن
شبكة من الحبال , معلقة على أعمدة الخيمة , بإشارة خفيفة من طرف العصا ,
تسلق القرد العامود , أمسك بالحبال وراح يتنقل بخفة من حبل إلى آخر ,
العيون تتابع حركاته ولا تكاد تحيط بها , تساءل في نفسه: أهكذا يريدني
الأستاذ عبد السميع ؟ سأنتقم منك يا عبد السميع , انتظرني حتى أكبر.
***************
نسجت أمه شبكة من الحبال , مدتها بين باب منزلها ومدرسته , ثم الى
مدرسة الشرطة , بإشارة خفيفة من طرف عصاها أمرته : أريدك حارسا للقانون ,
سأضرب بك بدل يدي من شئت ضربه , سأتباهى بك في صحوي وسهادي .
تسلق العمود , راح يتنقل بين الحبال المنصوبة له بصعوبة بالغة ,
يتوقع السقوط في كل لحظة , تحت سمع أمه وبصرها , تحت خيمة من زهوها
ومباركتها, ينفرد بنفسه إذ ينفرد , يعض الحصى غيظا وقهرا , لا قدرة له على
الوقوف في وجه من لا يهابون القانون .
*****************
أتاه أبوه بجبل من الكتب , أرخى ثقلها على إرادته ووعيه , أريدك
مثقفا , أريدك اسما يلمع في سماء العلم فيطفئ كل نجم سواه , ألا يحق لي _
مثل أمك _ أن أزهو بك , ربط حبل خيمته بين منطقة الوعي والاوعي من نفس ابنه
, شدها إلى كومة الكتب , بإشارة خفيفة من طرف العصا أمره : امش مشية
العجوز , استجاب وعاش محروما من طفولته وشبابه , من كل فرحة أو مشروع بسمة
.
***************
نصبت وصال حبلا واحدا , مدته بين جسدها المتقد وحرمانه , أشارت :
هيا ارقص فوقه رقصة الشاب , غرق في تفاصيلها مدة ثم ثاب إلى وعيه , بل وعي
أبيه حاول ا لانشغال بالدرس لمحو مغامراته تلك من صفحة وعيه , اعتزل الناس
, تكرر رسوبه في الامتحانات , دخل عالم أحلام اليقظة , وصار يحلم بالوصول
إلى محكمة العدل الدولية لتخليص كل قضايا العرب العالقة هناك , انتبه زعيم
خيمة السيرك : إذا وا صل جنونه بهذا الشكل , ضاع من أيدينا , هيا قيدوه
, أجمعت الآراء : لتكن له سالمة , هذه البلهاء التي لا هم لها سوى الزواج
والإنجاب , ليكن عالمه محصورا بين طمثها وحملها وولادتها, وليترك الأمور
الهامة للرجال , فرح أبوه وأمه بالقرار وجلسا ينتظران الأحفاد .
**************
الحرب تجتاح كل شيء , الطائرات غربان سود تنشر الموت حيث عبرت , جيء
بجثمان خاله في صندوق خشبي أخضر , أتم الجنود مراسم الدفن وانصرفوا , ارتمى
على القبر نادبا: سأنتقم لك يا خال , انتظرني حتى أكبر .
***************
التحقت وصال بزوجها , ملأت سالمة البيت بالأولاد , أفاق من ذهوله ,
وجد نفسه راقصا على حبل جديد , يصل بين سرير سالمة ومحرسه المهجور الشبيه
بالزنزانة , المارقون من القانون لا يريدون تبريرا منه , والمظلومون لا
يريدون نصرته , تكاثفت الأحداث من حوله , تداخلت , تماهت , اختلطت السلاسل
, ما عاد يعرف كيف يرقص , وبأي شيء يتمسك ليحتفظ بتوازنه , , خرج من داخله
شبح طويل , عريض , له ملامح الأستاذ عبد السميع , صرخ بأعلى صوته : سأنتقم
منك يا أستاذ عبد السميع , انتظرني حتى أكبر, بإشارة خفيفة من طرف العصا ,
أمره الشبح: دع كل السلاسل وارقص رقصة المجنون .
رحلة إلى عمق الغبار
سألتك قبل بداية البداية هل تشبهه؟؟ ذلك العربي الذي رسمته في خيالي
, هل تشبهه ؟؟
أجبتني: أنا أشبه الناس به
أغمضت عيون العقل ورحت أحلم بقامة تنبثق من أرض حرة , تحمل رأسا
عنيدا عصيا على الانحناء , تعلوه غرة ثائرة متمردة على كل أصناف القهر
والاضطهاد.
ثقبت روحي شرنقة العزلة ورفّت , فراشة كسلى يبهرها الضياء , فردت
جناحيها على موجات الأثير , وراحت تدور وتدور راقصة في فضائك الفسيح.
*****************
أأنت تشبهه؟؟؟
هربت مني فراشة الروح , راحت تبحث عن أهدافك وأحلامك , لبستها حريرا
لجناحيها , تبعتها مسحورة إلى كرم الزيتون , سجدنا معا تحت ظلاله , رفعنا
من فوق ثراه صلواتنا الى السماء , وعدنا تحملنا نسمة العشق المقدس , ونحمل
معا مشعل الفرح.
***************
- أحقا تشبهه؟؟
- سترين كم أنا متطابق معه في كل شمائله التي ذكرت
رحت أحلم بقدمين تنتعلان الجرأة تخوضان وحول التحديات , تدوسان
نشرات الأخبار والثرثرات , لاتعرفان طريق التراجع.
طارت فراشتي بجناح بنفسجي إلى صحرائك ,تيممت في الرمال الناعمة ,
استنشقت عبير الندى الصباحي , استوطنت كثبانك وبدأت البحث عن موقع الخطو في
زمن مضى , بين ذرات الغبار المتطاير من مكان مفترض للسعادة , وتركتني هنا
, مسلّمة جوارحي للحريق اللذيذ .
*************
-أحقا تشبهه؟؟
رحت أحلم بروح نقية لا تعرف سوى الصدق , والصدق المطلق , مذهبا
ومشروع عمل , تغتال الأكاذيب , تطفئها في منبتها , بأنف شامخ ما ذاق يوما
طعم الذل , ولا مرارة التراجع عن قرار , بلسان جريء سليط , لا يهادن باطلا
ولا يتملق خبا .
بجناح أخضر دخلت فراشتي غابة الخيال , اندست في أكمام الزهر , قاربت
مواقع الرحيق , هتفت لي من عمق صحرائك : أنا قادم ........إليك......أهدي
بهجتي.
قطعت الجبال والسهول , لبست شغاف القلب رداء أتزين به من أجلك , أين
أنت؟؟ طافت عيناي على دروب المطارات , وأدراج السفارات, زحفت بانكسار على
مواقع الظنون ورجعت إلى بالخيبات , أين أنت؟؟؟
**************
دارت الدنيا دورتها , امتدت صور انيران على مساحات الصحف ونشرات
الأخبار , أحرقت ألسنتها كل مقدس وأطفأت وهج الأمل في النفوس , اجتاحت
أمواج الشتائم والاتهامات كل قنوات التلفزة , والشاشات المضيئة لشبكات
الاتصال , أشعلت ما كان كامنا من أحقاد وأطفأت المروءات .
- أحقا تشبهه؟؟ أهو يشبهك ؟؟؟؟
- لم أفهم ما تقصدين ,
وتأتيني إشارتك ( قد لا تجدينني لو بحثت عني مرة أخرى)........ ترى
ماذا تعني هذه أل(قد ) المؤلفة من حرفين قاسيين قاتلين ؟؟ عدت إلى
القواميس والمعاجم أستنطقها , هذه الكلمة بذرة , سوف تنبت شجرة شائكة من
الهلع , لأغصانها صلابة الزيتون وهشاشة الكثبان
قد لا أملك من المروءة والشهامة ما تتخيلين
قد لا أكون درع الحماية والغيرة الذي تطلبين
قد.............أسحب وعودي وغباري
قد................ أتنصل من كل كلامي
قد لا أكون من تبحثين عنه
قد....قد.. قد.....قد......
فراشة روحي باغتها طائر الخوف فاتحا منقاره الأسود القصير , أطبق
عليها بفكيه , رفرفت , قاومت , تمزق جناحاها وتناثر حريرها غبارا , جمعته
حبات المطر وسارت به , سيلا جارفا مدمرا لكل ما شيدناه من قصور الشوق
وجسور الخيال , تخلصت روحي من المنقار الأسود لتسقط في مستنقع الشك
المسكون بقبائل البعوض , تمسكت بورقة زيتون طافية , بساق عشبة مائية ,
بقبضة من الهشيم.....
برز لها ضفدع بارد لزج , غيبها بسرعة البصر , في ظلام جوفه .....
وبقيت بلا روح وحيدة أتلفت في كل اتجاه , بحثا عن رجل آخر , يملك بقايا
نخوة وسؤر شهامة
متى أرتوي ؟؟
ظمأ ظمأ
المدينة الكبيرة تجثم في مكانها على الأرض , كحصان عجوز أرهقته
جولات السبق وتراكم السنين , فارتمى يلهث أنفاسه الأخيرة , ويطول به النزع
, يرمي خلفه ذيلا إسفلتيا مهترئا عّراه الجرب , يمتد الذيل متعبا , فاقدا
القدرة على التحرك , لهّش الحشرات المعدنية الزاحفة بجنون فوق إهابه المشقق
.
ظمأ ظمأ.......
نحن في نهاية عامنا الثالث من الرعب , مرت أيامنا بلياليها ,
بساعاتها وارتعاش الخوف في دقائقها وثوانيها , قطعتها بحثا عن الأمان ,
وقطعها بحثا عن تهمة مقنعة , ما تزال المسافة الفاصلة بيننا ثابتة , مازلنا
نمشي على خطين متوازيين , ونسأل : إلى متى ؟ مازلنا نمضي أمسياتنا صامتين ,
أبحث - كما يبحث - عن شيء نكسر به هذا الصمت , أدنو منه فينأى ثم أدنو
فينأى , وأعود لأتساءل وحدي : إلى متى؟؟
الحافلة تطوي بنا الطريق طيا , ونحن في رحلة العودة , كنت أوقع عقدا
لطباعة كتاب جديد وكان لزاما علي اصطحاب زوجي في هذا السفر البعيد , مازلت
عطشى , الظمأ سيد الموقف أنا لا أحب الشرب من المناهل العامة , ولا من
الزجاجات المخبأة تحت مقاعد الحافلات ( الطقس غائم جزئيا ) هكذا قالوا في
نشرة الأخبار , دوائر الضوء المتسرب من بين الغيوم تتراكض في الصحراء
الممتدة على جانبي الطريق , تنشر مناديل صفراء بلون الخوف الساكن في عينيه
, ثم يعود فيلمها لينشرها في أماكن أخرى , يتمسك بي , يطوق خصري بذراعه ,
يشدني إليه بقوة , يقاوم الرعب المسيطر على جوارحه ويسأل: أما زال مكتب
الصحيفة في البناء الذي أعرفه؟ أجيب ببلاهة: أجل , تتراخى ذراعه ويشيح
بوجهه عني , يحدق في مسند الكرسي أمامه ويعود ليسأل:
- متى ستقام الندوة المخصصة لمناقشة كتابك الجديد ؟
- بعد خمسة أيام
- ماذا قال لك رئيس التحرير ؟
- لم يقل شيئا
يفلت يدي ويهرب بعيدا بعيدا , يدير وجهه إلى النافذة ويغمض عينيه ,
تنبئني رعشة يديه عما يدور في خلده من أفكار تعذبه , ألحق به , أتمسك بيديه
, يأخذ مني المجلة ويبدأ بتقليب صفحاتها , أنا عالمة أنه لا يرى صورة من
الصور المنشورة فيها ولا يقرأ كلمة , أمسك يده بحنان فتهدأ ثائرته بعض
الهدوء , يسند رأسه إلى كتفي مغمض العينين , لماذا يغمض عينيه وأنا في
لحظات نجاحي ؟؟
أعرف الجواب أعرفه جيدا , انه لا يرغب برؤية شيء جديد , تكفيه
الرؤى المرعبة الساكنة في أعماقه , ناشرة ظلالها حزنا وبؤسا على قسماته ,
تمنعه من مشاركتي فرحة نجاحي بولادة هذا الكتاب الجديد , رأيت ذلك جليا حين
استقبلنا مدير دار النشر , أشرت إلى باهي معرفة: هذا زوجي , انحنى الرجل
احتراما , صافحه بمودة , ثم انصرف عنه وراح يتحدث إلى , ويعرف ضيوفه علي ,
أكثرهم قد سمع باسمي أو قرأ شيئا من كتاباتي المنشورة في الصحف , بينما بقي
باهي على هامش المجلس , صامتا مهملا , لا يلتفت إليه أحد , استأذن الحضور
وخرج ليدخن سيكارة على الشرفة , موفرا بذلك على أذنيه سماع المزيد من كلمات
المديح , لي , ولكتابي الجديد .
-من هو المقصود بقصتك التي نشرت في الأسبوع الماضي ؟
تنهض لائحة على يمين الطريق , من بين الركام , تحمل عبارة قرعاء (
ممنوع إلقاء الأتربة تحت طائلة الحجز ) بينما تشكل أكوام الأتربة سورا
عاليا يحجب الرؤية , ممنوع ؟؟ ترى من وضع هذا التحذير؟؟ والى من يوجه هذا
المنع؟؟ تحت طائلة الحجز؟؟ ماذا سيحجزون؟؟ هل وضعت هذه اللافتة قبل انتقال
هذه الأكوام إلى هنا أم بعد؟؟أم أن الأوامر المكتوبة على اللوائح العريضة
كتبت خصيصا لتشير إلى الناس كي يمشوا عكس اتجاهها؟؟
مازلت ظمأى , لن أشرب سوى ماء نظيفا صافيا, لابأس من تحمل العطش
ساعات أخرى أحاول فيها الخروج من أسر هذا الشعور واخراج باهي معي .
-ماذا بعد؟؟ هيا تكلم ودعني أحلم بالمستقبل , ارسم لي ملامح المرحلة
القادمة وعودتك إلينا
-احلمي....الحلم لا يحتاج استئذان أحد
-هل أتخيلك رفيقا قويا يشد أزري أسند إليه ظهري وأنعم بالأمان؟؟؟
لا يجيب
أم أتخيلك رجلا - سيدا يأمر فيطاع , يدخل البيت غاضبا , يضرب ويصرخ
ويحطم الأواني؟؟
يهز رأسه باسما وعلى وجهه علامات الرضى , أفرح , إذ أعتقد أني أحدثت
ثغرة صغيرة في بركان غضبه الصامت الموشك على الانفجار , وعندي كبير أمل
بإحداث ثقوب أخرى أمتص من خلالها بعض الضغط المتحكم فيه , ليجري بعد ذلك
نهرا عذبا , دفاقا بالحب , صافيا يروي ظمئي .-هل ستتركني مستقبلا أسافر
وحدي ؟؟
-سأكسر ساقيك لو فعلت
-بماذا ؟؟ أية أداة سوف تستخدمها لهذه الغاية؟؟
-الحب , ويبتسم....
يقولها وقد تحول الرضى على وجهه إلى فرح طفولي رائع , تنتقل إلى منه
عدوى الصمت فأفكر: هل يكسر الحب الأيدي والأرجل ؟؟ ليتك يا باهي تملأ علي
حياتي لأكسر ساقي بنفسي وأمتنع بإرادتي عن كل ما من شأنه أن يعكر صفوك
ولكن..... أين من الحب الذي يكسر أو يجبر ؟؟إن هي إلا سويعات قليلة في
اليوم تعيشها في البيت , تمضيها نائما أو غارقا بين الأضابير والملفات ,
وننسحب أنا والأولاد في الحالتين , لنوفر لك الهدوء الذي تحتاجه
أولادنا مشتاقون دوما لك , يحشدون أفراحهم ومحبتهم كل يرم لاستقبالك
, يخبئون أحلامهم وشكواهم ليفردوها بين يديك , وأنت دائما على عجلة من أمرك
, تهشهم عنك و تجري , لا تكاد تمسح على رأس أحدهم مرة واحدة في الشهر,
يتراجعون خائبين أمام إهمالك , وأتراجع معهم , يمضني الألم , على آمالهم
المسفوحة في دروب انتظارك , ينشغلون بألعابهم وكتبهم , وأبقى وحدي , أحاول
حل مشاكلهم ومشاكلي في غنى عنك .الأولاد لا تقنعهم حججي وذرائعي التي
أنتحلها دفاعا عنك , يريدون أبا يحس بهم , وأريدك زوجا يعينني على الحياة
لأحيا , أحاول إقناعهم بالكفاف الذي ترميه لنا , بينما تذهب أموالك كلها في
تمويل مشاريعك , أحاول إفهامهم أن والدهم رجل شريف , وأن الشرف والمال قلما
يلتقيان , يرشقونني بأسئلة كالسهام: هل تعنين أن عمي وخالي وجارنا ليسوا
أشرافا ؟؟هم يصطحبون أولادهم إلى النزهات ويقدمون لهم الهدايا , ما هو
الشرف يا أمي؟؟
ألوذ بالصمت , مثلك تماما , ألهيهم بحكايات تنسيهم مؤقتا تلك
الأسئلة , يسبحون في خيالاتها فيتحررون تحررا زائفا من الإحساس بالغبن ,
بعد نومهم أعود لأقلامي وأوراقي , أغرف من آلامي وأسكب على السطور , ها هي
ذي , تؤتي ثمارها , كتاب في المطبعة يضاف إلى رصيدي الأدبي , وندوة لمناقشة
كتاب آخر تحدد موعدها بعد أيام , ونقود أقبضها من هنا , لأشتري بها فرحة
أولادي , أعطيهم ما حرموه منك , ليشعروا أنهم لا يقلون عن أترابهم
وأندادهم بما يكسر قلوبهم البريئة .
-هل سأستمر في العمل الصحفي؟؟
-لا تتغابي.....
يقولها بحزم وقد سقطت عن وجهه ومضة الفرح العابر , لاتتغابي ؟؟ كيف
لا أتغابى الغباء نعمة كبرى يا باهي , والنعمة الأكبر هذه القدرة على
التغابي أمام سوء ظنك , واتهاماتك المبطنة والصريحة , ومحاولاتك الدائمة
للانتقاص من قيمة نجاحي , لولا التغابي لانفجرت في وجهك , وألقيت المسؤولية
التي أنوء بحملها وحدي , أتراك تدفع بي لهدم بيتنا لتحملني عبء ضياع
الأولاد ؟ أم أنك ستهدمه فوق رؤوسنا وتنصرف لشأنك ؟؟
الحافلة تدخل بنا منطقة جغرافية جديدة , تنهض فيها تلال صغيرة
متتابعة , تلال مكورة كالبطون , كأننا في مركز لرعاية النساء الحوامل , ترى
بأي شيء تحبل هذي التلال ؟ ولو قدر لها أن تلد , أية مواليد ستخرج من بين
الصخر والتراب ؟ هل تلد حجارة ؟ أم تلد ذئابا وثعالب ؟
مؤكد أنها سوف تلد بنات آوى , التي لا تنشط إلا في الظلام لتهاجم
طرائدها الهالكة السنوات ا لثلاث التي مرت على إصدار كتابي الأول حبلى
بالصمت , صمتك يرعبني يا باهي ما الذي سينجبه هذا الصمت ؟؟ أنا لا أعرف ,
وأجزم أنك لا تعرف , لكننا متفقان على أنه مخيف , مرعب , لذلك نتحاشى
انفجاره , وكل محاولاتي لكسره قبل الانفجار باءت بالفشل .
-ما تظنين أن يطلب الطفل ؟ هل يطلب سوى الصدق والحنان؟؟
-أي طفل ؟؟
-اقصد الإنسان , الرجل
-هل وجدتني ظالمة ؟ أم كاذبة ؟؟
يصمت مفكرا مازال يتحاشى إغضابي , مازال يدور حول فكرته ولا يلامسها
, يضمر في نفسه ما أراه واضحا على كل فعالياته , يتألم من سماع اسم زوجته
تتداوله الألسن في المحافل الأدبية , ويتردد على شفاه زملائه من قراء الصحف
, يصمت , مغلفا كل أحاسيسه بغيرة الزوج
- ماذا قال لك الناشر ؟ بماذا تحدثت إلى الصحفي ؟ هل ركبت المصعد
الكهربائي وحدك ؟؟
أجيبه صمتا , وأقسم أن هذه الأرض ما حملت على ظهرها منذ تكوينها
بشرا أحب إلى منه , ولكن , هل يشفع الحب حين يسود الشك ؟؟ لا أريد الوصول
بأفكاري إلى هذا الحد , لا أريد لأولادي أن تداس سمعة أمهم , لا أطيق
فجيعتهم بشرفهم , كان تسلق القمم أحد أحلام طفولتي , هاهي القمة الصعبة
حيالي , ذروتها الحفاظ على بيتي وأولادي , أتسلقها بصعوبة بالغة , طريقي
محفوف بالمخاطر , مزروع بالألغام , ويتنامى خوفي من اكتشاف أن وراء الأكمة
مثل ما أمامها , فراغ وظمأ ...
يطول الصمت فيدنو مني , يمسك يدي بحنان , يسند رأسه إلى كتفي مثل
طفل يقر بذنبه ويطلب السماح , دوائر الضوء الأصفر تتراكض عبر الصحراء ,
بسرعة مطردة مع سرعة الرياح , التي نشطت فراحت تدفع بالغيوم شرقا كأنها
تستكثر بعض الرذاذ على هذي الأرض , كأن هذا المكان لا يستحق منها سوى الظمأ
, ونصل بلدتنا صامتين , معدته وأحشاؤه تتشنج احتجاجا على كل شيء , ويبقى
الخوف , حاجزا يفصل بيننا , ممتدا على بساط واسع واسع من الظمأ .
عودة
خرج مغاضبا
ترك لقدميه مهمة تحديد وجهة سيره
هناك..حيث الكون ما يزال على حالته السديمية الأولى , وقف وسط
سحابة من الغبار , مشهرا جمرة سيجارته نافثا الدخان حلقات فوضوية رمادية
, تدور في الفراغ حول نفسها , تتسع دوائرها ببطء حتى تتلاشى
***************
هناك
حيث خط دخان التبغ في صدره سطرا عموديا من الألم , يمتد بموازاة
عظم القص , ويتمدد ليغمر الرئتين بحرقة خفيفة يحسها في كل شهيق له وزفير ,
وقف يرسل النظر حائرا , يبحث عن وسيلة تمكنه من زرع رقاع الشطرنج بأعشاب
الملاعب .
**************
هناك
راح يستعرض أدواته , التاريخ هوة ظلماء تسكنها قبائل الجن وعفاريت
ألف خيبة وخيبة , الحاضر سوق غاب عنه علي بابا , وانتشر أتباعه انتشار
البراغيث , المستقبل بحر مشحون بالضباب . الرؤية غائمة محدودة المدى ,
الأفق ينتهي عند حدود النظر , يعاتب البشرية والكون على سنوات من عمره
ضاعت هنا , وهو واقف بينهم منتصب القامة كتمثال للألم لا يشعر بحزنه أحد ,
يملأ الصدر بحريق السجائر , ويتماهى مع دخانها بين عوالق السديم .
كنانة الألوان محمولة على عاتقه , اللوحة صحراء تدور في بلقعها
دوامات الريح العابثة , تجع الرمال لتعود فتذروها من جديد , لاطمة العيون
بما يمنع النظر من الانطلاق , يقبض على بذور الفكر وينظر إلى الأفق المسدود
متضرعا , لا سحابة تبشر بالغيث , يطبق أصابعه بقوة , تتفصد مسامات جلده
عرقا , يتسرب نضح خلاياه إلى الأجنة المخبأة خلف قشورها , تنتش , تمد
جذيراتها البيضاء اللامعة إلى حيث أخبرته قارئة الكف يوما أن خط الحياة
لديه طويل ممتد إلى ما لا تدركه عرافة أو بصارة , وأن خط السعادة منفصل
تماما عنه , البذور النابتة جمعت بين الخطين , شعاع ثاقب انبثق من مكان
الوجع خلف عظم القص , تحركت عضلات وجهه , تقبضت في مشروع بسمة , كشفت عن
أسنان شارفت على الفناء في زنزانة الكآبة والتشيؤ , نفرت سحابة فرح من
منطلق دخان السيجارة , استمطرت مأقيه دموعا , أطبق جفنيه , البذور النابتة
في كفه أورقت , نشرت الأخضر بين خطوط الحياة والسعادة والزواج والموت .
ركض , مادا الخطوة إلى حيث يستقر النظر هاتفا : الآن جئتك يا مدينتي
...افتحي مغاليقك
وصل منهكا
توقف مستطلعا
كل البيادق كانت ثابتة في أماكنها
متشبثة برقاعها
ومازالت الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم
ذات الشمال
ومازال كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد
علبة النعاس
هل وصلت بتفكيرك لشيء؟
ليت الشجاعة تؤازرني لأدنو منك وأحيطك بأهداب عيني
ولكن..لو جمعت شجاعتي لخانتني ساقي الوحيدة , واعترضت طريقي إليك
بجلبة تلفت الأنظار
المصابيح الساهرة على شمال الطريق تقذف بعشرات الظلال المتماثلة على
يمين الحافلة التي تقلك , إلى أين تسافر أيها الشقي؟؟ إلى أين تمضي
مرتديا ظلمة الليل متزودا ببرودته ؟
الحافلة تبتعد عن المدينة , تقذف بالركاب إلى مفازة الملل ,
يقاومون مدة ثم ينهزمون مهرولين إلى أحضان النوم القلق , يتسرب الخيال
منهم مخترقا غبش البخار المتكاثف على الزجاج وصفاقة الستائر , يرقص في
شوارع مدن الأحلام وساحاتها ,يجوب الماضي يغربل الحاضر ويرنو للمستقبل
بشوق يمازجه الأمل والتوجس , وأنت وحدك تعانق الأرق , ساهرا معه في علبة
النعاس , تركز بصرك على حافة رصيف يمشي معك يرافقك إلى آخر أحياء المدينة
, يسأم صمتك وشرودك , يمّلك فيتكئ على جدران هذا الحي الفقير من المدينة
ويتراجع تاركا عينيك للذهول .
إلى أين تسري في هذا القر ؟
السماء نثرت نتاجها من ندف القطن على هامات الجبال المزنرة لطريقك ,
قطن لا يحشو فراشا ولا ينسج رداء , وجه القمر يتثاءب محمرا من شق في سحابة
, ثم ينزل بهدوء ليتجسس على مصانع القرار خلف الأفق الغربي.. أين النوم من
عينيك أيها الشقي ؟
ويح نفسي كيف أصفك بالشقي وأنا..أنا من يحمل مع عكازيه هذين كل ما
في ممرات المشفى الحكومي المظلمة من شقاء وقهر, أحمله صرفا غير مشوب ,
لأجرعه في طريق عودتي مع وعد بتصنيع ساق خشبية بدل ساقي التي زرعتها هناك ,
أذاهب أنت إلى هناك ؟ أتراه دربك يقودك إلى حيث قادنا منذ مدة ليست
باليسيرة فتلقي نظرة على كومة من تراب مهيل , لا يعلم إلا الله أنها تحتفظ
بجزء من جسدي , هل أوصيك بشيء؟
شاشة التلفاز فوق رأس السائق عين عمياء مطفأة ما عادت ترى ما يجري
هناك , صماء لا تنبئ عما يحدث في الساحات الساخنة حيث يدور فكرك ساحبا
عضلات أصابع يديك إلى ميادين التشنج والعصبية , مشعلا عينيك بألق غريب ,
مرسلا من مقلتيك أشعة تكفي لإحراق الأرض لو أتيح لها إحراق الأرض .
السائق يرطن مع مساعده بلغة غريبة .. أنت ترهف السمع محاولا التقاط
كلمة ما أو مصطلح ..لا فائدة.. ما أنت مخول بقيادة الحافلة .. لا.. ولا
أنت من حدد وجهة سيرها أو رسم الخطين الأصفرين على جانبي طريقها , ما أنت
من زرع الشاخصات كوجوه الشؤم تمتد مع امتداد الوقت , تخطف انتباه عينيك
الساهرتين , تقتلعه من جذور أفكارك عنوة ثم تعيده , ما أنت من ثبت المسامير
العاكسة للضوء في عرض الإسفلت .
عضلاتك ترتعش بعصبية , يقذفها فكرك المرّكز بشحنات كهربية سريعة
عالية التوتر ترفع حرارتك فتظهر الحرائق ملتهبة في ملتحمتي عينيك تؤازرها
عضلات ساقيك المتشابكتين تحت مقعدك في صراخ مكتوم تبوح به هذه الانقباضات
والاسترخاءات المتتالية تزلزل بها حديد الكرسي فيصدر صريرا قد يثير
التفاتة بعض الجوار لولا استغراقهم في الكرى .
إلى أين تمضي أيها الساري ؟ ما الذي تنوي فعله في زمن الضربة
الاستباقية , والمحاسبة على النوايا حين يظن أن هنالك نية ما.. ما الذي دفع
بك إلى ركوب هذه الرحلة؟ أهو إيمان بما أنت مقدم عليه ؟أم فرار من زوجة
تدفع بك إلى مهاوي السرقات تجني لها أموالا , تشتري بها من توافه الأشياء
ما يعينها على الزهو أمام صويحبات يوسف ؟ أم تراك تربأ باسمك عن لائحة
مكتب مكافحة البطالة والرقم الضوئي الذي سيمنح لك إذا أدرج اسمك بين
الأسماء هناك ؟
الدجى يغلف بإحكام مسرى علبة النعاس الخالي من الأضواء , تحدق ,
ترسل شهب عينيك عبر الزجاج المغبش فيرتد إليك البصر خاسئا , النجوم في
الأعلى ترسل وميضا ساطعا صافيا يتواتر مع بريق عينيك بعد نهار سخي بالمطر
, يتنبه لها السائق المجدود المؤمن بالصحف وما تنشره من أقوال الأبراج
فيبتهج , يبتسم لمساعده السابح على شاطئ الوسن , ويعود للتحديق مجددا في
الطريق المرسوم له مسبقا .
الظلمة حالكة وراء الزجاج فلا ترهق عينيك , لن تتيح لك هذه النجيمات
رؤية الجبل وقد انتزعت أحشاءه ونقلت إلى حيث تبنى القصور المترفة
الظلمة حالكة , لا ترهق عينيك بالجري خلف القطار المسافر من عمق
الصحراء إلى رصيف الميناء محملا بفلزات أرضك
لا.. ولا تسأل أحدا حتى نفسك عن كنه ما ينتزع من صحرائك ويزحلق على
سكة الحديد ليباع حيث يباع أهو فلزات أم فلذات ؟ هذا السؤال قد يهدي لأمك
باقة من الثكل ضمت بسلسلة من إجراءات لا طاقة لها على تحملها .
تبدو كتفاك رمانتين مكتنزتين , تبشران بالكثير , عضلات مشدودة أعدت
لحمل المصاعب , بوركت أيها المسافر وبورك مسعاك , آه لو كانت ساقي الأخرى
معي .. لكنت الآن رفيقك في رحلتك ... ما تنفع الآهة ؟ هل أوصيك بنقل تحيتي
إلى رمال ابتلعت أشلاء أصدقائي وشربت دماءهم ؟ لن أخيفك.. اطمئن.. لن أقول
لك شيئا.. في رعاية الله أيها الشاب...
قبيل الوصول إلى العاصمة بقليل , استند الهاجس على عكازه وغفا ,
انتزع الشاب حقيبة أنيقة مستديرة ذات عنق طويل , فصلت على مقاس الكمان
تماما عن رف فوق مقعده , مستعجلا النزول , ليلحق نوبته في التخت الموسيقي
حيث يعمل , قبل أن تبدأ سوسو وصلتها فتغضب منه , هل يقدر على غضب سوسو ؟؟
26/12\2004
سباق الظلال
خرجت من بيتها تراقص ظلها القصير, تحت شمس الضحى العالية , تركض
أمامه برهة ويركض أمامها أخرى , سعيدة نشوى بالانتصار الذي حققته ,
موظفة...لافرق بينها وبين الرجال , نحن في عصر المساواة , تمنت لو تلتقي في
طرقها كل من تعرف من البشر , لتزهو أمامهم بثيابها الأنيقة , وأظافرها
الطويلة , الملونة بعناية وفرها لها انعتاقها من معظم أعمال البيت ,
واستعمالها لأحدث مستحضرات التجميل , اشترتها من مرتبها , لا مّنة من أحد
**********************
خرج من البيت منكمشا على نفسه , متحاشيا النظر الى ظله , مسرعا يبغي
اللحاق بعمله , خائفا من لقاء أي صديق قد يضطر لمصافحته , يداه رطبتان , ما
زالتا تحتفظان بآثار الصابون والمنظفات , بعد جولة مملة في أعمال المطبخ ,
شعور بالمهانة كبير يعتمل داخله , لو رأته أمه الآن لجحظت عيناها ,
ولفغرت فاها من الدهشة , ولنقبت في وجهه وذراعيه عما غرسته فيه من ميراث
جده شهريار , ستسأله نظراتها , وربما كلماتها: أأنت رجل؟ بربك أنت رجل؟
***************
ألقت تحية الصباح على كل زميلة , وزميل , قبل جلوسها الى مكتبها ,
بقليل من الغنج , أعطت أحدهم بعض ما كلفت به , لينجزه عوضا عنها , بكلام
آخر , أعادت إلى زميل عجوز إحساسه بالشباب فأنجز عنها الباقي , وتفرغت هي ,
للحديث مع زميلاتها عن الموضة والأبراج , ثم قلبن فناجين القهوة ليقرأن
المستقبل , مرسوما بين خطوط البن على جدرانها .
***********
جلس إلى مكتبه , أمامه كثيب من الأضابير , بل كثبان , تحتاج إلى
الكثير من العمل الدقيق لإنجازها , راح يذكي قدرته على التركيز بشرب القهوة
وإحراق المزيد من التبغ , يجب عليه الانتهاء منها كلها اليوم , مديره صارح
, حازم , لا يهادن.
*********
خرجت من مكتبها قبل موعد الانصراف , سترافق صديقتها في جولة على
السوق لانتقاء ثيابا جديدة تصلح للصيف , مع مكملاتها من أحذية وحقائب
وأدوات تجميل مديرها متسامح, متعاطف مع صباها الناضر , معجب بأناقتها
المفرطة , وانفتاحها على الحياة .
********
خرج من مكتبه مرهقا , آخذا من الصداع ما يكفيه مئونة الليل , لكنه
رجل , لابد قبل عودته إلى البيت من المرور على السوق لإحضار ما يلزم من خضر
ولحوم ومواد تنظيف و.......كل شيء
*************
وصلت البيت متعبة بعد مشوار السوق , أخذت قسطا من الراحة , ثم قامت
بتجهيز وجبة خفيفة للغداء , وتفرغت بعد ذلك لإعداد ما يلزم , ما يليق بسهرة
اليوم , عند موظفة محترمة , أثبتت وجودها , واتخذت لنفسها دورا اجتماعيا
يضعها في مصاف الرجال , جنبا إلى جنب , ويسمو بها عن مستوى ربات البيوت.
*********
وصل البيت , لابد قبل استراحة القيلولة من إصلاح صنبور الماء ,
واستبدال المصباح المعطل .
********
في السهرة كان الحديث كله لها , أو يدور حولها , بينما بقي زوجها في
الظل , يغالب التعب والنعاس , متحاشيا نظرات متسائلة في عيون الساهرين: هل
صار دورك في الحياة زوجا للست ؟بينما راحت هي , تتباهى باستقلالها المادي ,
وثقة زوجها المطلقة , التي أتاحت لها حرية الدخول والخروج , بدل الاحتباس
بين الجدران في ظلمة البيت .
*********
ترك سهرتهم وخرج إلى الشرفة , استل طيف شهريار من داخله وطرحه أرضا
, أغار عليه يدوسه بقوة حتى كلت قدماه , اكتشف أنه يصارع ظله , بينما
ارتفعت قهقهة شهريار الساخرة حتى أصمت أذنيه : أيها الأحمق , ما عادت
شهرزاد مضطرة لإشغالك بحكاياتها , رجاء النجاة من جبروتك , انقلب الميزان ,
هيا , عد إلى مجلس زوجتك لئلا تتهم بمروءتك وشرفك , أو تتهم بالرجعية
والتخلف , جّمع الزوج ظل شهريار , المتمدد في ساحة شعوره ووجدانه على اتساع
أفقها , طواه , طواه , كّوره حتى صار مثل حبة الأسبرين , ابتلعه بلا ماء ,
لكن شهريار صلب , يستعصي على الهضم .
**********
بعد ما انفضت السهرة , سألها بصوت كسير : هل تحفظين شيئا من حكايات
ألف ليلة وليلة؟ أجابته بنظرة استخفاف ولم تعقب , لحق بها إلى وراء مرآتها
, رجاها أن تقص عليه شيئا من حكايات شهرزاد , أجابته بحدة : ما هذه السخافة
؟ أما زلت تحن إلى حكايات أمك وجدتك ؟ نحن في عصر العولمة يا رجل .
***********
توالت أيامه معها , يعيش بلا ظل , يدخل , يخرج , يروح , يجيء , لا
يشعر بوجوده أحد , وظلت هي , تكبر ويكبر ظلها كل يوم , يسبقها , يحيط بها ,
يكلؤها كالسحابة الممطرة , وتصلب ظله في جوفه , تشبث بأحشائه , لكنه ظل
يتحرك بين فينة وأخرى , كما تتحرك الحصاة في الكلية المعطوبة , معلنا عن
وجوده بزوبعة من الألم, حتى إذا.........
***********
ظهرت عليه أولى علامات الحمل : تعب , شحوب , غثيان , قرف تثيره
رائحة القهوة التي لا تغيب عن جو المؤسسة , نوبات مفاجئة من القيء أثارت
نفور الجميع , أحجم زميلها الشاب عن مساعدتها , أعاد لها العجوز كل
أضابيرها متعللا بوجع المفاصل , غاب ثناء المدير فجأة وانفض من حولها طوق
المتملقين , بينما ازداد إعجاب زوجها بما صنع, صار يمشي قربها شامخ الرأس ,
يسند خطواتها , متمنيا لو يصرخ بأعلى صوته : تنظروا , هذا أثري , ألست رجلا
.
*********
انتهت إجازة الأمومة , , دخلت مؤسستها مزهوة بوضعها الجديد , صارت
أما , ولكن , ما أن مضت الساعة الأولى حتى داهمها النعاس , وليدها ظل يبكي
طوال الليل , وهي ترعاه وحدها , زوجها نائم في الغرفة الأخرى , غفا الطفل
عند الفجر , غفت هنيهة , ثم أخذته إلى أمها , ووصلت إلى مكتبها متأخرة .
***********
الرجل لا يكتفي من الذرية بولد وحيد , وكذلك هي , لابد من إنجاب نصف
دستة تحمل اسم العائلة , وترفع الرأس أمام الأهل والجيران , مادام الأمر
يتم بهذه السهولة فلم التلكؤ ؟
********
المرآة تركض , تركض , بين غرفة الأولاد والمطبخ والمؤسسة , تنام منذ
الغروب خائرة القوى , ما عاد لديها وقت ولا مال لتنفق على العناية بمظهرها
وزينتها , الزوج يتناول غداءه غالبا خارج البيت , في الوقت المستقطع بين
انصرافه م المؤسسة , وبداية عمله سائقا على سيارة تاكسي .
*********
-ألا تلاحظين أنا نعيش معا كالغريبين ؟ أنت مقصرة في كل واجباتك
تجاهي , أحتاجك أنثى لحياتي
-سامر يحتاج حذاء , ماهر بنطا لا , ديمة مقصرة في درسها , سماح ..
نفقات الروضة .......حفاضات للوليد.....حليب...دواء
-ما رأيك بنزهة خلوية ؟
-سأذهب غدا إلى المركز الصحي , سأعطي الصغار لقاحا ضد الحصبة
والسعال الديكي وشلل الأطفال
**************
السماء ملبدة بالغيوم, الزوجة في إجازة إدارية , تسعى بين مدرسة
الأولاد والصيدلية وسوق الخضر , ثم تعود إلى صنارتها لتنسج أردية صوفية تقي
الأطفال برد الشتاء , في كل مكان تركض , ولا ظل لها .
الخريف يودع المدينة , الزوج يرافق إحداهن في نزهة مجانية داخل
أسوار حديقة عامة, حيث لا يدفع رسما للدخول , ولاثمن ما يجبر على شربه في
المقاهي , يتغزل بها , يبثها لواعج فؤاده المضني من ثقل المسؤوليات ولوعة
الفقر
**********
صبي وقح, قطع عليه متعة البوح , وقف يعرض أزهاره بإلحاح , باستجداء
تأمل ثيابه المهلهلة وهيئته المزرية-
-خذ وردة لهذه الجميلة
- لا نريد
-لا يليق بالحسناء التنزه بلا وردة
-انصرف قبل أن أضربك ..هيا
التفت إليها ليكمل حديثه , الغضب يبدو جليا على محياها , نادى على
الصبي , أخذ الوردة , طلب الصبي ثمنها ورقة نقدية تكفي ثمن علبة حليب
للصغير, قدمها لها , ابتسمت راضية , قطع نزهته وتركها تقارع الحيرة وحدها ,
شعور بالذنب تجاه طفله يكاد يحطمه , صك سمعه بكاء الصغير قبل أن يلمس
البوابة , استدار على عقبيه , ومضى مسرعا إلى أمه ليبكي بين يديها , فهي
المخلوق الوحيد , الذي يتعاطف مع ضعفه , ويشحذ قواه من جديد , تحبه كما هو
, ولا يعنيها في أية حال , مقياس ظله .
|